أقسمت أن أروي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
أقسمت أن أروي ..
نبأ المجزرة الرهيبة التي تقشعر لها الأبدان 1398هـ
الطبعة الثالثة - 1978م
غلاف الكتاب

بقلم / روكس معكرون

تقــــديــــم

إن الدكتاتورية تبدو في العادة ضخمة خطيرة من الخارج …

إنها تبدو صلبة براقة لا تقاوم ……

أما من الداخل فهي عفنة ……

إنها أشبه بأضرحة البيضاء التي تبدو جميلة فعلا في مظهرها .. ولكنها من الداخل مليئة بعظام الموتى وجميع أنواع القذارة .

إلى أرواح الشهداء ..

إلى الشباب النضر كزهور الربيع ..

إلى الإيمان المجرد كأنه جوهر الحق

إلى التضحية الصادقة بالدم والروح

إلى الوطنية وإلي الإخلاص

إلي شباب مصر شهداء مذبحة ليمان طره ..

إلي أصدقائي: على حمزة .. إبراهيم قعوار .. حيري .. وبقية الأصدقاء الشهداء ..

.. لقد عشت معكم أياما وليالي .. وأنا مسيحي وأنتم مسلمون .. وما شعرت معكم بغير الألفة والود والمحبة والإقدام المتبادل .. وما لمست فيكم غير أيمانكم بدينكم . وأيمانكم بوطنكم وأيمانكم بإنسانيتكم .. وهو منتهى المعرفة .

.. لقد عشت معكم صديقا نأكل ونشرب كأس السجن والعذاب معا .. جمعتني وكثير منكم رابطة الألفة والصداقة ومشاركة العمر والثقافة والميول فكنتم لي أخوة في المحنة .. وكنت لكم أخا .. وشهدت الكارثة الرهيبة ورأيت أخوتي يسقطون صرعى .. ورصاص الطغاة الآثمين يسلبكم الحياة .. بعد أن فشلت كل أساليب الغادرين ، أن تسلبكم الإيمان .. وأقسمت أن أروي للتاريخ مأساتكم الهائلة .. إلى الرأي العالمي ..

وإلى الضمير الإنساني ..

أقدم قصة هذه الأيام والليالي السوداء التي عشتها في ليمان طره ودفعت من كل ساعة من ساعاتها بل في كل لحظة من لحظاتها دمي وأعصابي ونور عيني .

ويخطئ من يظن أنني في هذا الفصل سوف أستغل صناعة الكتابة أو براعة القلم في تجسيم الحقائق ! في التزيين أو التزييف أو التشويه .. أنني لا يمكن أن ألجأ إلى شئ من هذا فإن الحقيقة وحدها تكفي ، وأن الواقع لأكثر هولا مما قد يخطر على أي بال .. وأن الأحداث لأفظع لأقدمها للتاريخ شاهدا ولأهدي هذا المجهود إلى أرواح الشهداء الذين استشهدوا لإيمانهم بالحق لوجه الحق وحده ، وأشهد الله على ما أقول .. والله على ما أقول شهيد.

لقد قلت : بأنني أؤمن بأن الله قد خلق عباده أجمعين من تراب وروح، وأنه قد خلقنا نحن أبناء لبنان من التراب والروح وجوهر الحرية .. ولازلت أقول أيضا .. أن الخبرة التي اكتسبتها من هذه الرحلة وممارستي حياة العبودية في جزيرة العذاب ، قد أتاحت لي في سنوات سجني ما كان لا يمكن أن يتاح لي في أي مكان آخر ولو في نصف قرن .

فالحمد لله على المحنة .. وأنا قد اخترت هذه الحقيقة الواحدة التي ضمنتها هذا الفصل دليلا على ما شهدته وشاهدا على خبرته ..

استبداد الزعيم وزعامة المضللين

في الشرق العربي .. ومنذ سنوات قليلة .. دعوة جارفة تحشد القوى .. أضخم القوى ، وتجند الوسائل .. حتى الدنيئة منها ، تدعو كلها إلى زعامة عبد الناصر .. أبواق تهتف ونشرات تخرج وصور وشعارات وألوان جذابة ومغريات هائلة .. وكلمات براقة ووعود خلابة .. طوفان من الدعاية ، كلها تساهم في بناء الغاية الكبرى: زعامة عبد الناصر .. بعض الناس يمضي في الطريق ويستجيب أغلبهم يستجيب عن طيبة أو سذاجة أو فراغ وأقلهم يستجيب عن مصلحة واقتناع .. وبعض الناس يقف في هذه الدعوة موقف المحارب المستميت يفضح مزاعمها ويفند أكاذيبها ينذر ويحذر .. تضليل ووهم ، تهريج وخداع .. وبعض الناس يقفون حيارى في مفترق الطرق .. أي الدعوة خير وآيتها شر ؟

ولو أن دعوة زعامة عبد الناصر داخل نطاق مصر لما تدخلنا ولما كان لغير المصريين أن يفصلوا في أمر الدعوة خير أم شر .. ولكن الطوفان أخذ يزحف إلى الشرق العربي حاملا الدعوة الدنيئة وانزلق أكثره في الطريق .. وبذلك وحده أصبح من حق كل مواطن عربي بل من واجبه مادام يملك ولو شعاعا ضئيلا من النور يكشف الحقيقة أن يتقدم فورا ومهما كان ثمن التضحية والفداء .. فمن حزمة الإشعاعات الضئيلة ستكون شعلة الرواد الذين يحررون الناس في الوهم .. من الزيف .. من الضلال .. من الزعامة الفردية .. من الاستبداد الدكتاتوري المطلق .. أنني قلت مهما كانت التضحية والفداء لأن دعوة عبد الناصر قد وطدت العزم على بلوغ الهدف بأي سبيل حتى ولو سلكت سبلا دنيئة بذيئة يلوثها العار والخسة والانحطاط .. ولعلنا في لبنان قد ذقنا هذه الكأس المرة .. ودفعنا افدح الثمن .. دفعنا الخراب والدمار الذي أصاب لبنان ودفعنا أرواح القتلى .. وعذاب الأحياء ..

على أية حال هذا ليس مجال مناقشة الدعوة من الوجهة السياسية .

وإنما أردت أن أعترف للقارئ اللبناني بهذا السؤال: ماذا نعرف نحن عن حقيقة الحياة في ظل زعامة عبد الناصر ؟ أنهم سيقولون أن عبد الناصر وبطانته يدعون للوحدة والاتحاد ويعملون من أجل رفاهية الشعب .

أنهم يؤمنون بالعزة والكرامة والحرية .. هذا قول جميل يمكن أن يخدع ويغري الملايين .. وسؤال آخر : أليس من حقنا قبل أن ننطق بكلمة تأييد لهذه الدعوة أن ننظر في جوف الإناء لنرى ماذا هناك .. وماذا حققوا لمجتمعهم من خير ؟.

وهنا يظهر السؤال المباشر :

أيهما أقرب إلى زعامة عبد الناصر فأحق بدعايته وبكفاحه وببرامجه وبأفكاره العبقرية الخالصة ؟ مصر أم لبنان ؟ .. المجتمع في مصر أم المجتمع في لبنان ؟ .. الشعب في مصر أم الشعب في لبنان ؟؟؟ فتعالوا نشهد ماذا صنع عبد الناصر لمصر .

وماذا فعل بالمجتمع المصري .. وبأي عملة تجري بينه وبين الشعب في مصر المعاملات .

وأنا لست خبيرا في السياسة ولا أزعم أني قائد محنك أو زعيم مجرب .. وإنما أنا أسرد حديثي للقارئ واسأل فقط أليس من حقنا أن نعرف الحقيقة ؟… حقيقة الطرق الذي يدعونا عبد الناصر إليه ؟ ,اعتقد أني في هذا الفصل سأقدم حقيقة جانب من أهم جوانب الحياة في ظل حكومة عبد الناصر .. وستبقى هذه الحقيقة ، الضوء أسطع الضوء على حرية الفرد والحياة السياسية .

والتكافل الاجتماعي .

والقيم الأخلاقية .

وأخيرا مقاييس الإنسان والحضارة في نظر عبد الناصر ونظام عبد الناصر وأنني لأحب أن أسأل سؤالا بسيطا أن كان من حقي كمواطن عربي شهد مأساة سجون الجمهورية العربية المتحدة : لماذا يتحدث حكام القاهرة عن العزة والكرامة والحرية وليس عندهم إلا الوحشية والعبودية والمذلة .. تجار الضجيج باعة السراب .. صناع العذاب ..

لقد قدر لي أن أكون الإنسان الوحيد الذي شهد هذه المحنة الفظيعة .. وخرج من السجن .. ومن سجون الجمهورية العربية المتحدة وحدودها جميعا ليتصل بالعالم الحر .

من منبر لبنان الشامخ ، حصن الحريات والحقوق .. من وطني .. فلتتطلع الإنسانية علي ما رأيت واشهد التاريخ .. وكي انصف الواقع أقول انه شهد هذه النكبة الوحشية معي أيضا الصديق اللبناني جورج يونس .. ويرى القراء قصة رحلته في جزيرة العذاب في غير هذا المكان .. وكأنها سخرية من القدر بتدابير الطغاة .. فيكشف الخبئ من حيث لا يقدرون .

كنت أجلس في زنزانتي الكئيبة لأكتب هذا الفصل .. وأرواح هؤلاء الأصدقاء تحوم حولي .. وستظل تحوم حول هذا المكان وستبقى الجريمة خالدة والدم البريء المراق .. والأرواح الطاهرة المزهقة ستظل تضرع وتشير إلى الجناة .. إلى الطغاة صناع الدمار أعداء الحياة .

وليس هؤلاء كل من عرفتهم وراء القضبان .. هناك الكثيرون وأبطال الكفاح من أجل إيمانهم .. شباب كثيرون جاءوا بهم من مقاعدهم بالجامعات ومن منابرهم في الصحافة والمحاماة والقضاء والطب والهندسة وساقوهم إلى اليمان من أجل إيمانهم بحق بلادهم في الحرية والكرامة .. وكنت أحس كلما جلست بينهم أن هذا الشعب سيحقق أمانيه وأن هؤلاء الذين يستبدون به إنما يخدعون أنفسهم وأن الحقيقة لا بد واقعة ولكن بعد الثمن الفادح .. بعد الذل الهوان والعذاب .. ومن يدفع الثمن؟ مصر لا شك والمجتمع العربي بأسره.

الطغاة يهدرون دماء الشهداء ويسومونهم سوء العذاب

واليوم ذهب بعضهم شهداء واختصروا الطريق إلى أهدافهم العليا والآخرون بعثرهم الطغاة في سجون كثيرة بعضهم في قلب الصحاري وأعماق الفيافي هناك على مسيرة مئات الأميال من الحضارة والعمران .. في سجون الواحات ..

وأنا أخال أرواحهم تطوف بمسرح المصيبة .. وأذكر أحاديثهم وهم أحياء أخال انهم يحملوني أمانة الشهادة وواجب البلاغ .. وأنا كمسيحي لا بد مؤد حق الشهادة الخالصة .. وأنني كمواطن عربي لا بد ملب واجب البلاغ الصادق .. وكصديق للشهداء الذين ذهبوا .. وللسجناء الذين يرسفون إلى اليوم إنما أؤدي الأمانة ، و الواجب .. وأنا أضرع إلى الله في صلاة التوسل والرجاء أن يعينني على ما أنا بسبيله .. فلتقر أرواح الأصدقاء الشهداء .. رحمهم الله .. وتحية لنفوس الأبرياء السجناء الذين ما عرفت عنهم إلا تمسكهم بعقيدتهم .. ودفاعهم عن مثلهم وكفاحهم من أجل حقوقهم فنصب لهم المشانق .. وفتحت لهم السجون بظلمها وعذابها وما وجدتهم في محنتهم وسياط العذاب مسلطة عليهم إلا رجالا لها صابرين .. مؤمنين .. قادرين .. تهون عليهم أبدانهم والعذاب من أجل كلمة .. الله .. والوطن .. وهو منتهى الوفاء .

ونعقت غربان الشؤم .. وأخذت الطغاة العزة بالإثم فأطلقوا الرصاص على صدورهم فتنفجر منها آيات الطهر والقداسة .. وهتفوا حتى في لحظة الموت والرصاص يصرعهم . الله أكبر .. الله أكبر .. وهو منتهى الإيمان .

ونظرت فرأيتهم قتلى .. صرعى والدماء تسيل .. وكانوا منذ لحظة ملء الحياة .. ولكنني والحق أشهد أنهم لم يكونوا قتلى ولا ضحايا .. كانت لهم حتى وهم في العدم هيبة وجلال .. سيما الشهداء وهو منتهى الخلود .. وأنني لأخال هذه الأرواح تتحدث إلى .. وأكاد ألمح نورها يضئ ظلمة السجن وهمسها يرن كالمعزوفة الجنائزية .. تروي قصة الأحزان الخالدة .. أخال هذه الأرواح .. كما كنت أجلس بين أصحابها وهم ملء الحياة يملأهم الإيمان والأماني .. كانوا يعبدون الله .. ويعشقون الوطن ويعملون بوحي إيمانهم .. لأجل بلادهم .. وكانت كل كلمة منهم وكل تصرف لهم إنما هو مدفوع بالعبودية لله .. والكفاح من أجل الوطن .. كنت أعرف فيهم الأب الذي انتزع من لأسرته وتحطم بيته ..والزوج الذي فرق من زوجه وشرد أولاده .. والشاب الذي يقف على باب مستقبله العريض موظفا أمينا أو طالبا مجدا أو محاميا بارعا أو مهندسا ناجحا أو طبيبا عبقريا .. فذهب ذلك كله ألقى به إلى المشنقة أو إلى السجن ..

ولا قدم للرأي العام العالمي والضمير الإنساني تقصيا هذه المأساة المروعة :

مجزرة القرن العشرين

ليمان طره

قصة المذبحة فظيعة ، بل أفظع قصة عرفها القرن العشرون .. بدأت مقدماتها يوم صلاة الجمعة ، حيث كان السجين الشيخ حسن أيوب وهو من جماعة الإخوان المسلمين ، يقوم بالوعظ والإرشاد لكل من حضر الصلاة .. وكان ذلك في فناء العنبر ، ولم يكد ينتهي الشيخ حسن من وعظه حتى فوجئ المصلون بسياط الزبانية تلسع ظهورهم وتفرقهم .. وقد نال النصيب الأكبر من هذه السياط الشيخ حسن المسكين .. ولماذا كل هذا ؟ لست أدري .. ولكن لم تمض ساعة من الزمن حتى انجلى الموقف.

في الليمان سجين وصولي عبد الوهاب الشعراني محكوم عليه في قضية قتل وإجرام الأشغال الشاقة المؤبدة .. له صلة قرابة بواعظ الليمان المدني الشيخ الصاوي شعلان .. كان عبد الوهاب يحقد كثيرا على الإخوان ينعتهم حينا بالخونة وحينا بالمأجورين لأنه على ما علمت من نزلاء الليمان ( عياش) يصفق ويهلل لكل عهد جديد ، يعيش بلا مبدأ ولا ضمير .. أسر الشعراني في إذن الشيخ الصاوي بكلمات كلها حقد وبطلان .. قال أن الشيخ حسن يتمادى في وعظه ويلمح عن طغيان الثورة وعهد الثورة .. وحمل الصاوي ما قاله الشعراني للسادة ضباط السجن وهؤلاء بدورهم أرسلوا زبانيتهم بأوامر مشددة دون تحقيق ولا روية .. ووقعوا على الشيخ حسن وعشرات المصلين محاضر جلد .

ووضعوهم في غرفة التأديب .. وجن جنون المسجونين ( كل المسجونين) من هذا التصرف الأحمق .. منهم من قال : لا صلاة بعد اليوم .. ومنهم من قال الكفر سيد في هذا المكان .. وتكهرب الجو بين الإدارة والإخوان .. وبدأت المعاكسات السخيفة ..

أصدر طبيب أول الليمان محمد فؤاد السيد أمرا بإخراج الإخوان المرضى بالمستشفى إلى عنابرهم .. وقد كتب على تذكرة علاج كل فرد منهم .. كلمة (خروج) أي الخروج من الملاحظة لأنه شفى ! – وذلك دون مراعاة الضمير الإنساني الذي يحتم عليه أن يقف إلى جانبهم ويبقيهم في أسرتهم في المستشفى لما يعانون من أمراض خطيرة ، كان سببها آلات تعذيب حكام القاهرة .

وأبي طبيب أول الليمان أن يقف بعيدا عن ممالأة أسياده ؟!

وفى الصباح خرج الإخوان من المستشفى محمولين إلى العنبر ، كل يئن من آلامه وأوجاعه .. آلام الضرب والتعذيب قبل مجيئهم إلى الليمان .. آلام لا تطاق أذاقتهم إياها المخابرات المصرية في السجن الحربي .. حيث تفننت هذه المخابرات المصرية في السجن الحربي .. حيث تفننت هذه المخابرات بأساليب العذاب وألوانه .. فمن كماشة حديدية تطوق الرأس وتضغط حسب الطلب ! إلى نفخ في الأدبار حتى يصبح الآدمي بالونا معلقا على السقف .. إلى غير ذلك من أساليب وحشية دنيئة .

وعند الظهيرة نادى السجان كشفا يحمل أسماء المسجونين المطلوبين للزيارة الخصوصية .. ونادى فيها منادى اسم السجين كمال عبد العزيز زوج الفنانة زوزو ماضي ، والمحكوم عليه بالشغال الشاقة المؤبدة في قضية المخدرات الكبرى مع زوجته .. ونادى كذلك الدكتور مصطفى حمدي وهو من جماعة الإخوان ، وغيرهم ودخلوا جميعا مكتب النقيب عبد الله ماهر آمر الزيارة .

أعطت "زوزو" في نهاية الزيارة أكياسا كثيرة من المأكولات والحلوى لزوجها السجين ثم تقدمت والدة الدكتور حمدي تستأذن النقيب بإعطاء وحيدها دجاجة كانت تحملها في كيس صغير من "السلوفان" .. رفض الضابط طلبها وأصرت الوالدة … وإزاء إصرار الأم الحنون ، أخذ الضابط الهمام الكيس من يد الأم وقذف به خارجا وطردها .. وثارت ثأره الدكتور حمدي وقال للضابط كلمات كثيرة كانت درسا قاسيا في الأدب والتربية .. ووقع الضابط المنتصر القصاص على حمدي وأودعه غرفة التأديب ..

أبلغ النقيب بطولته في معركة سيناء لمديره ورؤسائه ، وأضاف بأن الإخوان المسلمون يريدون به شرا .. وجمعت الزبانية في لحظة ، وأعطيت إليهم الأوامر من جديد :

1.عدم السماح للإخوان بالصلاة جماعة

2.تفتيش الدور الثالث من العنبر أي حيث يسكن الإخوان تفتيشا استفزازيا صباحا ومساءا.

3.إخراج جميع الإخوان من غرفهم صباح الغد وسوقهم إلى الجل لتكسير الحجار دون استثناء المرضى منهم وتكهرب الجو من جديد وبات الإخوان ليلتهم في قلق شديد ينتظرون الغد ويحسبون ألف حساب لملاقاة المجهول ..

وجاء الصباح المنتظر .. وجاوزت الساعة السابعة صباحا ولم تفتح الأبواب .. وذلك على غير عادة .. قفزت من غرفتي إلى الفتحة الصغيرة بباب الزنزانة استطلع الخبر .. ثم أر شيئا .. إلا أنني سمعت وقع إقدام كثيرة .. ثم رأيت ضباطا أعرفهم ..

البكباشي : فؤاد سعد الدين

النقيب: محمد صبحي

الملازم الأول : عبد العال سلومه

النقيب: أحمد زكي

الملازم : حسين سعيد

وكلهم من ضباط السجن ، وكلهم مدججون بالسلاح ومعهم عدد وافر من الزبانية يشكلون حلقة ويشاورون ..

ولم تمض دقائق معدودات على هذا الوضع حتى توجه السجانون إلى الدور الثالث وفتحوا أبواب الزنازين بكاملها واخرجوا الأصحاء من الإخوان إلى شرفة الدور .. وتركوا بقية الدور مقفلة .. وبعد دقائق دوت طلقات نارية كثيرة ، ولم أسمع سوى صوت واحد ردده الجميع – جميع الإخوان – الله أكبر .. الله أكبر .. وبقى الرصاص يدوي إلى أن اطمأن الطغاة إلى استشهاد المجموعة البريئة ..

وخيم صمت رهيب على سكان العنبر حدادا على الشهداء .. وتمخضت المجزرة عن استشهاد إحدى وعشرون شهيدا وستة وخمسون جريحا استشهد منهم بعد ذلك أحد عشر متأثرين بجراحهم .

جاوزت الساعة العاشرة ولم تفتح الدور الباقية وكنت أود ألا تفتح .. لأن قلبي كاد ينصهر من فرط الألم لاستشهاد الأصدقاء الأوفياء .. ونظرت إلى من معي بالغرفة ، جورج المذكور وقد احتل زاوية من الغرفة مذهولا خائفا .. وقلت له أهذه هي قومية عبد الناصر وديمقراطية الثورة وعدالة العهد ؟ وأجابني بصوت خفيض خلته ينبعث من القبور : "شو بدك بهالحكي .. مش وقته"..

وظننت بأن الأبواب لن تفتح قبل أن ينقلوا الجثث من العنبر .. إلا أن آدمية الطغاة خيب ظني وفتحت الزنازين _ كل الزنازين – وأمرنا بالخروج من الغرف لقضاء حاجياتنا

وما بالك أيها القارئ العزيز إذا علمت بأننا كنا نتخطى الجثث وكأننا في ميدان حرب .. جثث في كل مكان أمام غرفتي وفى الفناء وعى سلم العنبر ..

كم كنت أود أن يطلق الرصاص على الأعداء .. أعداء بلادنا ، وليس في صدور أبناء عروبتنا الخلص الأبطال .. ولكنه الطغيان بأقسى أنواع ظلمه ووحشيته ..

أعود إليك أيها القارئ العزيز لا سرد لك بقية القصة .. قصة المجزرة .. مجزرة القرن العشرين

أطلقت صفارة السجان .. ونودي علي جميع سكان العنبر بالنزول إلى الفناء .. وامتثل السجناء للأمر .. آمر سجانهم صاحب الحول والطول يفعل بهم ما يسعده من الآن العذاب والحرمان .. فهو يعرف قانون الليمان حاكم مطلق الصلاحية .

اجتمعنا نحن السجناء في فناء العنبر .. وأجلسونا القرفصاء .. وجلست هذه المرة دون مجرد التفكير والاعتراض علي هذا الوضع .. وكانت إدارة السجن قد استدعت بقية الإخوان الذين كانوا في غرف تأديب ومنهم الدكتور حمدي .. ووقف الملازم أول عبد العال سلومة لنا جميعا :

أيها النزلاء ..

يسر إدارة الليمان أن تسعدكم بمشاهدة الإخوان المسلمين يقومون بألعاب بهلوانية للترفيه عنكم ! وحضرتني في تلك اللحظة صورة نيرون يقهقه وروما تحترق ..

وأعطى الضابط الخليع أوامره للأخوات المسلمين ليدوروا سريعا حول العنبر ، ومن ورائهم شرذمة من الزبانية تلهب ظهورهم بالسياط ..

وشرذمة أخرى تقذفهم بالكلس الحارق علي وجوههم .. إن وحشيه هولاكو كانت لتبدو معدومة إذا ما قورنت بوحشية القائمين علي سكان الجزيرة يستمدون أوامرهم من وزارة الداخلية فينفذوها بدقة وإخلاص..

ثم نودي على الإخوان مرة أخرى ليوزع عليهم الضابط الهمام أسماء جديدة .. ولكنها أسماء لنساء صورة من المهانة والتحقير لم تعرفها الإنسانية من قبل .

ولم يكتف سلومة بهذا القدر من التحقير بل سولت له نفسه أن يأمر أحدهم – أعرفه جيدا يدعى محيي الدين عطية وهو طالب في كلية الحقوق – أمره بأن يضاجع أخا له .. واقشعرت الأبدان – أبدان السجناء كل السجناء – وبكى محيي من فرط الألم واستنكر بشدة أمر الضابط الرفيع . ، لم يكن سليط زكريا محيي الدين لتنال درة من أدميته .. فأوقعته أرضا ومغشيا عليه ..

وتمتمت بصوت خاشع : اللهم أرفع عنهم هذا الكأس وارحم الشهداء – شهداء الإيمان وأعداء الطغاة الآثمين .

الدكتاتورية المطلقة: أسلوب الحكم البغيض

عزيزي القارئ .. طالما أني تعرضت في حديثي عن طرق التعذيب وأساليبه التي ابتدعتها مخابرات عبد الناصر وزكريا محيي الدين واتبعها القائمون على السجون في مصر ، فلا بد أن أروي لك قصة تعذيب سجين عرفته الجامعة العربية.

من أنشط رجالها .

أنه الأستاذ صالح أبو رقيق الذي كان يشغل منصب رئيس قسم شمالي إفريقيا في الجامعة ، وعضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين.

وكان قد جئ به إلى الليمان مع مجموعة من زملائه أعضاء مكتب الإرشاد ، بعد أن عوقبوا بالشغال المؤبدة من محكمة الثورة ، وجاء معهم أيضا الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان .. والذي خفضت عقوبته من الإعدام للأشغال الشاقة المؤبدة .

أدخلوهم الليمان حفاة وشبه عراة .. ووضعوهم في الدور الثاني من عنبر "1 " أي العنبر الذي أسكنه .. وقد عرضت منهم صديقا قديما هو الأستاذ صالح المذكور وهرعت فورا لمقابلته .. ولكن الضابط المسؤول عن مراقبتهم خيب أملي ، إذ منعني من مقابلته .. وأضاف بأن لديه أوامر مشددة بالنسبة للإخوان ويحظر على جميع المسجونين الاتصال بهم .. ورضخت للأمر وعدت إلى زنزانتي ..

جمعت كل ما فيها من معلبات محفوظة .. لحم وسردين وخضار إلى غير ذلك ، وأرسلتهم لصالح خفية من النوبتجي الذي يقوم على خدمتي .

وأرسلت أيضا حذاء خفيفا للمرشد العام .. وفى اليوم التالي التقيت بصالح بعيدا عن الضابط المراقب فشكرني من الأعماق وقدمني للمرشد العام .. وشكرني الأستاذ الهضيبي بدوره أيضا .. ولم استطع الجلوس معهم نظرا للرقابة الشديدة التي كانت قد فرضتها عليهم إدارة الليمان .

وبعد أيام سمح لهم بالخروج إلى فناء العنبر .. حيث أصبح الاتصال بهم أمرا ليس بالعسير وجلست معهم .. وكان صالح يتحدث مع سعد كامل المحامي والدكتور شريف حتاته، وهما من مجموعة الشيوعيين المسجونين في الجزيرة وقلت لصالح:

لقد سمعنا من الزبانية هنا .. إنكم كنتم ضيوفا على الباستيل .. والباستيل كما يعرف جميع المساجين هو السجن الحربي .


وتنهد صالح وقال :

أيوه يا أخي ، كنا بالباستيل ، وأي باستيل .. رحم الله باستيل فرنسا ..

وقلت بالله عليك يا صالح ، اخبرنا ماذا جرى معك شخصيا هناك ؟!..

وقبل أن أترك له مجال التردد ..

قلت مضيفا : لقد تسربت إلينا أخباركم وأنتم في الباستيل ، بواسطة الزبانية هنا .. إلا أنني أرجو سماع القصة منك بالذات ..

وقال صالح: ماذا أقول ؟ أشياء لا تقال .. ولا يمكن أن يتصورها عقل..

قلت : فليكن .. لقد صممنا على أن نسمع القصة منك على حقيقتها ..

وقال صالح : فتح باب الباستيل الضيق ، فاستقبلوني بلون جديد من الشتائم والسباب .. والسياط أيضا ..

ثم صدرت أوامر حمزة البسيوني قائد السجن الحربي هكذا :

- معك دقيقة من الوقت تتكون بعدها ( عريان زى ما ولدتك أمك !) ..

قلت للجاويش : ولماذا ؟

قال : هنا يا (...).. ؟؟ لا يسأل لماذا ؟ ولم نتعود أن نسمعها من أحد من قبل.. اخلع ثيابك فورا .. وإلا ..

قلت للجاويش : لا داعي لكل هذا التهديد .. سأترك شيئا يستر عورتي فقط! وخلعت ملابسي ولكن " البسيوني " لم يرتح لي .. فأمر زبانيته بإهدار كرامتي .. وحاولت الاحتجاج بشدة .. فتناولتني السياط من كل جانب وبكل غلاظة ، حيث مزقت جسدي وأنهكت قواي .. وغبت عن وعيي ..

وأفقت أخيرا لأجد نفسي في غرفة مظلمة ضيقة يعلو أرضها شبر من ماء .. وبابها موصد .. صنعت خصيصا لهذه الغاية .. غاية التعذيب والإرهاب وقضيت ليلة ليلاء عرفت فيها أبشع صور التنكيل والإجرام .

كنت مرهقا للغاية .. ألتمس هنيهة من رائحة .. ولكن كيف الوصول إلى ذلك .. كيف أنام وفراشي من مياه ولم أستطع الجلوس . وبقيت واقفا أنتفض من البرد وأتلوى من العذاب والألم .. إلى أن جاء الصباح .

أخرجوني من الغرفة منهوك القوى ، لا أستطيع حراكا .. ولكن ليدخلوني هذه المرة في غرفة كبيرة يتدلى من سقفها جنزيران من حديد .. في نهاية كل منهما حلقة حديدية.

وسألت الزبانية .. ألا من راحة ؟

فأجابني أحدهم .. كل الراحة .. إنه وقت الفطور.. سنقدم لك الآن وجبة الإفطار ثم بعد ذلك نتركك لتأخذ قسطا وافرا من الراحة !..

واقترب اثنان منهم لوضع قدمي في حلقات الحديد .. وثرت عليهما وعلى هذا التنكيل ببني البشر .. وعلى الثورة البربرية .. وعلى الدكتاتورية ، وعلى الاستبداد المطلق ! واستجمعت قواي وأشبعتهم ضربا .. وازداد عددهم وتغلبوا علي .. ووضعوا قدمي بالحلقات الحديدية ، حيث تدلى رأسي إلى أسفل وشدت قدماي إلى فوق ، وانتظرت تمزيق جسدي بالسياط .. ولكن يا لهول ما فعلوا ..

كم كنت أتمنى الموت .. ولا أرى ذلك ..؟؟

وسكت صالح : وفلتت من عينه دمعه تروي قصة التعذيب والتحقير وهدر الكرامة.

وسادنا الصمت جميعا .. وكان على رؤوسنا الطير .

ثم قطع السكوت الأليم أحدنا ، إذ قال : نحن مسيرون هنا .. فلا تحزن يا أستاذ صالح .. اكمل .

وقال صالح باختصار .. لقد حضروا منفاخا ووضعوا مقدمته في مؤخرتي .. ونفخوني به ، حتى أصبحت تماما كالبالون .. وإما عن الآلام وتقطيع الأوصال .. فحدث ولا حرج .

وقلت لصالح .. شكرا لله على خروجك من الباستيل حيا .. وكلمات مواساة كثيرة.

ولم يشأ أحد منا بعد ذلك أن يسأل عن بقية وجبات الطعام ..

وقلت لصالح: أن الخلود لرجال الميادين ..

للمزيد عن مذبحة طرة

كتب متعلقة

ملفات ومقالات متعلقة

متعلقات أخرى

شهداء مذبحة طره

تابع شهداء مذبحة طره

وصلات فيديو