الإخوان المسلمون في العراق

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٥:٠٢، ٢٢ يونيو ٢٠١٣ بواسطة Attea mostafa (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان المسلمون في العراق
(1945م2003م)
غلاف الكتاب

الدكتور محسن عبد الحميد

أستاذ التفسير والعقيدة والفكر

في جامعة بغداد سابقا

دار المأمون للنشر والتوزيع

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد.. فإن د. محسن عبد الحميد مؤلف هذا الكتاب رجل دعوة وباحث أكاديمي وأستاذ جامعي تربي في ظل الإسلام وعمل له وصاغ نفسه وفق تعاليمه وخاص معارك شرسة مع خصوم الإسلام وظل ثابتا على التزامه بالحركة الإسلامية المعاصرة في أشد الظروف قساوة؛

فكان معلما من معالم الإخوان المسلمين في العراق وطودا شامخا أمام التحديات ومعرفتي به قديمة من خلال إخوانه ولكن لقائي به كان سنة 1984 م في المغرب حيث كان معارا للتدريس في جامعاتها وظل اللقاء به متواصلا حتى اليوم والحمد لله .

أما كتابه الذي بين أيدينا وهو (الإخوان المسلمون في العراق 1945م-2003م) فهو من الوثائق المهمة عن حركة الإخوان المسلمين في العراق وقد سعدت بقراءته واستفدت الكثير منه واعتبر أنه مع غيره من المؤلفات التي سبقته في هذا الموضوع حلقة مهمة لتسليط الضوء على هذه الحركة المباركة:حركة الإخوان المسلمين العالمية التي يمثل إخوان العراق جزءا منها .

لقد أعجبت غاية الإعجاب باستعراضه للأوضاع بمصر عند ظهور حسن البنا وتكوينه لجماعة الإخوان المسلمين ومراحل عملها ومنهاجها والتحديات التي واجهتها وثباتها واستمراريتها .

كما عرج المؤلف على أوضاع المجتمع العراقي عند ظهور جماعه الإخوان المسلمين في العراق وبداية العمل الدعوي من خلال بعض الدعاة المصريين من الأساتذة ثم الأستاذ محمد الصواف وجهوده لتأسيس الحركة وقيادتها وانتشار فروعها في القطر العراقي؛

وقد أوضح منهاجها وخط سيرها والمشكلات التي عالجتها والعقبات التي تعرضت لها في العهد الملكي ثم الجمهوري وقياده الأستاذ محمد محمود الصواف ثم عبد الكريم زيدان بعد مغادرة الصواف العراق إلى مكة المكرمة ..

ثم تحدث المؤلف عن الحزب الإسلامي الذي أنشأته الحركة ودوره في الأحداث التي مرت بالعراق ومواقفه من الحكومة والحركات السياسية كالشيوعية والقومية والكردية والتركمانية والمشكلات العمالية والاجتماعية ودستور الحزب ومذكرته الشهيرة .

والخلاصة التي خرجت بها من قراءة هذا الكتاب القيم أنه إضافة مهمة للدارسين لحركة الإخوان المسلمين يضاف إلى ما سبقه من كتب للصواف والمشايخي والدباغ وغيرهم جزاهم الله كل خير .

والمؤمل من أبناء الحركة الإسلامية في الأقطار كلها أن يدرسوا بتأمل مسار الحركة الأم في مصر وفروعها في الأقطار العربية والإسلامية ليستفيدوا من تجاربها ويطوروا من أساليبها ويتحركوا بهذه الدعوة المباركة التي هي امتداد لدعوة الرسول صلي الله عليه وسلم الملتزمة بالكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة؛

والتي أثبتت صلابتها في المحن التي تعرضت لها وقدمت الشهداء في فلسطين ومصر والعراق وسوريا ولبنان والسودان وبقيت ثابتة على مبادئها من:أن الله غايتها والقرآن دستورها والجهاد سبيلها والموت في سبيل الله اسمي أمانيها .

أكرر شكري الجزيل للأخ الكريم د. محسن عبد الحميد مؤلف هذا الكتاب القيم وأرجو الله أن يجعل ذلك في ميزان حسناته وأن يبارك في جهوده وجهود إخوانه وأن يثبتنا على الحق ويرزقنا الإخلاص والصدق ويدخلنا جنته برحمته وفضله .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
المستشار عبد الله عقيل سليمان العقيل

مقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد:

فإن تسجيل تاريخ بلد ما بكامله وعرض تفاصيله بدقة وموضوعية وإنصاف يساعد الباحثين في فهم ذلك البلد وتحليل ما جري فيه من تطور ونمو أو إعاقة وتأخر في اتجاهات الحياة كلها .

والعراق في العصر الحديث مر بظروف معقدة ولدت تيارات فكرية وسياسية متنوعة كثيرة بعضها نبع من أعماق المجتمع العراقي ومشاكله وبعضها الآخر كان وليد العوامل الخارجية الغريبة عنه و تاريخا ودينا وحضارة .

ومن تلك التيارات التي نبعت من المجتمع العراقي الذي هو جزء لا يتجزأ من المجتمع العربي والإسلامي التيار الإسلامي الذي تجسد بأوضح ما يكون في حركة الإخوان المسلمين التي دخلت فيه من شقيقته الكبرى مصر العربية المسلمة للظروف نفسها التي وجهت المرحلة الحضارية المتشابهة في البلدان الإسلامية وسائر البلاد العربية .

على أن أى تيار اجتماعي أو سياسي لا يظهر في مجتمع ما فجأة ودون مقدمات لأن الاستجابات الاجتماعية والحضارية تعقب دائما التحديات التي تواجه مجتمعا ما أو حضارة ما .

إن التحديات الكبرى التي واجهت المجتمع العراقي بعد الحرب العالمية الأولي كانت نتيجة التأخر والجهل والجوع والمرض وانعدام التوجيه الإسلامي السديد أيام الدولة العثمانية والتي أسلمته إلى الاحتلال الإنجليزي الغاشم الذي بدوره حاول إضعاف العراق وتمزيقه ومحاولة القضاء على مقوماته الإسلامية المرتبطة بتاريخه ودينه وأمجاده وثقافته وحضارته .

تارة بنشر التغريب اللاديني فيه وتارة بسوقه إلى التغريب الشيوعي الذي أراد أن يسلم المجتمع العراقي في ظل الشعارات البراقة إلى ساحة احتلال لم تكن بأقل خطورة من الاحتلال الإنجليزي الظالم .

ومن هنا كان لابد للإسلام أن يتحرك لإعادة وجه العراق إلى أصالته وقاعدته الإسلامية وتخليصه من قيود الغرباء والدخلاء سواء أكانت القيود متمثلة في احتلال عسكري أو استلاب فكري حضاري غريب .

وكان للإخوان المسلمين النصيب الوافر من ذلك الجهاد الإسلامي الشامل الذي شمل:

  1. مقاومة الاستعمار الإنجليزي بفضحه وكشف عملائه وألاعيبه وبيان حكم الشريعة الإسلامية في تحريم موالاته والدخول في أحلاف استعمارية عسكرية معه.
  2. الوقوف أمام الشيوعية ورد مفترياتها وزيف مبادئها التي أرادت أن تسلب العراق إسلامه وعروبته وكيانه المستقل .
  3. وإحداث وعي إسلامي حقيقي بين الشعب العراقي كي يحصنهم من الأفكار المستوردة المخالفة لأصول العقيدة الإسلامية والمنافية لشريعتها ونظام أخلاقها .
  4. دفع العراق إلى الخط الأمامي للدفاع عن مقدسات الأمة في فلسطين ودحر مخططات اليهودية العالمية في الأرض العربية المسلمة .
  5. انتشال المجتمع العراقي من وهدة التأخر والسقوط كي يأخذ مكانته التاريخية السامية في البناء الحضاري الإنساني من أجل تحويل العراق إلى مركز إشعاع عالمي من جديد ..

ومن هذا المنطلق كتابه تاريخ ظهور جماعة الإخوان المسلمين في العراق وما قاموا به في فترة الدراسة من أشرف الأعمال على المستوي العراقي والعربي الإسلامي غدت ضرورة تاريخية حتى يعلم إخوانهم الآخرون الذين ضمتهم تيارات قومية ووطنية في الفترة نفسها

ومن جاؤوا بعدهم أن هؤلاء الإخوان من أبناء جلدتهم كانوا مخلصين لدينهم ووطنهم عاملين في سبيل سعادته وتقدمه ولم يكونوا رجعيين عملاء كما نشر عنهم الإرهاب الشيوعي والانحراف اللاديني والماسوني لإبعاد العراق عن كل ما يمت إلى الإسلام والعروبة المؤمنة والوطنية الحقة .

ولذلك فإنني أرجو أن تملأ هذه الدراسة فراغا واضحا في المكتبة العراقية خاصة والإسلامية عامة وأن يكمل بها رصد جوانب مسح المجتمع العراقي كله ومن أجل أن تزول رواسب الصراعات الحزبية والمذهبية والطائفية الماضية؛

ويعترف كل طرف من أطراف العمل الجاد في هذا الوطن بما فعله أخوته من أجل الأمة التي ينتمي إليها ليتحصن الجميع في خندق واحد من أجل بناء عراق مسلم أبي ينتمي إلى أمته العربية المسلمة ويعتز بإسلامه الذي هو أثمن شئ في تاريخه وحاضره ومستقبله ليأخذ موقعه الحضاري كما كان شأنه دائما في تاريخه المشرق الطويل .

منهجي في هذه الدراسة

لابد لكل من يتصدي لكتابة تاريخ جماعة أو ظاهرة أو بلد أو يسير على منهج واضح يستهدي به فيما يكتب ويحلل ولذلك فإنني رسمت لنفسي منذ البداية منهجا يقوم على الأسس الآتية:

  1. إن التاريخ يكتبه صانعوه أو القريبون من أحداثه ولذا فأول ما فكرت أن أتوجه إلى العاملين الأولين في حقل جماعة الإخوان المسلمين لاستطلاع رأيهم في الواقع والأشخاص والذين اخترتهم أعرفهم معرفة شخصية واثق بوعيهم ونزاهتهم وصدقهم في رواية الأحداث والحكم على الأشخاص وتحليل الظروف والأحوال .
  2. ما أجابوا عنه من أمور معظمها ليس غريبا عني وعن معلوماتي واستنتاجاتي ذلك لأنني أعد نفسي أيضا مصدرا من مصادر ما كتبت لأنني عاصرت تلك الأحداث العامة والخاصة التي تتصل بفترة الدراسة لا سيما من نهاية الأربعينات إلى نهاية فترة الدراسة فقد عشت طوال هذه الفترة في عمق الصراع الاجتماعي وألاحظ وأري وأراقب وأتتبع وأقرأ كل شئ يتصل ببلدي وأمتي ولم أبتعد عن الأحداث الخطيرة التي جرت لها وما مر بها من أحداث إقليميا وعالميا .ومن هنا فإنني أستطيع أن أكتب تاريخ بلدي من حفظي في الأقل من منتصف هذا القرن إلى اليوم (2003) لأنني شاهد عيان وقارئ حاضر لكل ما وقع لبلدي من كبيرة وصغيرة .ومع ذلك حاولت أن لا أنفرد بكتابة هذا التاريخ وإنما مشيت على المنهج العلمي في الاعتماد على المصادر الموثقة .
  3. ولم أعتمد على رواة الوقائع الصادقين عندي فحسب وإنما لجأت أيضا إلى المصادر المساعدة أو الثانوية كلما تطلبت ضرورة توثيق المعلومات التكميلية منها لتوضيح الحدث وما حوله .
  4. ولا أزعم أنني أستطيع أن أتجرد تجردا تاما من ذاتيني ولا يستطيع أحد أن يفعل ذلك وحسبي أن أحاول نشدان الحق وأن أكون عادلا في التعبير عما اعتقده وعما أروي عن الآخرين .
  5. فإن أصبت فذلك توفيق من الله سبحانه وتعالي وإن أخطأت فذلك مني ومن الشيطان كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه .

والله أسأل أن يثبتنا على الحق وعلى العهد الذي قطعناه على أنفسنا لنصرة الإسلام والمسلمين .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
25 ذو القعدة 1429هـ
23 نوفمبر 2008 م

الباب التمهيدي

الفصل الأول:أوضاع المسلمين في العصر الأخير

من يمعن النظر في أوضاع المسلمين في الزمن الأخير يجد أن المجتمع الإسلامي سقط سقطة حضارية خطيرة في مناحي الحياة كافة نستطيع أن نوجزها مما يأتي :

  1. البعد عن هداية القرآن والانشغال بتدقيق ألفاظه دون الغوص في معانيه والاستفادة من سنته الكونية الاجتماعية والإطلاع على مذهبيته الدقيقة في شؤون الكون والمجتمع والإنسان سواء في جانب العقيدة أم في إدراك حكمه الشريعة أم في معرفة تفاصيل نظامها الأخلاقي .
  2. إهمال دراسة السنة النبوية الشريفة بما فيها السيرة النبوية والبعد عن كنوزها الباهرة في بيان القرآن الكريم ورسم حركة الحياة الصحيحة والاكتفاء في معظم الأحيان بتلاوة أحاديث ضعيفة موضوعة تدعو إلى كراهة الدنيا وتركها بينما كانت حياة النبي صلي الله عليه وسلم وصحابته الأكرمين حركة جهاد دائم لبناء المجتمع والدولة والحضارة والتخطيط الذكي لإلحاق الهزيمة بالطغاة والظالمين والمعتدين على حقوق المستضعفين والمظلومين.
  3. التعصب المذهبي المقيت الذي يهتم بالجزئيات ويتصارع عليها ويقف عندها ولا يتعداها إلى النظريات الكلية التي تستطيع مزاحمة النظريات القانونية الأوربية التي غزت البلاد الإسلامية تحت أسنة المستعمرين .
  4. فقدان وحده الأمة الواحدة سواء أكانت وحدة الشعب العربي أ م وحدة الأمة الإسلامية حتى في أضعف أدوارها وصورها والذي دفع إلى مزيد من التجزئة وترسيخ الخلاف والذي لا يحقق إلا المصالح الذاتية والعشائرية منها والطائفية والإقليمي التي ألقت في معظم الأحيان نفسها في أحضان المستعمرين .
  5. فقدان حرارة الإيمان بحل المشكلات المصيرية التي كانت تجابه العالم الإسلامي وانتشار السلبية واللامسؤولية والحياة التواكلية التي كانت تعبر عن الهزيمة الداخلية التي أصابت النفوس المسلمة بناء على الهزائم المتلاحقة التي حلت بالمسلمين على أيديهم أو على أيدي أعدائهم
  6. انتشار البدع والخرافات ومظاهر الشرك الأكبر والأصغر في المجتمعات الإسلامية والتي وضعت الدين الحق ومبادئه في التوحيد الخالص ومعرفة أحكام الشريعة ومقاصدها وإدراك سر التقدم الاجتماعي ومقارعة قوي الظلم جانبا بحيث انتهت إما إلى طريقة طاغوتية جاهلة أو ظاهرية محرفة جامدة كانت أداة خطيرة بيد الحكام الظالمين المرتبطين بدوائر الاستعمار في العصر الأخير.
  7. تسلط الأمراء والحكام الظلمة على مقدرات الأمة لتكميم الأفواه والتعدي على الكرامات والتوجه الدائم إلى القضاء على حرية التعبير والكتابة وتجاهل مبدأ الإسلام في تحقيق العدل والمساواة ودفع الأمة إلى الارتقاء الحضاري وارتباط الكثيرين منهم بمراكز القوي العالمية وانخراطهم في سلك الماسونية اليهودية التي أسلمتهم إلى التقاعس عن تهيئة صفوف الأمة لجهاد الأعداء المارقين .
  8. تقاعس العلماء إلا من رحم الله الذين كان المفروض عليهم أن يقودوا عملية التغيير الاجتماعي وبقاؤهم في إطار المنهج القديم في دراسة العلوم الإسلامية وعدم انتقالهم إلى المناهج الحديثة مما أدي إلى عزلتهم عن معارك الحياة بل الكثيرون منهم استسلموا إلى الواقع المتأخر والبعض خضعوا إلى الحكام وتملقوا العامة في السكوت على انحرافاتهم العقيدية وبدعهم المتنوعة .
  9. جمود جذوة الإبداع في الفكر الإسلامي الذي عد الفكر القديم مقدسا لا يجوز أن يمس ووضعه بدل الإسلام نفسه وإيقاف الحياة عندما وصل إليه الأقدمون وعدم فهم حقيقة الصراع الاجتماعي بين التحدي الجديد وضرورة الاستجابة المستنيرة له إما للقضاء عليه أو الوصول إلى حل يتناسب مع المرحلة الجديدة في المجتمع الإسلامي .
  10. توقف الحركة العلمية والعقل العلمي الذي أنتج من قبل المدنية الإسلامية وثقافتها المتقدمة في عصورها الزاهية في ظل منهج علمي تجريبي ظل سائدا في الجامعات والمدارس الإسلامية ردحا طويلا والذي كون أحد المصادر الأساسية في رفد المنهج العلمي للحضارة المعاصرة الغربية .
  11. الانهيار الكبير الذي أصاب الحياة المعيشية وانتشار الفقر والجهل والأمية نتيجة لإهمال الزراعة والصناعة والتجارة وافتقار المجتمع الإسلامي إلى المناهج السديدة للتنمية الحضارية في مضامين الحياة كافة

هذه الأوضاع وغيرها هي التي أطعمت المراكز الاستعمارية لغزو بلاد الإسلام والسيطرة على مصيرها وامتصاص ثروتها ووضع العقبات دون نهوضها والعمل على الإبقاء على عوامل التأخر والتجزئة وفرض أنماطها الحضارية والثقافية دون العلمية على البلاد الإسلامية التي استعمرتها وحكمتها بالحديد والنار .

ومن المعلوم في الصراعات التاريخية والاجتماعية أن التحديات الكبيرة لابد في النهاية أن تؤدي إلى استجابة كبيرة لاسيما في وطن لم يزل القرآن يتلي فيه وتزار الكعبة وتقام الصلوات في المساجد وترتفع من على مآذنها شهادة "أن لا إله إلا الله محمد رسول الله " وهكذا اشتد الصراع في العالم الإسلامي بين الإسلام وبين القوي السرية والعلنية الاستعمارية سواء في ذلك الإلحادية أم الصليبية أم اليهودية .

لقد كان ذلك الصراع الفكري والدموي كفيلا بأن ينتج فكرا جديدا يعيد النظر في كل شئ ويحاول أن يدرس مكامن التوقف والتأخر في الحياة والأسباب الحقيقية التي أدت إلى انهيار المجتمع الإسلامي والحضارة والإسلامية والدولة الإسلامية .

ومن هنا فقد كان ظهور جمال الدين الأفغاني (ت1897م) ومدرسته إيذانا ببداية هذا الفكر الجديد إلي انطلاق من القرآن الكريم والسنة النبوية يدعو إلى عدم نقل الفكر الماضي بكل أثقاله إلى الحاضر أى أن الأفغاني دعا إلى العودة إلى الأصول حتى نتحرر من القوالب التاريخية لحركة الإنسان المسلم كي نأخذ حريتنا في بناء حياتنا الجديد منطلقين من الوحي إلى العصر .

استمع إليه (الأفغاني) وهو يقول:

" القرآن وحده هو سبب الهداية والعمدة في الدعاية وما تراكم عليه وتجمع حوله من آراء الرجال واستنباطهم ونظرياتهم فينبغي ألا نعول عليها كوحي وإنما نستأنس بها كرأي .فعلي ذلك فإن الأفغاني كان يدعو إلى الاجتهاد المستمر في الإسلام في إطار ضوابط الفهم الأصولي ومتطلبات العصر الجديد" .

وتطبيقا لمبدئه ذلك فإنه في مناقشته للمذاهب المادية الغربية لم يعتمد على علم الكلام القديم لأنه كان يناقش المشكلات الفكرية القديمة التي آثارها الفلاسفة واللاهوتيون أمام الإسلام والفكر الإسلامي في تلك العصور .

وفي سبيل إيقاظ المجتمع الإسلامي ونقله من حالة السقوط والسكون إلى حالة القيام والحركة والتغيير قدم الأفغاني فكرا شاملا..لإحداث نهضة شاملة في العالم الإسلامي لأنه لم يكن يؤمن بالحلول الأحادية ولا الجرعات المؤقتة ولا العمليات الناقصة .

إنما يؤمن بأن الانطلاق لابد أن يبدأ من دين قويم الأصول محكم القواعد شامل لأنواع الحكم باع على الالفة داع إلى المحبة مزك للنفوس مطهر للقلوب من أدران الخبائث منور للعقول بإشراف العقول من مطالع قضاياه كامل لكل ما يحتاج إليه الإنسان من مباني الاجتماعات البشرية وحافظ وجودها ويتأدي بالمعتقد به إلى جميع فروع المدنية .

أى أنه يدعو إلى البدء من الأصول والأركان ثم الدخول في عصر الحضارة الحديثة في ضوء توجيهات تلك الأصول والأركان حتى تبدأ تنمية المجتمع على أساس واضح مخطط بصير من خلال أمة واعية تريد أن تحتفظ بأصالتها وحضارتها وتاريخها ثم يتقدم إلى العصر الجديد بمعرفة تامة بأصول حياتها ووعي عميق بطبيعة المرحلة التي مر بها؛

والفكر الشمولي الذي يمتلكه الأفغان يشمل:

  • فكره السياسي القائم على أساس وحدة الأمة الإسلامية .
  • وفكره في الحكم المستند على أساس الشوري وإشراك الأمة ورفع الاستبداد في الحكم والثورة على الحاكم الطاغية الفرد
  • وفكره الاجتماعي الذي ينبني على تقوية الأسرة ومعرفة مكانة المرأة في شؤون البيت والإنجاب وتربية الأطفال وعدم إخراجها إلى وظائف الحياة التي لا تنسجم مع تكوينها الطبيعي ومعرفة الأمراض الاجتماعية وإدراك سنن الله في تغيير المجتمعات ..
  • وأما فكره الاقتصادي فيتوجه إلى اشتراكية الإسلام (حسب تعبيره) التي هي عين الحق لأنها بعيدة عن العنف وإثارة حرب الطبقات والتعسف في استعمال الحقوق ولذلك فإن الأفغان يختار الانحياز الكامل إلى جانب الفقراء والمستضعفين .
  • وأما فكره التربوي فيقوم على أساس مراعاة الفطرة والتنشئة على أساس المواطنة الصالحة بتعليم متدرج.

والملاحظ أن الأفغاني ينطلق في فكره التربوي من مبادئ الإسلام المفتوحة التي تبني المجتمع في إطار الدوائر الثلاث الإسلام ،والدين ،الإنسانية بلا تعصب ولا أحقاد لأن الله رب العالمين وليس رب المسلمين فحسب ولأنه "لا إكراه في الدين" "البقرة الآية:256" ولأنه أمر المسلمين بحسن معاملة غير المسلمين .

وأما رأيه في الحضارة الغربية فينصب على رفضها لأنها حضارة بطش وطغيان ومظاهر مادية وحضارة طبقات تستغل الواحدة الأخرى على الرغم من العلم والمدنية .

وإذا ركزنا على دراسة جوهر فكر الأفغاني وجدناه لا يفكر مجردا عن الحياة والحركة وأى أن فكره ليس فكرا نظريا عقيما غير منتج وإنما هو فكر حركي وثاب يدعو إلى اليقظة والقيام والانتقال من حالة الجمود إلى حالة الفعل والجهاد الشامل في الحياة .

ومن ذلك المنطلق يؤكد الأفغاني أن الذين يقصدون الإصلاح عليهم أن يتجاوزوا العقبات بقوة وإصرار ومواجهة واقتدار وإن اقتضي ذلك بذل الأرواح إذا دعا داعي الإيمان إلى ضرورة ذلك وطريق ذلك عنده تعارف العلماء وأهل الفكر واجتماعهم وتدارسهم وتعاونهم في نصرة قضايا الإسلام والمسلمين .

وفي سبيل تحقيق هذا الهدف أنشأ في العالم الإسلامي جمعية العروة الو ثقي التي تألفت لإيقاظ الأمة الإسلامية والأخذ بها إلى أسباب النهضة ومجاهدة الاستعمار وتحرير الأوطان الإسلامية من الاحتلال , وكانت تضم جماعة من أقطاب الفكر الإسلامي والدين والتجارة في العالم الإسلامي .

توفي الأفغاني عام (1897م) وتسلم الراية من بعده إمامان جليلان أولهما تلميذه الأقدم الشيخ محمد عبده 1905م) وثانيهما:تلميذه الذي تعرف عليه ولم يره لكنه أخذ فكره وعلمه ومنهجه من الشيخ محمد عبده وهو السيد محمد رشيد رضا 1938م)

لقد استطاع الشيخ محمد عبده أن يستوعب منهج أستاذه وحوله إلى تفسير جديد للقرآن الكريم عرض خلاله ما كان يدعو إليه أستاذه من فكر نير ومعالجة بصيرة لقضايا المسلمين .

سواء في جانب الفكر أم في جانب الواقع الأليم الذي كان يمر به العالم الإسلامي فتحول إلى عالم بصير ومرب نافذ الرؤية ومصلح اجتماعي وضع عصارة فكره في رسائله ومذكراته وكتبه بحيث أنشأ مدرسة فكرية إسلامية واسعة في العالم الإسلامي كان قطبها الكبير بعد وفاته عام (1905م) السيد محمد رشيد رضا الذي أنشأ مجلته العلمية العالية الواسعة الانتشار في العالم كله

وهي: مجلة المنار ) التي كان يحررها وحده ليعرض فيها منهج أستاذيه الأفغاني ومحمد عبده وينزل إلى الميدان ليقود مراجعة الرصيد الإسلامي الماضي والحاضر في صراع يومي مستمر ومستديم مع جبهات التعصب والجمود والبدع والخرافة استمر عشرات السنين مع وقوفه الواعي الصلب أمام الغزو الفكري والتغريب للقضاء على أصالة الأمة في الدين والثقافة والتراث الحضاري المجيد .

وأثمرت جهود الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد تفسيرا ضخما للقرآن الكريم إلى سورة يوسف باسم مجلة (المنار) مع عشرات الكتب والمؤلفات والمقالات التي عالجت القضايا العلمية والفكرية التي كانت تشغل بال العالم الإسلامي كله .

لقد استطاعت مدرسة (الأفغاني ،عبده ،رشيد) أن تقدم فكرا إسلاميا معاصرا رشيد متنورا وقف أمام طغيان النزعة الخرافية والتحريفية في التراث الإسلامي من جهة وواجه العقلانية المادية الأوربية الغازية من جهة أخري .

ولم يكن الفكر مذهبية ضيقة أو طائفية متعصبة أو فكرا تاريخيا جامدا ينكص إلى الماضي ويقتل الحاضر والمستقبل وإنما كان فكرا جامعا وسع الإسلام كله لأنه انطلق من الوحي إلى العصر بكل مشكلاته الماضية في ضوء الأصول الآتية:

الأول: إنهاء الصراع الفكري والدموي حول المدارس الكلامية القديمة التي كان اختلافها الفكري والدموي استجابة لتيارات فلسفية غازية والعودة إلى منهج الصحابة الكرام وتابعيهم في التوسع في عالم الشهادة من أجل البناء الحضاري الجديد وعدم التعمق في عالم الغيب الذي لا مدرك للعقل فيه والاعتماد الكامل على المنهج القرآني في عرض العقائد الإسلامية
وعدم إثارة الجزئيات الكثيرة التي عولجت في ظل فكر تجريدي لم يعد موضع الاعتماد والنقاش بيننا وبين مادية الحضارة الحديثة علما أن المنهج القرآني هو الذي يعتمد على الاستقراء العلمي لمظاهر الوجود ويقدم قراءة دقيقة للكون انطلاقا من المبدأ القائل كلما ازددنا معرفة بما في الوجود من الأسرار والقوانين ازددنا علما بما في كتاب الله تعالي
ذلك لأن الكون المنظور هو أعظم وأدق تفسير للكون المقروء (القرآن الكريم) فلابد إذن من الاستفادة القصوى من العلوم المتنوعة والثقافات الإنسانية المتعددة الحديثة في تفسير القرآن الكريم في إطار الضوابط الأصولية المعروفة بين علماء الإسلام والتي تضبط الاتجاه الصحيح لحركة تفسير القرآن الكريم في كل عصر .
الثاني: مراجعة الرصيد الحضاري والفكري للأمة الإسلامية عبر التاريخ الماضي وغربلته بإبعاد العناصر الدخيلة فيه وتنقيته مما قد علق به من الانحرافات والإسرائيليات والأخبار الواهية والخرافات التي أفسدت عقلية كثير من المسلمين والعودة به إلى المنابع الإسلامية الأصلية الصافية التي هي وحدها الجديرة بتوجيه الفكر الإسلامي الأصيل وإنقاذه من النظريات الأحادية والتاريخية التي يراد لها أن تتحكم في عملية التوجيه الحضاري في العصر الحديث .
الثالث: محاربة التعصب المذهبي والطائفي في المجتمع الإسلامي وبيان خطره الكبير على وحدة الأمة الإسلامية لأنه فرق المسلمين وأخرهم عن ركب الحياة وعطل تفكيرهم وإبداعهم وأسلمهم إلى الأخذ بالقوانين والتشريعات البشرية لقصور المتأخرين عن مواصلة حركة الاجتهاد واستنباط الأحكام من أصول التشريع الإسلامي كما فعل الفقهاء العظام في العصور الماضية.
الرابع : معالجة أسباب تأخر المجتمع الإسلامي وأمراضه الكثيرة والتقدم إلى بناء مجتمع قوي وإعادة الأمة إلى ثورة قرآنية حقيقية على أوضاعها المتخلفة ومواجهة الحياة مواجهة علمية صحيحة والتوجه التام إلى الأخذ بأسباب الحضارة والعلم والتقدم حتى تستطيع تقوية ذاتها وإقامة حضارتها من جديد ومواجهة أعدائها الذين يتربصون بها الدوائر وفي مقدمتهم الاستعمار الذي يسيطر على بلاد المسلمين من كل جهة .
الخامس: رد الغزوات الفكرية الاستعمارية التي شنت على الإسلام عقيدة وشريعة وتاريخا وحضارة ورجالا ومناقشتها بالأدلة العلمية والوقائع التاريخية وتنفيذها وإثبات بطلانها من أصولها وأنها لم يرد بها إلا إبعاد المسلمين عن إسلامهم الذي هو مصدر عزتهم وسلوكهم وحضارتهم .

لقد كان تأثير هذه المدرسة الإسلامية الحديثة كبيرا على الفكر الإسلامي سواء في مجال تفسير القرآن الكريم أم في مجال الفكر الإسلامي المعاصر بأجنحته المتنوعة الفلسفية والفقهية والأصولية والعقلية والعلمية ففي:

  • وفي مجال العلم والفلسفة يعد محمد فريد وجدي ومصطفي عبد الرازق والدكتور إبراهيم مذكور والدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة والدكتور على سامي النشار والدكتور محمود قاسم والدكتور سليمان جنيا والدكتور عبد الحليم محمود والدكتور محمد عبد الله دراز والدكتور محمد البهي وآخرون التلامذة المخلصين لمدرسة الأفغاني عبده رشيد العقلية .
  • وأما مجال الفقه والاجتهاد فقد خرجت هذه المدرسة طائفة كبيرة من الفقهاء الأصوليين من أمثال الشيخ محمد الخضر الحسين والشيخ على الخفيف والشيخ عبد الوهاب خلاف والشيخ أبي زهرة والشيخ محمود شلتوت والشيخ مصطفي الزرقاء والدكتور يوسف القرضاوي وعشرات آخرين منتشرين في طول البلاد الإسلامية وعرضها .
  • وأما المفكرون والكتاب الإسلاميون الذين تأثروا بمنهج هذه المدرسة فيعدون في العالم الإسلامي بالمئات وكان التأثير الأعظم لهذه المدرسة ظهور الحركات الإسلامية المعاصرة التي وسعت من دائرة الفكر الإسلامي وعالجت القضايا الفكرية والسياسية والجهاد التي تفرعت عنها .
  • منها ظهور فكر وحركة الإمام حسن البنا في مصر الذي انطلق من هذه المدرسة حيث كان متصلا اتصالا مباشرا في شبابه بالسيد محمد رشيد رضا ليرسم للجيل الجديد بدقة ووضوح المذهبية الإسلامية بتفاصيلها الشاملة التي تستوعب نواحي الحياة كلها والتوجه نحو فكر إسلامي متجدد ومتطور يستوعب نهضة المسلمين في العصر الحديث ويقود حركتهم نحو البناء ويضع الحلول الواقعية المتوازنة لمشكلاتها المستعصية التي نتجت عن عصور التخلف الحضاري .

الفصل الثاني:أوضاع مصر عند ظهور حسن البنا

كانت مصر يومئذ:

  • تعيش تحت حكم ملكي ورث الحكم من عائلة محمد على في قصورها وأنماط حياتها وتقليد النمط الاجتماعي للحضارة الغربية بتبعية واضحة بل إن الحكام منذ أيام إسماعيل في الأقل انخرطوا في الماسونية اليهودية التي أبعدتهم عن الاندماج الكلي المصيري بآمال الأمة والرغبة في إصلاح أحوالها .
  • أما الشعب المصري الطيب في القرى والأرياف من الفلاحين المستضعفين فكان يفتك بهم الملاك الظلمة من (الباشوات) المرتبطون مصيريا بالدولة والخاضعون للعائلة المالكة فعاش الشعب عيشة ذل وفقر فاقدين لأسس الإنسانية الكريمة وأما الملاك مالكو القرى والأرض الخصبة ظلما وعدوانا فكانوا يعيشون في قصورهم الليالي الحمراء والحياة الغربية الفاجرة الباذخة ويقضون عطل الصيف إما في شواطئ الإسكندرية أو في أجمل مدن أوربا بثمن عرق وجهود المظلومين والمستضعفين .
  • سيطرة الاستعمار الإنجليزي الجاثم على شريان مصر في القناة ونهبه لثروات البلد واحتكار شركاته لتجارة القطن وغيره والتدخل في الشؤون الخارجية للبلاد ومحاولة فصل شعب مصر عن الأمة العربية والإسلامية وتوجيه السياسة الداخلية بما يحقق مصالح بقائه بالسيطرة التامة على العائلة المالكة وتقييد حركة المخلصين من أبناء البلد وضرب الشعب في المظاهرات الطلابية وفتح النار عليهم وتعليق الفلاحين على أعواد المشانق كما حصل في دنشواي وغيره .
  • اعتداء الجنود الإنجليز على الناس وإفسادهم في الملاهي والمقاهي والطرقات والتحرش بالنساء المسلمات دون مسائلة أو حساب من لدن الحكام اللاهين .
  • فرض اللادينية (العلمانية) على البلاد منذ أيام الاحتلال في عام (1882 م) ومحاربة المظاهر الإسلامية كلها وتوجيه نظام التربية والتعليم في ضوء منهج القس الإنجليزي (دنلوب) الذي خطط لطرد الإسلام الحق من جميع مظاهر الحياة الفردية والاجتماعية .
  • تقييد حركة الأزهر والوقوف أمام تجديدها وتطورها والسخرية من خريجيها وإهانة علمائها وعزلهم عن مجري الحياة السياسية ومنعهم من التدخل لتوجيه الأمة والوقوف أمام المصلحين الذين كانوا يريدون إخراج الأزهر من المتحف القديم إلى العالم المعاصر في الصراع من أجل التقدم ونشر حقائق الإسلام وإحداث الوعي المطلوب في الأمة .
  • سيطرة الماسونية اليهودية على أجهز الإعلان والفن والثقافة والتربية بالتخطيط لإفساد الأسرة المسلمة وتحريف الجيل المسلم كله وإخراج المرأة المسلمة من وظائفها الأساسية في الحياة ودفعها إلى حياة الاختلاط والسفور الفاجر والاشتراك في حفلات الرقص والقمار والسباحة العارية على شواطئ البحار والدعوة إلى فتح العلاقات الجنسية المفتوحة تصريحا أو تلميحا بين الرجال أو النساء وإغراق المدن الكبرى بدور الدعارة السرية والعلنية وفتح مئات الملاهي والخمارات والسينمات المنتشرة في كل مكان .
  • الهجوم الكاسح على الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكا في مجالات الثقافة والفن لا سيما في الأفلام الإباحية والسخرية من العلماء ومدرسي اللغة العربية .
  • حصر الجمعيات الإسلامية في أمور جزئية عبادية خيرية محضة كجمعية البر والإحسان ومكارم الأخلاق وجمعية الشفقة الإسلامية وجمعية دفن الموتي .
  • تحريف الإسلام الشامل وتوجيهه وحصره في معارك جزئية خاسرة بين الصوفية الخرافية التي تحولت إلى طريقة جاهلية ابتعدت كثيرا عن التصوف الحقيقي والربانية الصافية وأنشأت إقطاعيات دنيوية يجمع الشيوخ في ظلها باسم الدين الثروات الطائلة ليعيشوا هم وأولادهم في قصورهم ويفسدون تمام كالإقطاعيين وأودهم في لياليهم الحمراء وتحولت مقولة الكرخي رحمة الله تعالي التصوف طلب الحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق إلى جهل الحقائق والطمع فيما في أيدي الخلائق على يد هؤلاء الدجالين .
  • وبين سلفية متشددة بعيدة عن الفهم الأصولي الشامل للإسلام حولت فروع العقيدة إلى أصولها وحكمت على العلماء الأكابر والدعاة الأماجد بالضلالة والبدعة وحصرت معركة الإسلام الهائلة في هذا العصر بالحديث عن الجهمية وآيات الصفات وتقصير الثوب وزيارة القبور واستعمال خشب الأراك للسواك والنكوص الدائم إلى الوراء وقتل الحاضر والمستقبل والابتعاد التام عن معركة الأمة المسلمة وآلامها مع أعدائها التاريخين.
  • انتشار الحملات التبشيرية والتنصيرية في المدن والقرى والأرياف وتشكيك الناس في أصول الإسلام وبث الشبهات بين أبناء الشعب الجاهل ومحاولة إيجاد جيل لا يؤمن إلا بالشهوات ولا يعمل إلا للشهوات كما قال (زويمر) في مؤتمر المستشرقين في القدس عام (1938م).
  • يظهر نتيجة لهذه المأساة الكبرى المثقفون المعاصرون الذين تخرجوا من الجامعات الأمريكية والأوربية والمصرية العلمانية لا يؤمنون إلا بحضارة الغرب المادية وفلسفات أوربا المادية ولا يتصورون أن يكون الإسلام نظام للحياة لأنهم لم يسمعوا بذلك ويعدون التدين عيبا في الشخصية المعاصرة والعبادات نقصا ومضيعة للوقت همهم الوحيد أن يظهروا في ثوب مدني معاصر .
  • تتكون أحزاب سياسية انتخابية (كارتونية) من الملاك الظلمة اللاهين وعملاء الإنجليز الراسخين والماسونيين العريقين ومقلدي الحياة الأوربية من المثقفين تتلاعب بعواطف الشعب المظلوم والتظاهر بالدفاع عنه وحل مشكلات حياته والدخول إلى (برلمان) مزيف على حسابه لا ليوحدوا الشعب في جبهة واحدة ضد أعدائه بل لتمزيقهم وضرب بعضهم ببعض ونشر العداوة والفرقة بينهم في الوقت الذي يتمتع (باشوات) الأحزاب بمتع الدنيا هم وأسرهم على أطلال شعب طيب مخدوع حائر بدون قائد مؤمن مخلص يقوده إلى الإيمان والوحدة ويريه طريق الكرامة والعزة كي يستعيد الشخصية الحقيقية في الحياة .

لقد قلت في بداية هذه المقدمات أن التحديات الكبيرة لابد في النهاية أن تؤدي إلى استجابات كبيرة.وهكذا وقعت الاستجابة الكبيرة من شاب مؤمن حمل هذه الهموم كلها أتاه الله تعالي طاقات هائلة بشهادة المؤالفين والمخالفين من الإيمان وقوة الشخصية وهضم حركة التاريخ ومعايشة أمراض المجتمع وفهم حقيقة الصراع وإدراك مقاصد الشريعة وتفقه خطوات المرحلة ؛

والتحسس العميق بآلام المستضعفين والمستلبين والإطلاع الواسع على مؤامرات الأعداء على أمة الإسلام والتفكير السديد في وضع الخطط وتحريك الجموع وتنظيم الكبير والصغير والعالم والجاهل من خلال أروع أساليب التربية والتوجيه السديد المنتج لا أدعي له العصمة معاذ الله ولم يدع له أحد من أتباعه المقربين ذلك ولكن الكل يشهد أنه كان مجددا راسخ القدم وفقه الله تعالي لكثير من الخير وكثير من الصواب .

وفقه الله تعالي لإنهاض أمة وتحريك شعب وتجديد شباب الإسلام وحقائق الإسلام وحركة الإسلام .

من هو حسن البنا:

  • ولد حسن البنا عام (1906م) في حضن أسرة عالمة مؤمنة فقيرة نظيفة متواضعة معروفة في بيئتها بالصلاح والتقوى .
  • حفظ القرآن الكريم فهما ووعيا وعملا .
  • تلقي العلم على والده العالم الشهي شارح مسند الإمام أحمد بن حنبل (الفتح الرباني) وهو الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا المعروف بالساعاتي .
  • عرف رسول الله صلي الله عليه وسلم نبيا ورسولا وإمام وقائدا وعرف صحابته الكرام في جهادهم وحبهم لله ورسوله .
  • تلقي تربية روحية عالية على يد بعض الصالحين .
  • كان في طفولته داعية إلى الله تعالي يأمر بالمعروف و ينهي عن المنكر من خلال أساليب تربوية إسلامية رصينة ويؤلف مع جمع من أصدقائه جمعيات للدعوة إلى الإسلام شرح حقائقه .
  • انتقل إلى القاهرة فتخرج من دار العلوم ورسخ في علوم العربية والعلوم الشرعية فكان قارئا جيدا وحافظا جيدا شهد له أساتذته بالمقدرة الفائقة والأولوية التامة وتوقعوا له مستقبلا منورا .
  • رشح إلى بعثة خارجية ولكن الله تعالي أراد له الخير وأعد له وظيفة التجديد الكبرى في هذه العصر ليقود الأمة إلى ما يريده الله تعالي ورسوله الكريم
  • عين معلما متواضعا في الإسماعيلية وعاش مع أجواء الظلم والقهر الإنجليزي دراسة ورؤية ،وفكر بالتغيير ،وبدا بإلقاء الخطابات المؤثرة في المقاهي والمجالس والمساجد لتوجيه الناس إلى معرفة مآسي الحياة التي يعيشون فيها برتابة وسكون وجمع المسلمين المختلفين في المدينة على المحبة والإخوة وحقائق الإسلام التي تدرأ عنهم خطر التمزق والتفرق ..
  • خطط بذكاء ودقة لتأسيس تنظيم إسلامي يبدأ بمهمة التغيير الشامل مع عدد من خلص أصدقائه ومؤيديه الشباب وسماه بـ (الإخوان المسلمون) تنفيذه لقوله تعالي (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)
  • بعد تشكيل الجماعة دخل في المجتمع كله دخولا قويا داعيا إلى الله على بصرة وخطيبا مفوها ومحاضرا غزير العلم عميق الثقافة سامي التصرف كريم الأخلاق متواضعا أمام الخلق يدلهم إلى مسالك الخير ودروب الفضيلة ومسارب الإنقاذ ومواطن الفخار في جوهر الأمة ودينها القويم .
  • توسعت دعوته وانتشر صيته وظهرت عبقريته الفذة في الريادة والقيادة والتوجيه والتنظيم والدعوة .
  • وفي القاهرة تبدأ المسيرة الظافرة والانطلاقة القوية وتظهر الحركة قوية بإذن الله تقتحم الميادين وتبشر بغد جديد للإسلام والمسلمين تحت راية القرآن العظيم وقيادة الرسول الكريم .

ماذا فعل حسن البنا:

فكرا أولا ببناء أساس نظري فكري قوي مبني على أسس الوحي الإلهي ( قرآنا وسنة) وما بني عليهما أئمة الإسلام الراسخون عبر العصور من أصول وقواعد وضوابط لفهم الإسلام حصرها في الأصول العشرين التي استخلصها ببلاغته وعمق فهمه من كتب العقائد والأصول ومقاصد الشريعة والفقه والتفسير والحديث
لا سيما كتب الإمام الغزالي والإمام الشاطبي وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن قيم الجوزية والعز بن عبد السلام وغيرهم لكن بصياغته الذكية الدقيقة المعاصرة في المجتمع والدولة وإعادة صياغة الأمة من جديد عقيديا وعباديا وتربويا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وجهاديا وحضاريا .
  • ففي مجال العقيدة دعا إلى الرجوع إلى ما كان عليه القرون الثلاثة الأولي (الصحابة والتابعون وتابعوهم) من العقيدة والواضحة الصافية الذين لم يخوضوا في المشكلات الفلسفية المعقدة التي فرضتها صراعات قديمة من أجل توحيد قاعدة الانطلاق وعدم النقاش في الجزئيات وترك المجادلات القديمة في الوقت الحاضر تلك التي فرقت الأمة .
  • وفي مجال العبادة وضع منهجا قائما على أساس الكتاب والسنة لصياغة الشخصية الروحية للإنسان المسلم كي تحول بينه وبين مغريات الحياة المادية وتهيئته ليكون عضوا صالحا في الحياة الاجتماعية ينطلق إلى اتخاذ مواقف مبدئية لا مصلحية تنبثق من أعماق ضميره العابد للخالق العظيم .
  • وفي مجال التربية بين أن الصياغة الإسلامية لابد أن تبدأ من الفرد ثم الأسرة ثم المجتمع حتى تقوم الدولة الإسلامية على كيان اجتماعي موحد .
  • أما في مجال السياسة والحكم فقد دعا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في نواحي الحياة كلها لكونها شريعة ربانية شاملة جاءت لتحقيق مصالح العباد دقها وجلها قابلة للنمو المطرد لمواجهة الحياة المتجددة من خلال أصولها المرنة وقواعدها الرصينة ومقاصدها العامة عن طريق الاجتهاد المستمر وأنظمتها الدقيقة استمع إليه إذ يقول في الأصل الأول من الأصول العشرين
(الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء وهو مادة وثروة أو كسب أو غني وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء)
  • وأما في مجال الاقتصاد فقد دعا إلى تحرير اقتصاد الأمة من السيطرة الأجنبية كي تعود الثروات إلى أبنائها الكادحين مع الكشف عن منابع الثروات وتسخيرها تمهيدا للدخول في عصر التصنيع وقد كان إيمانه بالاتجاه الجماعي في الاقتصاد الإسلامي واضحا وحاسما تجلي في رفضه للتفاوت الطبقي الظالم ومناداته بوجوب عدم تعارض الملكية الخاصة للمكلية العامة وتفتيت الملكيات الكبيرة وتوزيعها على الفلاحين المعدمين ووجوب تدخل الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية لقطع دابر الاستغلال وقيامها بواجباتها تجاه الأمة .
  • وأما في الحياة الاجتماعية فقد دعا إلى تعويد الشعوب على الآداب العامة والشعور بالمسؤولية الاجتماعية ومحاربة الرذائل الاجتماعية مثل القمار والخمر والبغاء والفجور وعلاج قضية المرآة علاجا يجمع بين الرقي بها والمحافظة عليها وفق تعاليم الإسلام وإعادة النظر في مناهج تعليم البنات بحيث تتفق مع فطرهن وواجباتهن في الحياة .
  • وأما في مجال الجهاد فقد حارب الاستعمار بأنواعه في كتاباته وخطاباته وأعماله كلها لا سيما الإنجليزي منه الذي كان يحتل أرض مصر يومئذ وكان حريصا على تربية الأمة على الجهاد المقدس لمقاومة أعداء الإسلام والمسلمين من المستعمرين وغيرهم وقد ترجم إيمانه الراسخ بوجوب الجهاد هذا واقعيا في شكل كتائب أرسلها إلى فلسطين عام 1948 م بإشرافه المباشر فأبلت في الحرب المقدسة تلك بلاء حسنا .
  • ومن الحقائق الثابتة أنه كان يؤمن بالاقتصار في ذلك الوقت على المجاهدين في مواجهة الصهاينة المعتدين وأن تبتعد عنه الحكومات والجيوش الرسمية حتى تضمن الأمة حسم المعركة من خلال مجاهديها دون أن يخضعوا للقرارات أو يلتزموا بما تتمخض عنه مفاوضات واتصالات الحكومات مع عواصم القوي الكبرى من نتائج تهدف إلى عرقلة الجهاد والحيلولة دون جهاد المجاهدين وبلوغ الغاية العظيمة .وموقف الإمام حسن البنا من مصالح الأمة العربية ووحدتها كان موقفا راسخا فقد آمن بضرورة الوحدة العربية استمع إليه بعد شرح مكانة الأمة العربية في الإسلام وإقامة دولته وإعزاز سلطانه ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها.
  • وأما موقفه من الحضارة الغربية الحديثة فهو عين موقف مدرسة الأفغاني ومجددي الإسلام جميعا في العصر الأخير وذلك بموجب اقتباس العلم والمعرفة والتنظيم من الغرب دون الانحراف وراء أفكاره المادية وفلسفاته اللادينية ومغرياته الاجتماعية والإباحية الجنسية .
  • وهو ينطلق في كل ذلك من (أن الإسلام يحرر العقل ويحث على النظر في الكون ويرفع قدر العلم والعلماء ويرحب بالصالح النافع من كل شئ والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها)

ومن الجدير بالذكر أن الإمام حسن البنا في كل ما كتب وفعل ينطلق من الوحي إلى العصر ولا يبقي كثيرا في التاريخ إلا فيما يتصل بالأمجاد الماضية .

ومن الحقائق الثابتة في حياته أنه لم يكن يؤمن بالدعوة الفكرية النظرية فحسب وإنما حولها إلى أكبر تنظيم إسلامي في العصر الحديث لأنه أدرك أن هذا العصر هو عصر التنظيمات الاجتماعية والسياسية فصياغة الأمة الإسلامية تحتاج إلى حركة جهادية شاملة في مجالات الحياة كافة من أجل العمل على استئناف الحياة الإسلامية والانتصار على الأعداء المستعمرين لبلاد الإسلام لا سيما اليهودية العالمية التي استولت على الأرض المقدسة الإسلامية (فلسطين).

لقد توسعت دعوة الإخوان ففتحت مئات الشعب والمراكز في محافظات القطر المصري من أقصي الشمال إلى أقصي الجنوب ووجهها الإمام البنا عن طريق المحاضرات والخطب والزيارات والجرائد والمجلات والمؤتمرات المتتالية إلى الإيمان الصادق والفكر النير والمنهج الشامل والأخوة الإيمانية وأعد منهم كتائب الجهاد في نظام خاص لمحاربة الإنجليز وعصابات اليهود.

(إن التنظيم الخاص أنشئ بسبب الظروف التي كانت قائمة في مصر في تلك الحقبة من الزمن حيث كان في مصر (80 ألف) جندي إنجليزي يحتلونها من الإسكندرية حتى أسوان كما أن الإنجليز كانوا يحتلون فلسطين ويعملون على تأسيس الدولة الصهيونية فيها فكان لابد من كفاح مسلح لمواجهة الاحتلال الإنجليزي والخطر الصهيوني)

لقد انتهي الأمر بالإمام حسن البنا إلى مطالبة الدولة بتحكيم شريعة الإسلام وتربية الجيل تربية إسلامية وطرد الإنجليز من مصر ومحاربة عصابات اليهود في فلسطين ونبه الأمة إلى أن الأحزاب السياسية التي كانت تلعب في الساحة المصرية سبب البلاء والشقاءP

فلابد من تصفيتها والتجمع حول رسالة الإسلام من جديد واستطاع الإخوان أن يوقظوا في مصر روح الانتماء العربي والإسلامي وأحيوا قضية فلسطين في نفوس المصريين وعقد الأستاذ البنا مؤتمرا كبيرا في القاهرة اشترك فيه رجالات مصر والعالم العربي والإسلامي في سبيل التعريف بقضية فلسطين .

واتصل الإخوان برجالات العالم العربي والإسلامي والدعاة والجمعيات الإسلامية فيه حدثني الأستاذ صالح أبو رقيق عندما زرته في بيت ابنته في الرباط عام 1983م عندما كنت أعمل أستاذا في جامعة الملك محمد الخامس قال:

كلفني الأستاذ البنا بالاتصال برجالات (البيت العربي) في القاهرة وكان فيه كبار رجالات المغرب وكنت أسلم إلى الكثيرين منهم رواتب شهرية من ميزانية الدعوة المتواضعة ومن هؤلاء الرئيس التونسي فيما بعد (الحبيب بورقيبة)

وكانت دعوة الإخوان في مراحلها دعوة سلمية ناصعة ولم تؤمن قط بالإرهاب والعنف وما حصل من قتل الخازندار والنقراشي كانت بتصرفات فردية من بعض الأفراد المتحمسين ولم يكن تخطيطا من القيادة .

حدثني الأخ الأستاذ الشاعر عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله في بيته في الهرهورة قرب الرباط: قال:

عندما كنت مسئولا عن الإخوان في نهاية الأربعينيات في سوريا جاءتنا برقية من القاهرة بوصول الأستاذ حسن البنا إلى مطار بيروت للذهاب إلى فلسطين والإشراف على كتائب الإخوان من المجاهدين .

قال:

فذهبت أنا وعدد من الإخوان إلى بيروت لاستقباله قال نزل ودخل صالة المطار لاحظنا عليه آثار تعب شديد وحزن عميق قال ولما سألناه عن السبب قال:ألم تسمعوا ما فعله بعض الإخوان من قتل الخازندار قال:ورفع يده إلى السماء قال:اللهم إني وإخواني بريئون من دم هذا الرجل .

ومن الحقائق الثابتة أن مخابرات الدول الكبرى كانت تراقب حركة الإخوان في مصر وتكتب عنها التقارير وتنشر عنها في صحف الغرب وتعد حسن البنا أخطر رجل ظهر في هذا العصر في الشرق الإسلامي يهدد مصالح الغرب .

حل جماعة الإخوان المسلمين:

وكانت النتيجة الخطيرة اتخاذ القرار الحاسم لتصفية الإخوان المسلمين بعد اشتراكهم في حرب فلسطين فبدل أن يكرموا لجهادهم وإنقاذهم الجيش المصري من الأسر اجتمع سفراء الدولة الأمريكي والإنجليزي والفرنسي في ثكنة عسكرية بريطانية في (فايد)
وقدموا طلبا مستعجلا للملك فاروق ورئيس وزرائه محمود فهمي النقراشي بحل جماعة الإخوان المسلمين فأصدر النقراشي أمرا بحل جماعة الإخوان المسلمين ومصادرة أموالهم وملأ السجون المصرية بأفرادهم وتعذيبهم بأشنع أنواع التعذيب هذا زيادة على خيانة النقراشي للقضية المصرية .
فلم يتحمل هذا الوضع شاب من شباب الإخوان فلبس ملابس الضباط ودخل مقر النقراشي وأطلق عليه النار فقتله ومع ذلك فقد أعلن الإمام حسن البنا استنكاره الشديد لهذا الاغتيال وأصدر بيانا وصف الذين أقدموا لى ذلك بأنهم (ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين)

قتل الإمام حسن البنا:

فكانت النتيجة أن قرر الملك فاروق ورئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي تصفية الإمام حسن البنا فلم يلقوا القبض عليه على الرغم من طلبه ذلك فاستدرجه وكيل وزارة الداخلية عبد الرحمن عمار بخبث ودهاء إلى مقر جمعية الشبان المسلمين بدعوي الدخول في محادثات بينه وبين الحكومة بشأن اعتقال الإخوان
وكانوا قد أحضروا أفرادا من المباحث المصرية وأطفئوا الأنوار في شارع رمسيس فعندما خرج (الإمام) أعزل من السلاح والحماية وأطلقوا عليه النار واستطاع مع جراحه أن يرجع إلى مقر الجمعية ويطلب رقم الإسعاف بنفسه من حفظه فنقل إلى مستشفي القصر العيني؛
وجاء تهديد من القصر بإنزال أشد العقوبات على أى طبيب يعالجه فظل دمه الزكي يجري ساعات إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة شاكيا إلى الله تعالي من هذا الظلم الصارخ الذي وقع عليه حيث كتب الله له الشهادة .
وفرضت الحكومة منع التجول في تلك الليلة ولم يسمحوا لأحد أن يقترب من منزل والده فغسله الشيخ الكبير الوالد المفجوع بيده وكفنه وحده , وحملته النساء وحدهن إلى مقبرة الإمام الشافعي والناس ينظرون من نوافذ العمارات فكانت أول جنازة تحملها النساء في التاريخ .
ولم يسمحوا لأي إنسان يعزي والده وضربوا حول بيته الطوق العسكري لأيام والرجل الوحيد الذي اقتحم هذا الطوق هو صديقه القبطي السياسي المصري المشهور (مكرم عبيد) سكرتير عام حزب الوفد سابقا واصطدم مع رجال الشرطة ووصل إلى بيت الشيخ فعزاه بولده الإمام الشهيد
وظل الإخوان بعد استشهاده يعذبون في السجون طيلة حكم إبراهيم عبد الهادي فلما سقطت الوزارة وجاء زعيم الوفد مصطفي النحاس باشا تفاهم مع الإخوان وأخرجهم من السجن فانطلقوا يعملون في المجتمع ويمدون الفروع وهيئون صفوفهم لمقاتلة الإنجليز في القنال وقدموا عشرات الشهداء في هال المجال مما أقض مضاجع الإنجليز وألحق بهم أضرارا كبيرة .
ثم خطط الإخوان مع الضباط الأحرار لتخليص الشعب المصري المقهور من الطغمة الملكية الفاسدة والأحزاب السياسية الفاسدة فساندوا ثورة 23 يوليو 1952م وجندوا شبابهم لحماية خط القاهرة القنال لمقاومة الجيش الإنجليزي إذا فكر في التدخل
ولم يكونوا يعلمون أن جمال عبد الناصر كان متصلا سرا بأمريكا وإنه وقع معهم اتفاقا سريا بعدم محاربة إسرائيل وعدم الوحدة مع السودان .ولاحظ الإخوان بداية الانحراف واستغربوا من تصرفات الضباط الذين كانوا يعدون بعضهم من الإخوان والبعض الآخر من المحبين أو المؤيدين لهم .
ولاحظوا أن هؤلاء الضباط يريدون إقامة دكتاتورية غاشمة في مصر وإنهم لا يؤمنون بالرجوع إلى ثكناتهم العسكرية وإنهم ليس في نيتهم تسليم الحكم إلى الشعب لينتخب ممثليه في جو من الأمان والحرية .
وأنهم ضد إقامة جمهورية إسلامية حقيقية تنفذ شرع الله وتهئ الأمة لمقاتلة الإنجليز في القنال والصهاينة في فلسطين ورأوا أنهم لا يريدون أن يفعلوا شيئا للقضاء على الفساد الأخلاقي؛
بل أول ما فعلوا أنهم جمعوا الممثلات والراقصات والمغنيات الداعرات وأركبوهن قطارا سموه بقطار (الرحمة) انطلق من القاهرة إلى أسوان ينشرون الفساد تحت مطلة جمع الأموال
وما زلت أتذكر أخبار هذا القطار وصور الفنانات في مجلة آخر ساعة ومجلة المصور وهن يخرجن رؤوسهن من نوافذ القطار في محطات الوقوف ويوزعن القبلات جهارا نهارا على الشباب وأهل السفه من الرجال.
ولاحظوا أيضا أنهم يريدون تطبيق إصلاح زراعي بلا دراسة علمية سينتهي إلى تهجير الفلاحين من القرى المنتجة إلى المدن المستهلكة (وهو الذي حصل فيما بعد)
ولاحظوا أنهم متهاونون بحقوق مصر ويريدون أن يوقعوا على معاهدة جلاء الإنجليز من القنال فيها كثير من الحيف بالشعب المصري ورضوخ واضح لمطالب الإنجليز بالعودة إلى القنال حال نشوب الحرب الثالثة بين الغرب والاتحاد السوفيتي .
ولاحظوا كذلك أن جمال عبد الناصر يخطط للتخلص من الضباط المخلصين من الإخوان وغيرهم الذين طالبوه بالرجوع إلى الثكنات وإقامة نظام نيابي يعيد للشعب كرامته المهدورة .
وعندما صارحوا بكل هذه المسائل وعارضوه في سياسته وذكروه بالقسم الذي أقسمه أمام الإمام حسن البنا لنصرة الإسلام وتنفيذ شريعة الله علم هو وزمرته أنهم لا يستطيعون إخضاع الإخوان بسهولة إلى سياستهم الطاغوتية فحاولوا شق الإخوان وإحداث الفتنة بينهم فلم يفلحوا واصطنعوا بعض الصدامات معهم في قضية الرئيس محمد نجيب وغيرها وأدخلوهم المعتقلات من دون أدني مسوغ فصبر الإخوان على ظلم ذوي القربى من إخوة الأمس .
وبعد حين تفتقت عبقرياتهم وعبقريات الذين كانوا يقفون وراءهم من المخابرات المركزية الأمريكية عن مسرحية خبيثة وهي دفع عميل من المخابرات المصرية بإطلاق النار عليه من أكثر من مائة وخمسين مترا في أثناء ما كان يخطب في ميدان المنشية في الإسكندرية أمام الجماهير المحتشدة وصاح بطل المسرحية أمام الشعب الجاهل الثائر المخدوع بأنني جئت لأعيد إليكم كرامتكم .
وهؤلاء يريدون قتلي فهاج الناس وماجوا وخرجت المظاهرات المصطنع في أنحاء القاهرة تريد الاقتصاص من القتلة فصدر البيان الرسمي بأنه ألقي القبض على الجاني (محمود عبد اللطيف) وهو من الإخوان .
في مقابلة مع السيد حسن التهامي الذي كان من أقرب ضباط الثورة إلى عبد الناصر لحين وفاته قال في قناة أوربت الفضائية أمام ملايين الناس ما يأتي : حضر مايلز كوبلان أكبر خبراء الدعاية الأمريكية في ذلك الوقت وعرض على الرئيس في اجتماع حضره عدد من المسؤولين أفكاره للترويج لرفع شعبية عبد الناصر .
وقال كوبلان إن الشعوب الشرقية شعوب عاطفية والشعب المصري منها ولذلك فلابد أن يتعرض عبد الناصر لموقف يثير عاطفة الناس ويجمعهم حوله وعندما سأله الحاضرون كيف ؟ قال:هو أن ينجو عبد الناصر من حادثة اغتيال .
وأضاف لابد من تدبير محاولة لاغتيال عبد الناصر بإطلاق الرصاص عليه وأن يكون ذلك بين الجماهير وأن الشخص الذي يتفق معه على ذلك يقوم بالفعل بإطلاق سبع رصاصات يكون عبد الناصر قبل إطلاقها يطرح أرضا.
وقال: بعد ذلك يتم الإمساك بشخص المنفذ ويحاكم محاكمة صورية ويسجن أو يعدم حتى يختفي السر .
وقال التهامي: إن الحاضرين وصفوا هذا الخبير في الاجتماع بالجنون إذ كيف يطلق رجل حقيقي النار ونضمن ألا يصيب عبد الناصر وتفتق ذهنهم عن إحضار سديري واق لبسه عبد الناصر في أثناء الخطاب؛
وأضاف التهامي أن هذه الخطة نفذت بعد ذلك الاجتماع بستة أشهر وأن الذين قاموا بتدبيرها من الذين ماتوا كالدكتور فؤاد محي الدين رئيس الوزراء الأسبق والطحاوي رئيس جمعية الشبان المسلمين وأمسك التهامي عن أسماء الأحياء الذين شاركوا في تدبير هذه التمثيلية .
وقال إن محمود عبد اللطيف الذي أتفق معه على إطلاق النار على عبد الناصر قال بصوت عال عندما علم بالحكم على إعدامه:إننا لم نتفق على ذلك لكن أشخاصا وضعوا يدهم على فمه وتم إعدامه فورا .
وهكذا صدرت الأوامر لإلقاء القبض على عشرات الألوف من قادة الإخوان ومسؤوليتهم في آن واحد في أنحاء مصر كلها وحشرهم في أقبية المخابرات والمباحث والسجون المصرية وتسليط مئات من أشرس المحققين عليهم كشمس بدران وحمزة البسيوني وصفوت الروبي وصلاح نصر وغيرهم؛
وإنزال أشد العذاب بهم وأهانتهم وإجبارهم بصورة وحشية على الاعترافات الكاذبة وتسليط الطلاب البوليسية عليهم وقدموا جمعا من أطهر رجال مصر إلى محاكمات عسكرية صورية كانت تفتقر إلى أبسط موازين العدالة والأخلاق؛
فحكم بالإعدام على المرشد العام للإخوان المسلمين المستشار حسن الهضيبي والقاضي العالم عبد القادر عودة والشيخ المجاهد محمد فرغلي مدوخ اليهود في فلسطين ومحارب الإنجليز في القنال والمجاهد الصلب يوسف طلعت والمحاميين الصابرين إبراهيم الطيب وهنداوي دوير
والشاب السمكري محمود عبد اللطيف, فنفذوا فيهم جميعا حكم الإعدام إلا الهضيبي فقد خفض الإعدام إلى الأشغال الشاقة لكبر سنه .
وجرت محاكمات أخري للألوف من الإخوان الذين لم يثبت عليهم شئ فسجنوهم في معسكرات الصحراء في ظروف قاسية جدا ليقضوا فيها ربيع أعمارهم وحرم المجتمع من طاقاتهم وإخلاصهم واستمرت هذه المأساة طيلة حكم عبد الناصر الذي مات سنة 1970 م وثلاث سنوات من حكم السادات .
ولما اضطر عبد الناصر إلى إخراج سيد قطب من السجن بطلب مباشر من الرئيس العراقي عبد السلام محمد عارف في أثناء زيارته للقاهرة عام 1965م اتهمته أجهزة عبد الناصر مرة أخري مع جمع آخرين من الإخوان وقدموا إلى محكمة (الدجوي) العسكري؛
فحكمت على سيد قطب واثنين من إخوانه بالإعدام وعلى الباقين بمدد مختلفة من الأشغال الشاقة وكنت في القاهرة يومئذ أحضر لامتحان الماجستير في جامعة القاهرة وأقرأ في الصحف اليومية وأري فيها من النفاق والتهريج والظلم وعمل الخيال المريض في الحديث عن أسرار المؤامرة واللعب والهابط بعواطف الناس ما لا يعلم خباياها إلا الإنسان اللبيب .
وكان من ضمن ما قرأت تصريح عبد الناصر الذي أطلقه من مصحته في الاتحاد السوفييتي أنه لن يعفو عن سيد قطب هذه المرة حتى قبل إجراء مهزلة الدجوي العسكرية مما دلني على مدي الحقد الدفين الذي كان يحمله هذا الرجل تجاه أطهر الناس في مصر .

نتائج هذا الطغيان:

لقد ولد هذا الطغيان الناصري أوخم النتائج التي أدت إلى إلحاق أكبر الهزائم بالأمة العربية .

  1. حرف معظم المجتمع عما فرضه الله تعالي من تنفيذ شريعته وتطبيق حدوده وتقوية عقيدته وصياغة شخصية إسلامية عزيزة تحدث تنمية حضارية قوية تهئ الشعب المصري المسلم لمجابهة معارك الدنيا الجديدة مجابهة واعية مخططة.
  2. إقامة دكتاتورية عسكرية طاغية في مصر يقودها رجال المباحث والمخابرات والأمن العسكري من أجل الحفاظ على نظام الاستبدادي فسلبوا من أجل ذلك حق الشعب المصري في انتخاب نوابه انتخابا صحيحا في دولة إسلامية أو ديمقراطية تستطيع أن تبني مجتمعا قويا يحتفظ بكرامة أبنائه ويقف أمام طغيان اليهود الصهاينة ويقود الأمة العربية إلى مواقع القوة والمنعة والانتصار .
  3. انتشار النفاق والازدواجية والخوف من نطق كلمة الحق والمعارضة الصحيحة السديدة البناءة من أجل الوقوف أمام استغلال السلطة والحيلولة دون تحريفها عن الغرض من وجودها ومن هنا فقد اختفت الصحافة الحرة الكريمة التي تكشف عورات السلطة والمجتمع وظهرت الصحافة المنافقة التي تسبح بحمد الطاغية وتترك الشعب المخدوع في حيرة وجهالة وضياع وخوف .
  4. لكي يحافظ عبد الناصر على نظامه المستبد أنشأ بمعاونة المخابرات المركزية الأمريكية في بداية الأمر ومعونة أجهزة المخابرات الشرقية فيما بعد مخابرات وأمنا واستخبارات صرف عليها جزءا كبيرا من ميزانية مصر للحفاظ على النظام لا للحفاظ على مصالح الأمة وبناء قواعد الحضارة المتكامل المتوازنة .وقد رأيت ذلك بنفسي عندما خرج من إلقاء خطابه في القاعة الكبرى بجامعة القاهرة بمناسبة من المناسبات عام 1969م فقد وجدت أن الشوارع التي يمر بها موكبه ملغومة بهؤلاء الأفراد من الجانبين وقدرت طول المسافة من الجامعة إلى بيته يومئذ بخمسة عشر كيلوا مترا فتساءلت في نفسي إذن سيحتاج في هذه الحراسة المكثفة إلى عشرات الألوف من هؤلاء فإذن كم يكون أفراد هذه الأجهزة الأمنية في مصر كلها ؟
  5. فتح أوسع الأبواب أمام الفساد الأخلاقي حتى يشمل المجتمع المصري كله بتشجيع السياحة المختلطة والنوادي الليلية والنوادي العامة المختلطة وتكثير الملاهي والمسارح وإنتاج الأفلام الداعرة وقامت أجهزة الدولة برعاية دور الدعارة العلنية والسرية وقصة (اعتماد خورشيد) هي واحدة من مئات القصص التي كان يرويها المصريون أيام دراستي في القاهرة (1965 -1972 م).
  6. في ظل بناء اشتراكية مزيفة بلا تخطيط ولا توجيه مخلص انتشر الفقر في أوسع الطبقات الاجتماعية وظلت ألوف الأسر بلا مأوي تسكن المقابر وتنام على شواطئ النيل في حالة مزرية أو تأوي إلى كراجات العمارات في حالة بؤس شديد ومن زار على سبيل المثال حي (شبرا) و(بولاق) و(بولاق الدكرور) و(الدراسة) وغيرها من أحياء العاصمة لوجد المآسي الاجتماعية التي كانت تفتت أكبادنا عندما كنا طلابا في جامعة القاهرة ونحن نري إخواننا المصريين في هذه الحال بينما كنا نجد قصور بناته مقابل حديقة (ماري لاند) في مصر الجديدة على ما أتذكر ترفل بالفخامة والنعيم .
  7. لم يتبع نظاما إسلاميا ولا عقلانيا صحيحا في تربية أجيال الأمة تربية أخلاقية عالية وإنما بدل ذلك أنشأ معسكرات الاختلاط والتجمعات السياسية التي كان عملها مدح النظام والرئيس وكان فصل الأخلاق عن وظيفة الدولة أمرا واضحا ومظهرا من مظاهر المجتمع طوال عهده وقد استمر مع الأسف إلى اليوم لعدم إيمان الدولة بالضوابط الأخلاقية .
  8. إهمال الجيش وعدم تربيته تربية إسلامية وعدم الاعتماد على الكفاءات المخلصة بل ومراقبة المخلصين من الضباط وإخراجهم من الجيش وبناء الترقيات على المحسوبية والإخلاص للزعيم الأوحد وتقديم المنافقين والمتزلفين والاعتماد على أصحاب السلوك المنحرف .
  9. بناء إعلام كاذب مهرج يمجد شخصه ونظامه ويخفي الحقائق عن الشعب وفعل هذا حتى بالنسبة للجانب العسكري فقد وضع صواريخ إعلامية كاذبة وعرضها فيما يسمي أعياد [[يوليو]] أمام الجماهير فلما هاجم اليهود مصر ومطارات مصر يوم (5 حزيران 1967م) لم يجد الشعب المخدوع أثرا لهذه الصواريخ بل لم يجد أثرا للطائرات المئات التي اشتراها بعرقه ودمه عبر سنوات طوال لأنها كانت معرضة للضرب مكشوفة في المطارات وكثير من الطيارين كانوا في نادي الزمالك في ليلة الهجوم في حفلة ساهرة حتى الصباح فأية كارثة صنعها هذا الرجل لأمته المسكينة ؟ وأى نوع من الضباط أعدهم للدفاع عن مقدسات الإسلام والأمة العربية المنكوبة وحدود مصر المنكوبة وكرامتها ..وكيف تقام حفلات الرقص للضباط وإسرائيل كانت تعد للهجوم يوم (5 حزيران) وقد نبه إلى ذلك جهارا نهارا وبخط أحمر كبير اللواء الركن المتقاعد الضابط العراقي العربي المسلم الشهم محمود شيت خطاب في جريدة الجمهورية في بغداد قبل الهجوم وقد حدد (5 حزيران) بدء للهجوم وقال: (استعدوا يا عرب)
  10. قضي على أمل كبير عاشت أبناء الأمة العربية أجيالا تحلم بتحقيقها فلما حققها الشعب السوري العربي المسلم المؤمن بوحدة أمته وقامت (الجمهورية العربية المتحدة) عاملة معاملته لشعب مصر الأبي فسلط عليه المباحث والمخابرات يحاصرون رجاله ويحاربون أبناءه ويحاربون حتى أولئك الذين حققوا له الوحدة وانتخبوه رئيسا عليهم وأهان جيشه بتسليط الضباط المصريين من النوعيات التي كونها فأذاقهم العلقم فاضطرت حتى الأحزاب القومية التي صنعت الوحدة أن توقع على وثيقة الانفصال خلاصا من العبودية لنظام بوليسي مستبد وخروجا من المهانة التي أوقعها بها عبد الناصر ونظامه .
  11. وفي هذا الإطار أيضا قضي على أمل السودانيين في الوحدة مع مصر إذ لما رأت الأحزاب الوحدوية كحزب إسماعيل الأزهري أن عبد الناصر أقام دولة بوليسية في مصر وحارب النهضة الإسلامية وجميع الأحرار من رجالات مصر تراجعوا عن الوحدة وهو أصلا لم يكن يريدها ولا توجه إليها لأنه وقع على البنود السرية لانقلاب يوليو التي كان نص فيها يقول بعدم الوحدة مع السودان .
  12. كان يدعو إلى الوحدة العربية وكل ما فعله كان هدما لهذه الوحدة فبدل أن يعامل الدولة العربية معاملة أخوية كريمة كي يقترب منها باعتباره الأخ الأكبر اتبع منهجا في الأعلام يقوم على أساس السباب العلني والشتائم والمهاترات فقضي ليس على الوحدة فحسب وإنما دمر حتى القدر الأدنى من التضامن العربي الذي الحق بقضية العروبة والوحدة أفدح الأضرار إلى اليوم .
  13. لم يهئ شيئا أمام نمو دولة العصابات اليهودية وتطور قوتها ولم يعد جيشه قط ليوم الثأر بل أرسله ليحارب في اليمن ليقاتل شعبا مسلما برغم الدفاع عن ثورة اليمن سبع سنوات كاملة قتل فيها أكثر من سبعين ألف جندي مصري وصرف من الأموال والأسلحة والطاقات ما كان يكفي للقضاء على الكيان الصهيوني أو في الأقل إضعافها وإيقاف الهجرة إليها بينما دولة العصابات اليهودية على بعد مائة كيلو متر من القنال تبني قوتها وجيشها في وضع آمن جدا .
  14. أثار عبد الناصر ضجة إعلامية ضخمة لإعلانه غلق مضايق تيران أمام ملاحة اليهود ودفع مئات الألوف من جيشه بلا تدريب ولا تنظيم ولا إرادة قتال إلى صحراء قاحلة دون أن يحفروا الخنادق أو يأخذوا المواضع القتالية ولم يضع طائراته المئات في الإنذار (ج) حتى يحمي الجنود المساكين فجعل الجيش المصري حصيدا أمام طيران الصهاينة وقواتها العسكرية المدرية فمات عشرات الألوف في الصحراء تحت القصف ومثلهم تاهوا في صحراء سيناء جوعا وعطشا والأسري نفذ فيهم اليهود الصهاينة القتل الجماعي لقد كان قلبي يبكي دما وأنا أري ألوف النساء في شوارع القاهرة بعد حرب 1967م وهن يلبسن السواد وكنت أهمس مع نفسي أى قبر جماعي حفره القائد المزيف في حرب الأيام الستة .

وكانت النتيجة الدامية (للعنتريات التي ما قتلت ذباب) ضياع النصف الآخر من فلسطين مع الجولان وسيناء رخيصا بلا قتال وكانت النتيجة الأخرى بعد موته استسلام خلفه أنور السادات للصهاينة واعترافه بدولة اليهود عام 1977م وكان ذلك الاعتراف كارثة ثانية بعد كارثة حزيران؛

حيث ولد التراخي واليأس بين الحكومات العربية وكسر الجدار النفسي العميق بين أمتنا والصهاينة كان يجب أن لا يكسر أبدا حيث دفع إلى سلسلة التراجعات حتى انتهت إلى مأساة (أوسلوا) وخيانة صانعيها لقضية العرب والمسلمين الكبرى وذلك باعترافهم بالدولة الصهيونية .

هذا هو غيض من فيض مما فعله جمال عبد الناصر ونظامه بهذه الأمة التي صفقت له مخدوعة في كل مكان بإعلامه الهائل الخداع الكذوب. وسينبري لى (ناصري) ما زال يعيش على الأحلام الوردية الوطنية في أغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ والمغنيات في صنع الانتصارات الوهمية لأمة العرب البائسة فيقول لى هل من الإنصاف أن تذكر السلبيات وتترك الإيجابيات في حياة الرجل ؟

وأجيبه: ما ايجابيات الرجل؟ فيقول:أمم قناة السويس وبني السد العالي ونصر ثورة الجزائر على سبيل المثال .

فأقول له: أما تأميم القناة فقد بدأت قصته بمحاربة الشعب المصري للإنجليز في مقدمتهم مجاهدو الإخوان وكان يجب أن يتم التأميم في ظل أية حكومة من الحكومات ومع ذلك فلنعد هذا نقطة إيجابية تذكر للرجل .

وأما مشروع السد العالي فكان مشروعا سلبياته أكثر من إيجابياته بشهادة أهل الاختصاص أضراره أكثر من فوائده ومع ذلك فلنعد هذا من حسنات الرجل .

وأما مناصرته لثورة الجزائر فهل بقيت دولة عربية في ذلك الوقت لم تناصر ثورة الجزائر فهو لم ينفرد بهذا الأمر فلقد كانت حكومة عبد الكريم قاسم (على ما سنذكر فيها من سوء) سباقة إلى نصرة الجزائر؛

فقد كان عبد الكريم يسلم على سنوات حكمه الخمس تقريبا حوالي سبعة ملايين دولار سنويا إلى ممثل ثورة الجزائر بحق ذلك نذكر هذا له بجانب ما ارتكب من الأخطاء والجرائم بحق العراق وأمة العرب والإسلام ومع ذلك فليكن هذا أيضا من إيجابيات عبد الناصر .

ولكن ما قيمة هذه الإيجابيات المبعثرة في حاكم استأثر بحكم أكبر دولة عربية حوالي ثمانية عشر عاما حكما مطلقا وانتهي إلى تحطيم كل شئ مقدس لدي الأمة العربية دينا وخلقا ووحدة وانتصارا وسفكا للدماء الزكية وإعلاء لدولة اليهود الغاصبة .

  • ألم ينته حكمه إلى التعدي على كرامة الإنسان المصري والسوي عامة وكرامة دعاة الإسلام خاصة؟
  • ألم يحطم آمال المصريين في بناء شعب قوي مؤمن خلوق؟
  • ألم يجعل النفاق والازدواجية والتزولف قانونا في المجتمع؟
  • ألم يصنع مجتمعا انتفت فيه المعارضة البناءة والصحافة الحرة والحريات العامة؟
  • ألم يسلط الملاحدة والشيوعيين في الستينيات على حركة الإعلام والثقافة والأدب والفن والصحافة فأفسدوا غاية الإفساد وشوهوا الأفكار غاية التشويه .
  • ألم يحقق لليهود كلما أرادوا من احتلال البلاد وعلوا في الأرض وأسر للمسجد الأقصى؟
  • ألم يحطم آمال العرب في الوحدة حتى عند أقرب المحبين لها؟
  • ألم يغير وجهة العالم العربي في السير نحو الإسلام الذي أنزله الله رحمة للعالمين إلى العلمانية اللادينية .
  • فماذا سيبقي من الإيجابيات بجانب الكوارث الكبرى التي أحلقها بمصر وأمة العرب والمسلمين

الفصل الثالث: أوضاع المجتمع العراقي عند ظهور جماعة الإخوان المسلمين فيه

تركيبة المجتمع العراقي:

سكان العراق عند ظهور جماعة الإخوان المسلمين كانوا حوالي خمسة ملايين منهم (97%) مسلمون والباقي نصارى ويهود وصابئة ويزيدية وكاكائية وشبك ومعظم اليهود هاجروا إلى فلسطين العربية المسلمة بعد نكبة فلسطين عام 1949 م والمسلمون يتكونون من أهل السنة والشيعة الأمامية الاثني عشرية .
والإحصائيات تقول بأن العرب كانوا يشكلون (75%) من السكان والأكراد (16%) والباقي تتوزعه القوميات الأخرى منهم التركمان المسلمون وبقية القوميات غير المسلمة كالسريان والكلدان من سكان العراق الأصليين والآثوريين والأرمن الذين دخلوا العراق بعد الحرب العالمية الأولي .
أما الأكراد فهم يسكنون محافظة السليمانية وأربيل وقسما من محافظة الموصل وقسما من محافظة كركوك ومنطقة خانقين وهم جميعا من أهل السنة والجماعة عدا أقلية من الفيلية كانوا يسكنون في منطقة خانقين من محافظة ديالي قريبا من الحدود الإيرانية .
وأماالتركمان فهم يسكنون في خط فاصل بين العرب والأكراد ابتداء من تلعفر مرورا بأربيل وكركوك وطوز خرماتو وكفري وخانقين ومندلي وأكثرهم ينتمون إلى أهل السنة والجماعة والباقون شيعة إمامية وشيعة غلاة لاسيما في تلعفر وقرية تسعين قرب مدينة كركوك.
وأما العرب فالذين يسكنون محافظة الموصل المكتظة بالسكان ومحافظة الأنبار وشمالي مدينة بغداد فهم من أهل السنة والذين يسكنون بغداد وجنوبها منهم وكذلك محافظات الوسط كديالي والمحلة والكويت والبصرة في الجنوب فهم خليط من السنة والشيعة متوازين تقريبا في العدد.
وأما محافظة كربلاء والديوانية والناصرية والعمارة فأكثرية سكانها كانوا من الشيعة .

وضع الدولة في فترة الدراسة:

وعندما انتهت الحرب العالمية الأولي وصفا الجو للإنجليز واحتلوا العراق نقلوا إليه الملك فيصل بن الشريف حسين وعينوه ملكا على العراق في ظل احتلالهم البغيض وأتوا معه بالضباط الذين قاتلوا معه الدولة العثمانية ومعهم عدد من المدنيين الحقوقيين وغيرهم فتشكلت الدولة العراقية وأسس الجيش العراقي تحت إشرافهم المباشر .
فأقرت الدولة الجديدة القانون الأساسي للبلاد الذي نص على أن الدولة العراقية ودولة دستورية ذات مجلسين المجلس النيابي ومجلس الأعيان وأن الحريات مكفولة يضمنها حرية الصحافة وحرية الكلام وحرية تأسيس الأحزاب السياسية
ولكن مع تدخل الحكومة في تقييد نشاطات الأحزاب والصحافة في كثير من الأحيان ومع التزييف الدائم للانتخابات ومع تدخل دوائر الأمن والشرطة أحيانا في إعاقة أو تقييد كثير من النشاطات السياسية في البلاد لا سيما ما يتعلق بالشيوعيين والأحزاب المعارضة؛
وكان معظم الضباط الذين تسلموا رئاسة الوزارة أو الوزارات متأثرين بمبادئ حزب الاتحاد والترقي اللاديني الماسوني لأنهم كانوا من خريجي المعاهد التركية ولذلك فهم كانوا بعيدين عن الدين يقودون دولة علمانية ولا تحكم بالشريعة الإسلامية ولا تحافظ على القانون الأخلاقي الإسلامي .
بل كانوا يشكلون بؤر الفساد الاجتماعي والسياسي والأخلاقي وكانوا مع ذلك خاضعين لتوجيهات الإنجليز منذ أول يوم من الاحتلال إلى قيام ثورة 14 تموز 1958م وكرسوا الحياة الإقليمية ولم يفعلوا شيئا كثيرا لإحداث تنمية حقيقية إلا في فترة متأخرة جدا عندما أسسوا مجلس الأعمار في بداية الخمسينيات .
وكان حكمهم يستند إلى قوة الملاكين الكبار من رؤساء العشائر المتصلين بالإنجليز والصناعيين الذين كانوا يتلقون الدعم منهم .
وهذا لا يعني أنه لم يكن في العراق رجال صادقون كانوا يحاولون الإصلاح والتخلص من الاستعمار الإنجليزي ونفوذه وألاعيبه ولكن سيطرة الإنجليز على العائلة المالكة وتأثيرهم المباشر وغير المباشر في السياسيين الحاكمين وارتباط الملاك والتجار الكبار والصناعيين؛
وكثير من رؤساء العشائر ارتباطا عضويا بهم كان يخنق كل صوت معارض ولا يسمع نداء الحق من المصلحين والدليل على ذلك الثورات التي حدثت والانتفاضات التي جرت والجرائد الحرة التي كتبت وأصوات نواب المعارضة التي فضحت تلك الأساليب طيلة حكم هؤلاء .
هذه الأحوال السيئة أدت إلى ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958م التي جاءت بالضباط من ذوي الاتجاهات المختلفة إلى الحكم فلم يستطيعوا الاتفاق على شئ فأدي الصراع بينهم إلى تغلب الجمع الذي كان يناصر الشيوعية على الجمع الذي أراد من العراق أن يعود إلى أحضان أمته العربية ويصنع معها الوحدة أو التضامن..
فاختل الميزان واختلف القوم فتولي الشيوعيون كيد المظالم والمجاوز فقادوا الثوار الحقيقيين إلى السجون والمشانق مما يرد تفصيله إن شاء الله في أثناء البحث .

الأوضاع الدينية في هذه الفترة:

كان الشعب العراقي من حيث العموم في فترة الدراسة ولا سيما في الأربعينات والخمسينيات بعيدا عن الدين وتنفيذ أحكامه والتمثل بأدبه وأخلاقه وكانوا أقرب ما يكونون إلى مسلمين جغرافيين إلا من رحم الله ومظاهر ذلك خلو المساجد من المتدينين

وذلك للأسباب الآتية:

  1. الغزو الفكري العام المنسق الذي شن على بلاد الإسلام عبر قنوات كثيرة في ظل أحراب المستعمرين الذي نشروا الفساد الاجتماعي من خلال توجيه الأخلاق المادية الإباحية الغربية في بلاد المسلمين وكان نصيب العراق ثابتا وملحوظا ولا سيما وأن الإنجليز منذ احتلالهم العراق فتحوا أوسع المجالات للنشر الموبقات والرذائل علنا وبأنواعها ومن أهمها فتح المباغي العامة في أماكن بارزة من بغداد وعدد من المدن مما أدي إلى تأثر الجيل بذلك وساعد على ذلك أن الحكام العراقيين أنفسهم وأركان دولتهم كانوا قد تأثروا بتلك الأخلاق في أثناء دراستهم في اسطنبول في ظل حكم الاتحاد والترقي اللاديني الماسوني .
  2. الاحتكاك بين مجتمع متأخر فقير مستلب وبين حضارة طاغية مبدعة منظمة شاملة وهي حضارة الغازي الغربي مما دفع المثقفين الجدد إلى الظن بأن الأخلاقيات الإباحية الغربية وهي مظهر من مظاهر الرقي في تلك الحضارة فلابد من الأخذ بها والدعوة إليها وتمكينها من حياة المسلمين والداعون إلى ذلك من أهل الأفكار الجديدة كانوا قد فقدوا أصلا الإيمان بالدين والأخلاقيات المبنية عليه نتيجة لتأثرهم بالفلسفات المادية الغربية كالوضعية والداروينية والفرويدية .
  3. معظم العلماء من أهل السنة والجماعة كانوا بعيدين عن هذا الصراع الحديث وكانوا مشغولين بين جدران مساجدهم بتدريس علوم العربية والمنطقية والفلسفية والكلامية والفقهية بأساليب معقدة بعيدة عن مشاكل العصر وأسلوب العصر وأمراض العالم الإسلامي وكانوا غافلين تماما عما يدور حولهم من الغزو الفكري المنظم لقلعة الإسلام ولم يستطع الكثيرون منهم حتى أن ينقذوا أولادهم من الإلحاد أو اللادينية أو ترك الفرائض الإسلامية بل إن جمعا من أولاد هؤلاء العلماء في مناطق العراق كافة هم الذين كانوا يقودون تلك الحركات الإلحادية أو اللادينية أعرفهم بأسمائهم .وكان المأمول من هؤلاء العلماء قيادة حركة المقاومة الإسلامية علما وعملا ومناصرة المظلومين والوقوف أمام الحكام الظالمين والمفسدين ولكنهم ابتعدوا تماما عن ميدان هذا الجهاد العصري الكبير والمخلصون وأهل التقوى منهم اكتفوا بالحوقلات والدعاء والأسف على حال المسلمين . وأما معظم علماء الشيعة فكان كل همهم ينصب على القضايا المذهبية الطائفية المحضة واجترار الكلام حول مأساة الحسين رضي الله عنه وقيادة مجالس العزاء المبتدعة والتشجيع على لطم الخدود وشق الجيوب وزيارة القبور واستغلال العواطف حول المظالم التي لحقت بآل بيت الرسول صلي الله عليه وسلم من أجل الدنيا والثراء وكان المزورون الدجالون في المراقد ينفخون في هذا الكير لكي يشتد عوده يوما بعد يوم .وندرة من المخلصين من هؤلاء تجنبوا في مواجهة هذه الانحرافات الكبيرة وجهل حقائق الإسلام بالكلية خوفا من غضب العوام والدجالين المزورين من طلبة الدنيا بل أحيانا من المجتهدين الآخرين من أمثالهم .ولم يكن معظم أهل الحوزات العلمية من الشيعة قد دخلوا في أتون صراعات الفكر الإسلامي الحدي مع الإلحاد اللادينية ولم يكن لهم تأثير على قيادة الجماهير المسلمة ولذلك ظل الجمهور الأعظم من الشيعة بعيدين كل البعد عن مجال الإسلام والأخلاق العملية الإسلامية تماما كما بعد الجيل من أهل السنة .
  4. أما أكثر شيوخ الطرق الصوفية في العصور الأخيرة ولا سيما في فترة الدراسة فقد حرفوا حقيقة التصوف وحولوا تكاياهم إلى مراتع وإقطاعيات لتقديس أنفسهم ونشر الكرامات الكاذبة حولهم وتركوا دراسة العلوم الإسلامية فأوقعوا أنفسهم في الجهالات والخرافات والبدع الدخيلة في الدين زيادة على ذلك فقد عزلوا أنفسهم عن حركة الحياة وصراعاتها وتظاهروا بالانشغال بتهذيب النفس وحطموا نظرية الكرخي الصحيحة (التصوف طلب الحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق إلى جهل الحقائق والطمع فيما في أيدي الخلائق) وكانوا هم وأولادهم يعيشون في القصور وركوب السيارات الفارهة ويتمتعون بما كان يتمتع به الأمراء والأغنياء .وقد وصل الأمر بأولاد بعضهم أن يعقدوا اجتماعات الأحزاب اللادينية في داخل بيوتهم وتكاياهم وكان منهم بعض زملائي في المدرسة الثانوية ولم يكن يهمهم من أمر الإسلام شئ لا من قريب ولا من بعيد .

التيارات السياسية:

ظهرت الشيوعية بكل مبادئها الإلحادية في المجتمع منذ أوائل العشرينيات في جماعات صغيرة هنا وهناك لا سيما في الجنوب ثم تبلورت هذه الجماعات واتحدت لتكون نواة الحزب الشيوعي العراقي في أواسط الثلاثينيات , ثم انتشرت الحركة الشيوعية في الساحة الفكرية العراقية في غفلة من حقائق الإسلام وإخفاق الدولة في نشر العدل الاجتماعي .
واستطاع الشيوعيون أن يكونوا أعظم المؤثرين في الطبقة المثقفة والمتعلمة في المدارس والجامعات والمجتمعات العمالية كما استطاعوا أن ينفذوا في نسيج أحزاب أخري كالجبهة الشعبية والحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يمثل الطبقة (البراجوازية) الصغيرة
كما يعبر الشيوعيون أنفسهم وكان يتحرك في الساحة السياسية أيضا حزب الاستقلال الذي كان يضم أخلاطا من القوميين العرب .وهذان الحزبان الديمقراطي والاستقلال كانا يقفان في معظم الأحوال في خط المعارضة من الحكومات التي كان يشكلها نوري السعيد أو أعوانه .
وكان هنالك حزب الاتحاد الدستوري الذي شكله نوري السعيد من أعوانه من السياسيين والملاك الكبار وشيوخ العشائر وبعض الصناعيين وبجانبه حزب الأمة الذي أسسه صالح جبر لمزاحمة نوري السعيد وكان يضم أيضا الملاك الكبار وشيوخ العشائر وبعض الصناعيين وعدد من المثقفين ؛
وكان الحزبان الأخيران يمثلان طبيعة النظام القائم والسياسة الإنجليزية في البلاد وكانا مكروهين من لدن معظم طبقات الشعب المسحوقة وكان النظام القائم وعلى رأسه الأمير عبد الإله ونوري السعيد يسيطر على أغلبية المجلس النيابي ومجلس الأعيان..
والعدد القليل من نواب المعارضة الذين كانوا ينتمون إلى الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال والمستقلين لم يكن لهم التأثير المطلوب في تغيير الوضع القائم غير فضح سياسات الحكومات في المجلسين أو في جرائدهم المعارضة؛
ولم يكن العراق يومئذ عقيما بالرجال المخلصين من السياسيين أمثال عبد المحسن السعدون وياسين الهاشمي وطه الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني ومحمد رضا الشبيي وصادق البصام وغيرهم
غير أن الإنجليز كانوا يقفون أمام كل من يريد الإصلاح وتغيير الوضع وإعادة إخراج العراق من وضع الضعف إلى وضع القوة كي يبقي ضعيفا لا يعمل لصالح تنمية حقيقة للوطن وتحقيق وحدة راسخة للأمة العربية والوقوف أمام مطامع اليهود في فلسطين .
وظهر في بداية الخمسينيات تيار قومي ثوري منظم آخر تجسد في حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان قد أسسه في سوريا عام 1947م جمع من المثقفين العرب القوميين الاشتراكيين أمثال زكي الارسودي وجلال السيد وميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وأكرا م الحوراني وغيرهم .
وكان هذا الحزب يدعو في زعمه إلى الوحدة العربية ثم إلى تحرير الإنسان العربي من العوامل الداخلية والخارجية التي تعيق حركته التنموية الثورية ثم إلى تطبيق نظام اشتراكي خاص بالعرب يراعي وأوضاعهم الدينية والتاريخية والحضارية .
والحزب يعتقد أن في هذا تجديدا لرسالة العرب الخالدة التي يمكن أن تتجدد في كل عصر بما يناسب ظروف ذلك العصر لا يقف موقفا حياديا بين الإيمان والإلحاد وإنما ينحاز إلى جانب الإيمان ضد الإلحاد ولكن لا يعمل لإقامة دولة دينية .
وقد انضم إلى الحزب الطلاب والمدرسون والمثقفون والعمال وبعض أولاد العشائر لا سيما من الطبقة المثقفة .ورفض الحزب الأوضاع السائدة في العراق في ظل النظام الملكي واشترك في ثورة تموز 1958 م مع التيارات الأخرى .
وعندما انحرفت الثورة عن أهدافها دخل الحزب مع التيار الإسلامي وغيره في مواجهة عنيفة ضد حكم عبد الكريم قاسم الذي ساند الشيوعيين كما سيأتي تفصيله فيما بعد.

الظروف الاجتماعية:

سكان العراق في هذه الفترة كانوا يتكونون من ثلاث مجموعات:

  1. أهل البدو .
  2. أهل الريف .
  3. أهل المدن.

وأما أهل البادية فكانوا ينتقلون من مكان إلى مكان طلبا للرعي وأما أهل الريف فكانوا يسكنون القرى ويعملون في الزراعة والوحدة الاجتماعية هي العشيرة والحق أن المجتمع العراقي في معظمه مجتمع عشائري ترك بصماته حتى على أهل المدن الذين نزحوا من الريف لأسباب متنوعة حسب تطور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية .

وأما سكان المدن فهم يشكلون الموظفين الكبار والصغار والمثقفين والتجار والصناعيين والكسبة والعمال وغيرهم .ومن الجدير بالذكر أن الأمية في هذه الفترة قد ضربت أطنابها على أكثرية الشعب العراقي .

وعلى الرغم من وجود عدد من العلماء الكبار في هذه الفترة لاسيما في مراكز المدن كانوا يوجهون الناس إلى مبادئ الدين والأخلاق عن طريق المواعظ العامة والدروس الخاصة وخطب الجمعة والاحتفالات بالمناسبات الدينية إلا أن الشعب عامة ظل بمعزل عن حقائق الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقا؛

لأن الاستعمار الإنجليزي الذي أحتل العراق منذ الحرب العالمية الأولي كان هدفه الأساسي إفساد هذا الشعب في أخلاقه لنشر الملاهي والمراقص والخمارات وعرض الأفلام الهابطة في دور السينما وتشجيع دور البغاء العلني والسري في المدن الكبرى وتأسيس النوادي المشبوهة في كل مدينة لا سيما لكبار موظفي الدولة المدنيين والمعسكرين .

وكان اليهود هم الذين يتولون كيد هذا الفساد في ظل الاحتلال الإنجليزي وعن طريق الجمعيات الماسونية التي كانوا يديرونها كما هو شأنهم في مختلف أنحاء العالم .

ومن هنا ضعف الوازع الديني في نفوس معظم الناس مما هيأ السبيل لنشر الجهالة والخرافة وحصر الدين في الطواف حول قبور الصالحين والأئمة والاستغاثة بهم وحضور المجالس البدعية للمتصوفة المنحرفين .

كما أن ذلك الضعف هو الذي مهد السبيل لانتشار الأفكار الإلحادية واللادينية والوجودية والإباحية ولذلك كانت مشكلة المجتمع العراقي في فترة الدراسة مشكلة عقائدية بحيث كادت المساجد تخلوا من الجيل الجديد.

واستطيع أن أعطي نموذجا في دار المعلمين العالية التي كنت طالبا فيها والتي كان عدد طلابها في حدود ألف طالب وطالبة بأن عدد الذين كانوا يصومون في رمضان لم يكونوا أكثر من خمسين طالب وطالبة أكثر من نصف هؤلاء كانوا من شباب الإخوان وهكذا في الكليات والمعاهد الأخرى .

وكان الإفطار علنيا في رمضان على الرغم من البيان الهزيل الذي كانت تصدره وزارة الداخلية بمنع الإفطار العلني .وأما الطبق المثقفة فكانت هي التي تقود حركة الإلحاد واللادينية في مجالات العلوم الإنسانية والصرفة كافة ولا سيما في مجال التعليم في مرحلة الجامعة .

الظروف الاقتصادية:

كان الملاك من رؤساء العشائر الكبرى يملكون معظم الأراضي الصالحة للزراعة في العراق حازوا عليها عبر السنوات الطوال هم وآباؤهم عن طريق الاغتصاب أو الظلم أو عن طريق الهبات من الدولة لإسكات حركاتهم والحصول على مساندتهم أو عن طريق استحواذ الشيخ على ما للعشيرة وتسجيلها باسمه.
وأما أكثرية أبناء الشعب من العمال والفلاحين والكسبة وصغار الموظفين فكانوا فقراء أو يعيشون تحت مستوي الفقر وكانوا لذلك مستعدين للاستجابة لأى صوت صادق أو كاذب يدعوهم إلى الثورة على هذه الأوضاع المزرية .
وكانت الملكيات الزراعية الصغيرة قليلة إلا في كردستان العراق ولذلك نجد الأحوال المعيشية في هذه الفترة بين فلاحي الأكراد أفضل من إخوانهم المسحوقين من العرب في الوسط والجنوب تحت وطأة الملكيات التي كادت أن تشمل معظم تلك المناطق على أن الملكيات الكبيرة أيضا لم تكن معدومة وبكثرة أيضا بين الملاكين الكبار من الأغوات في المنطقة الكردية .

الباب الأول:ظهور جماعة الإخوان المسلمين في العراق

الفصل الأول:الدكتور حسين كمال الدين في العراق

تمهيد:

حدثني الأخ الأستاذ خليل العقرب فقال:
إن أول اتصال تم بين جماعة الإخوان في مصر والمجتمع العراقي كان عندما لفت نظر الأستاذ عبد الهادى باحسين رحمه الله وجود عدد من مجلة (الإخوان المسلمين) في إحدى المكتبات عام 1941 م في البصرة فاقتني العدد ونظر فيه فأعجب بمسلك المجلة ومنهجها والموضوعات التي وردت فيها فأيقظت عنده الإحساس بوجوب الاهتمام بأمور المسلمين .

قال الأستاذ خليل:

فأتاني بالمجلة المذكورة فقرأتها وأعجبت بها كما أعجب بها صاحبي وأثرت في بمثل ما أثرت فيه.

قال:

ثم إن الأستاذ عبد الهادي كتب رسالة لرئيس تحرير المجلة الأستاذ حسن البنا رحمه الله تعالي يطلب اشتراكه فيه فأرسل إليه الأستاذ البنا رسالة جوابية وقبل اشتراكه فيها فكانت المجلة تأتي إليه بالبريد تباعا وكنت أقرأها معه ويقرأها غيري فأثرت موضوعاتها فينا تأثيرا كبيرا

حسين كمال الدين مؤسس الدعوة

إن الاحتكاك الأساسي بدأ بدعوة الإخوان المسلمين في العراق عندما جاء إلى بغداد الدكتور حسين كمال الدين وعين أستاذا في كلية الهندسة فرأي طلابه فيه داعية ثبتا للإسلام جلبهم إليه بعمق ثقافته الإسلامية والعصرية وحسن خلقه وتواضعه وتمكنه من الموضوع الذي يدرسه .

فلندع هذا الكلام لأحد تلامذته المقربين منه وهو المهندس عبد الوهاب الحاج حسن الذي يقول:

(كانت مجلة الإخوان المسلمون) تصل إلى العراق في الأربعينات وتوزع على المكتبات في المدن العراقية ويتكاثر قراؤها يوما بعد آخر باعتبارها مجلة إسلامية حرة تنشر العقيدة الإسلامية والثقافة القرآنية وتعرض المبادئ الإسلامية الذي يدعو إليها الإخوان المسلمون

قال وفي سنة 1944 م انتدبت مصر عدد من الأساتذة للتدريس في العراق بناء على طلب وزارة المعارف العراقية وكان عدد من هؤلاء من جماعة الإخوان المسلمين وأذكر منهم :

  1. المرحوم الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين الذي كان رئيس منظمة الجوالة التابعة للإخوان المسلمين في مصر وكان يدرس (المساحة) في كلية الهندسة في بغداد .
  2. الأستاذ علي عبد الحفيظ وكان يدرس علم الري في كلية الهندسة.
  3. الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد وكان يدس في المدارس الثانوية ولا سيما في ثانوية الميتم الإسلامي .
  4. الأستاذ محمود يوسف وكان يدرس اللغة العربية في المدارس الثانوية .

ثم سألت الأستاذ عبد الوهاب عن كيفية انتشار دعوة الإخوان بين شباب الكليات في بغداد .

فأجاب: في سنة 1945 م كنا طلابا في كلية الهندسة وفي أحد الأيام قمنا بسفرة مدرسية إلى معمل نسيج (فتاح باشا) في الكاظمية ومعنا الأستاذ حسين كمال الدين وفي طريق العودة أخذ الأستاذ ينتقد إدارة المعمل بسبب الظروف السيئة التي كان يعيشها العمال حيث ظهر أن عدد العمال كان يزيد على (700عامل) وفيهم الأطفال والنساء وكانوا يشتغلون (13 ساعة) في اليوم ويتقاضون أجورا زهيدة ثم تحدث عن حقوق العمال في الإسلام وواجب أرباب العمل في منح هذه الحقوق .
قال: فتقربت إليه وأخذت أمطره بوابل من الأسئلة حول السياسة والاقتصاد والمبادئ وأخذ يشرح النقاط التي أثرتها بالتفصيل ووضع الحلول التي وضعها الإسلام لكل هذه الأمور بصورة واضحة وقابلة للتطوير .
قال: وعندما عدنا إلى الكلية طلب مني أن أقابله فقابلته فناولني عددا من الرسائل الصغيرة بقلم المرحوم الإمام حسن البنا المرشد العام لجماعة الإخوان في مصر وهو مؤسس الجماعة أيضا وأتذكر إن إحدى هذه الرسائل كانت بعنوان (بين الأمس واليوم) والأخرى بعنوان (من أين نبدأ)
وقال: لقد أعجبت بعد قراءتي هذه الرسائل بدعوة الإخوان وفكرهم وكأنني لم أكن أعرف شيئا عن الإسلام من قبل وزاد إعجابي عندما علمت أن دعوة الإخوان بعيدة عن الطائفية والمذهبية والعنصرية فهي تجمع بين جمع الطوائف وكافة المذاهب والقوميات حول القرآن الكريم وحول محمد صلي الله عليه وسلم إخوة متحابين متفقين يحملون قلوبا نقية متوحدة ويسعون إلى هدف واحد وهو رفع شأن الإسلام ونشره بين العالم .
ثم يقول: فبدأت بنشر الفكرة في كلية الهندسة وخارجها وأثرت على العشرات أذكر منهم توفيق الوتاري وتحسين عبد القادر وعدنان رانية وعبد الله الحاج سليم وحامد حسين ونافع حمودات .
ويقول: بعد أن انتشرت الدعوة بين طلاب كلية الهندسة والكليات الأخرى بدأنا نعقد اجتماعات أسبوعية في إحدي الدور في محلة السفينة بالأعظمية وكان الأستاذ حسين كمال الدين يحضر هذه الاجتماعات ويلقي محاضرات قيمة في شرح مبادئ الإسلام في مختلف شؤون الحياة وكان يجيب على الأسئلة التي نطرحها على بساط البحث حول النقاط التي ترد في هذه المحاضرات وبعد أن نصلي صلاة المغرب ننهي الاجتماع .
ويقول: كثر عدد المصليين في الكلية فقدمنا عريضة إلى العميد وكان انجليزيا اسمه (وليم مارش) لتخصيص غرفة في القسم الداخلي لإقامة الصلاة فيها فلم يستجب للطلب وبعد العطلة الصيفية راجعته مرة أخي لنفس الطلب فقال: (أرجو ألا تكرر مراجعتي مرة أخري في هذا الموضوع)

فاضطرت إلى نشر احتجاج ضد العميد في مجلة الهداية الإسلامية أشكو تعنت العميد في تحقيق طلبنا وأيد بعض علماء الدين هذا الطلب منهم سماحة المرحوم الشيخ قاسم القيسي رئيس جمعية الهداية الإسلامية والشيخ عبد الله الشيخلي رئيس تحرير مجلة الهداية الإسلامية؛

وعندئذ أبلغت وزارة الأشغال التي كانت كلية الهندسة العميد بوجوب تخصيص غرفة للصلاة وتم تخصيص الغرفة وبدأنا نصلي الصلوات الخمس جماعة في تلك الغرفة .

كثر الذين تقبلوا الدعوة في بغداد ولم تستوعب الدار التي كان يجتمع فيها هذا العدد الكبير لذا انتقلنا إلى حدائق وقاعات جمعية الشبان المسلمين وعقدنا الاجتماعات هناك وحضر الاجتماع الأول الأساتذة المصريون (حسين كمال الدين ومحمد عبد الحميد محمد يوسف)؛

وعدد كبير من الطلاب أتذكر منهم (ياسين سعودي من كلية الحقوق وعبد الله العنيزي من كلية الطب ونشأت محمد من دار المعلمين العالية وتوفيق الوتاري وأنا من كلية الهندسة)

والظاهر أن حركة الإخوان بجهود الدكتور حسين كمال الدين والأساتذة الآخرين بدأت تنتشر في كلية الهندسة والطب والحقوق ودار العلوم ووصل الأمر في النهاية إلى عقد اجتماعات متواصلة بين الدكتور حسين وطلبة الإخوان في بغداد في دور متعددة في منطقة الأعظمية ولا سيما في بيت عدنان رانية رحمه الله وكان من ضمن هؤلاء أخي الأستاذ نظام الدين عبد الحميد الذي كان يومئذ طالبا في دار العلوم بالأعظمية .

وكان هؤلاء الطلبة يحاولون أن يؤثروا في الآخرين ويأخذوهم إلى تلك الاجتماعات ليستمعوا إلى شرح الدكتور حسين كمال الدين للدعوة وقراءة رسائل الإمام حسن البنا .

حدثني الأخ المرحوم سليمان القابلي من قيادة الإخوان في كركوك الذي كان طالبا يومئذ في كلية الحقوق ببغداد فقال : رأيت يوما في سوق الأعظمية أخاك نظام الدين وكان زميلي في كركوك أيام الدراسة الابتدائية والمتوسطة...

فقال لى يا سليمان يوجد اجتماع إسلامي مهم تعال معي واستمع فاعتذرت إليه ولكنه لم يدعني وأمسك بقوة على يدي فأخذني إلى ذلك الاجتماع فلما استمعت إلى كلام الدكتور حسين كمال الدين تأثرت به جدا وقررت الحضور في كل اجتماع وانخرطت في دعوة الإخوان المسلمين .

وحدثني الأستاذ المحامي عبد الكريم الوهاب الأعظمي:

أن الدكتور حسين كمال الدين كان هو الذي يترأس الاجتماعات في بيت المرحوم عدنان رانية , وكان يساعده في الدعوة الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد الذي كان يأخذ طلابه إلى حفلات جمعية الهداية الإسلامية وقد تنشط بعد أن جاءه توجيه من القاهرة يدعوه فيه إلى عمل أوسع وأتقن .
ويقول: كنا يومئذ نعمل في اتجاهين , اتجاه نشر الوعي الإسلامي بين الناس واتجاه مقاومة الشيوعية في المدارس وخارجها وكنا نجادلهم حتى أن الجماعة يومئذ كلفت الأستاذ نظام الدين عبد الحميد بإلقاء محاضرة عن الماركسية فينا ثم الذهاب إلى الطلبة الشيوعيين ومناقشتهم وردهم .
ويقول: لقد كان نشاط الرعيل الأول من الشباب في الأعظمية واسعا بحيث انضم تحت لواء الدعوة الكثير من الشباب المسلم الذين كان يتلهفون إلى من يرشدهم إلى الإسلام الصحيح ليجادلوا المنحرفين والملاحدة بحقائقه الناصعة .
ويقول: كانت مجلة (الإخوان المسلمين) التي كانت تصدر في مصر خير دافع لنا في تلقف واستيعاب أحكام الإسلام في شتي المجالات من ميادين الحياة كما كنا نراسلها في كل ما يصعب علينا تفسيره من مواقف الإخوان في مصر باعتبارهم الطليعة للدعوة الإسلامية .

وكانت هذه المجلة تباع علنا في مكتبة المرحوم الحاج (إبراهيم عبد الرزاق الكتبي الأعظمي) حيث كان حريصا على جلب كل مطبوع إسلامي لنشر دعوة الإخوان وترويجها بين الشباب بغض النظر عن الربح والخسارة .

ويقول الأستاذ عبد الكريم:

لقد توطدت علاقتنا الإيمانية مع عدد من طلاب دار العلوم في الأعظمية من إخواننا الأكراد حيث كانوا خير سند لنا في دعوتنا الإسلامية وخير مشجع لنا على المضي في نشر الوعي الإسلامي وجهاد الملحدين وأخص بالذكر منهم الأخ نظام الدين عبد الحميد والأخ عبد الله الحاج سليم والأخ عادل شاكر .
ويقول: كنا ثلاثة في الأعظمية من أبرز الذين يقودون الدعوة في الأعظمية أنا والملا معتوق وصائب عبد المجيد.

وكانت اتصالاتنا تجري في جامع الإمام الأعظم من بعد صلاة العشاء من كل خميس وربما كان يستضيفنا بعض الإخوة من الطلاب الأكراد في القسم الداخلي لدار العلوم كما كنا ننتهز فرص الاحتفالات الدينية التي كانت تقيمها الجمعيات الدينية كالهداية الإسلامية أو الشبان المسلمين فنهرع للانضمام إلى تلك الاحتفالات بغية تكثير الشباب المسلم ومن ثم جلبهم إلى جماعة الإخوان المسلمين .

وأما الأستاذغانم حمودات فيتحدث عن هذه الفترة الأولي فيقول كانت مجلة الإخوان المسلمين تصل إلى العراق فيما يصل إليه من مجلات وجرائد وكتب مصرية .

وقد استهوت مبادئهم ونشاطهم وغيرتهم على الإسلام كثيرا ممن كانت المجلة تصل إليهم أو زاروا مصر واتصلوا بالجماعة وبالإمام المرشد عليه الرحمة والرضوان حتى إن جريدة (فتي العراق) الموصيلة نشرت منهاج الإخوان في أكثر من عدد في سنة 1945 م

ومن استهوتهم مبادئ الإخوان ونشاطهم وغيرتهم على الإسلام السيد (عبد الرحمن سيد محمود) حتى إنه تقدم بخمسة آلاف جنيه مساهمة منه ومن طيبين من أهل الموصل في شراء المركز العام وقد كلفه الإمام المرشد بأن يكون هو المراقب العام في العراق فاعتذر بأنه ليس عالما وهذا المنصب لا يصلح إلا لعالم .

وما يتصل بهذه الفترة في الموصل انه كان هنالك مدرس مصري أسمه (أحمد كامل المنوفي) في ثانوية الصناعة في مطلع الأربعينيات كان يشجع قراءة مجلة [[الإخوان] التي كانت تصل إلى مكتبات الموصل وتباع علنا وأما انتشار الدعوة في مدينة أربيل؛

فيحدثنا الأستاذ عبد الوهاب الحاج حسن فيقول:

(وفي العطلة الصيفية من عام 1945 م حملنا الدعوة إلى أربيل وأول من اتصلنا به كان العالم الديني فضيلة الملا صالح الكوزه بانكي أمام مسجد نور الدين وكان هذا عالما شهيرا له بعض المؤلفات وشرحنا له بإيجاز أهداف الدعوة وأغراضها ..
فرحب بنا كثيرا ووضع المسجد تحت تصرفنا فنظمنا في هذا المسجد اجتماعات يومية بعد صلاة المغرب وكثر الذين تقبلوا الدعوة وضاق المسجد بنا فانتقلنا إلى تكية الشيخ محي الدين الشيخ صالح وكان هو إنسانا فاضلا يشع نور الإسلام من سحناته فرحب بنا ووضع التكية تحت تصرفنا أيضا) .

وأذكر فيما يلي بعض الأنشطة التي مارسناها في سبيل نشر الفكرة:

  1. مكافحة الأمية: أعلنا عن فتح مدرسة لمكافحة الأمية في مدينة أربيل وذلك في بناية مدرسة أربيل الأول الواقع قرب مصرف الرافدين فأقبل الأهلون بالالتحاق بهذه المدرسة وتطوع عدد من المدرسين والمعلمين للتدريس فيها مجانا منهم الأستاذ المرحوم نشأت محمد صفوة وعادل مصطفي والمرحوم عبد الله الحاج سليم والمرحوم جهاد عبد الرزاق وأنور محمد الدباغ وأنا وغيرهم وفي أثناء التدريس كنا نشرح للطلبة مبادئ الإسلام ودعوة الإخوان .
  2. كنا نزور القرى القريبة من أربيل ونلقي الكلمات والخطب المناسبة لنشر الدعوة .
  3. وفي كل المناسبات الدينية كذكري ولادة المصطفي صلي الله عليه وسلم وهجرة الرسول ومعركة بدر ومعركة أحد وفتح مكة والإسراء والمعراج وغيرها كنا نقيم احتفالات كبيرة لتفهيم الناس حقيقة الإسلام وكيف إنه يلائم كل زمان ومكان ويقدم حلولا صحيحة وصائبة لمشاكل العالم كالفقر والجهل والمرض وكيف أن تعاليمه تنظيم الشؤون السياسية والاقتصادية والثقافية .

كتبت رسالة إلى الأستاذ حسين كمال الدين في القاهرة وشرحت فيها كل ما قمنا به خلال العطلة الصيفية ووصلتني رسالة جوابية يقول فيها:إنه عرض رسالتي على الأستاذ البنا وفرح بذلك كثيرا وقال : (الله أكبر ولله الحمد) لقد انتشرت الدعوة بين الأقوام الأخرى أيضا بارك الله فيهم أرجو تبليغ سلامي إليهم .

وفي هذه الفترة أيضا يدخل طلبة الإخوان في مواجهة مشهودة مع تيار الفساد الذي كان يشجعه الإنجليز في بغداد .

وسبب ذلك أن عميد الكلية الطبية في بغداد الدكتور (سندرسن) الإنجليزي يأذن بإقامة حفلة مختلطة ليلية بحدائق الكلية فتدور كؤوس الخمر ويسود الرقص الماجن وتستمر الحفلة إلي الصباح وهنا يلجأ الإخوان إلى مسئولهم عبد الوهاب الحاج محسن

فكيتب مقالا ينشره في جريدة السجل للأستاذ المرحوم محمد طه الفياض بعنوان (حدود الاستهتار) يفضح فيه هذه الحفلة الماجنة على الوجه الآتي :

يشاهد المرء بين حين وآخر بعض الحوادث المخزية والأعمال السيئة التي تذكي في نفسه جذوة الثورة ضدها ومكافحتها والوقوف في وجهها فإن هو سكت عنها فكأنما كبت شعوره قسرا وكأنما شاطر الذين يقومون بها .
وإنني أتحدث هنا عن مثال لهذه الأعمال يتجسم في حفلة قام بها طلاب وطالبات كلية الطب والتي كانت حقا دليلا ساطعا على تدهور الأخلاق والانحطاط فيها إلى درجة مؤلمة:
بدأت الحفلة مساء وقد حضر جوق بغدادي وأخذ يعزف الموسيقي التافهة والألحان الساقطة حتى منتصف الليل وكانت الرقصات الخليعة والأدب المكشوف والأغاني المهيجة للشهوات سائدة خلال هذه المدة .
وبعد منتصف الليل انصرف العميد وآخرون ودارت على الباقين كؤوس الخمر إلى فقدوا وعيهم فكانوا يتمايلون ويتخبطون على وجوههم حتى الساعة الرابعة صباحا ثم غلبهم النعاس والنوم فإذا بهم مشتتون هنا وهنا هائمون يتمرغون على الأعشاب وعلى الأرض الخالية إلى وقت متأخر من النهار .

بهذه الصورة المزرية انتهت الحفلة التي أقامها أرقي معهد من معاهدنا العالية ..ثم يتحدث المقال عن قيمة الأخلاق في المجتمع وكيف أن فرنسا انهارت أمام ألمانيا نتيجة لفساد أخلاق جيلها الناشئ وكيف أن بلادنا تحتاج إلى البناء والأعمال ونشر الفضائل حتى تستيقظ من تأخرها .

ويدعو المقال في الأخير إلى التمسك بالأخلاق الإسلامية حتى يتكون جيل قوي يستطيع إنقاذ البلاد من أيدي الأعداء .ولقد كان لهذا المقال تأثير كبير نزل كالصاعقة على عميد الكلية والطلبة الذين أقاموا ذلك الاحتفال فهاجوا على طلبة الإخوان وعلى رأسهم داوه الصانع .

فلما ذهب هو وبعض إخوانه إلى العميد الإنجليزي يشكون إليه هذا الاعتداء فبدل أن ينصفهم قال لهم بالحرف الواحد:(كان يجب عليهم أن يحرقوكم ولا يكتفوا بضربكم) .

لقد كان ظهور الإخوان في هذه الفترة مفاجئة للحركة الشيوعية في العراق لأنهم كان من قبل منفردين بشباب الأمة لم ينافسهم في ذلك منافس قوي وكانوا يقودون شباب الأمة إلى الإلحاد اللادينية والحياة اللاهية في ضوء ما كانوا يؤمنون به من مبادئ؛

فلما ظهرت دعوة الإخوان وبدأت تنتشر بين الشباب خاف الشيوعيون على مستقبلهم وعرفوا أن معرفة المسلمين للإسلام الحق الذي يعرضه الإخوان كفيل بالقضاء عليهم فبدأوا يكتبون في صحفهم السرية مقالات يهاجمون فيها الإخوان ويفترون عليهم من منطلق قاعدتهم (اكذب اكذب حتى يصدقك الناس) .

يقول الأستاذ عبد الوهاب الحاج حسن نشرت احدي الجرائد السرية الشيوعية مقالا قالت فيه :

(في الآونة الأخيرة أخذت تنتشر بعض الدعوات المشبوهة في العراق غايتها ضرب مبادئ التقدمية والإضرار بالحركة خدمة للاستعمار الأجنبي .
ومن بين هذه الدعوات ما تسمي بدعوة (الإخوان المسلمون) فقد أخذ أحد القادمين من مصر واسمه (حسين كمال الدين) بنشر مبادئ الإخوان وعقد اجتماعات سرية في البيوت. مع العلم أن الإنجليز يدعمون هذه الجماعة ويصرفون عليها بسخاء لمكافحة الأفكار التحررية والمبادئ .والذي يمكن أن نستخلصه مما عرضنا بين عامي (1941-1946م)

أن دعوة الإخوان المسلمين وانتشرت في بغداد والموصل والبصرة وأربيل واحتك الإخوان بالمجتمع الذي حولهم ودخلوا في صراع فكري مع الفساد الاجتماعي وقارعوا المبادئ الشيوعية التي لم يكن أحد يستطيع أن يقف أمامها إلا شباب الإخوان ثقافتهم الإسلامية المتواضعة وروحهم الإيمانية العالية ومعرفتهم بأفكار أعدائهم المنحرفة .

ومن الإنصاف أن أقول إن المؤسس الحقيقي لدعوة الإخوان في العراق هو الدكتور حسين كمال الدين المصري الأستاذ في كلية الهندسة في بغداد والدلائل كلها تشير إلى أنه كان ذا تأثير كبير وعقلية تنظيمية محكمة بحي استطاع بهدوئه وإخلاصه أن يؤثر في طلبته في كلية الهندسة وفي كليات أخري عبر لقاءاته بهم واجتماعاته المستمر معهم وتوجيهه وتثقيفه إياهم في الدور التي كانوا يجتمعون فيها في محلة السفينة .

في الأعظمية ولا سيما دار الملا معتوق وعدنان ورانية رحمها الله تعالي.

الفصل الثاني:رجوع محمد محمود الصواف إلى العراق

عندما رجع الأستاذ محمد محمود الصواف من مصر عام 1946م وجد أمامه أرضا موطدة تمثلت في شباب رباهم الدكتور حسين كمال الدين وصاغهم صياغة إخوانية جيدة منتشرين هنا وهناك في المدن التي ذكرناها فبذل جهدا طيبا في دفع عجلة الدعوة إلى الأمام فتكوينه المبكر في الموصل ومصر وقدراته الذاتية قد ساعدته على تحقيق ما كان يصبو إليه .

والآن لنتعرف على هذه الشخصية القوية العاطفية الذي تولي قيادة هذا النشء الجديد في العراق والنتائج التي توصل إليها .

حياته:

ولد محمد محمود الصواف عام 1333 هـ 1915م من أسر صالحة معروفة في الموصل بعائلة الصواف كانت تشتغل بالتجارة والفلاحة يرجع أصلها إلى (حائل) وينتمي إلى قبيلة (طي) العربية المشهورة فرع شمر نزحت من الجزيرة العربية قبل مائتي سنة واستقرت في مدينة الموصل العربية المسلمة .
نشأ في المساجد منذ أن فتح عينيه على الحياة يصلي الفجر في الجامع ودس سنين على يد العلامة الشيخ عبد الله النعمة وأخذ منه الإجازة العلمية ودرس كذلك على العالم الجليل الشيخ صالح الجوادي وكان في المساء يدس في المدارس الحكومية ثم ظهر نشاطه الملحوظ بعد انتسابه إلى جمعية الشبان المسلمين في الموصل .
وكانت بيئة الموصل يومئذ إسلامية إيمانية علمية جهادية تناصر الخلافة الإسلامية العثمانية ضد الإنجليز .
أسس الصواف في الموصل جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعاونة أصدقائه عبد الرحمن السيد محمود واشتغل معلما للغة العربية والدين في مدرسة من مدارس وزارة المعارف وقام ببث حقائق الدين الإسلامي بين الطلاب .ذهب الصواف إلى جامعة الأزهر عام 1939م ضمن بعثة مديرية الأوقاف العامة .
ولما قامت الحرب العالمية الثانية رجعت البعثة إلى العراق ثم أرسلت البعثة مرة أخري على نفقة الثري (مصطفي الصابونجي) فقطع الصواف ست سنوات بثلاث سنوات بقرار من الشيخ مصطفي المراغي شيخ الأزهر مرة؛
وبقرار من المجلس الأعلى للأزهر مرة ثانية ثم واصل دراسته في اختصاص القضاء الشرعي بقرار من الشيخ مصطفي عبد الرازق شيخ الأزهر ورجع إلى بغداد عام 1946م

اتصاله بالإمام حسن البنا

كان أول لقاء للصواف مع الإمام حسن البنا رحمه الله تعالي في مسجد محمد فاضل باشا في القاهرة حيث ذهب هو وأعضاء البعثة للقائه فبعد أن نزل البنا من المنبر تقدم إليه الوفد وسلموا عليه ثم أخذهم الإمام معه إلى دار الإخوان المسلمين في الحلمية ..
وكان الإمام الشهيد يستقبله استقبال الوالد لوالده , وأرسل إليه كتابا خاصا يتضمن انتخابه في الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين في مصر .
وقب عودته حضر اجتماعا حاشدا للإخوان عرض فيه الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد وضع العراق وكيف أنه ليس مقرا للدعوة ولا يصلح لها بسبب الفساد الذي استشري والإلحاد الذي انتشر والشيوعية التي أخذت زمام الشباب؛

فتصدي له الصواف عندما أعطيت له الكلمة بحضور الإمام البنا فقال:

(يؤسفني أن أسمع هذا الكلام من رجل داعية ييأس من بلد مسلم فيه الملايين من المسلمين وله تاريخ حضاري قديم وأنجب العلماء والفطاحل والأدباء والأئمة بلد الإمامين الكبيرين أحمد بن حنبل وأبي حنيفة النعمان رضي الله عنهما وقلت له إن شاء الله ستري الدعوة في كل بيت وفي كل قرية وفي كل مدينة وقد رفعت أعلامها في العراق وستري شباب العراق مع شباب مصر ومع شباب العالم وجها لوجه ويد بيد قلبا بقلب .وكانت الهتافات تعلو فضل الله وتؤيدني فيما أقول)

ثم قفل الصواف راجعا إلى العراق بعد أن أكمل دراسته الأزهرية كما ذكرنا من قبل فلما أرادوا تعيينه قاضيا براتب (75) دينارا لم يقبل وفضل عليه التعيين في كلية الشريعة مدرسا بـ (25) وبعد تعيينه في كلية الشريعة اتصل بالعلماء والفضلاء يستشيرهم ويدفعهم إلى العمل..

ودخل في جمعية الهداية الإسلامية التي كان يرأسها مفتي العراق الشيخ قاسم القيسي وجمعية الآداب الإسلامية التي كان رئيسها العلامة المجاهد الرباني الزاهد الشيخ أمجد الزهاوي الذي وضع يده في يد الصواف وجاهد معه وأعطاه ثقته المطلقة وانطلقا معا إلى العمل الإسلامي المنتج في داخل العراق وخارجه .

وكان لتعاون الشيخ الزهاوي مع الصواف أثر بعيد في الدعوة إلى الإسلام في العراق لأنه كان موضع احترام الشعب العراقي كله علما وإخلاصا وزهدا وفناء في خدمة الدعوة وصدقا مع الله في جميع مراحل حياته وكان العلماء يقفون عند رأيه ولا يتجاوزونه أدبا واحتراما .

حدثني الشيخ عبد الغفور الهيتي قال:

كنت أعبر سوق السراي في بداية الخمسينيات فواجهت الشيخ قاسم القيسي فسلمت عليه وقبلت يده وبينما كنا نتحدث إذ التحق بنا الشيخ نوري الملا حويش رحمه الله فقال للشيخ القيسي:أفندي أما تسمع ماذا يفعل الصواف ؟ قال:وماذا يفعل الصواف ؟ قال:ترك مقام العلم وذهب بهيبة العلماء بمجالسته للشباب واختلاطه معهم ... الخ .
قال الشيخ عبد الغفور: فالتفت إلى الشيخ القيسي فسألني:وماذا يقول:أفندينا (يعني الزهاوي) قال فقلت:يا شيخنا:الشيخ أمجد يسانده ويؤيده ويجلس معه بين الشباب قال:فرفع الشيخ القيسي يده إلى السماء فقال:اللهم إني أؤيده أيضا .

وكان الشيخ الزهاوي رحمه الله تعالي مطلعا إطلاعا جيدا على دعوة الإخوان المسلمين ومنهج الإمام الشهيد حسن البنا فقد التقي به في القاهرة في المؤتمرات الإسلامية التي كانت تقام هناك وقد رأيت في أحد الكتب صورة تجمع بين الإمام الشهيد والعلامة الزهاوى ورأيت ورقة بخط الأستاذ إبراهيم المدرس يسأله عما يأتي :

الجواب: هم جماعة من خير خلق الله يعلمون الناس الخير ويدافعون عن الشريعة الغراء ويسعون في تكثير أمثالهم .
  • ما رأي سماحتكم في من يعمل مع جماعة الإخوان؟
الجواب: إن العامل مع جماعة الإخوان المسلمين مأجور ومن يدخل معهم ويسعي في تكثيرهم له عند الله منزلة عظيمة.
الجواب: هو آثم وصاد عن سبيل الله وقد وقع الورقة الشيخ أمجد .

ولما ضاق بعض رجال جمعية الآداب الإسلامية ذرعا بالصواف والشيخ أمجد بعد ما رأوا أن شباب الإسلام قد التفوا حولهما قاموا بالالتفاف عليهما حيث أتوا في الانتخابات بعناصر غير منتسبة فنسبوها في اليوم نفسه وأجروا الانتخابات وأسقطوا الصواف .

حينئذ فكر الصواف بتأسيس جمعة الأخوة الإسلامية بالتعاون مع الشيخ الزهاوي والعلامة الشيخ محمد القزلجي والعلامة الدكتور تقي الدين الهلالي والشيخ إبراهيم الأيوبي والسيد محمد عاصم النقيب نقيب الأشراف في بغداد وآخرين وهذه الجمعية في الحقيقة كانت عبارة عن (الإخوان المسلمين) لأنه لم يكن باستطاعة أحد أن يؤسس يومئذ جمعية باسم جمعية موجود خارج العراق بحكم القانون .

وقد روي لى الأستاذ عبد القادر الجنابي قصة تزوير الانتخابات في جمعية الآداب الإسلامية وإبعاد الأستاذ الصواف وكيف أنهم تأثروا وخرجوا وفكروا في تأسيس جمعية خاصة بهم بعد أن رأي الأستاذ الجفاء من الشيخ كمال الدين الطائ وإسماعيل الراشد وغيهم رحمهم الله تعالي الذين كانوا يتكلمون في مجالسهم على الصواف وينتقدونه وهؤلاء كانت عندهم نزعة قومية بينما دعوة الشيخ أمجد والأستاذ الصواف كانت دعوة إسلامية خالصة .

شخصية الصواف

كان الصواف حركة دائبة ينتقل بين محافظات العراق شرقا وغربا وشمالا وجنوبا يبني يوجه وينسق للوصول إلى صياغة الجيل صياغة إسلامية شاملة ولابد لنا أن نلجأ هنا إلى إخوانه الأوائل المؤتلفين منهم له والمخالفين ونسمع شهادتهم .

يقول الأستاذ المحامي نور الدين الواعظ:

(كان الأستاذ الصواف مخلصا لدينه ،عاكفيا ،صادقا مع إخوانه وكان وفيا ،وغيورا على الإسلام بعيدا عن المقاصد الشخصية ولم يكن يؤمن بالقومية نهائيا لا يفرق بين إخوانه من العرب والأكراد والتركمان)

ويقول الأستاذ غانم حمودات:

(إنه كان يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه لقد رأيت من إخلاصه وعلو همته وغيرته وحبه للعمل واستغنائه عن الناس وصبره ومصابرته واهتمامه بأمور المسلمين وجهده وجهاده في سبيل قضيتي فلسطين والجزائر وغضبه إذا انتهكت حرمات الله أو تكلم إنسان في وجهه ينتقض الإسلام ومشيه في حاجات الناس وبخاصة حاجات إخوانه هذه وأمثالها من طيب صفاته ما يصح أن يقتدي به)

ويقول الأستاذ عبد الوهاب الحاج حسين:

(المرحوم الصواف غني عن التعريف , فقد كان مسلما صادقا منذ صباه وإلى حين وفاته نذر نفسه لخدمة الإسلام ونشر مبادئه ووقف جهده وماله في سبيل إعلاء كلمة الله)

ويقول الأستاذ إبراهيم منير المدرس:

(لم أجرب عليه إلا طيبا لم يكن عنده إلا هم واحد وهو هم الإسلام والمسلمين كان متواضعا في كل تصرفاته ولم يكن يملك إلا ضروريات الحياة في بيته ويسكن في بيت صغير يعود إلى خال أولاده سالم الأطرقجي ولم يكن يأخذ منه أجرا ولم يكن عنده مورد إلا راتبه ولم يكن يحمل في صدره حقد على أعدائه وكان كريم النفس يستقبل زوار بغداد من العالم الإسلامي في بيته وأذكر منهم:نواب صفوي ومحمد أسد وكذلك إخوانه)

ويقول الأستاذ الشاعر وليد الأعظمي:

(وجاء أبو مجاهد فبهرنا به خلقه وخلقه وبيانه كان متواضعا عالما لم يتفرغ للعلم وإنما للدعوة كان ذكيا وفيا و يعرف الإخوان بأسمائهم وكان يحضر جميع المناسبات الاجتماعية حتى لأفقر الإخوان وحضر مرة مباريات فرق الإخوان في ساحة الكشوف ووزع الجوائز ولم يهتم لاستنكار بعض العلماء لهذا التصرف من معمم.
كان فقيرا وكانت له علاقات واسعة مع الكل ولم يكن يتردد في أى عمل تكون فيه مصلحة الدعوة الإسلامية ولم يكن عنده أى ميل قومي بالاختصار كانت تتوفر فيه شرط القيادة وكان يستشير كبا العلماء وعلى رأسهم شيخنا العلامة أمجد الزهاوي رحمه الله تعالي)

ويقول الأستاذ عبد القادر الجنابي:

(كان الأستاذ متحمسا خطيبا مفوها يلقي حماس وصدي في نفوسنا كان هو النافخ فينا والعلماء لم يستطيعوا ما فعله الصواف كان متواضعا وكان فقيرا له سهم في محل صغير للخياطة في شاع الرشد مع رجل فلسطيني هو المرحوم أحمد الزقة والصواف في رأيي فعل الكثير)

وأما الأستاذ داود العيثاوي والأستاذ عبد الملك أمين فقد أيدا كل ما قرأت عليهما من الشهادات السابقة وقالا: (نحن رأينا كذلك)

والآن لنستمع إلى اثنين مما انتقدوا الصواف في حياته أيام الخمسينيات:

الأستاذ محمد سالم زيدان:

يقول : " كان الأستاذ الصواف دمث الأخلاق مجاملا يتفقد إخوانه وكان متواضعا بسيطا في مسكنه ومأكله وأموره وكان نظيفا في حياته وكان الصواف مثل خيط السبحة بالنسبة للإخوان)
لما سألته عن سبب الخلاف بينه وبين الأستاذ الصواف أجابني: بأنه كان يعتقد أنني أؤيد المنشقين على الدكتور السباعي في سوريا وكذلك كان يعتقد أنني وراء تكتيل بعض الإخوان ضده لإزاحته من المراقبية العامة .
ويعلق الأستاذ نور الدين الواعظ: إن خلاف الأستاذ محمد سالم زيدان كان شخصيا مع الأستاذ الصواف ولم يكن فكريا وينكر الأستاذ سالم ذلك.

أما الأستاذ محمود شريف وهو من الذين اصطدموا مع الأستاذ الصواف اصطداما عنيفا وفصل لمدة شهر ولم يرجع إلى التنظيم الإخواني بعد ذلك :

يقول: (كان دمث الأخلاق جدا وكان نظيفا في كل شئ حتى في صلاته مع الوزراء الذي كان يقابلهم ولم يكن عنده أى تعصب قومي ولا طائفي)

والحق أنني استطلعت رأي الكثيرين من قدماء الإخوان في الأستاذ الصواف وذكروا تلك الأوصاف عينها التي ذكرتها سابقا .

وختاما أقول نعم كان الأستاذ الصواف دمث الأخلاق متواضعا نظيفا فانيا في الدعوة الإسلامية صاحب غيرة شديد إذا انتهكت محارم الله لا يعرف الحقد إلى قلبه طريقا أبدا يعرف للإخوان سابقتهم للدعوة ويحرص عليهم ويدافع عنهم وكان شخصية مفتوحة محبوبة عقد علاقات صداقة واسعة مع رجال الفكر والسياسة في العراق .

أما عن موضوع عدم الحقد على أحد عنده فأروي ما يأتي:

(كان أخي الأستاذ نظام الدين عبد الحميد من الرعيل الأول في الدعوة الذين كونهم في بغداد الدكتور حسين كمال الدين كما سبق ذكره وكان مسئولا عن شعبة الإخوان في أربيل بين سنتي 1955 -1960 م فجلس يوما فكتب بقلمه الرصين كتابا قويا موجها إلى الصواف ينقده ويقارنه بالإمام حسن البنا في أقواله وأفعاله وكانت عباراته قاسية في مقاطع منها)

ولما وصلت تلك الصفحات الطوال من النقد إلى الأستاذ الصواف دعا إلى اجتماع طارئ للجنة المركزية طلب من أحد الحاضرين أن يقرأ الكتاب لى ما حدثني به الأستاذ إبراهيم المدرس.

فلما استمعوا إلى ما ورد في الكتاب تأثروا وتألموا من قسوة النقد وطلبوا بالإجماع فصل الأستاذ نظام الدين من الدعوة فاعترض عليهم الأستاذ الصواف بشدة وقال : مثل نظام الدين في إخلاصه وسابقته لا يمكن أن يفصل وأغلق الموضوع .

وقد سألت أخي نظام الدين بعد سنوات طويلة على مذكرته تلك التي قدمها ناقدا الأستاذ الصواف هل ما زلت تعتقد بكل ما كتبت ؟ قال : لا لقد تبين لى إنني كنت قاسيا في كثير مما كتبت يومئذ .

ويقول: ويعد حوالي شهين جئت إلى بغداد ودخلت المركز العام فلما رآني الأستاذ الصواف قام مستقبلا وحضني ببشاشته المعهودة ولم يشعرني قط بأنني جرحته في مذكرتي كأن شيئا لم يحدث .

وظل هو يحب نظام الدين ويسأل عنه أول ما يراني في زياراتي للرياض أو لمكة المكرمة .ولقد لقيته ثلاث مرات مرة في عام 1970 م عندما ذهبت إلى الحج فزرته في بيته في مكة المكرمة فطار فرحا بلقائي وسأل عن كل أخ كان يعرفه في العراق .

ولقيته مرة ثانية عندما اشتركت في مؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقد في الرياض عام 1976 م فقد فرح بلقائي وقدمني إلى كل من يعرفه من العالم الإسلامي بأفضل ما يقدم أخ أخاه إلى الناس .

والتقيت به في المرة الثالثة عندما دعيت عام 1985م إلى إلقاء محاضرات على طلبة الدراسات العليا في قسم الثقافة الإسلامية من كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية؛

فلما أردت أن أذهب إلي العمرة قال لى الأخ الدكتور حسين خلف الجبوري في الهاتف عندما اتصلت به من الرياض إن الأستاذ الصواف عرف بوجودك في الرياض وهو يجب أن يراك فسأدعوه غدا إلى الغذاء معنا فلما أديت مناسك العمرة وجدته ينتظرني تحت (المكبرية) واقفا متكئا على عصاه؛

فلما رآني انفتحت أساريره من الفرح ولما التزمني اغرورقت عيناه بالدموع فجلسنا في بيت الأخ الجبوري حوالي ثلاث ساعات فرأيت منه الترحيب والتواضع والسؤال والفرح بكتبي وما اكتب في المجلات والجرائد الكثير وكان يسأل عن كل شئ في العراق فلقد كان يحب بلده وإخوانه حبا شديدا وكان أمله أن تكتحل عينه برؤية بغداد والعراق كله قبل الرحيل البدي ولكن وأسفاه ولم يتحقق أمله هذا .

ووفاؤه لإخوانه لم يكن يوصف فلقد حدثني أخي نظام الدين الذي كان يزوره يوميا في مصيفه في تركيا قبيل وفاته بأيام فقال : كان دائم السؤال عنك كلما رآني .هذا هو الصواف الأخ المتواضع الداعية الثبت المسلم الغيور والرجل النظيف فرحمة الله عليه رحمة واسعة على كل ما قدم من خير في سبيل دينه وأمته.

العقبات في طريق دعوة الإخوان أيام الصواف:

منذ عام 1944 م بدأت دعوة الإخوان تنتشر في المجتمع العراقي ولا سيما في أوساط الطلبة الجامعيين والمدارس الثانوية فلفت كل ذلك النشاط نظر الشيوعيين الذين كانوا يريدون السيطرة على الشعب العراقي وتوجيهه نحو الإلحاد واللادينية والقضاء على المقدسات الإسلامية والتطلعات القومية في العراق خاصة والوطن العربي والعالم الإسلامي عامة فبدأوا بمهاجمة شباب الإخوان في صحفهم السرية كما مر بنا قبل صفحات .
والحق أنه لم تكن هنالك في الأربعينات جبهة فكرية تستطيع أن تقف أمام الشيوعيين غير شباب الإخوان المسلحين بالعقيدة الإسلامية والغيرة الدينية والثقافة المعاصرة .وظل الشيوعيون يعادون حرمة الإخوان بشدة ويثيرون الشائعات حولها مما أثر حتى في بعض الإخوان .

يقول الصواف:

(ووصل الأمر إلى أن أجرينا في بعض المرات محاكمة بسبب اتهامهم لى بالمشارك في عمل تجاري وتهريب سيارات تحمل أموالا تجارية وغيرها باسم الدعوة وربحت فيها من الأموال؛
وأجرينا محاكمة علنية في مدرسة الشيخ أمجد الزهاوي بالسليمانية في الليل في بغداد وحضرها أكثر من خمسة وعشرين أخا من كبار الإخوان والمسئولين فيها وفيهم المتهمون ...
وانتهت المحاكمة عند منتصف الليل بالبراءة المطلقة لشخصي وأخذ الشباب يبكون ويعانقونني ويعتذرون إلى بعد أن انكشف لهم الأمر وظهر الحق من الباطل والحمد لله)

وقد سألت الدكتور عبد الكريم زيدان في زيارتي في صنعاء اليمن في أوائل الشهر الخامس من عام 2000م فقال:كنت أنا الحكم وكان الأستاذ الصواف بريئا من التهم التي وجهت إليه .

ومن الأكاذيب التي أطلقها الشيوعيون في الخمسينيات لكي يخدعوا بها الناس أن الصواف يدعي الإسلام والفضيلة وابنته متبرجة سافرة في الكلية الطبية بينما كانت كبري بنات الصواف يومئذ في الابتدائية على ما يعرف الجميع .

ومرة كنت راكبا قطار أرجع إلى كليتي من كركوك إلى بغداد عام 1955م فإذا بي أسمع شابا يحد جمعا من المسافرين فيقول لهم :

(إن الصواف عميل أمريكا والدليل إنه أخذ خمسين ألف دينار من السفير الأمريكي في بغداد فاقتربت من ذلك الجمع فقاطعته فسألته أين تسلم الصواف هذا المبلغ قال في السفارة الأمريكية؛
فقلت : يا جماعة استعملوا معي عقولكم قال: نحن معك ،قلت : شخص مشهور مثل الصواف إذا أراد السفير الأمريكي أن يعطيه مبلغا هل من المعقول أن يدخل الصواف بعمامته إلى السفارة ويأخذ المبلغ ؟
قالوا: لا يمكن قلت : هب أنه دخل السفارة فهل من المعقول أن يسلم السفير هذا المبلغ أمام أشخاص حتى يذهبوا فيتحدثوا به للناس قالوا : لا يمكن ذلك .
فأسقط في يد هذا الشاب الشيوعي المخدوع فخرج من العربة التي كنا فيها إلى عربة أخري خجلا وهربا فانفردت والحمد لله بهؤلاء فبدأت أحدثهم عن الإسلام وحقائقه وأعرفهم بحقيقة الشيوعية والمبادئ اللادينية وكيف يحاربون الإسلام في أشخاص علمائه الصادقين ودعاته المجاهدين بمثل هذه الاتهامات الباطلة .

وقد استمرت هذه العداوة بعد ثورة 14 تموز وعندما استغل الشيوعيون الوضع الجديد الذي لم يصنعوه وإنما أرادوا كعادتهم في كل مكان أن يركبوا الموج ويغتصبوا الثورة فيسرقوها من الضباط المسلمين والقوميين المؤمنين وفعلا سيطروا على الشارع العراقي بعد أشهر قليلة من الثورة مستغلين انحياز عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء إليهم؛

فقاموا بأبشع المجازر في الموصل وكركوك واعتقلوا ألوف الناس في السجون والمعتقلات واعتدوا على الطلاب والطالبات في المدارس الثانوية والجامعات وكانت حصيلة الإخوان في ذلك الشئ الكثير منها أنهم هاجموا في باب العظم مقر الجماعة ومطبعتها فأحرقوها وقتلوا وأعدموا كثيرا من الضباط المسلمين؛

وفي الموصل وحدها قتلوا من الإخوان الشيخ هاشم عبد السلام وعبد الرزاق شنداله والفتاة المسلمة حفصة العمري وأبيها على العمري وسحلوهم جميعا في الشوارع وعلقوهم هم وغيرهم على جذوع الأشجار وقطعوا أجسامهم تقطعيا .

وقد واجه الإخوان في الأربعينيات والخمسينيات العداوة من بعض العلماء ووصل ببعضهم الأمر إلى تقديم التقارير إلى الحكومة العراقية يحذرها من الصواف والإخوان زاعما أن الصواف يريد أن يحدث ثورة شعبية عارمة في العراق .

حدثني الأستاذ عبد القادر الجنابي أنه دخل على الأستاذ الصواف يوما في جامع السليمانية في بغداد فوجده متألما جدا فلما استفسر عن سبب تألمه قال: أقرأ هذه الورقة يا أخي عبد القادر قال: فوجئت بأن الورقة الأولي رسالة من المرحوم سعيد قزاز وزير الداخلية يومئذ ....

موجهة إلى الأستاذ الصواف ومعها ورقة أخي عبادة عن تقرير لأحد العلماء المشهورين يومئذ في العراق يقول فيها لابد من اتخاذ إجراء حازم ضد الصواف لأنه يقود الشباب لإحداث ثورة في العراق فلما قابله الصواف وجد الوزير متألما مثله فقال له : قاتل الله المنافقين .

وحدثني الأستاذ جمعة نافع أن الناس سألوا يوما الشيخ عبد العزيز السالم عالم الفلوجة رحمه الله عن الإخوان عند ظهورهم فأطرق مليا ثم قال هم أفضل من الشيوعيين !!

قال: وتدور الأيام ويأتي الشيوعيون إلى الحكم فيلقون القبض عليه ويعذبونه قال فلما دالت دولتهم بسرعة جاء الشيخ إلى الرمادي ووقف أمام مكتبة الإخوان وقال: اللهم اشهد أني من الإخوان لما رأي من وقوفهم أماما الشيوعيون وما قدموه من الدماء والتضحيات في حين عجز علماء من أمثاله في المدة الطويلة في تنوير أذهان الناس وتعريفهم بحائق هذه الحركات الهدامة .

ولا شك أن هذا كان حسدا وكيدا واضحا من لدن هؤلاء البعض ذلك لأنهم وجدوا أنفسهم متقاعسين عن العمل لم يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتركوا الأمة تغوص في جهلها وجراحاتها .

فلما تقدم الصواف الصفوف وجمع شباب الإسلام وبدأ بتهيئة الصفوف مع إخوانه لصياغة الأمة صياغة إسلامية وقاد وهو معمم لأول مرة المظاهرات الصاخبة في الشوارع ضد معاهدة (بورتسموت) الإنجليزية الغاشمة وضد استيلاء اليهود على فلسطين بدأوا يتكلموا عليه ويطعنون فيه .

وواجه الإخوان في بداية الخمسينيات حركة قد ظهرت كانت تدعوه إلى إنشاء الخلافة الإسلامية قبل تربية الجيل المسلم حيث كانوا يؤمنون بالتثقيف الإسلامي وحده وكانوا لا يشترطون في قبول الأعضاء أداء الفرائض والعبادات؛

وكان شغلهم الشاغل مهاجمة الإخوان وأفكارهم وانشغالهم بمجادلات عقيمة في أماكن كثيرة وكان الإخوان يردون عليهم بأنه مسلمون والحمد لله ويعملون لإقامة شرع الله وتربية الجيل تربية إسلامية شاملة لتقوم بعد ذلك دولة الإسلام كي تعز المسلمين؛

وكانوا يقولون لهم: يا إخواننا أذهبوا إلى الشيوعيين والوجوديين والعلمانيين وجادلوهم وأدخلوهم إلي الإسلام من جديد واتركونا في حالنا ومع اجتهادنا .

والحق أن هؤلاء الذين كانوا معروفين يومئذ بـ (النبهانيين) أحدثوا ضد الإخوان فتنة كبيرة تحدث عنها الأستاذ الصواف في سجل ذكرياته بقوله (وكنا قد أصبنا أيضا بإسلاميين آخرين وأسأل الله أن يغفر لنا ولهم) ومن هؤلاء الذين ينادون بالدولة قبل الصلاة والصوم والدعوة .

وكان على رأسها الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله وقد حاولنا معه كثيرا للتعاون والاتفاق فلم نفلح وهؤلاء يسمون أنفسهم حزب التحرير باعتباره دعوة إسلامية ولكن لم يقم هذا الحزب إلا لمحاربة الإخوان المسلمين وكانت وظيفته الجدل وقد قلت لهم يا إخوة: اسمعوا لحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم:" ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أتوا الجدل "

وكانوا يجادلون الإخوان بالباطل ويتحدونهم وكل ما عملته تجاههم هو أني منعت الإخوان من الاتصال بهم منعا باتا وإلا لقامت بيننا وبينهم المعارك والخصومات .

ولم ينج الإخوان من هجمات الحركات القومية لا سيما في الخمسينيات وكانوا يتهمون الإخوان بالأممية الإسلامية وعدم العمل للقومية العربية ويتهمونهم بالرجعية لأنهم كانوا يدعوا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وهم كانوا يؤمنون بالمبادئ الأوروبية الحديثة وعلمانية الدولة والمجتمع بدعوي تحديث المجتمع العربي !!

واشتد الخلاف بين الأحزاب القومية والإخوان بعد الصدام الذي حصل بين جمال عبد الناصر والإخوان في مصر حينما زجهم في السجون والمعتقلات وأعدم عددا من قادتهم بعد رفض الإخوان اتفاق الجلاء مع الإنجليز وافتعال حادثة المنشية في الإسكندرية لاغتيال [[عبد الناصر]] .

ولكنهم (الإخوان والأحزاب القومية) اتحدوا جميعا ضد الشيوعيين في أثناء المد الأحمر عام 1959م مما كان له أبعد الأثر في منع الشيوعيين من السيطرة على الحكم لأن الصراع يومئذ تحول إلى جبهتين جبهة الشيوعيين الذين كانوا يريدون إقامة حكم شيوعي تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي وجبهة أخري من القوميين والإخوان كانوا يريدون الحفاظ على عقيدة وتراث وتراب الوطن كل حسب توجهه .

ملاحظات حول قيادة الصواف:

على الرغم من اعتراف الرعيل الأول من الإخوان لكثير من فضائل الصواف وقيادته التي سبقت في الصفحات الماضية إلا أنهم يسجلون بعض الملاحظات في شخصيته التي غدت بعد وفاته رحمه الله ملكا للدعوة للاستفادة منها لمستقبل الحركة الإسلامية وهي تكافح وتجاهد في سبيل إحداث النهضة الإسلامية المنشودة في العالم الإسلامي كله .

لنرجع إلى الأستاذ نور الدين الواعظ ليقول:

(على الرغم من جوانب الأستاذ الصواف الحسنة التي ذكرناها إلا أنه كانت تنقصه الخبرة بالتنظيم الدقيق لتكوين الجماعات وهذا أمر خطير ولا سيما في أوائل تكوين الجماعات التي تريد أن تلعب دورا خطيرا في الحياة الاجتماعية وعند سألته عن علميته قال : كان الرجل ذكيا لكن علميته الإسلامية لم تكن معمقة لانشغاله الدائم بأمور الدعوة وكان يغلب عليه المنهج الخطابي المؤثر أى أنه كان خطيبا جماهيريا منهجيا)

وعندما سألت الأستاذ عبد الكريم الوهاب عن هذا الجانب أجابني لا شك أن الأستاذ أن الأستاذ الصواف كان من أثقف وأكفأ العراقيين عندما رجع من مصر وسلم المسؤولية غير أنه اعتمد على العناصر المستجدة وأهمل الذين كانت عندهم سابقة في الدعوة قبل مجيئه؛

وقد أدي هذا الإجراء إلى انقباض بعض الإخوان من ذوي المسؤولية ومنهم الشيخ معتوق فقد شعروا أنهم أصبحوا على الهامش ولا سيما أن بعض الذين اعتمد عليهم أحدثوا فتنة كبيرة في الدعوة وعليه بالذات .

ويزيد الأستاذ الوهاب (كان الأستاذ الصواف صافي القلب يخدع ببعض الناس بسرعة) وفي مقابلتي للأستاذ محمد زيدان قال : كان الأستاذ الصواف سريع التصديق بما يصل إليه .

وأما الأستاذ وليد الأعظمي فيقول: لم يكن اهتمامه ينصب على التنظيم وإنما كان يريد جمع الناس على الإسلام .

استنتاج:

لو وازنا بين إجماع الإخوة الأوائل الذين عملوا مع الصواف مع بعض الملاحظات السلبية التي أبداها بعضهم في حقه نجد أن الجوانب السلبية التي ذكروها في شخصية الصواف تبدو صغيرة بجانب الجوانب الايجابية الكبيرة والرجل لم يكن معصوما وتجربته كانت تجربة فريدة من نوعها في العراق في ذلك الوقت وطبيعة العصر تفرض على الإنسان أحيانا تصرفات معينة (وكل ميسر لما خلق له)
ولكن مع ذلك هنالك هنات وأخطاء سببت في تاريخ الإخوان في العراق انشقاقات لم تكن في صالح الجماعة وأصحابها نفذوا من خلال بعض الشروخ التي كانت تحدث هنا وهناك .

الانشقاقات في زمن الصواف:

الدعوات في مراحل منها يدخلها بعض النفعيين رجاء الوصول إلى مغنم أو رئاسة فتثبت الأيام أنهم ليسوا من أرباب الدعوات ومن المؤكد أن أحد أسباب نفوذ مثل هؤلاء سلامة صدر قائد تلك الجماعة أو ذلك التنظيم .
والانشقاق الأول الذي حدث في كيان الجماعة كان في الأعظمية حيث دخل الجماعة رجل اسمه (حسين أحمد الصالح) واستطاع بذكائه وتزلفه أن يتقرب من الأستاذ الصواف فاحتضنه وقدمه على الرعيل الأول في الأعظمية منذ تسلمه القيادة؛
مما أدي إلى نفور وبرود عدد من الإخوة القدماء الطيبين وقد حذر الملا معتوق وعبد الكريم الوهاب وغيرهما الأستاذ الصواف منه فلم يفد.

يقول الأستاذ عبد الكريم الوهاب:

(كان حسين أحمد الصالح مفطورا على حب السيطرة والاعتزاز بالنفس وكان يأخذ بالظن ويحكم بالهوى وقبل أن يصطدم بالصواف نفر الكثير من الإخوان من الدعوة ورماهم في اليأس والقنوط ويبدو أن أمراضه النفسية هي التي جعلته يتصرف بلا دراسة)

ويقول الأستاذ نور الدين الواعظ:

(حسين أبو علي لم يكن طبيعيا عصبي المزاج كان مستبدا في الرأي عند الخلافات يجر شعر رأسه في حركة هستيرية وكان له السيطرة على الناشئة وكان ينقد كل من يخالفه نقدا لاذعا كان يتألم لرفض آرائه لم يكن له استعداد لقبول أى رأي يخالف رأيه ثم انشق على الجماعة وأخذ معه الكثير) .

ويؤيد الأستاذ إبراهيم المدرس هذه الآراء فيقول:

(كان حسين أبو علي رجلا متعصبا في رأيه حقودا جدا ويحب الظهور وكان يحسد الأستاذ الصواف بالذات على الرغم من أنه هو الذي عينه واعتمد عليه مسئولا في شعبة الأعظمية)

ولما سألت الأستاذ وليد الأعظمي قال:

(أبو على خالي كان في شبابه ينتمي إلى حزب الاستقلال فاختلف معهم ثم دخل في حركة الإخوان المسلمين وكان المسئول الأول للإخوان في الأعظمية صالح الدباغ ويأتي بعده أبو علي وبعد نقل أبي صفوان إلى الحلة غدا أبو علي هو المسئول الأول وكان قلقا عصبي المزاج وكان ينقد الأستاذ الصواف على بعض تصرفاته الجزئية
وكان يعيب مقابلاته مع المسؤولين بعد الانشقاق وكان يدعي أنه هو ومن معه إخوان والصواف ومن معه إخوة إسلامية وفتح مكتبة باسم الإخوان المسلمين إلى أن جاء نجيب جويفل موفدا من مصر فهدده وجعله يرفع اسم الإخوان من على مكتبته .
وعندما انشق على الإخوان وفصل أخذ معه أذكياء الإخوان وأصحاب القابليات ثم تحولوا إلى حزب التحرير وبدءوا بنقد منهج الإخوان ثم انفصل قسم منهم من حزب التحرير أيضا وانتهت حركتهم في سنة 1951 م ثم ترك كل شئ حتى العبادات .

يقول الأستاذ عبد الكريم الوهاب:

(وأخيرا عاد إلى عادته القديمة وهي هواية تربية الطيور وكان من سوء خاتمته الانتحار والعياذ بالله تعالي والحق أن هذا الانشقاق الأول وابتعاد الكثيرين من الإخوان عن الدعوة كما سبق قد هز الوسط الإخواني هزة عنيفة وكل ذلك بسبب الارتباط بالأشخاص وليس بالدعوة والالتزام بها وبسبب فقدان النظام الداخلي والشوري وعدم الاعتماد على المخلصين من الرعيل الأول ولو كانوا نقادا من أجل مصلحة الدعوة .
وهذا هو مرض قيادات الأحزاب السياسية سري إلى الجماعات الإسلامية في كثير من الحالات فالموافقون دائما يقربون والمعارضون البناؤون المخلصون يبعدون فيؤدي ذلك إلى انتكاسات كبيرة في الدعوات .

انشقاق مصطفي الوهاب:

كان مصطفي الوهاب حقوقيا وكان مديرا لمطبعة الحكومة في بغداد انخرط في الإخوان فتدرج بسرعة حتى دخل اللجنة المركزية وجعله الصواف مركز استقطاب الشباب المسلم في الكوخ .
ولما سافر إلى مصر ورأي بعض الإخوان هناك ومنهم عبد الرحمن السندي رئيس الجهاز الخاص كبر في نفسه وتوقع بعد رجوعه أن يكون له دور أكبر طمعا في أن يتولي الأمر وبدأ يتحرك ضد الأستاذ الصواف لا سيما في داخل اللجنة المركزية وكسب عبد الكريم زيدان في البداية ولكن سرعان ما كشفه عبد الكريم وابتعد عنه فحدث خلاف حاد بينهما انتهي بفصل مصطفي الوهاب ومن معه .
ثم ابتعد الوهاب عن الجو الإسلامي كله ودخل في تنظيم قومي وثبت فيما بعد أنه كان يقدم تقارير عن عبد الكريم زيدان إلى الجهات الحكومية ولكن تلك الجهات لم يتخذ أى إجراء ضد الأستاذ عبد الكريم .

انشقاقات أخري:

وفي أواسط الخمسينيات حدثت انشقاقات لأسباب منها: أن الأستاذ الصواف يهتم بشؤون التربية أكثر من الشؤون السياسية أو أنه ليس ثوريا أو أنه ليست عنده قابلية تنظيمية ففصل على أثر ذلك وعلى فترات كل من سالم زيدان ومحمد عبد الرحمن وسامي مكي العاني وعبد الغني شنداله ومحمود شريف وطاق الدوري غير أن عبد الغني شنداله رجع إلى الصف مرة أخري .

ولقد اجتمع جمع من هؤلاء مع الأستاذ الصواف في دار اليوسفية قرب بغداد وكان الحكم الأستاذ عبد الكريم زيدان فلما طالبوا بتنحية الصواف رفض الأستاذ عبد الكريم ذلك رفضا قاطعا

وعرض حلا للخلاف تضمن نقطتين:

أولهما: لا يفصل الأستاذ الصواف.
ثانيهما: لا يكون له سلطان على الجماعة لا بتصرفاته ولا بتصريحاته مادام هو خارج العراق .

يقول الأستاذ عبد القادر الجنابي معلقا على هذه الانشقاقات:

إن هذه الانشقاقات كان فيها حظ النفس كثيرا وكانت تتغلف دائما بمصلحة الدعوة .والحقيقة التي لا مراء فيها أن التيار العام للإخوان في العراق كان دائما مع الأستاذ الصواف من يوم رجوعه من الأزهر عام 1946 إلى خروجه من العراق عام 1959 م لأنه لم يجد أفضل منه لقيادة الجماعة في تلك الفترة العلنية من حياة الجماعة .
فظروف العراق الاجتماعية والسياسية في العراق يومئذ كانت تحتاج إلى شخصية الأستاذ الصواف .

الفصل الثالث:الإخوان في العهد الملكي

كان نشاط الإخوان في العهد الملكي نشاطا علنيا فلقد أخذوا إجازة تأسيس جمعية إسلامية باسم (جمعية الإخوة الإسلامية) برئاسة الشيخ الزهاوي كما سبق وبدأت الجمعية بتأسيس الفروع والمكتبات في داخل بغداد وخارجها .

وأما في بغداد فقد كانت شعبة الأعظمية أقدم الشعب فيها حيث تكونت أسرها الأولي على يد الدكتور حسين كمال الدين ثم استمرت وتوسعت بعد رجوع الأستاذ الصواف الذي عين في كلية الشريعة المجاورة لمسجد الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالي وكان يلقي فيه الخطب الحماسية والدروس العلمية وأبلي الإخوان في الأعظمية البلاء الحسن في سبيل إسلامهم ومنهجهم في فهمه .

يقول الأستاذ عبد الكريم الوهاب :

(وبعد مضي أيام وأشهر توسعت الجماعة وأخذ ينضوي تحت لوائها الكثير من الشباب المسلم الذين كانوا يتلهفون إلى من يرشدهم إلى الإسلام الصحيح ليحاربوا الذين كفروا بحقائقه الناصعة .
وفي نهاية عام 1948م عقدنا العزم على افتتاح مكتبة تحت لافتة (مكتبة الإخوان المسلمين) في سوق الأعظمية المقابل لجامع الإمام الأعظم وذلك بهدف ترويج المطبوعات والنشرات الإسلامية وجذب الشباب المسلم الذين نتوسم فيهم الصلاح والتقوى وحسن الخلق إلى الانضمام إلى الجماعة وتحذيرهم من الانجرار وراء الدعوات الباطلة كالشيوعية وغيرها .

كما كان الهدف أيضا إسباغ الشرعية على تجمعات الإخوان وعدم فسح المجال لرجال الأمن من افتعال سيئ الأقوال بحق الإخوان ! هذا وقد ساهم في افتتاح المكتبة مساهمة فعالة المرحوم طه الفياض العاني صاحب جريدة (السجل) وما بعدها (الفجر الجديد)

وقد جلب الرجل محتويات مكتبته الخاصة من مؤلفات ومراجع إلى مكتبة الإخوان المسلمين على سبيل العارية كما كان يزور المكتبة صباح كل يوم جمعة وبصحبته فضيلة الشيخ أمجد الزهاوي طيب الله ثراه أو الدكتور تقي الدين الهلالي (المغربي الجنسية)
وكان عام 1948 م من أصعب الأعوام على دعاة الإسلام حيث استشري خطر الشيوعية وبات يهدد الجيل في أخلاقه وعقيدته وكانت يومها في الصف المنتهي من ثانوية الأعظمية ومسئولا عن خط الإخوان فيها وقد لاحظت صباح وفي لوحة الإعلانات نشرة أسبوعية تحمل اسم (الشعلة) وقد تبناها الشيوعيون ظاهرها (الأدب واللغة) وباطنها الترويج للماركسية؛
وما أن اطلعت على بعض مقالاتها وكانت بأقلام مسمومة حتى وقف شعر رأسي فهرعت من توي إلى مدير المدرسة وهو المرحوم صادق الخوجة وهو مرب فاضل وأب حنون قلما تجد له مثيلا فرحب وهدأ من روعي ثم أخذ يصغي إلى بكل اهتمام وبعد أن فرغت من حديثي أبدي من جانبه أسفه لقيام هذه الزمرة باستغفاله والحصول على موافقته في إصدار النشرة.
وأكد لى بأنه سوف يلغي قراره الخاص بمنحهم الامتياز بعد أن أبلغته باستغلال هذه النشرة لترويج مبادئ الشيوعية ..
ولما رأيته متجاوبا معي وجدت من المناسب الحصول على موافقته لإصدار نشرة باسم (المنهل) للرد على الملاحدة وبيان أحكام الإسلام في شتي المجالات فوافق الرجل دون تردد ! فما كان مني إلا إخبار جماعتي والشروع بتحضير مستلزمات النشرة ثم أخذت إصدارها في كل أسبوع .
وكان الأخ الشاعر الخطاط وليد الأعظمي يقوم بخط العناوين وأنا أملي النصوص والحواشي .

ويقول الأستاذ عبد الوهاب في مذكراته:

(كانت دروس المرحوم الصواف في جامع الإمام الأعظم (حديث الثلاثاء) لا تفي بالغرض المطلوب حيث انخرط كثير من الشباب المسلم المتعطش إلى معرفة أحكام الإسلام في شتي ميادين الحياة؛
كما لم يتسع المجال في وقت الدرس الأسبوعي إلى توجيه الأسئلة التي تدور في أذهان هؤلاء الشباب لذلك ارتأينا أن نطلب من المرحوم طه الفياض أن يقنع الدكتور الهلالي إلى التكرم بتلبية مبتغانا في قيام الهلالي بإلقاء الدرس ليلة كل خميس في مسجد (الملاخطاب)؛
لإدراكنا أنه علامة عصره في التفسير والحديث واللغة وبالفعل قام المرحوم الفياض بإقناع الدكتور الهلالي رحمه الله اعتماده على روح المعاني وفي اللغة والنحو والصرف شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك وفي الحديث مشكاة المصابيح للبغوي بشرح الدهلوي وكانت هذه الدروس بحق دروسا قيمة ومفيدة أغنانا بها المرحوم الهلالي بعلمه الغزير .
وافتتح أيضا جمع من الشباب اليافع بتوجيه من الأخ منيب عبد الواحد الدروبي الذي ظل على العهد.ومجمل القول أن إخوان الأعظمية ظلوا نشيطين في نشر الدعوة وكان لهم مسبح صيفي على نهر دجلة خلف المقبرة الملكية وكانوا يزاولون فيه الرياضة والسباحة والصلوات الجماعية والدروس الروحية والدعوي المتنوعة؛
وقد زرت هذا المسبح في عام 1955 م عندما جئت إلى بغداد كي أقدم أوراقي إلى الكليات وجاء الأستاذ الصواف قبل المغرب وصلي بنا صلاة الجماعة؛
ثم ألقي درسا دعويا بأسلوبه الخطابي المتحمس عرض فيه جراحات الإسلام في هذا العصر وواجب الشباب المسلم نحو أمته الغافلة ثم صلي بنا صلاة العشاء وبعدها غادر المسبح بين هتافات الإخوان الله أكبر .. ولله الحمد ،الله غايتنا،والرسول زعيمنا والقرآن دستورنا،والجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمي أمانينا .

وفيما بعد افتتح الإخوان في الأعظمية مسبحا آخر في نهاية شارع (20) على دجلة وناديا رياضيا سمي بنادي التربية الرياضي ثم انتقل إلى شارع المغرب .

ولم ينحصر وجود الإخوان في الأعظمية وإنما أسست شعب أخري في بغداد كشعبة باب الشيخ وشعبة الكرخ وغيرها كانت تقوم بالنشاطات عينها التي كانت تقوم في شعبة الأعظمية .

ولما اشتري الإخوان دار جعفر العسكري في باب المعظم من تبرعات الإخوان والمحسنين ب (6150) دينارا غدا مركز استقطاب لجميع الإخوان في بغداد والذين كانوا يزورون بغداد

وكانت تقام فيها الحفلات الدينية والمحاضرات الأسبوعية والكتائب العلمية الروحية الليلية وكانت فيها غرف كثيرة كانت تؤجر لبعض الموظفين من الإخوان وطلبة الكليات بأسعار رمزية .

وقد أجرت أنا وعرفان عبد الحميد غرفة صغيرة سكنا فيها عدة أشهر قبل انتقالنا إلى القسم الداخلي في دار المعلمين العالية .وكان هذا المركز أيضا مقرا لجمعية إنقاذ فلسطين وألحقت به مطبعة لنشر الكتب والرسائل الإسلامية .

فرع الموصل:

قلنا إن فكرة الإخوان المسلمين قد دخلت الموصل منذ أواسط الأربعينيات على يد الدكتور حسين كمال الدين الأستاذ المصري الذي وصل إلى الموصل في 24 مارس عام 1945 م مع الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد فاجتمعا بمعظم علماء الموصل وزارا المساجد والمدارس وألقيا عددا من المحاضرات الإسلامية وغادراها في 27 مارس وكان لهذه الزيارة تأثير كبير في التعريف بدعوة الإخوان بحيث إن بعض الجرائد دعت الناس إلى الانضمام إلى هذه الدعوة .
وفي العام نفسه افتتحت مكتبة في الموصل بشارع النجفي باسم (مكتبة الإخوان المسلمين) وفي عهد قيادة الصواف حصلت الموافقة الرسمية على فتح شعبة الإخوة الإسلامية في الموصل في 4 تشرين الأول عام 1952 م.
وفي عام 1948 م كان نشاط السيد عبد الرحمن السيد محمود بارزا في معارضة معاهدة (بورتسموتث) وتأييد عبد الجبار الجومرد في الانتخابات مما أدي إلى اعتقاله واعتقال الشيخ الصواف والشيخ بشير الصقال وقلة من رجال الموصل في عهد وزارة محمد الصدر .
ويروي السيد عبد الرحمن السيد محمود أنه باسم الإخوان اتفق مع رجال حزب الاستقلال وغيرهم على القيام بمظاهرة كبري في 27 من كانون الثاني عام 1948 م ضد معاهدة بور تسموث؛
وفي الساعة الخامسة والنصف من فجر هذا اليوم خابره حازم المفتي رئيس فرع حزب الاستقلال في الموصل وقال له : إن المتصرف اليعقوبي هدد بأن الحكومة ستفرق بالقوة أية مظاهرة تقوم وإنهم "المفتي ومن معه" ناكلون عن الاتفاق؛
فقال له السيد عبد الرحمن: إننا قد أعددنا العدة وهيأنا اللافتات ولن يثنينا التهديد لن يرعبنا فكانت مظاهرة من أقوي المظاهرات وأشدها وقد انسحبت الشرطة إلى داخل المركز العام بعد أن عجزت عن تفريقها ونزل الجيش بإمرة عمر علي رحمه الله وفرقها بالحسني .
وازدياد نشاط الإخوان في الموصل لا سيما في خطب علمائه أدي إلى تدخل مديرية الأوقاف بتوجيه من الدولة إلى كتابة كتاب موجه إلى خطباء المساجد بعدم التدخل في السياسة ولما توسع نشاط الجمعية وبدأ أعضاؤها يعقدون الاجتماعات العامة في المساجد اعترضت السلطات عدة مرات ونبهوا المسؤولين عن الجمعية بضرورة عقد مثل هذه الاجتماعات في مقراتها وإخبار السلطات بالاجتماعات العامة .
إن طبيعة الموصل الدينية وكثرة العلماء المثقفين المسلمين فيها ساعدت جهود الإخوان في نشر الحقائق الدينية وتربية كثير من الشباب تربية إسلامية ظهر أثرها في فترة متأخرة عندما قاوم الموصليون بدمائهم الشيوعية التي سنتحدث عنها فيما بعد إن شاء الله تعالي
ولم يبق نشاط الإخوان في سنوات الخمسينيات داخل المدينة وإنما وسعوا نشاطهم داخل الأقضية والنواحي والقرى كي لا تحرم تلك المناطق من إشعاعات نور الثقافة الإسلامية والتوجيه الإسلامي في ضوء منهج الإخوان الشامل وبجانب ذلك أنشئوا أقساما تشمل قسم العمال والطلاب والناشئة والنساء .

فرع أربيل:

يقول الأستاذ عبد الوهاب الحاج حسن :
(في هذه الفترة وبمناسبة قرار تقسيم فلسطين عام 1947 م قام الإخوان في أربيل بمظاهرة كبري لم تشهد المدينة مثلها أبدأ اشترك فيها جميع سكان المدينة وكان الشيخ محي الدين والشيخ صالح وعلماء أجلاء آخرون يمشون في مقدمة المظاهرة وكانوا يحملون لافتة كتب عليها نريد السلاح أيتها الحكومة وخرج المتصرف وشكرهم على هذا الشعور الفياض)
لقد انتشرت دعوة الإخوان في أربيل على الرغم من محاربة الشيوعيين واللادينيين العنصريين لها .ثم انحسرت الحركة نتيجة لاستبداد المسئول الأول يومئذ برأيه وعدم تحمله أى توجيه من أحد إخوانه أو معارضته مما أدي إلى كثرة المعارضين وتجمع عدد من الإخوان حول المعارض الذي كانوا مقتعنين برأيه فأدي ذلك إلى إصدار أوامر الفصل فتزعزع صف الإخوان في أربيل .
ثم لما عين المسئول الأول الأستاذ محمد صادق المختار قاضيا في الموصل عين الأخ خليل عبد الله مكانه ولما قبل في كلية الشريعة في بغداد؛ونقل الأستاذ نظام الدين عبد الحميد (1955م) من البصرة إلى أربيل كلف من الأستاذ الصواف بتولي مسؤولية إخوان أربيل بعد النكسة التي حلت بالإخوان في هذه المدينة؛
فحاول جمع الصف ورتق الفتق واللجوء إلى تربية الباقين من جديد في ضوء منهج الدعوة الإسلامية الشامل فلم يحدث بعد ذلك خروج وانشقاق في فترة الخمسينيات التي كانت الشيوعية والقومية مسيطرة على المثقفين في أربيل .

فرع كركوك:

أسسا فرع الإخوان في كركوك عام 1947 م على يد الداعية الرباني الأستاذ سليمان محمد أمين القابلي والأستاذ المحامي نور الدين الواعظ ابن علامة كركوك الشيخ رضا الواعظ وبدأت الدعوة بالانتشار؛
لا سيما عندما عين الأستاذ عابد توفيق الهاشمي مدرسا في ثانوية كركوك للبنين في بداية الخمسينيات وفي خلال السنتين اللتين بقي فيهما وجه طلبته توجيها تربويا مخططا وكان له أسلوب مؤثر في تبليغ حقائق الإسلام وجلب الطلبة الأذكياء الجيدين إلى حظيرة الدعوة الإسلامية .
أنشأ الإخوان مكتبة للبيع والمطالعة باسم (مكتبة الإخوة الإسلامية) في شارع أطلس واهتموا بنشر الدعوة الإسلامية بين المسلمين عربا وأكرادا وتركمانا حيث التوتر القومي كان منتشرا بين أبناء هذه القويات فغدا المنتمون إلى الإخوان من هذه القوميات متآخين كالبنيان المرصوص يحب بعضهم بعضا في ظل أخوة الإسلام .
وكان مسئولو هذا الفرع حريصين على جمع الإخوان على أعلي مستوات المعاني الأخوية والدعوية والروحانية عن طريق صلوات الجماعة والكتائب الليلية والسفرات الجماعية وإقامة الحفلات بالمناسبات الدينية في المساجد.
وكان لهذا الفرع دار ذات حديقة مناسبة كانت تقام فيها كل ليلة خميس دروس كان يشترك فيها الأستاذ نور الدين والأستاذ سليمان القابلي والأستاذ نظام الدين بعد أن انتقل من مدينة السليمانية إلى كركوك عام 1953م
ولابد من الإشارة إلى دور الأستاذ الداعية المصري (محمد عبد الحليم الشيخ) الذي كان مدرسا في كركوك وتأثيره على طلبته قبل سفره إلى الكويت .

فرع البصرة

لم تكن جمعية المكتبة الإسلامية في البصرة هي أول جمعية دينية في البصرة فقد سبقتها جمعية الآداب الإسلامية (فرع البصرة)
التي كان مقرها في العشار في جامع الخضيري ثم تأسست جمعية الإخوة الإسلامية (فرع البصرة) التي كان مقرها في محلة السيف في البصرة وكانت هناك مكتبة دينية تابعة لها وأخيرا أنشئت جمعية جديدة هي جمعية المكتبة الإسلامية التي مقرها محلة السيف في البصرة في بناية المدرس الدينية الرحمانية بعد غلقها؛
وكان لهذه الجمعيات الثلاثة عطاؤها المتميز في سبيل الدعوة الإسلامية ولقد بلغت المكتبة الإسلامية القمة في هذا العطاء ولا تزال تردد في أسمائهم تلك الأصوات الإسلامية الهادرة من أفواه العلماء والوعاظ والأدباء والشعراء تصدح بالدروس والعبر؛
وتحث على العودة إلى الله وتذكر الناس بماضيهم الكريم وإن المسلمين لن يستقيم لهم أمر ولا يصلح لهم حال إلا بما صلح به أجدادهم وسنجمل فيما يلي أهم ما قدمته جمعية المكتبة الإسلامية للإسلام عامة ولأهل البصرة خاصة من عطاء متميز .
أولا: ربت الجمعية جيلا متميزا من الشباب المسلم الواعي لوجوده وما يراد منه جيلا يحمل الإسلام عقيدة ومنهاجا وسلوكا وكان مثالا في فهمه وسلوكه وكان لهذا الجيل من الرواد أثره الكبير في الدعوة الإسلامية وقد احتل مراكز قيادية في العالم العربي والإسلامي منهم من اعتقل وشرد ومنهم من استشهد ومنهم من هاجر ومنهم من قضي نحبه ولا تزال بقية منهم على العهد ..
ثانيا: كان لها الأثر الكبير في نشر الوعي الإسلامي والثقافة الإسلامية فقد كان لها مكتبة غنية بالمصادر والمراجع في علوم الفقه والحديث والتفسير واللغة والتاريخ وغيرها وظلت هذه المكتبة وقاعتها الخاصة منهلا لكثير من طلاب العلم والباحثين وقد كانت ترد إليها الكتب المطبوعة حديثا من مصر والهند وباكستان إضافة إلى الجرائد والمجلات المختلفة كجريدة (الإخوان المسلمين) ومجلة (الإخوان المسلمون) ومجلة (الشهاب) ومجلة (المسلمون) ومجلة (الرسالة) وهذه كلها توضع بين أيدي الشباب ينهلون منها كما شاءوا .
ثالثا: استقبلت الجمعية في حياتها الجهادية عشرات من رجال الفكر الإسلامي من العلماء والواعظين ومن الأدباء والشعراء فعرفتهم على البصرة في جولات برية ونهرية فاطلعوا على آثارها وتجولوا في شط العرب وفي البساتين الخضراء المكتظة بالنخيل وعقدت لهم الندوات الخاصة والمحاضرات العامة؛
فكانت لهم لقاءات مع الجموع الغفيرة في قاعة الجمعية وأذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين والشيخ الحسيني المسلمي رئيس رابطة الوعاظ المصريين والشيخ أحمد الأحمر مندوب الأزهر في البصرة والأستاذ علي الطنطاوي والشيخ أمجد الزهاوي والشيخ محمد محمود الصواف رحمهم الله جميعا
كما استقبلت وفودا من العلماء والدعاة المسلمين كجماعة التبليغ الإسلامية في الهند ووفدا من علماء تركيا وقد صحب شبابها هذه الوفود في جولات دعوية إلى كثير من قوي ومساجد البصرة .هذا وكلما جاء عالم أو واعظ أو وفد فإن الجمعية تعد برنامجا خاصا لاستقباله والاستفادة منه فتهئ مكان الاجتماع وتوجه بطاقات الدعوة للاستماع إليه .
رابعا: حرصت الجمعية على الاستفادة من المناسبات الإسلامية واتخاذها موسما لتبليغ الدعوة إلى الناس كمناسبات المولد النبوي والهجرة والإسراء والمعراج وموسم رمضان ففي هذه المناسبات تقيم المهرجانات الكبيرة وتدعو الخطباء والشعراء وتدعو الناس عامة فتلقي الكلمات من المتحدثين ويتباري الشعراء بأحسن ما عندهم وقد عرفت الجمعية بقاعتها وحوشها الكبير شعراء كثيرين مثل عبد اللطيف الدليشي وعبد الرحمن المجبل وعبد الجبار البصري وعبد الرحمن الرماح وغيرهم .
خامسا: الجمعية ورمضان المبارك : ورمضان شهر مبارك فيه الدعوة مستجابة والعمل الخالص لله مثمر ولذلك فإن الجمعية تنتهز الفرصة فيه للعمل الدعوي على اختلاف صنوفه فتوزع النشرات والكتيبات الإسلامية وتقيم مآدب الإفطار وتقدم العون للمعوزين وتعد برنامجا خاصا للوعظ والإرشاد فتنظم زيارات إلى قري البصرة ومساجدها الأحمر أو الشيخ محمد عبد الوهاب وتزور العوائل والدواوين فتساعد وتذكر وتعظ وتعقد أواصر الإخوة وتصلح بين المتخاصمين .
سادسا: كان للجمعية دورها الرائد في كثير من المناسبات الوطنية والقومية فقد احتضنت قضية فلسطين وبذلت كل ما تستطيع في سبيلها سواء بالتعريف بها والحث على الوقوف معها بإقامة الندوات والاجتماعات الخطابية العامة أو بمظاهرات التأييد مظاهرات عديدة طافت شوارع البصرة والعشار وكان يقود إحدى هذه المظاهرات الشيخ محمد محمود الصواف رحمه الله رئيس جمعية إنقاذ فلسطين يومذاك .
ولم تأل الجمعية جهدا في المشاركة في الأعمال الوطنية والخيرية بقدر استطاعتها المادية فقد قدمت للمسرح البصري تمثيلية (جعفر البرمكي) وتمثيلية (أهل الكهف) لقاء بطاقات دخول ثم سافرت فرقة التمثيل فيها إلى الكويت وقامت بتمثيل مسرحية (أهل الكهف) على مسح مدرسة أبي بكر الصديق وقد أقبل الجمهور الكويتي عليها إقبالا رائعا مما در على الجمعية مردودا ماليا جيدا خصصته الجمعية لشراء قطعة أرض في إحدى القرى تبرعت به لبناء مدرسة ابتدائية فيها .
سابعا: كانت الجمعية هي السابقة إلى تنبيه الناس إلى كل خطر يحيط بهم نذكر من ذلك أن منها ارتفع أول صوت ضد الشيوعية وكانت أول من رفع شعار (الشيوعية كفر وضلال فيا أيها البصريون اتحدوا ضدها)

ولم يكن يوم ذاك والشيوعية في أوج خطرها وقوتها يوم ذاك يجسر أن يرفع صوتا صدها أو يتحدها فقد كان المؤمنون والمخلصون يتهامسون بهذا في الخفاء خوفا من الشيوعيين وقد رأوا بأعينهم كيف قتل وسحل وعذب من جرؤ بالوقوف ضدهم فجاءت الجمعية وقالت للشيوعيين:

(أنتم كفرة ملاعين) قالتها علنا في احتفال عام أمام مسمع وبصر الجميع في قاعتها الكبيرة التي خطب فيها الخطباء وأنشد الشعراء في هذا المعني وشعارهم في ذلك رائعة وليد الأعظمي التي يقول فيها:

يا هذه الدنيا أصيحي واشهدي
أنا بغير محمد لا نقتدي

فكانت تلك أول شرارة أشعلت نار التحدي والغضب في وجه الشيوعيين .هذه عجالة مختصرة عن تاريخ وعطاء ومنجزات جمعية المكتبة الإسلامية في البصرة لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن ولقد لقي أعضاءها الكبار الأذى والاعتقال والتشريد والتهديد في سبيل ذلك ... وأخيرا صدرت الأوامر بإغلاق الجمعية فصودرت أملاكها وضاعت مكتبتها العامرة

فرع الزبير:

كانت مدينة الزبير القريبة من البصرة مدينة علمية ظهر فيها علما وزارها علماء أفاضل نشروا العلم وأنشأؤا فيها المدارس , من أهمها مدرسة النجاة .
في هذه البيئة العلمية نشأت الحركة الإسلامية الحديثة ومرت بمراحل عدة والتحق بها الكثيرون ولا سيما الشباب وكان لها دور بارز في تاريخ البلدة وحققت انجازات علمية ودعوية في شتي المجالات .
بدأ النشاط الإسلامي في بداية الخمسينيات من القرن الماضي بفتح فرع لجمعية الشبان المسلمين في البصرة.أما جماعة الإخوان المسلمين فأول من عرف بها في المنطقة هو الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد الذي قدم للتدريس في متوسطة البصرة .
وكان في المتوسطة المذكورة عدد من الطلبة الزبيريين الذين تأثروا بهذا المدلس ونقلوا أفكار الإخوان إلى بلدتهم مع نسخة من مجلة الإخوان المسلمين .
وكان التأثر في بداية الأمر عاما ثم تبلور على يد بعض الفاهمين لدعوة الإخوان ففتحوا مكتبة باسم (الإخوان المسلمين) التي كان يلتقي فيها الإخوان ويتناقشون فيما كان ينشر في مجلة الإخوان المسلمين التي كانت تصل إليهم بانتظام
ثم لما كثر عددهم أرادوا أن يتميزوا في عملهم الإسلامي فانتقلوا إلى مدرسة الدويحس لتكون ملتقي لنشاطهم وبعد تعيين أحمد علماء الزبير الشيخ عبد الله محمد الرابح بذل جهدا طيبا في مؤازرة نشاط الجماعة .
وقد استفادت الجماعة من هذه المدرسة حيث كانت مركزا لهم يلتقون فيه ويزاولون فيه أنشطتهم الدعوية والعبادية .ومن الذكريات التي لا تنسي في هذه المدرسة أنه في احدي الليالي سمع الإخوان بخبر استشهاد الإمام حسن البنا رحمه الله تعالي
فتأثروا كثيرا وقد صلي عليه الإخوان وعلماء الزبير الذي كان معروفا عندهم صالا الغائب بعد صلاة الجماعة في مسجد البخاري والقي الشيخ محمد السند رحمه الله كلمة بالمناسبة وأم المصلين .
وأنشأ الإخوان في هذه الفترة مكتبة باسم (مكتبة المنار) التي نجحت في أداء رسالتها الإسلامية حيث أقبل عليها الكثيرون الذين اشترك بعضهم بالمجلات واشتروا الكتب الدينية ..
وكانت مدرسة (النجاة) التي أسسها الشيخ محمد أمين الشنقيطي 1339هـ منطلقا آخر للإخوان في توسيع نشاطهم حيث ساهموا بإنهاضها وإحياء رسالتها الدينية التي كانت قد ضعفت وكان لمدرسي الإخوان المصريين والعراقيين تأثير كبير في توجيه الطلبة
وكان لمديرها الشيخ ناصر رحمه الله الأثر الكبير في فسح المجال للدعاة لأداء واجبهم الديني وكان يعرف الإمام حسن البنا وحقيقة دعوته الإسلامية ولذلك أيد نشاط الجماعة وكان للإخوان في المدرسة ستمائة طالب بذلوا جهودهم لتنشئتهم النشأة الإسلامية .
وبعد رجوع الأستاذ الصواف من مصر وأنشأ جمعية الإخوة الإسلامية أسس الإخوان فرعا لها في الزبير عام 1370 هـ ترأسه الشيخ عبد المحسن البابطين وكان الأستاذ الصواف يزور الزبير كلما جاء إلى البصرة .
وفي هذه الفترة قام الإخوان بنشاط عام جيد مثل المحاضرات والحفلات التي كانوا يقيمونها بالمناسبات الدينية والمسرحيات الإسلامية الجيدة ..
وعندما أصدرت الجمعية في بغداد مجلة (الإخوة الإسلامية) سعي الإخوة في الزبير لحث الناس على الاشتراك فيها وقام عدد منهم بجولة على المدارس وعرضوا على المدرسين فيها فاستجاب عدد منهم واستمر النشاط في هذا الفرع إلى أن صدر القرار بحل الجمعية في بغداد وفروعها في المحافظات كافة فتحول نشاطهم إلى (جمعية مكتبة الزبير الأهلية) التي كانت قد تأسست منذ عام 1959م وأيام سيطرة الحس القومي البعثي عام 1963م.
ومجمل القول أن إخوان الزبير كانوا متغلغلين في المجتمع وكانوا مركز ثقل في أمور عدة وساهموا في مجالات شتي روحية وثقافية وصحية وتربوية واجتماعية ورياضية مما ترك آثارا محمودة ومستمرة في المجتمع الزبيري وكانوا يتعانون مع إخوان البصرة في جميع النشاطات وكانوا يشتركون في النشاط الإخواني في بغداد .

فرع الرمادي:

أسس فرع الإخوان المسلمين في الرمادي تحت اسم (جمعية الإخوة الإسلامية) في أوائل الخمسينيات وكان من المؤسسين كل من واعظ العشائر المرحوم السيد فاضل محمود السيد رحيم والمرحوم عبد النبي شبيب حمزة من بيت الكحلي الهيتي السكن والمرحوم يوسف الدوري (موظف) والمرحوم عبد العزيز عواد الكبيسي والمرحوم حسن على العبد الناصر السطوري, والمرحوم المعلم خلف عبيد الفراجي والمرحوم مخلف جواس الذيابي (مدير المدرسة) والشهيد محمد محمود البنا العسافي وجماعة آخرين .

وكانت هذه الجمعية تقوم بالنشاطات الآتية:

  1. السفرات الإرشادية إلى نواحي وأرياف الرمادي فقد وثقوا علاقتهم بشيوخ العشائر ووجهائها فاستجاب لهم الكثير وعلى سبيل المثال لا الحصر الحاج نوار (البوعساف) والحاج عيادة رثيع (البو جليب) وجميل المهنا (البو علوان) والحاج فيصل (البرنمر) ومن الوجهاء المرحوم الأستاذ المحامي يوسف والمرحوم الحاجي هوبي والحاج أحمد هميم والمرحوم الحاج جاسم (هيت) والمرحوم الحاج عبد الرزاق (حديثة) والمرحوم الحاج محمد الشبلي (عنه) وغيرهم كثير .أما العلماء فكان للشيخ عبد الجليل الهيتي رحمه الله والمرحوم الشيخ عبد الستار الكبيسي والمرحوم الحاج فاضل أبو الجير والمرحوم السيد فاضل دور كبير .
  2. إلقاء المحاضرات في مقر الجمعية وعقد الندوات والاحتفالات في المساجد في المناسبات الدينية كالهجرة النبوية والمولد النبوي الشريف وأيام شهر رمضان .
  3. مساعدة بعض العوائل الفقيرة والمتعففة في الرمادي .
  4. تفهيم الناس أمور الدين والدعوة إلى الفضيلة والأخلاق والعودة إلى الإسلام والبعد عن الرذيلة ..
  5. وعندما غرقت بعض أقسام الرمادي في أواسط الخمسينيات شكل المتصرف آنذاك السيد شاكر السامرائي عدة لجان للإغاثة أو كل معظم مسؤولياتها إلى الإخوان مثل المرحوم عبد النبي شبيب والمرحوم الحاج خلف عبيد .
  6. ولم يغفل الإخوان الجانب الرياضي تطبيقا لقوله صلي الله عليه وسلم "إن لبدنك عليك حقا" فقد أسسوا نادي التربية الرياضي وقاموا بمباريات رياضية دال المحافظة وخارجها.
  7. وعندما توجه الجيش إلى فلسطين قدموا للجنود الغذاء والشراب والفاكهة والثلج وكانوا يستقبلوه بالأهازيج .
  8. وكانوا يستقبلون الوفود من الداخل ومن الخارج أمثال الشيخ علي الطنطاوي والمرحوم محي الدين القليبي (تونس) والمرحوم العلامة محمد البشير الإبراهيمي (الجزائر) الشيخ محمد نمر الخطيب (فلسطين)

وبما أن جمعية الإخوة الإسلامية في الرمادي كانت فرعا للجمعية في بغداد فقد شملها الأمر الصادر من رئيس الوزراء نوري السعيد بغلق الجمعية ومصادرة أموالها .

في منطقة السليمانية:

ذكرنا أن حركة الإخوان المسلمين دخلت أربيل منذ عام 1945م وكركوك منذ عام 1947م وفي الأقضية الكردية التابعة لمحافظة الموصل منذ نهاية الأربعينات .
أما في مدينة السليمانية فأول احتكاك بدعوة الإخوان المسلمين كان في عام 1946م عندما عين الأستاذ نظام الدين عبد الحميد مأمور للإحصاء في السليمانية .
وقد اقتصر هذا الاحتكاك بتعريف دعوة الإخوان إلى بعض العلماء في السليمانية وأتذكر أنه كان يصحبني إلى مجالس العلماء فيها وتجري فيها المناقشات الإسلامية وكان كلما ظهر كتاب إسلامي جديد يحاول أن يعرف هؤلاء به ليقرأوه ككتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام لسيد قطب رحمه الله تعالي الذي كان كتاب العصر في حينه ولا شك أن عددا من هؤلاء قرأوا رسائل الإمام حسن البنا رحمه الله تعالي ولا سيما الشيخ محمد الخال قاضي السليمانية يومئذ .
وبجانب ذلك فقد كان الأستاذ نظام الدين يلقي دروس الدين في ثانوية السليمانية ولا شك أن أسلوبه المعاصر في التدريس قد أثر في بعض الطلبة .هذه النشاطات المتواضعة نبهت إليه الحركة الشيوعية في السليمانية فبدأوا يحذرون الناس منه ويسمعونه في الطرقات أحيانا كلمات من قاموسهم الإرهابي الملء بالكلمات القبيحة .
لا أدعي أن أثر الأخ نظام الدين كان كبيرا في بيئة السليمانية المغلقة على الشيوعية والقومية اللادينية يومئذ ولكنه كان احتكاكا أوليا لتنبيه الأذهان إلى بعض حقائق الإسلام وتعريفها بدعوة الإخوان المسلمين .
وعندما نقل إلى كركوك عام 1953 م تكفل إخوان كركوك بمحاولة نشر الدعوة في السليمانية فحاولوا فتح مكتبة إسلامية فيها مرتين عن طريق الملا جلال الساعاتي ولكن الشيوعيين قضوا على المحاولتين بإحراق المكتبتين ولم تمض على أية واحدة منهما ليلة واحدة.
ولكن الإخوان لم ييأسوا وبدأوا بالاتصال بمنطقة السليمانية وحلبجة وكان من نتيجة تلك الاتصالات التأثير المباشر على عالم فاضل في منطقة حلبجة هو الشيخ عثمان بن عبد العزيز رحمه الله تعالي .
وقام هو بدوره التأثير على أخوته الشيخ عمر والشيخ على وأخيه الأصغر الملا صديق وعمه الملا صالح وقام هؤلاء بنشر دعوة الإخوان بين أبنائهم وأقاربهم وطلابهم في المعهد الإسلامي في حلبجة .
فغدت منذ ذلك الوقت منطقة حلبجة مركز إشعاع في نشر الدعوة وتجاوزتها إلى مركز مدينة السليمانية ومناطق أخري في المحافظة في حدود ضيقة جدا.
حتى إذا قامت ثورة 14 تموز وحدث الصراع بين الشيوعيين وغيرهم في أنحاء العراق كافة وتأسس الحزب الإسلامي ودخل هؤلاء جميعا مع عدد كبير من علماء المنطقة فيه .

الفصل الرابع:النشاط الداخلي

كانت هم الإخوان في العراق كما هو همهم في كل قطر تقوية الإخوة الإسلامية بينهم حتى مرحلة الاندماج الإيماني لأنهم يعتقدون أنه لا يمكنهم إصلاح المجتمع الإسلامي إلا إذا كانوا هم أنفسهم نماذج وقدوات حسنة للناس في الإيمان والإخلاص والأخلاق وتطبيق شريعة الله على النفس والأسرة والمجتمع .

وفي سبيل الوصول إلى ذلك اهتموا أولا :

بتثقيف أنفسهم عن طريق فهم كتاب الله وسنة نبيه صلي الله عليه وسلم وسيرته وسيرة الصحابة الكرام وقد حاولوا أن يكون منهجهم في فهم الإسلام منهجا شاملا عقيدة وشريعة وسلوكا وأن تكون دعوتهم دعوة متبعة لا مبتدعة .
فدعوتهم دعوة سلفية لا بالمعني الاصطلاحي الضيق في إتباع فلان في العصور المتقدمة أو المتأخرة وإنما بمعني إتباع خير القرون من الصحابة وتابعيهم وتابع التابعين في عقيدتهم الصافية الواضحة وفقههم الواسع الأصيل الذي يأخذ بالأيسر وليس بالأحوط ووعيهم العميق بالإسلام قولا وعملا وجهادهم في سبيل الله سواء في البناء الداخلي أم في دفع طغيان العدو الخارجي ..
وهم يؤمنون بحقيقة التصوف لا بمظاهره الطرقية المبتدعة أى بمعني تصفية القلب وتطهيره من الفساد وتوجيهه إلى العبودية الخالصة لرب العالمين من أجل الوصول إلى التقوى ثم الاستقامة والانتقال من النفس الأمارة إل النفس اللوامة إل النفس المطمئنة حتى ترجع إلى الله تعالي راضية مرضية .
وهم أيضا عقلانيون في إطار ضوابط الإسلام وأصوله ينظرون إلى حركة عصرهم وتطور العلوم والمعارف من حولهم والمؤامرات التي يحوكها أعداؤهم ضد دينهم وحضارتهم .

ودعوة الإخوان دعوة إسلامية عامة وليست دعوة إلى مذهب معين أو موجهة إلى طائفة معينة وإنما هو خطاب للمسلمين جميعا في إطار الكتاب والسنة وكي يستيقظوا من سباتهم ويصوغوا حياتهم بموجب شرع الله سبحانه وتعالي ثم يحاولوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالطرق الشرعية تمهيدا لصياغة الأمة الإسلامية صياغة جديدة من أجل إعادتها إلى حظيرة الإسلام والإيمان وتهيئة صفوف الأمة لجهاد أعدائها الحاقدين الغاصبين .

  • فهم كانوا حريصين على سبيل المثال:
  • في الحديث: كانوا يدرسون كتاب (رياض الصالحين للنووي) ويحفظون شرح الأربعين النووية .
  • في السيرة النبوية: كانوا يقرأون كتاب الشيخ الخضري وفقه السيرة للشيخ الغزالي وتهذيب سيرة هشام لعبد السلام هارون وغيرها .
  • في العقيدة: كانوا يدرسون كتب شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم وعقيدة المسلم للشيخ الغزالي .
  • في الفقه: كانوا يتحركون داخل مذاهب أهل السنة والجماعة كل فرد حسب مذهبه دون تعصب ومع ذلك فهم كانوا يعتمدون كثيرا على كتاب (فقه السنة) للشيخ سيد سابق رحمه الله تعالي .
  • ولم يكن مسئولو الإخوان يمنعون من قراءة كتب الأفكار المادية والفكرية والأدبية المعاصرة لأنهم كانوا يعتقدون أن الداعية المسلم بعد تعمقه في فهم الإسلام لابد أن يكون على إطلاع جيد بحركة العصر وفكر العصر الذي انتشر في المجتمع الإسلامي إذ كيف يستطيع الدعاة أن يقوموا بإصلاح المجتمع الإسلامي المعاصر وهم لا يعرفون التيارات الفكرية والسياسية والأدبية التي تغزوه والتي تتجسد أحيانا بجماعات وأحزاب سياسية تنتشر هنا وهناك في الساحة الإسلامية .
  • ولذلك خرج الإخوان في كل مكان جيلا مثقفا استطاع أن يلعب دورا تاريخيا مشهودا في الوقوف أمام الانحرافات الفكرية في المجتمع الإسلامي .

وكان الإخوان في العراق حريصين في الخمسينيات وما بعدها على الإطلاع على الحركات المعاصرة في العالم الإسلامي كي يطلعوا على ما يفعله إخوانهم في مجال الإصلاح الإسلامي في تلك البلاد ويستفيدوا من تجاربهم زيادة على المحاضرات التي كانت تلقي عليهم سواء في مقراتهم أم في المساجد التي كانوا يجتمعون فيها .

وقد مر بنا نهاية الأربعينات كيف كان الأستاذ الصواف والدكتور تقي الدين الهلالي يلقيان الدروس والمحاضرات على الإخوان في مسجد الإمام أبي حنيفة وجامع خطاب وجامع الدهان في الأعظمية وكانوا يحضرون بعد ذلك خطب العلامة الهلالي أيام الجمعة في جامع الدهان في الأعظمية .

وكان الشيخ أمجد الزهاوي يجلس بين المغرب والعشاء فيه ليجيب على أسئلة الإخوان الدعوة والفقهية .ولم يترك كثير من الإخوان الدراسة على العلماء في كتب العلم كالعلامة الزهاوي والعلامة محمد القزلجي والشيخ عبد القادر الخطيب والعلامة المحدث عبد الكريم الصاعقة والشيخ الحانوني والدكتور الهلالي وغيرهم .

أما المحاضرات التي كان الأستاذ الصواف والأستاذ عبد الكريم زيدان وغيرهما يلقونها في جامع الأزبك فكان كثير من الإخوان في شعب مناطق بغداد يحضرونها باستمرار

يقول الأستاذ محمد سالم زيدان (أول مرة رأيت فيها عبد الكريم زيدان عندما ألقي درسا في تفسير سورة العصر في جامع الأزبك قبل شراء دار الإخوان في باب المعظم)

وأما الجانب الآخر الروحي:

  • فقد كان الإخوان يهتمون بالجانب الروحي عن طريق أداء الفرائض والسنن المؤكدة والنوافل العامة كصلاة التهجد وحضور صلاة الجماعة .
  • وكانت الكتائب الليلية مظهرا من مظاهر تقوية الروح والوصول بها إلى الاستقامة وكانوا يتدارسون في تلك الكتائب القرآن الكريم والسنة النبوية ويصلون صلاة التهجد جماعة وكانوا يقرأون فصولا من إحياء علوم الدين كحقوق الإخوة في الإسلام وأمراض القلوب وأهوال عذاب القبر والجحيم وكانت تلك الكتائب مدرسة روحية تهذيبية صاغت سلوك الإخوان صياغة إيمانية عالية .
  • وكان الإخوان يقرأون بعد صلاة الصبح (الوظيفة الكبرى) من المأثورات التي جمعها الإمام المرشد البنا من القرآن الكريم وأصح الأحاديث النبوية في الدعاء .
  • وبعد صلاة المغرب كانوا يقرأون بعض الأذكار النبوية المشروعة ورد الرابطة وهو:
"قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تساء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب" .
"اللهم إن هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي" .
"اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت عل محبتك والتقت على طاعتك وتوحدت على دعوتك وتعاهدت على نصرة شريعتك فوثق اللهم رابطتها وأدم ودها وأهدها سبلها وأملأها بنورك الذي لا يخبو واشرح صدروها بفيض الإيمان بك وجميل التوكل عليك وأحيها بمعرفتك وأمتها على الشهادة في سبيلك إنك نعم المولي ونعم النصير اللهم آمين وصلي اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم" .

وكان منهج الإخوان أن يقوموا بسفرات قريبة من المدن التي يوجدون فيها يعرض علينا الأستاذ عبد القادر الجنابي سفرة من تلك السفرات الإيمانية فيقول (اتفقنا أن نذهب في سفرة إلى سلمان باك في الربيع في نهاية الأربعينيات وكان الأستاذ الصواف وأعضاء اللجنة المركزية معنا؛

وكنا حوالي ثلاثين أخا وقسمنا الأستاذ الصواف إلى كردوسين ومشينا بصورة منتظمة من داخل المدينة إلى المسجد والناس ينظرون إلينا وقد فوجئوا بهذا المنظر البديع لأول مرة ونحن ننشد بصوت جماعي واحد نشيد:

يا رسول الله هل يرضيك أنا
إخوة في الله للإسلام قمنا

ونشيد: هو الحق يحشد أجناده .

قال: ودخلنا المسجد وصلينا صلاة الظهر ثم خرجنا منظمين إلى رؤية (طاق كسري) والناي ينظرون إلينا والأستاذ الصواف بعمامته وجبته يمشي أمامنا قال:ثم تغدينا بانتظام ثم صلينا العصر أمام الناس وكان الوقع شديدا عليهم وقمنا بسفرة أخري إلى الفلوجة والرمادي بالنسق نفسه .

وهنا يعلق الجنابي: كان الشيوعيون يقولون لا خطر علينا إلا الصواف ثم يقول : وهذه التربية الروحانية العالية هي التي بذرت فينا حب العدل والقسطاس المستقيم وخدمة المجتمع بإخلاص .

قال: فلما عينت حاكما في مديرية الأمن العامة في بغداد عدلت مع كل الفئات السياسية حتى الذين كانوا يخاصموننا كل ذلك بتأثير تلك التربية العالية التي تربينا عليها داخل أسر الإخوان .

ويستمر الأستاذ الجنابي فيقول:

هذه التربية الروحية العالية ركزت خوف الله في نفوس الإخوان ولذا لم تحصل إساءة مالية قط في الجماعة ولم يهتم أى شخص بمثل هذه الإساءات في حين أنني لما كانت حاكما في الأمن العامة حققت في مثل القضايا المالية فوجدت خيانات بالغة قد حصلت في مالية التنظيمات والجماعات الأخرى بسبب بعدهم عن مخافة الله تعالي وعدم تربيتهم على الأخلاق الإسلامية وعدم شعورهم بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم .
وعندما أراد الإخوان بدءا من الخسمينيات أن يعمقوا التربية الروحية في الجماعة فكروا في إيجاد نظام المخيمات التي تدوم أياما . اشتركت بنفسي في مخيم (جومان) في محافظة أربيل قرب الحدود الإيرانية عام 1956 م وكنت يومئذ طالبا في دار المعلمين العالية في بغداد .
لقد اشترك في هذا المخيم أكثر من مائة أخ على ما أتذكر وكان مدير المخيم يومئذ الأخ المهندس الشهيد عبد الغني شندالة فعسكرنا هناك بين الجبال على شاطئ نهير جومان البارد صيفا...
ونصبت خيمة القيادة ثم الخيم الأخرى حولها وحملنا أرزاقنا معنا وكنا كلما وصلنا إلى بلدة بعد من السيارات الكبيرة وحضرت الصلاة صلينا جماعة والناس مندهشون ينظرون إلينا؛
وسبب الاندهاش أن الأكراد في المنطقة على الرغم من وجود مسجد في كل قرية ووجود عالم ديني وتلامذته لم يكونوا يرون شباب المدارس في المساجد إلا نادرا؛
فقد استطاع الشيوعيون والقوميون اللادينيون عبر سنوات طويلة أن يشككوا الجيل الجديد في إسلامه وأبعدوهم عن المساجد مستغلين عدم وجود حركة إسلامية مستنيرة في كردستان العراق ونتيجة لذلك فالجيل المثقف كان يري الإسلام في أنصاف العلماء الجامدين ومشايخ الطرق الدجالين من طلبة الدنيا .
كان منهجنا اليومي في المخيم يبدأ بأذان الفجر حيث يستيقظ الجميع لأداء الصلاة فيتقدمنا مدير المخيم فيؤمنا بقراءته الجيدة في هذا الجو الصافي الروحي؛
ثم يقرأ كل منا أوراده الموافقة للسنة ثم يختمها بقراءة الوظيفة الكبرى ويطلب المسئول من كل واحد قراءة آية أو حديث من حفظه ثم يقوم بعض الإخوة حسب الجدول اليومي بإعداد وجبة الحليب ثم الرياضة الصباحية وفيها تسلق الجبال القريبة المحيطة بالمخيم؛
ثم العودة لأخذ طعام الإفطار المعد من لدن أخوة آخرين ثم الاجتماع الكامل لسماع محاضرة الصباح في قضية من قضايا الإسلام ثم تبدأ بعد ذلك الجولة الحرة بين الآكام والأشجار والجبال؛
ثم يرجع الجميع عند سماع أذان الظهر لأداء الصلاة جماعة فالأوراد فالأدعية ثم طعام الغداء المكلف بإعداده أخوة آخرين ثم غسل الأطباق والقدور المكلف بغسلها آخرون ثم فترة النوم ثم الاستيقاظ على صوت مؤذن العصر ؛
ثم الصلاة ثم الاستماع إلى قراءة من كتاب إسلامي أو محاضرة علمية ثم الجولة الحرة المسائية ثم التجمع لصلاة المغرب وقراءة الأوراد وورد الرابطة ثم تقديم العشاء ثم غسل الأطباق وتحضير مواد طعام اليوم الثاني ثم الجلسة الهادئة والأحاديث الشيقة إلى أذان العشاء ثم الصلاة الجماعية ...
ثم الأذكار والأوراد ثم الختام بقراءة القرآن الكريم ثم التجمع لجلسة سمر جماعي برئ تذكر فيها الأحاديث الجماعية والطرائف التاريخية والنكت المضحكة البريئة لترويح النفس قبل النوم ثم يخيم الهدوء ويذهب كل منا إلى خيمته للنوم وبعد منتصف الليل يقوم من يقوم للتهجد والوتر ثم الاستيقاظ لصلاة الفجر وهكذا ..
لقد ذاق الجميع في تلك الأيام العشرة من الإخوة الإيمانية التي شدت على القلوب وتزودوا بكثير من معاني الخشوع والتقوى وعاهدوا ربهم على أن يرجع كل منهم جنديا من جنود الإسلام يهدي الله به الضالين وينشر الإسلام الصحيح بين أبناء قومه ويتحول إلى عنصر خير في عمله أو مزرعته أو دائرته أو كليته .
لقد أقيمت مخيمات وسفرات عدة كانت مستمرة خلال الخسمينيات في أماكن عدة وجهت شباب الإخوان توجيها ثقافيا رياضيا اجتماعيا وروحيا حتى يكونوا مهيئين لأحداث التغير التربوي المنشود في حياة المسلمين في الداخل ثم التهيئة التامة لجهاد الأعداء في الخارج .

النظام الداخلي للإخوان في العراق:

الإخوان المسلمين في العراق كإخوانهم في سائر الأقطار العربية كانوا يخضعون إلى نظام داخلي ولو لم يكن مدونا في المراحل الأولي .
فالمراقب العام وهو الأستاذ محمد محمود الصواف انتخبه الإخوان بعد رجوعه إلى العراق بعد أن تأكدوا أنه تتلمذ ثلاث سنوات على الإمام الشهيد حسن البنا في مصر وعين عضوا في الهيئة التأسيسية للإخوان في مصر .
وبعد أن علموا أنه بايع الإمام على العمل للإسلام في العراق ولم يأت انتخاب الصواف لذلك فحسب وإنما لقدراته الشخصية في الدعوة للإسلام ونظافته الإيمانية وصحة عقيدته الإسلامية وفهمه لمقاصد الشريعة وإدراك أمراض المسلمين وكيفية معالجتها .

سألت عددا من الإخوة الذين رافقوه من المرحلة الأولي: هل انتخب الصواف مراقبا عاما للإخوان أم فرض نفسه فرضا من الخارج؟

يقول الأستاذ الوهاب: (نعم انتخب انتخابا شرعيا ولم يفرض الرجل نفسه)
ويقول الأستاذ الواعظ:(تم تعين الأستاذ الصواف مراقبا عاما للإخوان في العراق بالانتخاب)

وأيد هذا كل من عبد الوهاب الحاج حسن ،وعبد القادر الجنابي ،وإبراهيم المدرس ،ووليد الأعظمي وداود العيثاوي،وعبد الملك محمد أمين .

وكانت للإخوان هيئة تأسيسية عامة تتكون من مسئول وأعضاء مكاتب الفروع والشعب في العراق كافة وهم الذين ينتخبون أعضاء اللجنة المركزية التي كانت أعلي هيئة في تنظيم الإخوان وهم الذين كانوا يخططون سياسة الجماعة ويأمرون بتنفيذها .

والآن لنحقق علاقة الأستاذ الصواف بانتخاب اللجنة المركزية :

يقول الأستاذ إبراهيم منير المدرس: (الانتخابات كانت حقيقية وحرة ونزيهة ولم يكن للأستاذ الصواف أى تأثير والكل عنده سواء)
ويقول الأستاذ محمد سالم زيدان : (كان انتخاب اللجنة المركزية صحيحا)
ويقول الأستاذ داود العيثاوي : (لم يكن يتدخل في انتخابات اللجنة المركزية)

أما علاقته الداخلية باللجنة المركزية فالجميع يقولون أنه كان يسمع آراء الإخوان ومناقشاتهم ويأخذ برأي الأكثرية حتى لو خالف رأيه الخاص .

يقول الأستاذ العيثاوي:

(وكانت عندنا في اللجنة المركزية ضوابط مكتوبة إنه لا يجوز الاتصال برجال الحكم إلا إذا اقتضت مصلحة الدعوة وكان الأستاذ الصواف يلتزم بذلك)

وأما مراتب الدخول في تنظيم الإخوان والتقدم فيها فكان على الوجه الآتي: (مؤيد ثم أخ ثم أخ عامل ثم نقيب ،ثم رقيب ،ثم عضو اللجنة المركزية)؛

وبيعة الإخوان للقيادة , كانت في الطاعة بالمعروف فيما لا يخالف الكتاب والسنة في المنشط والمكره, وفي نصرة الدعوة الإسلامية والجهاد في سبيل الله في مناحي الحياة كافة .

ولم يكن الإخوان لا في العراق ولا في غيره يعتقدون أنهم وحدهم يمثلون الإسلام ولا كانوا يقدمون أنفسهم أنهم هم الجماعة الإسلامية .

وإنما كانوا بكل تواضع يقولون إنهم جماعة من المسلمين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويعملون في خدمة الإسلام والمسلمين لحين قيام المجتمع الإسلامية والدولة الإسلامية .

وتاريخ الإخوان في البلاد العربية يشهد أنه لم يكن هدفهم تسلم الحكم وإنما كانوا يصرحون دائما إن هدفنا هو صياغة الأمة صياغة إسلامية فمن يعمل لذلك من الحكام فنحن مؤيدوه وجنوده في هذه السبيل .

وكانوا يقولون أيضا إن ساحة الإسلام واسعة تتسع لكل من يعمل في سبيل إصلاح المجتمع الإسلامي وإعلاء شأن الإسلام والمسلمين .

وهذه كتبهم ورسائلهم معروضة منشورة يستطيع كل باحث عن الحقيقة أن يرجع إليها ويتأكد منها وهذا لا يعني أنهم كانوا يرفضون الحكم لتنفيذ شريعة الله وإعادة كيان الأمة الإسلامية

وإنما هم لا يسلكون مسلك الأحزاب السياسية التي لا تعترف بحكم إلا إذا حققته هي بنفسها بينما الإخوان المسلمون هم أصحاب مبادئ وليسوا طلاب كراسي فأية جماعة مبادئهم فهم أنصارها وجنودها المهم عندهم أن يحكم بشريعة الله سبحانه وتعالي .

مصادر تمويل جماعة الإخوان المسلمين في العراق:

لابد لكل جماعة من مال تستعين به في إمداد نشاطاتها وتمويل أجنحتها .
فالمال عصب الحياة ولذلك فإن الإخوان فكروا في تأسيس القسم المالي الذي تجتمع عنده الموارد المتنوعة التي تأتي لجمعية الإخوة الإسلامية من المصادر الآتية:
  1. اشتراكات الأعضاء: حيث كان كل عضوا يدفع بحسب طاقته ومستواه المالي بدءا من (خمسين) فلسا في الشهر وصعودا إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير.
  2. تبرعات المحسنين من الأغنياء المسلمين: الذين كانوا يتحمسون لمأساة الإسلام في هذا العصر ويعرفون جهود الإخوان في مجال توعية وتوثيق وإيقاظ المسلمين وكان الإخوان ينشرون قوائم بأسماء المتبرعين ومقادير المبالغ التي تبرعوا بها ردا على الشبهات التي كان يثيرها أعداؤهم من الشيوعيين بالدرجة الأولي .
  3. شركة طباعية باسم (الشركة الإسلامية) لقد أسس الإخوان شركة للطباعة والنشر كانت تنشر الكتب الإسلامية والعلمية والتاريخية المتنوعة ومن أرباحها كانوا ينفقون على مجالات الدعوة الإسلامية .
  4. المكتبات الإسلامية: التي أنشاؤها في بغداد والمحافظات والتي كانت تبيع الكتب والجرائد الإسلامية والتي كانت تشكل مصدرا من مصادر تمويل الجماعة .
  5. جمعية الإخوان التعاونية: أسسها شباب الإخوان في فرع الأعظمية كانت تجهز المشتركين فيها بكافة الحاجيات من مواد غذائية وقرطاسية وملابس جاهزة وغيرها وكانت الجماعة تستفيد ومن الأرباح في أنشطتها .
  6. مديرية الأوقاف العامة: التي كانت تقدم مساعدات رمزية للجمعيات الإسلامية والخيرية ومن ضمنها جمعية الإخوة الإسلامية وكانت الإعانة في حدود (200) دينار سنويا وهذا المبلغ في ذلك الوقت كان له بعض قيمة .

النشاطات السياسية للإخوان في العراق:

(1) المواقف الداخلية:
الإخوان المسلمين لا يؤمنون بالسياسة بمعناها الميكافيللي وهو الغاية تبرر الوسيلة وإنما يفهمون السياسة بمعني الاهتمام بشؤون الأمة الإسلامية في مناحي الحياة كافة وهذه السياسة تسمي في الشريعة الإسلامية بالسياسة الشرعية التي يجب على كل مسلم أن يهتم بها ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر بقدر ما يستطيع وفي إطار ما تسمح به الظروف من أجل درء المفسدة عن الأمة وجلب المصلحة لها .
وعلماء الإسلام في الزمن الأخير عزلوا أنفسهم عن الحياة ولم يتدخلوا في شئون الأمة مكتفين بتدريس كتب العلوم اللغوية والنقلية والعقلية حاصرين أنفسهم في المساجد مما أحدث شرخا كبيرا في حياة الأمة وكان ذلك تمهيدا لما سمي فيما بعد (فصل الدين عن الدولة) أو (فصل الدين عن السياسة) تقليدا لأوربا النصرانية .

ولما أراد الإمام الشهيد إعادة التوازن إلى الحياة الإسلامية قال:

في الأصول العشرين:الأصل الأول:
(الإسلام نظام شامل لمظاهر الحياة جميعا فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة ،وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء وهو مادة وثروة أو كسب وغني وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء).
ومن هذا المنطلق نجد الأستاذ الصواف ينزل إلى الميدان بجبته وعمامته ويقود مظاهرة ضخمة للاحتجاج على معاهدة (بور تسموث) البريطانية الظالمة ويدعو إلى إلغائها لأنها كانت تقيد العراق وتربطه بعجلة الاستعمار الإنجليزي مر ة أخري .
وفي عام 1948م أخرج الصواف طلبته من كلية الشريعة وقادهم مع مدارس الأعظمية ودار المعلمين الابتدائية فتوجهوا جميعا إلى البلاط الملكي فخرج الوصي عبد الإله بنفسه فسمع الجماهير تنادي الصواف يمثلنا فنادي عليه فبين له الصواف أن مطالب الشعب المسلم تتركز في الجهاد في فلسطين .

فقال عبد الإله: سيكون ذلك . ثم خرجت الجماهير إلى مقر مجلس الوزراء في السراي فلم يخرج إليهم صالح جبر رئيس الوزراء وطلب من الشرطة تفريقهم بمسيلات الدموع فبدأت الجماهير تنادي بإلغاء المعاهدة والجهاد في سبيل إنقاذ فلسطين من اليهود ثم فرقت المظاهرة بالهراوات ثم الرصاص؛

وعندما تجمعت الجماهير على جسر الشهداء نزل عليها وابل من الرصاص من مئذنة جامع الآصفية فأدي ذلك إلى قتل وجرح عدد من المتظاهرين وسمي الجسر منذ ذلك اليوم (بجسر الشهداء) لهذا الاعتداء على الجماهير عليه .
وكان الإخوان يقيمون أحيانا دعوة لنواب المجلس النيابي لا سيما العارضين منهم يشجعونهم على الاهتمام بقضايا الأمة السياسية في ظل المعالجات الإسلامية ويدعونهم للوقوف أمام مؤامرات الأعداء للسيطرة على مقدرات العراق .
وكان في كل مرة يلقي العلامة الزهاوي كلمته ويخطب الصواف وكان الشيخ الزهاوي والأستاذ الصواف يذهبان إلى البلاط الملكي لمقابلة الملك أو مجلس الوزراء لمقابلة رئيس الوزراء كلا حزب الأمة أمر خطير أو نزلت بها كارثة سواء في العراق أم في خارج العراق ولم تكن في تلك المقابلات مداراة أو مجاملة بل يصل أحيانا إلى درجة التأنيب .
وكان الجميع يحترمون الشيخ الزهاوي احتراما كبيرا ويستمعون إليه لما رأوا فيه من العلم الغزير والإيمان العميق الخاشع والزهد المنقطع النظير ويهابون الصواف لما وجدوا فيه من الصراحة والشجاعة والقدرة على قيادة الجماهير .
ولقد سألت الذين قابلتهم من الإخوان القدماء عن هذه المقابلات فذكروا أن كل من كان يعيش قريبا من ذلك الوقت من الشيخ الزهاوي والأستاذ الصواف ويذهب معهما إلى هذه المقابلات كان يعلم بمدي الصراحة التي كان يمتلكها الشيخان الفاضلان الداعيان إلى دين الله سبحانه وتعالي .
ففي يوم تتويج الملك فيصل الثاني عام 1953م دعي الشيخ الصواف وضيفه العلامة الجزائري المجاهد محمد البشير الإبراهيمي إلى حضور الاحتفال في حدائق قص الرحاب وعندما بدأوا بتقديم كؤوس الخمر الحاضرين دون أدني مراعاة لوجود علماء الإسلام قام الأستاذ الصواف والشيخ الإبراهيمي أمام الناس محتجين وتركا الاحتفال .
وفي صباح اليوم التالي قصد الصواف البلاط الملكي وواجه (تحسين قدري) رئيس التشريفات الملكية ورفع احتجاجه على ما جري بالأمس وذكره أن ملكة بريطانيا قد توجت قبل ذلك بأيام من الكنيسة ووضع التاج على رأسها رئيس أساقفة كنتربري .

وقال لهم: (فهلا فعلتم مثل هذا أو أقل منها وأنتم مسلمون وتتوجون ملكا هاشميا من سلالة النبي صلي الله عليه وسلم فلماذا لا تذهبون به ليصلي الجمعة مع المسلمين في جامع والناس تراه وتقتدي به وتبتهج بمرآه)

وأراد الوصاف أن يقوم بواجب توجيه هذا الملك الشاب الذي كان يحبه العراقيون باعتبار أنه نشأ يتيما وباعتبار أن أياه الشاب الملك غازي قتله الإنجليز كما هو شائع عند العراقيين في مؤامرة دنيئة معروفة عندهم جميعا فكان يزوره ويحدثه عن مستقبل العراق ويحذره من الطغمة السياسية الفاسدة ويشرح له رسالة الإسلام؛

ويبين له أن الشيوعيين من أساتذة الجامعة يطعنون في رسالة الإسلام ويبين له أن الشيوعيين من أساتذة الجامعة يطعنون في رسول الله صلي الله عليه وسلم ويقوم آخرون الدعوة المباشرة والعلنية إلى الإلحاد وكان الصواف يلاحظ التأثر بهذه النصائح؛

ولكنه يقول:

(ما كان بوسعه أن يفعل شيئا على الرغم من المذكرات الكثيرة التي قدمناها له لأن خاله عبد الإله من ورائه لا يسمح له بأية حركة)

وأما نوري السعيد السياسي الراقي الأول فقد صارحه الصواف ,نصحه ورفع له المذكرات واجتمع معه اجتماعات طويلة تارة وحده وتارة مع الشيخ الزهاوي وتارة مع مجموعات من العلماء وكانوا يحملونه ما وصل إليه العراق من التردي في أوضاعه .

وعندما عقد نوري السعيد اجتماعا خطيرا في قاعة الملك فيصل الثاني (الشعب الآن) دعا إليه رجال الدولة من مدنيين وعسكريين ومجلس النواب والأعيان والوزراء والكبراء وكان الأستاذ مدعوا في هذا الاجتماع باعتباره يمثل التيار الإسلامي في العراق فلما انتهي نوري السعيد من محاضرته أستأذن الأستاذ الصواف ليناقشه فأذن له .

فناقشه فى أحوال العراق وخطر الشيوعية ومما قاله له:

(يا فخامة الرئيس : إن روسيا لوحت بالرغيف فتسارع إليها المتسارعون وغررت بشبابنا ورجالنا فماذا صنعتم أنتم ونحن لسنا في حاجة إلى مشروع يأيتنا من خارج بلادنا فما نحن ومشروع مارشال إننا بحاجة إلى حركة إصلاحية جذرية تقوم على العدل والمساواة بين الناس والتي أمر بها الإسلام كما أمر الإسلام بالتكافل الاجتماعي فهل صنعنا شيئا من هذا لنبعد الشيوعية ونطردها من محيطنا .
إن الذي يهزم الشيوعية إنما هو الإسلام الذي يقوم على العدل والقسطاس المستقيم فهل رجعنا إلى الإسلام أم أن الإسلام ما زال غريبا في بلادنا المسلمة ؟)

وأراد نوري السعيد أن يستغل الصواف وعلاقته الإسلامية بالدكتور الدواليبي (رئيس وزراء سوريا يومئذ) لكي يدعو إلى اتحاد سوريا مع العراق تحت التاج الهاشمي وقابل الصواف أكثر من ساعة غير أن الصواف رفض العرض المغري الذي عرض عليه .

وأما مجلات الإخوان وجرائدهم فقد كانت تنشر فيها مقالات سياسية قوية تبين مواقف الإخوان يومئذ من سياسات حكومات العهد المالكي ننقل هنا فقرات وردت في مقال افتتاحي في جيدة (الحساب) التي كان رئيس تحريرها المحامي ثابت السعودي ومدير التحرير والإدارة فيها الأستاذ المحامي محمد سالم زيدان

وكان يومئذ عضوا في اللجنة المركزية وهو الذي كتب ما يأتي:

(لم يتذوق العراق طيلة الحكم الوطني طعم الحياة الدستورية الصحيحة ولا عجب في ذلك يدرك الاستعمار ورجال الحكم الذين تربوا في أحضانه أن استقرار الحياة الدستورية وسيرها على قواعد ثابتة مستقرة؛
مما يهدد مصالحهم الشخصية وينتزع سيطرة الحكم من أيديهم ليضعها في أيد أمينة مخلصة حائزة لثقة الشعب تسير بالأمة قدما نحو الحرية والاستقلال والحكم الدستوري الصالح الذي يوزع الثورة القومية بالقسطاس المستقيم؛
فيقضي على الفوارق الطبقية ويهيئ الضمان والتكافل الاجتماعي حتى تأخذ الأمة المكان اللائق بين المجموعة الدولية فتشارك في بناء السلم العالي وتعمل على تخفيف آلام الإنسانية المعذبة وتشارك في بناء الحضارة وقد قدر للعراق أن تصبح مقدراته بأيدي طغمة لم يعرفوا معني الدستور ولا الحياة البرلمانية الصحيحة .
وكيف يفهمون هذه المعاني السامية من الحياة إن لم يكونوا قد تربوا في أحضانها في صباهم وشبابهم فيؤمنوا بها كعقيدة تختلط في دمائهم وتستقر في قلوبهم ولكن أني لهؤلاء أن يفقهوا ذلك وقد تخرجوا من المدرسة العسكرية الرشدية ثم لحقوا باللنبي ولورنس فأعمي عيونهم الذهب الوهاج ثم جاء بهم الإنجليز ليحكموا العراق بهذه العقلية الاستعمارية الجامدة ليقال لهم سادة وحكام)

ومن منطلق محاربة الإخوان للأحلاف الاستعمارية أفتي الشيخ العلامة الزهاوي والشيخ الصواف ببطلان الأحلاف الاستعمارية لأنها نوع من الاستعمار السياسي الاقتصادي والاجتماعي وقاوم الإخوان فكرة حلف بغداد منذ إنشائه والذي ضم (تركيا ، العراق ، باكستان ، إيران ، بريطانيا) وفضحوا أغراضه الاستعمارية وخطره على وحدة العرب والمسلمين .

وقد دعت قيادة الإخوان في العراق إلى اجتماع لرجالات السياسة في العراق ورفعوا ثلاث عرائض إلى الملك فيصل الثاني وقعها قادة الجماعة مع زعماء الأحزاب القومية والوطنية .

وعندما وصل الرئيس الباكستاني غلام اسكندر ميرزا إلى بغداد زاره الشيخ الزهاوي والأستاذ الصواف وعاتباه على دخول باكستان في حلف بغداد الاستعماري فأجاب (نحن دخلنا في حلف بغداد بسبب ضعفنا)

(2) المواقف الخارجية:
لم يشغل قضية من القضايا جماعة الإخوان المسلمين بعد الدعوة إلى تحكيم شريعة الله كقضية فلسطين فقد عدوها قضية القضايا ينافحون عنها ويناضلون في سبيلها ويجاهدون بدمائهم من أجلها ولذلك فقد اهتم الإخوان في العراق بهذه القضية اهتمام كبيرا .
فهم قادوا أول مظاهرة في تاريخ أربيل في سبيلها ودعوا الحكومة إلى فتح باب التطوع فتطوع الكثير كما مر بنا .وهم قادوا مظاهرات ضخمة بقيادة الأستاذ الصواف استغرقت سبعة أيام كان يخطب فيها بمعدل خمس ساعات في اليوم يستنهض همم الناس من أجل الجهاد في سبيل إنقاذ فلسطين .
ولم يكتف الإخوان بمجرد الكلام وإنما خططوا لتكوين جمعية باسم (جمعية إنقاذ فلسطين) بعد أن اجتمع الشيخ الزهاوي والشيخ الصواف والأستاذ طه الفياض صاحب جريدة السجل في دار الأستاذ عبد الرحمن خضر المحامي؛
فقرروا توجيه دعوة المجتمع والسياسة والعسكر فاجتمعوا وقدموا طلبا إلى الدولة لتشكيل تلك الجمعية وبعد الموافقة اجتمعت الهيئة التأسيسية مرة أخري؛
فانتخب العلامة الزهاوي رئيسا للجمعية والفريق الركن حسين فوزي باشا نائبا للرئيس والمحامي عبد الرحمن خضر محاسبا للجمعية والأستاذ محمد محمود الصواف أمينا عاما ثم شكلت اللجنة العسكرية برئاسة اللواء الركن إبراهيم باشا الراوي .
وبسرعة قرت اللجنة إرسال المتطوعين إلى الجهاد في فلسطين وأقبل الشعب العراقي إقبالا منقطع النظير وتدافع الشباب وتسابقت الوفود إلى مقر الجمعية في باب المعظم يريد الانخراط في سلك الجهاد الأكبر وبدأ الصواف يخطب في المساجد خطابات نارية حماسية يدعو المسلمين إلى التبرع بالغالي والنفيس من أجل فلسطين والمسجد الأقصى .
وبدأت الأموال تنهال على اللجنة من الرجال والنساء حتى شكلوا ثلاثة أفواج (فوج القادسية) و(فوج اليرموك) و(فوج الحسين)
جهزت بالمستلزمات الواجبة للمجاهدين كل ذلك في أقل من شهر وأرسلت الأفواج تباعا إلى معسكر قطنة في دمشق بين حماس الجماهير الحاشدة المباركة وتهليلات المؤمنين والمؤمنات بالنصر المبين .
ثم قررت الجمعية إرسال الصواف إلى ميادين المعارك مسافرا أولا إلى جنوب لبنان ثم نابلس وطولكرم وقلقيلية للإلحاق بالجيش العراقي والتنسيق مع قادته فخطب خطابا حماسيا في الفوج الذي كان يقوده الرجل المؤمن عمر على ودعاهم إلى الثأر والجهاد .
وبعد الخيانات المكشوفة التي حصلت من عدد من الحكومات العربية يومئذ وعدم السماح للمجاهدين الفلسطينيين والعراقيين والسوريين والمصريين من الإخوان وغيرهم بالقتال انكشفت الجريمة وتمكنت العصابات اليهودية بالبقاء ليشكلوا دولة مغتصبة ظالمة من خلال فرقة العرب ومناصرة الدول الاستعمارية .
ويروي الشيخ الصواف في سجل ذكرياته ما رأي من خيانات وإهمال مقصود للمجاهدين وعدم وجود إرادة القتال عند قادة معظم الجيوش العربية خلا الجيش العراقي الذي كان يقود قطعاته قادة مؤمنون من أمثال اللواء الركن مصطفي راغب والعقيد الركن (يومئذ) عمر على بطل معركة جنين .
وبعد سنوات الهدنة المزعومة مع اليهود من سنوات الخمسينيات لم يهدأ الصواف وإخوانه فكان يتصل في كل سنة قبل موسم الشتاء بأغنياء بغداد الكبار ويحرك فهم النخوة لندة إخوانهم اللاجئين الفلسطينيين فكان يجمع المواد الغذائية والتمور والبطانيان فيذهب هو ويوزعها على مخيمات اللاجئين.
وكم مر رأيت بأم عيني السيارات الكبيرة تقف أمام جمعية إنقاذ فلسطين وهي تتهيأ محملة بتلك المواد للتوجه إلى مدن الضفة الغبية ومخيمات اللاجئين .
وكان الشيخ الصواف حركة دائبة لا تفتر من أجل قضية فلسطين فعندما عقد مؤتمر القدس الأول في عام 1954 م كان هو لولب المؤتمر حيث حضر فيه كبار رجالات فلسطين والعالم الإسلامي كله .
وهذا المؤتمر دعت إلى عقدة جمعية إنقاذ فلسطين ووقع بطاقات الدعوة العلامة المجاهد أمجد الزهاوي طيب الله ثراه ولم يهمل الإخوان مناطق العالم الإسلامي فعندما قيام باكستان عام 1949 م شكلوا وفدا من العلامة الزهاوي والشيخ الصواف والمحامي عبد الرحمن خضر والأستاذ طه الفياض للتوجه إلى باكستان وحضور المؤتمر الإسلامي الأول هناك وتقوية معنويات الشعب المسلم الباكستاني في إسلامه والتمسك بشريعته .
وأما موقف الإخوان من ثورة الجزائر فكان موقف التأييد المطلق والعمل الدؤوب وكان الإخوان يخطبون في المساجد والحفلات العامة في الجامعات ويعرفون الناس بقضية الجزائر ويجمعون الأموال فيحولونها إلى صك فيقدمونه في كل مرة إلى ممثل الثورة الجزائرية في بغداد .
وعندما تعرضت أرض مصر للعدوان الثلاثي اليهودي الفرنسي الإنجليزي هب الشيخ الزهاوي والأستاذ الصواف لتلبية الدعوة التي تلقياها من السيد سليمان النابلسي والدكتور معروف الدواليبي لحضور المؤتمر العربي الكبير الذي عقد في دمشق حضره زعماء الأحزاب السياسية والإسلامية وكانت مظاهرة سياسية كبيرة وقفت إلى جانب مصر بكل الوسائل التي تملكها .
يقول: الصواف: (لقد حضرنا هذا المؤتمر وتناسينا كل ما بيننا وبين عبد الناصر من خلاف فالقضية ليست قضية شخص أو حاكم وإنما هي قضية شعب عزيز وأمة كريمة رائدة هي مصر)
وقبل السفر وقف الصواف في مسجد الإمام الأعظم وألقي خطابا حماسيا هيج الجماهير لمناصرة شعب مصر .ولم يكتف الصواف بذلك بل أجري مقابلات مع رجال السياسة والعاملين في الحقل العام وقدم الإخوان ومعهم آخرون العرائض الاحتجاجية والبرقيات إلى الملك فيصل الثاني تستنكر موقف الحكومة العراقية يومئذ من العدوان الثلاثي الخطير .

يقول الصواف:

(لقد دعانا بعض رجال الأحزاب للاجتماع صبح يوم الجمعة المبكر بدار أحد الإخوان من قادة حزب الاستقلال الكائنة في رأس الحواش في الأعظمية وحضر بالفعل مندوبون كبار من المسؤولين في حزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي؛
وبعض المستقلين من القوميين وكنت أنا ممثلا للحركة الإسلامية كما أحاط بالدار التي تجمع بها لا أقول العشرات بل ربما المئات من الشباب المتحمس ينتظرون قرارا للقادة بالتنفيذ ولقد طالت المناقشة بيننا واختلفنا في أمرهم لقد اقترحوا أن نصدر قرارا بالإجماع للقيام بمظاهرة كبري يقوم بها الشعب العراقي في هذا اليوم بعد صلاة الجمعة؛
أما أنا فقد طالبتهم بكل صراحة أن نتقدم نحن جميعا في صفوف المظاهرة لتكون أقوي وأجدي وعرضت عليهم وقلت لهم:أنني بنفسي أتولي الخطبة من منبر مسجدنا الكبير مسجد الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله بعد صلاة الجمعة مباشرة؛
وهو أكبر مساجدنا في بغداد ورجال الأعظمية رجال وطنية وإيمان ولكي نخرج بعد الخطبة الحماسية فقد وجهنا الدعوة الصريحة للمظاهرة أنا وشباب الدعوة الإسلامية وسيخرج معنا القادة ورجال الأحزاب والحركات الوطنية يتقدمون الصفوف بمظاهرة سلمية كبيرة سوف يتبعنا الشعب إذا رأوا إقدامنا لهذه المظاهرة؛
ولا يجوز لنا أن نتركهم وحدهم ونحن نجلس في بيوتنا وإذا رأت الحكومة هذا الاجتماع لابد أن تحترمه وتحسب له حسابه ولا يمكن أن تستعمل القوة أمام هذا الاجتماع الشعبي من جميع الأحزاب والهيئات .
وأما لو تركنا الشباب وحدهم فربما تنعكس الآية ويصبح شبابنا فريسة لنيران الشرطة أو طمعا سائغا للسجون والمعتقلات ويؤسفني أن أقول بعد جدل طويل رفض الإخوة فكرتي واقتراحي وأبوا أن يخرجوا في المظاهرة ويتقدموها؛
وخرجنا على غير اتفاق وكانت هذه النتيجة المؤسفة صدمة عنيفة للشباب الذين كانوا ينتظرون على أحر من الجمر وألغيت المظاهرة ولكن العمل بالطرق الأخرى لمناصرة مصر استمر ولم ينقطع والحمد لله)

ولما قامت الوحدة بين مصر وسوريا فرح الإخوان في العراق بذلك وأرسل الأستاذ الصواف تعليمات إلى إخوان العراق كافة بالدعوة إلى دخول العراق الوحدة مع مصر وسورية ومن أجل تقوية وحدة العرب وإنقاذ العراق من الوقوع في قبضة الشيوعيين ثم الاتحاد السوفيتي .

موقف الحكومات الملكية من الإخوان

لقد كانت الحكومات المتعاقبة في العهد الملكي تتوجس من النشاط الإخواني وتضع العراقيل المتنوعة أمامه .. ومنها أنه في عام 1949 م شددت الحكومة الرقابة على الإخوان بسبب احتدام الصراع بين النظام الملكي في مصر وبين الإخوان المسلمين بعد قتل أحد أفرادهم (من دون علم القيادة) لرئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي أثر قيامه بعقد معاهد مع الإنجليز عدها الإخوان مذلة وغير متكافئة؛
ثم قيام المخابرات المصرية بتوجيه مباشر من الملك الفاروق ورئيس وزرائه إبراهيم عبد الهادي بقتل المرحوم الإمام حسن البنا وقد فتحت السجون في مصر أبوابها لاستقبال المئات من الشباب المسلم المجاهد في فلسطين وبقي من بقي منهم خارج مصر وكان من بينهم المرحوم سعيد رمضان صهر الإمام البنا وهو من الشخصيات المعروفة بين الإخوان .

يقول الأستاذ عبد الكريم الوهاب:

(وقد قمنا له بالواجب كأخ عزيز حل بين ظهرانينا على الرحب والسعة وكان يحمل في جعبته صورة منشور يشرح فيه واقع ما كان يجري في مصر من ظلم وتعسف ضد الإخوان من لدن السلطة المصرية)

وقد طلب طبعه وتوزيعه في العراق لغرض وقوف العراقيين على واقع الحال تطوعت مع بعض الإخوان على توزيعه ولما كان النظام الملكي في العراق على وفاق مع النظام الملكي في مصر فقد استشاط المسئولون في العراق غضبا على ما جاء بهذا المنشور وأوعزوا بجمعه وإتلافه وتوقيف من قام بطبعه وتوزيعه فورا وكنت ممن ألقي القبض عليه في شارع الرشيد قرب سينما الحمراء)

ولقد مر أنه بعد رجوع الأستاذ الصواف إلى العراق انطلق بالدعوة الإسلامية إلى الإمام وقاد مظاهرات صاخبة في الشوارع لأيام عدة وألقي خطابات حماسية مستمرة هابه الحكام وهابوا الإخوان وأخذوا الحذر منهم حتى أن رئيس التشريفات الملكية تحسين قدري قال للصواف لماذا يحافظ الحكام ؟

فأجابه الصواف: ما لهم وما دهاهم فأنا لا أملك سلاحا ولا أريد أن أحارب أحدا أنا أريد لكم الخير وأدعوكم إلى الله وهل أنتم بعيدون عن الله حتى تحاربوا الفكر الإسلامي ؟ أنتم مخطئون سيورا على هذا المنهاج والله يرفعكم ويحفظكم ونحن سنكون لكن جنودا مخلصين لا ننازعكم في الحكم بل نريد حكم الله وتحكيم شرعه العظيم وهو لكم ضمان وأمان)

ولقد أعتقل الصواف بسبب قيادته لهذه المظاهرات إذ أدخله نوري السعيد السجن ولم يخرج إلا بعد أن حصلت ضجة من بعض النواب بعد خمسة أشهر من السجن .

وكان أن اعتقل مرة أخري بسبب ذهابه إلى البصرة وأبي الخصيب وإلقائه الخطب الحماسية لإيقاظ المسلمين للدفاع عن فلسطين وكان من خلال خطاباته يتعرض بحكام النظام الملكي وتهاونهم وبعض حكام العرب يومئذ لقضية فلسطين؛

ولذلك صدر أمر وزير الداخلية في وزارة صالح جبر بإلقاء القبض عليه وتسفيره إلى بغداد وفي الليلة نفسها سقطت وزارة صالح جبر وألغي أمر اعتقال وبدل أن يذهب الصواف السجن أتي إليه الجمهور وأخذوه ليلقي خطابا مؤثرا في أثناء المظاهرات التي طالت بسقوط صالح جبر .

وأخيرا وبعد أن منعت وزارة نوري السعيد المرشد العام للإخوان المسلمين من دخول العراق من سوريا غضب الإخوان ونشر شاعرهم الأستاذ وليد عبد الكريم الأعظمي العبيدي قصيدته النارية ضد نوري السعيد وحكام العراق (قالوا زيارة شيخ) افتتحها بقوله:

همزتني يا أبا الإخوان عصماء
ما خانني ألف فيها ولا باء

ومنها:

يا مرشدي هذه بغداد قد عصفت
قوي الفساد بها واستفحل الداء

هبت عليها أعاصير معددة

لم ينج منهن أموات وأحياء

تلاطمت لجج الفوضي بها فغدت

كأنها عن معاني العز جرداء

وكيف تنمو معاني العز في بلد

إن كان يحكمه قوم أذلاء

ومنها:

قالوا زيارة شيخ لا تقدمنا
وليس فيها لنا نفع وإرضاء

ثم يقول:

يا قائد الدعوة الكبري ولولبها
القلب أنت وباقي الناس أعضاء

ضاقت عليك بلاد أنت تخدمها

يا مرشدي هي للأعداء فيحاء

قد أعلنوا منعكم جهرا بلا خجل

وكيف يخجل بالإفساد مشاء

لو أم كلثوم زارتهم لكنت تري

لها تقام احتفالات وضوضاء

ظنوا بمنعك تمزيقا لوحدتنا

خابوا ففي منعكم للشوق إبقاء

ونحن في كل يوم نلتقي معكم

في ورد رابطة ما مر إمساء

فصدر الأمر بتعطيل مجلة (الإخوة الإسلامية) وحل الجماعة ونقل أملاكها المنقولة وغير المنقولة إلى جمعية التربية بقرار صادر بتوقيع نوري السعيد رئيس الوزراء في 9/8/1954م.

وفي سنة 1958 م حلت الحكومة العراقية مجلس النواب لكثرة نواب المعارضة فيه من المنتمين للأحزاب السياسية ودعت إلى انتخابات جديدة في آخر العهد الملكي وعينت لها يوم 5/5/ 1958 موعدا لأجلها .

وقررت اللجنة المركزية لجماعة الإخوان المسلمين وترشيح المراقب العام الأستاذ الصواف لهذه الانتخابات عن بلدته الموصل بعد أن رشحته رابطة العلماء في العراق ووجهت نداء إلى جمهور الموصل تدعوه فيه إلى مساندة الصواف الذي سيكون صوتا للإسلام في داخل البرلمان يعارض التشريعات المخالفة للإسلام وينبه المسؤولين إلى بيان حكم الإسلام في كل أمر من الأمور ويدعو إلى إصلاح الأوضاع الفاسدة في البلاد .

ووقع البيان عن الرابطة ثلاثة من أكابر العلماء المخلصين المعروفين لدي الناس وهم العلامة الفقيه الزاهد الشيخ أمجد الزهاوي والعلامة الكبير الشيخ محمد الفزلجي والعلامة الجليل الشيخ محمد فؤاد الآلوسي حفيد أبي الثناء الآلوسي صاحب تفسير روح المعاني .

وفي يوم الانتخاب اندفع أهل الموصل الأشاوس لتأييد شيخهم الصواف غير أنه رأوا العجب العجاب لقد صدتهم الشرطة عن الصناديق وأدخلوا مؤيدي مرشح الحكومة وعبأوا الصناديق بالأوراق المزورة فسقط الصواف ونجح ممثل الحكومة .

وعلى أثر ذلك نشر الصواف بيانا حاسما قويا ووزعه الإخوان على الشعب يكشف فيه التزييف الذي حدث في الانتخابات ويهاجم الحكومة ويتهمها بالخيانة وممألاة الأجنبي الكافر فاستدعاه وزير الداخلية سعيد قزاز يومئذ وعاتبه على هجومه العنيف على الحكومة ثم قال له لابد من تقديم هذا البيان إلى المحاكم .

وقدمت هذه الأوراق إلى المحكمة فتأخرت المحاكمة إلى أن قامت ثورة 14 تموز ومن المضحك أن أعداء الصواف أرادوا أن يواصلوا المحكمة في الموصل حتى بعد الثورة ولكن جاءهم من ينصحهم ويقول عيب ... عيب لا تفضحوا أنفسكم فكفوا وأغلقوا الدعوى .

وأتذكر هنا أنني كنت طالبا يومئذ في الصف الرابع من دار المعلمين العالية وكان الطلبة الشيوعيون يهاجمون الصواف ويقولون هو عميل نوري السعيد فسينجح في الانتخابات ولكن نتيجة الانتخاب جاءت لطمة قوية لأحقادهم وأكاذيبهم في هذا الرجل النظيف .

وذلك أيضا أن هذه الحادثة قد أثرت على عدد من الإخوان بحيث تأثروا بالدعايات الشيوعية واللادينية ضد ترشيح الصواف واحتجوا على اشتراك المراقب العام في هذه الانتخابات في الوقت الذي قاطعته الأحزاب السياسية وأدي ذلك إلى فصلهم من الجماعة لخروجهم على إجماع إخوتهم وسلوكهم غير الموافق لفقه العمل الجماعي ولعدم اكتفائهم بالمعارضة البناءة وعرض آرائهم فحسب .

أسلوب عمل الإخوان في فترة الحكم الملكي:

الخبير بحركة الإخوان في العهد الملكي من الذين تتبعوا الأحداث السياسية والاجتماعية أو من الذين احتكوا بهم أنهم عندما نزلوا إلى الميدان لم يكن قصدهم التخطيط لتسلم الحكم كباقي الأحزاب السياسية وإنما كان غرضهم الأول تربية المجتمع تربية إسلامية صحيحة وتثقيف أبنائه بثقافة إسلامية رصينة واعية كي تحول بينهم وبين الوقوع في الانحراف العقيدي والتغريب الثقافي والاستسلام للجوانب الخرافية من ثقافات القرون المتأخرة الدخيلة .
ولذلك كانت مواجهة الإخوان للشيوعية التي سبقتهم في العمل في المجتمع العراقي بأكثر من عقد من الزمن مواجهة حاسمة لا هوادة فيها لأنه صراعهم مع الشيوعية كان صراعا عقيديا فالفكر الشيوعي المادي يصطدم مع الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكا اصطداما أساسيا وجوهريا .
ولذلك فالشيوعيون من أول يوم من ظهور الإخوان حاربوهم محاربة شديدة بمختلف الأساليب اللا أخلاقية المعروفة عندهم تارة باتهامهم بالرجعية وأخري بالعمالة للأجنبي وثالثة بالهجوم على الإسلام مباشرة عبر صحفهم السرية ومن ثم صحفهم العلنية فيما بعد .
وقد عشت في أتون هذا الصراع المرير مع الشيوعية مع إخواني أربع سنوات في دار المعلمين العالية وسمعنا من التزوير والافتراء وعداوة الإسلام والمسلمين ما تقشعر له الأبدان .

يقول الأستاذ الصواف:

(فالحركة الشيوعية نمت في العراق وترعرعت بتوجيه دولي في الوقت الذي كنا نعيش فيها على تبرعات الأطفال وعلى فتات التبرعات من بعض الأغنياء الذين لم يقصروا في تأييد دعوتنا والحمد لله أما هو فكان يأتيهم الدعم من كل مكان خاصة من اليهود المجرمين المفسدين؛
وإن كان نوري السعيد قد ضربهم أخيرا وشنق رؤساء الحزب الشيوعي ولكن هذا لا يكفي فالشيوعية لا تحارب بشنق الأفراد إنها لا تحارب إلا بالفكر الإسلامي وقد عرفوا هذه الحقيقة فحاربونا بكل ما أوتوا من قوة بالشائعات والدسائس وتفريق الصفوف)

أما الفساد الأخلاقي والاجتماعي فالإخوان حاولوا أن يذكروا المسلمين بجذور ذلك الفساد من نواحيه ودعوا الحكام للقضاء عليه بما كانوا يقترحون من حلول نابعة من الشريعة الإسلامية وكان هذا الاتجاه بارزا في خطاباتهم وكتبهم ورسائلهم وصحفهم لا سيما التي كانت تصل من خارج العراق ..

وكانوا حريصين على أن يتابعوا ما يحصل في المجتمع: فمثلا عندما أقام الشيوعيون واللادينيون أسبوع المرأة في عام 1954 م دعوا فيها المرأة إلى الاندماج مع الحياة الحضارية الغربية المعاصرة كالسفور والاختلاط وحرية السلوك والتمتع بمتع الحياة رد عليهم الإخوان بإقامة (أسبوع الفضيلة)

عرضت فيها الأخوات المسلمات التشريعات الإسلامية حول المرأة التي أراد الله بها حفظ كرامة المرأة وعفافها وانضباطها بضوابط الأخلاق الإسلامية السليمة التي تحفظها من تقاليد المرأة الغربية في سلوكها الإباحي ونشر الفجور في الحياة الاجتماعية .

وقد قامت الإذاعة العراقية في حينه بنقل ما جري في الأسبوعين وكانت تلك الكلمات حديث الناس في المجتمعات العراقية يومئذ.

أما أسلوب الإخوان فكان في النصح والإرشاد تذكير هؤلاء بأنهم مسلمون غير أنهم لا يفهمون حقائق الإسلام فلابد من مراجعة مواقفهم ولذلك نجد أن علاقة الأستاذ الصواف بالسياسيين القوميين والوطنيين كانت علاقة طيبة وكانت تربط بينه وبين كثير من هؤلاء علاقة صداقة ومودة كما ذكرها هو في سجل ذكرياته .

فالإخوان رأوا أن هؤلاء يمكن التفاهم معهم طالما لا ينكرون أنهم مسلمون علما أن جمعا من هؤلاء كانوا شديدي الهجوم على الإخوان في مجالسهم ومنشوراتهم لا سيما بعد الصدام الذي وقع بين جمال عبد الناصر عام 1954م وبين الإخوان في مصر عندما أقدم على إعدام عدد من قادة الإخوان عبر محاكمات عسكرية صورية عدت يومئذ في الأوساط العالمية والإسلامية القضائية مهزلة من مهازل حكم العسكر في مصر.

وعلى الرغم من موقف بعض العلماء من الأستاذ الصواف عندما نزل إلى الميدان ودعا إلى إعادة الحياة الإسلامية واتصل بالشباب فإنه كان متعاونا وإيجابيا معهم إلى أقصي الحدود .

يقول الصواف:

(ولا أريد أن استرسل في تعاوني مع جميع العاملين للإسلام ولا أخص الإخوان المسلمين وحدهم بل أؤكد لكن أنني تعاونت مع كل عالم وعامل للإسلام وأحببت كل من ينطق بالحق ويعمل للإسلام وودت أن أتعاون مع يدا بيد وكنت لا أهتم سواء كنت في الصدر أو في المؤخرة ما دام العمل للإسلام؛

وقلت هذا لعلمائنا وبعضهم كانوا يتأثرون أقول لهم تقدموا وأنا وراءكم جندي لا يخالفكم واعملوا ودعونا نعمل للإسلام إذا اتحدنا انتصرنا وقوينا والبلد الإسلامي والإسلام عريق في القلوب والنفوس في العراق)

وأما أسلوب الإخوان في توحيد المجتمع العراقي بقسميه السنة والشيعة فقد كان أسلوب الدعوة إلى الإخوة الإسلامية وتوحيد صفوف أهل القبلة تجاه المخاطر التي كانت تحيط بالمجتمع الإسلامي عامة والعراقي خاصة .

ولذلك رضي مجتهدو الشيعة بهذا الاتجاه وكتبوا رسائل إلى العلامة الشيخ أمجد الزهاوي والأستاذ الصواف يعرضون تعاونهم وتشجيعهم .ولم يتأثر الإخوان قط في منهجهم ودعوتهم بالقضايا الطائفية التي شجعها الاستعمار الإنجليزي منذ احتلاله أرض العراق عام 1917م

يقول الصواف:

(وكنا نتعاون مع علماء النجف الأشراف الكبار وذهبت إلى نجف مع الشيخ أمجد عدة مرات للتعاون على نصرة الإسلام وخصوصا عندما انطلقت الشيوعية وقاومت الثورة وكانت صلاتنا أكبر وكان الشيخ المجتهد الأكبر محسن الحكيم رحمه الله وهو الإمام الكبير المقلد والمسئول الكبير أصدر فتوى كبيرة في تكفير من اعتنق الشيوعية؛

وكنا كلما اجتمعنا لأمر إسلامي كانوا معنا وكذلك الشيخ محمد آل كاشف الغطاء رحمه الله من علماء النجف الكبار كانوا يؤيدوننا وأرسلوا لى رسائل بعد أن أصدرت مجلة (الإخوة الإسلامية) يهنئونني ويشكرون المجلة على اتجاهها الإسلامي الشامل الكامل الذي ارتضوه وارتضته جميع الفئات في العراق ..)

ولا شك أن وجود الشيخ أمجد رأس علماء العراق مع الأستاذ الصواف كان تزكية له ولجماعة الإخوان المسلمين علما أن الصواف نفسه كان شخصية نظيفة عاملة محبوبة أما أسلوب الإخوان مع القوميات الأخير فكان أسلوب الدعوة إلى الإخوة الإسلامية الخالصة وعدم إثارة النعرات القومية فالإخوان لا يؤمنون إلا بالإسلام طريقا للحياة والارتباط بين القوميات الإسلامية؛

ولذلك نجد أن حركة الإخوان انتشرت بين الأكراد والتركمان كما انتشرت بين العرب دون تمييز وفرقة وقد يسأل القارئ اللبيب أخيرا ماذا كان موقف الإخوان من أهل الأديان ؟

نقول: كان موقفهم موقف الإسلام الذي يقول كتابه المبين (لا إكراه في الدين)

نقول: هذه كتبهم ومجلاتهم وصحفهم لم يتعرضوا بهم ولم يهاجموا أديانهم وإنما أشغلوا أنفسهم بحل معضلات مأساة الإسلام والمسلمين في هذا العصر في بلدهم والعالم الإسلامي فالإخوان ملتزمون في تصرفاتهم ومواقفهم بالكتاب والسنة ولا تدفعهم الأحقاد النفسية وردود الفعل إلى اتخاذ مواقف متشنجة تجاه أهل الأديان الأخرى .

وكانت علاقة الإخوان بالأقباط في مصر وما زالت علاقة ودية أما حملات التبشير الاستعمارية في العراق وفي بلاد الإسلام فالإخوان قاوموها وفضحوا أهدافها في كتبهم ومجلاتهم وصحفهم ولذلك نقرأ في أحد أعداد مجلة (الإخوة الإسلامية) في صيف عام 1954 م مقالا بعنوان (رأس الأفعى في الأعظمية)

فقد تحدث هذا المقال عن كلية الملك فيصل التبشيرية الأمريكية خلف بيت رشيد العالي الكيلاني في الأعظمية ونبه عليه القوم من الوزراء والأغنياء والوجهاء بكون تلك الكلية التبشيرية تربي أولادهم تربية أمريكية استعمارية وتشككهم في دينهم والإخلاص لبلدهم وقد سمي فيما بعد بكلية بغداد ثم جامعة الحكمة ثم عرقت والحمد لله في بداية السبعينيات ثم تحولت إلى معهد التكنولوجية في الزعفرانية جنوبي بغداد .

وأما اعتراض الأستاذ الصواف على إذاعة قداس نصراني من التلفزيون فكان بسبب أن الإذاعة لم تذع يومئذ خطبة جمعة للمسلمين وهم يمثلون 97% في المائة من السكان فهل يجوز إذاعة قداس نصراني لطائفة تشكل 2 % بالمائة من السكان فالحقيقة كان الاعتراض بالدرجة الأولي على الدولة أكثر من الاعتراض على القداس؛

لأن الصواف قال لعبد الوهاب مرجان رئيس الوزراء لو نقلتم خطبة جمعة واحدة لكان لنا موقف آخر علما أن ليس الصواف وحده استنكر النقل وإنما الاستنكار جاء من علماء آخرين في بغداد والنجف للسبب نفسه .

الإخوات المسلمات في العراق:

ظلت المرأة المسلمة مهملة لقرون يفتك بها الجهل والأمية والعقلية الخرافية ولذلك فإن نصف المجتمع كاد أن يختنق بسبب هذا الوضع المزري زيادة على تخلف الرجال وأمية العوام منهم وعقليتهم المتخلفة مع العنجهية الفارغة في شؤون الأسرة والأولاد.

فلما نزل الإخوان إلى الساحة أرادوا أن يعيدوا التوازن إلى المجتمع فثقفوا الرجال والنساء معا على قدم المساواة والمشكلة في العصر الأخير أن العقل العام في المجتمع قد أصابه التأخر والوهن والسقوط والبعد عن مفاهيم الإسلام التربية الإسلامية الصحيحة .

وهنا فهم فكروا في فتح فرع لجمعية الإخوة الإسلامية باسم جمعية (الأخت المسلمة) في عام 1374هـ 1955 م.

جاء في أغراضها في المادة الثانية من نظام الجمعية:

  1. العمل على بث العقيدة الإسلامية الصحيحة في الأوساط النسائية .
  2. نشر التعاليم الإسلامية والدعوة إلى التمسك بها .
  3. تربية المرأة تربية إسلامية وتكوين البيت المسلم على أساس إسلامي متين .
  4. مكافحة التفرنج والتحلل الخلقي .
  5. وجاء في المادة الثانية ما يأتي:(تتوسل الجمعية لتحقيق أغراضها بما يأتي):
  1. عقد الاجتماعات النسائية وإلقاء الدروس والمحاضرات الدينية والعلمية والتهذيبية .
  2. طبع الكتب والرسائل الدينية ونشرها بين الناس .
  3. فتح الدورات الصيفية للتعليم والتهذيب .

ولقد أجيزت هذه الجمعية برئاسة الأستاذ الفاضلة نهال أمجد الزهاوي رحمها تعالي والتي تعلمت وتفقهت على والدها العلامة الزهاوي وتربت في هذا البيت الطاهر عاونتها نخبة من المؤمنات الفاضلات من أمثال الأخوات:

فاطمة الباجة جي وبهية الخوجة وعدوية الشواف وخيرية الزهاوي ،وصفية الأطرقجي ،وزهرة خضر ونجية خضر،وآمنة شيخ العرب ،وغيرهن وكان عدد من هؤلاء يكتبن في صحف الإخوان .

وعندما بدأن بالعمل والاتصال من خلال نشاطات الجمعية أثرن في كثير من المثقفات من طالبا الجامعة وغيرهن وغدت الجمعية مقرا لاجتماع النساء في بغداد؛وقد بنت الجماعة لهن مقرا ثابتا ألحقت به قاعة المحاضرات من مبالغ التبرعات من الرجال والنساء ولا شك أن محاضرات الأستاذ الصواف في بعض الثانويات ودار المعلمات كان لها دور كبير في إسناد عمل الجمعية وبعد مرور سنوات على العمل النسوي الإسلامي؛

وقع خلاف بين الإخوات في أسلوب العمل الإسلامي بين النساء فانسحبت جماعة منهن وأسسن (منتدى المرأة المسلمة) وبنين لها مقرا في أول شارع المغرب بقرب جمعية (الأخت المسلمة) ولكن دون مقاطعة أو تنابز بالألقاب وفجور في الخصومة .

وإذا هناك متسع في العمل للجميع وبأساليب متنوعة وأجر الكل على الله تعالي إذا خلصت النيات له وحده سبحانه وتعالي .صحافة الإخوان في العراق في عهد الصواف .لا شك أن الصحافة نافذة كبيرة وطريق خطير لنشر الدعوات والأفكار ولم يكن هناك مجال لفتح تلك النافذة في العراق في الخمسينيات إلا المجلات والصحف والنشر العام .

ومن هنا فقد فكر الإخوان في إنشاء شركة طباعة في بناية ملحقة بالمركز العام في باب المعظم سميت (الشركة الإسلامية للطباعة والنشر) واشتريت لها المطبعة من التبرعات والتي شكلت فيما بعد مصدرا ماليا للجماعة .

أما المجلات التي أسستها الجماعة فهي:

الإخوة الإسلامية:

  • صدر العدد الأول بقلم الأستاذ الصواف وفيه ما يأتي:
فهذه مجلة الإخوة الإسلامية أقدمها للقراء الأعزاء إسلامية المنهج تدعو إلى الله وتكشف عن محاسن الإسلام ومزاياه وترفع صوت الإسلام في العراق وتحميه وتذود عنه وتبشر به وتدعو إليه و وتعرض أحكام الإسلام العظيم على المسلمين أنفسهم عرضا فطريا بسيطا سهلا مجردا من الشوائب والبدع والخرافات مقتفية في العرض أثر رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه الكرام والتابعين لهم بإحسان قبل تبلبل الأفكار وتفكك الوحدة الإسلامية وغلبة الدنيا واستبداد الأهواء والمطامع على الناس .
والإخوة الإسلامية مجلة الإسلام في يسره وسماحته وصدقه وصفاته وعفوه وإحسانه ونقاوته وسلامته ووضوحه وبيانه وطهره وعفافه وعدله ومساواته تسير في خدمة دعوة القرآن وتجلي فضائل الإسلام وترفع عنه مغالاة الغالية وزيف المبطلين ومغالطة الجاهلين المغتصبين والملحدين المعاندين .
والمسلمون عندها كأسنان المشط فهم في الإسلام سواء لا فضل لأحدهم على الآخر إلا بالتقوى وقد ربط الله بين قلوبهم بحبله المتين وعقد بينهم بعقد الأخوة الإسلامية وما عقده الله بيده لا تفصمه يد الشر مهما أوتيت من قوة في هدم وتخريب .

وستعمل هذه المجلة إن شاء الله لتنمية هذا العقد وتقويته وتوثيقه لنبعث الإخوة الحقيقية بين أبناء الأمة الواحدة ذات الرسائل الخالدة والمجد الأثيل:

أما النعرات الفكرية والاجتماعية والعصبيات والجنسيات والإقليميات والطائفيات في حدودها الضيقة فستلوي هذه المجلة عنقها عنها وتصد عنها وتحاربها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا وستعالج قضاياها في كثير من الجرأة والوضوح والإقدام على ضوء الإسلام ووفقا لمبادئه العلية وأحكامه القويمة .
ومن الأغراض التي ستعمل لها هذه المجلة وتجاهد في سبيلها ما حييت هي:
العمل على تثبيت العقيدة الصحيحة والتوحيد الخالص في النفوس وتقوية روح التدين في الأمة الإسلامية .
عرض الإسلام للعالم على أنه نظام عالمي شامل يعالج الحياة في مختلف شؤونها .
بعث الأخوة الحقيقية بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) والتمهيد للوحدة الإسلامية الكبرى .
مكافحة روح التفرنج والانحلال في النساء والرجال .
دعوة المسلمين إلى القوة وأسبابها (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)
  • وكان المجلة نصف شهرية وآخر عدد صدر من تلك المجلة هو العدد الرابع عشر السنة الثانية في عشرة ذي الحجة 1373هـ الموافق لآب 1954م وقد صدر الأمر كما سبق بإغلاقها لنشرها قصيدة وليد الأعظمي في استنكار منع دخول الإمام الهضيبي إلى العراق .
  • وإذا استعرضنا أعداد المجلة , وجدنا أن من كتب فيها هم :
(العلامة الزهاوي ،والأستاذ الصواف ،والعلامة البشير الإبراهيمي والأستاذ سيد قطب والشيخ محمد نمر الخطيب والعلامة الدكتور تقي الدين الهلالي والدكتور على حسن ذنون ،والدكتور معروف الدواليبي والعلامة محمد بهجت البيطار والأستاذ محمود الملاح،والشيخ محمد الغزالي والأستاذ عبد الوهاب حموده والدكتور عبد الكريم زيدان والأستاذ نور الدين الواعظ ،ومن الشعراء عمر بهاء الدين الأميري ومحمد بهجت الأثري ،ومحمد محمود الزبيري، ووليد الأعظمي .
  • وعند صدور المجلة رحب مجتهدوا الشيعة بها وبالموضوعات التي كانت تنشر فيها ومن هؤلاء المجتهد الكبير الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء حيث كتب رسالة إلى الأستاذ الصواف يبارك فيها اتجاه المجلة في تجديد الإخوة الإسلامية بين المسلمين .
  • وقد شملت مقالاتها أهم الموضوعات الفكرية والسياسية في معالجة قضايا العالم الإسلامي ورد كيد أعداء الإسلام بنهج صادق ومعالجة واقعية كانت تهدف إلى إصلاح الأوضاع الاجتماعية والسياسية ومحاربة الفساد الذي استشري أمره وزاد خطره .
ملحق شهري لمجلة (الإخوة الإسلامية) كان يحرره جمع من إخوان الكرخ صدر العدد الأول بتاريخ 1 رجب .
والمقالة الافتتاحية بقلم الأستاذ عبد الكريم زيدان يتكلم فيها عن دعوة الإخوان التي هي دعوة الإسلام الصحيح والتي هي نظام شامل من منهاج كامل لجميع شؤون الحياة ولجميع البشر في كل زمان ومكان .
وفيها مقالات متنوعة سياسية ودعوية وتاريخية وطبية وفيها قصيدة روحية جميلة لفاضل صالح السامرائي ومن الذين كانوا يكتبون فيها فاضل دولان وصالح عبد الله سريه وعلى السعدون وطارق الدوري وطالب إسماعيل ومحمد عبد الرحمن ،وجاسم العاني وعبد الرحمن محمد سعيد .
ونقرأ في كل عدد مقتطفات من رسائل الإمام الشهيد حسن البنا وفي العدد (9) تقرأ خبر زيارة جماعية من علماء ندوة العلماء في الهند زاروا بغداد ونزلوا ضيوفا على الجماعة وخطب أحدهم في الاجتماع الأسبوع في جامع الأزبك باللغة العربية نال إعجاب الحاضرين .
  • الطريق المستقيم:
مجلة صغيرة كان يحررها طلبة الإخوان في كلية الحقوق .
فيها مقالات إسلامية وثقافية ومتنوعة صدر منها عددان عام 1953 م و1954 م.
كان محررها الأول فوز محمد سامي من كركوك.

وأما الجرائد التي أصدرها الإخوان في:

الحساب:

صاحبها ورئيس تحريرها المحامي ثابت السعودي ومدير التحرير والإدارة محمد سالم زيدان .
صدرت من هذه الجريدة ثمانية أعداد والعدد الأول منها صدر في شهر نيسان عام 1954م.
وكانت جريدة قوية وصريحة جدا في فضح حكام ذلك العهد وكانت شديدة على الاستعمار وسياساته الغاشمة في العراق والعالم الإسلامي .
وكانت تعالج قضية فلسطين وتتحدث عن الاعتداءات الصهيونية وتدعو إلى وحدة العرب وتنشر مقالات قوية في قضايا التحرير في المغرب والجزائر وتونس والعالم الإسلامي .
ومن أشهر مقالات هذه الجريدة مقالات متسلسلة بعنوان : (أعمدة الاستعمار الأمريكي في العالم) للأستاذ المحامي محمد سالم زيدان .
وشدة مقالات هذه الجريدة على حكام العهد الملكي دفعت محمد فاضل الجمالي رئيس الوزراء أن يذهب إلى الأستاذ المحامي عبد الرحمن خضر خال أولاد محمد سالم زيدان ليقول له:فليشتمني سالم ولكن لماذا يتعرض للعائلة المالكة.
استمرت الجيدة أربعة أشهر ثم أغلقت بأمر وزير الداخلية .

جريدة كانت تصدرها شعبة الأعظمية

كانت افتتاحية العدد الأول بقلم المهندس عدنان رانية عرض فيها دعوة الإخوان المسلمين .
وفيها مقالات سياسة تاريخية دعوية .
وفيها اهتمام كبير بقضية فلسطين وأخبار مذابح اليهود في حيفا (امرأة مبقورة ذبحوا بجانبها أولادها الأربعة)
ومعظم المقالات فيها بأسماء مستعارة .

الباب الثاني:الإخوان المسلمون بعد ثورة تموز

تمهيد

صاحبت العهد الملكي في العراق سلبيات كثيرة في الحياة السياسية والاجتماعية والدينية والعسكرية وغيرها .

أما السياسية:

الخارجية: فالارتباط بسياسة الإنجليز في المنطقة العربية والدخول في الأحلاف الاستعمارية والخيانة المفضوحة في حرب فلسطين (1948م) بعدم إعطاء المجال للضباط المؤمنين المخلصين بالقتال الحقيقي حتى النهاية والتخطيط المنسق لتضامن فعال مع الدول العربية هذا بالنسبة للسياسة الخارجية؛
الداخلية: فالتدخل في الانتخابات والسيطرة المزورة على المجلسين النيابي والأعيان وعدم إعطاء التيارات السياسية الحرية الكافية التي تعطي في دولة دستورية ديمقراطية .
وأما الاجتماعية: فالسماح بفتح دور البغاء العلني في المدن الكبرى وتشجيع الفساد الاجتماعي في أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة وترك المجتمع يفتك به الجهل والجوع والمرض .
وأما الاقتصادية : فإهمال ضبط الحياة الاقتصادي والمتوازنة وعدم وجود خطط للتنمية الشاملة إلا في حدود ضيقة وعدم التدخل في الأوضاع المزرية للفلاحين التي كان المسئول عنها الطغاة الظلمة من الملاك مما أدي إلى وجود أقلية مترفة وأكثرية تسحقها عجلة الفقر المدقع .
وأما الدينية فإهمال الإسلام في شؤون الحياة وعدم الحرص عل تثقيف أبناء الشعب تثقيفا إسلاميا سليما وواضحا وعدم تربة الأجيال تربية أخلاقية إسلامية سديدة ووضع العقبات أمام الدعاة المخلصين الإسلاميين .
وأما العسكرية: فسيطرة الإنجليز على مقدرات الجيش العراقي وعدم تسليحه التسليح الجيد واقتصار شراء السلاح على بريطانيا .
كل تلك السلبيات أدت في النهاية إلى قيام منظومة (الضباط الأحرار) بثورة تموز 1958 التي لعب الشيوعيون بعدها دورا عنيفا في قتل الأبرياء من العائلة المالكة وغيرهم وسحل الكثيرين في الشوارع مخالفين بذلك الشرائع السماوية والقوانين الأرضية والأسس الأخلاقية للمجتمعات الإنسانية .
ومع كل ذلك فقد استبشر الناس خيرا وهللوا للثورة وأشادوا بالقائمين بها حتى أن الأستاذ الصواف أصدر بيانا يؤيد الثورة التي حذر منها رجالات العهد الملكي ويدعو الشعب العراقي للإلتفاف حول الضباط القائمين بها ممن كان يعرفهم أو لا يعرفهم والوقوف ضد مؤامرات الأعداء من الاستعماريين المجرمين .
نعم لقد حذر الصواف حكام العهد الملكي من مثل هذا اليوم ونصحهم و فع إليهم هو وشيخه المجاهد أمجد الزهاوي المذكرات تلو المذكرات وقالا لهم : إن الإسلام هو الضمان الوحيد لإصلاح المجتمع وتربية الأمة ولكنهم صموا آذانهم عن سماع الحق حتى قامت الثورة التي أكلت رجالها وسلطت الشيوعية قرابة عام كامل على رقاب الشعب العراقي بكل تياراته الدينية والسياسية والقومية والوطنية فملأت بهم المقابر والسجون والنفي والطرد من الوظائف .
وهنا ظن المنافقون والانتهازيون أن الدولة الشيوعية وشيكة الوقوع فانجرفوا مع الشيوعيين وكثروا سوادهم ورفعوا الأعلام الحمراء والحبال الطويلة في مظاهرات صاخبة في شوارع بغداد ومدن العراق يهتفون (حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم) و(إعدام إعدام جيش وشعب يحميك من كل خائن) و(الموت لأعداء الشعب) .
وهم عدّوا كل من لم يمش في ركابهم من القوميين والبعثيين والإخوان وحتى المستقلين خائنا يستحق الموت.
وقد اشتدت وطأتهم على أبناء الشعب العراقي دون تفريق لا سيما بعد إخفاق العقيد الركن عبد الوهاب الشواف في ثورته السريعة غير المخططة ضد نظام عبد الكريم قاسم عام 1959م في الموصل فأقاموا المحاكم الشعبية ولجان الدفاع عن الجمهورية (أى الشيوعية)؛
وارتكبوا مجازر الموصل وكركوك المشهورة وذهب ضحيتها الرجال والنساء من الإسلاميين والبعثيين والقوميين والوطنيين وحتى الأبرياء المستقلين ونشروا الرعب في كل مكان.
وكانت جرائدهم كاتحاد الشعب تنشر القصائد التي تمجد الحبال وتدعو إلى مزيد من استعمال العنف ضد الشعب في زعمهم .وانتقلت اعتداءاتهم على طلبة الجامعات ضربا وسبا وشتما فقتل من قتل وهرب من هرب وفصل من فصل .
هاجموا دور النشر والمطابع ومكاتب الجرائد المعارضة فأحرقوها ودمروها ومنها المطبعة الإسلامية التي كان مقرها في مركز جمعية إنقاذ فلسطين الواقع في باب المعظم فأتلفوا مطبوعاتها ومسودات الكتب التي كانت معدة للطبع وإشعال النار في قسم منها وقد رأيت بأم عيني هذه الحادثة المؤلمة وأنا واقف في الرصف المقابل أمام قاعة الشعب ولاحظت أنهم لم يفرقوا بين الكتب والمصاحف الممزقة المنتشرة تحت أقدامهم .
ودخلت محكمة المهداوي في الحلبة فلقد أسسها ضباط الثورة لمحاكمة المقصرين من رجالات العهد الملكي بحق الشعب العراقي فحولتها الشيوعية الذين سيطروا عليها وعلى أجهزة الدولة إلي ساحة لمحاكمة الضباط المخلصين لبلدهم ودينهم بطريقة السخرية ولاستهزاء والتصفيق والسب والشتم؛
وإدخال الشهود في قفص الاتهام فحكموا على كوكبة من ألمع ضباط الجيش العراقي وأخلصهم إلى ساحات الإعدام وعلى رأسهم الزعيم الركن الشهم ناظم الطبقجلي والعقيد رفعت الحاج سري والمقدم الكن عزيز أحمد شهاب والمقدم على توفيق .
فبدأت فصائل الشعب تتحرك وتتحد اتحادا قويا رابعا أمام هذه الهجمة الشرسة محاولة إنقاذ الشعب العراقي من سيطرة الحزب الشيوعي وتبعيته للإتحاد السوفيتي يومئذ .
والحق أن الشعب العراقي بمختلف طبقاته واتجاهاته السياسية قد قاوم الكارثة الحمراء بعرق أبنائه وجاهد ضد أعداء الدين والقوم الوطن جهاد الأبطال وكان للإخوان المسلمين نصيب كبير في ذلك الجهاد المقدس نجمله على الوجه الآتي:
  1. لقد حاول الإخوان إثارة الحمية الدينية في كل مكان عن طريق المنشورات السرية وتحذير الشعب من مغبة سيطرة الحزب الشيوعي على مقدرات العباد والبلاد وشرحوا للناس كون الشيوعية تصطدم مع الإسلام في أصوله وفروعه وكانت هذه المنشورات تصل إلى المؤسسات والدوائر ومخادع طلبة الجامعات في الأقسام الداخلية والمدارس الثانوية وفي المساجد .
  2. وأوعزوا إلى خطباء المساجد منهم ومن الصادقين الشجعان أن يشرحوا للناس خطورة الوضع ويبينوا للناس حكم الله تعالي في هؤلاء المفسدين اللادينيين وما ارتكبوه بحق الشعب من المظالم والتجاوزات وكان الناس يتململون ويبكون ويخرجون من المساجد أقوياء بدينهم أوفياء لأمتهم يوجهون كل من يعرفون من أسرهم ومن غيرهم إلى المقاومة ورفض الانخراط في الحزب الشيوعي أو تأييده أو النزول مع الشيوعيين في مظاهراتهم وتهريجهم في الشوارع والطرقات .
  3. لم يكتف الإخوان بالهجوم على الشيوعيين وإنما فضحوا حكم عبد الكريم قاسم ومن يوالونه من النفعيين الذين تولوا مناصب الدولة العليا وما كانوا يركضون إلا وراء مصالحهم الشخصية وكان همهم التمجيد بشخصية عبد الكريم قاسم وكيل المدح له وإضفاء الثناء عليه كما هو الشأن في كل حكم فاسد ..
  4. أصدر الإخوان بمعاونة أهل الخير من المسؤولين مجلتهم مرة أخري باسم (لواء الإخوة الإسلامية) وصدر العدد الأول في بغداد في 12 رجب عام 1378هـ الموافق 22 كانون الثاني عام 1959 م وأقبل الناس عليه إقبالا كبيرا وبدأت بنشر مقالات قوية تحذر من مغبة الاستمرار في الانحراف والفساد بتشجيع من رئيس مجلس السيادة المؤمن الركن محمد نجيب الربيعي رحمه الله تعالي.ثم بدأت المجلة شيئا فشيئا في مواجهة الطغمة الشيوعية الملحدة وتنتشر بين أبناء الشعب أكثر فأكثر حتى بيعت بأثمان مرتفعة في السوق السوداء . لأنها نفست عن روح الشعب وتكلمت بلسانه وعواطفه ودعت لإعلاء كلمة الله والدفاع عن بيضة الإسلام حتى أصدر مدير الدعاية العام الشيوعي أمر بإغلاقها وإلغاء امتيازها ولم يصدر منها إلا سبعة أعداد .
  5. ودعوا إلى تجمع إسلامي عام في مسجد أبي حنيفة الكبير في الأعظمية وكان انطلاقة كبيرة اشترك فيه الألوف من العلماء وأهل الفكر والشباب والرجال من مختلف أنحاء العراق عربا وأكردا وتركمانا وسنة وشيعة فألقيت فيها الخطب الحماسية والدعوة الجماعية للوقوف أمام المد الشيوعي وانحراف حكم رجالات الثورة .وهذا الاجتماع دل يومئذ على قدرة الإخوان على توحيد فصائل الشعب في ظل دينهم الإسلامي الحنيف .
  6. ولم يقفوا عند هذا الحد وإنما حاولوا أن يوجهوا جهود علماء العراق ضد الشيوعية فذهب العلامة الزهاوي والأستاذ الصواف إلى النجف واتصلا بمجتهد الشيعة الأكبر يومئذ السيد محسن الحكيم رحمه الله وبينوا له خطورة الوضع إن سيطر الشيوعيون على البلاد وطلبا منه إصدار فتوى شرعية بكفر الشيوعية وكفر كل من يدخل في الحزب الشيوعي .

وأصدر الحكيم فتواه بذلك وكان له تأثير كبير ولا سيما في أوساط الشيعة وتوجه الزهاوي والصواف بعد ذلك إلى علماء كردستان العراق في الشمال وكانت نتيجة جهودها أن أصدر علماء حلبجة في محافظة السليمانية فتوى شرعية بتكفير الشيوعية ووقع الفتوى كل من الشيخ الملا صالح والشيخ الملا عمر والشيخ الملا عثمان والشيخ والملا على وكان لهذه الفتوى (كالفتوى السابقة) صدي كبير في أوساط الأكراد خاصة والشعب العراقي عامة .

وقد نشرت هذه الفتوى بجانب فتوى الشيخ محمد الخالصي في الكاظمية والشيخ عبد العزيز البدري في صحف ومجلات الإخوان وبعض الصحف القومية كجريدة الحرية للأستاذ قاسم حمودي التي تعرضت هي أيضا مع الصحافة الإسلامية إلى التدمير والحرق فيما بعد بسبب مواقفها القومية الإسلامية ضد الشيوعية .

وبعد أن أيقن الشيوعيون وحكومة عبد الكريم قاسم أن الإخوان المسلمين أصبحوا خطرا عليهم لا سيما بعد قتل العقيد الشواف واستئثار الشيوعيين بالساحة صدر أمر الحاكم العسكري العامة أحمد صالح العبدي باعتقال الأستاذ الصواف وجمع كبير من الإخوان في المحافظات ونفي الإخوان من محافظاتهم إلى محافظات أخري .

ومن الإنصاف هنا أن نسجل أن ما جري للإخوان جري للبعثيين والقوميين والوطنيين جميعا بلا تفريق لأنهم جميعا وقفوا صفا واحدا لدرء خطر الشيوعية والاستعمار السوفيتي عن العراق والأمة العربية المسلمة .

وكانت دماؤهم جميعا قد اختلطت عندما كدس الشيوعيون أجساد الإخوان والعبثيين والقوميين والوطنيين في منطقة (الدملماجة) قرب مدينة الموصل العربية المسلمة .

والآن لندع الأستاذ الصواف يروي لنا قصة اعتقاله وتعذيبه حيث يقول:

(لقد كان قرارهم هو إنهاء حياتي في اليوم الثاني من رمضان وشاء الله وقدر أن في مساء اليوم الأول من رمضان وبعد أن أذن المؤذن وأخذت تمرة لأفطر عليها وإذا بالباب يطرق فخرجت وإذا بفريق من الشرطة وعلى رأسهم ضابط مؤدب طلب خروجي معهم فاستمهلتهم حتى أصلي المغرب فسمحوا لى وبعد صلاة المغرب أخذوني وسط أهلي وأولادي إلى السجن فبت ليلتي في السجن ....
وذهبنا بعد ذلك إلى سجن أبي غريب وجمعونا بدار ضيقة فيها الضباط الكبار ووزرا ء ورجال إدارة وأساتذة وقل ما شاء من خيار الطيبيين وويل للأخيار إن حكم وتسلط الأشرار ...
وقد بدأوا بتعذيب الضباط أقسي وأخس أنواع التعذيب وفي العشر الأواخر من رمضان بدأوا بي كان يأتي إلى المعتقل في الهجيع الأخير من الليل أكثر من عشرة جنود وفي أيديهم الرشاشات وهم يصيحون .
صواف صواف فاستقبلتهم بشدة وأصرخ في وجوههم ولا أبالي بحمد الله وبدأ الضباط الأشاوس بتعذيبي وضربي وهم زمرة من الشيوعيين الحاقدين ولولا لطف الله لقضوا علي)
وبعد مضي ما يزيد على خمسة أشهر من بقائه في السجن جاءه مدير السجن وطلب منه التهئ لمقابلة قاسم في مقره بوزارة الدفاع فاستقبله استقبالا حسنا ثم استغل الصواف فرصة الكلام فكلمه عن خطر الشيوعية وما فعلوه بالشعب من الاعتداء والظلم ثم أصدر أوامره بإطلاق سراحه هو ومن كان معه من الإخوان .
خرج الصواف من السجن ولكن الشيوعيين لم ينسوه أبدا فهم يراقبونه في بيته وفي كل مكان يذهب إليه ويقدم رجالاتهم تقارير كاذبة عن تحركات الصواف حتى أن الحاكم العسكري يستدعيه ويواجهه بخطورة تحركاته .
ولم يكن الوضع مريحا بالنسبة إليه وإخوانه ولذلك قررت قيادة الإخوان بالإجماع ضرورة خروجه من العراق خوفا عليه من الاغتيال أو الاعتقال مرة أخري فخرج نزولا عند رغبة إخوانه لأنه كان يرفض الخروج بشدة فخرج في نهاية عام 1959م متوجها عب الحدود إلى سوريا ثم إلى مصر ثم مكة المكرمة حيث قضي حياته في خدمة الإسلام والمسلمين في العالم الإسلامي كله وانقطعت صلته التنظيمي بإخوان العراق .

الفصل الأول:قيادة الدكتور عبد الكريم زيدان وتأسيس الحزب الإسلامي العراقي

تمهيد

خرج الأستاذ الصواف من العراق وأناب عنه الأخ كمال القيسي نائبه في قيادة الجماعة ثم سلمت قيادة الحركة إلى مجموعة الكرخ بقيادة الأخ على صالح السعدون فجمع حوله مجموعة من إخوان الكرخ تنسجم مع توجهه في العمل السري والخوف من المستقبل؛

فبدأت الحركة تضعف ولا سيما بعد أن قام الشيوعيون باستهداف الإخوان والاعتداء عليهم ومراقبتهم فانحسر دور الحركة في الساحة العراقية وتقطعت الأوصال وبدأت كل شعبة أو قاطع من الإخوان يتصرف كما يريد .

يقول الأخ فلح حسن السامرائي (في عام 1959م) اجتمع في بيتي حوالي عشرة أشخاص من القدماء لتدارك الأمر واختيار قيادة تستطيع جمع الأطراف التي تباينت وجهة نظرها في الأحداث السياسية توحد فيما بينها وتساهم مع الحركات السياسية الأخرى بالتأثير في الشارع العراقي والوقوف؛

أما المد الشيوعي وبعد المداولات الطويلة اتفق الجميع على ضرورة اختيار مسئول ذي شخصية قيادية وذي علم شرعي يؤهله لقيادة الجماعة في هذه المرحلة المهمة والاستفادة من جميع الإخوان وخاصة القدماء وأتذكر بعد حوالي خمسين عاما من هذا اللقاء؛

من هؤلاء الإخوان الأستاذ نور الدين الواعظ والعميد محمد فرج والأستاذ نعمان السامرائي والأستاذ وليد الأعظمي والأستاذ عبد الحكيم المختار والشيخ إبراهيم المدرس والأستاذ على صالح السعدون والأستاذ داود العيشاوي والأستاذ عبد الرحمن الداود وبعد مداولة طويلة تم الاتفاق على اختيار الدكتور عبد الكريم زيدان مراقبا عاما مؤقتا على أن تتهيأ فرصة لاجتماع الهيئة التأسيسية بكامل أعضائها لاختيار مراقب ما دام الشيخ الصواف خارج العراق .

وكان المأمول أن يقوم الدكتور عبد الكريم برأب الصدع ويجمع الأطراف ويقودهم إلى تحسين الأداء السياسي والدعوي في الساحة العراقية إلا أن الدكتور عبد الكريم انحاز إلى طرف مجموعة الكرخ وأهمل الأطراف الأخرى وبدأ التصدع في الساحة الإخوانية مع اشتداد الضغط السياسي على عموم أبناء العراق من قبل الشيوعيين وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون؛

واستمر انكماش الجماعة وتأثيرها في الساحة العراقية وأخذ نجم التيار القومي وخاصة حزب البعث بالتصاعد لقيادة الجماهير ضد الشيوعيين .

حياته وشخصيته:

أصله من مدينة (عنه) العراقية في محافظة الأنبار ونو من مواليد 1917 دخل في بغداد دار المعلمين الابتدائية فعمل بعد التخرج معلما للابتدائية خارج بغداد ثم دخل كلية الحقوق في القاهرة فحصل على الماجستير في القانون (الشريعة الإسلامية) ثم الدكتوراه عن رسالته (أحكا الذميين والمستأمنين في الشريعة الإسلامية)
وقد رأيت أستاذه المشرف الدكتور محمد سلام مذكور رحمه الله في مؤتمر الفقه الإسلامي بالرياض عام (1976 م) وسألته عنه فكان معجبا بذكائه وعلميته وقوة رسالته وذكره بكثير من الخير .وعند رجوعه إلى بغداد عين مدرسا في كلية القانون ثم معاونا للعميد وظل في هذا المنصب إلى نهاية عام 1965 م.

والآن لنعرض شخصيته ونطلع على آراء عدد من الإخوان في تحليلها:

يقول الأستاذ نور الدين الواعظ (هو رجل عالم ومخلص لكنه كان قاسيا مع المخالفين كان يميل إلى جمع من الإخوان كعلي السعدون وعبد الرحمن داود).
ويقول الأستاذ إبراهيم منير المدرس:
(حاد الطبع ،قليل الكلام ،لا يحب المظاهر ،ويحب الكتمان في كثير من الأمور ،حذر من السلطة دائما علميته جيدة وعميقة وكان يجد في نفسه على المعارضين ولكنه لا يحاول أن يؤذي أحدا)

ويقول الأستاذ وليد الأعظمي عنه:

(إنه حاد المزاج لا يرتاح لمن ينتقده القضايا الجماهيرية لا يهتم بها)

يقول الأستاذ عبد القادر الجنابي :

(طبعه جاء من البيئة التي عاش فيها كان يستبد برأيه عصبي لا يقبل النقاش) .
  • وحملت أقوال هؤلاء إلى الأستاذ داود العيثاوي الذي كان معروفا بين الإخوان بميله إليه فقال:
الأستاذ عبد الكريم انتخب الإجماع وكانت البيعة للقيادة القائمة على الجماعة ولم تكن ل فرد معين .
لم ألمس منه أنه يتعصب لرأيه وهو لا يستبد برأيه ولكن يعتز بقناعته وقناعته تأتي بعد دراسة وتمحيص دقيق .
رأي أنه كان رجلا مؤهلا كل التأهيل للقيادة الحركية إلا أن المساهمة في جزئياتها ليست من مهامه أصلا هدوءه وعدم مجاملته خلق فيه وليس من باب الاستعلاء والتكبر على إخوانه وكان هو يقدر للإخوان منازلهم .
لا يحرص على الحديث على المخالفين وإذا ذكروا لا يذكرهم بسوء .
إذن تحمل عبد الكريم زيدان المسؤولية مع إخوانه في ذلك الظرف العصيب الذي كان يمر بالعراق وكان الوضع مضطربا وغير واضح المعالم للأسباب الآتية :
الأول: نتيجة للمجازر الوحشية التي ارتكبها الشيوعيون في مدينة كركوك بعد الموصل وقف رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم في احتفال ووصف الشيوعيين (ضمنا) بأنهم فوضويون ومخربون وأعمالهم أفظع من عمل هولاكو يوم دخل بغداد وهذا الخطاب أدي إلى التراجع الشيوعي وبدأت الجرائد الإسلامية والقومية تهاجم الشيوعيين وتكشف عن جرائمهم التي ارتكبوها في أنحاء العراق كافة؛
وظهر أن عبد الكريم قاسم كان يلعب على الحبلين فعندما كان يتقوي جانب الإسلاميين والقوميين يميل الكفة بجانب الشيوعيين والعكس صحيح أيضا وهذا أدي إلى عدم وضوح السياسة القائمة .
الثاني: قررت قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي يومئذ تصفية عبد الكريم قاسم لما ارتكبه من جرائم فنزل جمع من شباب الحزب فضربوا عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد ولكنه جرح ولم يمت فكان من نتيجة ذلك أن رفع الشيوعيون رؤوسهم وحاول دفع عبد الكريم إلى اتخاذ مواقف صارمة من أعداء الثورة (يقصدون أعداء الشيوعية)
الثالث: بدأ حرب الديمقراطية الكردستاني (البارتي) بقيادة الملا مصطفي البارزاني بالحركة في شمال العراق مطالبا في البداية بحقوق الأكراد القومية مما أدي إلى الصدام العسكري في أنحاء مختلفة من المنطقة الكردية الأمر الذي أحدث اضطرابا كبيرا في الحياة السياسية .
مع بداية هذه الأوضاع قرر عبد الكريم قاسم فتح المجال لتأسيس الأحزاب السياسية فاستغل الإخوان هذه الفرصة فأرادوا أن تكون لهم قناة علنية تستطيع أن تقود حركة الدعوة الإسلامية وتدخل في صراع سياسي ومواجهة علنية رسمية مع حكومة عبد الكريم قاسم من جهة ومع الفساد الاجتماعي وإصلاح الفرد العراقي من جهة أخري

فناقشت قيادة الإخوان موضوع إنشاء حزب سياسي باسم (الحزب الإسلامي) وعند المناقشة ظهر رأيان حول تشكيل الحزب:

رأي يقول: لابد لأعضاء التنظيم الإخواني أن يدخلوا جميعا في الحزب كي لا يقع الحزب في الازدواجية .ورأي يذهب إلى أن يدخل في الحزب جمع من الإخوان ثم يتوسع الحزب فيدخل فيه من يشاء من مختلف المذاهب والطوائف الإسلامية وتغلب هذا الرأي بعد المناقشات المستفيضة بالأكثرية .
وقدم طلب لتأسيس الحزب الإسلامي المذكور وجاء في مادة أساسية من النظام الداخلي للحزب:(للجنة الإدارية المركزية للحزب أن تقبل عضوا في الحزب)
  1. من كان عراقيا مسلما .
  2. لا يقل عمره عن ثمانية عشر عاما .
  3. حسن السمعة والسلوك وغير محروم من الحقوق المدنية .
  4. غير محكوم عليه بجريمة مخلة بالشرف
  5. أن يقر منهج الحزب ونظامه الداخلي كتابة مع التقيد بأحكام الشريعة الإسلامية وتأدية كافة الشعائر الدينية ويساهم في مساعدة الحزب ماليا .
  6. لا يكون منضما إلى مؤسسة تخالف مبادؤها مبادئ الإسلام .

قدم الطلب إلى وزارة الداخلية ونشر في جريدة العراق بتاريخ 8 شباط 1960م وجاء الجواب بالرفض بعدد ش ح / 914 المؤرخ في 27/3/1960م.

قدمت الهيئة المؤسسة للحزب الإسلامي لائحة تمييز قرار رفض الحزب المذكور في تاريخ 9/4/1960م فصدر القرار من رئاسة تمييز محكمة العراق بالعدد 5 بتاريخ 26/4/1960م بإجازة الحزب ورد دعوي وزارة الداخلية بأن مبادئ الحزب لا تتفق مع الحياة المعاصرة بان الشريعة الإسلامية شريعة مرنة قابلة للتطبيق في كل مكان وزمان في إطار أصولها المعروفة المستنبطة من الكتاب والسنة .

فاضطرت وزارة الداخلية أن تشعر الهيئة المؤسسة بإجازة الحزب بكتابها المرقم 27 والمؤرخ في 9/7/1960م.ولو راجعنا أسماء الأعضاء الموقعين على طلب تأسيس الحزب لوجدناهم من العرب والأكراد والتركمان والسنة والشيعة معا.

افتتاح الحزب الإسلامي:

عقد الحزب الإسلامي مؤتمره الأول بدار جمعية الأخت المسلمة في الكسرة قرب شارع المغرب وذلك يوم الجمعة 5 صفر 1380هـ الموافق 29 تموز 1960م فحضر هذا المؤتمر الإسلامي الموحد مسلمون من أنحاء العراق كافة من الشمال (كردستان) والوسط والجنوب وكنت ممن حضر هذا الاجتماع الحاشد الذي افتتح تحت شعار الآية:
(ومن أحسن قولا مما دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) وبعد قراءة القرآن تقدم عريف الحفل الشيخ طه جابر العلواني بكلمة مؤثرة ثم قدم الأستاذ نعمان عبد الرزاق السامرائي عن الهيئة المؤسسة للحزب فألقي تقرير الحزب ونصه ما يأتي:
أيها الإخوة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
سلام عليكم من عصبة مؤمنة اجتمعت على حب الله ورسوله
سلام الله عليكم من أخوة اجتمعوا على خدمة الإسلام .
سلام الله عليكم أحفاد المجاهدين الأطهار
سلام الله عليكن أبناء سعد وخالد والمثني وصلاح الدين

أما بعد:

إنه والله لشرف ما بعده شرف أن يكون المسلم خادما لدينه ذائدا عنه ومدافعا عن أهله . إنه شرف لا يدانيه شرف . ولا عجب فهذا عمل الأنبياء .. وكفي به فخرا وشرفا لأجله قاتل رسول الله صلي الله عليه وسلم أهله وذويه وهاجر مع من هاجر من أصحابه ولأجله لا من أجل غيره روت بطاح العراق دماء أجدادنا واختلطت بثراه أجداث أبطالنا وله نصب وسهر خلفاؤنا.
فلا عجب أن يكون عملكم هذا أشرف عمل واجتماعكم أفضل الاجتماع فأنتم اليوم حملة هذا الدين فيمن يحملونه وحماته فيمن يحمونه وإن الله ليرعاكم بعينه والملائكة تغبطكم من فوق سماواته فهنيئا لكم من رسالة تحملونها وعمل تؤدونه وجهاد تفعلونه .
لا شك أيها الإخوة أن مؤتمركم هذا جديد في بابه غريب في طبيعته إذ لم يألف المسلمون ذلك منذ أمد بعيد فقد غزاهم الاستعمار في عقر دارهم واحتل أراضيهم وعقولهم وأرواحهم وحاول أن يقيم في وسط عقولنا قواعد الاستعمار لذلك لا عجب أن ابتعد البعض عن دينه بل وهجره فتلك شجرة الاستعمار وهذا نموها لقد حاو ل الاستعمار جاهدا أن ينشئ في المسلمين جيلا ممسوخا لا هو بالشرقي في أفكاره ومعتقده ولا بالغربي في حضارته وتمده ولكنه مسخ مشوه لا يشبه أحد ولا يفيد أحدا .
وقد شدد الاستعمار على إقصاء الإسلام عن الحياة فوضع لمستعمراته المناهج والقوانين والمقاييس التي تعادي الإسلام وتناقضه وهدفه حصر هذا الإسلام العظيم في زواياه كي ينصرف عنه أهله .
وبعد أن قام حزبنا ليحمل رسالة الإسلام ويبدد أسطورة عزل الإسلام عن الحياة وإبعاده عن ميدان العمل السياسي ويثبت قدرة الإسلام على أن يكون منهجا لحزب سياسي لا يخرج عنه مع ضمان مصلحة الأمة وقيادة الشعب قيادة ربانية نظيفة خالية من كل دجل أو تهريج.

أيها الإخوة

لعل من لطف الله تعالي أن يظهر حزبنا بعد فترة عصيبة ساد فيها الكفر والإلحاد فقتل من قتل وسحل من سحل وأوذي من أوذي على أيدي زمرة كافرة بكل القيم بالله والناس والخلق ورغم هذا الطاعون فقد تولت العناية الربانية حماية الإسلام ومن قبل مرت على الإسلام زحوف التتر والمغول فما هان ولا لأن إنه دين الله باق إلى يوم القيامة (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)

قيام الحزب:

بعد قيام ثورة 14 تموز وإطلاق الحياة الحزبية في 6 كانوا الثاني سنة 1960 م فكر جماعة من المسلمين رضوخا لمقتضيات عقيدتهم التي توجب عليهم العمل الدائم للإسلام وعدم ترك هذا الأمر إطلاقا ..
فكروا بتقديم طلب لحزب سياسي إسلامي يتولي العمل والكفاح والجهاد من أجل رسالة الإسلام مع علمهم بأن الإسلام أوسع من النطاق الحزبي؛
ولكن طبيعة العمل القانوني تلزم بالانخراط في السلك الحزبي لتيسير عملهم هذا فقدموا الطلب وبعد رفضه من قبل وزارة الداخلية أجازته محكمة تمييز العراق الموقرة وهي أعلي سلطة قضائية في البلاد بحيثيات جاءت دعما قانونيا وتشريعيا منطقيا لما فيها من طاقات ومرونة .
وعمد بعض الناس يتساءلون عن أهم الأسباب والمبررات التي تدعوا إلى قيام حزب إسلامي في هذا البلد, في الوقت الذي لا يتساءلون عن قيام أحزاب أخري تقوم على غير قاعدة وفكرة الإسلام وهذا لا شك أمر يدعو إلى الاستغراب .

أما الأسباب والمبررات التي أدت إلى قيام هذا الحزب فهي:

  1. إن هذا العمل واجب ديني ووطني على حد سواء .
  2. إن طبيعة الإسلام توجب العمل المنظم القائم على أسس تنظيمية سليمة .
  3. إن قيام أحزاب غير إسلامية تعمل في الميدان وتجرف الشباب أمر في غاية الخطورة مما يلزم معه وجود حزب سياسي يقي الشباب والأمة جميعا ويوجهها إلى وجهة إسلامية فيها عزها وسؤددها ويصونها من العبث والاعتداء .
  4. إن الإسلام كعقيدة وفكرة في حاجة للدعوة لها والعمل لرفع لوائها عن طريق عمل منظم .

الأعمال التي قام بها الحزب الإسلامي

حاول الحزب الاتصال بجميع العناصر المسلمة في البلد دون الاقتصار على عنصر واحد فأجري اتصالات في الشمال ومع النجف وكربلاء وغيرها من المدن مستهدفا بعمله هذا ضم جميع القوميات والطوائف المسلمة إلى صفوفه؛
وذلك تطبيقا لهدفه الرئيسي في جمع الصفوف ووحدة الكلمة ثم تقدم بطلب لإصدار جريدة ولكن طلبه لم يجب بالرغم من مضي ثلاثة أشهر لذلك سلك سبيل المذكرات ليعبر عن آرائه فتقدم بمذكرة حول المعارف وأخري عن القوانين وثالثة عن الشيوعية؛
كما أصدر بيانات حول الجزائر وفلسطين كما أبرق إلى المراجع الدينية والمسئولين في إيران وباكستان حول اعتراف إيران بإسرائيل وطالب بالقيام بمظاهرة سلمية؛
وقد يستكثر البعض على الحزب تقديمه لكل هذه المذكرات ولكن ما حيلة الحزب وليست له جريدة تعبر عن أهدافه وفكرته ومبادئه فيضطر إلى تقديم المذكرات ليعبر فيها عن مواقفه تجاه الظروف والأحداث الداخلية والخارجية .

فهم الحزب للإسلام:

إن فهم الحزب للإسلام فهم عاما شامل يتناول جميع مناحي الحياة من اقتصادية وسياسية واجتماعية وقانونية وفردية ولعل بنود منهاج الحزب خير دليل على ذلك.
فالحزب كما يفهم الإسلام عبادة يفهمه تشريعا وحكما ونظاما وقوة وأسلوبا ومنهاجا وفلسفة لها أصولها وأهدافها الخاصة لا تشبه أية فكرة أو فلسفة سواء أكانت ديمقراطية أم اشتراكية أو شيوعية لأنها إسلامية لذلك نصت المادة الثانية من مناج الحزب (على أن غاية الحزب تطبيق أحكام الإسلام تطبيقا شاملا لجميع شؤون الحياة وأمور الأفراد والدولة ...)

موقف الحزب من الوحدة الوطنية والعربية والإسلامية

يؤمن الحزب الإسلامي العراقي بالوحدة الوطنية القائمة على أساس جنسية المواطنين العراقيين دون التفريق بينهم و لا سيما أن الإسلام يلزم المسلم العمل لوطنه ورفع مستواه والذود على حياضه ويعتبر ذلك من متممات إيمانه ..
أما موقفنا من الوحدة العربية فالحزب يؤمن بأن العراق جزء من الأمة العربية التي يجب أن تتوحد في دولة قوية على أساس الإسلام لتكون هذه الدولة العربية الواحدة نواة للوحدة الإسلامية الشاملة وذلك على ضوء المادة (35) من منهاج الحزب .

موقف الحزب من الشيوعية والاستعمار:

موقف الحزب الإسلامي العراقي من الشيوعية لا تحدده الأحداث والوقائع السياسية بقدر ما تحدده العقيدة التي يلتزمها الحزب ... فالحزب بحكم اتجاهه العقائدي المنصوص عليه في منهاجه (يحارب الحزب جميع الدعوات المفرقة للصفوف كالطائفية وجميع الأفكار والمفاهيم الإلحادية التي لا تعترف بغير المادة ويري في شيوعها هدما للمجتمع لا يجوز السكوت عليه).
فعلي هذا الأساس فإن موقف الحزب من الشيوعية كعقيدة وفكرة هو موقف المناوئ المحارب ... ولا سيما بعد أن ارتكبت الشيوعية في وطننا العزيز من الجرائم ما يندي لها جبين الإنسانية؛
ولكن هذا الموقف لا يعني أن الحزب لا يرضي عن قيام العلاقات الدبلوماسية مع الدول الشرقية وعلى رأسها روسيا إذا كانت هذه العلاقات تقوم على أساس الاحترام المتبادل والمنافع المتبادلة .

أما موقف الحزب من الاستعمار فهو واضح وصريح جدا وهو موقف المحارب بصلابة وعناد وقد نص دستور الحزب في مادته (40) على ذلك:

(يؤمن الحزب بأن الاستقلال الصحيح لن يتحقق مفهومه الصحيح إلا بمحاربة الاستعمار أو التبعية سياسيا أم عسكريا أم اقتصاديا أم ثقافيا حتى تتحقق للأمة شخصيتها المستقلة حقا وهي الشخصية الإسلامية)

موقف الحزب من القومية الكردية والتركمانية:

إن الحزب بحكم فكرته الإسلامية ينظر إلى جميع القوميات الموجودة في العراق نظرة احترام لحقوقها ولا يفرق الحزب بين قومية وأخري وذلك على أساس قوله تعالي:
(يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فأساس التفاضل بين المواطنين على اختلاف قومياتهم هو تقواهم وصلاحهم ومنفعتهم للجميع كما أن الحزب يستنكر كل وسيلة اعتدائية تستعين بها قومية ضد أخري .
إذ لابد أن تتسم القوميات في الجمهورية العراقية بروح الإسلام التي توجب عليها الإخوة والوئام والعيش بأمن وسلام كأنهم أعضاء جسد واحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى ولا يمنع هذا من اعتزاز كل قومية بمحاسنها وخصالها الحميدة والمطالبة بحقوق أبنائها العادلة من دون امتياز فالمسلمون سواسية كأسنان المشط .

موقف الحزب من المواطنين غير المسلمين

نصت المادة السادسة من منهاج الحزب بصراحة لا تقبل النقاش أو الجدال على:
(المواطنون غير المسلمين متساوون في الحقوق سواء كانت حقوقا سياسية أم عامة أم خاصة ,.. والواجبات مع المواطنين المسلمين إلا في الأمور التي تقوم على العقيدة الدينية وعلى الدولة أن تؤمن للمواطنين التمتع بجميع هذه الحقوق) .

كما نصت المادة السابعة

(عقيدة المواطنين غير المسلمين من أهل الكتاب مصونة ولا تمس بسوء ولهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية في حدود النظام العام)

كما نصت المادة الثامنة

(يخضع المواطنون غير المسلمين لما يخضع له المسلمون من أحكام في جميع المجالات الجنائية والمدنية إلا فيما خصوا به من أحكام) .

فهذه المواد والتي وردت في منهاج الحزب تدل على أن نظرة الحزب إلى المواطنين غير المسلمين إنما هي نظرة تقدير ومساواة مع المواطنين الآخرين فلا يمكن إزاء هذه الصراحة أن يستغل حاقد البسطاء أو السذج على أن الحزب يضمر الحقد للمواطنين غير المسلمين ولا سيما أن الحزب ألزم نفسه بمقتضي المادة التاسعة بالعمل على إقامة مجتمع فاضل خال من المفاسد والمنكرات ..

فدعاة القتل والسحل والإرهاب لا يقدرون على تشويه سمعة حزب جاء لإتمام مكارم الأخلاق في هذا البلد الأمين .عار في هذا القرن لأنها مجازر لم يرتكبها هولاكو ولا جينكيز خان ولا الصهيانية المجرمون في دير ياسين .
وبالنظر لما لهذه المجازر البشرية من أثر بليغ في نفوس المواطنين يري الحزب نفسه مدفوعا بحكم رسالته نحو الوطن أن يحدد موقفه منها ويضع النقاط على الحروف إزاء المسؤولين عنها .
إن الشيوعية هي المسئولة عن هذه الجرائم فالحزب يري ضرورة إنزال العقاب الرادع في القتلة سفاكي وجزاري مذبحتي كركوك والموصل وغيرهما وإن أى تهاون في هذا الميدان يؤدي إلى استمرار القلق والبلبلة وعدم الاطمئنان في صفوف الشعب لأن هذه المجازر لن تنسي بسهولة .

موقف الحزب من فترة الانتقال والدستور والمجلس الوطني:

لذلك نري بأن إنهاء فترة الانتقال ضرورة على أن يوضع دستور دائما من قبل لجنة ذات اختصاص في القضايا القانونية من رجال الفقه والقضاء والعلم المعروفين باستقامتهم ودينهم وورعهم ومن البعيدين عن الاتجاهات المنحرفة عن عقيدة هذه الأمة وتراثها وحضارتها على أن يتخذ الإسلام أساسا لهذا الدستور
لأن هذه الأمة أمة مسلمة بكافة قومياتها وطوائفها فتشريع دستور بعيد عن الإسلام أو على أساس علماني أمر لا يمكن قبوله ولا ينسجم بأى حال من الأحوال مع معتقدات الأمة وأن هذا الدستور يجب أن يضمن لأبناء الأمة الحريات الأساسية المعترف بها في دساتير العالم؛
حتى يشعر المواطنون بأن كرامتهم وآدميتهم مكفولة غير مهدرة كما يجب وضع تشريع يضمن حرية انتخاب أعضاء المجلس الوطني الذي سيقوم بمهمة خطيرة وهي رسم مستقبل أمتنا من الوجهة السياسية والتشريعية والاقتصادية والاجتماعية .

موقف الحزب من المعارف:

يؤمن الحزب الإسلامي بأن وزارة المعارف من أخطر الوزارات والمؤسسات ذات الأثر العميق في مستقبل هذه الأمة لأنها الوزارة المسئولة عن تنشئة الجيل وإعداد رجال المستقبل بشكل يضمن حفظ عقيدتهم الإسلامية؛
وتمسكهم بالخلق الكريم فعلي ضوء فلسفة التربية والتعليم التي تتبعها وزارة المعارف تتم تنشئة الجيل وتوجيه الناشئة لأن المناهج والكتب والأساتذة هم الذين يرسمون خطة السير للأجيال القادمة.

الحزب الإسلامي وأسلوب الكفاح السياسي:

إن الحزب الإسلامي العراقي لا يؤمن بالعنف أو الاعتداء أو القتل في ميدان الكفاح السياسي لذلك فهو يستنكر كل أسلوب اعتدائي في العمل ويعتقد أن عدم محاسبة المعتدين في المجازر المعروفة سوف يؤدي إلى شيوع الأخذ بالثأر..

ورد الاعتداء بمثله وأن الحزب الإسلامي يستعين بكافة الطرق المشروعة السليمة للتبشير بفكره ومبادئه وهي الطرق المقررة في منهاجه في المادة الرابعة منه وهي:

  1. قبول مسؤولية الحكم .
  2. الاشتراك في الانتخابات إذا رأي مصلحة راجحة في هذا الاشتراك المطبوعات والنشرات وإصدار الجرائد والمجلات وبيان رأي الحزب في الأمور العارضة ومشاكل الناس الآنية على ضوء تعاليم الإسلام .

الحزب الإسلامي ومشاكل العمال والفلاحين ومشكلة الفقر بصورة عامة إن الحب الإسلامي يعتبر مشكلة الفقر من أخطر القضايا التي يجب العناية بها من قبل الدولة وضرورة رسم خطة حكيمة لحلها على ضوء الأسس التي جاء بها الإسلام .

لذلك نصت المادتان (الثلاثون والحادية والثلاثون) من منهاج الحزب الإسلامي على الوسائل التي يستعين بها الحزب لحل هذه المشكلة فنصت المادة الثلاثون : (الزكاة حق مالي للفقراء في أموال الأغنياء وعلي الدولة أن تجبيها من الأغنياء وتحفظها وتصرفها على مستحقيها من الفقراء وغيرهم من المنصوص عليهم في الشرع ونصت المادة الحادية والثلاثون : (للدولة أن تفرض الضرائب العادلة فيما يعود على الجميع بالنفع العام) .

وأن الحزب يؤمن بأن مشكلة الفقر من المشاكل التي يجب أن تعالج بصورة جذرية لأن بقاءه يؤدي إلى حدوث مشاكل كبيرة وكلنا يعلم أن الأفكار الوافدة قد استغلت سوء الأوضاع الاقتصادية لكي تنفذ منها إلى مجتمعنا .

أما مشكلة العمال والفلاحين فهي من القضايا التي أولاها الحزب العناية الكبيرة في منهاجه فنصت المادة الخامسة والثلاثون:

(يؤمن الحزب بضرورة العمل لتأمين مستوي لائق للعمال على أن تكون العلاقات بين العمال وأربا العمل علاقات تعاون من أجل رفع مستوي الإنتاج وحصول العمال على أجر مناسب مع جهده وتأمين حاجاته والعمل على تنظيم العمال في نقابات مهنية تعمل من أجل المصالح العمالية في جو بعيد عن الحزبية) .

فهذا النص المستمد من روح الإسلام إذا طبق فإنه يأتي باينع الثمار لحل المشكلة العمالية التي نعاني منها ما نعاني بسبب الجشع وغمط الحقوق وبسبب استغلال الظروف والمناسبات من أجل الأهداف والغايات الحزبية .

أما بالنسبة للفلاحين فنصت المادة السادسة والثلاثون من المنهاج (يؤمن الحزب بضرورة توزيع الأراضي على الفلاحين وتسليفهم المبالغ اللازمة بدون فائدة وشراء المنتجات الزراعية تشجيعا لهم)

هذا بعض ما أراد الحزب أن يعرضه على مسامعكم الكريمة في مؤتمركم الأول وهناك مقررات وبرقيات سوف تتلي عليكم لأخذ موافقتكم عليها .

وختاما فإن الهيئة المؤسسة تأمل أن تكون قد أدت بعض ما تستطيع بحكم الظروف التي أحاطت العمل خلال الثلاثة أشهر المنصرمة وهي تعتقد أنها تشرفت بخدمة الإسلام بمعاونتكم وترجو منكم انتخاب لجنة جديدة لتقدم الواجب وأملنا أن لا يحل موعد المؤتمر الثاني من العام القادم إلا وحزبنا قد أرسي بنياته وكثرت منجزاته وفاضت خيراته (وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون) والسلام عليكم

وبعد تقرير الحزب تقدم إلى المنصة شاعر الإخوان الأول في العراق الأستاذ وليد الأعظمي فألقي القصيدة الآتية التي حركت الكوامن وأبكت كثيرا من الحاضرين

شعت بدور الدجي في حالك الظلم
تنير رغم دعاة السوء والتهم

واسترسال النور يجلو كل حالكة

تطوي بأحشائها أسرار منتقم

وانهار سرح الهوي والطيش حيث غدت

أركانه بين مصدوع ومنهدم

وغادر القلب آمال يتوق لها

كما يتوق إلى الرقراق كل ظمي

والشر والخير معلوم صراعهما

والناس تشهد هذي الحرب من قدم

كذلك الخير أقوام تهيم به

إلى نظام من الرحمن مستلم

هذا لعمري ضلال ليس يقبله

إلا الجهول وإلا فاسد الهمم

أهلا وفود الهدي جئتم لمؤتمر

يستهدف الحق والإصلاح في النظم

يلوح فيكم شعور لا حدود له

يغلي ويقذف كالبركان بالحمم

تحدوكم نصرة الإسلام في زمن

بالظلم مصطبغ بالكفر متسم

تعددت فيه رايات الفساد ولم

يرفع سواكم إلى الإصلاح من علم

بشراكم اليوم عز خالد وهدي

تهفو إليه قلوب العرب والعجم

ذقنا النوى من ميول وانحراف خطي

كمن يسير بلا ساق ولا قدم

كل يري الحق في منهاج فكرته

لكنه عن هدي القرآن في صمم

قد ابتلينا بداء ولا دواء له

والكفر أدهي على الدنيا من السقم

صرنا نري الكفر عنوان النهوض لنا

والكفر عنوان موت العز والشمم

كيف النهوض وأخلاق الشباب غدت

عكس الذي جاءنا في (نون والقلم)

لا تستقيم أمور الناس في فكر

على سوي الكذب والتهريج لم تقم

مبادئ أثبت التاريخ باطلها

حتى غدونا من الأفكار في تخم

في كل يوم لهم دعوي وطنطنة

جوفاء كالطبل محسوبا من النغم

أعاهد الله في سر وفي علن

أن لا أميل إلى اليأس ولا سأم

عقلي وقلبي وإخلاصي وتضحيتي

لله في أمل عندي وفي ألم

ما هزني ذكر (سلمي) للقريض ولا

(ريم على القاع بين البان والعلم)

هذا حمي الله ما جاوزته أبدا

ولا رتعت حواليه ولم أحم

أخاف يوما به الأبصار شاخصة

خوف الفضيحة عند العرض والندم

يا أمة المصطفي يا صفوة الأمم

وأفاك سعدك بعد النحس فاغتنم

وجددي العزم للإصلاح عاملة به

وبحبل الله فاعتصمي

وحققي حلما عشنا بلذته

دهر بجالد فيه سطو الأزم

عودي بنا لحياة العز راكضة

واستمسكي بعري الإسلام والتزمي

ورددي صرخة القرآن عالية

من أجل مجتمع راق ومحترم

يا مرحبا بجنود الحق ثانية

منابع الخير والإصلاح والكرم

يا من جعلتم رسول الله قدوتكم

هذا هو المجد فامتازوا عن الأمم

سووا الصفوف وصونوا سر نهضتكم

واستجمعوا الأمر قبل اللوم والندم

من كل أروع لا يدري الهوان ولا

ينصاع يوما لجبار ولا صنم

يدور في فلك الإسلام خاطره

حيث الحياة بلا (إسلام) كالعدم

ولا يري العز إلا في تدينه

والعز والمجد في الإسلام من قدم

فليس ينفع مظلوما شكايته

إن لم يجالد بسيف صارم خذم

ثم ألقي الشيخ عثمان بن عبد العزيز كلمة حماسية قوية عن علماء الكرد وبعد ذلك اتفق على صيغ برقيات تناولت شتي موضوعات الساعة ثم جري انتخاب الهيئة الإدارية

وأتذكر وقد كنت مدعوا إلى المؤتمر ولم أكن عضوا فيه إنه لما تليت البرقية المقترحة إلى شاه إيران بشأن جريمته بالاعتراف بإسرائيل اعترضت على استعمال كلمة (جلالة) قلت : الجلالة لا تليق إلا لله تعالي فحذفت الكلمة وذهبت البرقية مصدرة بـ (شاه إيران) فقط.

وانتهي المؤتمر عند أذان المغرب فخرج المؤتمرون إلى الحديقة المجاورة لمقر جمعية الأخت المسلمة في مبدأ شارع المغرب وأم المصلين يومئذ الشيخ الفاضل عبد الجليل إمام وخطيب ومدرس جامع الرمادي الكبير .

وعندما انتهت الصلاة وبدأ المصلون بالخروج من الحديقة مر عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء بسيارته العسكرية أما الجميع ولكنني لم ألاحظ أن أحد أهتم به أو صفق له وكأن مروره في ذلك الوقت كان توقيتا منه ليعرف هل يرحب به أعضاء الحزب أم لا .

دستور الحزب الإسلامي العراقي

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة

في هذه المرحلة الدقيقة الحاسمة من تاريخنا وفي زحمة هذا الصراع المحتدم بين الاستعمار والأفكار والعقائد الوافدة من جهة وبين العقيدة الإسلامية والمصالح الحقيقية لشعبنا من جهة أخري شعرنا شعورا عميقا بالمسؤولية للقيام بالواجب الملقي على عاتق كل إنسان غيور على دينه ومصالح شعبه؛

وذلك بتقديم (دستور الحزب الإسلامي) ليكون منارا لكل من يريد أن يخدم أمته وبلاده خدمة حقيقية صحيحة عن طريق العمل الحزبي المنظم الخالي منه الحزبية المقيتة التي تقوم على أساس التناحر والتنابز والتي قد يستغلها البعض لجر المغانم الشخصية ولو كان ذلك على حساب ومصلحة الشعب وعن طريق خداعه وتضليله .

ونحن إذ نقدم هذا الدستور لا ندعي احتكار العمل لأنفسنا وإنما نقدمه على أساس أنه أسلوب صحيح من أساليب خدمة مخلصة ناجحة .

الفصل الأول:مواد تمهيدية

المادة الأولي: اسم الحزب (الحزب الإسلامي العراقي)
ويكون مقره في بغداد وله الحق في فتح فروع له في أنحاء الوطن كما يجوز تحويل مقره خارج العاصمة , إذا رأي ضرورة ذلك.

المادة الثانية:

غاية الحزب تطبيق أحكام الإسلام تطبيقا كاملا شاملا لجميع شؤون الحياة وأمور الأفراد والدولة وابتغاء مرضاة الله تعالي وإسعادا للناس في دنياهم وآخرتهم .

المادة الثالثة:

يحارب الحزب جميع الدعوات المفرقة للصفوف كالطائفية والعنصرية وجميع الأفكار والمفاهيم الإلحادية التي لا تعترف بغير المادة ويري في شيوعها هدما للمجتمع لا يجوز السكوت عنه .
المادة الرابعة: يأخذ الحزب بجميع الوسائل المشروعة لتحقيق غايته ومن هذه الوسائل .
  1. قبول مسؤولية الحكم .
  2. الاشتراك في الانتخابات إذا رأي الحزب مصلحة راجحة في هذا الاشتراك .
  3. بعث الوعي الإسلامي بين الناس وتثقيفهم بالثقافة الإسلامية عن طريق عقد الاجتماعات العامة ونشر الكتب وسائر المطبوعات والنشرات وإصدار الجرائد والمجلات وبيان رأي الحزب في الأمور العارضة ومشاكل الناس الآنية في ضوء تعاليم الإسلام .

المادة السادسة:

المواطنون غير المسلمين متساوون في الحقوق (سواء كانت حقوقا سياسية أم عامة أم خاصة) والواجبات مع المواطنين المسلمين إلا في الأمور التي تقوم على العقيدة الدينية وعلى الدولة أن تؤمن للمواطنين التمتع بجميع هذه الحقوق .

المادة السابعة:

عقيدة المواطنين غير المسلمين من أل الكتاب مصونة ولا تمس بسوء ولهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية في حدود النظام العام .

المادة الثامنة:

يخضع المواطنون غير المسلمين لما يخضع له المسلمون من أحكام في جميع المجالات الجنائية والمدنية إلا فيما خصوا به من أحكام .

المادة التاسعة :

يعمل الحزب على إقامة مجتمع فاضل من المفاسد والمنكرات

المادة العاشرة:

يؤمن الحزب بأن الشريعة الإسلامية ومصادرها من الكتاب والسنة وغيرهما هي الأساس لحياة الدولة التشريعية.

المادة الحادية عشرة:

تكون الحكومة شرعية ما دامت تعمل لمصلحة الشعب وتحوز على ثقته ولا تقوم بأى عمل من شأنه مناهضة الإسلام .

الفصل الثاني:في السلطة القضائية:

المادة الثانية عشرة:

يقام في اللابد نظام قضائي للمحافظة على حقوق الأفراد والجماعات والحكم بينهم بالعدل .

المادة الثالثة عشرة:

ولاية القضاء عامة على جميع المواطنين والمقيمين في البلاد من الأجانب ولا يخرج من ولايتها أحد.

المادة الرابعة عشرة:

تكون أبواب المحاكم مفتوحة لكل أحد و تؤخذ أجرة على إقامة العدل وأدائه (أى تلغي رسوم المحاكم) .

المادة الخامسة عشرة:

لا يستثني أحد من الحضور أمام المحاكم بسبب مكانته الاجتماعية أو منصبه الرسمي .

الفصل الثالث:في النظام الاجتماعي

المادة السادسة عشرة: يؤمن الحزب بأن الأسرة هي حجر الزاوية في بناء المجتمع والرجل والمرأة هما ركنا الأسرة عليهما تقوم أعباؤها وعلاقتهما تقوم على أساس المساواة في الحقوق والواجبات إلا فيما خصت الشريعة به أحدهما كالقوامة للرجل على المرأة .
المادة السابعة عشرة: واجب المرأة الأصلي رعاية البيت وتربية الأطفال تربية صحيحة سليمة ولا مانع من اشتغالها خارج البيت بما يناسب طاقتها وحالتها ولا يعرضها للمفاسد ولا يشغلها عن واجبها الأصلي .
المادة الثامنة عشرة: يؤمن الحزب بضرورة تطبيق التكافل الاجتماعي المقرر في الإسلام والقاضي بضرورة قيام الدولة باعتبارها ممثلة للمجموع بكفالة جميع المواطنين غير القادرين على العمل أو الذين لا يجدون عملا أو الذين لا يكفيهم دخلهم وذلك بتأمين حاجاتهم الأساسية من خزينة الدولة وهذا سواء كانوا مسلمين أم غيرهم .
المادة التاسعة عشرة: يؤمن الحزب بأن على الدولة أن تطهر المجتمع من جميع المنكرات والمفاسد وأن تقي الناس من شرورها كما تقيهم من الأمراض وأسبابها وعليها أن تشيع الفضيلة بين الناس وتقوي الوازع الديني في النفوس حتى يكون المجتمع مجتمعا فاضلا طاهرا .

الفصل الرابع:التعليم

المادة العشرون: يري الحزب ضرورة التعليم الإجباري ومكافحة الأمية ويعتبر التعليم حقا للفرد على الدولة .
المادة الحادية والعشرون: يجب أن تقوم سياسة التعليم ومناهجها على أساس العقيدة الإسلامية وفلسفتها حتى تحفظ للأمة شخصيتها الإسلامية ومقومات حياتها وحتى تضمن لناشئتنا العقلية المسلمة المدركة ..

المادة الثانية والعشرون:

يجب أن يوجه التعليم علي نحو يفي بحاجات الأمة في جميع نواحي المعرفة والعلوم وأن تأخذ الدولة بأساليب العلوم التجريبية المادة بكافة فروعها على أن يكون ذلك منسجما مع الأساس الأول لاتجاه التعليم العام كما ذكر في المادة السابقة .

المادة الثالثة والعشرون:

يعتبر الحزب الإذاعة والصحافة ونحوهما من وسائل التوجيه والتثقيف المهمة التي يجب أن تستغل لتربية الفرد والأمة وتوجيهها الوجهة السليمة نحو حياة رشيدة قوامها الإيمان بالله ودوام مراقبته والشعور بالمسؤولية تجاهه والالتزام بأوامره .

المادة الرابعة والعشرون:

لا يجوز بتاتا الخروج عن السياسة العامة للتعليم بحجة حرية الرأي من أى شخص كان . فحرية الرأي تصير فسادا إذا كان فيها خروج على أساس الدولة ونظامها العام وعقيدتها التي تدين بها والفساد يجب أن يزال تحت أى اسم كان .

المادة الخامسة والعشرون:

للمرأة الحق في أن تتعلم ولكن يري الحزب أن يكون تعليم المرأة بما يناسبها ويحقق فائدة للمجتمع على نحو أفضل وبالكيفية المناسبة لها .

الفصل الخامس:في النظام الاقتصادي

المادة السادسة والعشرون: يؤمن الحزب بأن حقوق الملكية الخاصة مصونة .
المادة السابعة والعشرون: حرية العمل مصونة لجميع الأفراد ولهم حق اكتساب الأموال بكل طريق مشروع .
المادة الثامنة والعشرون: يحرم كل عمل يعود على المجتمع بالضرر أو يقوم على الربا والاحتكار .
المادة التاسعة والعشرون: الزكاة حق مالي للفقراء في أموال الأغنياء وعلى الدولة أن تجبيها من الأغنياء وتحفظها عندها وتصرفها على مستحقيها من الفقراء وغيرهم المنصوص عليهم في الشريعة الإسلامية .
المادة الثلاثون: للدولة أن تفرض الضرائب العادلة على المواطنين كلما دعت الحاجة إلى ذلك على أن تصرف هذه الضرائب فيما يعود على المجتمع بالنفع العام .
المادة الحادية والثلاثون: يؤمن الحزب بضرورة انتهاج سياسة الاكتفاء الذاتي كخطوة أولي لبناء اقتصادي مستقل يؤمن حاجيات الشعب .
المادة الثانية والثلاثون: يؤمن الحزب بضرورة المبادرة إلى تطوير الحياة الاقتصادية .
المادة الثالثة والثلاثون: يري الحزب ضرورة تشجيع رؤوس الأموال الوطنية في إنشاء المشاريع الضرورية للحاجات الملحة في البلاد .
المادة الرابعة والثلاثون: يؤمن الحزب بضرورة العمل لتأمين مستوي لائق للعمال على أن تكون العلاقات بين العمال وأرباب العمل علاقات تعاون من أجل رفع مستوي الإنتاج وحصول العامل عل أجر عادل مناسب مع جهده وتأمين حاجاته والعمل على تنظيم العمال في نقابات مهنية تعمل من أجل رفع المصالح العمالية في جو بعيد عن الحزبية .

المادة الخامسة والثلاثون:

يؤمن الحزب بضرورة توزيع الأراضي على الفلاحين وتسليفهم المبالغ اللازمة لهم بدون فائدة وشراء المنتجات الزراعية تشجيعا لهم .

المادة السادسة والثلاثون:

يؤمن الحزب بضرورة قيام الدولة بمنع التعامل بالربا سواء كان بين الأفراد أو عن طريق المصارف تخليصا للناس من شرور الربا على أن يتم ذلك تدريجيا وعلى ضوء الدراسات الاقتصادية الدقيقة وأن توجد المصارف التي تتعامل بدون ربا.

الفصل السادس في السياسة الداخلية والخارجية

المادة السابعة والثلاثون: يؤمن الحزب بضرورة الوحدة العراقية بين جميع المواطنين على أساس جنسيتهم العراقية ويعتبر العراق جزء من الأمة العربية التي يجب أن تتوحد في دولة قوية على أساس الإسلام لا على أساس آخر لتكون هذه الدولة الواحدة نواة للوحدة الإسلامية الشاملة بين جميع الشعوب الإسلامية ولتقم في العالم دولة إسلامية واحدة تضم جميع المسلمين .
المادة الثامنة والثلاثون: يؤمن الحزب بأن الاستقلال الصحيح لن يتحقق مفهومه الصحيح إلا بمحاربة الاستعمار والتبعية على اختلاف أنواعها وضروبها سواء أكان هذا الاستعمار أم التبعية سياسيا أم عسكريا أو اقتصاديا أم ثقافيا حتى تتحقق للأمة شخصيتها حقا وهي الشخصية الإسلامية .
المادة التاسعة والثلاثون: يؤمن الحزب بضرورة التضامن العربي ويعتبره ضرورة من ضرورات كفاح الشعب العربي لنيل استقلاله وتحريره .
المادة الأربعون: قضية فلسطين لا يمكن حلها إلا عن طريق القوة بإخراج المتعصبين لها وإرجاع أهلها فإن الحزب يؤمن بأن الطريق الوحيد هو استعمال القوة بعد أن فشلت جميع الوسائل السلمية لحلها .
والحزب يدعو الدولة العربية أن تنجد إخواننا الفلسطينيين اللاجئين في أرضها وتجعل منهم جيشا حاضرا لخوض المعركة المنتظرة وأن تساويهم في جميع الحقوق مع مواطنيها لتشعرهم حقيقة أنهم بين أهلهم وإخوانهم .
المادة الحادية والأربعون: يؤمن الحزب بضرورة نصرة الجزائر وعمان وسائر البلاد الإسلامية الأخرى المنكوبة بالاستعمار نصرا ماديا ومعنويا .
المادة الثانية والأربعون: يؤمن الحزب بسياسة الحياد الحقيقي بين المعسكرين المتنازعين في العالم ولذلك فالحزب يقاوم الأحلاف والتكتلات والمواثيق العسكرية التي تعقدها الدولة الاستعمارية لربط الشعوب بعجلة مصالحها .
المادة الثالثة والأربعون: يؤمن الحزب بالرابطة الإنسانية بين شعوب العالم قاطبة هذه الرابطة التي يجب أن تقوم على أساس مصلحة الإنسانية وتعاونها على الخير من أجل بناء عالم فاضل .

وقد عرض قادة الحزب دستور الحزب الإسلامي على علماء الشيعة .

يقول الأستاذ إبراهيم المدرس:

وفور تأسيس الحزب الإسلامي شكلنا وفدا مني ومن الأستاذ وليد الأعظمي والشيخ كاظم الساعدي فذهبنا إلى النجف وقابلنا السيد محسن الحكيم والسيد أبا القاسم الخوئي والسيد محمد باقر الصدر والشيخ عبد الكرين الجزائري
وكان قد تجاوز المائة وكان أشدهم حماسا في تأييدنا ومباركة سعينا في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين وقال : يا ليتني كنت جذعا ولكن لا أملك غير الدعاء لكم بالتوفيق وأبارك لكم سعيكم والحق أننا وجدنا من الجميع التأييد الحار والاستعداد الكامل للتعاون معنا في كل ما يخص مصلحة الإسلام والمسلمين .

ويقول الأستاذ نور الدين الواعظ:

في مقابلتنا للسيد محمد باقر الصدر قرأنا عليه دستور الحزب الإسلامي فأيده تأييدا كاملا؛وقال ذهبنا إلى السيد محسن الحكيم وكان مريضا ولم نستطع مقابلته فخرج إلينا ابنه السيد مهدي وقال إن الوالد يقول:إن دستور الحزب الإسلامي دستور إسلامي صاف وليست فيه أية نزعة طائفية وأنا موافق عليه .

وبعد الحصول على إجازة الحزب قدم الحزب طلبا إلى وزارة الإرشاد لإجازة جريدة الحزب (الجهاد) ولكن الجواب تأخر كثيرا فاضطر الحزب نشر مذكراته وأخباره في جريدة (الفيحاء) لصاحبها كاظم الساعدي وجريدة (الحياد) لصاحبها فاضل شاكر النعيمي وجريدة (الحرية) لصاحبها (قاسم حمودي)

ومن هنا فقد أرسل الحزب مذكرة إلى وزارة الإرشاد بشأن إعاقة الوزارة لإصدار جريدة الحزب وبيان أسباب محاربة الحزب

أما مذكرات الحزب فقد كانت كثيرة ومتنوعة فعلي سبيل المثال:

عندما صرح شاه إيران بتاريخ 25/7/1960 بالاعتراف بإسرائيل قام الحزب الإسلامي بنشاط كبير في سبيل دحض هذا الاعتراف فقابل رئيس الحزب الأستاذ نعمان عبد الرزاق السامرائي وزير خارجية العراق وشرح له خطوة الأمر

كما أبرق إلى كبار مجتهدي الشيعة في إيران مستنكرا وطالبا التدخل وعدم قبول هذا الواقع منهم السيد البروجردي والكاشاني والبهبهائي والخوانساري ومن علماء العالم الإسلامي شيخ الأزهر محمود شلتوت وأبوالأعلي المودودي وطلب الحزب من الحكومة القيام بمظاهرة سلمية في بغداد ضد هذا الاعتراف .

  • وقدم الحزب مذكرة صريحة حول الأوضاع الداخلية السيئة وبين معالجات الإسلام لمشكلات المجتمع الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية .
  • وقدم الحزب مذكرة طويلة بشأن تطبيق الشريعة الإسلامية وترك العمل بالقوانين الوضعية .
  • وقدم الحزب مذكرة أخري طويلة بشأن إعطاء الحكومة المجال للشيوعيين في إفساد النظام الوطني .
  • وقدم مذكرة أخري بمناسبة ذكري نكبة فلسطين تذكر فيها الحكومة بأداء واجبها تجاه هذه القضية .
  • وقدم مذكرتين بشأن إطلاق سراح مجتهد الشيعة الكبير محمد مهدي الخالصي والشيخ عبد العزيز البدري والثانية بشأن إطلاق سراح رشيد عالي الكيلان وعبد السلام محمد عارف .
  • ودعا الحزب إلى اجتماع لعلماء العراق في يوم الاثنين 15/8/1960 م لدراسة الوضع الإسلامي في العراق والوقوف أمام موجة الحزب الشيوعي وتقديم اقتراحات إلى عبد الكريم قاسم وطلب إطلاق سراح المعتقلين عامة وعلماء الإسلام خاصة .

يقول عضو الهيئة الإدارية المركزية للحزب الأستاذ نظام الدين عبد الحميد:

(الحكومة ما كانت تعير لمذكرات الحزب وتوجيهاته ومآخذه على سياستها الخاطئة آذانا صاغية وكان يزعجها ما كان يصدر منه من نقد فكانت تحاول جاهدة الحد من نشاطه بمراقبة أعضائه حينا وحجز بعضهم حينا وإبعاد بعضهم حينا آخر وتعطيل جريدة الحياد كلما ظهر فيها ما يزعجها من كلام ونقد)

مذكرة الحزب الشهيرة:

ولما وجد الحزب تمادي الحكومة في غيها والإصرار على السير فيما انتهجته من سياسة دون الالتفات إلى نصيحة ناصح أو توجيه صائب لموجه رأي الواجب يدعو إلى المواجهة الصريحة الصائبة بتوجيه بيان مسهب صريح إلى رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم بالذات ليضع أمامه كل المساوئ التي ارتكبت في عهده وما أصابت الأمة من المحنة والإيذاء تحت ظل حكمه .

ولما كانت جريدة الحياد موقوفة عن الصدور بأمر من الحاكم العسكري العام تم توجيه هذا البيان في جريدة (الفيحاء) للشيخ كاظم الساعدي أحد علماء الشيعة في يوم السبت الموافق 24 من ربيع الثاني من سنة 1380 هـ الموافق 15 تشرن الأول من سنة 1960م.

وتم طبع الجريدة في بغداد في جو من الكتمان خوفا من اطلاع الرقابة على البيان ومصادرة أعداد الجريدة قبل توزيعها كما تم توزيعها في يوم واحد بأعداد كثيرة في جميع محافظات العراق ولم تنتبه الحكومة إلى الأمر إلا بعد إتمام التوزيع وإطلاع الجمهور على البيان الذي كان بمثابة قنبلة هزت أركان الحكومة ومؤيديها من الشيوعيين والمنتفعين .

ولأهمية هذه المذكرة التاريخية الخطيرة نثبت نصها كما ورد في الجريدة:

بسم الله الرحمن الرحيم
سيادة رئيس الوزراء اللواء الركن عبد الكريم قاسم المحترم

قال رسولنا وزعيمنا محمد صلي الله عليه وسلم " من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم " ومن أبسط لوازم الاهتمام إبداء الرأي في مشاكل الأمة وإرشادها إلى خير ومراقبة الحكام ونصحهم ونقدهم وبيان خطئهم وعلى هذا النهج سار المسلمون الأولون حكاما ومحكومين فسعدوا في ديارهم وآخرتهم؛

وحققوا في الأرض حكما صالحا وأقاموا مجتمعا فاضلا وأسسوا دولة مثالية ليس فيها مكان لمستبد ظالم ولا لحاكم جائر ولا لمواطن ينافق ذا السلطان ويتملقه بالباطل ويكفينا هنا أن نذكر أن رجلا قال لعمر بن الخطاب:

(اتق الله يا عمر) فقال أحد الحاضرين:أتقول هذا لأمير المؤمنين فقال عمر بن الخطاب قولته التي صارت مثلا (لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها).

هكذا يكون الحاكم الصالح وهكذا تكون الأمة الواعية الصالحة فعمر بن الخطاب لا يكتفي بسماع ما قاله ذلك المواطن وإنما يدفع الأمة إلى استعمال حقها بل القيام بواجبها نحو الحكام؛

فيقرر أن لا خير في الأمة إن لم يقم أفرادها بمراقبة الحكام ونصحهم ونقدهم وإرشادهم وبيان أخطائهم وأسماعهم قول الحق دون مداجاة أو رياء أو نفاق كما يقرر ذلك الخليفة الصالح أن لا خير في الحكام ومن بيده السلطان إن لم يسمعوا نقد الأمة ونصحها سماع رضي وقبول لا سماع سخط وإنكار .

إن حزبنا الإسلامي قد أخذ على نفسه عهدا ليقتفي أثر سلفنا الصالح مهتديا بهدي الإسلام في كل من يأخذ ويترك وفي كل ما يقول ويكتب وفي نقده ومدحه سواء رضي عنه الناس والحكام أم سخطوا فرضي الله هو مع العارفين ومنتهي غاية المسلمين الصادقين ونرجو أن تكون من هؤلاء إن شاء الله تعالي.

وبعد:

فإن الحزب يقدم آراءه في بعض قضايا الساعة قياما بواجبه نحو الأمة كما فرضه الله تعالي:

أولا:موقف الحكومة

منذ أن قام الحزب الإسلامي أخذت الحكومة تضايقه وتعمل على عرقلة أعماله سرا وعلنا كأن الإسلام الذي ندعو إليه أمر يخالفها ويزعجها ويرعبها وكأننا في بلد غير إسلامي ومن أبرز هذه المضايقات حجز عضو الهيئة الإدارية للحزب الأستاذ (الحاج طه جابر) دون تحقيق معه حتى الآن بالرغم من مضي أكثر من شهر عل حجزه .
ومنع الحزب من إصدار جريدته (الجهاد) من قبل الحكومة والحكومة أنت يا سيادة رئيس الوزراء وما الوزراء الذين معك إلا منفذين لأمرك إن كل ما تعللت به الحكومة من منع الحزب من إصدار جريدته هو عدم رضائها عن رئيس تحريرها المسئول مع إنه أحد مؤسسي الحزب وكان مسئولا عن جريدة سابقة .

ثم أبدل الحزب هذا المسئول بغيره ولم تجب الحكومة حتى الآن وربما لا تجيب إلى الأبد أو تجيب بعد حين وتقول:

إن هذا الشخص غير مرضي وهكذا إن موقف الحكومة قبل الحزب وسوء استعمال سلطتها لا يمكن أن تخفي حقيقته على أحد ولا يمكن تبريره أبدا إن بغداد دار السلام تعج بالصحف التي تفسد العقيدة وتدعو إلى العلمانية وتمجد باطل الشيوعية؛
ولكن الحكومةلا تري في ذلك بأسا ولا خطرا لأن الخطر في رأيها يكمن في إصدار جريدة إسلامية للحزب الإسلامي .
إن هذه المفارقات لا تقوي عقولنا على إدراك حكمتها وكل ما تستطيع عقولنا إدراكه هو إن الحكومات الرشيدة الصالحة هي التي تسهل للجماعات الصالحة سبل العمل لخدمة الأمة وإن الحكومات القاصرة والظالمة هي التي تعسر سبل العمل على هذه الجماعات وتقلي في طريقها الأشواك.
إن الحكومة تردد كثيرا على وجه المباهات والفخار أ،ها ترعي حرية الرأي وقيام الأحزاب فكيف يتفق هذا القول مع موقف الحكومة من حزبنا الإسلامي .ألا يحق لنا أن نقول إن قول الحكومة يصدق على الحزب الشيوعي بشقيه العلني والسري وجرائده وأشيائه ولا يصدق على الحزب الإسلامي .
ومهما يكن الحال فإننا عازمون على المضي في طريقنا الإسلامي متحملين كل أذي حاضرا ومستقبلا باذلين جهدنا في خدمة أمتنا بالوسائل الميسورة لدينا حسب المنهج الإسلامي الحق الذي لا حق غيره حتى تستيقظ الروح الإسلامية في أمتنا العزيزة؛
ويكمل وعيها الإسلامي وعند ذلك ستقوم هي بإصلاح ما فسد وتقويم ما اعوج وإرشاد من ضل ولن يستطيع أحد كائنا من كان أن يخدعها ويغرر بها أو ينسيها عقيدتها أو يسير بها على غير سبل الإسلام .

ثانيا:موقف الحكومة من الشيوعية:

فسحت الحكومة المجال للشيوعيين ورعتهم وأيدتهم سرا وعلنا فانطلقوا يدعون الناس إلى باطلهم بالقول المزخرف وتحريف الكلام عن موضعه من انقلبوا من مقام الدعوي إلى مقام التهديد على مسمع من الحكومة وبعلمها وتأييدها صار الناس في نظر الشيوعيين أحد اثنين : شيوعي وغير شيوعيP
فالأول هو المخلص وحامي حمى الجمهورية والثاني هو الخائن أو المتآمر أو المرتد أو الرجعي ورتبوا على هذا المنطلق المفلوج أن أباحوا لأنفسهم ملاحقة غير الشيوعي وإلحاق الأذى به على مسمع من الحكومة وبعلمها وتأييدها .
ثم بلغ الإجرام الشيوعي ذروته في مآسي الموصل وكركوك ولم تفعل الحكومة أكثر من نعت مجرمي كركوك فقط بالفوضوية كأن نعت المجرمين الشيوعيين بهذا الوصف يعيد للأم الثكلي ابنها الوحيد ويرد للزوجة المفجوعة زوجها الشاب الشهيد .
إن ما وقع في الموصل وكركوك لا يمكن أن ينسي أبدا , ولا يمكن أن تبرأ الحكومة من مسؤوليته إن المآسي التي وقعت ما كانت لتقع لولا تأييد الحكومة للشيوعية ورعايتها للشيوعيين .
إن تأييد الشيوعية لا يقرها الإسلام لأن الشيوعية فكرة باطلة مخالفة له مخالفة صريحة ومن ثم لا يجوز لأحد أن يعتنقها أو يساعد على نشرها فرعاية الحكومة للشيوعية عمل مخالف للإسلام وباطل لا يجوز للحكومة أن تقدم عليه ولا تملك حق رعاية الباطل المفسد لعقيدة المسلمين ولم تخولها الأمة مثل هذا الأمر؛
والآن وقد تبين للحكومة خطأها العظيم في رعاية الشيوعية والشيوعيين أما آن لها أن تثوب إلى رشدها وترجع عنه خطئها إن الإنسان إذا لم يكن مطالبا بالعصمة عن الخطأ فإنه مطالب على وجه التأكيد أن لا يصر على الخطأ بعد أن تبين له وهل بعد مآسي الموصل وكركوك من حاجة إلى مزيد من البيان ؟

والرجوع عن الخطأ وتصحيح ما فسد يكون بما يأتي:

  1. الإعلان الصريح للأمة بأن الشيوعية محرمة شرعا وأن الحكومة تلتزم بهذا التحريم .
  2. سحب إجازة الحزب الشيوعي العلني الميت ومنع نشاط الحزب الشيوعي الحي .
  3. منع الصحف من الترويج للشيوعية حفظا لعقيدة الأمة ودون الالتفات إلى ضجيج المبطلين وقولهم إن هذا مصادم لحرية الرأي .فإن الحرية تقف أو توقف حيث تكون أداة لإفساد عقيدة الأمة والإضرار بها والإخلال بوحدتها وأن الحكومة إذا أحبت ضلال الشيوعية فليس من حقها أن تحبب هذا الضلال إلى أبناء المسلمين .
  4. أن تكف الحكومة من رعاية الشيوعيين ومؤتمراتهم الداخلية والعالمية فإن واجبها هداية الضال لا تشجيع الضال وإن من واجبها إنفاق أموال الأمة على مصالح الأمة لا علي وفود المؤتمرات الشيوعية كمؤتمر الطلاب العالمي .
  5. أن تنزل العقاب بمرتكبي جرائم الموصل وكركوك المباشرين منهم والمحرضين فإن ذوي القتلى لا تهدأ نفوسهم إلا إذا رأوا القصاص العادل ينزل بالمجرمين (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) ولا يحق للحكومة أن تعفو عن المجرمين القتلة ولا أن توقف الأحكام في حقهم لأنها لا تملك مثل هذا الحق وصحة التصرف مرهونة بتصرف الإنسان بما يملك وإذا كانت الحكومة تحس بعطف على ذوي القتلى الأبرياء وتريد القصاص الذي أمر به رب العباد.
  6. إن كل تباطئ في الاقتصاص من مجرمي الموصل وكركوك يجعل الناس يصدقون يقينا ما كان قد قيل إن جرائم الموصل وكركوك كانت بعلم من الحكومة وتأييد منها للفاعلين .
  7. الكف عن رعاية الحكومة للشيوعيين لا سيما رؤوسهم وتنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم ولأن هذا من مقتضي سيادة القانون التي يجب أن تطبق على الجميع أما صدور الأحكام ثم إلغاؤها كما حصل للمدعو عبد القادر إسماعيل أحد رؤوس الشيوعية قبل أن تمر ليلة واحدة على صدور الحكم فإن هذا يعطينا دليلا ملموسا على مدي عطف المسؤولين على جميع الرعية بالسوية فليس من العدل والإنصاف أن يلغي حكم المجلس العرفي العسكري على صاحب جريدة (اتحاد الشعب) في الوقت الذي يبعد صاحب جريدة (الحياد) إلى نقرة السلمان فهل وصلنا إلى درجة عدم مساواة رجل مسلم يدعو إلى الإسلام بشيوعي يدعو إلى للكفر والإلحاد في بلد الإسلام .
ومما يؤيد استمرار الحكومة على رعاية الشيوعيين ومحاربة غيرهم ما جري لجريدة (الحرية) من حيث أسلوب غلقها ذلك الأسلوب الذي لم نعهده من حكومة ما فقد كان البيان الرسمي يتضمن سبا وطعنا في شخص صاحب الجريدة وهو الأعزل عن إمكانية الرد كما أنه لم يتغير نهج جريدته عما كان عليه سابقا يوم صرح رئيس الوزراء في المستشفي من أن صاحب جريدة الحرية مندمج في خط الثورة ولا يؤاخذ بجريرة ابنه .
أما البيان العسكري فقد أقحم قضية ابنه وتحميل أبيه مسؤولية الأبن ونحن بغض النظر عن إدانته لأن لنا رأينا الخاص في المحكمة العسكرية العليا الخاصة وأحكامها ونؤمن بقوله تعالي : (ولا تزر وزارة وزر أخري) وهذا مبدأ إسلامي مسلم به .

ثالثا:الاعتقالات والحجز:

سلكت الحكومة سبيل الاعتقالات وحجز الناس في المواقف أو حجزهم في بيوتهم وتعطيلهم عن أعمالهم من أهليهم وقد أخذت الحكومة بهذا المسلك منذ سنة وحتى الآن لم يسلم من هذا الأسلوب حتى علماء الإسلام ولا يزال بعضهم بين محجوز في بيته وبين موقوف في الموقف دون أن توجه لهم تهمة أو يجري معهم تحقيق .
إن الحكومة لا ينبغي لها أن تركب هذا المركب الصعب وتأخذ البرئ بجريرة المذنب فالأصل في الإنسان براءة الذمة فإذا ارتابت الحكومة بأن إنسانا ارتكب جريمة ما فعليها أن تحقق معه سريعا وترسله إلى القضاء إن ترجحتا إدانته وظهرت علائمها وإلا فتطلق سراحه حالا.
أما أن تلقي الأبرياء في غيابة المواقف والسجون أو تحجزهم في البيوت دون تهمة معينة وتبقيهم هكذا الشهور الطوال فهذا أمر لا يقره شرع ولا قانون ولا إنصاف .
وعليه فنحن نري لزوم تشكيل الهيئات التحقيقية النزيهة العادلة لتقوم بمهمة التحقيق مع كل معتقل أو محجوز أو مبعد وتبت في أمره فإما برئ فتأمر بإطلاق سراحه إما ترجح إدانته فيقدم إلى المحاكم المختصة للبت في قضيته على وجه السرعة دون إبطاء .

رابعا: تصدع وحدة الأمة:

لم يشهد العراق انقساما بين صفوف الأمة كالانقسام المشاهد الآن ولا شك أن الحكومة مسئولة عن وحدة الأمة والمحافظة عليها ومنع ما يصدعها وإن أعظم ما فرق الأمة في نظرنا إفساح المجال للأفكار والمبادئ الباطلة كالشيوعية التي ساهمت الحكومة مساهمة فعالة في نشرها وتأييدها كما أن العنصرية قد ظهرت في عراقنا المسلم ولا تنجو الحكومة من مسؤولية ذلك إن الطريق الوحيد لوحدة الأمة هو الإسلام فالإسلام هو الذي يوحد وغيره هو الذي يفرق .
وسبيل الوحدة بالإسلام تبني الحكومة له فتحمله عقيدة ونظاما فتطبق أحكامه جميعا بالداخل وتحمله في الخارج وتلغي كل تشريع باطل مخالف للإسلام سواء شرع في العهد المباد أم في هذا العهد كقانون المواريث الذي سنته الحكومة الحاضرة وهو مصادم لنصوص القرآن ومخالف لها وبدون هذا الذي نقول لا يمكن أن تكون هناك وحدة حقيقية بين صفوف الأمة .
أما ما يقال إن هذا أمر لا يمكن تحقيقه في البلاد لأن فيها طوائف غير إسلامية فالجواب إن تأسيس الدولة على أساس الإسلام وتطبيق أحكامه أسهل من تأسيسها على نظام الشيوعية أو على أساس أ ى مبدأ باطل .
فأهل البلاد بأكثريتهم الساحقة مسلمون وغير المسلمين يرحبون بتطبيق أحكام الإسلام لأنها إذا لم تطبق أحكامه طبقت أحكام غيره من الشرائع لا أحكام دينهم فأي ضرر يلحقهم في ذلك فضلا عن أن الإسلام يقر أهل الأديان الأخرى على ديانتهم ولا يكرههم على تبديلها (لا إكراه في الدين)

خامسا: الحالة الاقتصادية:

لا نأتي بجديد ولا نبوح بسر إذا قلنا إن الحياة الاقتصادية في تدهور وأن البطالة في تزايد وإزاء هذه الحالة يجب على الحكومة أن تدرس أسبابها وتقف على عواملها وتضع العلاج السريع لها فتقوم مثلا بتنفيذ المشاريع الاقتصادية المدروسة لتشغيل الأيدي العاملة فيها وتقوم بالمشاريع الإنتاجية وعدم تبذير أموال الدولة في ما لا ينفع مثل إقامة النصب والتماثيل وفتح الساحات واستملاك البنايات لهذا الغرض بملايين الدنانير فأى فائدة من ذلك والضيق الاقتصادي يأخذ بخناق الناس .
كما أن على الحكومة أن تودع شؤون الإصلاح الزراعي في أيدي أمينة بعيدة عن الحزبية الشيوعية وتبادر إلى إنجاز مشاريع الري وتسليف الفلاحين ما يكفيهم ومراقبتهم في وجوه إنفاق ما سينفقون ونحو ذلك .

سادسا:حقوق العمال

للعمال حقوق يجب أن تصان ولا تهدر مثل حصولهم على الأجور العادلة والتأمين ضد البطالة والمرض والشيخوخة وسماع شكاواهم ومطالبهم فإن كانت حقا نفذت وإن كانت باطلة ردت وجعل نقاباتهم بعيدة عن تيار الحركة الشيوعية حتى تكون مهنية تعني بشؤون العمال وخدمة مصالحهم لا خدمة الشيوعية .

سابعا: سياسة التعليم:

سبق وأن قدمنا مذكرة للمسئولين تبين رأينا فيما يجب أن تكون عليه سياسة التعليم والأساس الذي تقوم عليه وخلاصة ذلك ما قلناه هو جعل العقيدة الإسلامية هي الأساس الذي تبني عليه فلسفة التعليم وأهدافه وأغراضه حتى ينشأ في الأمة جيل يؤمن بالله واليوم الآخر ويراقب الله في عمله سرا وعلنا وحتى تحفظ للأمة شخصيتها الإسلامية وعلى هذا الأساس طالبنا أن تكون مناهج الدراسة حتى تكون ملائمة لهذا الذي ندعو إليه ونحن نكرر طلبنا السابق ونعتقد أن عدم الأخذ به تفريط بحق الأمة .

ثامنا: التضامن مع الدول العربية:

إننا نطالب الحكومة بإزالة الفرقة مع الدولة العربية والإسلامية وندعو إلى توثيق عري التضامن معها لأنها جزء من الأمة الإسلامية على أن يكون هذا التضامن على أساس الإسلام الذي يجمع بين الدولة العربية وغيرها من الدول الإسلامية .
إننا ندعو إلى وحدة الدول العربية على أساس الإسلام باعتبار أن هذه البلاد جزء من البلاد الإسلامية وأن قيام الوحدة بينهما أقرب تحقيقا من غيرها لاعتبارات إلا إننا نصر على أن يكون أساس هذه الوحدة ونظامها وأهدافها وروحها هو الإسلام عقيدة وأحكاما ونظاما .
فعلي الحكومة أن تعمل على إزالة الفرقة وزيادة التضامن في مختلف المجالات تمهيدا إلى الوحدة على أساس الإسلام وهي آتية لا ريب فيها إن شاء الله تعالي

تاسعا: شركات النفط:

إن النفط ثروة جسيمة للأمة فيجب إحسان الانتفاع منها وهذا لا يكون في نظرنا إلا بأن تقوم الحكومة نفسها باستخراج النفط وبيعه وعدم إيكال ذلك إلى شركات النفط .
وعليه فنري أن الطريق إلى نفع الأمة هو تأميم هذه الشركات وتعويضها عن منشآتها وقيام الحكومة بمهام استخراجه بأيد من أهل البلاد وإن أعوز ذلك فلا بأس من استئجار الخبراء من الدولة المحايدة .
إنما يدعونا إلى التأميم فضلا عن فوائده المادية للبلاد هو أن الشركات تعمل دائما بوحي من حكوماتها الاستعمارية وكثيرا ما يتجاوز حدود عملها وتعمل على بث الدسائس والعمل على الإضرار بمصلحة البلاد وإذا تعذر التأميم في الوقت الحاضر فعلي الحكومة أن تهيأ الأسباب اللازمة والكفاءات الفنية لتحقيق هذا المطلب في المستقبل .

عاشرا: الخاتمة:

وبعد فهذه آراؤنا في القضايا التي ذكرناه مستمدة من هدي الإسلام وعلى الحكومة أن تسترشد بها وتأخذ بها لأن الحكومة المسلمة هي التي تخضع لحكم الإسلام وترجع إليه في جميع تصرفاته فإن فعلت ذلك رشدت وإن أبت ضلت وسببت لشعبها النكد والضيق (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) .
وليعلم المسؤولين أن حكم العد المباد قد سقط وانهار لانحراف حكامه عن حكم الإسلام وإن سنة الله واحدة في الأولين والآخرين كما أن عليهم أن يعلموا أن الثورة قد نجحت في قضائها على فساد وظلم العهد المباد ولكن لم تنجح حتى الآن في إيجاد الإصلاح الإيجابي في جميع شؤون البلاد.
إن الأمة لا يقنعها بصلاح الأحوال تكرار القول بأن الثورة قد قضت على العهد الفاسد المباد ما لم تر الإصلاح الحقيقي الإسلامي في جميع شؤون الدولة لأن القضاء على العهد الفاسد وسيلة لا غاية وسيلة لقيام عهد صالح فإن لم يقم هذا العهد فلا يغني الكلام ولا تعتبر الثورة ناجحة والله يقول الحق وهو الهادي إلى سبيل السبيل .

الحزب الإسلامي في العراق

وقد أدت هذه المذكرة المهمة فورا إلى اعتقال أعضاء الهيئة الإدارية للحزب والتحقيق معهم في ذلك.وقد كانت المذكرة مفاجئة كبيرة للشعب العراقي جميعا بحيث صعدت النسخة الواحدة إلى (عشرة دنانير) في حين أن ثمن العدد كان (16) فلسا والدينار العراقي يساوي (1000) فلس .

وفي الجمعة التي تلت اعتقال أعضاء الهيئة الإدارية هاجم معظم خطباء المساجد الحكومة وعبد الكريم قاسم والشيوعيين وأعادوا إلى الأذهان الجرائم التي ارتكبها هؤلاء ضد الشعب العراقي وكنت يومئذ خطيبا في جامع إبراهيم بك التكريتي في مدينة كركوكP

فألقيت خطبتي الارتجالية الحماسية بهذا الشأن وهاجمت عبد الكريم قاسم على مساندته لجرائم الشيوعيين وعلى تغييره لحكم القرآن (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) وجعله في قانون الأحوال الشخصية للذكر مثل حظ الأنثي فكان على اثر ذلك أن منعني أمن كركوك من الاستمرار في الخطابة .

وقد أيد علماء العراق بجميع طوائفه مذكرة الحزب الإسلامي مثل العلامة الشيخ أمجد الزهاوي والشيخ محمد فؤاد الآلوسي والشيخ نجم الدين الواعظ والشيخ حمدي الأعظمي ومجتهدي الشيعة الشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ محمد الخالصي والسيد أبي القاسم الخوئي والسيد على بحر العلوم والسيد محسن الحكيم الذي استدعي قائم مقام النجف خليل إسماعيل P

وآمر سرية التدريب المقدم كاظم حسن في ليلة الثلاثاء الموافق 4 جمادي الأولي 1380هـ وطلب منهم إبلاغ الحكومة تأييده المطلق لمذكرة الحزب الإسلامي إلى الحكومة واستنكار الشديد لاعتقال أعضاء الهيئة الإدارية ورفضه للسياسة التي كانت تتبعها الحكومة وكان يقرأ عليهم بعصبية شديدة الآيات القرآنية التي تندد بالظالمين

وأيد المذكرة أيضا علماء كركوك , وجمع من علماء الكرد في السليمانية وحلبجة وأربيل .

يقول الأستاذ وليد الأعظمي:

(وقد اقترح الشيخ كمال الدين الطائي والأستاذ رشيد العبدي عميد كلية الشريعة على عبد الكريم قاسم أن يجمع علماء بغداد على الإفطار في رمضان وكان قصدهما أن يطلب العلماء من عبد الكريم قاسم إطلاق سراح أعضاء الهيئة الإدارية للحزب فبعث الشيخ الزهاوي السيد فاضل شاكر النعيمي إلى الأستاذ نعمان عبد الرزاق رئيس الحزب ليقول له:ماذا تريدون أن نثير مع عبد الكريم قاسم بشأن مصلحتكم فأجاب نعمان بعدم ذهاب الشيخ إلى هذا الإفطار كي لا يستفيد عبد الكريم معنويا من هذه الخطوة .
ومن الجدير بالذكر أن الأستاذ نعمان عبد الرزاق كان يرسل الرسائل تلو الرسائل إلى السيد محسن الحكيم يستنهضه فيها للدفاع عن بيضة الإسلام والدعوة إلى تحكيم شريعة الله ومحاربة الظلم والطغيان والوقوف أمام الملحدين واللادينيين كي لا يفسدوا في الأرض ويحرفوا الأمة عن إسلامها .
كما أرسل الحزب مذكرة إلى السفير الأمريكي والبريطاني في العراق يستنكر مساندة الدولتين لسياسة فرنسا الاستعمارية في الجزائر .

يقول الأستاذ فليح السامرائي:

(هذه المذكرة نوقشت فكرتها كثيرا بين أعضاء الهيئة الإدارية وعرضت الفكرة على الدكتور عبد الكريم زيدان فوافق على الفكرة ثم طلب منه كتابة المذكرة وقرأت مرارا جري حذف بعض العبارات الجارحة لعبد الكريم قاسم شخصيا ثم اتفق على نشرها كما ورد) .

وقد سألت الدكتور عبد الكريم زيدان في صنعاء عن هذه القضية فقال: نعم إنني كتبت تلك المذكرة .

وهنالك نقطة جديرة تتصل بعمق الإيمان في نفوس الناس فعندما عرف الشعب المسلم أن جماعة من شباب الإسلام آلوا إلى أنفسهم إنقاذ الأمة من الانحراف والشيوعية ووقعوا على تلك المذكرة التي كان يمكن أن ينتهي الحكم عليهم بالإعدام اندفعوا بكل قوة كل من موقعه للوقوف معهم حتى مراكز الشرطة التي كانت في الظاهر تمثل السلطة كان مسئولوها من الضباط والأفراد يحاولون أن يريحوا هؤلاء في معتقلاتهم وفتحت أبواب المعتقلات للزوار ليلا ونهارا .

وكان أهل الأحياء الشعبية القريبة من تلكم المراكز يصنعون لهم طعاما في ثلاث وجبات كانوا يأتون به ويدخلونه إلى غرفهم في تلك المراكز.

يقول الأستاذ وليد الأعظمي

(وكان أهل محلة بني سعيد يرسلون لى ولصاحبي الطعام ثلاثة أوقات في اليوم)

وكان ضباط الشرطة يسمحون لهم بالذهاب إلى الحلاقين بل كانوا يسمحون لهم بالذهاب إلى المطاعن القريبة من تلك المراكز وكانوا يسمحون لكل من يريد أن يقابل المعتقلين بالمقابلة .

وقد رأيت بأم عيني كل هذا بالنسبة لأخي الأستاذ نظام الدين عبد الحميد والأستاذ فليح حسن السامرائي اللذين كانا معتقلين في مركز شرطة العيواضية قرب الجسر الحديدي في منطقة باب المعظم .

يقول الأستاذ وليد الأعظمي:

(ولا أنسي زيارة الشيخ نجم الدين الواعظ مفتي بغداد إلى ّ في مركز شرطة بني سعيد عندما دخل خلفه جمع من أهل المحلة يهتفون للحزب وسقوط الشيوعية

وقال لى الشيخ رحمه الله تعالي :

(يا ابني وليد: أنتم شجعان وصناديد وليس كل الناس مثلكم فلو بقيتم في المساجد توجهون الشباب وتربونهم على مبادئ الإسلام كان في ذلك خير كثير)

وبعد مكوث أعضاء الهيئة خمسة أشهر رهن الاعتقال أصدر عبد الكريم قاسم أمره بالإفراج عنه وطلب الاجتماع بهم في مقره بوزارة الدفاع وقد طلبت من أخي الأستاذ نظام الدين أن يكتب عن هذا الاجتماع لأنه كان حاضرا فيه فكتب لى ما يأتي:

اجتماع عبد الكريم قاسم بقيادة الحزب الإسلامي:

في عصر يوم 14 / 3/ 1961 م المصادف للأيام الأخيرة من شهر رمضان المبارك تم جمع الأعضاء المعتقلين في مقر مديرية الشرطة العامة وأبلغوا بأن الزعيم عبد الكريم قاسم طلب مواجهتهم في مقر وزارة الدفاع بعد تناول طعام الإفطار الذي أتي به بعض الأصدقاء الذين علموا بالموضوع؛

وبعد صلاة العشاء تم الانتقال إلى غرفة الاستقبال في وزارة الدفاع وبعد انتظار قرابة ساعتين تم الانتقال إلى قاعة قريبة من غرفة عبد الكريم قاسم فيها منضدة كبيرة جانبية وفيها ما يقارب ستة عشر كرسيا وبعد مضي بعض الوقت دخل القاعة عبد الكريم قاسم وسلم وخلفه الحاكم العسكري العام أحمد صالح العبدي وآمر الانضباط العسكري عبد الكريم الجدة ومرافقين لعبد الكريم قاسم .

جلس عبد الكريم قاسم على الكرسي المعد له وجلس بجانبه أحمد صالح العبدي وجلس عبد الكريم الجدة من ناحية المجلس ولما استقر المجلس بعبد الكريم وجه كلامه إلى أحمد صالح العبدي قال: أحمد أين كان الإخوان أجاب أحمد: في مراكز الشرطة العامة ووجه كلامه إلينا بعد هذا الجواب قال: إن اعتقالكم كان بأمري والزعيم لم يكن على علم بهذا الاعتقال ولما علم به طلبكم لهذا الاجتماع .

ثم بدأ عبد الكريم بالكلام وقال: أنني صممت الثورة وقضيت على العهد الفاسد وبدأ بذم ذلك العهد ويطعن في عبد الإله وابن أخته فيصل وقال: أنهما أساءا إلى الشعب وأهملا مصلحة البلاد وكانا ينفذان مصالح الاستعمار وأن المسؤولين في ذلك العهد لم يكن لهم هم إلا مصالحهم والسير في ركاب المستعمرين وتنفيذ مخططاتهم لذا ساءت أحوال البلد مما حملني على التفكير بقلب نظام الحكم؛

وعليه فالثورة لم تأت إلا لمصلحة الشعب وقطع دابر الفساد في البلد والقضاء على التبعية للأجنبي ثم عرج على ذم رجال الدين لسكوتهم على مساوئ العهد السابق وعدم معارضتهم لتصرفات المسؤولين المنافية لمصلحة البلد.

وقد ناقشه أحد الإخوة على هذه الاتهامات وقال إن من رجال الدين من لم يسكتوا على الفساد فكانوا يبدون استياءهم من الأوضاع ومعارضتهم في مقابلاتهم للمسئولين ويطالبون بالإصلاح وقال: إن المعارضة الصحيحة لا يمكن قيامها تحت حكم لا يؤمن بالحرية ويكمم الأفواه .

ثم تطرق عبد الكريم إلى كثرة الاعتقالات وقال: إن أكثرها كان يتم دون علمي لكثرة انشغالي وما كان يصل منها إلى علمي آمر بإلغائه وهنا تصدي أحمد صالح العبدي أيضا للكلام فقال : إن الزعيم ما كان يعرف بأكثر ما يتم من الاعتقالات .

وهنا ناقش أحد الإخوة موضوع جرائم الشيوعيين وتصرفاتهم اللاإنسانية المخالفة للقانون وخلقهم جوا من الرعب في قلوب أبناء الشعب وحريتهم العامة في إلحاق الأذى بمن يعارض فكرتهم دون أن يجدوا من الحكومة رادعا يردعهم لذلك من الضروري معاقبة المسئ منهم وإنزال العقاب العادل على محرميهم .

وبعد هذا الكلام قال عبد الكريم قاسم: من يظن بأنني شيوعي فهو على خطا فإنني كشفت للشعب حقيقة الشيوعية التي كانت مجهولة عند كثير من الناس ولو بقي نوري السعيد وعبد الإله أربعين سنة أخري في الحكم لما تمكنا بأسلوبهما إظهار حقيقة الشيوعية وانحي باللائمة على جريدة اتحاد الشعب التي كانت جريدة شيوعية لبعض مغالطاتها؛

وتطرق إلى أحداث الموصل وكركوك المؤسفة وذكر أنه لم تبين له سوء تصرفات الشيوعيين أوقفهم عند حدهم وكبح جماحهم وهو بهذا القول قصد خطابه في مؤتمر المهندسين الذي نعت الشيوعيين فيه بالفوضوية وقوله أنهم ارتكبوا من المظالم ما لم يرتكبه هولاكو .

وقال: ماذا تظنون ؟ فإني رجل مؤمن مثلكم أؤمن بالله وبالمقدسات وإيماني هو الذي حملني على التفكير بالثورة وقال أنني كتبت البيان الأول للثورة وافتتحته بآية الكرسي وختمته بآية كريمة وقال:إنني لا أملك من حطام الدنيا سوي ملابسي التي ترونها على أكلي بسيط لا يتعدي أكل عامة الشعب .

يقول الأستاذ نظام الدين:

والحق يقال أنه كان صادقا في كلامه هذا إذ أثبتت الوقائع بعد القضاء عليه أنه لا يملك شيئا من المال ولم يستغل مركزه ونفوذه لجمع الثروة واكتناز الأموال كما لم يسمح لأقاربه ومنها أخوه لاستغلال نفوذه لمآربهم الشخصية والثراء على حساب الشعب؛
ولم يستعملهم في أى منصب من مناصب الدولة وأنه لم يرق نفسه إلى رتبة الفريق إلا بعد أن أكمل المدة القانونية للترقية ثم عرج بعد أقواله تلك إلى البيان الأول للثورة وأخذ يشرح بعض فقراته ثم تطرق إلى الوحدة العراقية والتضامن العربي ورابطة الشعوب الإسلامية فموضوع الأكراد وضمان حقوقهم .

ثم انتقل الكلام إلى قانون الأحوال الشخصية وما أثير من النقاش والمعارضة حول تسوية المرأة بالرجل في الميراث وفق الفقرة المعدلة في القانون وحاول الدفاع عن عمل الحكومة في التعديل فتصدي أحد الإخوة الكرام

فقال مفاده: إن ما تراه حقا يلزم أن لا يخالف ما قرره الله سبحانه وتعالي في كتابه فالحق هو فيما يقرره الله لا فيما يقرره غيره بما يخالفه فأنت لا تقبل أن يعارضك أحد فيما تقرره إذا كيف يجوز معارضة الخالق فيما قرره وشرعه .

وهنا تحول الكلام إلى لزوم الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية في كل ما يتم تشريعه من قوانين فقال:

من الشعب الأخذ بالشريعة الإسلامية لأن البلد فيه سنة وشيعة والفريقان يختلفان في كثير من أحكام الشريعة فأى النهجين يمكن إتباعه فقال الأستاذ الساعدي:يا سيادة الزعيم اجمعنا على ما نحن متفقون عليه ودعنا فيما اختلفنا فيه .

ثم تطرق إلى بيان الحزب وما فيه من شدة وأخذ ينفي عن نفسه بعض ما ورد في البيان من الاتهامات للحكومة .وفي النهاية طلب عبد الكريم حل الحزب وتشكيل جمعية بدله وقال : إن خدمة الإسلام يتم عن هذا الطريق أكثر مما يتم عن طريق الحزب وبين أنه مستعد لكل معاونة إن تم استبدال الحزب بالجمعية وكان الجواب بالرفض والتمسك بالحزب .

وهنا فقط تكلم عبد الكريم الجدة وهمس مشجعا للإخوة الجالسين القريبين منه أن اقبلوا عرض الزعيم فإنه يعاونكم ماديا ومعنويا وتربحون .

يقول الأستاذ وليد الأعظمي:

(أنه بدأ كلامه بنقد جمال عبد الناصر وقال:بأنه عاداني وظلمني واتهمني بأوصاف ليست حقيقية وقال:بأنه وصفني بأنني قاسم العراق) وكان من الممكن أن يظهر الإخوان هنا الشماتة ويفرحوا بمهاجمة عبد الكريم لعبد الناصر الذي أعدم قادتهم ولكنهم لم يفعلوا ذلك بل تصدي له الأستاذ نعمان رئيس الحزب وقال بالحرف الواحد:أنت أيضا لم تقصر في شتمه إذ وصفته بأنه (مسيلمة الكذاب).

وانتهي الاجتماع بآذان الفجر (حوالي سبع ساعات) وقد حصل تناول طعام السحور عما كان يقدم من المرطبات والحلويات خلال تلك الجلسة الطويلة بين حين وآخر .وقبل أن يترك عبد الكريم القاعة طلب من أحمد صالح العبدي إطلاق سراح الجماعة وإيصال كل منهم إلى محل سكناه حالا .

وبعد إطلاق السراح أصدر الحاكم العسكري العام أكرا بتجميد الحزب ومنعه من ممارسة نشاطه كما أصدر أمرا بإعادة الموظفين من الأعضاء إلى وظائفهم وبذا تم صرف ما تم تجميده من أنصاف رواتهم إليهم أما الأنصاف الأخرى فكانت تصرف إليهم كل شهر في أماكن اعتقالهم .

يقول الأستاذ إبراهيم منير المدرس:

(بعد خروجنا من عند عبد الكريم قاسم بيومين خطبت الجمعة في جامع المشتل ببغداد الذي كنت أخطب فيه قبل اعتقالي فلخصت في الخطبة ما دار بيننا وبينه من نقاش وختمت الخطبة بقولي (ما دام عبد الكريم قاسم مصرا على محاربته للإسلام فنحن نصر على جهادنا في سبيل الإسلام)

وذلك لأن القوميين اللادينيين أشاعوا عنا كما أشاعت الصحف في يومها أننا نزلنا عند رأيه واعتذرنا منه وبعد انتهاء الصلاة اقتادني رجال الأمن إلى الأمن العام واعتقلت في غرفة خاصة بعد أن ناقشني مدير الأمن العام عبد المجيد عبد الجليل وطلب مني الخطبة وأجبته بأنني كنت مرتجلا وادعي أنني شتمت إلهه هكذا بالنص .

فقلت له: لا إله إلا الله محمد رسول الله وكانوا قد أحضروا أربعة من الشرطة فضربوني وطرحوني أرضا وكسروا أنفي وسالت الدماء على وجهي وسقطت عمامتي على الأرض فرفعها أحد الشرطة وقالوا له:لماذا تمسح عمامة المجرم وصفعه فأجاب الشرطي:يا سيدي هذه عمامة رسول الله ثم أخرجني المفوض المصلاوي كامل وغسل الدماء على وجهي ولم يسمحوا بمقابلتي إلى أن أخرجت بكفالة خمسمائة دينار) .

لقد كانت تجربة الحزب خصبة جدا في إيقاظ الغافلين والتنبيه إلى الأخطار المحدقة يومئذ بالمسلمين على الرغم من عدم استمرارها أكثر من عام وعلى الرغم من المحاربة الشديدة التي جوبه فيها من لدن أركان الحكومة القاسمية وأجهزتها الإعلامية والأمنية ومن الشيوعيين الأعداء التقليديين للإسلام والمسلمين

لا سيما الجماعات الإسلامية ومن القوميين اللادينيين لا سيما الناصريين الذين كانوا يمشون دائما في ركاب أجهزة عبد الناصر في محاربة دعوة الإخوان المسلمين وواجهاتها العلنية ومن العلماء الخاملين الجامدين من طلبة الدنيا ومن أجهزة المخابرات والجاسوسية السرية للدول الاستعمارية وأحيانا من بعض أبناء الشعب الأميين الجاهلين الذين يصدقون بالشائعات .

وأما المعوقات الداخلية فأهمها كان في ازدواجية القيادة التي حالت دون توسع الحزب كما يقول الأستاذ نور الدين الواعظ وكذلك في ضعف الجانب المالي للحزب الذي كان يعتمد على اشتراكات الأفراد الزهيدة وأحيانا التبرعات الجزئية لبعض الخيرين .

الفصل الثاني:عمل الإخوان في هذه الفترة

سار عمل الإخوان الطبيعي على الرغم من وجود الحزب الإسلامي وانشغال عدد كبير من كوادر بأعمال الحزب وما ترتب عليها من ممارسة ونتائج ففي بغداد كان النشاط السري بجميع فروعه مستمرا أهمه النشاط الإعلامي في المجلات والصحف والنشرات .

المجلات والصحف والنشرات

جريدة الجهاد: وكانت جريدة سياسية إخبارية هادئة وكان رئيس تحريرها الأستاذ نور الدين الواعظ الذي بقي في صفوف الإخوان ورفض تسلم رئاسة الحزب لرفضه طبيعة القيادة المزدوجة وكان افتتاحياتها السياسية .

فمثلا افتتاحية العدد العاشر من السنة الأولي (بتاريخ 26 شوال عام 1382 هـ الموافق آذار 1963 م) موجهة إلى الحكومة للاعتماد علي الإسناد الشعبي والرجوع إلى عقيدة الأمة (الإسلام) في حل القضايا العالقة في المجتمع والتي سببتها مواقف حكومة عبد الكريم .

  • وفي العدد 18 السنة الأولي (في 5 ذي الحجة 1382هـ) الموافق لـ31 آذار 1963م جاءت الافتتاحي تدعو إلى وحدة الأمة العربية على أساس الإسلام .
  • وكنت أنشر فيها مقالات فكرية متنوعة أتذكر فيها سلسلة مقالات بعنوان (شيوعية بابك الخرمي) وسلسلة أخري بعنوان (الأكراد يرفضون الماركسية)

وكان الإخوان ينشرون المقالات والتعليقات في جريدتي (الحياد) و(الفيحاء) الإسلاميتين وكانتا بهذا السبب قد تعرضتا إلى الإغلاق المؤقت عدة مرات وتعرض رئيس تحرير الحياد ورئيس تحرير الفيحاء إلى الاعتقال أكثر من مرة إلى أن أغلقنا نهائيا بعد مذكرة الحزب الإسلامي .

وأما الصحافة السرية فكانت:

في العدد الثامن 1 ذو الحجة 1380 هـ الموافق 16 آيار 1961م مقالة عن مهمة الحكومة في الإسلام مقارنة بالحكومات الحالية ومظالمها وتبعيتها للسياسات الغربية ومحاربة أمريكا وانجلترا وفرنسا والاتحاد السوفيتي للمسلمين ودعاة الإسلام في كل مكان .
وفي هذا العدد نشرت وثيقة خطيرة جدا تثبت أن حكومة عبد الكريم قاسم هي التي دبرت بالاستناد إلى الشيوعيين مجزرة الموصل:(في مديرية الأمن العام وفي غرفة مدير الأمن العام وفي القاعة الخاصة بسيادته رسالة خطيرة موجهة من المهداوي إلى حسن عبود يقول فيها:احذر من أن يأتي أحد المتهمين إلى بغداد ويفضح علاقة الحكومة بحوادث الموصل)


  • وفي العدد العاشر (رمضان عام 1381 هـ الموافق لشباط عام 1963 م) :
مقالة عن الحكام الطغاة وفضائحهم ومحاربتهم للإسلام.
وفيها مهاجمة حكم عبد الكريم قاسم ومحاربته وهجره للإسلام وابتعاده عن واقع الحياة .
وفيها هجوم على حفلة اختيار ملكات الجمال في بغداد.
  • وفي العدد الحادي عشر:
حديث قيم عن ثورة الجزائر ووجوب مناصرتها وإسنادها بكل الوسائل .
ومقالة في الهجوم العنيف على عبد الكريم قاسم وإفساد الأخلاق وحضوره حفلة راقصة إسبانية فرنسية .
ومقالة أخري تعبر عن وجهة نظر الإخوان في الانحياز الاجتماعي إلى المظلومين لأن الإسلام يرفض الظلم الاجتماعي .
وكذلك مقالة أخري تنقل حديث الإمام الشهيد حسن البنا عن الوحدة العربية وإيمانه بها .
  • وفي العدد الثاني عشر ربيع الآخر هـ الموافق أيلول 1962م:
مقالة بعنوان كلمة صريحة فيها هجوم شديد على حكام المسلمين جميعا لأنهم تركوا الإسلام ومالئوا المستعمرين ويتظاهرون بتحكيمه وهم أبعد الناس عن الإسلام لممالئتهم الكفار الأجانب وسرقتهم أموال الدولة وترفهم وفسادهم .
ومقالة أخري بعنوان (وماذا بعد ثورة الجزائر) دعوة القادة الثورة الجزائرية بتطبيق الإسلام .
ومقالة أخري عن اجتماع جامعة الدولة العربية في بيروت وصدامات دولها فيها عبر مناقشات كانت تفتقر إلى الإيمان والأخلاق والمسؤولية .
  • وفي العدد الثالث عشر جمادي الآخرة 1382 هـ الموافق تشرين الثاني 1962م:
مقالة في مهاجمة الأحزاب القومية والوطنية القائمة يومئذ وبيان أن مبادئها تصطدم مع أصول العقيدة الإسلامية وأنهم يشكلون عداوة مستمرة للإسلام .
  • النشرات السرية:
وكان الإخوان المسلمون في العراق يصدرون نشرات سرية داخلية تعالج مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والصراعات الحزبية سواء على الساحة العراقية أم على الساحة العربية والإسلامية .

أمثلة ذلك:

نشرة صادرة بتاريخ 12 رجب الموافق 29 / 5/1963 م فيها موضوعات عدة حول مؤتمر بغداد وتطورات الوضع في الباكستان .
ونشرة بتاريخ 25 ربيع الثاني 1381هـ الموافق 6 تشرين أول 1961 م فيها معالجة التمرد العسكري السوري على الوحدة بين مصر وسوريا واستنكار ذلك والدعوة إلى إعادة الوحدة واستنكار استمرار الانفصال .
ونشرة بتاريخ ذي القعدة 1381هـ الموافق 20 /4/1962 م بعنوان (ماذا يريد) أى حاكم العراق يومئذ عبد الكريم قاسم .
ونشرة بتاريخ 28 /1/ 1962 عن (ذكري تقسيم فلسطين) .
ونشرة بتاريخ 5 كانون الثاني 1963 م بعنوان (في يوم الجيش نفتقد الجيش) .
ونشرة بتاريخ 30 / 9/ 1964م بعنوان (الكفر المستورد) .
ونشرة بتاريخ 17 محرم الموافق 28 / 5/ 1963م بعنوان (ملاحظات حول ميثاق الوحدة)
ونشرة بتاريخ 11 جمادي الثاني 1385هـ الموافق 9/10/1965م بعنوان (محنة الإخوان في مصر) .
ونشرة بتاريخ 2 جمادي الأول 1386هـ الموافق 5 أيلول 1966م تتضمن الوثيقة الخطيرة التي صدرت في مصر من لجنة مؤلفة من رئيس الوزراء وقادة المخابرات والمباحث ومدير مكتب المشير عامر بناء على طلب رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر لإبادة دعاة الإسلام في مصر .
ونشرة بتاريخ 15 رمضان المبارك 1385هـ الموافق 7/1/1966م بعنوان كارثة زنجبار التي قتل فيها الرئيس التانزاني نيريري خمسة عشر ألف عربي بالدبابات .
  • المنهاج:
مجلة دورية كانت تصدر باسم (الحركة الإسلامية في العراق)

نقرأ على سبيل المثال:

في عدد شعبان 1385هـ الموافق لكانون الأول 1965م ما يأتي من الموضوعات:

  1. مأساتنا في الشمال إعادة نظر في الموقف .
  2. وشهد شاهد من أهلها .
  3. فقرأت من مناهج الحركة الإسلامية .
  4. أخبار وتعليقات ودراسات في الإسلام .
  5. باب الفتوى .
  6. حول البيان الوزاري .

نلاحظ أن الإخوان قد خففوا لهجتهم في معالجة القضية الكردية ويقتربون أكثر من الموضوعية ويتركون إطلاق الاتهامات على الملا مصطفي البارزاني بعد أن احتج كثير من الإخوان الكرد والعرب والتركمان على المنشور الذي صدر في 14 ربيع الثاني 1381 هـ في 25 أيلول 1961م؛

والتي كانت صيغتها بعيدة عن الحوار الأخوي والجدال بالمعروف والمعالجة الجذرية مخالفين في ذلك منهج الإمام حسن البنا في معالجة قضية الأكراد بالذات في عام 1944 م حيث وجه الإمام حسن البنا في أحد أعداد مجلة (الإخوان المسلمين)

القاهرة نداء موجها إلى الحكومة العراقية يومئذ بحل القضية البارزانية حلا منصفا سليما في ظل الإخوة الإسلامية مذكرا أن الأكراد كانوا من أخلص الشعوب الإسلامية إلي الإسلام .

وفي عام 1966 صدر من (المنهاج) عدد خاص بالشهداء سيد قطب وإخوانه الذين أعدمهم جمال عبد الناصر في محاكما عسكرية صورية وفيه تحليل لحكم عبد الناصر وطغيانه في مصر وفيه برقيات علماء العالم الإسلامي إلى جمال عبد الناصر بعدم إعدام سيد قطب وإخوانه .

واستطعت أن أحصل على عدد آخر في السنة نفسها في الموضوعات الآتية

  1. الدولة الإسلامية ضرورة شرعية وضرورة حياتية .
  2. التعليق السياسي .
  3. دراسات في الإسلام .
  4. الكافر المستعمر .
  5. فقرات من منهاج الحركة الإسلامية في العراق .
  6. القروض الأجنبية .
  7. القضية الفلسطينية بين بورقيبة وعبد الناصر.
  8. المؤتمرات الإسلامية .
  • النقيب:
مجلة داخلية كانت موجهة إلى النقباء المسؤولين عن عدد من الإخوان العاملين وكانت تقوم بثقيفهم وتذكريهم بواجباتهم تجاه أسرهم وتجاه المسلمين في المنطقة وتعلمهم أصول التنظيم والاتصال من أجل نشر الدعوة الإسلامية وإدخال الصالحين فيها .
  • ففي العدد الثالث عام 1386 – 1966 نقرأ:
فقه العمل الجماعي .
نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام .
نشر أخبار البلاد .
اضطهاد جامعة الحكمة (التبشيرية) للطلبة المسلمين والطالبات المسلمات .
أسباب الفتور وعلاجه .
  • وفي العدد 27 ذي الحجة 1385 هـ الموافق 17/4/1966م:
بيان المعوقات .
تذكير المسؤولين بتقصيرهم .
تحليل القضايا السياسية وحركة الأحزاب والجماعات السياسية ونوايا الحكومات .
كيفية تربية الإخوان داخل الأسر والمجتمع .
  • التوجيه الإسلامي:
رسالة شهرية توجيهية لتثقيف أعضاء الجماعة في التفسير والحديث والدعوة وقضايا الفكر الإسلامي .
  • الموجز في النظريات العامة :
بحث أصولي لسياسة الإخوان المسلمين في العراق يبين الأصول الشرعية لمواقف الإخوان من القضايا الداخلية وعلاقاتها مع من حولها من قوي اجتماعية وسياسية وتحدد المواقف بدقة لبناء المجتمع الإسلامي .
وعدّ الإخوان يومئذ هذا البحث الأصولي خطوة مهمة لأول مرة في تاريخ الإخوان في العراق لضبط الحركة ضبطا أصوليا شرعيا محكما ويترجح عندي أن هذا البحث كتبه الدكتور عبد الكريم زيدان لأن نفسه الأصولي واضح فيه .
المعلم: نشرة داخلية كانت تصدرها رابطة المعلمين الإسلامية في العراق .
  • هذه دعوتنا:
نشرة داخلية كانت تهتم بتثقيف العضو بالمعلومات الإسلامية في الكتاب والسنة .
  • نشاطات إسلامية أخري:
بعد انحسار المد الشيوعي في بداية الستينات بدأ الإخوان بمزاولة أعمالهم الإسلامية العامة منها:
إقامة الاحتفالات بالمناسبات الدينية كالمولد والهجرة والإسراء والمعراج وأيام رمضان في عدد من المدن العراقية كبغداد والموصل والبصرة وكركوك والرماد والنجف وكربلاء وكان يخطب فيها العلماء ومثقفو الإخوان والمجتمع وكان الهدف الأساس من هذه الخطابات يومئذ التنبيه إلى استمرار النشاط الشيوعي واللاديني في المجتمع وإلى مؤامرات الاستعمار والصهيونية على الأمة الإسلامية وإلى نشر الحقائق الإسلامية لتحصين المجتمع من الانحرافات والأفكار الإلحادية .
والحق أن ما ألقي في تلك الاحتفالات من خطب وما أثير فيها من حلول للمشكلات كان طريقا واضحا سديدا في تحصين المجتمع إسلاميا وإسقاط الشيوعية في العراق .
ومنها أن المذكرات التي كان يقدمها الإخوان إلى الحكومة قد استمرت حتى في حكم الأخوين الرئيسين عبد السلام محمد عارف وعبد الرحمن محمد عارف مثال على ذلك المذكرة التي قدمها الإخوان إلى الرئيس عبد الرحمن محمد عارف يطالبون فيها بتطبيق الشريعة الإسلامية ونبذ المبادئ العلمانية والعنصرية ولإقامة وحدة حقيقة بين أبناء الشعب العراقي على أساس الإخوة الإسلامية .
ومنها أن الإخوان في العراق اهتموا بتكوين واجهات مهنية لتأسيس رابطة المعلمين الإسلامية التي أصدرت مجلة (المعلم) السرية وكانت تخطط للمشاركة في انتخابات نقابة المعلمين إما بالقائمة الواحدة أو بتفضيل قائمة على قائمة أو بالاندماج مع قائمة أخري كما حصل في اشتراك الإخوان في قائمة الجبهة التعليمية الموحدة مع البعثيين والقوميين ضد الشيوعية عام 1960م.
وأسس الإخوان الحركة العمالة الإسلامية في كركوك ضد العمل الشيوعي بين العمال لا سيما في شركة نفط العراق إذ كان فيها أكبر تجمع عمالي في كركوك .
وقد انضم إلى هذه الحركة حوالي ستة آلاف عامل يومئذ (1959 م) من مجموع سبعة آلاف فجن جنون الشيوعيين فبدأت جرائد الشيوعيين في بغداد تهاجم الحركة العمالية الإسلامية لا سيما صوت الأحرار .
يقول الأستاذ نور الدين الواعظ مسئول الإخوان يومئذ في كركوك: (وكانت إذاعة موسكو تهاجم العمال الأحرار لمدة خمسين يوما)
وأراد الشيوعيون أن يتفقوا مع العمال الأحرار على نقابة واحدة ودفعوا الحكومة لتتدخل ولكن المسؤولين عن العمال الأحرار رفضوا الطلب وأصروا على أن نقابتهم هي التي تمثل عمال الشركة لأن أكثرية العمال كانوا معهم .
وأسس الإخوان في هذه الفترة رابطة الطلبة المسلمين وكذلك بدأوا بتنظيم لجان الأحياء الشعبية.
والظاهر أن أجهزة المخابرات المصرية في بغداد كانت تراقب حركة الإخوان في العراق وتقدم تقارير إلى الرئيس جمال عبد الناصر بذلك.

حدثني الأستاذ إبراهيم المدرس:

قال حدثني عبد الرحمن رحيم الصديق الشخصي للرئيس عبد السلام محمد عارف أنه أرسل مع نائبه عام 1965م رسالة إلى عبد الناصر يطلب منه الدخول في وحدة فورية فأجابه عبد الناصر برسالة بين فيها شروطه لقيام هذه الوحدة فرفضها عبد السلام .
وكان من بين تلك الشروط شرط يتعلق بضرب الإخوان لأن عبد الناصر كان يعتقد أن مركز ثقل الإخوان قد انتقل من مصر إلى العراق في تلك الفترة وكان يخشي من تلك القوة .
قال عبد الرحمن رحيم وقد قرأت هذه الرسالة وأخبرت فليح حسن السامرائي بهذه المعلومة المهمة .
ومن الأعمال اللافتة للنظر في عام 1966 م أن الإخوان قاموا بمظاهرة كبيرة سارت إلى السفارة المصرية في الوزيرية احتجاجا على إعدام المرحوم سيد قطب وإخوانه وألقيت فيها عدة قصائد تندد بجرائم عبد الناصر ضد الإخوان المسلمين خاصة والأمة العربية والمسلمين عامة .

الخلاف الأخير في هذه الفترة

أستطيع أن أرجع جذور الخلاف الذي حدث بين الإخوان عام 1965-1966م إلي أيام الحزب الإسلامي فقد كان فيه أعضاء يؤمنون بالعمل الثوري على طريقة الأحزاب السياسية الثورية من أبرز هؤلاء كان فليح حسن السامرائي وطه جابر العلواني وكانا ومن معهما من الإخوان العسكريين كالعميد محمد فرج يعتقدون أن الدكتور عبد الكريم معوق لعمل الحزب ولا يتفاعل مع العمل السياسي الثوري .
هذا الخلاف في الحركة السياسية تطورا فيما بعد عند جماعة محمد فرج وفليح السامرائي وطه جابر إلى فكرة الاتصال ببعض الجهات العسكرية والسياسية لإحداث انقلاب عسكري ضد حكم عبد الرحمن محمد عارف قبل أن يفعل البعثيون ذلك.
وكان محمد فرج متصلا على اشتراك الإخوان في مثل هذه الحركة فرفض الدكتور عبد الكريم والتيار العام للإخوان .
ذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن الانقلابات العسكرية لا تأتي بخير وأن القوي الأجنبية تقف وراءها فتوريط الإخوان في مثل هذه الحركات تحريف لهم عن خط التربية والتثقيف وإحداث الوعي الإسلامي في الأمة الإسلامية؛
وكانت تجربة الإخوان في مصر مع الضباط الذين قاموا بانقلاب (23 يوليو) تموز أوضح شاهد على صواب ما كانوا يعتقدون فالإخوان في مصر اشتركوا في هذه الثورة على اعتبار أن جمال عبد الناصر وكثيرا من الضباط كانوا منهم؛
ولم يكونوا يعلمون أن جمال عبد الناصر كان على صلة بالمخابرات المركزية الأمريكية منذ عام 1941م عن طريق أربعة أشخاص هم: حسن التهامي وعلى صبري ومحمد حسنين هيكل ومصطفي أمين وكان أيضا على صلة مع الخط الشيوعي في الجيش في الوقت الذي اتصل مع خط الضباط المنحرفين سلوكيا .
إذن كانت قيادة الإخوان تعتقد أن هذه الانقلابات ملغومة وعلى صلات بأعداء الإسلام في الخارج فلا يجوز الاشتراك فيها .غير أن جماعة العميد محمد فرج وفليح السامرائي وطه جابر أصروا على موقفهم وفتحوا لهم خطوطا مع ضباط وسياسيين من غير الإخوان ووصل الأمر إلى النقاش والبلبلة والتكتل ولم يفد الحوار الأخوي وكل فريق حدد موقفه .

يقول الأستاذ نور الدين الواعظ:

(واجتمع الشيخ طه جابر إمام وخطيب جامع الباجه جي وضابط الاحتياط ومدرس الدين في الكلية العسكرية مع صالح عبد الله سرية والمهندس عبد الغني شنداله والعميد محمد فرج وفليح السامرائي وآخرين في جامع الباجه جي

وقالوا:

نحن لا نطعن في مقاصد القيادة ولا نتهمهم إنما نختلف معهم في أسلوب الدعوة فقرروا إصدار مجلة أسرية باسم (الإخوان المسلمون) حيث نشرت مقالات في تحليل حركة الإخوان في العراق تجنبوا فيها الذم ولم يتعرضوا بقيادة عبد الكريم زيدان صدر منها عددان ولم ينتخبوا مسئولا معينا)

حدثني من أثق به:

(وعندما قرروا إصدار بيان لتوضيح عمل الجماعة أضاف الشيخ طه جابر من عنده سطرين في الأخير كان فيهما استفزاز واضح لقيادة عبد الكريم زيدان وعلى أثره صدر من قيادة الإخوان بيان بفصل هؤلاء واتهامهم بشق صفوف الجماعة وإصدار فتوى بمقاطعتهم من جميع الإخوان في العراق)

يقول الأستاذ وليد الأعظمي:

(لقد اقترح هؤلاء اقتراحات تعجيزية وكان انتقادهم للقيادة شديدا ولعب صالح عبد الله سرية دورا واضحا وكان خطر أبي عمر (محمد فرج ) متحمسا لهذا الجانب)

يقول الأستاذ داود العيثاوي :

(وصل الخلاف بينهم وبين قيادة الدكتور عبد الكريم أن الدكتور ومن معه كانوا يعتقدون عدم التعجيل في خطوات الدعوة قبل أوانها وقبل دراسة الإمكانيات بينما هؤلاء الإخوة كانوا يتحدثون عن عمل انقلابي)

ويقول العيثاوي:

عندما سألته: هل تم قرار الفصل والمقاطعة بإجماع القيادة أم كان رأيا شخصيا للدكتور عبد الكريم وأجاب كان القرار بالإجماع ولم يكن رأيا لعبد الكريم زيدان .

يقول الأخ فليح السامرائي:

التوجه الإسلامي كان يقوده الإخوان المسلمون بقيادة عبد الكريم زيدان وقد آثر ألا ينخرط كثيرا في الحياة السياسية في ذلك الوقت .
وكان هناك اتجاه إسلامي آخر يضم مجموعة من الإخوان المسلمين القدماء وكان لهم رأي آخر وهم يدعمون توجه العميد الشهيد حزب البعث الذي كان مستعدا ومهيئا للانقلاب على عبد الرحمن محمد عارف .
ثم قال: اجتمع في جامع الحاجة حسيبه الباجه جي في الكرادة في بغداد في حدود ثلاثين شخصا من هؤلاء الإخوان القدماء أتذكر منهم الآن وبعد مرور حوالي أربعين عاما كلا من الأستاذ المحامي نور الدين الواعظ والعميد محمد فرج والمحامي عبد المجيد ذهبية والأستاذ منيب الدروبي والمحامي فاضل القاضي والأستاذ عدنان المشايخي والمرحوم صالح عبد الله سرية والأستاذ المرحوم قيس القرطاس (مسئول الإخوان في البصرة) والمحامي عبد الرحمن الشيخلي ومع مجموعة كبيرة من إخوان باب الشيخ .
اجتمع هؤلاء الإخوان وتدارسوا الحالة السياسية والتوتر في الساحة العراقية وتساءلوا عن دور الحركة الإسلامية في هذه المرحلة فاتفق الجميع أن الحل الأمثل الذي لا يؤدي إلى تصدع في صفوف حركة الإخوان المسلمين في هذه الظروف الصعبة أن يطلب من المراقب العام للإخوان المسلمين الشيخ محمد محمود الصواف وكان وقتها في دمشق العودة إلى العراق وقيادة الجماعة
لأنه موضع تقدير وموافقة جميع الإخوان المسلمين في العراق ثم تكليف الأخ المحامي عبد المجيد ذهيبة بالسفر لى دمشق وإقناع الأستاذ الصواف بضرورة العودة وخاصة وأن عبد الرحمن عارف لم تكن له خصومة مع الإخوان أو مع الأستاذ الصواف .
أبدي الشيخ الصواف استعداده للعودة إلى العراق ما دامت هناك رغبة بعودته ليساهم في جمع الصفوف وخدمة بلده العراق .
وبينما كان يعد نفسه للعودة إلى العراق حدث انقلاب 17 تموز 1968 م الذي أسفر عن مجئ حزب البعث فلم يعد الشيخ الصواف إلى العراق .
وبعد أن وصل خبر هذا الاجتماع إلى الدكتور عبد الكريم زيدان أصدر منشورا شديدا ضد هذا الاجتماع وقام بفصل جميع من حضر الاجتماع وكان هذا التصرف متسرعا إذ لم يكن للإخوان المجتمعون أى نية للانشقاق أو عمل جماعة أخري .

ملاحظات حول عبد الكريم زيدان:

يذهب معظم الإخوان القدماء الذين عرفوا الدكتور عبد الكريم أو الذين التقيت بهم وناقشتهم أنه بحكم تربيته وطبيعته لم يكن مهيئا لقيادة جماعة حركية منظمة لأن القيادة الحركية لابد أن تتوفر فيها صفات معينة .
فعلي الرغم من أن الدكتور عبد الكريم كان أخا مخلصا لمبادئ الإخوان الإسلامية الشاملة وأنه كان عالما فاضلا وأنه كان هادئ التفكير مع نفسه غير أنه كان رجلا انفعاليا ضيق الصدر عصبي المزاج يفتقر إلى مرونة القائد الذي يبسط نفسه أمام إخوانه .

يقول أحد قدماء الإخوان الموثقين الذي فصل مع المنشقين:

فمثلا في موضع الخلاف الأخير طلبنا منه أن يلتقي معنا وهذا من حقنا, فرفض اللقاء على أننا الذين طلبنا اللقاء منه كنا جمعا من قدماء الإخوان أردنا أن ندخل وسطاء خير ولم نكن في صف محمد فرج وفليح, ففصلونا معهم .
وقال : سدّ أمامنا كل الأبواب .

وسألت هؤلاء الإخوان الذين تحدثوا عن هذه السلبيات:

(إذن كيف تتصورون أن يكون موقع عبد الكريم من الإخوان فأجابوا:إنه موقع المستشار الأمين, ليس موقع القيادة الحركية)

أثر دعوة الإخوان المسلمين في المجتمع العراقي:

ليس من الإنصاف أن تسند التأثير في نهضة مجتمع من المجتمعات إلى جماعة معينة أو تيار خاص فالمجتمع كل عام معقد في نسيجه الظاهري وبنيانه التحتي تصب فيه الجهود البشرية كافة سواء أكانت تلك الجهود فردية أم جماعية كبيرة أم صغيرة .
وبما أنني أبحث عن تاريخ الإخوان المسلمين في فترة معينة من تاريخ العراق الحديث لذلك سأبين هنا تأثيرهم وحدهم في المجتمع العراقي في إطار الممكن الذي عملوا من خلال هذه الدراسة ألقت الضوء على أن تأثير الإخوان في المجتمع العراقي كان واضحا ومحسوسا في المظاهر الآتية .
الأول: لقد استطاع الإخوان أن يثيروا في المجتمع العراقي قضية خطيرة لم يكن للجمهور الأعظم من المثقفين عهد بها فقد نشروا فيه أن الإسلام عالم متكامل في الحياة يشمل قضايا الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والتربوية والجهادية والعلمية وغيرها
وفي أصوله من القواعد والمناهج المرنة التي تترك للعقول البشرية مساحة واسعة للاجتهاد حسب الظروف والأحوال مع أنه لا يمنع المسلمين من أن ينفتحوا على الحضارات ويأخذوا بأفضل ما فيها من المصالح فمع الإسلام لا نحتاج إلى استجداء القوانين الغربية وأخلاقها النسبية النفعية .
الثاني: تبنوا المنهج الشامل في فهم الإسلام الذي يجمع بين العقيدة والشريعة والسلوك وابتعدوا عن المنهج الأحادي الذي يضع الجزء من الإسلام بدل الكل ويحصر نفسه في نفق ضيق ينتهي به الأمر إلى عدم إدراك الكل فيؤدي خطؤه هذا إلى معارك جانبية في داخل الخندق الإسلامي الواحد.
فدعوتهم كانت تجمع بين أتباع السلف الصالح في المفهوم المتوازن للإسلام الذي يجمع بين العقيدة والتزكية الروحية الراشدة وضوابط الشريعة السمحة ومعالجة الحياة العصرية في إطارها .
ومن هنا فقد صححوا عقائد كثير من الناس عن طريق الرجوع إلى الوحي الإلهي في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ونظفوا جيوب الشرك الخفي في سلوك الناس ومن الصدام العنيف معهم .
ودون إصدار الأحكام القاسية عليهم بالكفر أو الشرك كما فعل أصحاب المنهج الأحادي في هذا المجال فانتهي عملهم إلى إحداث ردود أفعال شديدة بين المسلمين .
وكذلك وقفوا بهدوء وتعليم تربوي موجه أمام دجل كثير من أصحاب الطرق الصوفية الذين ابتعدوا عن حقائق الإسلام ومنهج التصوف السليم في إيصال الإنسان إلى مرتبة التقوى والاستقامة فانتهوا إلى إقرار القداسة للأشخاص والالتزام بمنهج منحرف في معالجة قضايا السلوك .
وبدلا عن ذلك قدموا منهجا سديدا ضمن المنهج الجامع للتربية الروحية قائمة على أساس الحياة الروحية لرسول الله صلي الله عليه وسلم وأهل بيته الطاهرين وصحابته الربانيين والعلماء العاملين والمشايخ الصادقين الملتزمين بالكتاب والسنة .
ومن هذا المنطلق الصحيح استطاع الإخوان أن يبعدوا كل من تأثر بمنهجهم عن حياة التكايا التي كانت تنشر البدع والخرافات وتستلب شخصية الإنسان المسلم لمحوها أمام ما كان يسمي بشيخ الطريقة من خلال نظرية (الميت بين يدي الغاسل)
وأما العصر ومشكلاته فقد دخل فيه الإخوان من أوسع أبوابه فاطلعوا على النظريات المادية المعاصرة ودرسوا أوضاع المجتمعات الغربية فانتهوا إلى رفض المادية والإلحاد والإباحية وقبول المنهج العلمي العقلي الرصين الذي انتقل أساسا من الحضارة الإسلامية إلى الحضارة الغربية .
الثالث : ذكروا الشعب العراقي المسلم من خلال المساجد والمحاضرات والصحافة والكتب والرسائل وقنوات الإعلام الأخرى بخصائصه الإسلامية وثقافته العربية وحضارته التاريخية كي يحافظ على شخصيته المستقلة وأعرافه الحسنة فلا يذوب أمام الموجات الثقافية الأجنبية التي كانت تريد أن تخرج الأمة بكاملها من منظومة إيمانها وإسلامها وحضارتها واختياراتها في الحاضر والمستقبل .
الرابع: كانوا مع وحدة الشعب العراقي عربا وأكرادا وقوميات أخري في ظل الإخوة الإسلامية دون المساس بالمطالب المشروعة في إقرار القوميات شريطة ألا تتحول إلى صراع دموي يستنفذ طاقة الشعب ويحطم قواه ووحدته أمام القوة الأجنبية الباغية الطامعة في تمزيق هذا الشعب حتى لا يستطيع الوقوف أمام مطامع اليهود في هذه المنطقة العربية الإسلامية .
الخامس: ناصروا كل صوت يدعوا إلى الوحدة العربية والتضامن بين المسلمين ورفضوا الاتجاهات الانفصالية والطائفية والإقليمية والعنصرية .وفي سبيلها اشتركوا في وثبة الشعب العراقي ضد معاهدة (بورتسموث) الإنجليزية واستنكروا العدوان الثلاثي على مصر (1956م) وحثوا الشعب في المساجد ضد الموقف المخزي لحكام العراق يومئذ تجاه العدوان .
وأيدوا وناصروا وحدة مصر مع سوريا ولما انفصلت الوحدة بين الشعبين كانوا أول المستنكرين وأصدروا بيانا عنيفا بهذا الشأن في العراق شأنهم شأن إخوانهم في الوطن العربي .
السادس : وقفوا من الحكومات في العهد الملكي والجمهوري موقف المعارض البناء والناصح الأمين ودعوها إلى الخدمة الحقيقية للشعب وتنفيذ ما أمر الله تعالي به من أحكام وحدود ونشر الأمن والطمأنينة وإحقاق الحق وإزهاق الباطل وإنشاء دولة القانون والمؤسسات؛
وتربية أبناء الشعب على الأخلاق الإسلامية وبناء جيش قوي يدافع عن بيضة الأمة واقتصاد قنوع مخطط يفي بحاجات الشعب ويعلمه على التقشف ويبعده عن الترف ومحاربة الرذيلة والفساد الاجتماعي والميوعة لدي الجيل الجديد .ودعوا إلى بناء مجتمع عالم مثقف ينهل من ثقافة العصر دون نسيان خصوصيته الحضارية .
السابع: وقف الإخوان في العراق (شأنهم شأن إخوانهم في البلاد العربية) وقفة صلبة حاسمة لا تهاون فيها ضد الاستعمار الإنجليزي والأمريكي والفرنسي وغيرهم
وأعلنوا أن هؤلاء لا يريدون بالأمة وبالإسلام خيرا قط وفي سبيل ذلك رفضوا الأحلاف الاستعمارية كحلف بغداد ودعوا إلى تحرير سياسة العراق الاقتصادية والعسكرية من تآمر هؤلاء ونشروا كل هذا عبر جميع النوافذ بين أبناء الشعب العراقي من الشمال إلى الجنوب في المساجد والحفلات الدينية والمؤتمرات العامة ووسائل الإعلام المتنوعة التي كانت تحت يدهم .
أما قضية فلسطين فكانت شغلهم الشاغل في سبيلها أسسوا جمعية إنقاذ فلسطين وأرسلوا ثلاثة أفواج بعدتها إلى ساحة المعركة وعقدوا المؤتمرات لذلك وأصدروا الفتاوى الشرعية بتحريم الصلح مع دولة اليهود الغاشمة في فلسطين .
الثامن: اتصلوا بمعظم العلماء وأخرجوهم من سباتهم ودفعوهم إلى ميدان العمل الإسلامي وأثروا في مناهج دراستهم للإسلام بحيث غدوا يقرأون كتب الفكر الإسلامي الحديث والثقافة الإسلامية المعاصرة أى أنهم كسروا الجمود العلمي في دخل جدران المساجد؛
ودفعوا العلماء إلى التفكير في إصلاح المجتمع وقد مر بنا كيف دفعوا علماء السنة والشيعة معا إلى إنقاذ الشعب العراقي عام 1959 م من الوقوع في براثن الشيوعية والتبعية للإتحاد السوفيتي وقدموا في سبيل ذلك مع كافة فصائل الشعب العراقي دماء زكية .
التاسع: في الأربعينات وبداية الخمسينات كنت تري المساجد في العراق يصلي فيها في الأكثر الشيوخ ولم يكن الجيل الجديد من المثقفين والشباب يعرفون طريقهم إلى المساجد إلا نادرا وإنما كانوا يتكدسون أمام السينمات والملاهي والخمارات والملاهي العامة وفي الأماكن التي يختلط فيها الرجال مع النساء؛
فاستطاع الإخوان بدعوتهم الإسلامية وجهودهم المضنية أن يعيدوا جمعا من هؤلاء إلى المساجد وكثر والحمد لله وحده قراءة الكتب الإسلامية الحديثة وصار جمع من الجيل الجديد يفهم دينه وشريعته ونظام حياته وبدأت التيارات الإلحادية تنحسر شيئا فشيئا عن المجتمع العراقي وانتهت بذلك إن شاء الله أزمة العقيدة التي كانت تأخذ بخناق أجياله في النصف الأول من القرن العشرين .
ولا أدعي أن هذا الشعب كان كافرا فهداه الإخوان ولكنهم بمعرفتهم لمنهج الدعوة إلى الله في العصر الحديث أثاروا الغيرة الدينية الكامنة في أعماق الشعب مسلم عريق في إيمانه وإسلامه ونشروا بين أبنائه حقائق الإسلام كما أنزلها الله تعالي في كتابه وفي سنة نبيه صلي الله عليه وسلم .
العاشر: لجأ الإخوان منذ بداية الخمسينيات إلى فتح دورات التقوية الصيفية للطلبة وكان معلموهم وطلبة الكليات منهم يدرسون فيها حسبة لله تعالي وقياما بحق دعوتهم الإسلامية عليها وقد استفاد الطلاب من هذه الدورات فائدة علمية وتربوية إسلامية .
وقد اشتركت بنفسي في التدريس بإحدى هذه الدورات في مدينة أربيل في صيف عام 1956م عندما كنت طالبا في الكلية وتطورت فكرة تلك الدورات إلى فتح المدارس الثانوية الأهلية التي سميت بمدارس الأماني كان لها فروع في عدد من المحافظات العراقية منها مدينة كركوك التي كنت مدرسا في (إعدادية كركوك للبنين)
وكنت أدرس في الوقت نفسه في ثانوية الأماني المسائية وكانت الفكرة الرئيسية لفتح تلك المدارس توجيه الطلاب توجيها إسلاميا سديدا مع اختيار أفضل المدرسين لهم في الناحية العلمية .
ثم فتحت جمعية الأماني التي كانت من واجهات الإخوان كلية الدراسات الإسلامية المسائية ابتداء من عام 1965م والتي خرجت عشر دورات متتالية من أقوي الدورات العلمية بشهادة طائفة من علماء الأزهر الشريف الذي كان يدرسون في كلية الشريعة بجامعة بغداد
وكانوا يدرسون مساء في كلية الدراسات الإسلامية منهم الشيخ العلامة عبد الرحيم الكشكي والشيخ يوسف عبد الرزاق ،والشيخ شمس والشيخ إبراهيم أبو الخشب ،والشيخ أحمد فهمي أبي سنة وكانوا سببا في اعتراف الأزهر الفوري بهذه الكلية عند رجوعهم حيث قدموا مذكرة علمية مهمة ذكروا فيها أن كلية الدراسات الإسلامي من أرقي الكليات الإسلامية في العالم الإسلامي كله علما ودينا .
وبناء على ذلك الاعتراف قبلت كليات الأزهر عددا من خريجي هذه الكلية في الدراسات العليا حيث حصلوا فيها على أعلي الشهادات العلمية في أصول الدين والشريعة واللغة العربية والتاريخ الإسلامي إن الألوف الذين تخرجوا من هذه الكلية انتشروا في أنحاء العراق كافة واشتركوا في أحداث النهضة التعليمية منذ ذلك الوقت وإلى اليوم .
هذا غيض من فيض خدمة الإخوان لمجتمعهم الذي أخلصوا له غاية الإخلاص وتفانوا في خدمته استجابة لأمر الله تعالي ورسوله صلي الله عليه وسلم ذكرته من باب العلم وإثبات الحقيقة التاريخية لأن كثيرا من الناس اليوم يجهلون هذا التاريخ المشرق حتى الأجيال الإسلامية الجديدة الذين هم ثمرة من تلك الثمرات اليانعة التي أثمرتها الدعوة الإسلامية المباركة التي قادها الإخوان في عراقنا الحبيب الصابر في فترة الدراسة

الفصل الثالث:الإخوان المسلمون بعد انقلاب البعثيين عام 1968م

كان مجئ البعث إلى الحكم في العراق بالاعتماد على جمع من الضباط الذين نكثوا عهد القسم للرئيس العراقي المرحوم عبد الرحمن محمد عارف عهدا فاصلا وخطيرا بالنسبة للعراقيين عامة والإخوان خاصة .

فالإخوان المسلمون كانوا مطلعين تماما على أفكار حزب البعث اللادينية منذ ظهوره في العراق عام 1949 م على يد الطلبة الدروز والنصيرية أمثال فايز إسماعيل ووهيب الغانم وسليمان العيسي الذين كانوا يدرسون في جامعة بغداد؛

وكان الإخوان المعاصرة عامة والإخوان خاصة في العراق وفي غير العراق وكانوا موقنين أن الغرب الصليبي رد ضمن ما رد على الحركة الإسلامية في الشرق العربي بهذا الحزب القومي العلماني (اللاديني) الشمولي الثوري المتطرف وأمثاله من الأحزاب اللادينية الذين يريدون الفصل الكامل بين الدين والدولة؛

ومن يقرأ كتابات زكي الأرسوذي وميشيل عفلق والياس فرح وشبل العيسمي يجد أنهم يعدون الإسلام ثورة من ثورات العرب التاريخية كل ثورة تمثل مرحلتها كشريعة حمورابي والشعر الجاهلي وثقافة عصر المأمون...

وأفكارهم البعثية هي التي تمثل أعلي مرحلة من مراحل تطور حياة العرب ولذلك فمن الطبيعي ألا يؤمنوا بالإسلام نظاما للحياة والمسلمون منهم كصلاح الدين والبيطار وأخيه نديم البيطار وأكرم الحوراني اتبعوا هؤلاء في تلك الأفكار لأن خلفيتهم الثقافية كانت خلفيات ثقافة غربية لا دينية فهم درسوا في الجامعات الفرنسية وتشبعوا بالفلسفات اللادينية وأفكارها القومية المتطرفة .

لقد تعرف الإخوان على عدوا البعثيين لهم عبر ثلاث مراحل:

  • مرحلة العهد المكي في الجامعات حيث احتدمت مناقشاتهم الهجومية على منهج الإخوان في فهم الإسلام ورميهم بالألفاظ القبيحة كوصفهم بالعملاء والرجعيين.
  • مرحلة العهد الجمهوري الذي وصل صدامهم مع الإخوان إلى القتل حيث قتلوا الأخ محمد البنا في الأنبار عام 1960م
  • وأما المرحلة الثالثة فعندما جاؤوا إلى الحكم في انقلاب عام 1963م على عبد الكريم قاسم وبعد أن صفوا الشيوعيين التفتوا إلى الآخرين ومنهم الإخوان فكان الأشهر التسعة التي حكموا فيها أشهرا ارتكبوا فيها عن طريق الحرس القومي الذي شكلوه جرائم كثيرة من السجن إلى التعذيب إلى القتل ضد أبناء الشعب العراقي كافة مما دفع الرئيس عبد السلام عارف وجمعا من الضباط القوميين معه إل الانقلاب عليهم في عام 1964 م.

إذن تجربة الشعب العراقي عامة والإخوان خاصة كانت مريرة ومخيفة مع حزب البعث ومن هنا فإنهم تخوفوا كثيرا بعد انقلاب 17 تموز عام 1968م ولا سيما الثلاثين منه عندما طردوا الضباط الذين ساعدوهم في المجئ إلى الحكم وانفردوا بحكم العراق وحدهم لا شريك لهم في ذلك.

لقد بدأ البعثيون سريعا بالالتفات إلى خصومهم السابقين فبدل أن يعفو عنهم لكي يبنوا مجتمعا عراقيا متآلفا متحابا ومتوازنا من أجل البناء والتعمير القوا القبض عليهم وعرضوهم على التعذيب والمحاكمات الصورية؛

فمنهم من مات تحت التعذيب كالشيخ المجاهد الشهيد عبد العزيز البدري والمفكر والقانوني الكبير عبد الرحمن البزاز وعشرات غيرهم؛ومنهم من قتلوه غيلة كالدكتور ناصر الحاني عندما أخذوه من البيت ليلا ثم ألقوا بحثته في قناة الجيش ومنهم من حكموا عليهم بالإعدام وعلقوهم في ساحة التحرير إرهابا للشعب العراقي كله .

موقف الإخوان:

أوعزت قيادة الإخوان في العراق إلى جميع الأعضاء بالتزام أقصي جانب الحذر وعدم القيام بالنشاطات العامة وعدم إصدار البيانات والمنشورات وإخفاء كتب الدعوة قدر الإمكان ومراقبة الوضع بحذر شديد والتركيز على العمل الفردي لبث الوعي الإسلامي وبناء الركائز الإسلامية وترك ما سوي ذلك؛
غير أن البعثيين كانوا يعلمون جيدا أن الإخوان لهم تنظيمات وكانوا يعرفون كثيرا من قياداتهم لأنهم عاشوا معهم في مراحل مختلفة متتابعة كما ذكرنا لا سيما قيادات الحزب الإسلامي العراقي وتنظيماته في أنحاء العراق كافة .
ومن هنا فعندما قرر الحزب في سنة 1969 م البدء بإرهاب الإخوان والتحرش بهم ألقوا القبض على من كانوا يعرفونهم من القيادات العليا وقيادات بعض المناطق سجنوهم في مديرية الأمن العامة وعرضوهم على التعذيب كي يحصلوا منهم على الاعترافات بتفاصيل تنظيمات الإخوان؛
وكانت المحنة قاسية واستمرت أياما ولولا تدخل بعض أقارب الرئيس العراقي أحمد حسن البكر وعلى رأسهم عديلة الأخ محمد سمير التكريتي وزوجته الفاضلة رحمهما الله لكان من الممكن أن تتطور الأمور إلى إجراء محاكمات صورية والحكم على طائفة منهم بالإعدام ولكن الله تعالي سلم وأطلق سراح الإخوان المعتقلين ..
والحق أن البعثيين يومئذ كانوا مشغولين بقضايا تثبيت حكمهم وضرب خصومهم المباشرين من العسكريين وغيرهم وتصفية جيوب الشيوعيين منهم ولم يكونوا قد أصدروا يومئذ قوانينهم الاستثنائية الصارمة بتجريم التنظيمات السرية لأنهم كانوا في بدايات حكمهم؛
ومن هنا فإنهم سمعوا نصائح من نصحهم من أقاربهم أو غيرهم بعدم التشدد مع الإخوان لأنه لم يبد منهم شئ ضد الحكم ويترجح عندي أن المرحوم خير الله طلفاح وابنه عدنان الذي كان من الإخوان في المرحلة الأولي من حياته لعبوا مع الآخرين دورهم في طمأنة قيادة البعث من جانب الإخوان؛
والدليل على ذلك أن الدكتور عبد الكريم زيدان المراقب العام للإخوان توسط خير الله طلفاح وهيأ له سبل الظهور والرجوع إلى وظيفته في كلية الحقوق دون التعرض له حيث كان أستاذ فيها.

إيقاف التنظيم

درست قيادة الإخوان خلال سنتين من حكم البعث (1968-1970م) الأوضاع الصعبة التي كان يمر بها المجتمع العراقي تحت إرهاب أجهزة حزب البعث الأمنية والحزبية وتيقنوا أن هؤلاء جاؤوا للبقاء وأنهم رسموا للشعب العراقي الطريق الذي حددوه فحسب؛
وأنهم سيطروا على مراكز القوي سيطرة كاملة بطرد ضباط القوات المسلحة الذين لم يستجيبوا لهم وأنهم لا يؤمنون بالتعددية السياسية وأنهم سيسحقون أى حزب أو تيار يقف في طريقهم بلا هوادة؛
وقد طبقوا ذلك عمليا عبر الاعتقالات والتعذيب والإعدامات في هذه الفترة القصيرة من بدايات حكمهم وقد وضعوا هذه السياسات العنيفة كلها في قانون العقوبات الذي أصدروه فقد نصت بعض مواده بصراحة على حكم الإعدام لكل من ينضم إلى تنظيم وعد كل تنظيم سري انقلابا على الدولة يستحق أفراده الإعدام .
فإذن لم يبق أمام الإخوان إلا أن يتخذوا قرارا خطيرا وهو إيقاف التنظيم لإبعاد أعضاء الإخوان وشبابهم المتحمس من الوقوع تحت هذا الحكم الإرهابي القاسي لأن البعثيين ما كانوا يتورعون عن إعدام ألوف الإخوان لو ثبت لهم أنهم يعملون من خلال التنظيم .
وصدر الأمر إلى جميع الإخوان العمل بهذا القرار والاكتفاء بالعمل العام لخدمة الإسلام في المجتمع ومنه العمل الفردي بين أفراد الأسرة والأصدقاء وزملاء العمل .
ولا شك أن هذا القرار وصل إلى البعثيين ومع ذلك لم يطمئنوا تماما ولذلك فإنهم وضعوا رقابة شديدة على جميع النشاطات الإسلامية حتى يعلموا من خلالها صدق ما وصل إليهم من قرار قيادة الإخوان بإيقاف التنظيم .
ولم يلق هذا القرار أية معارضة تذكر من قواعد الإخوان لأنهم كانوا يدركون خطورة الأمر بل إنهم رأوا أن هذا القرار كان حكيما من أجل المحافظة على أصول دعوة الإخوان الإسلامية من جهة والحفاظ على دماء الشباب منهم من جهة أخري .
ثم إنهم كانوا يرون أن هذا القرار سيفتح أمامهم آفاق العمل الإسلامي العام من دون الارتباط بالتنظيم الذي سيعرضهم إلى مخاطر كبيرة والحق الروابط الأخوية العامة القوية بين الإخوان ظلت؛
كما هي سواء في المساجد التي كانوا يصلون فيها أما في المجالات الاجتماعية التي كانوا يلتقون فيها أم في المدارس والجامعات التي كانوا يدرسون فيها علما أن الزيارات الأخوية في المناسبات المتنوعة استمرت ولكن في نطاق ضيق حتى لا يجلب نظر السلطة.
إن مسالك العمل الإسلامي كثيرة والحمد لله فخطب الجمعة والدروس الإسلامية التي كانت تلقي في المساجد في حدود معينة والاحتفالات الإسلامية التي كانت تقوم بين حين وآخر كانت مناسبات للقاءات الإخوان واستمرار العلاقة الأخوية بينهم وشعورهم أنهم يرتبطون برابطة ربانية قوية .
وكان إيقاف التنظيم مناسبة مهمة لتصفية صف الجماعة من الضعفاء حتى يبقي الصف الإخواني قويا صافيا عندما تتهيأ الفرصة المناسبة لإعادة التنظيم مرة أخري ..
ولقد استمر هذا الوضع طيلة السبعينيات من القرن الماضي لأن عيون أجهزة الأمن البعثية كانت قوية لعدم انشغال الحكومة يومئذ إلا ببعض المشاكل الداخلية .

عودة التنظيمات

عندما أوقفت قيادة الإخوان التنظيم ظن الإخوان أن هذا الأمر مؤقت لا يطول ولما رأي البعض أن التوقف قد طال خشوا أن تضعف النفوس ويبرد النشاط الدعوي وتذهب جهود عشرات السنين هباء وتتلاشي هذه الدعوة الكريمة التي تعبت في تنشئة جيلين من أطهر شباب العراق تنشئة إسلامية شاملة وقدمت في سبيل ذلك التضحيات الجسام من دماء الشهداء وغيرها .
ومن هنا فقد حاولوا الضغط على القيادة في تحرك جديد بأسلوب جديد غير أن القيادة التي لم تكن تؤمن بالشوري الملزمة لم تنصع إلى تلك الهمسات المخلصة من هنا وهناك
فكانت النتيجة الحتمية أن اندفع بعض الشباب إلى محاولة إحداث تنظيمات إخوانية جديدة دون إتباع قيادة شرعية توزن الأمور بموازين دقيقة وتتخذ خطوات حكيمة في ضبط توجهات الشباب فاعتمدوا على الأسهم وبدأوا يتحركون .
وقبل ذلك استمرت مجموعة من طلبة التنظيم الطلابي بعملها في صفوف الشباب في الجامعات وكان على رأس هذا العمل الأخ إياد السامرائي .
ومن أهم التنظيمات الشبابية التابعة لهذا التنظيم تنظيم المهندس الشهيد الشاب سرمد الدوري في نهاية السبعينات وأذكر أنه زارني في بيتي في الأعظمية مع بعض الشباب في هذه الفترة وفاتحوني في هذا الأمر الخطير ..
لكني حذرتهم من هذا العمل الجزئي الذي قد يجلب كارثة محققة على الجميع بدون رضا القيادة ولما أصروا على ذلك طلبت منهم أن لا يوسعوا الدائرة وأن يكونوا حذرين جدا وألا يعرضوا أنفسهم إلى عيون عملاء الأمن في المساجد وغيرها؛
ولكن سبق السيف العذل فانتبهت القوي الأمنية البعثية إلى نشاطهم فألقي القبض عليهم وحوكموا محاكمة صورية سرية وحكم عليهم بالإعدام ونفذ فيه وثلاثة معه رحمهم الله أجمعين .
وتنظيم آخر ظهر في المقدادية في محافظة ديالي تابع لذلك التنظيم عرف فيما بعد بتنظيم الأخ حسين في أول الثمانينيات فاكتشف أيضا فحكم على عدد منهم بالإعدام ونفذ فيهم وعلى البقية بمدد مختلفة .
واستمرت هذه التنظيمات الشبابية تظهر في أماكن عدة لا سيما في سنوات الحرب العراقية الإيرانية ولكن في حدود ضيقة فيعدم البعض ويسجن البعض ويفر البعض الآخر حدود العراق .
وأكبر وأوسع تنظيم ظهر بين الشباب هو تنظيم الأخ الدكتور عبد المجيد السامرائي الذي اتسعت دائرته إلى أنحاء العراق كافة وكان التنظيم دقيقا جدا غير انه اكتشف في البصرة في أثناء التحقيق مع أحد الجنود عام 1987 م
واستطاعت الأجهزة الأمنية أن تتعرف على بعض قيادات التنظيم عندما ألقت القبض على زوجة الدكتور عبد المجيد السيدة الفاضلة فاطمة وأمها حدثتني أمها بعد سنوات فقالت:
(لما ألقي القبض علىّ وعلى ابنتي فاطمة هدد المحققون ابنتي بالاعتداء عليها إن لم تعترف بأسماء الذين كانوا يترددون على زوجها فاضطرت أن تذكر لهم بعض الأسماء مثل نصير العاني ومحمد فاضل السامرائي والدكتور عصام الراوي وآخرين فألقي القبض عليهم فعذبوهم تعذيبا وحشيا ثم حكموا عليهم في محكمة الثورة العسكرية بإعدام البعض والسجن بمدد طويلة على آخرين .
غير أن تدخل جهات كثيرة من قيادات العمل الإسلامي قريبة من صدام لا سيما أقاربه قد دفعه إلى تغيير الحكم من الإعدام إلى السجن المؤبد وبعد أن قضوا سنوات في سجن أبي غريب خرجوا في العفو العام الذي صدر في أثناء أحداث الكويت عام 1991م .
وبعد خروج هؤلاء الشباب اخضعوا إلى مراقبة شديدة واستدعاءات دائمة إلى الأمن العام كي يعلموا أن عيون الأجهزة الأمنية ليست بعيدة عن مراقبتهم .
لقد ثبت لنا فيما بعد أن التنظيمات الإخوانية في أنحاء العراق كافة قد استمرت بسرية تامة ودون مزاولة الأعمال التي تدل عليهم غير أن تلك التنظيمات لم يكن بعضها يعلم بتفاصيل ما يفعله الآخر وكان الجميع يعملون بهدوء تام من خلال النشاطات الإسلامية العامة وكانت القيادات الواعية في المناطق توجهها دون علم المراقب العام لأنه لم يكن يوافق على ذلك .
والظاهر أن صدام شخصيا كان يشع بوجود هذه النشاطات الإخوانية ولكن لم يكن للأجهزة الأمنية دليل واقعي على وجود تلك التنظيمات في محافظات العراق .
حدثني ضابط في أثناء اعتقالنا في الأمن العامة عام 1996 م فقال في احدي زيارات صدام لمديرية الأمن العامة في بغداد في بداية الثمانينيات سأل المدير العام الدكتور فاضل البراك : هل بقي الإخوان في المجتمع العراقي فأجابه:أؤكد لسيادتك أن الإخوان انتهوا ولم يبق لهم أى أثر في المجتمع .
قال: فصرخ به صدام فقال: يا مغفل هل عشرات الألوف من الشباب الذين يملأون مساجد بغداد بعثيون؟
والحق أن انشغال الحكومة بالحرب الإيرانية العراقية حزبيا وأمنيا وعسكريا وإعلاميا كان فرصة كبيرة لاستمرار التنظيمات الإخوانية في أنحاء العراق كافة ولكن دون ربط بينها ودون وجود قيادة شرعية مسئولة عنها واقعيا ودون الدعوة إلى النظر في القيادة السابقة التي انتخبت في عام 1960م
غير أن هذا الواقع الخطير دفع بعض الإخوة القدماء في التفكير في الاتصال بهذه التنظيمات المتعددة في أنحاء العراق كافة وخشية خروج تنظيم من تلك التنظيمات ولا سيما الشبابية عن خط الهدوء واللجوء إلى الظهور والعنف كما حصل في بعض البلاد العربية الأخرى .
وقد وفق الله سبحانه وتعالي هؤلاء إلى هذا العمل الكبير لأنهم كانوا معروفين لدي موجهي تلك التنظيمات ولأنهم كانوا هم يؤمنون بهذا الربط الشامل حتى لا يحدث ما يمكن أن يشكل خطرا عليهم جميعا .
وانتهي هذا التشاور المستمر الذي كان يجري بهدوء تام إلى تكوين مجلس شوري من مسئولي تلك التنظيمات كان يجتمع بين حين وآخر لبحث شؤون وحركة الجماعة في أنحاء العراق كافة .
هذا العمل الدعوي الشامل استمر في نهاية الثمانينيات إلى عام 1996 م عندما اقتنع الجميع بضرورة انتخاب قيادة شرعية جديدة تكون مسئولة عن قيادة الحركة وإصدار التعليمات اللازمة لتدبير أمور الجماعة وتوجيهها توجيها دعويا تربويا موحدا .
بقيت مشكلة واحدة توقف مجلس الشوري عندها وهي هل توجد قيادة شرعية للإخوان في العراق ؟ وهل قيادة عبد الكريم زيدان مستمرة على الرغم من خروجه من العراق إلى اليمن عام 1992 م؟
لقد أوكل الإخوة إلى أحدهم بحث شرعي في وجود أو عدم وجود قيادة شرعية إخوانية فكتب هذا البحث الذي كان بمثابة فتوى شرعية بحضور أعضاء مجلس الشوري المؤقت كافة الذين كانوا يمثلون أكثر الإخوان في أنحاء العراق .

وبينت الفتوى الشرعية بعدم وجود قيادة شرعية في العراق استنادا إلى النقاط الآتية:

  1. إن الظروف الأمنية عام 1960م فرض علينا أن نبايع قيادة مجهولة لم نكن نعرف عنها شيئا وبعد أن زالت تلك الظروف كان يجب أن تجري انتخابات جديدة يكون المرشحون فيها للقيادة معروفين للجميع ولم يجر ذلك وسكت جمهور الإخوان على مضض لمصلحة الدعوة وعدم الفرقة .
  2. إن المراقب العام الدكتور عبد الكريم ومن بقي معه في العراق أوقفوا التنظيم عام 1971 م والبيعة التي في أعناق جماهير الإخوان للقيادة إنما هي من أجل استمرار هذا التنظيم وقد مضت ستة وعشرون عاما على ذلك الانقطاع فكيف يمكن شرعا أن تبقي البيعة في أعناق الإخوان وعلى أى أساس لأن علاقة البيعة بين القاعدة والقيادة علاقة تنظيمية فإذا انتفي التنظيم انتفت البيعة .
  3. إن المراقب العام خرج من العراق للتدريس في اليمن منذ عام 1992 م وانقطعت علاقته ببقية الإخوان القليلين الذين كان يعرفهم فضلا عن جماهير التنظيمات المبعثرة في أنحاء العراق وهذا وحده دليل على سقوط مسؤوليته شرعا وهم قد فعلوا ذلك في عام 1960م إذ الضرورة دفعت بالأستاذ الصواف للخروج مؤقتا من العراق عام 1959 م وأناب عنه الأخ كمال القيسي لحين رجوعه في الوقت المناسب فاجتمع جمع من الإخوان يومئذ وبدون إذن الصواف وموافقته وانتخبوا عبد الكريم زيدان مراقبا عاما جديدا وعزلوا الصواف بعد أشهر من خروجه بينما كانت عودته ممكنة جدا بعد أشهر من خروجه إذ تغير الوضع تماما .وقد ظل الأستاذ الصواف متألما من هذه المعاملة حتى توفاه الله تعالي فلماذا أباحوا لأنفسهم ما لا يبيحون لغيرهم ؟ أى لماذا يعدون موقفهم شرعيا ؟ ولماذا لا يكون موقف الآخرين موقفا شرعيا ؟.
  4. إن جماهير التنظيمات الإخوانية ولا سيما الشباب الذين دخلوا في الدعوة عبر ربع قرن لا يعرفون القيادة المبعثرة القديمة ولا يؤمنون بها فهم لن يخضعوا إلا لقيادة جديدة تنبثق منهم ومن الإخوة القدماء الذين يكنون لهم الاحترام ولأنهم لم يتركوا ميدان العمل ولم يخرجوا من العراق .
  5. إن المصلحة في انتخاب قيادة شرعية جديدة مصلحة أكيدة لدفع المفاسد الكبيرة التي يمكن أن تحصل نتيجة الفراغ الشرعي في عدم وجود القيادة الموجهة التي تضبط حركة تلك التنظيمات المتنوعة .
لقد ناقش أعضاء مجلس الشوري المجتمعون الذي كان يربو عددهم يومئذ على عشرين مسئولا يمثلون جل الإخوان في العراق هذه القضية مناقشة مطولة عميقة فاجمعوا على أثرها على ضرورة انتخاب قيادة مركزية لجماعة الإخوان في العراق .

انتخاب مجلس الشوري الجديد:

لقد فكرت القيادة المؤقتة طويلا كيف يمكن للألوف من أعضاء جماعة الإخوان في العراق كافة أن ينتخبوا مجلس الشوري في ظل الأجهزة الأمنية القوية للحكومة البعثية فانتهي قرارها إلى ألا يشترك في الانتخابات إلا من كان رقيبا وهذا يعني ألا يشترك في هذه الانتخابات الأخ والأخ العامل والنقيب خوفا من انكشاف أمرهم للسلطة البعثية وتعريض إخواننا كلهم والدعوة معهم إلى الخطر الأكيد من الاعتقالات والمحاكمات والتصفيات الجسدية .
وكان القرار أيضا أن ينتخب كل خمسة رقباء عضوا في مجلس الشوري وجرى كل ذلك بحكمة وسرية تامة فكانت النتيجة أن تشكل مجلس الشوري من واحد وعشرين عضوا .حددت ليلة العشرين من رمضان 1416هـ (1996م) موعدا لاجتماع مجلس الشوري في بيت الأخ (عايد العيساوي) رحمه الله في حي العامرية .
ودخل الجميع بدون سياراتهم الخاصة في أثناء أذان المغرب أى وقت الإفطار دون أن يحس بهم أحد.بعد أداء صلاة المغرب قدمت القيادة المؤقتة تقاريرها الدعوية والأمنية والسياسية والمالية إلى الحاضرين فناقشوها مناقشة مستفيضة ثم قاموا إلى أداء صلاة العشاء والقيام وبعد قسط من النوم قاموا إلى تناول وجبة السحور م أداء صلاة الفجر والدعاء؛
ثم جلسوا وانتخبوا باقتراح سري المراقب العام وأربعة معه لقيادة جماعة الإخوان في العراق اقسم الجميع القسم المعهود المتعارف عند جماعة الإخوان المسلمين وكانت البيعة للقيادة الجماعية وليست لشخص معين .
وحمد الجميع ربهم سبحانه وتعالي على هذا التوفيق الرباني في وحدة الصف الإخواني ووحدة قيادته المجاهدة في أنحاء العراق كافة .
وهكذا بدأ العمل السري الحكيم الدؤوب في ظل القيادة الشرعية المنتخبة وتوجه الجميع إلى بناء الصف الداخلي دعوة وتثقيفا وتوجيها ولابد قبل الحديث عن محنة عام 1996 م أن أشير إلى أن إخواننا في الخارج الذين أعادوا تنظيمهم منذ الثمانينيات قد مدّوا يد المساعدة المالية لمئات من عوائل إخوانهم في الداخل الذين كانوا يعانون شظف العيش في ظل الحصار الظالم الذي فرضته الولايات المتحدة على الشعب العراقي وهم كانوا على علم بجهود إخوانهم في داخل العراق وكانت تلك المساعدات تصل شهريا إلى تلك العوائل وإلى المتفرغين للدعوة جزاهم الله خيرا .

اكتشاف القيادة:

مشت الأمور الدعوية في أنحاء العراق بصورة منتظمة سواء في التثقيف الداخلي أم النشاطات العامة أم الإشراف على دورات تحفيظ القرآن الكريم دون أن يتلفت أحد أن وراء هذا النشاط عقل تنظيمي مدبر بإذن الله سبحانه وتعالي .
غير أن حادثا أوقع أحد أعضاء القيادة وهو الأخ المرحوم إبراهيم عبد اللطيف في خطأ كبير وهو أن ابن أخته وصهره عدي كان يشتغل في شركة تركية فاتصلت به المخابرات العراقية وطلبوا منه أن يكتب لهم تقارير دورية عن أعمال الشركة فبدل أن يقوم لهم مثلا نعم سأفعل ذلك إذا كان الأمر يشكل خطرا على أمن العراق؛
ثم يترك عمله تدريجيا قدم استقالته إلى الشركة وخرج يعمل في التجارة بين بغداد والبصرة فبدأت المخابرات تراقبه ففي أحد الأيام أوقفته في سيطرة العمارة وفتحوا حقيبته اليدوية فإذا بهم يرون كتيبا بعنوان (قيادة الإخوان المسلمين في العراق رسالة تدريب النقباء)
وصدموا بذلك لأن هذا لم يكن يدور في خلدهم ولا هم يبحثون عنه فألقوا القبض عليه ونقلوه فورا إلى الأمن العامة فبدأوا التحقيق معه تحت تعذيب شديد فاعترف أن خاله الأخ إبراهيم هو الذي أعطاه إياه لينقله إلى إخوان البصرة فلما سمع الأخ إبراهيم بذلك اختفي أياما ؛
وفي أثناء محاولته الذهاب إلى البصرة بعد أيام ألقي ضباط الأمن المترصدون له القبض عليه في (آب) الجنوب والبصرة بجانب جامع البنية في بغداد و نقلوه إلى الأمن العامة وبدأوا معه التحقيق تحت تعذيب شديد فلم يعترف في أول الأمر بوجود للإخوان في العراق
إلى أن جاؤوا بمسجلة فيها صوت امرأته فقالوا له أليس هذا صوت امرأتك قال : بلي فقالوا إنها موجودة في الغرفة المقابلة إن لم تعترف فإن أفراد الأمن سيعتدون عليها حينئذ أنهار الأخ إبراهيم واعترف بوجود التنظيم وأعطاهم أسماء إخوانه في القيادة فألقي القبض علىّ وعلى بعض أعضاء القيادة .
كان بإمكاني أن أختفي ولكني خشيت أن يلقوا القبض على زوجتي وأولادي حتى يجبروني على تسليم نفسي فبقيت في البيت .دق جرس الباب فلما خرجت أمسك بي ضباط في الأمن العامة ودفعوني إلى داخل السيارة وانطلقوا بي إلى مديرية الأمن العامة في جانب الرصافة .
وكان مدير الأمن العام رحمه الله اللواء الركن محمد طاهر الحبابي يومئذ رجلا طيبا ذا دين وخلق فأوصي بي شخصيا ولم أتعرض إلى التعذيب الجسدي والحمد لله .
لقد استمرت التحقيقات معنا أياما ولساعات طويلة واتهمونا بأننا نريد أن نعيد تنظيم الإخوان المسلمين في العراق وظهر لى أنهم لا يفهمون شيئا عن جماعة الإخوان المسلمين تاريخهم وفكرهم حتى أنني عرضت عليهم أن أهدي إلى مكتبتهم كل ما في مكتبتي من كتب حول حركة الإخوان .
لقد أوصل إخواننا خبر اعتقالنا إلى إخواننا العراقيين وغير العراقيين فتحرك الجميع سريعا واجتمع عدد من زعماء الإخوان في الأردن وقدموا مذكرة إلى صدام عن طريق السفير العراقي في عمان وسمعنا أن رئيس الوزراء التركي يومئذ نجم الدين أربكان أرسل وزير عدله إلى بغداد وقابل الرئيس العراقي وتحدث في قضيتنا وكذلك اتصل الدكتور حسن الترابي من السودان (كما قيل) وطلب منه إطلاق سراحنا لعدم ثبوت جرم معين ضدنا .
والحق أن التحقيقات لم تثبت ضدنا أى شئ مخالف لمصلحة البلد لكن كانت المشكلة أن قانون العقوبات الذي وضعته حكومة البعث عد أى تنظيم سري مؤامرة ضد الدولة وكان الحكم فيها الإعدام ولكن الله تعالي سلمنا وقبل صدام شفاعة الشافعين فينا وأمر بإطلاق سراحنا والاكتفاء بالمراقبة الشديدة لنا .
وأذكر هنا أمر جديرا بالذكر فقد شتم أحد الضباط السفهاء في أثناء التحقيق معي الإمام الشهيد حسن البنا شتما قبيحا فقلت: لك أن تشتمني أنا ولكن لا تشتم ولي عصرنا هذا لأنني أخشي عليك من سوء يصيبك فاستغفر الله تعالي فوجم الرجل ولم يقل شيئا ولم تمر أيام على خروجنا؛
وإذا به يأتيني إلى البيت فرحبت به وجلس باكيا فقال لقد انتقم الله مني بسبب الإمام حسن البنا قلت له: كيف قال: اتهموني بأخذ الرشوة فعذبوني عذابا شديدا وفصلوني من وظيفتي وكان برتبة نقيب فقلت له : اهدأ طالما ندمت فإن الله تعالي غفور رحيم .
لم تزد هذه الحادثة الأليمة إخواننا في التنظيم إلا نشاطا وانطلاقا وحيوية وزيادة حيطة وحذر في أنحاء العراق كافة وكانت عناية الله معنا في توسيع دائرة نشاطنا الخاص والعام لحين عام 2003 م حينما احتلت الولايات المتحدة العراق مع حلفائها فدمروه تدميرا كاملا شاملا ولهذه المأساة قصة أخري خصصت لها كتابي (العراق من الاستبداد إلى الاحتلال) أرجو أن يري النور يوما من الأيام القريبة إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين