السبب الشرعي لوجوب صيام رمضان

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
السبب الشرعي لوجوب صيام رمضان

بقلم : الشيخ فيصل مولوي


تمهيد

بسم الله الرحمن الرحيم

السبب الشرعي لوجوب صيام رمضان

هل هو:

دخول الشهر أم رؤية الهلال

للمستشار الشيخ فيصل مولوي

تمهيد: الحاجة إلى دراسة هذه المسألة:

فرض الله تعالى صيام شهر رمضان على المسلمين في السنة الثانية للهجرة. وكان العرب قبل الإسلام يتعاملون بالتقويم القمري، وقد اعتمدوا الشهر الهلالي في مواقيتهم، وحين بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرّ هذا التقويم، ورتَّب عليه جملة من الأمور الشرعيّة، وأهمّها معرفة شهر رمضان والعيدين، وتحديد يوم عرفة. ولم يكن عِلم الحساب على قدر مهمّ من المعرفة، بل كان ملتبساً مع التنجيم، وكان المنجّم أحياناً يحسب سير النجوم -ومنها القمر- بشكل بدائي، وأحياناً يتحدّث عن تأثير النجوم على الأرض والإنسان بما يعتبر من أنواع الشرك. ولأنّ رمضان شهر أداء فريضة الصيام، كان من واجب المسلمين التأكد من بدايته ومن نهايته، حتّى لا يفطروا في أحد أيامه، أو لا يصوموا يوماً من شهر آخر. ولم تكن أمامهم وسيلة لمعرفة بداية الشهر ونهايته إلاّ رؤية الهلال، ولذلك فقد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإعتمادها فقال: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فاكملوا عدّة شعبان ثلاثين)[1]، وقال: (لا تصوموا حتّى تروا الهلال، ولا تفطروا حتّى تروه، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له)[2]. وقد إتفق الجمهور من العلماء على إعتبار الرؤية سبباً للصيام والإفطار، وإن تعذّرت كان إكمال العدة لشعبان أو رمضان.

ثمّ انتشر المسلمون في كلّ بلاد العالم، واتسع الإختلاف حول الرؤية، بحيث أصبحوا يختلفون حول بداية رمضان ونهايته، يوماً ويومين وأحياناً ثلاثة أيام. هذا في الوقت الذي تطورت فيه العلوم المعاصرة -ومنها علم الفلك والحساب- إلى حدّ بعيد جداً، مكّن الناس من الهبوط على سطح القمر، ومن حساب حركة القمر بالدقائق والثواني، بحيث يُعرف يقيناً زمن ولادته، مع هامش خطأ لا يتجاوز الجزء من الثانية، وأصبح إختلاف المسلمين في تحديد بداية رمضان ونهايته موضوع استغراب العالم، بل صار كثير من المسلمين يتساءلون: لماذا لا يعتمد الحساب الفلكي القطعي لحسم الخلاف؟ فيأتي الجواب يكرر ما قاله علماؤنا في إنكار العمل بالحساب لإثبات دخول رمضان، وعدم جواز الإعتماد إلاّ على الرؤية. وهذا ما جعل المسلم العادي يعجز عن التوفيق بين القول: إنّ الإسلام يشجّع العلم ويحثّ عليه ويأخذ به، وبين القول: انّه لا يجوز الإعتماد على الحساب في هذه المسألة. ولم يجد بعض العلماء جواباً على ذلك إلاّ إستحداث بدعة التمييز بين (الشهر الفلكي والشهر الشرعي)، وكأنّها محاولة لتأكيد رفض الشريعة الأخذ بنتائج العلوم اليقينية، ومحاولة تبرير ذلك أو تأصيله، وهو أمر خطير لا يصحّ قبوله بحال، لأنّه يؤكّد ما يتوهمه البعض من وجود التعارض بين الإسلام والعلم.

ومما زاد من أهميّة هذه المسألة وجود كثير من الأقليّات الإسلاميّة تعيش في بلاد غير إسلاميّة (ويقدّر عددها في هذه الأيام بمئات الملايين). وتريد الحكومات أو المؤسسات أوالشركات أن تعرف مواعيد الأعياد حتّى تسمح للمسلمين بالتعطيل عن العمل مراعاة لهم، فلا يستطيع المسلمون تحديد موعد العيد مسبقاً، مما يمنعهم من الإستفادة من العطلة المناسبة، ويزيد إستغراب الآخرين وتساؤلهم عن سبب تشّبث المسلمين بالرؤية بعد أن أصبح الحساب دقيقاً ومعروفاً لدى جميع الدوائر العلمية.

لقد حاول قليل من العلماء في الماضي التحدّث عن هذه المسألة، فتعرّضوا لحملة قاسية من الجمهور، ثمّ حاول بعض العلماء المعاصرين مرّة أخرى فتعرّضوا لمثل هذه الحملة، واضطر بعضهم للتراجع فتحدّثوا عن (الأخذ بالحساب بالنفي لا بالإثبات)، بمعنى أنّه لا يجوز إثبات دخول رمضان إلاّ برؤية الهلال، لكنّ الرؤية مشروطة بأن لا تعارض الحساب. كما تحدّث كثير من علماء الفلك المسلمين المعاصرين عن علم الحساب في مسألة إثبات الهلال، لكنّهم ربطوه (بإمكان رؤية القمر) التي قال بها جمهور الفقهاء السابقين، وهي مسألة لا تحلّ مشكلة أصلاً، لأنّ إمكان الرؤية يختلف بشكل واسع جداً، ولأسباب علميّة كثيرة يعرفها أهل هذا العلم. والسبب الذي دفع هؤلاء إلى تبّني الحساب مع إمكانيّة رؤية القمر، هو إتفاق جمهور العلماء قديماً وحديثاً أنّ السبب الشرعي لصيام رمضان عندهم هو رؤية الهلال.

لقد أردت بهذه الدراسة مناقشة هذه المسألة في ضوء الضوابط والقواعد الأصوليّة، مع علمي بأنّها ستثير موجة كبيرة من الإستغراب والإستنكار، وقد مضى عليّ سنوات طويلة وأنا أعمل الفكر في هذه المسألة، وأتردد في إعلان هذه الأفكار، لكنّي أخيراً عزمت على ذلك إلتزاماً بواجب (عدم الكتمان) الذي أعتقد أنّه يلزم أمثالنا مهما قلت درجة العلم عندهم، وما أردت بهذا إلاّ إعادة طرح الموضوع للبحث والمناقشة، لكن هذه المرّة من زاوية مختلفة لم أطّلع على أي بحث سابق فيها، وهي تمحيص السبب الشرعي لوجوب صيام رمضان؟ هل هو دخول الشهر، أم رؤية الهلال؟

[1] - متفق عليه.

[2] - متفق عليه.

الفصل الأول: المقدّمات

المقدمّة الأولى: هل هناك إجماع حول الحكم الشرعي في هذه المسألة؟

يذكر كثير من الفقهاء إجماع العلماء أو إتفاقهم على أنّ الحساب لا يجوز إعتماده في إثبات الهلال، وانّ الرؤية وحدها هي الطريق الشرعي لإثبات دخول رمضان، فإن تعذّرت فإكمال العدّة.

- ذكر الصنعاني[1] (قال الباجي في الرد على من قال: إنّه يجوز للحاسب والمنّجم وغيرهما الصوم والإفطار إعتماداً على النجوم، انّ إجماع السلف حجّة عليهم).

- ذكر إبن رشد[2]: (إنّ العلماء أجمعوا على أنّ الشهر العربي يكون تسعاً وعشرين، ويكون ثلاثين، وعلى أن الإعتبار في تحديد شهر رمضان إنّما هو الرؤية... واختلفوا في الحكم إذا غمّ الشهر). ويفهم من ذلك أن العمل بالحساب في زمن الصحو يخالف الإجماع، وإنّ إختلاف الفقهاء حول جواز إعتماد الحساب محصور في حالة الغيم فقط.

- وهذا ما صرَّح به شيخ الإسلام إبن تيمية[3]: (فإنّا نعلم بالإضطرار في دين الإسلام، انّ العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدّة أو الإيلاء، أو غير ذلك بخبر الحاسب، انّه يرى أو لا يرى، لا يجوز...، وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً، ولا خلاف حديث، إلاّ انّ بعض المتأخرين من المتفقّهة الحادثين بعد المائة الثالثة، زعموا أنّه إذا غمّ الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، وهذا القول وان كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب، فهو شاذ، مسبوق بالإجماع على خلافه، فأمّا إتباع ذلك في الصحو، أو تعليق عموم الحكم العام به، فما قاله مسلم).

- ذكر القرافي[4]: (قال سند من أصحابنا: فلو كان الإمام يرى الحساب، فأثبت الهلال به،لم يُتَّبع لإجماع السلف على خلافه...).

في مقابل ذلك يذكر غيرهم الخلاف حول هذه المسألة، رغم تأكيدهم أن الجمهور لا يجيز إعتماد الحساب في إثبات هلال رمضان سواء في الصحو أو في الغيم. وأكثر فقهاء الحديث يذكرون هذا الخلاف عند تفسير قوله صلى الله عليه وسلم (فاقدروا له)، من الحديث الصحيح المشهور (لا تصوموا حتّى تروا الهلال، ولا تفطروا حتّى تروه، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له)[5]، (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا، فإن غمّ عليكم فاقدروا له)[6] ويذكرون أقوال مُطرِّف بن عبد الله الشِّخير من التابعين، وأبي العباس بن سريج من الشافعية، وابن قتيبة، أمّا فقهاء المذاهب فيبحثون مسألة (جواز إعتماد الحساب في إثبات الأهلّة) بشكل عام وليس فقط في حالة الغيم.

- يذكر إبن عابدين[7] (انّ للمتأخرين ثلاثة أقوال نقلها الإمام الزاهدي في القنية:

الأول: ما قاله القاضي عبد الجبار وصاحب العلوم أنّه لا بأس بالإعتماد على قول المنجّمين.

الثاني: ما نقله عن إبن مقاتل، أنّه كان يسألهم ويعتمد على قولهم إذا إتفق عليه جماعة منهم.

الثالث: ما نقله عن شرح الإمام السرخسي أنّ الرجوع إلى قولهم عند الإشتباه بعيد، لحديث (من أتى كاهناً)، ونقل أيضاً قول شمس الأئمة الحلواني ومجد الأئمة الترجاني أنّه لا يؤخذ بقول المنجمين، وقول الدر المختار: (لا عبرة بقول الموقتين)، وقول البحر: (من يرجع إلى قولهم فقد خالف الشرع) وفي معراج الدراية (لا يعتبر قول المنجمين بالإجماع)، وقد ذكر إبن وهبان في منظومته الأقوال الثلاثة فقال: (وقول أولي التوقيت ليس بموجب، وقيل نعم، والبعض ان كان يكثر).

- ذكر النووي[8] خمسة أوجه في مسألة إعتماد الحساب في الصيام، أوّلها وأصحّها: لا يلزم الحاسب ولا المنجم ولا غيرهما بذلك، لكن يجوز لهما (الصيام) دون غيرهما، ولا يجزئهما عن فرضهما، الثاني: يجوز لهما ويجزئهما، الثالث: يجوز للحاسب ولا يجوز للمنجمّ، والرابع: يجوز لهما ويجوز لغيرهما تقليدهما، والخامس: يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنّجم.

- ومع أن الإمام السبكي الشافعي، مال إلى عدم وجوب الصيام وعدم جوازه بالإعتماد على الحساب[9] وانّه إذا دلّ الحساب على إمكان رؤيته ولم يُر، فإنَّ الشارع رتب الصيام على الرؤية وليس على إمكانها. رغم ذلك فهو يرى أنّه إذا دلّ الحساب على عدم إمكانية الرؤية، وشهد شاهدان أنّهما رأَيا الهلال، فإنّه يجب عدم قبول شهادتهما، لأنّ الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان.

- ذكر القرافي الخلاف في المسألة على قولين عند المالكية والشافعية، وانّ القول المشهور في المذهبين، عدم إعتماد الحساب، وإذا دلّ حساب تسيير الكواكب على خروج الهلال من الشعاع من جهة علم الهيئة لا يجب الصيام، بل رؤية الهلال خارجاً من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي.[10]

من هذه النقول- وهناك كثير غيرها- يتبيّن أنّه ليس في المسألة إجماع بالمعنى الأصولي الذي يصبح معه الحكم قطعيّاً لا تصحّ مخالفته، والإجماع عند جمهور الأصوليين لا ينعقد بمخالفة الواحد، فكيف إذا خالف فيه علماء كبار ابتداءً من عصر السلف الأول إلى عصرنا الحاضر؟ إنّ هذا الموضوع قابل إذاً للبحث والمناقشة والإجتهاد، خاصة بعد تطور علم الفلك في عصرنا إلى القدر العظيم من الدقة الذي نشاهده ونعيشه كل يوم.

المقدمّة الثانية: موقف الإسلام من العلم والحساب

من المعروف انّ الإسلام يرفع كثيراً من شأن العلم والعلماء، قال تعالى: ﴿يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات﴾[11]، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كلّ مسلم)[12]، فهو كالعبادة، يتقرّب به المسلم إلى ربه، وقد إتفق أكثر العلماء أنَّ الحد الأدنى من العلوم الشرعيّة الضروريّة، فرض عين على كلّ مسلم، أمّا العلوم الأخرى التي بها قوام الدنيا كالطب والحساب والفلك وغيرها، فهي فرض كفاية. وقد شنع الإمام الغزالي[13] على أهل بلدة ليس فيها طبيب، ثم يتهاتر أهلها على دراسة علوم الفقه، والبلد مشحون بالفقهاء. وقد استغرب الشيخ نديم الجسر[14] قول من يقول (أنّ العلم الذي حثّ على طلبه الإسلام هو في جوهره العلوم الدينية والشرعية وما يتعلّق بها وليس الفيزياء والكيمياء، وهو يرى أن الحث عام يشمل علم الدين الذي هو أعظم العلوم وأنفعها للمجتمع، ويشمل علم الطب، وكل علم ينفع الناس والمجتمع، واستدلّ على ذلك بقوله تعالى: ﴿ألم تر أنّ الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنّما يخشى الله من عباده العلماء﴾[15] فهل العلماء هنا علماء الشريعة والفقه، أم هم علماء الطبيعة العالمون بأسرار النواميس في الحياة والنبات والحيوان والمطر وطبقات الأرض؟) ويقول السيد رشيد رضا: (المراد بالعلماء هنا الذين يعلمون أسرار الكون، وأسباب اختلاف أجناسه وأنواعه وألوانه وآيات الله وحكمه فيها).[16]

وقد أطلق القرآن الكريم لفظ العلم على علوم الدين والدنيا:

- قال تعالى: ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم...﴾[17]

- وقال: ﴿أئتوني بكتاب من قبل هذا أو اثارة من علم إن كنتم صادقين﴾[18]

- وقال: ﴿يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا...﴾[19]

- وقال: ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير﴾[20]

وقد أمر الله تعالى الإنسان ان يبحث في أرجاء الكون حوله، ولفت نظره إلى كثير من الآيات، وطلب منه ان يفكّر فيها ليكتشف سننها ﴿قل انظروا ماذا في السموات والأرض...﴾[21] ﴿ويتفكرون في خلق السموات والأرض...﴾[22] وخصّ الشمس والقمر بالمزيد من التنبيه إليهما بإعتبارهما من أعظم آيات الله المسخرة لخدمة الإنسان ﴿والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره...﴾[23] ﴿ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر...﴾[24]. وكان من عجيب الإشارات القرآنية العلميّة ما ذكرته الآيات الكريمة من إنضباط في حركة الشمس والقمر بحساب دقيق ﴿فالق الإصباح، وجعل الليل سكناً، والشمس والقمر حسباناً...﴾[25] ﴿الشمس والقمر بحسبان...﴾[26] ﴿هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً، وقدّره منازل، لتعلموا عدد السنين والحساب...﴾[27] ﴿وجعلنا الليل والنهار آيتين، فمحونا آية الليل، وجعلنا آية النهار مبصرة، لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب...﴾[28] والحسبان: كلمة تدل على المبالغة كجوعان وشبعان، وهي تعني هنا الحساب الدقيق.

والآيتان الأخيرتان تشيران إلى أنّ الله تعالى قدّر ان يتحرّك القمر في منازل ليدفعنا إلى تعلّم حساب هذه المنازل، وجعل الليل والنهار آيتين تختصّ كل منهما بمزايا في خدمة الإنسان حتّى يتعلّم منهما حساب الليل والنهار، وعد الأشهر والسنين. وهذا يؤكّد أهميّة علوم الفلك وحساب حركة النجوم لتحقيق أكبر قدر من الإستفادة منها طالما ان الله تعالى سخرها لنا.

ورغم ان العلماء يعتبرون الأهلّة هي منازل القمر، وان الله تعالى جعلها وسيلة لتحديد المواقيت ﴿يسألونك عن الأهلّة، قل هي مواقيت للناس والحج...﴾[29]، ويعتبرون دراسة حركة القمر وحسابها من فروض الكفاية، لكنّ أكثرهم يرفض أن يستفيد من هذه العلوم في تحديد مواقيت الصيام والحج، ويصرّ على إعتبار الرؤية البصريّة هي الوسيلة الشرعيّة الوحيدة لذلك، ولو أوقعته بالخطأ، مع أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع...)[30]، وقال: (اللهم انفعني بما علّمتني، وعلمني ما ينفعني...)[31]، وقال: (لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتّى يسأل عن أربع...) وعدَّ منها: (عن علمه فيما فعل)[32]، وقد قال الله تعالى: ﴿وإنّه لذو علم لما علمّناه...﴾[33]، قال قتادة: يعني لذو علم بما علّمناه. وقد كتب الشاطبي فصلاً خاصاً بعنوان: (إنّما فضل العلم لكونه وسيلة إلى العمل)[34]، وقال فيه: (فالحاصل ان كل علم شرعي ليس مطلوباً إلاّ من جهة ما يتوسّل به إليه، وهو العمل. فكيف يصح للمسلم أن يطلب علم الحساب، والفقهاء يعتبرونه فرض كفاية، ثمّ لا ينتفع به ويعمل بخلافه؟

المقدمّة الثالثة: الحكم الشرعي التكليفي والوضعي

أ- يعرّف الأصوليون الحكم الشرعي بأنّه (خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين بالإقتضاء أو التخيير أو الوضع). و(خطاب الله تعالى) يُعرف من خلال القرآن الكريم أو السنّة المطهّرة أو ما دلّ عليه القرآن والسنّة. (المتعلّق بأفعال المكلّفين) أي الخطاب الذي يترتب عليه فعل من المسلم المكلّف. (بالإقتضاء) أي الطلب، سواء كان طلب فعل أو ترك، وسواء كان على سبيل الإلزام أو الترجيح.

(والتخيير) أي الإباحة، وهي التسوية بين فعل شيء وتركه، (والوضع) هو جعل أمر من الأمور سبباً لآخر، أو شرطاً له، أو مانعاً منه.

‌ب- بناءً على هذا التعريف، ينقسم الحكم الشرعي إلى قسمين:

- الحكم الشرعي التكليفي: وهو ما يقتضي طلب الفعل، أو الكف عنه، أو التخيير بين فعله وتركه، وهو يشمل الوجوب والإستحباب والإباحة والكراهة والتحريم، ومن أمثلة ذلك وجوب الصلاة، واستحباب الاغتسال يوم الجمعة، وإباحة بعض وسائل الترفيه، وكراهة السفر قبل صلاة الجمعة، وتحريم السرقة وغير ذلك مما هو معروف.

- الحكم الشرعي الوضعي: وهو ما يقتضي جعل شيء سبباً لشيء، أو شرطاً له، أو مانعاً منه، وهو بالتالي ليس فيه أي طلب من المكلّف بفعل أو ترك، بل هو بيان من الشارع مثل: اعتبار زوال الشمس سبباً لوجوب الصلاة، أو اعتبار السرقة سبباً لوجوب الحدّ، أو اعتبار النكاح سبباً لحلّ المعاشرة، أو اعتبار الوضوء شرطاً لصحّة الصلاة، أو اعتبار قتل الوارث لمورثه مانعاً من الإرث.

ج- كلمة حول السبب:

هذه الدراسة، تتناول تمحيص سبب وجوب الصيام، وهل هو دخول الشهر أم رؤية الهلال، لذلك لابدّ من كلمة مختصرة حول السبب كما يتحدّث عنه الأصوليون، فنقول:

السبب: (هو وصف ظاهر منضبط دلّ الدليل السمعي على كونه معرّفاً لحكم شرعي)[35]، فهو إذاً علامة على الحكم وجوداً أو عدماً، فإذا كانت بين هذه العلامة وبين الحكم مناسبة يدركها العقل، سُمِّي هذا السبب علّة. مثل: السفر سبب لإباحة الإفطار، فالسفر عادة مظنَّة للمشقّة، فيناسبه الترخيص للصائم بالإفطار، ولذلك يقال في هذا المثال: السفر سبب أو علّة لإباحة الإفطار. أمّا إذا لم تكن هناك مناسبة بين السبب والحكم يدركها العقل، فهو عند ذلك يُسمّى سبباً فقط. مثل غروب الشمس سبب لصلاة المغرب، أو دخول رمضان سبب للصيام.

ونحن نرجح اقتصار تسمية السبب على ما لم يكن بينه وبين الحكم مناسبة يدركها العقل، واعتبار النوع الأول من الأسباب التي يدرك العقل مناسبة بينها وبين الحكم علّة لذلك الحكم. وبذلك يتّضح الفرق بين السبب والعلّة.

[1] - سبل السلام (1/125).

[2] - بداية المجتهد (1/283).

[3] - الفتاوى لإبن تيمية (25/132).

[4] - الفروق للقرافي- الفرق الثاني والمائة (2/298).

[5] - متفق عليه.

[6] - رواه النسائي وابن ماجة.

[7] - رسائل ابن عابدين (1/246).

[8] - المجموع النووي (6/309).

[9] - فتاوى السبكي (1/208).

[10] - الفروق للقرافي (2/298).

[11] - سورة المجادلة :11

[12] - أخرجه ابن ماجه (1/224)، وحسّنه السيوطي لأنّه جمع له خمسين طريقاً.

[13] - إحياء علوم الدين للغزالي- كتاب العلم.

[14] - ركائز التفكير الإسلامي - الشيخ نديم الجسر- منشورات جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية - طرابلس-لبنان.

[15] - سورة فاطر: 27

[16] - تفسير السيد محمد رشيد رضا (11/248).

[17] - سورة الإسراء:36

[18] - سورة الأحقاف:4

[19] - سورة الروم:7

[20] - سورة الحج:8

[21] - سورة يونس:101.

[22] - سورة آل عمران:191.

[23] - سورة الأعراف:54.

[24] - سورة فصلت:37.

[25] - سورة الأنعام:96.

[26] - سورة الرحمن:5.

[27] - سورة يونس:5.

[28] - سورة الإسراء: 12.

[29] - سورة البقرة: 189.

[30] - رواه مسلم عن أبي هريرة.

[31] - رواه الترمذي، وقال حسن غريب والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.

[32] - أخرجه الترمذي، وقال حديث صحيح.

[33] - سورة يوسف: 68

[34] - الموافقات للشاطبي- الجزء الأول - المقدمة السابعة.

[35]- الاحكام في أصول الأحكام (1/98)، إرشاد الفحول للشوكاني (ص6)،

البحر المحيط للزركشي (1/306)

الفصل الثاني: الحكم الشرعي التكليفي، وجوب صيام رمضان

1- الحكم الشرعي التكليفي هو وجوب صيام الشهر كلّه.

القرآن الكريم يتحدّث عن صيام الشهر.

قال الله تعالى: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه ...﴾[1]، ورأى جمهور المفسّرين أنّ الصيام واجب على كلّ مسلم دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم غير معذور. وشهد هنا بمعنى حضر ولا علاقة لها برؤية الهلال. جاء في (لسان العرب)[2] فمن شهد منكم الشهر، أي كان حاضراً غير غائب في سفر.

والرسول صلى الله عليه وسلّم في الكثير من أحاديثه الصحيحة تحدّث عن صيام شهر رمضان.

فعدّ من أركان الإسلام الخمس (صوم رمضان). وقد أجاب الأعرابي الذي سأله عن عمل يدخله الجنّة (تعبد الله.... وتصوم رمضان)، وأجاب الرجل النجدي الذي سأله عن الإسلام، فذكر له الصلوات الخمس وأضاف (وصيام رمضان)، قال: هل عليّ غيره؟ قال: لا إلاّ أن تطوع. هذه أحاديث متفق عليها، وغيرها كثير جداً حفلت بها كلّ كتب السنّة من الصحيحين، والسنن الأربعة، ومسند أحمد، وموطأ مالك وغيرها حتّى بلغت حد التواتر المعنوي، لذلك فقد أجمع المسلمون من جميع المذاهب، وفي مختلف العصور على وجوب صيام رمضان،لم يشذ عن ذلك أحد، بل واتفق علماؤهم على ردّة كل من ينكر وجوب صيام رمضان، لأنّه لا معنى لذلك إلاّ التكذيب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلّم.

2- شهر رمضان هو الشهر التاسع من أشهر السنة القمريّة، ومن المعروف أنّ العرب كانوا يتعاملون وفق التقويم القمري، وقد أقرّ الإسلام ذلك بقوله تعالى: ﴿يسألونك عن الأهلّة، قل هي مواقيت للناس والحج...﴾[3]،وجاء النص واضحاً في ربط فريضة الصيام بشهر رمضان، وفي ربط فريضة الحج بالأشهر القمرية (شوال- ذو القعدة- ذو الحجّة) لقوله تعالى: ﴿الحج أشهر معلومات،...﴾[4]، واعتبر العلماء الحول المشترط لإستحقاق الزكاة سنة قمريّة، إستناداً إلى سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعمل الصحابة.

أمّا الصلاة وهي خمس مرّات في اليوم والليلة، فقد ارتبطت بحركة الشمس اليومية لأنّها ظاهرة لجميع الناس، وربط أوقات الصلاة بها ميسور للعالم والجاهل. أمّا حركة القمر في اليوم فلا يمكن ربط أوقات الصلاة بها، لأنّ القمر لا يُرى عادة في النهار.

3- عندما فرض الله على المسلمين الصيام في شهر رمضان، فهموا أنّ المقصود هو الشهر الذي يعرفونه، ويتعاملون به في مواقيتهم، ولم يخطر على بال أحد منهم أنّ الله تعالى جعل حدوداً مختلفة لهذا الشهر تجعله مختلفاً عن الشهر الفلكي الناتج عن حركة القمر حول الأرض. فقد كان العرب يعرفون هذه الحركة، ويشاهدون إنتقال القمر يوميّاً من منزلة إلى أخرى، ويسمّون كل منزلة بإسمها، وقد أحصوا منازل القمر بثمانية وعشرين منزلة، باعتبار أنّ اليوم التاسع والعشرين هو يوم الدخول في المحاق والخروج منه.

وقد أشار الله تعالى إلى إنضباط حركة القمر حول الأرض فقال: ﴿...والقمر قدرناه منازل حتّى عاد كالعرجون القديم﴾[5]﴿هو الذي جعل الشمس ضياءً، والقمر نوراً، وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب﴾[6]. فالشهر القمري يبدأ بخروج القمر من المحاق، والمحاق يشير إلى الوقت الذي يكون فيه القمر بين الأرض والشمس على الخط نفسه، فلا يظهر منه شيء لأهل الأرض، حتّى إذا خرج من هذا الخط أمكن ظهوره لأهل الأرض، لأنّ جزء يسيراً منه يتلّقى أشعة الشمس ويعكسها على الأرض، على شكل خط رفيع يسمّى الهلال، ثمّ يكبر هذا الجزء كلّما ابتعد عن خط المحاق، وينتقل كلّ يوم من منزلة إلى أخرى، حتّى إذا مضت سبعة أيام صار على شكل نصف دائرة، وفي اليوم الخامس عشر تتوسط الأرض تماماً بين الشمس والقمر، فيظهر القمر على شكل دائرة كاملة هي (البدر)، ثمّ تبدأ الدائرة بالتناقص تدريجيّاً حتّى يعود القمر هلالاً كما بدأ، ثمّ يدخل في المحاق من جديد، وينتهي بذلك الشهر القمري، ليبدأ شهر جديد عند خروج القمر من المحاق مرّة أخرى.

4- هذه الحركة الدوريّة للقمر حول الأرض كانت معروفة عند المسلمين، وكانوا يتتبعونها بالحساب، لكنّ العلوم عندهم لم تكن قد وصلت إلى درجة كافية من الضبط، وكان الذين يشتغلون بهذا العلم قلّة نادرة، ولم تكن هناك وسائل إعلام تنقل نتائج حساباتهم للناس. ثمّ إنّ علماء الفلك هؤلاء اختلطوا بالمنجمين، وهناك فارق كبير بينهما. فالمنجّم هو الذي يزعم معرفة حظوظ الناس ومستقبلهم ومصيرهم بحسب مواقع النجوم عند ولادتهم، وهو الذي ينظر في النجوم ويحسب حركتها فيتوّهم من خلالها معرفة أحوال الناس والعالم، وهو يعتقد أنّ النجوم وحركتها توثّر في سلوك الناس وأعمالهم وحياتهم. فالتنجيم يستغلّ العلم لإدّعاء الغيب، وهو يناقض عقيدة التوحيد. أمّا الفلكي فهو يدرس قوانين حركة الأجرام السماوية ويجري القياسات والاختبارات والحسابات المتعلّقة بها، وهو علم واسع جداً يستغرق الطلاب في الجامعات أكثر من عشرة أعوام في دراسته، لأنّه يشمل دراسة (القياس الفلكي-Astrometry) (والميكانيك السماوي Celestial mechanics) (والفيزياء الفلكية Astrophysics) (وفيزياء الفضاء Space physics) (والبصريات الفضائية Space Optics) (وعلوم القمر Selenology) (والأرصاد الجوية Meteorology) (والاتصالات الفضائية Space communication) ومواضيع أخرى كثيرة، بينما المنجّم لا يحتاج إلا إلى شهور قليلة لإتقان مهنته القائمة على الشعوذة وعلى علم بدائي بحركة النجوم، مع الخوض في الغيب بما لم يأذن به الله. لذلك وردت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن التنجيم (من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد)[7]. (من صدّق كاهناً أو عرّافاً أو منجّماً، فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم)[8]. وقد يكون هذا الإلتباس بين علم الحساب وبين التنجيم أحد أسباب رفض كثير من العلماء إعتماد الحساب في إثبات الهلال، خاصة وأنّ أكثر هؤلاء يستخدم عبارة التنجيم والمنّجم بدل عبارة الحساب والحاسب. وقدّ ردَّ الإمام السرخسي جواز إعتماد الحساب بحديث: (من أتى كاهناً أو منجّماً، فقد كفر بما أنزل على محمد)، وقال الحلواني: (لا يؤخذ بقول المنجمّين)، وقال الترجاني: (لا إعتماد على قول المنجّمين)، وقال الشيخ خليل: (لا يثبت - أي الهلال - بقول المنجّم)، ويقول إبن حجر: (لا يجب الصوم بقول منجّم)[9]، وقال ابن بزيزة: (نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنّها حدس وتخمين، ليس فيها قطع ولا ظن غالب، ومع أنّه لو ارتبط الأمر بها لضاق، إذ لا يعرفها إلاّ القليل)[10]. فكلّ هؤلاء رفضوا اعتماد الحساب لمعرفة دخول رمضان لإختلاطه عندهم مع التنجيم المنهي عنه.

5- والشهر القمري المعروف عند الناس منذ القديم يكون 29يوماً أو30يوماً. وقدّ أكّد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك في الحديث الصحيح: (إنّا أمّة أميّة، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين)[11]، ولم يفرض عليهم الصيام أياماً محددة، بل أمرهم أن يعودوا إلى الشهر، فإن ثبت لهم أنّه تسع وعشرون يوماً إلتزموا به، وإن غمّ عليهم أكملوا العدة ثلاثين. مما يعني بوضوح أنّ المطلوب منهم الإلتزام بالشهر كما تكون حقيقته.

6- لكن الإشكال الذي وقع فيه المسلمون هو معرفة بداية الشهر ونهايته، ولماّلم يكن علم الحساب متقّدماً بالشكل الكافي لمعرفة ذلك، فقد أرشدهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الطريقة الوحيدة الممكنة والميسورة في عصره، وهي رؤية الهلال بعد ولادته، لأنّها هي التي تؤكّد لهم دخول الشهر، وعلَّل ذلك بأنّا: (أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب) أي لا توجد عندنا طريقة أخرى لمعرفة ولادة الهلال.

لقد كانت الرؤية البصريّة هي الوسيلة التي تُوصل إلى أكبر قدر من اليقين بدخول شهر رمضان، فأمرهم بها، ونهاهم عن الوسائل الأخرى فقال: (لا تصوموا حتّى تروه، ولا تفطروا حتّى تروه، فإن غمّ عليكم، فاقدروا له)[12]، (صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته...)[13]، (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا)[14]. ومن هنا فهم كثير من العلماء أنّ (الرؤية هي سبب الصيام)، فقوله صلى الله عليه وسلّم: (صوموا لرؤيته)، كقوله تعالى: ﴿أقم الصلاة لدلوك الشمس﴾ فالدلوك هو سبب الصلاة، والرؤية هي سبب الصيام. والمنع من الصيام إذا لم يروا الهلال يعني منع استعمال أي وسيلة أخرى، وهو ما يؤكّد في نظرهم أنّ الرؤية هي السبب الشرعي.

7- هذا الإشكال الذي وقع فيه المسلمون حول معرفة بداية شهر رمضان ونهايته، ينقلنا إلى دراسة الحُكم الشرعي الوضعي المتعلّق برمضان، وهو معرفة السبب الشرعي للصيام، هل هو دخول الشهر أم رؤية الهلال؟

[1] - سورة البقرة: 185.

[2] - لسان العرب لأبن منظور.

[3] - سورة البقرة: 198.

[4] - سورة البقرة: 197.

[5] - سورة يس: 39.

[6] - سورة يونس:5.

[7] - أخرجه أبو داوود من حديث ابن عبّاس وصححّه النووي في رياض الصالحين

[8] - أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة، وجميع اصحاب السنن، والحاكم في المستدرك (1/8)، كما صححّه العراقي في فيض القدير (6/23/ المكتبة التجارية).

[9] - جميع هذه الأقوال ذكرها ابن عابدين في رسائله (1/249).

[10] - فتح الباري: (4/102).

[11] - رواه البخاري عن ابن عمر.

[12] - رواه مسلم.

[13] - متفق عليه.

[14] - رواه البخاري عن ابن عمر.

الفصل الثالث: الحكم الشرعي الوضعي ما هو السبب الشرعي لوجوب الصيام؟

الفصل الثالث: الحكم الشرعي الوضعي

ما هو السبب الشرعي لوجوب الصيام؟

المبحث الأول: القائلون أنّ السبب هو رؤية الهلال:

1- يرى جمهور الفقهاء والمذاهب أنّ السبب الشرعي لوجوب الصيام هو رؤية الهلال أو إكمال العدّة. بعضهم يصرّح بذلك، وأكثرهم يؤكّد أنّ الصيام في نظرهم لا يجب إلاّ بالرؤية:

- فعند الأحناف المعتمد (أنّ شرط وجوب الصوم والإفطار رؤية الهلال، وأنّه لا عبرة بقول المنجّمين ولو عدولاً، ومن رجع إلى قولهم فقد خالف الشرع)[1]. وهذا يفهم منه أنّ السبب في نظرهم هو الرؤية.

- والراجح عند المالكية أنّ (رؤية الهلال خارجاً من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي، فلا يثبت الحكم...)، (ولو كان الإمام يرى الحساب فأثبت الهلال به، لم يتبع لإجماع السلف على خلافه)[2].

- والمشهور عند الشافعية أنّه (لا يجب صوم رمضان إلاّ بدخوله، ويعلم دخوله برؤية الهلال، فإن غمّ، وجب إستكمال شعبان ثلاثين)[3]، وفي هذا الحصر نفي لإعتماد الحساب، وقد صرح كثير من الشافعيّة برفضه لأنّه حدس وتخمين، رغم إعتباره في أوقات الصلوات.

- والحنابلة لا يتعبرون الحساب الفلكي في إثبات رمضان ولو كثرت حسابته[4].

2- ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أنّ (الطريق إلى معرفة طلوع الهلال، هو الرؤية لا غيرها)، وأنّ توقيت الشهر والسنة يكون بالهلال، (وأنّه ليس شيئ يقوم مقام الهلال البتة، لظهوره وظهور العدد المبني عليه، وتيسر ذلك وعمومه)، وأنّ (المواقيت كلّها معلّقة بالهلال)، وأنّه (ليس للمواقيت حد ظاهر عام للمعرفة إلاّ الهلال)، وأنّ الله تعالى جعل (الأهلّة مواقيت للناس في الأحكام الثابتة بالشرع إبتداءً، أو سبباً في العبادة). ولذلك يرى ابن تيمية أنّ (العمل في رؤية الهلال بخبر الحاسب لا يجوز)، و(أنّ المسلمين أجمعوا على ذلك، ولم يخالف فيه إلاّ بعض المتأخرين من المتفقهة بعد المائة الثالثة، وقولهم مقيّد بحالة الإغمام، ومختص بالحاسب دون غيره، وهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه. فأمّا إتباع ذلك في الصحو، أو تعليق عموم الحكم به فما قاله مسلم)[5].

3- يقول ابن حجر في شرحه لحديث (إنّا أمّة أميّة، لا نكتب ولا نحسب ...) :(المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولو لم يكونوا يعرفون من ذلك إلاّ النذر اليسير، فعلّق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية، لدفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير، واستمرّ الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يُشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً. ويوضحه الحديث - فإن غمّ عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين- ولم يقل فسألوا أهل الحساب)[6].

4- يقول السبكي[7] في تعليقه على حديث (إنّا أمّة أميّة، لا نكتب ولا نحسب ...) :(وقد تأملّت هذا الحديث فوجدت معناه إلغاء ما يقوله أهل الهيئة والحساب، من أنّ الشهر عندهم عبارة عن مفارقة الهلال شعاع الشمس، فهو أول الشهر عندهم، ويبقى الشهر إلى أن يجتمع معها ويفارقها، فالشهر عندهم ما بين ذلك، وهذا باطل في الشرع قطعاً لا اعتبار فيه ... فالشهر في الشرع ما بين الهلالين، ويدرك ذلك إمّا برؤية الهلال، أو بإكمال العدّة ثلاثين). ثم ذكر السبكي حالة (ما إذا دلّ الحساب على مفارقة الشعاع، ومضت عليه مدّة يمكن أن يرى فيها عند الغروب، فقد اختلف العلماء في جواز الصوم بذلك للحاسب ولغيره، فمنهم من قال بالجواز وهم علماء كبار، وحجّتهم أنّ المقصود وجود الهلال وإمكان رؤيته، لكن الصحيح عند السبكي عدم الجواز). وهو يرى أنّ (ترتيب الحكم للشارع، وقد رتّبه على الرؤية)، فالسبب عنده هو (نفس الرؤية أو إكمال العدّة)، وليس مجرّد إمكان الرؤية.

5- أمّا القرافي فهو يقول: (إنّ حساب الأهلّة والكسوفات والخسوفات قطعي، فإنّ الله تعالى أجرى عادته بأنّ حركات الأفلاك وإنتقالات الكواكب السبعة السيارة، على نظام واحد طول الدهر بتقدير العزيز العليم، قال الله تعالى: ﴿والقمر قدرّناه منازل حتّى عاد كالعرجون القديم﴾[8]، وقال تعالى: ﴿الشمس والقمر بحسبان﴾[9] أي هما ذوا حساب، فلا ينخرم ذلك أبداً، وكذلك الفصول الأربعة لا تنخرم، والعوائد إذا استمرّت أفادت القطع، وإذا حصل القطع بالحساب ينبغي أن يعتمد عليه كأوقات الصلاة، فإنّه لا غاية بعد حصول القطع). ورغم هذا البيان الواضح الذي يؤدّي بالضرورة إلى اعتماد الحساب لمعرفة بداية الشهر ونهايته، إلاّ أنّ القرافي عاد إلى رأي الجمهور، وعلل ذلك بالفرق بين اعتماد الحساب لمعرفة مواقيت الصلاة، واعتماده في تحديد بداية الصيام، قال: (والفرق، وهو المطلوب هنا، وهو عدّة السلف والخلف، انّ الله تعالى نصب زوال الشمس سبب وجوب الظهر، وكذلك بقية الأوقات لقوله تعالى: ﴿أقم الصلاة لدلوك الشمس﴾[10] - أي لأجله -، فالآية دالة على إيقاع الصلاة في هذا الوقت، ومثله الأوقات الأخرى، والسنّة دالة على أنّ نفس الوقت سبب، فمن علم السبب بأي طريقة كان لزمه حكمه. فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع في أوقات الصلوات. وأمّا الأهلّة فلم ينصب صاحب الشرع خروجها من الشعاع سبباً للصوم، بل رؤية الهلال خارجاً من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي، فلا يثبت الحكم. ويدلّ على أنّ صاحب الشرع لم ينصب نفس خروج الهلال عن شعاع الشمس سبباً للصوم، قوله صلى الله عليه وسلّم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)، ولم يقل لخروجه عن شعاع الشمس)[11].

6- والذي يخفف من تشدد السبكي في رأيه هذا، هو قبوله الحساب القطعي في النفي وليس في الإثبات، فإذا جزم الحساب بعدم وجود الهلال أصلاً، أو إذا جزم بعدم إمكان رؤيته رغم وجوده، ثم شهد الشهود أنّهم رأوه، فإنّ شهادتهم ترد، لأنّ الحساب قطعي والشهادة ظنيّة. ونصّ قوله: (وها هنا صورة أخرى، وهو أن يدلّ الحساب على عدم إمكانية رؤيته ... ففي هذه الحالة لا يمكن فرض رؤيتنا له حساً لأنّه يستحيل، فلو أخبرنا به مُخبر واحد أو أكثر ممن يحتمل خبره الكذب أو الغلط، فالذي يتجّه عدم قبول هذا الخبر، وحمله على الكذب أو الغلط، ولو شهد به شاهدان لم تقبل شهادتهما، لأنّ الحساب قطعي، والشهادة والخبر ظنيّان، والظن لا يعارض القطع، فضلاً عن أن يقدّم عليه. والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكناً حساً وعقلاً وشرعاً، فإذا فرض دلالة الحساب عقلاً على عدم الإمكان، استحال القبول شرعاً لإستحالة المشهود به، والشرع لا يأتي بالمستحيلات ... وتجويز الكذب أو الغلط على الشاهدين أولى من تجويز انخرام العادة)[12].

ورغم وضوح هذا الكلام وقوّة حجّته إلاّ أنّ كثيراً من العلماء لا يأخذون به رغم وضوح صحّته، ويفضّلون قبول شهادة شاهدين على رؤية الهلال، ولو كانت كلّ الحسابات العلميّة تؤكّد عدم ولادة الهلال أصلاً، أو عدم إمكان رؤيته.

المبحث الثاني: القائلون أنّ السبب هو إمكان رؤية الهلال:

تحدّث بعض الفقهاء أنّ السبب الشرعي لوجوب الصيام هو (وجود الهلال وإمكان رؤيته) وليس رؤيته حقيقة، وأنا أنقل الأقوال التي اطلعت عليها:

- قال القشيري: ( إذا دلّ الحساب على أنّ الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى، لولا وجود المانع كالغيم مثلاً، فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي. وليس حقيقة الرؤية مشروطة في اللزوم، فإنّ الإتفاق على أنّ المحبوس في المطمورة إذا علم بإتمام العدّة أو بالإجتهاد أنّ اليوم من رمضان وجب عليه الصوم)[13].

- يرى السيد رشيد رضا أنّ الشارع حدّد أوقاتاً للعبادات، ووضع لها علامات ترشدنا إليها، لكن (غرض الشارع من ذلك العلم بهذه الأوقات، لا التعبّد برؤية الهلال، ولا بتبيين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ولا التعبّد برؤية ظل الزوال وقت الظهر ...، فغرض الشارع في مواقيت العبادة معرفتها، وما ذكره من نوط إثبات الشهر برؤية الهلال أو إكمال العدّة قد علّله بكون الأمّة في عهده كانت أميّة، ومن مقاصد بعثته إخراجها من الأميّة لا إبقاؤها فيها، قال تعالى: ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزّكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة...﴾[14] وبناءً على ذلك، يرى السيد رشيد رضا امام المسلمين طريقتين: (إمّا العمل بظواهر نصوص الشرع وعمل النبي وأصحابه في الصدر الأول في مواقيت الصلاة والصيام والحج، من رؤية الفجر والظل والغروب والشفق والهلال عند الإمكان، وبالتقدير أو رؤية العلامات عند عدم الإمكان، وفي هذه الحالة لا يجوز لمؤذن الفجر أن يؤذّن إلاّ إذا رأى ضوءه معترضاً في جهة المشرق.. إلخ, وإمّا أن تعمل بالحساب والمراصد عند ثبوت إفادتها بالعلم القطعي بهذه المواقيت، ولو مع المحافظة على الإستهلال ورؤية الهلال في حال عدم المانع من رؤيته، للجمع بين ظاهر النص والمراد منه... وفي غير حالة الصحو وعدم المانع من رؤية الهلال، يكون إثبات الشهر بإكمال العدّة ثلاثين ظنيّاً أو دون الظني، ومن قواعد الشريعة أنّ العلم يُقدّم على الظن). ويرى السيد رشيد رضا أنّ الحساب اليوم يفيد (العلم القطعي بوجود الهلال وإمكان رؤيته)، وهو أصح من إثبات الشهر بإكمال عدّة شعبان ثلاثين يوماً، وإنّ الذين لم يبيحوا العمل بالحساب قد علّلوه بأنّه ظن وتخمين لا يفيد علماً ولا ظناً.[15]

- حكى ابن سريج عن الشافعي أنّه قال: (من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر، ثم تبيّن له من جهة الاستدلال أنّ الهلال مرئي وقد غمّ، فإنّ له أن يعقد الصوم ويجزيه)[16]، ومعنى ذلك أنّ وجود الهلال وإمكان رؤيته هو السبب الشرعي لوجوب الصيام، لأنّه لو صام بناء على ذلك أجزأه الصيام.

- ذكر الإمام السبكي حالة ما إذا دلّ الحساب على أنّ الهلال (فارق الشعاع، ومضت عليه مدّة يمكن أن يرى فيها عند الغروب، فقد اختلف العلماء في جواز الصوم بذلك وفي (وجوبه) وذكر أنّ القول الثاني هو الجواز، ومعناه أنّ المقصود عندهم (وجود الهلال وإمكان رؤيته)، وانّ هذا القول قاله كبار من العلماء، ولم يذكر أسماء هؤلاء الكبار، لكنّه رجح القول الأول، وهو عدم الوجوب وعدم الجواز، لأنّ الشارع رتب الحكم على الرؤية. ولخّص السبكي الخلاف في مسألة ما إذا دلّ الحساب على إمكان الرؤية ولم ير بقولين، الأول: أنّ السبب هو نفس الرؤية وإكمال العدّة، والثاني: أنّ السبب هو إمكان الرؤية. واعتبر القول الأول هو الأصح.[17]

المبحث الثالث: القائلون أنّ دخول رمضان هو سبب الوجوب:

أجمع الفقهاء قديماً وحديثاً أنّ الواجب على المسلم صوم شهر رمضان كاملاً من أوّله إلى آخره، وعلى حرمة صيام يوم الفطر -وهو الأول من شوّال- لحديث أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن صوم يومين: (يوم الفطر ويوم النحر)[18]، وصرّح كثير منهم بكراهة صيام يوم الشكّ - وهو الثلاثون من شعبان- للحديث المشهور: (من صام اليوم الذي يُشكّ فيه فقد عصا أبا القاسم صلى الله عليه وسلّم)[19]. وقد صح في الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا قبل رمضان...) وأمرهم أن لا يفطروا آخر رمضان إلاّ إذا رأو الهلال أو أكملوا الثلاثين[20].

وهذا يعني أنّ سبب الوجوب هو دخول رمضان، لكن لم أجد من صرّح بذلك من الفقهاء إلاّ القليل، وسبب ذلك هو كثرة الأحاديث الصحيحة التي تبيّن أنّ رؤية الهلال هي التي تعلمنا بدخول الشهر، وتأمر بالصيام عند حصولها، وبعضها يمنع الإعتماد على أية وسيلة أخرى، ، حتّى صرّح الكثير منهم أنّ الصيام معلّق على الرؤية، أو بعضهم صرّح كما مرّ سابقاً أنّ الرؤية هي السبب الشرعي لوجوب الصيام، أو اكتفى بإمكان الرؤية سبباً للصيام. وسأذكر في هذا المبحث الأقوال التي اطلعّت عليها والتي تذكر أنّ سبب الوجوب هو دخول رمضان، وبالتالي فإنّ الرؤية هي مجرّد وسيلة لمعرفة السبب:

- ذكر الإمام النووي أنّه (لا يجب صوم رمضان إلاّ بدخوله، ويعلم بدخوله برؤية الهلال، فإن غمّ وجب إستكمال شعبان ثلاثين)[21]، ومعنى ذلك أنّ دخول رمضان هو سبب وجوب الصيام، وأنّ رؤية الهلال هي وسيلة العلم بدخوله.

- ذكر السيد رشيد رضا أنّ غرض الشارع من تحديد الهلال كوسيلة لإثبات أول شهر رمضان وأول شهر شوال هو (العلم بهذه الأوقات، وليس التعبّد برؤية الهلال... وما ذكره صلى الله عليه وسلم من نوط إثبات الشهر برؤية الهلال أو اكمال العدّة بشرطه، قد عللّه بكون الأمّة في عهده كانت أميّة، ومن مقاصد بعثته إخراجها من الأميّة لا إبقاؤها فيها ...)[22]، ويُفهم من ذلك أنّ سبب وجوب الصيام دخول الشهر، وإنّ رؤية الهلال هي وسيلة لذلك، وانّها كانت معلّلة، ويمكن استبدالها بوسيلة أخرى إذا تغيّرت العلّة، أو وجدت وسيلة أخرى أكثر يقيناً بتحقق السبب.

- ويفهم أيضاً عن أمير المؤمنين علي أبي طالب رضي الله عنه، أنّ سبب وجوب الصيام هو دخول رمضان وليس رؤية الهلال، وذلك من خلال ما ورد عنه في مسند زيد بن علي زين العابدين أنّ قوماً جاؤوا عليّاً فشهدوا أنّهم صاموا لرؤية الهلال، وأنّهم قد أتّموا ثلاثين، فقال عليّ: (إنّا لم نصم إلاّ ثمانية وعشرين يوماً، فدعا بهم، ودعا المصحف فأشهدهم بالله وبما فيه من القرآن العظيم ما كذبوا، ثمّ أمر الناس فأفطروا، وأمرهم بقضاء يوم...). وقد ورد مثل ذلك عن الوليد بن عتبة الليثي، قال: (صمنا مع علي ثمانية وعشرين يوماً، فأمرنا يوم الفطر أن نقضي يوماً)[23]، ويعنى ذلك أنّ سبب وجوب الصيام عنده هو دخول الشهر، لأنّه اعتبر أنّ اليوم الذي أفطر فيه باعتباره من شعبان، هو في الحقيقة الأول من رمضان، وإن لم يثبت له ذلك عن طريق الوسيلة الشرعية المعتمدة: رؤية الهلال أو إكمال العدّة.

- وقد ذكر الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله، في معرض بحثه عن (السبب) أنّ: (الشهر هو إمارة على وجوب الصوم)[24].

- كما ذكر الشيخ عبد الله الجديع[25] من أمثلة ما جعلته الشريعة سبباً: (دخول الشهر لوجوب صوم رمضان) أخذاً من قوله تعالى ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه ...﴾[26].

- وقد ذكر الدكتور عبد الكريم زيدان من أمثلة السبب الشرعي (دلوك الشمس لوجوب الصلاة، وشهر رمضان لوجوب الصيام)[27].

المبحث الرابع: إبطال القول بأنّ الرؤية أو إمكان الرؤية أو إكمال العدّة هي السبب الشرعي للصيام.

أولاً: إنّ تحديد السبب الشرعي للصيام ينحصر بين دخول الشهر أو رؤية الهلال.

ذلك أنه قد وردت كثير من الأحاديث الصحيحة التي يفهم منها أن الرؤية هي السبب، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ...) وأمثاله. أما إمكان الرؤية فهي اعتبرت سبباً بالاجتهاد عند تعذّر الرؤية، وهي محاولة للتوفيق بين الأحاديث التي تعلّق الصوم على رؤية الهلال، وبين ما إذا تأكّدنا من وجود الهلال دون أن نراه.

لقد رجحنا في تعريف السبب أنه ينحصر فيما لا يوجد بينه وبين الحكم علّة مناسبة، فإذا مضينا مع هذا الترجيح فنقول: إنّ الرؤية ليست سبباً شرعياً للصيام، لأنها معلّله بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (إنّا أمّة أميّة لا نقرأ ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا)[28]، وإذا أخذنا بالقول الثاني، وهو أنّ السبب يمكن أن يكون علّة، فهذا سيضطرنا للقول بإمكان تغيير السبب، لأنّ الحكم كما هو معروف: (يدور مع علّته وجوداً وعدماً)[29]. وإذا لم نعتبر الرؤية هي السبب الشرعي للصيام، فإمكان الرؤية لا تكون سبباً أيضاً. أما إكمال العدّة فهي لا يمكن أن تكون سبباً، لأنّها ليست وسيلة لتحديد دخول الشهر، إنما هي (اعتماد الأحوط) في دخول الشهر والخروج منه، وقد يتبيّن خطؤها بعد ذلك في تحديد بداية الشهر أو نهايته، وقد حدث ذلك مئات المرّات.

ثانياً: يعرّف الأصوليون السبب بأنّه: (وصف ظاهر منضبط ...). فالرؤية ليست وصفاً يتعلّق بالهلال وولادته - وهو المعوّل عليه في دخول الشهر – إنما هي وصف يتعلّق بالإنسان الذي يرى. وهو لا علاقة له بسببية الصيام، لأنّ سبب الصيام خارج عنه. والرؤية ليست وصفاً ظاهراً، ففي أكثر الأحيان وبالنسبة لأكثر الناس، وفي أكثر الأماكن، فإنّ الرؤية لا تتحقّق. دلّ ذلك على أنّها وصف (غير ظاهر) في أكثر الحالات. والرؤية ليست وصفاً منضبطاً لأنها تتأثّر بالأشخاص، وبالأماكن، وبالجو، وبغير ذلك من الأسباب العلمية المعروفة.

لذلك فإنّ الرؤية لا تصلح لأن تكون سبباً شرعياً للصيام وفق تعريف الأصوليين. وإمكان الرؤية ليس سبباً من باب أولى.

وإكمال عدّة الشهر ليس سبباً لأنه لا يحدّد بداية الشهر ونهايته بل يعتمد الأحوط في ذلك. واعتماد الأحوط لا يكون إلاّ عند فقدان الدليل وعدم معرفة السبب.

ثالثاً: لم يعرف في الأحكام الشرعية التكليفية أنّها تبنى على سبب تخيري، إمّا رؤية الهلال أو إكمال العدّة، فالسبب الشرعي يكون دائماً واحداً، ولا يكون تخييراً بين أمرين. مثل: دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة، وملك النصاب سبب لوجوب الزكاة، والسفر سبب لإباحة الفطر وقصر الصلاة، والزنا سبب لوجوب الحدّ، والاضطرار سبب لإباحة الميتة، والجنون سبب لوجوب الحجر، والقتل سبب لوجوب القصاص، والموت سبب لإستحقاق الإرث، والنكاح سبب لحلّ المعاشرة الزوجية، والطلاق سبب لإزالة هذا الحل، وهكذا ...

بناءً على ذلك لا يصحّ من الناحية الأصولية أن نقول: إنّ رؤية هلال رمضان هي سبب وجوب صيامه، فإن لم ير الهلال فإنّ إكمال العدّة هي السبب، فمثل هذا التخيير ليس له مثيل في الأسباب، والصحيح أنّ يقال: إنّ دخول شهر رمضان هو سبب وجوب الصيام، ويعرف دخوله برؤية هلاله، والإّ فبإكمال العدّة. فالسبب لا يتغير، يقول الشاطبي: (ما أثبت سبباً، فهو سبب أبداً لا يرتفع ...)[30]، وهو هنا اختيار رمضان لإيجاب الصوم فيه، أمّا الوسيلة المستعملة للتحقق من وجود السبب فقد تكون قابلة للتغيير، وهي وسيلة تبقى مطلوبة بمقدار تحقيقها للهدف.

رابعاً: إذا قلنا أنّ الرؤية هي الوسيلة التي شرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعرفة بداية الشهر ونهايته، فإنّها تأخذ حكم الوسائل. والوسائل تتبع في حكمها للمقاصد وللأهداف، فهي معللة من حيث الأصل بإمكان تحقيق المقصد أو الهدف منها، فإذا تخلّفت الوسيلة عن تحقيق الهدف منها لا تعود مطلوبة شرعاً، وإذا وُجدت وسيلة أخرى (مشروعة) أفضل منها في تحقيق الهدف أصبحت هي المطلوبة شرعاً، لأنّ تحقيق المقاصد والأهداف الشرعية هو المطلوب، والوسائل إلى ذلك تكون مطلوبة بمقدار تحقيقها لتلك الأهداف.

لذلك يكون من طبيعة الوسائل أنّها قابلة للتغير بخلاف الأسباب، فهي أحكام شرعية وضعية غير قابلة للتغير. فإذا كان صيام رمضان من أوله إلى آخره بدون زيادة أو نقصان هو المقصد والهدف، لأنّه الحكم التكليفي، فإنّ رؤية الهلال أو إكمال العدّة، هي الوسيلة التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّها تحقق الهدف بيسر وسهولة، وبأكبر قدر من اليقين في ذلك العصر.

وهذا من أسباب اختيارنا التفريق بين السبب والعلّة، وترجيحنا (أنّ السبب ما لم تكن بينه وبين الحكم مناسبة) فهو بهذا المعنى غير قابل للتغير، أمّا إذا كانت بينه وبين الحكم مناسبة، فهو عند ذلك يأخذ حكم العلّة، والعلّة تدور مع المعلول وجوداً او عدماً كما هو معروف عند الأصوليين.

خامساً: إذا قلنا أنّ رؤية الهلال هي السبب الشرعي للصيام، فقد ورد تعليلها بالنص، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنّا أمّة أميّة، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين). ومن الواضح أنّه لم يقصد حساب الأرقام، فقد أرشدنا في نهاية الحديث إلى عدِّ الأيام وحسابها تسعة وعشرين أو ثلاثين. إنّما المقصود بالحساب هنا حساب منازل القمر، وقد كان معروفاً عند العرب بشكل بدائي وعند القلّة من الناس، ولم يكن هذا العلم قد بلغ درجة اليقين كما هو عليه اليوم. وقد بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدم معرفة العرب بالحساب الأخذ بما هو يقيني، وهو أنّ الشهر يكون تسعاً وعشرين أو ثلاثين، وهذه مسألة أقرّها النص المعصوم ويؤكّدها علم الفلك. أمّا كيف يُعرف أنّ الشهر تسعاً وعشرين أو ثلاثين فهو غير ممكن في ذلك العصر إلاّ بالرؤية أو بإكمال العدّة، ولذلك ورد الأمر بالأحاديث الأخرى بإلتزام الرؤية لأنّها الوسيلة الوحيدة المقدروة للناس (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته...)، (لا تصوموا حتّى تروا الهلال ولا تفطروا حتّى تروه ...).

- والغريب أنّ كثيراً من العلماء اعتبروا وصف الأمّة بالأميّة وأنّها (لا تكتب ولا تحسب) دليلاً على تعليق الصوم على الرؤية وليس على الحساب، وأنّ هذا الحكم يستمّر ولو وجد بعدهم من يعرف الحساب كما يقول ابن حجر[31]. أو إنّ القول (إنّا أميّة أميّة لا نكتب ولا نحسب) هو خبر تضمّن نهياً، فإنّه أخبر أنّ الأمّة التي اتبعته هي الأمة الوسط، أميّة لا تكتب ولا تحسب، فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمّة، فيكون قد فعل ما ليس في دينها، والخروج عنها محرّم منهي عنه، فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرّمين منهياً عنهما، كما قال ابن تيمية ثم زاد في المبالغة فقال: (إنّ الأميّة المذكورة هنا صفة مدح وكمال من وجوه: من جهة الاستغناء عن الكتاب والحساب بما هو أبين منه وأظهر وهو الهلال، ومن جهة أنّ الكتاب والحساب هنا يدخلهما غلط، ومن جهة أنّ فيهما تعباً كثيراً بلا فائدة. وإذا كان نفي الكتاب والحساب عنهم للاستغناء عنه بخير منه، وللمفسدة التي فيه، وكان الكتاب والحساب في ذلك نقصاً وعيباً، بل سيئة وذنباً، فمن دخل فيه فقد خرج من الأمّة الأميّة فيما هو من الكمال والفضل السالم عن المفسدة، ودخل في أمر ناقص يؤديّه إلى الفساد والاضطراب)[32].

ومن الواضح هنا أنّ النهي عن الحساب في مسألة الهلال قد بناها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على ما كان معروفاً في عصره، وهو (أنّ الحساب يدخله الغلط، وان فيه تعباً كثيراً بلا فائدة، وإنّ رؤية الهلال هي أبين وأظهر من الحساب) وهذه أمور لم تعد موجودة، فالحساب بالنسبة لحركة الهلال وولادته لا يدخله الغلط إلاّ بنسبة ضئيلة جداً لا عدّة بها، بينما احتمال الغلط في رؤية الهلال أكبر بكثير. ولم يعد علم الفلك يحتاج لتعب كثير، بل هو علم ميسور في الجامعات، ولا يشك أحد في فائدته بعد أن اعتمد عليه العلماء في الوصول إلى القمر، ولم تعد رؤية الهلال أبين وأظهر من الحساب في معرفة دخول الشهر.

أمّا القول بأنّ الحديث (إنّا أمّة أمية لا نكتب ولا نحسب) هو خبر تضمّن نهياً، وإنّ الكتاب والحساب محرّمين منهياً عنهما، وإنّ الأميّة المذكورة هنا هي صفة مدح وكمال، وإنّ من دخل في الكتاب والحساب فقد ارتكب سيئة وذنباً، وخرج من الأمّة الأميّة فيما هو من الكمال والفضل ...).

إنّ هذا القول مبالغة خاطئة، فالنص النبوي الكريم خير تضمن وصفاً لواقع وليس ملتصقاً بهذه الأمّة، فضلاً عن أن يكون صفة مدح وكمال وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على نشر التعليم بين الصحابة، ومن المعروف أنّ جميع العلوم تتراوح بين أن تكون فرض عين أو فرض كفاية أو مستحبّة، ولم ينه الإسلام إلاّ عن علم النجوم الذي يَستدل على الحوادث بحركة الأفلاك، فهو شعبة من السحر أو إدّعاء لعلم الغيب، أمّا علم النجوم بمعنى حساب سيرها لتحديد أوائل الشهور فلا خلاف بين الفقهاء في جوازه، بل ذهب جمهورهم إلى أنّه فرض كفاية[33]، فلا يمكن أن يُفهم وصف الأمّة بالأميّة (وإنّها لا تكتب ولا تحسب) على أنّه نهي عن التعلّم والحساب، فيما النصوص الكثيرة في القرآن الكريم والسنّة المطهّرة تأمر بطلب العلم والحساب ويشجّع عليه.

يضاف إلى ذلك أنّ النهي عند الأصوليين، إذا لم يكن بصيغة صريحة من الصيغ المعروفة فإنّه لا يمكن استنتاجه من الصيغ الأخرى إلاّ إذا رتبت على فعل معين: عقوبة أو وعيد أو لعنة، أو وصفت هذا الفعل بأنّه من الذنوب أو أنّه عدوان أو ظلم أو إساءة أو فسق، أو شبّهت الفاعل بالبهائم أو الشياطين أو الكفرة، أو الخاسرين[34]. أي لا بدّ من قرينة تصرف الوصف إلى النهي. وليست هذه القرينة موجودة لا في نفس النص ولا في غيره من النصوص.

- لو اعتبرنا أنّ وصف الأمّة بالأميّة دليل على تعليق الصوم بالرؤية، فإنّه لا يمكن أن يكون دليلاً على عدم جواز تعليق الصوم بالحساب، فليس في النص أي إشارة إلى ذلك على الإطلاق، بل إنّ مجرّد صفة الأميّة يشير إلى علّة الاعتماد على الرؤية دون الحساب، فإذا تعلّمنا الحساب لم نعد أمييّن في هذا المجال، وبالتالي يمكننا أن نعتمد على الحساب كما نعتمد على الرؤية.

- يؤيّد ذلك أنّ معرفة دخول الشهر تعتبر من مسائل العادات، ولا علاقة لها بالتعبّد إلاّ من حيث انّنا لا ندخل في عبادة معيّنة إلاّ بعد معرفة وقتها. وقد غلَّب الشارع في العبادات جهة التعبّد التي يندر التعليل فيها، كما غلَّب في العادات جهة الالتفات إلى المعاني واكتشاف العلل كما أشار إلى ذلك الشاطبي[35]، وبيَّن أنّ الشارع: (توسع في بيان العلل والحكم في باب تشريع العادات، وأكثر ما يعلّل فيها بالمناسب الذي إذا عُرض على العقول تلقتّه بالقبول، ففهمنا من ذلك أنّ الشارع قصد فيها اتباع المعاني لا الوقوف مع النصوص)[36]. وقد ذكر الشيخ علي السبكي: (فحيث ثبت حكم وهناك وصف صالح لعلية ذلك الحكم، ولم يوجد غيره، يحصل ظنّ أنّ ذلك الوصف علّة لذلك الحكم، والعمل بالظنّ واجب)[37].

المبحث الخامس: الأدلّة على أنّ دخول شهر رمضان، هو السبب الشرعي لوجوب الصيام.

أولاً: القرآن الكريم: دخول شهر رمضان هو السبب الشرعي للصيام:

قال تعالى: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينّات من الهدى والفرقان. فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾[38]. فما معنى شهود الشهر؟

- شهد في اللغة بمعنى حضر. شهده شهوداً أي حضره، قال ابن منظور: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) معناه من شهد منكم المصر في الشهر، لا يكون إلاّ ذلك، لأنّ الشهر يشهده كل حيّ فيه. قال الفراء: المعنى: (فمن شهد منكم في الشهر، أي كان حاضراً غير غائب في سفره)[39].

- قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (فيها إضمار، أي من شهد منكم المصر في الشهر عاقلاً بالغاً صحيحاً فليصمه)[40].

- وذكر الطبري في تفسير الآية ثلاثة أقوال كلّها تدور حول هذا المعنى وهي:

أ‌- من دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره فعليه صوم الشهر كلّه غاب بعد أو سافر، أو أقام ولم يبرح.
ب‌- من شهد منكم الشهر فليصم ما شهد منه (أي فليصم الأيام التي كان فيها مقيماً غير مسافر).
ج- من دخل عليه شهر رمضان وهو صحيح عاقل بالغ فعليه صومه.

- وقد فسّر الجصاص (شهود الشهر) المذكور في هذه الآية بالأحاديث التي تعلّق الصيام على رؤية الهلال فقال: (اتفق المسلمون على معنى الآية والخبر في اعتبار رؤية الهلال في إيجاب صوم رمضان، فدلّ ذلك على أنّ رؤية الهلال هي شهود الشهر)[41]. لكن من الواضح أن الجصاص يحاول هنا تفسير شهود الشهر بأحاديث الرؤية، هذه المحاولة تتعارض مع تفسير المفسّرين الآخرين بأن شهود الشهر يعني حضوره، وهو تفسير يؤيده الجصاص نفسه الذي استدّل بهذه الآية الكريمة: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) على النهي عن صيام يوم الشك من رمضان، بحجّة: (أنّ الشاك غير شاهد للشهر، إذ هو غير عالم به، فغير جائز له أن يصومه عن رمضان)[42]، والعلم بالشهر أوسع من حضور الشهر كما هو ظاهر، لأنّ الحضور يستلزم العلم، أمّا العلم فقد لا يستلزم الحضور.

- نخلص من ذلك أنّ شهود الشهر عند اللغوين وجمهور المفسرين يعني حضوره: أمّا قول الجصاص بأنّ (رؤية الهلال هي شهود الشهر) فغير مسلَّم، لأنّ رؤية الهلال تحدد بداية الشهر لا أكثر، وهي أمر يتعلّق بالهلال وبالشهر، أمّا الشهود فهو أمر يتعلّق بالإنسان المكلّف ومتى يجب عليه الصيام.

وإذا كان شهود الشهر يعني حضوره، فإنّ مقتضى ذلك أنّ السبب الشرعي لوجوب صيام رمضان حسب الآية الكريمة هو (دخول الشهر)، وهو سبب الموضوعي الذي يتعلّق بالمسلمين جميعاً. أمّا الشروط المطلوبة من كل منهم حتّى يجب عليه الصيام، فهي أن يكون مقيماً غير مسافر، سليماً غير مريض، عاقلاً غير مجنون، بالغاً غير صغير، (طاهرة غير حائض إذا كانت امرأة).

ثانياً: السنّة تؤكّد أنّ دخول رمضان هو السبب الشرعي للصيام.

1- وردت مئات الأحاديث الصحيحة في جميع كتب السنن وهي تتحدث عن صيام شهر رمضان وفضائله وما يتعلّق به من أحكام. ومقتضى هذه الروايات أنّ دخول الشهر هو السبب الشرعي لوجوب الصيام، إذ أنّ المفهوم الذي تبادر إلى الأذهان عند سماع قول النبي صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان إيماناً واحتساباً ...)[43] إنّ الصيام يجب على المسلم بدخوله شهر رمضان، لذلك نستطيع أن نقول بجزم أنّ السنة الصحيحة تؤكّد ما ورد في القرآن من أن دخول الشهر هو سبب الصيام.

2- وردت روايات أخرى كثيرة تبيّن للمسلمين كيف يعلمون دخول الشهر، وتحدد وسيلتين لذلك: رؤية الهلال أو إكمال العدّة إذا تعذّرت رؤية الهلال. قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمّ عليكم فاقدروا له)، وفي رواية: (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له) وعن رواية: (فإن غم عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين) وفي رواية: (فإن غمّ عليكم فاقدروا ثلاثين)[44].

ومما لا شك فيه أنّ رؤية الهلال دليل واضح على دخول الشهر، وأنّه إذا لم ير الهلال وكان الجو صافياً، فإنّ الإنسان يرجح أنّ الشهر لم يدخل، ولذلك وجب عليه أن يتمّ عدّة شعبان ثلاثين يوماً. أمّا إذا لم يُر الهلال وكان الجو غيم، فيحتمل أنّه موجود لكن الغيم غطّاه، ويحتمل أنّه غير موجود، وعلى المسلم أن يأخذ بالاحتياط ويُتم عدّة شعبان ثلاثين يوماً، ثم يبدأ صيام رمضان بعد ذلك.

3- هذا هو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكيفية معرفة دخول الشهر، وهو يؤكد أن سبب الصيام هو دخول الشهر وليس رؤية الهلال. لأنّه يحدد طريقة أخرى إذا لم ير الهلال وهي إكمال العدة ثلاثين وهي طريقة لها معنى واحد هو أنّ إكمال العدّة يعني التأكّد من نهاية شهر وبداية شهر آخر، ولو لم ير هلاله. وهذا يؤكّد أنّ سبب الصيام هو دخول الشهر وليس رؤية الهلال.

4- بيّنت السنن الصحيحة أيضاً أنّ الشهر القمري يكون تسعة وعشرين يوماً، ويكون أحياناً ثلاثين يوماً[45]، وهذه حقيقة علمية مؤكدة، لأن دورة القمر الشهرية تختلف بين شهر وآخر فتكون في الحد الأدنى (29) يوماً و(5) ساعات، و(44) دقيقة و(19) ثانية. وتكون في حدها الأقصى (29) يوماً و(9) ساعات و(45) دقيقة و(36) ثانية.وهكذا نرى أن المدّة الزمنية للشهر القمري تختلف بين شهر وآخر في السنة نفسها، وتختلف بين الشهر في سنة معينة والشهر المماثل له في سنة أخرى[46].

5- وإذا كان الشهر – فلكياً وشرعياً - يكون تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين يوماً، فقد بيَّنت السنّة المطّهرة الوسيلة المقدروة لتحديد بداية الشهر ونهايته في عصر النبوة، وهي رؤية الهلال، وإنّه إذا لم ير وجب على الناس إكمال عدة الشهر ثلاثين يوماً. وبسبب كثرة النصوص الصريحة الصحيحة وتنوّعها، منها ما يأمر بالصيام عند رؤية الهلال، ومنها ما يمنع الصيام قبل رؤية الهلال، فقد مال جمهور الفقها إلى اعتبار الرؤية هي السبب الشرعي للصيام.

لكن من الواضح أنّ رؤية الهلال أو إكمال العدّة لا توصل دائماً إلى العلم اليقيني ببداية الشهر أو نهايته، فقد يبدأ الشهر ولا يُرى هلاله، فيبدأ الصيام في اليوم التالي، وقد ينتهي الشهر ولا يُرى هلال الشهر التالي، فتكمل العدة فيكون الشهر الحقيقي تسعة وعشرين يوماً. لكن بسبب عدم توفّر وسيلة أخرى أكثر يقيناً، فقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ هذا الخطأ متغيّر فقال: (الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحّون)[47]، (فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحّون)[48].

[1] - رسائل ابن عابدين (1/224).

[2] - الفروق للقرافي (2/298).

[3] - المجموع للنووي (6/27).

[4] - كشاف القناع (2/272).

[5] - الفتاوى لابن تيمية (25/126 حتى 209).

[6] - الموسوعة الفقهية الكويتية (22/35).

[7] - فتاوى السبكي (1/207 وما بعدها).

[8] - سورة يس:36.

[9] - سورة الرحمن:5.

[10] - سورة الإسراء: 17.

[11] - الفروق للقرافي (2/290).

[12] - فتاوى السبكي (1/209).

[13] - الموسوعة الفقهية الكويتية (22/33) نقلاً عن عمدة القاري (10/272).

[14] - سورة الجمعة: 2.

[15] - (تفسير المنار 2/185).

[16] - بداية المجتهد لإبن رشد (1/285).

[17] - فتاوى السبكي (1/208).

[18] - متفق عليه.

[19] - رواه أصحاب السنن والحاكم، وقال صحيح على شرط الشيخين.

[20] - الموطأ (1/287) النسائي (4/136) أبو داود (2327) الترمذي (688).

[21] - المجموع للنووي (6/230)،

[22] - تفسير المنار (2/186)،

[23] - موسوعة علي بن أبي طالب- دار النفائس-بيروت، نقلاً عن مسند زيد بن علي (3/277) ومسند عبد الرزّاق (4/157) وسنن البيهقي (4/251) وكنز العمال (24320).

[24] - أصول الفقه- محمد أبو زهرة ( ص56).

[25] - تيسير أصول الفقه- عبد الله الجديع –(ص54).

[26] - سورة البقرة:185.

[27] - الوجيز في أصول الفقه. الدكتور عبد الكريم زيدان ص55.

[28] - رواه البخاري.

[29] - قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (3-5/2).

[30] - الموافقات للشاطبي المقدمة التاسعة (54/1) طبعة دار الكتب العلمية-بيروت.

[31] - فتح الباري (4/102).

[32] - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (25/165).

[33] - الموسوعة الفقهية الكويتية (14/52) نقلاً عن الزواجر (2/90-91) ومواهب الجليل (2/387).

[34] - تيسير علم أصول الفقه، عبد الله الجديع (38-39) مؤسسة الريان – بيروت.

[35] - الموافقات (2/396).

[36] - الموافقات للشاطبي (2/306).

[37] - الابهاج في شرح المنهاج- علي السبكي وولده تاج الدين ص62.

[38] - سورة البقرة: 185.

[39] - لسان العرب لإبن منظور.

[40] - تفسير القرطبي للآية 185 سورة البقرة.

[41] - أحكام القرآن للجصاص (1/249).

[42] - المرجع نفسه (1/255).

[43] - رواه أحمد وأصحاب السنن.

[44] - أخرج هذه الروايات البخاري ومسلم، من حديث عبد الله بن عمر.

[45] - وردت في ذلك روايات كثيرة صحيحة عند البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن حديث عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص.

[46] - راجع دراسة الدكتور محمد هواري بعنوان (تحديد أوائل الشهور القمرية) المقدمة للمجلس الأوروبي للالفتاء والبحوث 2007م.

[47] - أخرجه الترمذي.

[48] - أخرجه أبو داود.

الفصل الرابع: كيف تعرف دخول شهر رمضان؟

1- الشهر ظاهرة فلكية: يبدأ وينتهي.

2- الوسيلة الشرعية لمعرفة حلول الشهر هي رؤية الهلال أو إكمال العدّة.

3- هل يمكن وجود وسائل أخرى؟ أم الوسيلة حدّدت حصراً؟

4- هل يمكن اعتماد الحساب وسيلة لمعرفة دخول الشهر؟

5- خلاف الفقهاء حول اعتماد الحساب؟

- جواز اعتماده حال الغيم.
- جواز اعتماده بشكل مطلق (شاذ).
- جواز اعتماده في النفي دون الإثبات.
- آراء المذاهب في جواز اعتماد الحساب.

6- أحمد شاكر: وجوب العمل بالحساب بتغير العلّة.

7- القرضاوي: وجوب العمل بالحساب بتغيير الوسيلة.

8- رأينا وجوب العمل بالحساب.