الإنصاف

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
الإنصاف


الإنصاف في الحكم على الناس

إن المتأمل في حال بعض شباب الصحوة الإسلامية يجد أنهم يفتقرون إلى الميزان الذي يتعاملون فيه مع الناس والحكم عليهم، وهذا الميزان من خلاله يتحقق الإنصاف وإعطاء الناس حقوقهم، وقد جاء في لسان العرب: النَّصَفُ والنَّصَفةُ والإنْصاف: إعطاء الرجل الحق وقد انتصف منه وأنصف الرجلُ صاحبه إنصافاً وقد أعطاه النَّصَفَة. وأنصف الرجلُ أي: عدل.

ولعل هذا الخلل في استعمال ميزان الإنصاف في الحكم على الناس سواء كانوا أصدقاء أو خصوماً أو أعداء مرده غالباً إلى الجهل بنصوص القرآن والسنة التي رسَّخَّت هذا المبدأ وأصَّلت له من جانب، والعصبية والانتصار للنفس والحزب أحياناً من جانب آخر.


لهذا كان من الواجب على كل مسلم أن يتخلق بهذا ولاسيما الدعاة العاملون لأنه بالإنصاف ينجح الداعية في كسب الأصدقاء والولوج إلى قلوبهم. وعندما ندعو إلى الإنصاف والاعتدال في الحكم على الناس ننطلق في ذلك من فهمنا لطبيعة البشر حيث أنه لا يمكن لأحد من البشر أن يَسلم من الخطأ والوقوع في الزلل مهما بلغ من العلم والتقوى والورع، كما أن هذا الإنسان في أصله يولد على الفطرة – الدين والخير – وأن الشر الذي يتلبسه طارئ عليه، لذا قل أن تجد إنساناً فقد الخير الذي فطره الله عليه.


ومن هذا المنطلق تعامل القرآن مع الخصوم من المشركين وأهل الكتاب فاعترف أثناء الحكم عليهم بالخير الذي عندهم، قال تعالى: [وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (آل عمران:75).

وهكذا اقتضى الإنصاف عدم التسوية في الحكم فإنه " منهم ومنهم " بل اعترف بالحسنات ونوه بها، فينبغي ألا يمنع بغضهم وعدائهم لنا من إنصافهم [ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ](المائدة: من الآية8). وبهذه الأخلاق التي تقوم على إنصاف الآخرين وإن كانوا خصوماً لنا يبرز الوفاء، وشرف الخصومة في أروع صورها.


والإنصاف يفرض علينا إذا أردنا أن نحكم على الآخرين أن نراعي فيهم جانب الشر والخير والحسنات والسيئات، وهذا ما قرره القرآن الكريم ( فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك هم الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ).

وهكذا فإن القرآن يخبر أن من كانت حسناته هي الراجحة على سيئاته مع الندم على السيئات كان من الناجين، ومن رجحت سيئاته على حسناته كان من الهالكين. والإنصاف كذلك يقتضي أن الخطأ اليسير مغتفر في جانب الخير الكثير. يقول ابن القيم في " مفتاح دار السعادة 1/176 ": ( من قواعد الشرع، والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل، فإنه لا يحتمل أدنى خبث. ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر – يعني في شأن حاطب – " وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " وهذا هو المانع له صلى الله عليه وسلم من قتل من جَسَّ عليه وعلى المسلمين وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم، فاخبر صلى الله عليه وسلم أنه شهد بدراً، فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات. ولما حض النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فأخرج عثمان رضي الله عنه تلك الصدقة العظيمة، قال: ما ضر عثمان ما عمل بعدها ).

وهذا حسان بن ثابت رضي الله عنه قذف عائشة وبقي حبه في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأجيال المسلمين من بعدهم، للذي كان عليه من المنافحة بشعره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أن عائشة ردت على ابن أختها عروة بن الزبير لما سبه وقالت: ( لا تسُبُه فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) [ البخاري رقم 5684] .

وقريب من ذلك شهادة أخرى لعائشة في أمر زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها، فإنه كان بينهما ما يكون بين الضرائر، وكان في زينب من الطباع ما يؤخذ عليها ولكن ذلك لم يمنع عائشة من إنصافها والثناء علي فعالها الإيمانية فقالت: ( هِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ وَأَتْقَى لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَصْدَقَ حَدِيثًا وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ وَأَعْظَمَ صَدَقَةً وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا لِنَفْسِهَا فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ وَتَقَرَّبُ بِهِ مَا عَدَا سَوْرَةً مِنْ حِدَّةٍ كَانَتْ فِيهَا تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ ). [ النسائي رقم 3883] أي سريعة البرود بعد احتداد غضبها. فنموذج عائشة هذا فيه رسالة للمتشددين المتزمتين الذين ينظرون للناس بمنظار سوداوي وكأنهم كتلة من الشر، فيه رسالة للذين يظلمون إخوانهم فلا يعترفون بفضل ذي فضل واسع إذا هفا.


وفي الصحيح من حديث عمر بن الخطاب ( أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ). أي الذي علمته. فهذا الصحابي زلت قدمه ولكن لا يعني أنه فاسد بالكلية، بل له من الصفات الحميدة ما يوجب محبته ومولاته، وعلى هذا النهج سار خيار الأمة ومن بعدهم، فهذا سعيد بن المسيب تلميذ عائشة رضي الله عنها الذي فهم طريقتها فصاغها بنداً في قانون الجرح والتعديل الإسلامي فقال: ( ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله ) [ البداية والنهاية 9/100، والكفاية للخطيب البغدادي ص138]. وقال الحافظ ابن رجب:( والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه ) [ القواعد لابن رجب ص3].


وقال سفيان بن سعيد الثوري: ( عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات والتعصب والشهوات دون أن يعي بفضائلهم حرم التوفيق ودخل في الغيبة وحاد عن الطريق ) [ جامع بيان العلم وفضله 2/166]. ويقول الإمام الذهبي رحمه الله: ( ونحب السنة وأهلها ونحب العالم على ما فيه من الإتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن ).[ سير أعلام النبلاء 20/46].

وقد طبق رحمه الله هذا المنهج وذلك في سياق ترجمته للأئمة الأعلام. قال رحمه الله في ترجمة الإمام ابن خزيمة: ( ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده – مع صحة إيمانه،وتوخيه لإتباع الحق – أهدرناه وبدعناه، لقل من يسلم من الأئمة معنا رحم الله الجميع بمنه وكرمه ) [ سير أعلام النبلاء 14/37].

وقال ابن القيم رحمه الله: ( فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرك جملة، وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات وتعطلت معالمها ). [ مدارج السالكين 2/39] . وقد علق رحمه الله على بعض ألفاظ الهروي في منازل السالكين فقال: ( هذا اللفظ قلق وسوء تعبير، يجيره حسن حال صاحبه وصدقه، وتعظيمه لله ورسوله ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له...) [ مدارج السالكين 3/150].


بل إن هذه القاعدة مؤصلة عند العرب قبل الإسلام، روى الخطيب البغدادي عن الشعبي قوله: ( كانت العرب تقول: إذا كانت محاسن الرجل تغلب مساؤه فذلكم الرجل الكامل، وإذا كانا متقاربين فذلكم المتماسك، وإن كانت المساوئ أكثر من المحاسن فذلكم المتهتك ". فدل ذلك على أن هذا المنهج مرتكز في الفطرة، وموجود عند الأصفياء من بني البشر، ومعلوم عند العرب في جاهليتهم فجاء الإسلام فأقره وزاده رسوخاً. فحري بالمسلم أن يتخلق بهذا الخلق والذي أصبح عزيزاً في زماننا بل هو كما وصف الإمام مالك في زمنه حين قال: ( ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف ) فإذا كان هذا في زمن مالك رحمه الله فماذا نقول عن زماننا ؟!.