أمة التوحيد

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
أمة التوحيد

رسالة من الأستاذ محمد مهدي عاكف - المرشد العام للإخوان المسلمين

مقدمة

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه،

وبعد..

فقد انقضى موسمُ الحج وعاد الحجيجُ إلى أوطانهم مأجورين إن شاء الله، قد غُفرت ذنوبُهم، ومُحيت خطاياهم، ورجعوا بفضلِ الله كيومِ ولدتهم أمهاتهم.. نسأل الله تعالى أن يتقبَّل منهم، وأن يُوفِّق مَن لم يستطع أن يحج ليؤدي ذلك الركن من أركان الإسلام في قابل أعوامه.

مضى الحج، وفرح المسلمون بطاعتهم فرحةَ عيدهم الأكبر؛ ليرسخ في وجدانهم أنَّ السعادةَ الحقَّةَ إنما تكون في أعقابِ الطاعة الكاملة.. ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾ (يونس).

أمة التوحيد والوحدة

ولا تعرف البشرية على امتدادِ تاريخها تجمعًا بشريًّا على صعيد واحد، وفي وقت واحد، كما تعرفه كل عام في حج المسلمين. إنَّ قرابةَ ثلاثة ملايين من البشر يحتشدون في أيام معدودات لأداء مناسك محدودة، يرفعون أصواتهم بتوحيد الله- عزَّ وجل- في تجرُّد وتلبية، وفي إظهارٍ لأعظم خصائص هذه الأمة، أُمَّة التوحيد الذي لا يعرف شركًا، والإجابة التي لا تريد نكوصًا، ويظل الإسلام وحده هو الدين القادر على تحريكِ تلك الملايين من البشر وتوجيهها وجهةً واحدةً، ذلك درس التاريخ الذي لا يكذب.. إن هذه الأمة لا يستطيع حشدها وتحريكها وتوجيهها سوى الإسلام الخالص، وبعيدًا عن الإسلام لا تجني هذه الأمة إلا التفرقة والاحتراب، وبغيره لا ترفع رأسًا ولا تُحقِّق عزًّا.. ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)﴾ (الأنبياء،) ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)﴾ (المؤمنون).

ولعلَّ هذا الدرس البليغ يصل إلى قلوب وعقول أقوام يريدون صرف هذه الأمة عن حقيقة دينها ومصدر قوتها، وهيهات!! فإنَّ الله عز وجل أقام برحمته منارات الهدى، وتكفَّل بقرآنه وشريعته أن يحفظ دينه ويحفظ أمته ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)﴾ (الحِجر)، وتلك العبادات والشعائر في الإسلام كفيلة بإعادةِ مَن شرد عن الطريق وردِّ مَن ضلَّ عن الصراط.. فها هو الحج دورة تدريبية سنوية لملايين منهم، وقد كانت الأمة كلها منذ قليلٍ في دورة تدريبية أطول في صيام رمضان.. وأفرادها كل يوم في صلاتهم خمس مرات على الأقل نحو قبلةٍ واحدة يتلون قرآنًا واحدًا ويؤدون نُسكًا واحدًا بهيئةٍ واحدة.. فهل يتوحد حكامنا أو يجتمعون؟!

أليس من العجيبِ أن يكون ذلك هو حال الأمة المبتلاة بحكامٍ يكرِّسون بين شعوبها الفرقة والعداء..

ويورثون بين أبنائها السخائم والأحقاد.. وتتفرق بهم السبل والأهواء فلا يجتمعون إلا على التوجس ممن يلتزمون بالإسلام ويدعون إليه، ولا يتفقون على شيء اتفاقَهم على حربهم والنيل منهم والكيد لهم والتعويق لأعمالهم وجهودهم؟! فلمصلحة مَن ذلك؟! وكيف تغيب عنهم تلك الفرحة السانحة كل عام فلا يتحركون للإفادةِ منها بالانصهارِ مع شعوبهم في حرارةِ الإيمان ودفء التوحيد؟!

لقد كان موسم الحجِّ في عصور إسلامنا الوضيئة فرصةً لالتقاء أمراء الولايات للتباحث مع خليفة المسلمين في أمور الأمة، ولتقديم كشف حسابهم أمام وفود شعوبهم، ولإقامة سرادق العدل الشامل بينهم على أعمدة التحاكم إلى دين الله وشريعته، وكان الحج آنذاك أعظمَ جمعية عمومية لممثلي شعوب الإسلام الذين يفدون من كل فجٍّ عميق ليشهدوا منافع لهم، وليتباحثوا في الجليل من أمورهم، ويرفعوا حوائج شعوبهم وشكاياتهم إلى أولياء أمورهم في بلد الله الحرام وشهره الحرام، وفي أجواء الإيمان العميق، والإخاء الوثيق.

فمَن المسئول عن تفريغ الحج من تلك المضامين النبيلة والغايات الرفيعة؟

وهل نرجو عسيرًا من الأمر حين نُطالب حكام المسلمين أن يعقدوا مؤتمرَ قمة كلَّ عام مرةً في موسم الحج تحت رايات التوحيد الكامل لله، وهتافات الحجيج تدوي في آذانهم وفي مسامع الكون الذي يرنو إليهم "لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إنَّ الحمدَ والنعمةَ لك والملك، لا شريكَ لك لبيك" ليرسلوا من مكة المكرمة والمدينة المنورة من مهبطِ الوحي الإلهي ومدرج الرسالة العظمى رسالةً إلى العالم من حولهم عظيمةَ المغزى واضحةَ الدلالة؟! وهل نطلب عسيرًا من الأمر أن يكون موسم الحج موعدًا لاجتماع وفود علماء الأمة وأصحاب الفكر والرأي فيها؛ ليرصدوا المهمَّ من أحوالها، وليبحثوا ما يواجهها من تحديات، ويتصدوا لما يُحيط بها من مظالمٍ وبغي؟!

يا حكامنا..

لقد وقف رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم- في حجةِ الوداع هاتفًا في أصحابه:

"إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" فأين واقعنا من هذا؟ هلاَّ عظَّمتم ما عظَّم رسولكم- صلى الله عليه وسلم- من دماء المسلمين وأعراضهم وحرماتهم، وهو الذي جعل دم المسلم أعظم حرمةً عند الله من الكعبةِ المشرفة، وجعل كلَّ المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه؟ أفلا تتوبون إلى الله وتستغفرونه؟ أليس الحج موسم توبة وتطهير وإنابة، وهو يجُبُّ ما قبله؟ أطلِقوا ما في سجونكم ومعتقلاتكم من أسرى لا ذنبَ لهم إلا أنهم دعوا إلى الإسلامِ وتحركوا من أجله، ولم تأخذهم في الله لومةُ لائم، أو عارضوكم في استبدادِ الحكم وجبروت أصحابه، أوقفوا التعذيب في معتقلاتكم بل في عمومِ أوطانكم، واخشَوا يومًا عند ربكم ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ﴾ (النور: من الآية 37).

لقد جمَّع الحجُّ ملايين المسلمين على اختلافِ أوطانهم وأجناسهم وألوانهم في أخوَّة حانية لا اغترابَ فيها، بينما شعوبكم تشعر بالغربةِ في أوطانها بفعل سياساتكم وتُعاني المذلة والتضييق على حرياتها، فالسعيد فيهم مَن وافقكم أو نافقكم، ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون!! يلهج الحجيجُ في الدعاءِ والتوبة من ذنوبهم والتطهر من خطاياهم بينما الأمة كلها تقع في حرجٍ عظيم وخطرٍ داهم وذنبٍ محيط بترك التحاكم إلى شريعةِ الله والاجتراء على حدوده والاستخزاء أمام أعدائه، وتبوءون أنتم يا حكامنا بكِبْرِ ذلك كله، فاللهَ اللهَ في أنفسكم وشعوبكم.. فلا قِبَلَ لأحدٍ بعذاب الله وغضبه ﴿يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا﴾ (غافر: من الآية 29).

الحج جهاد

والحج جهاد لا شوكةَ فيه، ولطالما أتَت آيات الجهاد في القرآن الكريم مسبوقةً أو سابقةً لآيات الحج، أليس الحج جهادًا وخروجًا بالمالِ والنفس في سبيل الله، واستعلاءً على جواذبِ الأرض وشهوات النفس ونداء الأوطان والأهل؟! وفي الحج ذلك كله، والحج حركة بالإسلام من أجل مزيد من تزكية النفس وتدريبها على الاستمساك به والدعوة إليه، بل إنه تخليدٌ في كثير من مناسكه لحركة نبي من أنبياء الله بدينه هو وأسرته.. ذلكم هو إبراهيم عليه السلام وأهل بيته، وفيه تذكير بوحدة رسالات السماء، وتركيزٌ لها في وعي المسلم الأمين عليها والحامل لخاتمة تلك الرسالات إلى العالمين.. ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)﴾ (البقرة).

ويأتي الحج في مبدئه ومنتاه طوافًا حول البيت الحرام ليلحق الإنسان بتلك المنظومة من الخلق جميعًا التي تتحرك في تسبيح وتمجيد رب الأرض والسماء ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ(44)﴾ (الإسراء).

أما في أخريات مناسكه فيتعاظم الأمر في التضحية والجهاد بنحر الأضحية وبرجم الشيطان، وما أمس حاجتنا اليوم إلى نحر شهواتنا التي تحُول بيننا وبين طاعة ربنا، ورجْم الشيطان في كل بقعةٍ من أرضنا وشأن من شئون حياتنا.

ونحن على يقين من أنَّ شريعةِ الجهاد الصادق وفي سبيل الله لن تموت، وأمة الجهاد والنحر مطالَبة اليومَ أكثر من أي وقتٍ مضى بدعم المجاهدين من أجل عزَِّها وكرامتها واستقلالها في فلسطين والعراق والشيشان وغيرها من بقاع عالمنا الإسلامي المحارَب والمعتدَى عليه.. في الوقت الذي يظل فيه هؤلاء المجاهدون مطالَبين بتحرير جهادهم النبيل ودفاعهم عن أعراضهم واستقلال أوطانهم من كل شائبة تُشوِّه جلاله ونبله.

كما تظل الأمة كلها مطالبةً برجم الشيطان في حياتها السياسية الذي يريد استمرار الاستبداد فيها، والتضييق على الحريات، وهدْر حقوق الإنسان في جنباتها، وإبقاءها في ذيل الأمم تابعةً لا كرامةَ لها، ومطالبةً بأن تتراصَّ جهودُها للتصدي لشيطانِ البغي العالمي المستكبر الذي يريد أن يقهرَ أمتنا، ويفرض عليها التخلفَ والدوران في فلكه، ويحُول بينها وبين الأخذ بأسبابِ القوة والمنعة، ومطالبةً برجم الشيطان في حياتها الاقتصادية والاجتماعية الذي يستهدف أن يظل اقتصادنا قائمًا على أسس هيكلية شائهة، قليل عددها، كثير نهمها، سفيه إنفاقها، يتزايد- بشدة حرصها- انعزالها عن أمتها وارتماؤها في حبائل الغرباء عنها.

وعزيزٌ علينا أن ننعَى في هذا المقام مئاتِ من الحجيج قضَوا نحبهم وهم يتدافعون لرمي الجمرات، فاللهم تغمَّدْهم بواسع رحمتك وعميم فضلك ورضوانك.. ولا يشغلنا المصاب فيهم عن تدبُّر حالنا الذي آل بنا إلى مثل ذلك، فأوضاع كثير من حجاجنا انعكاسٌ لأسقام أمتنا الاجتماعية والفكرية وتردي أحوالها الحضارية.

وإنها لدعوة حارَّة إلى علمائنا لبذلِ المزيدِ من الجهدِ في تعليم حجيجنا صحيحَ الفقه لمناسكهم، ومناحي التيسير في دينهم، فتوسيع أوقات الرمي مما نادى به بعض كبار فقهائنا قديمًا وحديثًا، والحاجَة إليه اليوم ليست كالحاجةِ بالأمس مع تزايد أعداد الحجيج وشدة زحامهم، وتربص أعداء الأمة بها ومَن يُريدون تشويه جلال ديننا ومناسكه.

ولا يفوتنا في ختام حديثنا أن نتوجه بالتحيةِ إلى شباب الإسلام وشيوخه ونسائه المرابطين على ثغوره والأسرى في سجون الطغاة على امتداد أرضه.. والله تعالى قادرٌ على أن يُبدِّل حالَنا إلى خير حال، وهو حسبنا ونعم الوكيل ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21)، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.