الثورتان التونسية والمصرية من منظور سسيولوجيا الثورة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الثورتان التونسية والمصرية من منظور سسيولوجيا الثورة

2011-01-31

بقلم : د.إبراهيم ابراش

مقدمة

الثورة من المفردات السياسية التي ملأت فضاء الخطاب السياسي العربي و دول العالم الثالث خلال العقود الثلاثة الموالية للاستقلال ،وبالرغم من حضور المفردة قبل الاستقلال حيث كانت تطلق على حركة الشعوب في مواجهة الاحتلال لأن كل حركة تحرر وطني تعتبر ثورة ،إلا أن استمرار استعمال الكلمة بعد الاستقلال أخرج كلمة الثورة من ماهيتها ومن دلالتها اللغوية والاصطلاحية العلمية بحيث أخذت معان سسيولوجية وسياسية حينا وشعارا يوظفه كل شخص أو حزب يطمح بالسلطة أو قادر على تهييج الجماهير حينا آخر، أيضا تداخل مفهوم الثورة مع الانقلاب العسكري و مع الحرب الأهلية والفوضى والاحتجاجات والانتفاضات الشعبية المطلبية الخ .

ما بعد استقلال الدول العربية لم يشهد العالم العربي – باستثناء الحالة الفلسطينية - حراكا شعبيا واسعا لدرجة يجوز فيها توصيفه بالثورة الشعبية إلا ما يجرى اليوم في تونس ومصر. فبعد شهر من خروج الجماهير التونسية للشارع في مواجهة نظام فاسد ودكتاتوري هرب الرئيس من البلاد وسقطت الحكومة ،وفي مصر التي تشهد إرهاصات الثورة والتمرد على النظام القائم منذ سنوات وتزايدت بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة التي اعتبرتها المعارضة نهاية المراهنة على التغيير من خلال النظام القائم ،خرجت الجماهير المصرية في كافة محافظات الجمهورية بمظاهرات تخللنها أعمال عنف وتخريب تطالب برحيل النظام .الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه للاجتهادات والتفسيرات ،فهل ما جرى ويجري في تونس ومصر ثورة أم انتفاضة ؟هل ما جرى يعبر عن أزمة دولة أم أزمة نظام سياسي ؟ هل اختمرت شروط الثورة في العالم العربي ؟ وهل بمجرد خروج الناس للشارع وهروب الرئيس أو تخليه عن السلطة يمكن القول بأن الثورة حققت أهدافها؟ وهل تتشابه الحالة التونسية مع الحالة المصرية من حيث الأسباب والتداعيات.

ما يجري في تونس ومصر وما تختمر من أحداث وتطورات في أكثر من بلد عربي ،يحتاج لقراءة موضوعية وعقلانية بعيدا عن العواطف والانفعالات لأن الآتي من الأحداث هو الأهم والأصعب وبه ستكتمل الصورة بحيث يمكننا أن نتحدث عن ثورة شعبية ناجحة أو عن شيء آخر.الأمر الذي يستدعي أيضا استقراء ما يجري في تونس ومصر انطلاقا من فقه الثورة الذي تراكم عبر التاريخ ومن تجارب الشعوب الأخرى ونضع ما جرى في سياق التحولات التي شهدها العالم العربي خلال العقود الثلاثة الماضية وخصوصا محاولة الأنظمة التحايل على فقدان شرعيتها من خلال تبني أشكالا من الديمقراطية الأبوية والموجهة تغرر بها الجماهير.

أولا :مقاربة مفاهيمية لمصطلح الثورة

الثورة (Revolution ) من المصطلحات المخضرمة التي واكبت ظهور الدولة والحياة السياسية منذ ما قبل التاريخ،وتستعمل كلمة ثورة في سياقات مختلفة كالقول بالثورة الصناعية أو الثورة التكنولوجية الخ لوصف التغييرات الجوهرية التي تطرأ على حياة الشعوب وعلى الحضارة الإنسانية ،إلا أن الاستعمال الرائج لمصطلح الثورة يذهب للتحولات الجذرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات نتيجة حراك شعبي واسع ،وفي هذا السياق يمكن الحديث عن أنواع متعددة للثورة كالثورة ضد الاحتلال الأجنبي والثورة ضد أنظمة فاسدة والثورة الطبقية الخ.

شهدت أسيا وأفريقيا وأمريكا ألاتينية سلسلة من الثورات التحررية وإن كان أشهرها ثورة الشعب الجنوب أفريقي والثورة الجزائرية والثورة الفيتنامية والثورة الفلسطينية التي ما زالت متواصلة حتى اليوم إلا أن لكل شعب ثورته الخاصة به ،ففي الهند قامت ثورة سلمية قادها الماهاتما غاندي ضد الاحتلال البريطاني وامتدت من عام 1915 حتى اغتياله من طرف هندوس متطرفين في يناير 1948، كما قاد عمر المختار ثورة الشعب الليبي ضد الاحتلال الإيطالي من عام 1911 إلى حين إعدامه يوم 16 سبتمبر 1931،و في المغرب قامت ثورة عبد الكريم الخطابي الذي قاد عام 1921 ثورة في مناطق الشمال ضد الأسبان وانتصر على الأسبان في معركة أنوال وأقام جمهورية سميت بجمهورية الريف ،إلا أن الأسبان والفرنسيين تحالفوا ضده وانهوا الثورة، وقام الفرنسيون بنفي الخطابي إلى إحدى الجزر النائية في المحيط الهادي عام 1926 .وفي فلسطين قامت ثورة عز الدين القسام 1935 ثم الثورة الكبرى 1936 ،وفي مصر عُرفت ثورة أحمد عرابي 1881 وثورة مصطفى كامل 1889 و ثورة سعد زغلول 1919 الخ .أما الثورة بالمفهوم السياسي السوسيولوجي فلم يعهدها العالم العربي إلا نسبيا مع ثورة يوليو 52 في مصر كما سنبين لاحقا.

الأشكال أو الأنماط السابقة لا تستوعب كل الحالات الثورية التي عرفتها الشعوب،فثقافة وقيم كل شعب وأحيانا الأوضاع الدولية تلعب دورا في وصف التحرك الشعبي نحو التغيير بالثورة أو بالانتفاضة أو إطلاق تسميات أخرى عليه.فهل الثورة العربية الكبرى 1915 كانت ثورة أم تمردا على الخلافة العثمانية ؟وهل ما عرفته الشيشان والبوسنة وبلاد كردستان وجنوب السودان وحركة طالبان وتنظيم القاعدة ... ثورات أم حركات انفصالية أم حركات تحرر قومي أم حركات دينية جهادية؟ وما الحدود الفاصلة بين هذه التصنيفات ؟ هل تحرك الجماهير في الاتحاد السوفيتي ولأوروبا الشرقية ضد الأنظمة (الشيوعية) التي كانت عنوان الثورة العالمية تعتبر ثورة ضد الثورة ؟.أين يمكن وضع الأحداث التي شهدتها البرتغال واليونان عام 1974 ،هل تعتبر ثورات ديمقراطية أم انقلابات عسكرية ؟ هل كان فرانكو في أسبانيا قائد ثورة أم انقلابي استبدادي؟.

مناط الحكم على التحرك الشعبي إن كان ثورة أم لا ليس فقط كثرة عدد المواطنين المشاركين به فقط ولا الشعارات المرفوعة فقط ولا طبيعة الخصم أو العدو الذي تحاربه الثورة ،بل قدرة الثوار على إحداث التغيير المنشود حسب ثقافة ورؤية الشعب المعني بالأمر .كل الثورات السياسية /الاجتماعية المشهورة استمدت أهميتها من قدرتها على التغيير الواسع في كل بنيات المجتمع ،ففرنسا بعد الثورة ليست فرنسا قبلها،وروسيا بعد الثورة ليست روسيا قبلها وفيتنام بعد الثورة ليست فيتنام قبلها الخ.أيضا فإن الثورة ليست مجرد تغيير رأس النظام السياسي كأن يكون هدف الثوار الإطاحة بالنظام الملكي وتحويله إلى نظام جمهوري،فكثير من الأنظمة الجمهورية أكثر سوءا من الأنظمة الملكية .

نخلص مما سبق أن الثورة فعل جماهيري شامل، فحين تتأزم الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتصبح أحوال الناس لا تطاق، وعندما تتباعد الشقة ما بين الحكام والجماهير وتغيب وسائل التعبير السلمي عن المطالب، لا تجد الجماهير أمامها إلا التحرك لتغيير الأوضاع تغييرا جذريا.أحيانا تُقاد الثورة من طرف حزب جماهيري أو قيادة تؤمن بالتغيير فتلهب حماس الناس وتحرضهم ضد الوضع القائم، وإذا ما كان الحزب أو القيادة المؤججة للثورة والمحرضة عليها تتبنى أيدلوجية ما – كالإشتراكية أو الشيوعية أو القومية أو الدينية -تنطبع الثورة بهذه الأيديولوجية فيقال ثورة اشتراكية أو شيوعية أو دينية أو قومية الخ.وحينا آخر تنطلق دون قيادة حزبية على رأسها كما هو الحال مع الثورة التونسية والمصرية ،ولكن بعد انتشار الثورة وظهور مؤشرات انهيار النظام القديم تحاول الأحزاب حصد مكتسبات الثورة والزعم بمسؤوليتها عن اندلاعها .

سواء كانت ثورات دينية أو طبقية أو سياسية أو اقتصادية أو جمعا لها فإن الثورة نقطة تحول في حياة الشعوب، تحول اجتماعي وسياسي واقتصادي، وبديهي أن يكون هدف الثورة تحقيق التحول إلى الأفضل لأن الثورة تعمل على الإطاحة بمن تعتبره الجماهير مسئولا عن بؤسها سواء كان ملكا أو رئيسا و كذا بالنخبة المحيطة به وبمرتكزات النظام السياسي، وإقامة نظاما بديلا يأخذ بعين الاعتبار المطالب الشعبية.وغالبا ما تصاحب الثورة بالعنف، فهي عمل عنيف ولكن تتفاوت درجات العنف ما بين التهديد اللفظي بالقتل والاغتيال والاعتقال والقيام بالمظاهرات والمسيرات الحاشدة أو اللجوء إلى العمل العسكري. فبعض الثورات تكون سلمية ولا يراق بها الدم فتنعت بأسماء دالة على ذلك كالقول بالثورة البرتقالية أو الثورة القرنفلية أو الثورة البيضاء،وثورات أخرى اتسمت بالدموية كالثورة الفرنسية التي أزهقت الآلاف من معارضيها ثم ارتددت على ذاتها ليقتل الثوار بعضهم بعضا حتى قيل بأنها أصبحت كالهرة التي تأكل أولادها،و أحيانا تستمر الثورة لعدة سنوات وتعجز في النهاية عن تحقيق أهدافها وتتحول إلى حرب أهلية.

ثانيا: الثورة ليست انقلابا عسكريا ولا هيجانا شعبيا

تختلف الثورة عن الانقلاب العسكري، فهذا الأخير هو تحرك فوقي لنخبة عسكرية تكون متواطئة أحيانا مع بعض رموز السلطة لتغيير الحكومة أو النظام القائم، وبالتالي لا تشارك الجماهير بهذا الانقلاب وفي كثير من الأحيان لا تعلم الجماهير بالانقلاب إلا بعد وقوعه، ولكن كثيرا من الانقلابيين وخصوصا في العالم العربي يضفون طابع الثورة على انقلابهم العسكري لمنح تحركهم شرعية شعبية، وهذا ما يحدث في البلاد العربية ودول الجنوب،حيث يقتصر التغيير في حالة الانقلاب على تغيير الأشخاص والنخب الحاكمة دون أن تتغير أحوال الناس بل أحيانا تزداد أوضاع الشعب سوءا عندما يتحول الانقلابيون إلى أسياد مستبدين جدد. ويمكن القول بان ما عرفته غالبية الدول العربية ما بعد الاستقلال من تغيير لأنظمة الحكم كان يدرج ضمن الانقلابات العسكرية وليس الثورات، سواء تعلق الأمر بسوريا أو العراق أو ليبيا أو اليمن أو السودان حتى ثورة يوليو 52 في مصر صنفها البعض بالانقلاب العسكري.

وعليه يمكن القول بان مجرد تغيير رأس النظام لا يعني حدوث ثورة ،فهذه الأخيرة لا تكتمل ولا تأخذ معناها الحقيقي إلا إذا حققت الأهداف التي قامت من اجلها.أيضا الثورة ليست مجرد خروج الناس للشارع لتهتف وترفع الشعارات أو تخرب وتدمر مؤسسات السلطة ،الثورة عملية مركبة ومتعددة الأبعاد خروج الناس للشارع أحد شروطها أو فتيل اشتعالها ولكنه بحد ذاته ليس الثورة . ومن هنا كل الثورات تمر بمرحلتين: الأولى هي مرحلة الهدم حيث يتم إسقاط النظام القائم، وهذه مرحلة تنجح بها كل الثورات تقريبا، والمرحلة الثانية هي بناء نظام وأوضاع جديدة تتوافق مع الأهداف المُسطرة للثورة ومع الوعود التي قدمها الثوار للشعب، هذه المرحلة الثانية هي الأكثر صعوبة وفي كثير من الأحيان تتعثر الثورة في بناء أوضاع جديدة أفضل من سابقتها، حيث يجلس الثوار على أنقاض ما هدموه ويتحولون إلى مستبدين جدد مع استمرارهم بالتغني بشعارات الثورة فيما الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تزداد سوءا، مما يثير حنق الجماهير المتطلعة للتغيير، فتتلبد غيوم ثورة على (الثورة) ويبدأ الناس بالاحتجاج والخروج للشارع فيواجههم قادة النظام (الثورة ) بقمع أشد فتكا من قمع الأنظمة السابقة ،حيث صفة الثورة التي يسمون أنفسهم بها تعطيهم الحق من وجهة نظرهم لاتهام معارضيهم بأنهم أعداء الشعب وأعداء الثورة وعملاء للاستعمار الخ .

ما بين سقوط النظام القديم وقيام النظام الجديد توجد مرحلة انتقالية تعتبر المحك للحكم على نجاح الثورة في مرحلتها الأولى وقدرتها على الانتقال السلس والسلمي للمرحلة الثانية ،مرحلة بناء الجديد،في المرحلة الانتقالية يظهر كثيرون ممن يريدون سرقة الثورة وحرفها عن أهدافها الحقيقية سواء كانت أطرافا خارجية أو أطرافا داخلية قد يكونوا من بقايا النظام القديم أو من أحزاب سياسية تريد ان تركب موجة الثورة في آخر لحظة.سواء في تونس أو في مصر فإن الثورة قامت على يد شباب غاضب ولا ينتمون للأحزاب السياسية التقليدية ،إلا أن هؤلاء الشباب غير مؤهلين للحكم وبالتالي تظهر أحزاب وشخصيات سياسية تطرح نفسها كمنقذ وكقيادة مرحلية أو انتقالية ،ولكن لا ضمانة بان هؤلاء سيتجاوبون مع أهداف الثورة ولا ضمانة أيضا بأنهم سيتركون السلطة بعد المرحلة الانتقالية ،وأحيانا يتقدم الجيش ليملا الفراغ خلال المرحلة الانتقالية .في ظل الأحداث الجارية في مصر لا نستبعد أن يلعب الجيش دورا مركزيا تحت ذريعة حفظ امن البلاد بل وحماية الثورة من حالة الفوضى والنهب التي تصاحبها وهي أحداث قد لا تكون بعيدة عن تخطيط بعض عناصر النظام .

نجاح الثورة في عمليتها الأولى (مرحلة الهدم) قد لا تكلف أكثر من استيلاء على الإذاعة والتلفزيون أو رصاصة في رأس الحاكم الفاسد -الرجعي واليميني وعميل الاستعمار وسبب هلاك الأمة..الخ- أو خروج جماهير هائجة ومقهورة للشارع لتخرب وتُدمِر ثم خطاب حماسي يسمى البيان الأول، حتى يقال لقد نجحت الثورة.ولكن ماذا بعد ؟ كان البَعدُ بالنسبة لكثير من الأنظمة والحركات الثورية العربية أنهم قضوا على الأنظمة القديمة ثم جلسوا على أنقاضها واخذوا يرددون شعارات الثورة ،ظنوا أن شعارات الثورة ستُغني الجماهير عن فقرها وجوعها ،اعتقدوا أن كل مشاكل الجماهير قد حُلت بمجرد إسقاط النظام السابق ووصول قادة (الثورة) إلى سدة الحكم ،ولكن ماذا بالنسبة للاقتصاد والمديونية والتعليم والتكنولوجيا ،هل يتم تطوير وتحديث المجتمع بشعارات الثورة ،هل يُقضى على الفقر والجهل والمديونية ببركات الثوار ودعواتهم ؟هل يُقضى على إسرائيل وأمريكا بمجرد تسيير المظاهرات المنددة بالصهيونية والامبريالية ؟.

إن عملية الهدم سهلة وقد يقوم بها ضابط مغمور في الجيش أو جموع هائجة وجائعة أو تكون بتحريض من قوى خارجية، ولكن عملية البناء هي الأساس وهي الحكم على نجاح الثورة . مرحلة البناء تحتاج إلى رجال مختلفين وعقلية مختلفة وأساليب عمل مختلفة .

ثالثا: في العالم العربي: (ثورات) لا تغيير أوضاعا

عرف العرب في تاريخهم الحديث مصطلح الثورة في بداية القرن العشرين حيث أطلق أسم (الثورة العربية الكبرى) على التحرك السياسي الذي قاده الشريف حسين والي مكة عام 1915 ضد الخلافة العثمانية وهي الثورة التي أجهضتها وتآمرت عليها بريطانيا حليفة الشريف حسين من خلال اتفاقات سايكس – بيكو 1916 ثم وعد بلفور 1917 و الاستعمار المباشر الذي اخذ اسم الانتداب. إن التجربة العربية مع الثورة ما بعد الاستقلال لم تكن موفقة كثيرا حتى أن قطاعات كبيرة من المجتمعات العربية شعرت بأنه غرر بها من طرف من قاموا بالثورات والانقلابات وباتت تحن لعهد الملكية لما كان يوفره من حرية واستقرار عير متوفرين في ظل أنظمة الثورة،وبات الجمهور يتساءل عن جدوى قيام الثورات ضد الأنظمة الملكية ما دامت أحوالهم لم تتغير كثيرا وما دام (الثوار) وورثتهم يفكرون بالتوريث لأبنائهم.

غالبية (الثورات) التي قام بها عسكريون كانت انقلابات فوقية لم تشارك الجماهير في حدوثها ولم تتحسن حياتهم كثيرا بعد قيامها.بعض المجتمعات العربية حكمها منذ الاستقلال حتى اليوم أنظمة حكم كلها جاءت عن طريق انقلابات أطلق عليها أسم الثورة ولم يتغير حال الشعب كثيرا إلا شكليا حيث يتم الانتقال أحيانا من النظام الملكي للنظام الجمهوري على مستوى المسمى والعلم والنشيد الوطني ،ويتم تحويل القصر الملكي لقصر رئاسي، وتحويل الحرس الملكي إلى حرس جمهوري،، ويتم إحلال نخبة بنخبة لا تقل فسادا عن سابقتها وإحلال أجهزة قمعية بأجهزة أكثر قمعا تحد من حرية الشعب باسم الثورة والمصلحة الوطنية ،المصلحة الوطنية كما يراها النظام وليس المصلحة الوطنية كما يراها الشعب .لم يشهد أي نظام من أنظمة الثورة تداولا على السلطة لا على مستوى الحزب الحاكم ولا على مستوى الرئيس وفي بعض الأنظمة تحول القائد الثوري إلى أكثر من ملك سواء على المستوى البروتوكولي أو على مستوى الترف والبذخ أو بالنسبة للرغبة بتوريث السلطة للأبناء.

لا يعني ما سبق التقليل من أهمية الهبات وحتى الانقلابات العسكرية أو تحميل الفكر العربي الثوري والقومي وزر مرحلة بكاملها . لا شك بوجود أمور إيجابية لبعض أنظمة الثورة والتقدمية وخصوصا ثورة يوليو 1952 في مصر، ولكن الخلل أن دعاة الثورة والثورية تعاملوا مع الثورة وكأنها حالة متواصلة غير مميزين ما بين الثورة كأداة ونهج لهدم أنظمة فاسدة من جانب ومرحلة البناء التي تحتاج إلى فكر وممارسات ليست بالضرورة هي فكر وممارسات مرحلة التهيئة للثورة والقيام بها من جانب آخر. الثورة مرحلة حيث لا يمكن أن يستمر شعب في حالة ثورة مستمرة ،المرحلة الأولى تتميز بدرجة عالية من العنف واستنفاذ الجهد الشعبي ورفع الشعارات الكبيرة لأنها وضع استثنائي لتحقيق غرض هو بالأساس إسقاط أو تغيير وضع قائم لا يرضى عنه الشعب ،هدفها الأساسي توظيف حالة التذمر الشعبي وحالة الكراهية والفقر والكبت التي تعاني منها الجماهير لتغيير وتدمير سبب شقاء الشعب أو من يعتبرهم قادة الثورة السبب ،الثورة في البداية تتعامل مع عواطف الجماهير أكثر مما تتعامل مع عقولهم ،ولكن لا يمكن للشعب أن يستمر في حالة ثورة مستمرة ، كل (الثورات )العربية نجحت في عملية الهدم لأنها عملية سهلة قد تقتصر على انقلاب عسكري أو اغتيال الملك أو الرئيس ثم يقال لقد نجحت الثورة -غالبية ما نسميها ثورات في مجتمعاتنا العربية هي في الحقيقة انقلابات أو مؤامرات عسكرية لان الشعب لا يعلم بـ (الثورة ) إلا بعد حدوث الانقلاب وتغيير نظام الحكم أو رأس النظام فقط وإذاعة البيان الأول عبر الراديو أو التلفزيون.

سواء كانت ثورة أو انتفاضة أو انقلابا فإنها في العالم العربي لم تكن واضحة من حيث حمولتها الطبقية باستثناء ثورة يوليو 52 في مصر التي رفعت شعارات القضاء على الإقطاع وأعادت الاعتبار لطبقة العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة ،الشعب يريد التغيير ولا شك ولكنه غير معني كثيرا بإيديولوجية قادة الثورة الانقلاب. إن شعبا جائعا فقيرا مهانا متخلفا لا يحتاج إلى كثير جهد حتى يَقذف نفسه في آتون الثورة إنه في حالة ثورة مستمرة حتى ضد نفسه ،وكم هم واهمون ومدعون أولئك الذين ينسبون إلى أنفسهم صفات الذكاء والعبقرية والقيادة الحكيمة لأنهم استطاعوا أن يصلوا إلى السلطة موظفين خطاب الثورة والتغيير ،إن من يدعون لأنفسهم فضيلة قيادة ثورة ما هم إلا الأكثر ديماغوجية والأكثر قدرة على التلاعب بعواطف جموع جاهلة فقيرة مقهورة ،لأن السؤال الذي يفرض نفسه ماذا بعد الفوضى والانقلاب المُسمى ثورة ؟ ماذا بعد إسقاط النظام القديم ؟ من يبني المجتمع الجديد سياسة واقتصادا وثقافة بشكل أفضل من المجتمع القديم ؟.

مع تحولات النظام الدولي بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، تعرض الفكر الثوري والحركات الثورية لنكسة، حيث أن الثورات التي شهدها العالم وخصوصا خلال القرن العشرين، كانت تحضا بدعم المعسكر الاشتراكي وحركة التحرر العالمية وكانت ترفع شعارات معادية للرأسمالية والإمبريالية ولكن الديمقراطية لم تكن هدفا لها أو على الأقل لم تكن على سلم اهتماماتها ونلاحظ ذلك من خلال تشكيل الإنقلابيون (الثوار ) مجلس عسكري للحكم يسمى مجلس قيادة الثورة يحتكر السلطة ومهمشا القوى السياسية الأخرى. مع انهيار المعسكر الاشتراكي وتسيد الولايات المتحدة على العالم أصبح ما تبقى من الحركات الثورية تعيش أزمة كبيرة، فمثلا الثورة الفلسطينية التي لم تستطع أن تنجز مشروعها التحرري في ظل الثنائية القطبية تتعرض اليوم لتحديات كبيرة وهي تواجه إسرائيل من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر. ومن جهة أخرى فإن تراجع الأيدلوجية الثورية الاشتراكية والقومية أفسح المجال لحركات ثورية بمحتوى ديني، وهذا حال حركة طالبان الأفغانية وتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن والثورة الإيرانية بقيادة الخميني نهاية السبعينيات، وحزب الله في لبنان وحماس وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين.بالرغم من أن البعض زعم بأن انهيار المعسكر الاشتراكي سيؤدي لنهاية الحركات الثورية وكل النظم المغايرة للرأسمالية، وهو ما وصفه فرانسيس فوكوياما صاحب هذا الطرح ب (نهاية التاريخ)، إلا أن منطق الأمور والطبيعة الإنسانية يؤكدا بأنه حيث يكون ظلم لا بد أن تكون ثورات وحروب بغض النظر عن المحتوى الإيديولوجي لهذه الثورات، وإن غابت الأسباب الأيديولوجية للثورة فستكون أسبابها اقتصادية أو قومية أو دينية.

إلى ما قبل الثورة التونسي والمصرية كانت جماعات الإسلام السياسي على رأس القوى المطالبة بالتغيير وهي جماعات وإن كانت تلتقي مع الثورة من حيث الرغبة في التغيير إلا أن غالبيتها تقوم على أيديولوجية لا تعترف بالآخر ولا تؤمن بالوطنية والمشروع الوطني ولا بالديمقراطية ، كما تستعمل أدوات عنيفة ودموية، أيضا تفتقر لرؤية حضارية وواقعية لما بعد هزيمة الأنظمة القائمة.ومع ذلك فقد نجحت بعض الحركات الإسلامية من إحداث ثورة متصالحة مع متطلبات الحضارة والحداثة كما جرى مع ثورة الخميني ضد سلطة الشاه في إيران،في المقابل فبعض هذه الحركات ما زالت تثير كثيرا من النقش حول جدواها للأمة وحتى للرسالة السماوية التي تدعي تمثيلها ،وهذا هو حال تنظيم القاعدة والجماعات الجهادية في أفغانستان وبعض الجماعات في العراق الجزائر والمغرب ومصر.

رابعا: الثورتان التونسية والمصرية تُسقطا تأليه السلطة وتردا الاعتبار للشعب

لأنهما لم تكونا بقيادة الجيش ولا بقيادة أي حزب سياسي ،فإن ما يجري في تونس ومصر يقتربان من مفهوم الثورة أكثر من كل حالات الحراك الجماهيري السابقة .استحضرت ثورة يناير في تونس ثم الثورة المصرية في نفس الشهر خطاب وفعل الثورة في العالم العربي إلا أن هذا الاستحضار جاء في زمن مغاير وظروف مختلفة عما كانت عليه خلال العقود الماضية.سابقا كان كل حديث عن الثورة وكل فعل ثوري موجها ضد الاستعمار أو ضد أنظمة رجعية يمينية أو دكتاتورية استبدادية لا تؤمن بالديمقراطية ولا تأخذ بها بجدية،أما اليوم فالتحركات الشعبية تطالب بالديمقراطية وتجري في مواجهة أنظمة تقول بالديمقراطية وتزعم بأنها تستمد شرعيتها من صناديق الانتخابات ،سابقا كانت نخبة سياسية أو عسكرية تقوم بتحريض الجماهير على الثورة أو تنب عن الشعب في مواجهة النظام القائم أما اليوم فالشعب يتحرك بعيدا عن الأحزاب التقليدية والتاريخية،بل تضع الثورة الأحزاب في حالة من الإرباك مما يدفعها للهث لركوب موجة الثورة و محاولة جني ثمارها لصالحها.

ما جرى ويجري في تونس ومصر من أحداث قد يدشن لمرحة ثورية جديدة وهي الثورة الديمقراطية ولكن في نفس الوقت يجب الحذر من أن تؤدي لحالة من الفوضى لا يعرف أحد مآلها.لأنها ثورة غير مسبوقة في العالم العربي ولأن الصورة لم تتضح بعد فيما يتعلق بمرحلة ما بعد خروج الناس |إلى الشارع وإسقاط رأس السلطة ،فإن الأمر يحتاج لدراسات متأنية ومعمقة مع التأكيد أن الثورة حتى في مرحلتها الأولى حققت هدفا مهما وهو كسر حاجز الخوف .لم تعد الجماهير تخاف أو تخشى النظام وأجهزته الأمنية التي كانت تثير الرعب في قلوب الناس ،وأن تحل ثقافة الثورة محل ثقافة الخوف يعد منعطفا تاريخيا في تاريخ الشعوب .

الثورة التونسية والمصرية أعادتا الاعتبار للوطن والوطنية وأحيتا مجددا الحديث عن المشروع الوطني في العالم العربي ،ليس فقط في الدول الخاضعة للاحتلال – فلسطين والعراق- بل في بقية الدول العربية التي يُفترض أنها انتقلت من مرحلة المشروع الوطني لمرحلة الدولة الوطنية،حيث المُلاحظ ان الدول العربية المستقلة لديها أزمة دولة وأزمة علاقة بين الدولة والمجتمع وبين السلطة والمجتمع وأزمة بين مكونات المجتمع الإثنية والطائفية،بمعنى أنها تعاني أزمة وجودية ،وهذا ما يتطلب عقدا اجتماعيا جديدا يؤسس لمشروع وطني جديد يقوم على أسس ديمقراطية،هذا المشروع الوطني الديمقراطي يحتاج لنخب جديدة وقوى سياسية جديدة نأمل أن يكون الشباب الذين خرجوا في ثورة عارمة في تونس ومصر نواة هذه النخبة.

خامسا : تجديد الثورة العربية على أسس ديمقراطية

ما جرى ويجري في تونس ومصر يمكن توصيفه بالظاهرة غير المسبوقة في التاريخ العربي الحديث من حيث حجم واتساع التحرك الشعبي وقوة المواجهة بين الشعب وأجهزة الأمن ، ما جرى فاق كل التوقعات ولا نعتقد أن أحدا يزعم بأنه كان يتوقع صيرورة الأمور إلى ما صارت إليه.ولأن الأمور سارت بهذه الوتيرة السريعة فإن غالبية التحليلات والتعليقات أتسمت بالانفعالية والعاطفة أكثر مما هي ناتجة عن دراسات معمقة ،وعليه فإنه من التسرع الحكم بان المشهد الذي جرى في تونس سيتكرر بنفس الشكل في بقية الدول العربية .

ما يجري في تونس ومصر هو نتيجة تراكم فشل الديمقراطية الأبوية والموجهة ،إنه حصاد الديمقراطية الشكلانية ، الديمقراطية الملهاة التي غطت على القضايا الحقيقية للأمة وحالت دون بناء الدولة والمجتمع والنظام على أسس المواطنة الصحيحة. ما يجري أزمة دولة ومجتمع وهو مؤشر على فقدان ثقة الشعب بالانتخابات كآلية للتغيير وفقدان ثقة الجماهير بالقوى والهياكل السياسية القائمة وقد يكون بداية مرحلة جديدة تقرر فيها الجماهير انتزاع حقها بيدها وهذا معناه العودة لنقطة الصفر،إلى مرحلة ما قبل مسرحية الانتخابات ،ولا نستبعد أن تفكر القوى التي فقدت ثقتها بالانتخابات وفشلت بولوج السلطة من بوابة الانتخابات بالبحث عن سبل أخرى كاللجوء للعنف أو الانقلابات العسكرية.

بقدر ما أثار التحرك الشعبي التونسي والمصري إعجاب غالبية الجماهير العربية المقهورة التي تعيش أوضاعا شبيهة نسبيا إلا أنها أيضا أثارت حفيظة أنظمة عربية وحكومات أجنبية وأصحاب مصالح يتخوفون من انتقال لهيب الثورة لبقية الشعوب العربية ،الأمر الذي دفع الحكومات لاستباق الآتي ببعض الإجراءات المعلنة كدعم السلع الأساسية وزيادة الأجور وتليين تعاملها مع المعارضة ،وغير المعلنة كوضع خطط أمنية وقائية من طرف أجهزة الأمن والمخابرات بتعاون مع دول أجنبية ولا نستبعد أيضا محاولة بعض القوى الخارجية والداخلية المتضررة من التغيير بحرف الثورة عن وجهتها وإغراقها في متاهات لا تحمد عقباها من خلال خلق حالة من الانفلات الأمني بحيث يطغى الهاجس الأمني على المطالب الحقيقية للثورة ويتدخل الجيش كمنقذ للشعب من الثورة .

أخيرا يجب التأكيد على أن الثورة فعل مركب ومعقد وسيكون من التبسيط للأمور إرجاعه لسبب واحد أو إعمال مبدأ القياس أو الإسقاط على ثورات أخرى ،صحيح إن الفقر والجوع والحد من حرية الرأي والتعبير شروط جوهرية تكمن وراء كل الثورات ولكن مجرد وجودها لا يؤدي تلقائيا لقيام ثورة شعبية ،وهنا يأتي دور الثقافة السياسية السائدة في المجتمع وموقع البلد ضمن شبكة المصالح الجيوستراتيجية الغربية.إن الجغرافيا السياسية والعوامل الخارجية تلعب دورا في اندلاع الثورات أو في توجيه تداعياتها ،فثورة تونس كانت وطنية خالصة وبالتالي لم تثر تخوفات دولية ،أما ثورة في مصر ذات الموقع الاستراتيجي المهم والدولة العربية الأكبر وذات العلاقة مع إسرائيل والمحاذية لقطاع غزة وقائدة محور الاعتدال العربي ... فستؤدي لتداعيات تتخطى حدود مصر وهذا ما يجعلنا قلقين على مجريات الأحداث في مصر.

[email protected]

www.palnation.org

المصدر

المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات