أزمة السودان ومحاذير التدويل

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
أزمة السودان ومحاذير التدويل بين غيبوبة العرب وخطيئة الإسلاميّين

بقلم: بنعيسى الدّمني

مقدمة

خريطة السودان.jpg

إن حجم التدخل الأجنبي في السودان المستقل لم يعد خافيا على أحد.فقد ظهرت بوادره إبان أزمة الجنوب المزمنة، ثم سرعان ما تفاقم أمره خلال أزمة دارفور الراهنة.

حيث بدت في الأفق إرهاصات تدويلٍ لهذه الأزمة، زاد من احتماله إخفاق الأطراف المتنازعة في التوصل إلى اتفاق سلام، واشتعالُ جبهة الشرق أخيرا.

ولا يخفى على أحد أن مساعي التدويل تنذر بأوخم العواقب، وتشكل - في حال نجاحها - خطرا لا يتهدد مصير السودان ووحدته فحسب، بل يتهدد مستقبل الوطن العربي والبلدان الإفريقية أيضا.

ورغم أن للأزمات السودانية عواملها الداخلية التي تراكمت تاريخيا في ظل عقود طويلة من الحكم العسكري، وضمن واقع عربي قُطري مفكّك؛ فإن معطيات الظرف الدولي الجديد قد هوّنت من أهمية تلك العوامل في أذهان الكثيرين، وجعلت جمهرة من المحللين يردّون كل أزمات السودان المتناسلة إلى مردّ واحد هو: "التآمر الأجنبي".

ولا أحسب أن تفسيرا تبسيطيا من هذا القبيل يفي بالحاجة إلى فهم حقيقة الأزمة وأبعادها، ولا هو يحفز أصحاب المصلحة الأولى في تجاوزها، أعني السودانيين وعموم العرب والمسلمين، على تحمّل مسؤولياتهم التاريخية، والقيام بما يلزم من النقد الذاتي لتدارك الأمر.

لذلك فقد يكون من المفيد إعادة التساؤل، بين يدي هذا التحليل، عن حقيقة المعطى الدولي، وعن رهانات أطرافه، وعن مدى أهميته بالقياس إلى معطيات الوضع الداخلي سودانيا وعربيا، عسى أن يتجلى حجم التحديات التي يطرحها كل ذلك على أولي الأمر وأولي الرأي في هذا البلد المكلوم، الذي لا يستحق شعبه المعروف بالوداعة وطيب المعشر، هذا المآل المحزن.


لماذا السودان بالذات؟

ما من شك في أن السودان ليس البلد الوحيد، الذي يشكو من أزمات داخلية أو حروب أهلية في العالم.. لكن يبدو أن انتماءه العربي الإسلامي قد جعله ضحية معاملة مخصوصة من قبل القوى الغربية العظمى، تمثلت في الضغط عليه وابتزازه والتحفز لممارسة ما يسمى "حق التدخل" في شؤونه.

ويندرج هذا المسلك الدولي ضمن مخطط سياسي بعيد المدى، يرمي إلى إحكام السيطرة على جميع بلدان العالم الإسلامي وعرقلة نهضتها والتحكم في وتيرة نموها.

ومن هذا المنظور، ينبغي اعتبار أن ما يجري الإعداد له فيما يخص السودان لا يخرج عن سياق ما جرى وما يجري حاليا في كل من فلسطين وأفغانستان والعراق..

بالإضافة إلى هذا السبب المتعلق بانتماء البلد والمتصل باعتبارات حضارية وتاريخية ليس هذا مجال بحثها، يوجد سبب آخر جعل القوى العظمى تضاعف من اهتمامها بهذا البلد المترامي الأطراف:

يتمثل في أن السودان يمتلك رصيدا جغراستراتيجيا لا يستهان به إقليميا، بالنظر إلى موارده المائية والزراعية الضخمة، وإلى مخزّناته البترولية والمنجمية الواعدة والمثيرة للأطماع، علاوة على ما يمكن أن يضطلع به من دور حيوي يتجاوز حدوده، على اعتبار أنه سلّة الغذاء العربي، وأنه في ذات الوقت البوابة الجنوبية للوطن العربي، المفتوحة على إفريقيا السمراء، وعلى مواردها البشرية وثرواتها الطبيعية الخام.

وهذا ما يؤهله نظريا لأن يكون ذا وزن استراتيجي خطير في المنطقة، وأن يشكل سندا أساسيا للأمن العربي ببعديه الغذائي والجغراسياسي، وجسرا ثقافيا يربط بين العرب والأفارقة.

ولا نحسب الدول الغربية العظمى تتساهل في تحقيق ذلك عمليا، وفق معايير التقسيم الدولي للعمل وفي ظل واقع العولمة الجديد ونظام القطب الكوني الواحد.


رهانات القوى الدولية العظمى

وإذا عنّ لبعض رافعي ألوية الليبرالية في ربوعنا، أن يثقوا في حسن نوايا الدول الغربية، وبخاصة في أمريكا التي تبدي تعاطفا مع الشعب السوداني، وتعلن رعاية الحلول التفاوضية بين أطرافه المتنازعة، فإنه لا يعزب عن ذهن كل متابع حصيف لمجريات الأمور أنّ تعامل الولايات المتحدة مع أزمة السودان ومع كل أزمات العالم الإسلامي، لا يمكن أن يخرج عن مقتضيات خطط سياستها الخارجية:

فمنذ الحرب الباردة، دأبت الدبلوماسية الأمريكية، كما بيّن ذلك رئيسها الأسبق هنري كيسنجر، على الاستفادة من النزاعات الداخلية والإقليمية، التي نشبت في كل بقاع العالم.

وما كانت تحرص أبدا على فض تلك النزاعات، بقدر ما كانت تميل إلى إطالة أمدها، والتخفيف من حدتها، حتى يتسنى لها المسك بخيوطها، فتتخذها ذرائع لتدخلها وتوسيع مجال نفوذها الدولي.

ولو تسنّى للمرء أن يراجع أسلوب تعامل أمريكا مع كل الأزمات والنزاعات (وبخاصة في المشرق العربي وفي جنوب شرقي آسيا)، لألفى آثار تلك السياسة بادية للعيان.

وقد حافظ الأمريكان على ذلك التوجه العام لسياستهم الخارجية في فترة ما يعد الحرب الباردة، واستفادوا من الظروف الدولية الجديدة، فطوروا أهدافهم ووسائلهم، وسعوا إلى تغيير خارطة العالم السياسية في اتجاه توسيع مجال نفوذهم الدولي وانفرادهم بالهيمنة.

ومن الواضح أن العالم الإسلامي بات يحتل موقع صدارة الاهتمام في هذه الاستراتيجية، خصوصا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001.

فقد بينت الأحداث التي تلت تلك الهجمات أن الهدف الجوهري للسياسة الأمريكية أضحى هو إعادة ترتيب هذه المنطقة من العالم، عبر تفكيك بناها القائمة، وإشاعة ما يسمى "الفوضى البنّاءة" فيها، تحت شعارات "الإصلاح" و"الديموقراطية".

ولم يعد قادة البيت الأبيض يخفون مراهنتهم من وراء ذلك على إقامة "شرق أوسط كبير" يمتد من أفغانستان إلى المغرب؛ تحكمه أنظمة طيّعة وموالية، توكل إليها مهام حماية المصالح الأمريكية، وضمان أمن إسرائيل، وديمومة تفوقها إقليميا.

وغنيّ عن القول إنه لن يعود للعرب والمسلمين إذاك حاجة إلى الإبقاء على عبارات من قبيل: "الوطن العربي" و"الأمّة الإسلامية" و"الحق في المقاومة" و"الحق في تقرير المصير" ضمن قاموسهم السياسي.. ولن تتاح لهم فرص النهضة بمقدرات بلدانهم، وتحقيق وحدتهم، وبناء كيانهم الحضاري المنيع، من باب أولى.

إن ذلك لم يعد من الأسرار التي يتسنى للإدارة الأمريكية إخفاؤها، خصوصا بعد أن نجح المحافظون الجدد في اختراق مراكز القرار فيها، وتمكنوا من تهميش وظيفة الأحزاب السياسية لفائدة ما صار يعرف "بدبابات الفكر"، أعني مراكز البحوث والدراسات التي بات أولئك المحافظون الجدد يشرفون على كثير منها، ويرسمون بواسطتها استراتيجيات السياسة الداخلية والخارجية، ويحددون بالتالي ملامح العالم بأسره، مستندين إلى خلفيات إيديولوجية ودينية هيمنية، تقول بتفوق الحضارة اليهودية المسيحية (Judéo Chrétienne)، وتحاول المزاوجة بين البروتستانتية والصهيونية.

وقد توافرت جملة من الظروف الداخلية والخارجية، التي دفعت القيادة الأمريكية إلى تبني تلك الاستراتيجيات، والمضي في تنفيذها عمليا بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك القوة، وتسخير الهيئات الأممية لإضفاء الشرعية الدولية عليها؛ رغم أنها استراتيجيات تعبق بروائح العنصرية، ولا تؤمن بوحدة المصير البشري، وتفتقر في الغالب لأدنى مقومات الحق.. اللهم إلا إذا كانت القوة هي التي تنشئ حقا، وهذا محال.

التفريط في مستلزمات الصراع وقابلية الاستضعاف

إن استحضار هذه الحقائق لا ينبغي أن يكون مبررا للعزف على قيثارة "التآمر الأجنبي"، كما يفعل كثيرون، ولا ينبغي بالتالي أن يقلل من أهمية العوامل الداخلية في تفسير ما يجري في السودان تحديدا، وفي العالم الإسلامي بشكل عام.

ذلك أن التاريخ إنما يُصنع بسنة التدافع، أعني بصراع الإرادات والمصالح والقوى (ولا يخلطنّ أحد بين هذه الحقيقة التاريخية الثابتة وبين ما ادعاه صامويل هنتنكتن من صدام مزعوم بين الحضارات).

وإن ما يسمى "تآمرا أجنبيا"، إنما هو سعيُ الآخرين الطبيعي إلى الأخذ بأسباب تفوقهم وانتصارهم في هذا الصراع المفتوح، من أجل بسط سيطرتهم على من سواهم.

وإذا علمنا أن نجاح أي استراتيجية لا يتوقف على شروط تماسكها الداخلي وفاعليتها الذاتية فحسب، وإنما يتوقف أيضا على الشروط الموضوعية، التي تطبق فيها، بما في ذلك مدى قوة أو ضعف الاستراتيجيات المقابلة والمنافسة؛ صار من اللازم الإقرار بأن التفريط في إعداد مستلزمات القوة والتقدم، كما هو حال أغلب المسلمين اليوم، من شأنه أن بجعل صراعهم غير متكافئ بالمرة، وأن يوفر رصيدا إضافيا لفائدة الاستراتيجيات المقابلة، فيشكل ذلك أرضية ملائمة لنجاحها، على عِلاتها.

وإذن فإن الركون إلى تفسير مشاكل المسلمين بعامل التآمر الأجنبي هو أمر غير ذي معنى على الإطلاق. إذ لا مراء قط في أن تخلف الأمّة، وهدر ثرواتها، واستحكام الاستبداد بشعوبها، ونشوب النزاعات المسلحة بين مكوناتها، واستقواء بعض تلك المكونات بالخارج؛ كل ذلك وغيره يمثل قابلية لاستضعافها، ويفتح الباب أمام تدويل قضاياها، وتدخّل القوى المتربصة في شؤونها؛ لا بل هو يسوّغ احتلال أراضيها، ويخوّل سلب دولها مقومات السيادة.

ألم يشهد التاريخ المعاصر، فعلا، ردّة خاسئة إلى الوراء بعودة ظاهرة الاستعمار من جديد، وبوجه أقبح مما كانت عليه في الماضي، إلى كل من أفغانستان والعراق؛ وها هو اليوم يتربص بدول أخرى، أغلبها عربية وإسلامية؟ وهل كان لذلك أن يتم لولا قابلية ذينك البلدين للاحتلال، بسبب ما ساد فيهما قبله من أوضاع داخلية هشة، ومن هدر للطاقات، ومن سياسات لم تكن لتكفل لهما المناعة والمهابة؟ مع وجود الفارق بينهما طبعا.

ألم يعزّ النصير في صفوف العرب والمسلمين، للذود عن حمى ذينك البلدين المحتلين، كما عزّ من قبلُ لتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني؟ فترك كل بلد يواجه مصيره بمفرده. وباتت الأمة منكوبة في ثلاث من أعز دولها، بعد أن كانت تكافح لرفع النكبة عن واحدة.

لقد حصل كل ذلك لأن قابلية الاستضعاف قد استشرت في عموم الأمة، وعششت بشكل خاص داخل أنظمتها الرسمية، التي يبدو أنها فقدت الإحساس بالانتماء، ولم تعد تهتم بأكثر من البقاء في سدة الحكم أطول مدة ممكنة.


ضريبة الغيبوبة العربية

قارة افريقيا

إن السودان اليوم ينشد المساندة من أمته - ولا أحسب أنه يتطلع إلى أكثر من الدعم الدبلوماسي - للحيلولة دون تقسيمه واستباحة أرضه وإخضاع شعبه؛ لكنه لا يكاد يظفر بمجيب.

لطالما أكد خطاب الأنظمة الرسمي على مبدأ "التضامن العربي". فاستبشر لذلك كثير من المتفائلين، وعقدوا الأمل على ما يمكن أن تثمره ترجمة التضامن على أرض الواقع؛ على اعتبار أنه يمثل أضعف درجات الإيمان بالأخوة وبالمصير العربي المشترك، ويمكن أن يتجسد في أشكال من الممانعة في وجه مشاريع الهيمنة الدولية. لكن أين هذا التضامن العربي في واقع الحال السوداني؟ أم تراه التحق، هو الآخر، بسلسلة الأوهام العربية الطويلة؟

وإذا كانت الدول العربية قاصرة عن الاضطلاع بدورها التضامني منفردة - وهذا مفهوم في ظل حدّة الضغوط الخارجية الممارَسة عليها، وفي ظل عجز أي واحدة من هذه الدول عن التأثير في ميزان القوى العالمي - فأين دور الجامعة العربية في النهوض بهموم أحد أعضائها، وفي تطويق أزماته، والمبادرة إلى حلها؛ حتى لا يظل هذا البلد العربي عرضة لابتزازات دولية لها أول وليس لها آخر؟ أم ترى الجامعة تنتظر الضوء الأخضر من القوى العظمى، كما سبق أن فعلت في أزمة العراق؟

إنه لمن المحزن حقا أن يبدو العرب – وهم أصحاب المصلحة الأولى والأكيدة – كأنهم غير معنيين بأي وساطة بين الفرقاء السودانيين، وغير حريصين على توفير رعاية جدية لحل أزمتهم.

فلقد لاحظ الجميع مثلا غيابهم النسبي حتى عن مراسم الاحتفال بتوقيع اتفاق السلام الذي أبرم، منذ أكثر من عام، بين الحكومة السودانية وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان، برعاية أجنبية.

وبصرف النظر عن تقييمنا لمضمون ذلك الاتفاق، فلا مندوحة عن الإقرار بأن غياب الدور العربي في رعايته والتوصل إليه هو ليس مجرد غياب تشريفاتي عرضي، بل هو يعكس غيبوبة عربية عميقة، وفقدانا عربيا للوعي بالذات وبالمصلحة وبالمسؤولية.

وما من شك في أن هذه الغيبوبة تمثل أحد وجوه حالة التدهور العربي الشامل، الذي تحاول الأنظمة القائمة إخفاءه وتضليل الناس عنه بشتى الوسائل، لكن أجهزة إعلامها ودعايتها الرسمية لم تفلح حتى في التلطيف من فداحتها، فضلا عن أن تمحو معالمها بالكلية.

وأنّى لتلك الأجهزة، وللأنظمة التي تقف وراءها، أن تنكر أن سقف الأمل العربي في الزمن الراهن قد بلغ أكثر مستوياته تدنيا؟: فبعد أن ظل "مبدأ الوحدة العربية" يملأ الدنيا ويلهب مشاعر الناس، خصوصا زمن الطفرة القومية، في أواسط القرن العشرين،، وبعد أن قصُرت الهمم عن تحقيق الأحلام التي شيدت على أساس ذلك المبدأ، تمّ النزول عنه إلى ما هو أدنى، فتنادى القوم إلى "العمل العربي المشترك"، على أمل أن يفضي تواضع الأمل إلى تحقيق المبتغى.

ولما أخفق النظام الرسمي العربي، ليس في إقامة عمل مشترك فحسب، يل حتى في تحقيق الحد الأدنى من التنسيق العربي، خصوصا في سياق الهرولة نحو التسويات الصلحية المنفردة مع الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين، منذ السبعينات؛ اكتفى القوم برفع شعار "التضامن العربي".

والظاهر أنهم قد اكتفوا بما قد يثمره هذا الشعار من تبادل بيانات التهنئة في الأفراح، والمواساة في ساعات العسرة: ولمن رام شواهد على ذلك، أن يتأمل في موقفهم السلبي من الحصار العقابي الذي ضرب على ليبيا، وفي موقفهم المتخاذل إزاء العزلة الدنيئة التي فرضها الصهاينة وحلفاؤهم على الرئيس الفلسطيني المغدور به: ياسر عرفات، حتى الموت.

ولقد دفع جميع العرب ضريبة تواضع الأمل وما انجر عنه من تخاذل: فظل الأعداء يتربصون بهم الدوائر، ويعرقلون كل مشاريعهم النهضوية، ويُوغرون صدور بعضهم ضد بعض، ثم ينفردون بالواحد منهم تلو الآخر، فيسلطون عليهم العقوبات، ويعقدون ضدهم الأحلاف، ويشنون عليهم الحروب، ويخلعون حكاما وينصّبون آخرين، ويعيثون في أوطانهم فتنة وتقسيما وإذلالا؛ تحت رايات "التحرير من الغزو" و"نشر الديمقراطية" و"مكافحة الإرهاب" و"حماية الأقليات"....

ولأنّ القوى الدولية النافذة قد أدركت تمام الإدراك ما آل إليه وضع العرب من تدهور وغيبوبة. واطمأنت إلى أنه لن تصدر عنهم أي مبادرات مساندة لأشقائهم السودانيين، فقد عملت بقول القائل:

"خلا لكِ الجو فبيضي وفرّخي"، وراحت تكيّف الأزمة السودانية قانونيا وسياسيا على طريقتها، وتستغلها عمليا لدعم حضورها في المنطقة:

فمن حيث التكييف، ظلت تلك القوى ترفض التسليم بأن ما يجري في دارفور هو نزاع قبلي على الأراضي وموارد المياه والمراعي، وتصر تعسفا على اعتباره حرب إبادة عرقية يشنها السودانيون العرب (الجنجاويد) بمساندة السلطة، ضد أولئك الذين ينحدرون من أصول إفريقية. وذلك في محاولة من تلك القوى لتغليظ جُرم النظام السوداني، وجعله عرضة للمحاسبة.

وقد تولى اللوبي الصهيوني في الكونغرس الأمريكي الدفع، عمليا، نحو ذلك. فبدأ بتوجيه لوم إلى إدارة البيت الأبيض بسبب "مهادنتها" حكومة الخرطوم و"تساهلها" معها بشأن ما يجري في دار فور، مطالبا بفرض عقوبات. ثم سرعان ما أردف ذلك بصياغة "قانون محاسبة السودان" الذي صادق عليه الكونغرس على الفور، والذي تضمن فرض حظر على البترول السوداني، وإلزام حكومة الخرطوم بنزع سلاح الجنجاويد، وتعليق عضوية السودان في منظمة الأمم المتحدة، مما يُعدّ إشارة عكسية من قِبل الولايات المتحدة إلى حركات التمرد.

وقد سار وزير الخارجية البريطاني في نهج لا يبتعد كثيرا عن ذاك، عندما طالب في مؤتمر أبوجا للسلام، الذي كان يُفترض أن تسود فيه لغة الحوار لا لغة التهديد، بتشديد العقوبات على السودان؛ مستعملا سياسة العصا والجزرة.

في هذه الأجواء المشحونة بالابتزاز المفضوح وبازدواجية الخطاب الغربي، وبالتلويح بالعصا الغليظة، لا يجد المرء بدا من التساؤل عن مدى جدوى مفاوضات تدور جولاتها في مدينة أبوجا النيجيرية، وفي غيرها من الأماكن، بغرض تحقيق السلام بين السودانيين؟ وعن مدى جدية القوى الغربية، ونزاهة الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا، عندما تعلن رعايتها لتلك المفاوضات؟ ألا يبدو ذلك أقرب إلى حملة علاقات عامة يراد منها تلميع الصورة، وتسويق السياسات، والضحك في النهاية على ذقون الخلق؟

ميراث العقل السلطوي يكبّل الجميع

على أنه كان يمكن للسودان أن يقاوم كل تلك الضغوط الخارجية، وأن يُحبط كل تلك المناورات المفضوحة، دونما حاجة إلى مساندة عربية أو غيرها، لو كانت جبهته الداخلية موحدة ومتينة.

لكن يبدو أن النظام في هذا البلد، شأنه في ذلك كشأن أغلب الأنظمة العربية، لم يهتد بعدُ إلى السبيل التي تؤهله لأن يكون محل إجماع وطني. فهو في الوقت الذي كان يواجه فيه أخطر التهديدات الدولية بسبب نزاعاته الداخلية المسلحة، راح يخوض مواجهات مع جل التيارات السياسية السلمية الموجودة في الداخل وفي الخارج، ويفتح الجبهات الجديدة، حتى مع أولئك الذين كانوا متحالفين معه في الماضي القريب. فوجد نفسه بذلك شبه وحيد في مواجهة الأزمات الداخلية، وفي التعامل مع الضغوط الخارجية.

إنه لا جدال في أن أزمات السودان الراهنة ليست من صنع نظامه السياسي الحالي، بل هي من تركات نظام النميري العسكري الأسبق. فقد أخفق ذلك النظام في توزيع السلطة والثروة بعدالة وتوازن بين مكونات شعبه العرقية والجهوية:

فباستثناء الشمال، الذي كان ينحدر منه أغلب قادة الدولة تقريبا، ظلت أقاليم شاسعة من السودان تشكو من انعدام البنى الأساسية الحيوية، ولا يكاد يُرى فيها أثر لنهضة أو تنمية.

وظل أهالي تلك الأقاليم يعيشون في ظروف شبه بدائية، يعانون الحرمان، وتملأ قلوبهم مشاعرُ الغبن، على امتداد عقود من الزمن. ومن الطبيعي أن تكون بذور التمرد قد انزرعت في نفوسهم، منذ ذلك الوقت، ضد سلطة مركزية لم يكن يشدهم إليها إلا خيط رفيع، ولم تكن هي ذاتها قادرة على بسط نفوذها على كل أطراف البلاد.

في تلك الظروف الكالحة من سبعينات القرن العشرين وثمانينياته، تعددت المحاولات الانقلابية للإطاحة بنظام النميري، لكنها باءت كلها بالفشل الذريع؛ وخرج عليه جيش تحرير السودان، فلم يحقق من أهدافه إلا القليل؛ وتحالف معه الإسلاميون قي أواخر عهده، بغرض احتوائه، فأقنعوه بتطبيق الشريعة، لكنهم لم يفلحوا في تغيير طبيعته التسلطية وفي اجتثاث مظالمه السياسية والاقتصادية.

وظل وضع الاستبداد على ما هو عليه إلى أن قام اللواء عبد الرحمان سوار الذهب سنة 1986 بذلك الانقلاب الموفق، الذي حظي بمباركة كل القوى والأحزاب السياسية، خصوصا بعد أن وعد بتنظيم انتخابات حرة، وبالتنحي عن السلطة لفائدة نظام مدني ممثل، في ظرف ستة أشهر. وذلك ما قد تم بالفعل للمرة الفريدة في تاريخ العرب المعاصر.

وقد نشأ عن تلك الانتخابات نظام ديمقراطي تعددي جديد بشّر بكل خير، وجعل حل مشكلة الجنوب ضمن أوكد أولوياته. لكن معالجته لتلك المشكلة عمليا لم تحظ برضا كل الأطراف:

فقد تعجّل الرئيسُ السوداني في تلك الفترة أحمد عثمان ميرغني توقيع اتفاق سلام مع الجنوبيين، على إثر مفاوضات أجراها وإياهم خارج حدود البلاد.

لكن كثيرا من السودانيين اعتبروا وقتها أن ذلك الاتفاق لم يكن ليخدم مصلحة غالبية الشعب. وانهال على الميرغني بسببه، من داخل المؤسسة العسكرية ومن خارجها، سيل من التهم بضعف الأداء، وبالتفريط في الحقوق الوطنية.

الرئيس عمر البشير

وقد استغل الفريق عمر حسن البشير تلك الظروف، فلم يتخلف في أوائل التسعينات عن تحريك الجيش للمسك بزمام الحكم، ووضع حد لتلك التجربة الديمقراطية الفتيّة، باِسم الإنقاذ.

وسواء أتحرك البشير بدوافع وطنية تلقائية، أو كان مدفوعا إلى ذلك من قِبل الإسلاميين الذين لم يكن لهم حضور في الرئاسة، ولم تكن لهم الكلمة العليا في حكومة صادق المهدي، رغم مشاركتهم فيها، فقد ظلت كل أطراف المعارضة السودانية، لعدة سنوات، تتهم "نظام الإنقاذ" الجديد بأنه صنيع "الجبهة القومية الإسلامية"، التي كان يرأسها الدكتور حسن الترابي في ذلك الوقت.

كيف لا، وقد تقلد الترابي وأعضاء جبهته، في أول عهد هذا النظام، أسمى الوظائف في الدولة، بينما كان نصيب طرفي المعادلة السياسية الآخرين، أعني: أحمد عثمان الميرغني زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي، وصادق المهدي زعيم حزب الأمة، أن تحولا إلى المعارضة وحياة المنفى.

لا يختلف اثنان في أنه في ظل الطبيعة الطّرُقية الصوفية، التي ميزت بنية هذين الحزبين - ولم تزل – وفي ظل التركيبة القبلية العامة للمجتمع السوداني، وفي ظل ضمور الوعي الديمقراطي داخل الأوساط الشعبية، كان الولاء - وليس الكفاءة - هو المقياس الغالب في اختيار رجال الحكم إذاك بواسطة الانتخاب الحر.

لكن ذلك، في المقابل، لا يعطي المبرر لمن ينتمون إلى حزب قائم على أسس عصرية متطورة، كما هو شأن حزب الدكتور الترابي في صورة الحال، لأن يؤجلوا الديمقراطية، أو يلغوا استحقاقاتها، بدعوى عدم تهيؤ الشعب لها، أو بسبب مظنة استغلالها من قبل قوى المجتمع التقليدية.

كما أنه ليس لهؤلاء أي عذر، من باب أولى، لأن يساندوا حكم العسكر بذريعة أنه هو الأكفأ على حل مشاكل البلاد، وصيانة وحدتها، ومواجهة أعدائها.

إن هذا المنهج في التفكير والسلوك السياسي هو منهج وِصاية على الشعوب عادة ما تعتمده الأنظمة العسكرية والاستبدادية لتبرير تسلطها. لكن من المعروف لدى الجميع أنه نادرا ما خلا بلد عربي من ساسة ومثقفين شاطروا تلك الأنظمة تفكيرها، وسايروها عمليا في سلوكها.

فكافأتهم على ذلك بمتاع من الدنيا قليل، وقلدتهم مناصب في الدولة أفرطوا في استغلالها لتكريس برامجهم الحزبية ومشاريعهم الإيديولوجية، ولمغالبة خصومهم السياسيين.

وتلك سلوك معيب لأن من أقدموا عليه من الساسة والمثقفين قد فعلوا ذلك بطريقة انتهازية. ولا يخفى على أحد أنه قد كان لهم دور ضالع في إطالة عمر الاستبداد وتلميع صورته في الوطن العربي.

لكن لسائل أن يسأل:

وما العيب في التحالف السياسي مع السلطة ما دام ذلك يسمح بتحقيق برنامج المتحالفين كليا أو جزئيا؟ والجواب على ذلك: أن الحديث لا يتعلق بالتحالف على أساس برنامج واضح مع نظام قد انبثق بطريقة شرعية. فتلك مشاركة ديمقراطية لا عيب فيها ولا مأخذ عليها بكل المقاييس.

إنما التحالف المَعيب هو ذاك الذي يتم بطريقة انتهازية مع نظام يفتقر إلى أسس الشرعية ومواصفاتها، فيقبل المتحالفون معه، باسم المرونة التكتيكية، أن يتنازلوا عن الثوابت من أجل المواقع، وأن يضحّوا بالمبادئ في سبيل تحقيق أهداف مرحلية.

ولئن غلبت على أنصار هذا النوع من التحالف الانتهازي تاريخيا التوجهات القومية واليسارية في بلدان مثل مصر الناصرية سابقا وسوريا البعثية في الزمن الراهن، فكان الإسلاميون من أبرز ضحاياهم، وغلبت عليهم التوجهات الليبرالية والليبرالية الجديدة في بلدان أخرى مثل العراق المحتل حاليا وبعض دول الخليج، فإن الذين مكّنوا للنظام السوداني الحالي بتحالفهم معه طيلة سنوات، هم من ذوي التوجه الإسلامي الصريح. وفي هذا دليل واضح على أن الوعي السياسي العربي المعاصر، بكل روافده الفكرية والإيديولوجية دون استثناء، ظل يعاني من قصور فادح وهشاشة في الرؤيا الديمقراطية، إضافة إلى فقر في مجال التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى.

وذلك نظرا إلى أن هذا الوعي بقي، رغم كل شيء، سليل عقل سلطوي موروث: فهو رغم تشكله زمنيا في الحقبة المعاصرة، نراه في المقابل قد أخفق في التحرر من مكبلات الاستبداد، الذي ألقى بكلكله على الأمة طيلة قرون خلت، أي منذ ظهور الدولة الأموية تحديدا. وقد أسهمت في ذلك الإخفاق عوامل ثقافية واجتماعية وسياسية أهمها:

  1. انتشار ظاهرة الأمّيّة داخل المجتمعات العربية.
  2. ضآلة الجهد الإبداعي وانحسار النزعة الاجتهادية لدى العلماء والمفكرين بوجه عام.
  3. أهمية البواعث الطائفية والعشائرية والعرقية في نسج العلاقات وتنظيم الولاءات وصياغة وعي الأفراد والجماعات.
  4. شيوع خطاب سياسي يرفع مفاهيم: "الزعيم الملهم" و"الملك المفدى" و"السمع والطاعة" و"الولاء للحزب" إلى مقام المقدسات، ولا يحرص في المقابل على إشاعة مفاهيم المواطنة والدولة والقانون بالمعنى الحديث، وإشاعة مفاهيم الأمّة والشورى وأصول الحكم الرشيد التي جاء بها الإسلام.

لقد بقي العقل السياسي العربي المعاصر، تحت وطأة تركة الاستبداد، ينظر إلى السياسة في ضوء العلاقة العمودية بين الحاكم والمحكوم، بين الراعي والرعية؛ لا في ضوء جملة العلاقات الاجتماعية المتشابكة والمتوقفة على شروط اقتصادية وثقافية داخلية وخارجية، لا انفكاك منها ولا غنى عنها.

فاتجهت عموم الأحزاب والفعاليات السياسية العربية نتيجة لذلك إلى القفز عمليا على تلك الشروط اللازمة وإلى تجاهلها بشكل فادح. فهي مثلا لم تول البحث الفكري والاستراتيجي المعمق ما يستحق من العناية، ولم تعمل إلا نادرا على تغيير عقليات الأفراد وتطوير بنيات المجتمع بشكل تدريجي وراسخ بما يكفل بناء فضاء مدني لا يتزعزع بمرور الزمن.

فآل بها الأمر إلى أن اختصرت غاية العمل السياسي في مجرد الوصول إلى السلطة والبقاء فيها أطول أمد متاح. لكنها ما أفلحت دوما في ذلك. وإن صادفها الفلاح مراتٍ هنا وهناك، فما نجحت في توطين الحريات العامة وفي ترسيخ مبادئ الحق وإقامة دولة القانون، بَلهَ تحصين مجتمعاتها مدنيا وسياسيا من شر النكوص على الأعقاب والوقوع في درَك الاستبداد والقهر.

خطيئة الإسلاميين وحتمية النقد الذاتي

إن المتأمل في المآل الذي انتهت إليه تجربة تحالف حزب الدكتور حسن الترابي مع نظام الرئيس عمر البشير يدرك أن الإيمان بمبادئ الحكم الرشيد، وموالاة نظام سياسي لم يصل إلى الحكم بطريقة انتخابية، هما ضدان لا يلتقيان.

وأن الجمع بينهما من شأنه أن يخل بمصداقية مقترفه. ففي اللحظة التي تقدِم فيها جماعة ما على موالاة نظام هذا شأنه، لا بل في اللحظة التي تهادنه فيها، تكون تلك الجماعة قد تخلت آليا عما آمنت به من مبادئ الحكم الصالح، وأعانت ذلك النظام بالتالي على توطين الاستبداد والفتك بجميع المخالفين، بمن فيهم أولئك الموالين أنفسهم، في حال كانت موالاتهم غير مطلقة، أو شابها شيء من النقد، أو أقدموا على مبادرات لم يرجعوا فيها إلى "القيادة العليا":

ألم تكن مبادرة جماعة الترابي بمحاورة الحركة الشعبية لتحرير السودان، ومحاولة التوصل وإياها إلى صيغة سلام عادلة ومشرّفة، هي فعلا القطرة التي أفاضت كأس صبر النظام السوداني على تلك الجماعة؟ فبعد أن كان أعضاؤها في مواقع الحلفاء والموالين، تحوّلوا بين عشية وضحاها إلى ضحايا للتهم والملاحقات، وفتِحت أمامهم أبواب السجون والمعتقلات، وافتكّ منهم النظام زمام المبادرة والفعل...

ولعل الإسلاميين في حزب المؤتمر الشعبي السوداني قد أدركوا، بعد تقويم حصيلة تجربتهم التحالفية، أن للحكم العسكري منطقه الخاص الذي لا ينفع معه حسن النوايا ولا تجدي معه المناورات.. فهو، بحكم طبيعته السلطوية، لا يحتمل تعدد مراكز القيادة والقرار، ولا يبيح أن يكون صوتٌ أعلى من صوته أو مبادرة فوق مبادرته.. إنه يأمر الكافة ولا يتلقى الأوامر من أحد.. لأن علاقته ببلاده وبشعبه إنما هي، في مزاجه الخاص كما في واقع الأمر، علاقة تملكٍ كرهي لا علاقة تعاقد طوعي.

وتلك قاعدة ثابتة ما كان ينبغي الغفلة عنها أبدا. أمّا وقد وقعت الغفلة وتم جلب العسكر إلى السلطة في السودان أو التحالف معهم بعد مجيئهم، فمن التهوين المخل أن يُعدّ ذلك التحالف، بعد تبين فساده، مجرد خطأ عارض في التقدير.

بل هو في حقيقة أمره تنكّب خطير عن المبادئ، التي تضمنتها أدبيات الإسلاميين وبرامجهم. وفي ميزان السياسة والأخلاق، يُعد هذا النوع من التنكب خطيئة تستوجب التدارك والإصلاح. وإلا تحولت إلى سُنة سيئة يقتدي بها آخرون فتغدو، لا سمح الله، ظاهرة لصيقة بعموم الإسلاميين.

ونحسب أن الحركة الإسلامية في السودان لا ترضى لنفسها أن تتحمّل ما قد يترتب عن ذلك من أوزار ثقيلة، ومن مسؤولية تاريخية جسيمة. وأنها لن تتأخر بالتالي في القيام بما يجب من نقد ذاتي تتدارك به ما فات، وتقطع به الطريق على أولئك الذين يحاولون ظلما ربط صورة الإسلاميين المعاصرين بمنهج التغيير العنيف وبنمط الحكم القهري؛ في وقت يشهد العالم انخراط القطاع الأوسع من الحركة الإسلامية المعاصرة في العمل الديموقراطي، وارتباط صورتها بالنضال من أجل الحريات العامة وحقوق الإنسان.

وعلى صعيد آخر، فقد استقبِلت القطيعة المتأخرة بين الإسلاميين ونظام الحكم السوداني بكل ترحاب من قبل القوى الدولية، التي كانت دائما تشترط على الحكومات السودانية المتعاقبة، منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، زمن حكم النميري، إخراج الإسلاميين من الحكم كشرط لازم لرضاها و"تكرّمها" بتقديم المساعدات للبلاد.

فازدادت تلك القوى، بعد تحقق مبتغاها، استفرادا بالنظام السوداني، المتخلى عنه أصلا من قبل العرب، وأقحمته في مفاوضات تمت برعايتها مع ذات الطرف الجنوبي، الذي تخاصم بسببه مع حلفاء الأمس.

فكانت النتيجة أن تم إبرام اتفاق سلامٍ عام 2005، اعتبرته جماعة الترابي ذاتها وبقية أطراف المعارضة وكثير من الملاحظين مخلا بسيادة السودان، ومنطويا على محاذير تقسيمٍٍ للبلاد.

مما يُقهم منه أن مبادرة التفاوض التي جوزيَ عليها الإسلاميون "جزاءَ سنمّار"، كانت تروم تحقيق أهداف أفضل مما حققته الحكومة بعد أن استأثرت بزمام المبادرة.

ثم ما لبث أن حمي وطيس التمرد في دار فور، محفوزا بطمع أطرافه في الحصول على ذات حصص الجنوبيين من السلطة والثروة. وأمام عدم توصل المفاوضات بشأن هذه الأزمة إلى حل نهائي، ربما بسبب عدم استعداد الحكومة السودانية، غير المفهوم، تعميمَ صيغة الاتفاق مع الجنوب على بقية الأقاليم، نجحت القوى الدولية في استصدار قرار أممي توافقي (رقم1591) يقضي بإحلال قوّات حفظ سلام تابعة للاتحاد الإفريقي في دار فور.

لكن الولايات المتحدة الأمريكية لم تقنع بذلك. فراحت تعمل بكل الوسائل على استصدار قرار أممي جديد ينقل الإشراف على هذه القوات الإفريقية إلى الأمم المتحدة، ويسمح بتشريك قوات الحلف الأطلسي فيها، وذلك سعيا منها ليس إلى جعل التدويل أمرا واقعا فحسب، بل إلى إيجاد منفذ يبيح لها التدخل العسكري المباشر في البلاد.

وإذا كان هذا المسعى الأمريكي السافر قد أثار حفيظة القيادة السودانية، وجعلها تهدد حتى بإعلان الجهاد في حال صدور قرار يبيح إرسال قوات حفظ سلام دولية إلى دار فور، فهل يُعدّ ذلك التهديد كافيا للتصدي لمحاذير التدويل ولمضاعفاته، مع بقاء الجبهة الداخلية في السودان على ما هي عليه من التصدع؟

آفاقٌ للحل

لقد أعرب أكثر من طرف داخلي معارض في السودان عن شكوكه في مدى جدية موقف الممانعة الأخير للقيادة السودانية، على اعتبار أن التدويل في نظرهم هو أمر واقع بالفعل، وإنْ كان ذلك بشكل محدود:

ففي دار فور توجد، منذ مدة، آليات عسكرية، برية وجوية، أوروبية وكندية، يسيّرها ويشرف عليها خبراء وعسكريون ينتمون إلى تلك البلدان الأجنبية.

وقد رأت المعارضة أن ذلك الحضور الأجنبي وما قد يليه من نشر قوات أممية أخرى لحفظ السلام في المنطقة، هو نتيجة طبيعية لعجز حكومة البلاد عن حل الأزمة، وحماية مواطنيها في دار فور، وانخراطها في مسار تفاوضي مفروض عليها من الخارج. وهو ذات المسار الذي سلكته من قبلُ لمعالجة أزمة الجنوب، والذي أفضى فيما أفضى إلى تشريك الجنوبيين في مؤسسة الرئاسة بنائب رئيس أضيف إلى النائب الأول.

وفي ضوء ذلك، فقد ذهب كثير من المعارضين إلى اعتبار أن حكومة الخرطوم قادرة على حل أزمة دارفور، لا بل حل أزمات كل الأقاليم تفاوضيا، والدخول في مرحلة سلام شامل، وذلك باستصحاب صيغة الحل التي تم التوصل إليها مع الجنوبيين، والموافقة بالتالي على توسيع مؤسسة الرئاسة لتضم ثلاثة نواب رئيس آخرين يمثلون كلاّ من دارفور وكردوفان والزنوج. فيصير عدد النواب خمسة، توكل إليهم مهمة التوافق على صيغة عادلة لتوزيع السلطات والصلاحيات والثروات بين كل مكونات الشعب السوداني بمنأى عن كل التدخلات الأجنبية.

وبصرف النظر عما يمكن أن تكون انتقادات المعارضة السودانية قد تضمنته من مزايدات، وبدون الدخول في مناقشة تفاصيل ما قدمته من حلول ومقترحات لم يكن الوقوف عندها من أغراض هذا التحليل، لا يملك المرء إلا أن يأسف لرؤية الحكومة السودانية تضرب صفحا عن آراء مواطنيها في شأن وطني بالغ الأهمية، بينما نراها تجلس حول موائد المفاوضات لمناقشة ذات الشأن مع ممثلي المتمردين، بمشاركة أجانب، ليس لهم في الأصل علاقة مباشرة بالموضوع، وليس لهم من همّ سوى ممارسة الضغوط على الحكومة وإصدار التعليمات الخادمة لأجنداتهم المشبوهة في المقام الأول.

ومهما يكن من أمر، فإن ذلك من شأنه أن يحفز كل عربي وكل مسلم، لا بل كل حر غيور في العالم، على أن يقوم بواجب لفت الانتباه إلى جملة من الحقائق الأساسية، التي قد تساعد في تحديد المعالم الكبرى لحل منشود في السودان.

وفي هذا السياق، لا بد من القول إنه إذا كان مما لا جدال فيه أن النظام السوداني هو أدرى بشؤون بلاده وبكيفية مقاومة مخططات الهيمنة والاستعمار الأجنبي، فإن ذلك لا يُعفيه ولا يعفي رئيسَه تحديدا من واجب توفير شروط نجاح تلك المقاومة.

ولعل من أوكد تلك الشروط:

حشدَ جميع القوى والأحزاب والفعاليات الوطنية حول أهداف إستراتيجية واحدة تتعلق بحفظ وحدة السودان وصون سيادته وضمان منعته وكرامته. ونحسب أن ذلك لن يتأتى إلا بالمسارعة إلى تكوين حكومة وحدة وطنية، تشارك فيها كل الأحزاب المؤمنة بالعمل السياسي السلمي، وتجعل على رأس سلّم أولوياتها هدفين استراتيجيين اثنين، متساويين في الأهمية ومتزامنين في التنفيذ، وهما:
  1. التصدي للتهديدات الأجنبية الراهنة على أرضية برنامج وطني مشترك.
  2. التهيئة في ذات الوقت لتنظيم انتخابات حرة وعامة تضع حدا لطابع النظام العسكري، وتفتح الباب أمام عهد جديد يكتسب فيه نظام الحكم شرعية انتخابية جديدة، فيكون أقوى مما هو عليه الآن، وأقدرَ على الذود عن استقلال بلاده، والنهوض بحياة شعبه، في كنف السلم والاستقرار ودولة القانون.

وظننا بالنخب السياسية السودانية أنها على ذلك قديرة. فإن لديها من بُعد النظر ومن المرونة الفكرية ومن الاستعداد للنقد الذاتي، ومن الرصيد النضالي الطويل في مقارعة الاستعمار فالاستبداد، ما يؤهلها لأن تقدّم نموذجا عربيا وإفريقيا لتلازُم مساري التحرر الوطني والإصلاح.

فيكون لها بذلك قصب السبق في تسفيه ذلك المنطق الأعوج، الذي طالما أشاع أصحابه كذبا أن في احترام إرادة الشعب وكفالة الحريات العامة والتداول السلمي على السلطة إضعافا للدولة وتمييعا للشعب وتفريطا في أسباب النصر على الأعداء!

ولنا أن نتساءل استنكارا:

ألم تكن أقسى هزائمنا ونكباتنا، نحن العرب في القرن العشرين، ناجمة عن تأجيل الديمقراطية بدعوى أنْ "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"؟ فما ربحنا المعركة، وما أبقينا للأحرار أصواتا تهدينا السبيل.