الإمامان المجددان المودودي والبنا (1/4)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإمامان المجددان المودودي والبنا (1/4)
نشأة متشابهة وتربية منضبطة

دراسة أعدها المستشار/ "محمد المأمون الهضيبي" المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين

مقدمة

الإمام الشهيد: حسن البنا

• تعددت أوجه الشبه بينهما ونشآ في بيت علم وفضل.

• كان لوالديهما أثر كبير في توجيههما الوجهة الإسلامية.

• تركت التربية الإسلامية آثارها العميقة في تزكية نفسيهما.

• شاركا في النشاط السياسي منذ وقت مبكر من حياتهما.

الإمام البنا

في زمن متقارب، وُلد الإمامان "أبوالأعلى المودودي" و"حسن البنا"- رحمهما الله-، وتشكلت رؤاهما الدينية، ونزعاتهما الإصلاحية، ومارسا الدعوة والعمل والتربية والجهاد جميعًا، حتى تركا رصيدًا يعتز به كل مخلص لدينه؛ ويقف أمامه- بالاحترام والإكبار- كلُّ مَن وافقهما أو اختلف معهما في آرائهما.

وتتعدد أوجه الشبه بين الرجلين، كما تتعدد بين حال بلديهما- الهند ثم باكستان ومصر- فكلاهما يحتل موقعًا جغرافيًا وسياسيًا وحضاريًا متميزًا ومؤثرًا، وكلاهما تعرض للاحتلال الإنجليزي، والتآمر الدولي، والاستبداد السياسي الداخلي، وكلاهما كان- وربما ما زال- كذلك موضع إشعاع دعوي، وريادة إسلامية.

فما أوجه التشابه والاختلاف- حقًا- بين شخصيتهما، ونتاجهما العلمي والعملي، وأساليبهما في العمل والحياة؟

هذا ما نتناوله في السطور التالية، وذلك على مدى حلقات أربع.

ميلاد متقارب زمنيًا في بيوت عريقة:

الإمام المودودى
الإمام المودودي

وُلد الإمام "أبو الأعلى المودودي" سنة 1321هـ/ 1903م.. بينما وُلد الإمام "حسن البنا" بعد ذلك بنحو ثلاث سنوات، عام 1324هـ/ 1906م.. ونشأ الاثنان في بيت علم وفضل، وكان لوالديهما أثر كبير في حسن تنشئتهما، وتوجيههما الوجهة الإسلامية، وكانت للتربية الصوفية المنضبطة بضوابط القرآن والسنة آثارها العميقة في تزكية نفسيهما، وشاركا في النشاط السياسي منذ وقت مبكر من حياتهما.

فقد كان "أبو الأعلى المودودي" سليل أسرة عربية تنتمي إلى آل البيت، هاجرت إلى هراة على الحدود بين إيران وأفغانستان، ثم انتقل بعض أجداده إلى الهند أواخر القرن التاسع الهجري، أما والده السيد "أحمد حسن" فقد عمل بالمحاماة حينًا، لكن النزوع إلى التصوف والزهد والعبادة غلبه في كثير من الأحيان، فما عادت مهنة المحاماة تستغرق كثيرًا من وقته، وما عاد يقبل من قضاياها إلا ما وافق الحق والعدل، فنشأ "أبو الأعلى" في هذه الأجواء العابدة الزاهدة.

وقد ترك فيه أبوه أعظم الأثر، فكان يغشى به المساجد ومجالس أقرانه من السادة والعلماء، ويحفظه القرآن الكريم، وحرص على تعليمه العربية، وسلامة نطقه بها، وأسمعه قصص الأنبياء ودروس التاريخ الإسلامي، وحوادث تاريخ الهند.

يقول "أبو الأعلى": "كنت إذا اعتدت عادةً سيئةً خلصني منها، وأبعدني عنها، ضربت ذات يوم ابن أحد الموظفين، فناداه وقال له: اضربه كما ضربك، فعلمتني هذه الواقعة درسًا لازمني طوال حياتي.."، وعُني والده بتعليمه في البيت قبل أن يذهب إلى الدراسة النظامية، فحاز في كلتيهما قصب السبق، ثم مات أبوه سنة 1338هـ و"أبو الأعلى" في نحو السابعة عشرة من العمر.

أما الإمام "حسن البنا" فكان والده عالمًا بالحديث الشريف، له في دراسته جهد يُذكر، فقد رتب معظم أسانيد الأئمة الأربعة على أبواب الفقه، وله شرح مشهور لمسند الإمام أحمد بن حنبل..

كان دائم الحثّ لولده على الإفادة من مكتبته، ومشاركته بحثه وعلمه، واعترض على رغبته في ترك الكتّاب والالتحاق بالمدرسة الإعدادية قبل أن يتم حفظ القرآن الكريم، ولم يوافقه على ذلك إلا بعد أن تعهد له بأن يتم حفظ كتاب الله تعالى من منزله، فأتمه وهو لم يتجاوز التاسعة من عمره، وكان يصطحبه إلى مجالس العلماء والفضلاء، وزاد على ذلك أن علمه حرفة إصلاح الساعات، ومنها استمد لقبه: "الساعاتي"، كما علمه مهنة تجليد الكتب؛ كيلا يخضع في مستقبل حياته لضغوط الوظائف الحكومية.

النشأة الروحية:

كما عرف الإمام "البنا" في نشأته ذلك التصوف السنِّي المنضبط بضوابط القرآن والسنة، فكان مواظبًا على حضور جلسات الطريقة الحصافية، والالتزام بأورادها وآدابها، وأفاد منهم- كما ذكر- كثيرًا، مثل النفور من الجدل في المسائل الخلافية، والمشتبهات من الأمور، والعناية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحرص على العلم، والجد في الخيرات.

وكان لكلا الشيخين (المودودي والبنا) ولعٌ بالعلم وحرْصٌ عليه، وإيثارٌ له على ما يشغل عنه أو عن العمل به، فقد طالع "المودودي" كتب الأدب العربي والتفسير والحديث والمنطق والفلسفة، ودرس النحو العربي والصرف والبلاغة، حتى نبغ في العربية، وانطلق بها لسانُه وقلمه، على أجمل ما يكون الفصحاء من أهلها، وترجَم بعض آثارها إلى لغته الأوردية، وتعلم الإنجليزية بكثيرٍ من الجهد الذاتي، وقليلٍ من عونِ بعضِ الفضلاءِ، فكان يستطيعُ أن يقرأَ بها ما شاء في شتَّى فروعِ العلم والحياة.

أما الإمام "البنا" فكان مغرَمًا بالقراءة، وقد حباه الله حافظةً واعيةً قلما يندُّ عنها شيء، فلما تقدم إلى امتحان القبول بكلية دار العلوم كان يحفظ ثمانية عشر ألف بيت من الشعر، وقد أولع بحفظ المتون التي تنظم شعرًا في قضايا العلم ومسائله، عملاً بنصيحة والده وقوله: "من حفظ المتون حاز الفنون"، فضلاً عن دراسته المتأنية للعلوم العربية والشرعية، كما اطَّلع على ترجماتٍ من أقوال علماء الغرب وفلاسفتهم؛ مما كان يُلزِمه لفهم الواقع وفقه الدعوة.

ولقد خرج كلا الإمامين من أواسط طبقات المجتمع، لم يفسدهما- كما قد يفسد بعض الناس- ثراءٌ فاحشٌ، ولم يُشِنْهُما- كما قد يُشين بعض الناس- فقرٌ مدقِع، فأورثهما ذلك إحساسًا مرهفًا بعامة الناس، ومعاناةً ملهبة لهموم الأمة ومشكلات البسطاء، وهما على ذلك من بيتَي علمٍ وفضلٍ، يَرَيان الشرف كلَّه في التزام الحق، والتمسُّكِ بالفضائل، والعناية بالعلم.

الاتصال بالجماهير والعمل الصحفي:

اشترك الإمامان أيضًا في مزيَّة فريدة، فقد مكنتهما قدراتهما اللغوية وثقافتهما الواسعة، والتصاقهما بجماهير الناس وحرصهما على هدايتهم من تقديم العلوم الصعبة والمعاني الجليلة في عباراتٍ سهلةٍ، وأسلوب مشرق، يُناسب عموم الخلق، فيجدُ فيه بسطاؤهم وكبار مثقفيهم على السواء ما يُلبي حاجاتهم، ويُخاطب عقولهم ووجدانهم، ويحرك ضمائرهم، ويزكي نفوسهم، وهو أسلوب عميق في سلاسة، لا يستنكف منه العالمون، ولا يستغربه البادئون في الطلب.

وفي سن مبكرة شارك الشيخان في العمل العام الذي يتفاعل مع هموم الأمة، وآثرا العمل الجماعي على الجهد الفردي.. فقد عمل "المودودي" صحفيًا بجريدة "المدينة" سنة 1336هـ/ 1918م، وهو بعد في الخامسة عشرة من عمره، فلما قامت بالهند حركة إحياء الخلافة الإسلامية في العام التالي شارك فيها "المودودي" بقوة، وهي الحركة التي كانت تهدف إلى الإبقاء على الخلافة العثمانية أمام جحافل الأعداء، باعتبارها رمزًا للوحدة الإسلامية والنظام السياسي في الإسلام.

وقد أعلن "المودودي" بقلمه وبيانه- في تلك الصحف المتعددة التي رأس تحريرها، أو كتب مقالاتها الافتتاحية- شرح نظرية الخلافة الإسلامية وضرورتها، وأهمية إصلاحها وإبقائها.

كما شارك "المودودي" في أعمال جمعية "إغاثة وعون المسلمين" من ضحايا الصدامات المتكررة مع الهندوس، ومنذ عام 1351هـ/ 1932م استأثرت مجلة (ترجمان القرآن) باهتمام الإمام "المودودي" وجهده، وجعل شعارها:

"أيها المسلمون، احملوا القرآن وانهضوا، وحلقوا فوق العالم"، وكم عانى في السنوات الأولى من مصاعب مالية جمَّة كانت تهدد وجودها...، إلا أن عزيمته النافذة- بعد توفيق الله تعالى- كانت وراء مصابرته حتى استقام أمرها، وانتشر توزيعها، وغَدَت منبرَه الأثير لنشرِ أفكاره، وتهيئةِ الرأي العام للإعلان عن تأسيس الجماعة الإسلامية فيما بعد.

في هذه المرحلة من عمر الإمام "المودودي" ألف مجموعةً من أفضل كتبه، مثل: "الحجاب"، و"نحن والحضارة الغربية"، و"المسلمون وحركة تحرير الهند"، و"مبادئ الإسلام"، وغيرها..، بل إنه ألف كتابه الشهير "الجهاد في الإسلام" وهو في الخامسة والعشرين من عمره سنة 1347هـ/ 1928م، وفيه تصدَّى للرد على دعايات الهندوس الظالمة التي تزعم انتشار الإسلام بالسيف والقهر؛ لا الحجة والبرهان، وقد توثَّقت صِلاته آنذاك بشاعر الهند الكبير وفيلسوفها ومفكرها الإسلامي "محمد إقبال"، حتى دعاه سنة 1356هـ/ 1937م للانتقال إلى "لاهور ليمارس" دعوته هناك؛ حيث الكثافة الإسلامية العالية، وفي السنة التالية تُوفي "إقبال"، وكأنما كان مقدرًا له أن تتوثق آنذاك صلاته بالمفكر الكبير لعله يحاول أن يملأ الفراغ الذي تركه بوفاته.

الإيمان بالعمل الجماعي:

أما الإمام "حسن البنا" فقد دُرِّب على العمل الجماعي منذ صغره، فانضم- وهو بعد تلميذ بالمرحلة الإعدادية- إلى جمعية خيرية بمدرسته اسمها جمعية (الأخلاق الأدبية)، ثم أصبح رئيسًا لمجلس إدارتها، وأنشأ مع بعض رفاقه- في هذه المرحلة المبكرة- جمعيةً أخرى سمَّوها جمعية (منع المحرمات)، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، ولما انتقل إلى مدرسة المعلمين أسس مع بعض أصحابه (جمعيةالحصافية الخيرية)، وكان سكرتيرًا لها، وقد اهتمت بالدعوة إلى الأخلاق الكريمة، ومحاربة المنكرات، كما عُنيت بمحاربة الإرسالية الإنجليزية التنصيرية، التي قدمت إلى مدينة دمنهور حيث كان يطلب العلم.

ولما انتقل إلى الدراسة بالقاهرة دخل في حوارات مطولة مع بعض أكابر العلماء بالأزهر الشريف، أثمرت إصدار(مجلةالفتح) الإسلامية، ثم- فيما بعد- تأسيس جمعية الشبان المسلمين، ولمَّا كان "البنا" في الثالثة عشرة من عمره شارك في المظاهرات الحاشدة التي عمت مصر آنذاك ضد الاحتلال الإنجليزي، إبان ثورة 1919م..

وكما كان إصرار "المودودي" على إصدار "ترجمان القرآن" برغم ضيق ذات اليد، فكذلك فعل "البنا" حين أراد إصدار "جريدةالإخوان المسلمين" الأسبوعية، وكان لا يملك رأس المال اللازم لذلك، لكن يقينه وتوكله وعزمه كان أقوى من المنطق المادي للحوادث، فأصدر العدد الأول من المجلة برأس مال هو جنيهان مصريان اقترضهما من أحد الإخوان، وساعدته في ذلك ثقة صاحب المطبعة الشيخ "محب الدين الخطيب"، وظلت المجلة تصدر بعد ذلك أربع سنوات.

وكان لابد لزمجرة الحق الداوي في صدر الرجلين من أن تجد متنفسًا، وأن تصل إلى الناس، وقد اتفقا- على غير لقاء بينهما- على أهمية العناية بالصحافة الإسلامية، وأنفقا من وقتهما وجهدهما الكثير من أجل ذلك، وكان أحدهما ربما يُضطَّر في بعض الأحيان إلى أن يكون الصحفي ورئيس التحرير ومديره وموزع الجريدة في آن واحد؛ ليضمن استمرارها وتأثيرها..

ذلك أمر يقدره مَن يدركون أهمية الصحافة؛ وخاصة في عالمنا الإسلامي، الذي يستأثر حكامه بوسائل التأثير الجماهيري الواسع من تلفاز وإذاعة، ويسمحون بالقلة القليلة من الصحف الإسلامية التي تُعارض سيرهم، فإذا اشتد بها ضيقهم تعقَّبوها بالإغلاق والمصادرة، أو الإعنات والتضييق.

المصدر