أسلمة الجزائر.. مخاض عنيف قبل الصدام

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الجزائر.jpg

شهدت الساحة السياسية في الجزائر دويًّا شديدًا مع نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، وانطلاقة الجهاد الأفغاني تحت راية الإسلام لتحرير البلاد من المحتل الشيوعي، ولكن تفسير ذلك يقتضي الرجوع قليلاً إلى الوراء.


لقد انتصرت الثورة الإسلامية الجزائرية بعد حرب تحرير طويلة استمرت من سنة 1954م إلى سنة 1962م ضد الاحتلال الاستيطاني الفرنسي، وتوحدت جهود الثوار في جبهة التحرير الوطني، واعتمدت الجبهة على الإسلام باعتباره المعين الأساسي للثورة، والرمز الذي يجمع شمل الجزائريين في جهادهم ضد الاحتلال الفرنسي المستبد- ذلك النوع من الاحتلال الاستيطاني مثل الاحتلال الاستيطاني العنصري لليهود في فلسطين اليوم- ومن هنا حلت جمعية العلماء نفسها سنة 1956م، واندمجت في التيار الثوري الذي تقوده جبهة التحرير الوطني، وذلك من المنطلق الإسلامي الذي أكده بيان أول نوفمبر سنة 1954م، الذي فجَّر الثورة؛ إذ نصَّ على أنَّ تطلُّع الشعب الجزائري للحرية والاستقلال، تحدده المثل الإسلامية.


السلطة تلجأ إلى الترغيب والترهيب

لكن جهود أعضاء جمعية العلماء توقفت في بداية عهد الاستقلال، وتمَّ تحجيمها من قِبَل السلطة التي استخدمت أساليب الترغيب والترهيب مع الرموز الإسلامية، فرضي كثير منهم بالمناصب والوظائف الحكومية، بينما أُحيل بعضهم من الذين عارضوا الحكم الجديد إلى التقاعد، ومُنعوا من القيام بأي نشاط في الميدان السياسي.


وبالرغم من أن جناحًا مهمًّا من جبهة التحرير الوطني، التي حكمت البلاد منذ الاستقلال حتى بداية التعددية السياسية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، فقد ظلَّ على ولائه للمبادئ والأهداف الإسلامية التي جاهدوا من أجلها، إلا أن السلطات الجزائرية- التي هيمن عليها العسكريون واليساريون منذ الاستقلال- رأت أنه لا ينبغي أن يُسمح للعلماء والدعاة أو المؤسسات الإسلامية المختلفة بأن تشكل مركز قوة مستقلاً عن سياسة الحزب الواحد والحكومة والجيش.


ومع ذلك، لم ينقطع الصوت الإسلامي بصورة كاملة.. ففي سنة 1964م، تأسست جمعية إسلامية عُرفت باسم جمعية (القيم) كامتداد لجمعية (العلماء)، لكن تمَّ حل جمعية (القيم) في مارس 1970م- وأصدرت الجمعية مجلة باسم (التهذيب الإسلامي)، وقد رفعت الجمعية شعار الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية، وكان الشيخ "الهاشمي تيجاني"- رئيس جمعية (القيم)- متأثرًا بأفكار (الإخوان المسلمين) وقادتهم، وبصفة خاصة الإمام المجدد الشيخ "حسن البنا"- عليه رحمة الله.


انقلاب "بومدين"

مع انقلاب العقيد "هواري بومدين" عام 1965م على رفيق دربه الرئيس "أحمد بن بيلا" سيطرت الدولة تمامًا على مجمل الأنشطة الإسلامية، وكان نظام "بومدين" كلما توغل في تطبيق سياسات غير إسلامية؛ سواء في القضايا الاقتصادية، أو الثقافية، أو الاجتماعية، نشطت المعارضة الإسلامية ممثلة في أعضاء جمعية (العلماء) السابقين والعناصر الإسلامية الشابة، التي قادت الحركة الإسلامية خلال تلك الفترة.


ومنذ بداية العام ديسمبر 1968م بدأ- تحت رعاية المفكر الإسلامي العظيم "مالك بن نبي"- تنظيم أول ملتقى للفكر الإسلامي، وتأسست مساجد و(مصليات) جامعية جديدة في العاصمة، و(وهران) في الغرب الجزائري عام 1970م.


وانتشر الحجاب، وأقيم أول معرض للكتاب الإسلامي في الحي الجامعي في (بن عكنون) (العاصمة) سنة 1971م، وتحرك نظام الحكم في شكل غير صدامي لاستيعاب التغيير الهادئ عبر الإشراف على تنظيم ملتقى الفكر الإسلامي، وفي مارس 1971م أشرفت الحكومة على إصدار مجلة (الأصالة)، وابتداءً من ذلك الوقت قامت هذه المجلة بالتعبير عن وجهة النظر الرسمية في المجال الديني.


وفي هذه الفترة، كان الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الجزائر- أحد أوجه الاحتلال الاستيطاني- يزداد شراسةً عندما رحل وخلف وراءه من يقود عملية تغريب المجتمع، وحرفه عن قاعدته الإسلامية، وتمثلت ساحات التجنيد للفكرة الإسلامية- كما يقول "فرانسوا بورجا"- في ساحات أربع هي: التعليم الديني، والثورة الزراعية، والصراع اللغوي بين (الفرنسة) والتعريب، وقانون الأحوال الشخصية.


وفي سنة 1971م صدر قانون الثورة الزراعية، وكان يقضي بانتزاع الأرض من المواطنين الجزائريين بحجة الحد من الملكية الفردية؛ بحيث لا تزيد ملكية العائلة الواحدة على سبعة هكتارات (حوالي 13 فدانًا)، وما زاد عن ذلك يوضع تحت تصرف الصندوق الوطني للثورة الزراعية، وعلى أثر ذلك انتشرت فتوى ببطلان الصلاة في الأراضي التي تأممت.


وفي عام 1974م ألّف الشيخ "عبداللطيف سلطاني" كتابًا بعنوان "المزدكية أصل الاشتراكية"، وجَّه فيه نقدًا لاذعًا للاشتراكية التي ينادي بها "بومدين"، ويهاجم المبادئ الهدَّامة المستوردة من الخارج.


وشهد العام 1975م مواجهات عنيفة بين الأوساط الطلابية في جامعة قسطنطينة في أثناء "حلقة دراسية عن قانون الأحوال الشخصية"، التي كانت مسرحًا لمواجهات بين الطلاب الناطقين باللغة الفرنسية والمقربين من حزب الطليعة (وهو وريث الحزب الشيوعي الفرنسي)، وبين الطلاب الناطقين باللغة العربية، الذين يطالبون باحترام الشريعة الإسلامية.


وفي سنة 1976م جرت مناقشات حول مشروع جديد لتعديل الميثاق على نحو يتعارض مع بعض القواعد الإسلامية، وبصفة خاصة فيما يتعلق بالأحوال الشخصية وقانون الأسرة، وكانت هذه السياسات التي تنتهجها حكومة "بومدين" مصحوبة بصعود التيار اليساري الإلحادي، فنهضت الحركات الإسلامية لتعارض تلك السياسات والاتجاهات.


وكان الشيخ "عبداللطيف سلطاني"- عضو جمعية العلماء- من أبرز الأصوات التي عارضت حكومة "بومدين" على أساس إسلامي، كما كان الشيخان "عبداللطيف سلطاني" و"أحمد سحنون"- وهما من شيوخ الجزائر- دائمي التنبيه والتحذير من مخاطر وتداعيات التغريب الثقافي والاستبداد السياسي والتوجه الاشتراكي في الاقتصاد.


ومن الذين برزوا كمعارضين في ذلك الوقت، كذلك الشيخ "محفوظ نحناح"- عليه رحمة الله- الذي قاد تيار (الإخوان المسلمين) بعد ذلك حتى وفاته في عام 2003م.


"نحناح" يقود تيار العلنية

في هذا العام أيضًا اختار تيار مهم من تيارات الحركة الإسلامية بقيادة الشيخ "محفوظ نحناح" المعارضة العلنية لاختيارات النظام الحاكم؛ إذ وجَّه رسالة شديدة اللهجة إلى الرئيس "هواري بومدين" بعنوان "إلى أين يا بومدين؟"، انتقد من خلالها خيار التوجه الاشتراكي المعتمد آنذاك، ليقتاد إلى السجن بعد ذلك في رفقة عدد من إخوانه، ثم صدر في حقه حكم بالسجن لمدة خمسة عشر عامًا، أمضى منها خمس سنوات، وأُفرج عنه سنة 1981م.


وجاء رحيل الرئيس "هواري بومدين" في نهاية سنة 1978م ليضع حدًّا للسياسات التعسفية والقمعية ضد الحركة الإسلامية في بلد ثورة المليون والنصف شهيد.


ثم جاءت سنوات الثمانينيات؛ لتمثل سنوات الغليان في الجزائر، التي افتتحت العمل المسلح في الجزائر عام 1981م بالمواجهة العنيفة بين جماعة "مصطفى بويعلي" والنظام الجزائري برغم أنَّ أكثر الدعاة الذين استشارهم "بويعلي" اعترضوا على فكرة الدخول في مواجهة مسلحة ضد نظام الحكم القائم؛ لتخلف شروط التمكين، وعدم تكافؤ موازين القوى، ومع هذا أصر "بويعلي" على خياره الصدامي إلى أن قتل في كمين نصبته له الشرطة الجزائرية في عام 1987م.




ترويض التيار الإسلامي !

قلنا إن جبهة التحرير الوطني لجأت عقب الاستقلال إلى سلاحيّ الترغيب والترهيب لتحجيم الإسلاميين، الذين تصدوا لسياسات "بومدين" غير الإسلامية، لكنه واجههم بإجراءات قمعية عنيفة.


واليوم نتطرق إلى البدايات الهادرة للحركة الإسلامية الجزائرية الحديثة منذ العام 1982م، حتى يونيو 1990م، الذي شهد انتصارًا ساحقًا للجبهة الإسلامية للإنقاذ بسيطرتها على 55% من المجالس المحلية وثلثي الولايات.


من الهدوء إلى الهدير

منذ وفاة "بومدين" في 1978م سارت الحركة الإسلامية هادئة حتى عام 1982م، الذي شهد أول تجمع كبير للجماعات الإسلامية في البلاد تحت رعاية الشيخ "عبداللطيف سلطاني"، والشيخ "أحمد سحنون"، وقدم المجتمعون قائمة بمطالبهم التي تضمنت وضع حد للتأثيرات الغربية، خاصة الفرنسية، في المجتمع الجزائري، وإلغاء ميثاق 76، وأن يحل القرآن محل الميثاق العلماني.


على أثر ذلك اعتُقل عدد من المشاركين في المؤتمر، كان من بينهم الشيخ "عباس مدني"، الذي أفرج عنه في 1984م، وفي الوقت نفسه فاز الإسلاميون فوزًا ساحقًا في انتخابات اتحاد الطلبة بجامعة الجزائر، ثم سارت الجزائر هادئة حينًا، وهادرة أحيانًا، حتى كان الانفجار الكبير، الذي أيقظ الجزائر؛ أزمة اقتصادية على سطح الأحداث، لكنه نبَّه إلى أزمة أشد عمقًا هي أزمة الهوية.


انتفاضة أكتوبر 1988م

على إثر قيام الحكومة برفع الدعم عن بعض السلع الأساسية- ومنها الخبز- كخطوة أولى نحو إطلاق قوى السوق، والأخذ بسياسة التحرير الاقتصادي، وقعت اضطرابات اجتماعية واسعة الانتشار، أدَّت إلى إعادة النظر مرة أخرى في السياسة العامة للدولة، وقد تراجعت الحكومة عن قرارتها، ريثما تستكمل أحد الشروط المهمة المسوِّغة لضمان نجاح سياسة الإصلاح الاقتصادي؛ وهو شرط الانتقال من الحزب الواحد إلى النظام الديمقراطي متعدد الأحزاب.


وقد أسفرت المراجعة، وإعادة النظر- بعد المظاهرات وأحداث العنف- عن صدور دستور 1989م، الذي أنهى النظام الشمولي رسميًّا، ونص على حرية تكوين الأحزاب والجمعيات السياسية، لكن حين نزل الشعب إلى الشوارع ردت الحكومة في البداية بالقمع واستخدام العنف، ثم لجأت بعد ذلك إلى الوعود بالإصلاح السياسي.


لقد كان للقمع العسكري الوحشي للاضطرابات عواقب وخيمة؛ إذ زعزع بشدة موقف الحكومة حيال الإصلاح السياسي، وتقليص دور الجيش، ولجوئها للتغيير القسري للتركيبة السياسية في البلاد.


وفي غضون شهر من بداية تلك الاضطرابات الخطيرة التي شملت البلاد كلها، أعلن "الشاذلي بن جديد" في 23 من نوفمبر 1988م استفتاءً شعبيًّا لتعديل دستور 1976م، وفي فبراير 1989م ظهرت التعديلات في تبني دستور جديد، ينقض الماضي الاشتراكي للجزائر، ويفصل الدولة عن الحزب، ويقر بشرعية أحزاب المعارضة.


وبأحداث أكتوبر 1988م انتزعت جماهير الشعب الجزائري زمام المبادرة السياسية من الدولة التي حاول "ابن جديد" استردادها بالشروع في إصلاحات سياسية، ونتيجة لقناعته بأن الإصلاح السياسي تكملة ضرورية للتحرير الاقتصادي من جانب، وكمحاولة لإيجاد بعض مظاهر النظام قبل أن يفلت زمام الأمور من جانب، ثم ليضمن بقاءه السياسي من جانب آخر، حتى ولو خاطر- إلى غير رجعة- بتقليص دور جبهة التحرير الوطني في مثلث (الحزب- الدولة- الجيش)، باشر "ابن جديد" التعديل الدستوري، مؤكدًا أن توجيه عملية الإصلاح يتم من توافق مع الزوايا الثلاث للحركة الإسلامية الجزائرية: (الإنقاذ)، و(حماس)، و(النهضة).


الجبهة الإسلامية للإنقاذ

تأسست بزعامة "عباس مدني" في مارس 1989م؛ أي بعد مضي شهر واحد على صدور الدستور الجديد، الذي نص على التعددية السياسية في البلاد، وفي سبتمبر من العام نفسه حصلت جبهة الإنقاذ على ترخيص رسمي بها كحزب سياسي؛ لتصبح بذلك أول حزب سياسي إسلامي في البلاد، يتم السماح له بالعمل بصورة قانونية.


يتكون الهيكل التنظيمي للجبهة من مجالس الشورى والمكاتب التنفيذية على مستوى البلديات والولايات على المستوى الوطني؛ أي على مستوى الجمهورية، أما المكتب التنفيذي الوطني فهو يمثل القيادة السياسية للجبهة، ويقوم مجلس الشورى الوطني بانتخاب أعضاء المكتب التنفيذي.. هذا، بالإضافة إلى عدد كبير من اللجان الفنية المختصة بالشئون المالية والإدارية والإعلامية والدعوة، وتشكل الجبهة الإسلامية للإنقاذ رأس المثلث الإسلامي في الجزائر.


حركة مجتمع السلم (حمس)

بقيادة الشيخ "محفوظ نحناح"- وكانت تُسمى من قبل بحركة المجتمع الإسلامي (حماس)- وهي تمثل التيار الإخواني في الجزائر، وحصلت على الاعتراف الرسمي في فبراير 1991م.


حزب النهضة الإسلامية

وكان يقوده الشيخ "عبد الله جاب الله"، وذلك قبل أن يتعرض للانشقاق.


الانتخابات البلديات في يونية 1990م

كان الاعتراف بجبهة الإنقاذ خطوة جريئة، أقدم عليها النظام الجزائري، وسببت له مشكلات عدة، خاصةً مع دول منطقة المغرب العربي.. وبقدر ما كانت الخطوة جريئة، كانت خيارات السلطة محدودة؛ فماذا كانت تستطيع أن تفعل هذه الأخيرة غير أن تعطي الاعتماد لأول طرف يتقدم من هذا التيار الإسلامي الواسع، أو الدخول في مواجهة مبكرة.

ونذكر في هذا المجال تعرض الشرعية، التي أرادت الدولة أن تبنيها إثر أحداث أكتوبر 1988م الدامية إلى خطر حقيقي، إضافةً إلى أن الأصوات المؤثرة والمؤيدة للتيار الإسلامي ليست معدومة داخل جبهة التحرير الوطني (الحزب الحاكم آنذاك)، ومع ذلك فإن الاعتراف بجبهة الإنقاذ، أو بغيرها من الأحزاب الوطنية، يجب ألا يتجاوز السقف المسموح به، وفي كل الأحوال يجب ألا يعرض السلطة ذاتها إلى خطر الزوال، وكانت حسابات السلطة تقوم على ترويض التيار الإسلامي وإدماجه في العائلة السياسية، ويمكن في أسوأ الأحوال السماح له بمشاركة نسبية في السلطة على شرط ألا يكون له تأثير مباشر على التوجهات العامة للسياسة الجزائرية.


لقد افتتحت التعديلات الدستورية التي جرت في سنة 1989م عهدًا جديدًا للمنافسة التعددية، وأدَّت إلى انتهاء سيطرة الحزب الواحد لجبهة التحرير الوطني، وأظهرت الانتخابات المحلية في يونية 1990م التزامًا واضحًا بإطلاق الحريات؛ إذ إن الحكومة لم تسمح بالمنافسة السياسية فحسب، بل قبلت بالهزيمة من خصمها الإيديولوجي (الجبهة الإسلامية للإنقاذ).


خاضت جبهة الإنقاذ الإسلامية الانتخابات المحلية بمفردها، ممثلة للحركة الإسلامية كلها بسبب عدم موافقة حركتي (النهضة) و(حماس) على المشاركة فيها من ناحية، وعدم حصولهما على الرخصة القانونية التي تعترف بهما كأحزاب سياسية في ذلك الوقت (يونيو 1990م)، ومع ذلك فقد تمت تعبئة الإسلاميين كافة للتصويت لصالح مرشحي جبهة الإنقاذ.


كان الاختبار الأول لتجربة الجزائر في الانفتاح السياسي في يونية 1990م عندما جرت الانتخابات البلدية وانتخابات الأقاليم والولايات، وكانت نتائج هذه الانتخابات- التي تعتبر أول انتخابات تعددية حزبية حرة في تاريخ الجزائر منذ الاستقلال- انتصارًا ساحقًا للجبهة الإسلامية، وبسيطرتها على 55% من المجالس المحلية وثلثي الولايات شكلت الإنقاذ بدرجة معينة تحديًا مخيفًا للتوجهات العلمانية، ولهيمنة جبهة التحرير الوطني!


الانتخابات وتدخل الجيش

تطرقنا من قبل إلى البدايات الهادرة للحركة الإسلامية الجزائرية الحديثة منذ العام 1982م، وكيف حاولت السلطة ترويض التيار الإسلامي بالسماح له بالحركة، مع نزع تأثيره على السياسة، وكيف شكلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ تحديًا مخيفًا للتوجهات العلمانية وجبهة التحرير، لا سيما في يونيو 1990م، الذي شهد انتصارًا ساحقًا للجبهة، بسيطرتها على 55% من المجالس المحلية وثلثي الولايات، واليوم نتناول ما حدث بعد ذلك.


قانون الانتخابات والتقسيم الإداري للدوائر الانتخابية

على ضوء نتائج الانتخابات السابقة التي فازت فيها جبهة الإنقاذ، ترجمت السلطة خوفها من نتائج الانتخابات بصياغة القانون الانتخابي وقانون التقسيم الإداري للدوائر الانتخابية؛ في محاولة لتحجيم حضور جبهة الإنقاذ في المجلس الوطني الذي كان من المفروض أن تفرزه الانتخابات التشريعية التي كانت ستنظم في 27 من يونية 1991م، وطالبت بتعديله باعتبار أن الصيغة التي قُدِّم بها لا تهدف إلا إلى كسر شوكتها، والحقيقة أن غالبية الأحزاب ساندت جبهة الإنقاذ في موقفها من هذا القانون، ولكن كانت هذه الأخيرة كلما صعدت في سياستها الرافضة لهذا القانون كان يزيد مواقف الأحزاب في التراجع والاقتصار على الموقف المبدئي، خاصةً أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وانطلاقًا من تجربة البلديات رأت ضرورة الربط بين المطالبة بتعديل قانون الانتخابات، والمطالبة بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية سابقة لأوانها.


الإضراب

هددت الإنقاذ بالدخول في إضراب عام إن لم تستجب السلطة لنداءاتها المتكررة بضرورة مراجعة قانون الانتخابات، وفعلاً- بعد مدة من هذا التهديد واستمرار السلطة في موقفها- دخلت جبهة الإنقاذ في إضراب عام مفتوح، وبرغم أن الاستجابة الشعبية كانت محدودة في الأيام الأولى، فإنها أخذت في الازدياد والتوسع، وشلت العديد من المرافق المهمة.. ونظرًا لأن الجبهة كانت حريصة كل الحرص على أن يتم الإضراب في كنف الهدوء، ومحاصرة كل ما يمكن أن يتسبب في انقلاب الوضع، فقد اكتفت السلطة في بادئ الأمر بمراقبة سير الأحداث، مراهنةً بذلك على فعل الزمن، وتبيَّن لها أخيرًا أن الوقت لا يعمل لصالحها، وأن الإضراب العام الذي أعلنته (الإنقاذ) كان يتوسع ليشمل قطاعات جديدة؛ لذلك عمدت إلى حل الإضراب بالقوة، بل تدخل الجيش بعدها لتفريق الإنقاذيين المعتصمين بالساحات العامة، وسقط ضحايا عدة من الجانبين، وفي الوقت نفسه أقيلت حكومة "حمروش"، وعُهد إلى "سيد أحمد غزالي" بتشكيل حكومة جديدة، وأُوهمت جبهة الإنقاذ باستجابة الرئاسة لمطالبها، واعتبر ذلك انتصارًا لها، فأعلنت إيقاف الإضراب العام.


الاعتقالات

وفي ظل التصريحات الغامضة حول حقيقة موقف الرئاسة، وهل قبلت فعلاً بمطالب جبهة الإنقاذ أم لا.. قام الجيش بحركة اعتقالات واسعة في صفوف الإنقاذ، واعتقل كلاً من الشيخ "عباسي مدني"، والشيخ "علي بلحاج"- قائدي (الإنقاذ)- في يوم 30 من يونية 1991م، وبعد ذلك دخلت السلطة في محاولات عدة لإيجاد قيادة بديلة عن "مدني"، وإحداث انشقاقات من شأنها أن تحدث ارتباكًا كبيرًا في هياكل (جبهة الإنقاذ)، وبرغم استقالة بعض العناصر القيادية، فإن ما كانت ترغب فيه السلطة لم يتحقق، واستطاعت (جبهة الإنقاذ) أن تتجاوز تلك المرحلة الدقيقة بأقل أضرار، وانتظمت صفوفها من جديد؛ استعدادًا للانتخابات التشريعية التي كانت قد تقررت في ديسمبر 1991م.


الانتخابات البرلمانية في ديسمبر 1991م

انتخابات-3.png

في شهر ديسمبر 1991م، وبإنهاء حالة الطوارئ لأيام عدة مبكرة، وبالإعلان عن موعد لإجراء الانتخابات الوطنية، بدت الحكومة كأنها تحاول العودة بالبلاد إلى طريق الديمقراطية، وبإلحاق الستة الباقين من أعضاء مجلس شورى الجبهة الإسلامية بقيادتيها": "مدني"، و"بلحاج" في سجن البليدة، وحظر صدور صحيفتها، لم يعد هناك سبب وجيه يمنع الحكومة من مواصلة هذا النهج.


وبالرغم من ذلك، وبعد مضي شهر، وللمرة الثانية، غيرت الحكومة أسلوبها بتبني قانون جديد صدر في 13 من أكتوبر 1991م، الذي كان يخفي نياتها المتحيزة على نحو أمهر من القانون الذي صدر في الربيع، وكان مكشوفًا تمامًا في ذلك.


لقد زاد القانون الجديد من عدد مقاعد الجمعية العمومية من 295 إلى 430 مقعدًا بدلاً من 542، التي أحدثت في إصلاحات مايو، وتركز معظم المقاعد الجديدة في مناطق نفوذ جبهة التحرير الريفية، كما حذف القانون الجديد دوائر انتخابية، اقترحها رئيس الوزراء لتسهيل دخول المرشحين المستقلين للمنافسة، وبمشاركة نحو 50 حزبًا في الانتخابات بدا كأن الحكومة واثقة من أن العدد الكبير من الخيارات الواسعة سيبدد أصوات المعارضة، ويبقي جبهة التحرير في السلطة، وبالرغم من ذلك فقد أعطت نتائج انتخابات 26 ديسمبر 1991م انتصارًا حاسمًا للإنقاذ؛ إذ حصلت على 188 من مجموع 430 مقعدًا في البرلمان، وكانت جبهة القوى الاشتراكية هي أقرب المنافسين لها لحصولها على 25 مقعدًا، وليست جبهة التحرير التي جاءت متأخرة في المرتبة الثالثة بحصولها على 16 مقعدًا، وببقاء 200 مقعد يتحدد مصيرها في الجولة الثانية من الانتخابات، التي كانت قد تقرر إجراؤها في 16 يناير 1992م، وبدا مؤكدًا أن الجبهة الإسلامية ستفوز ببقية المقاعد اللازمة لضمان أغلبية في البرلمان.


إلغاء الانتخابات التشريعية

شكلت أحداث يونية نقلة نوعية في سياسة (جبهة الإنقاذ)، وقد ظهر ذلك من خلال خطابها السياسي ومواقفها العملية؛ لقد حافظت (جبهة الإنقاذ) على مواقفها المبدئية من جملة القضايا المطروحة في الساحة الجزائرية، لكنها اعتمدت على أساليب أكثر مرونةً، وتجنبت التصريحات الحماسية، وبدت أكثر واقعية وأشد حذرًا، وربما فهمت أن شعبيتها الواسعة لن تستطيع أن تحميها من بطش الجيش- المؤسسة الأكثر تماسكًا في الدولة الجزائرية- وأن وصولها إلى الحكم أمر لا تملك كل مفاتيحه، حتى وإن باتت هي المتحكمة في الوضع الداخلي، ومن هنا يمكن أن نفهم استراتيجيتها إثر إقالة الرئيس "الشاذلي بن جديد"، وإلغاء الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية، التي تميزت بالصلابة في المواقف المبدئية؛ حيث اعتبرت ما أقدمت عليه الطغمة الحاكمة- بحسب تعبير الشيخ "عبدالقادر حشاني"- جريمةً في حق الجزائر والجزائريين، وأن كل الإجراءات التي نتجت عن إقالة رئيس الجمهورية ليس لها أي سند دستوري، وأن جبهة الإسلامية للإنقاذ تصر على حسن تحمل الأمانة التي ألقاها الشعب الجزائري على عاتقها من خلال انتخابات 26 ديسمبر 1991م.


تعمد إحداث فراغ دستوري حول منصبي الرئاسة ورئاسة البرلمان معًا :

كان المسلسل الجزائري قد أُعد بإحكام؛ إذ جاءت إقالة الرئيس "الشاذلي" بعد مرور أسبوع فقط على حل البرلمان "المجلس الشعبي الوطني"؛ وهو الأمر الذي أدَّى إلى إحداث فراغ دستوري مقصود، وبعد أن تولى "عبدالمالك بن حبليس" الرئاسة بالنيابة لمدة يوم واحد لاحظ أعضاء المجلس الدستوري- الذي كان يرأسه "عبدالمالك بن حبليس" نفسه- أن الدستور لا يمنحه هذه الصفة إلا إذا توافقت وفاة الرئيس مع شغور منصب رئيس المجلس الشعبي الوطني، وأن الحالة القائمة هي استقالة وليست وفاة.


ومن هنا أصدر المجلس الدستوري بيانًا أعلن فيه الشغور النهائي لمنصب رئيس الجمهورية "الشاذلي بن جديد"، وعهد إلى المؤسسات المخولة صلاحيات دستورية- وفي مقدمتها الجيش- بمهمة السهر على استمرار الدولة، وإيجاد الظروف الضرورية لعمل المؤسسات والنظام الدستوري بشكل طبيعي.


المصدر : إخوان أون لاين