السعودية والإخوان المسلمون

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
السعودية والإخوان المسلمون

د/ محمد أبو الإسعاد

المؤلف : دكتور محمد أبو الإسعاد

مركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان

ش الحجاز روكسي مصر الجديدة

ت: 4520977

مدخل إلى الدراسة

في عام 1912 أسس الإمام عبد العزيز بن سعود جماعة الإخوان الوهابية في نجد واستمرت هذه الجماعة قائمة حتى عام 1928 عندما اصطدمت بمؤسسها في صراع دامي انتهي بالقضاء عليها في عام 1931م.

وفي عام 1928 أسس الإمام حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين في مصر واستمرت هذه الجماعة قائمة حتى عام 1948 عندما اصطدمت بالحكومة المصرية صداما داميا أسفر عن حلها ثم اغتيال مؤسسها حسن البنا 1949.

والسؤال الذي تطرحه هذه الدراسة وتحاول أن تجيب عليه هو .. هل هناك ثمة علاقة بين تجربة جماعة الإخوان الوهابية في السعودية وبين تجربة جماعة الإخوان المسلمين في مصر ؟!

وسوف تقتصر محاولتنا في الإجابة على هذا السؤال على الفترة التاريخية الممتدة من نشأة جماعة الإخوان الوهابية في السعودية عام 1912 وحتى تصفيتها عام 1931 ومن نشأة جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928 وما تلاها من تطورات حتى حلها 1948 واغتيال مؤسسها حسن البنا 1949.

لكن هذه الإجابة لا يمكن أن تكتمل إلا داخل إطارها التاريخي الذي يمتد إلى مطلع القرن التاسع حيث تواجد على ساحة المنطقة نموذجان متناقضان ... الأول هو نموذج المجتمع السلفي والدول الدينية والثاني هو نموذج المجتمع المدني والدولة الحديثة.

وقد تمثل النموذج الأول في الدولة السعودية ( الأولي ) التي نشأت حوالي منتصف القرن الثامن عشر في شبه جزيرة العرب وقامت على أساس تحالف ديني سياسي بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود وأقامت مجتمعا سياسيا دينيا على أساس المذهب السلفي الوهابي الذي تعصب لنفسه ورفض ما عداه من مذاهب وعقائد وقام بتكفير الآخرين ورفع شعار الجهاد فيما حوله من قبائل ومجتمعات ودول إسلامية أما النموذج الثاني فقد نشأ مع مطلع القرن التاسع عشر على يد محمد على في مصر حيث حاول إقامة مجتمع مدني يقوم على قيم العصر الحديث ويأخذ بعلومه وفنونه ويعتمد على تحديث المجتمع والأخذ من الحضارة الأوربية الحديثة .

وكان من الطبيعي أن يتصادم النموذجان الديني والمدني , ويتصارع المجتمعان المصري والسعودي بحكم التناقض القائم بين طبيعة النظامين ... ومن ثم شهد القرنان التاسع عشر والعشرون حلقات من الصراع بين النظامين انتصر فيها النظام المدني الحديث الممثل في مصر حينا وانتصر النظام الديني المثل في السعودية حينا آخر .

وقد آثر هذا الصراع في تاريخ المنطقة العربية تأثيرا واضحا , ففي الفترات التي علا فيها شأن مصر كانت المنطقة العربية تشهد حركة تحديث وتحضر وانفتاح على الحضارة الحديثة ... أما الفترات التي كان يعلو فيها شأن السعودية فكانت المنطقة العربية تتعرض لتيارات المد الديني والأنماط السلفية والعزله عن العصر ... ومن ثم يمكننا القول بأن تطور الأحداث في المنطقة العربية ارتبط بدرجة أو أخري بطبيعة الصراع بين النموذجين المدني المصري الحديث , والديني السلفي السعودي .

وبهزيمة يونيه 1967 انهار المشروع التحديثي المدني في مصر وعلا شأن النموذج الديني السعودي ومن ثم دخلت المنطقة العربية إلى ما يعرف بالحقبة السعودية حيث أصبحت السعودية مركز الثقل في أحداث المنطقة وتقرير مستقبلها وعلا المد الديني وانتشرت تيارات الإسلام السياسي في المنطقة العربية خاصة بعد حرب أكتوبر 1973 ولذلك فإن مصر في مرحلة الانحسار الحضاري الذي تعانيه في هذه الحقبة من تاريخها تتعرض لما يمكن أن تطلق عليه الغزو السعودي الديني للنموذج المصري المدني في محاولة لحسم هذا الصراع التاريخي الطويل بين النموذجين الديني السعودي والمدني المصري .

في إطار هذه البانوراما التاريخية يمكننا أن نتناول تاريخ جماعة الإخوان المسلمين ودورها في المجتمع المصري منذ نشأتها عام 1928 وحتى اليوم فقد نشأت تجربة جماعة الإخوان المسلمين داخل النسق العام لهذا الصراع التاريخي وفي إطاره .

لكن أحدا من المؤرخين لم يعن بمحاولة الكشف عن موقع تجربة جماعة الإخوان المسلمين داخل هذا النسق بل انصرفوا لدراسة تاريخ جماعة الإخوان المسلمين بمعزل عن المؤثرات التاريخية التي تحيط بها في المنطقة العربية .

وانحصرت رؤية المؤرخين والسياسيين لجماعة الإخوان المسلمين في إطارها المصري المحلي واعتبارها رد فعل للقوي اليمنية المحافظة في مصر لمواجهة تنامي حركة التحديث المصرية منذ عشرينات هذا القرن وعلو شأن الاتجاه التغريبي وظهور الأفكار التنويرية وشيوع الليبرالية .لكن هذه الدراسة تكشف لنا أن نشأة جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 لم تكن شأنا مصريا خاصا بمعطيات الصراع الداخلي في مصر بل إنها ارتبطت منذ نشأتها بالصراع التاريخي في المنطقة العربية بين الاتجاه السلفي الإسلامي والاتجاه المدني الحديث والصراع السعودي المصري على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين .

وهذا هو الذي يفسر لنا الانتشار الواسع لجماعة الإخوان المسلمين في مختلف الأقطار العربية وتصاعد الاتجاهات السلفية في أنحاء المنطقة العربية يتصاعد النفوذ السعودي في الآونة الأخيرة .

ولذلك فأهمية هذه الدراسة ترجع إلى أنها لا تقف فقط عند حدود محاولة اكتشاف العلاقة بين تجربة جماعة الإخوان المسلمين في مرحلة النشأة وبين الصراع القائم في المنطقة بين النموذجين المدني المصري والديني السعودي ....بل تمتد أهمية هذه الدراسة لتفتح الباب أمام المؤرخين لإعادة دراسة تاريخ جماعة الإخوان المسلمين في مراحل تاريخية تالية داخل هذا الإطار التاريخي ... ومن ثم يمكن أن تتكشف أمامنا حقائق جديدة عن مراحل الصدام بين جماعة الإخوان وبين الثورة المصرية في عام 1954 , 1965..

كذلك فإن هذه الدراسة تفتح الباب أمام المهتمين بدراسة حركات الإسلام السياسي وظاهرة العنف والإرهاب التي استشرت في المنطقة بوجه عام وفي مصر على وجه الخصوص خلال ربع القرن الأخير وأن تعيد دراستها داخل إطارها التاريخي وتضعها في نسقها الأيديولوجي .

دكتور / محمد أبو الإسعاد

القاهرة -1995

الفصل الأول جماعة الإخوان الوهابية

الصراع الدولي

في أخريات القرن الماضي اشتد الصراع الدولي بين الدول الأوربية العظمي , وأصبحت أملاك الدولة العثمانية ( الرجل المريض ) ميدانا للتنافس الدولي ومطمعا للدول الاستعمارية .

وكانت خطة بريطانيا الاستعمارية بعد أن تم لها احتلال عدن ثم مصر والسودان تتطلع إلى السيطرة على منافذ الخليج العربي ( الفارسي ) وتأمين خطوط مواصلاتها البحرية إلى إمبراطوريتها في الهند والشرق الأقصى .

أما خطة ألمانيا الدول الاستعمارية المنافسة لها فقد قامت على التقارب مع الدولة العثمانية والتغلغل الاقتصادي في أملاكها عن طريق بناء شبكة للسكك الحديدية تصل ما بين الدولة العثمانية وولاياتها في الشام والحجاز وبغداد وحتى سواحل الخليج العربي .

الصراع في جزيرة العرب

داخل نسق هذا التنافس الاستعماري نجحت بريطانيا في دفع عميلها الشيخ مبارك الصباح إلى قتل أشقائه والاستيلاء على حكم الكويت وعقدت معه معاهدة ضمن سلسلة المعاهدات التي فرضت بها الحماية البريطانية على مشيخات الخليج ومن ثم أصبحت الكويت محمية بريطانية منذ عام 1899.

وفي هذا الظرف التاريخي ... ظهر عبد العزيز آل سعود إلى مسرح الأحداث... فقد كان لاجئا مع أسرته في الكويت بعد انتصار آل الرشيد على آل سعود وطردهم من نجد عام 1891 , وكان عبد العزيز قد التحق بخدمة مبارك الصباح وعن طريقه استطاع أن يقيم نوعا من الاتصال بالقنصلية البريطانية في الكويت وبرجال المخابرات في حكومة الهند البريطانية .

وداخل نسق الصراع الدولي والمحلي بين آل الصباح في الكويت ومن خلفهم بريطانيا وبين آل الرشيد في حائل ونجد ومن خلفهم الدولة العثمانية ... وجد عبد العزيز آل سعود مجالا لطموحاته في استرداد ملك آل سعود , ومن ثم استطاع بمغامرة جريئة أن يستولي على مدينة الرياض 1902 وأن يصبح أميرا عليها وهو ما زال بعد في الثانية والعشرين من عمره .. وبذلك قامت الدولة السعودية ( الثالثة ) بدعم من حاكم الكويت ووكلاء حكومة الهند البريطانية الاستعمارية .

وقد ظل عبد العزيز آل سعود لعشر سنوات ( 1902 /1912) يخوض صراعا محموما مع آل الرشيد للسيطرة على هضبة نجد وإخضاع قبائلها ضمن سلسلة من الحروب القبلية والغزوات العشائرية .

واستمر نفوذه يتصاعد حتى أصبح أقوى أمراء هضبة نجد.

ولم تفلح الدول العثمانية في كسب ولائه فقد كان حريصا على الدعم المادي والعسكري والسياسي الذي يتلقاه من الإنجليز وعملائهم في منطقة الخليج العربي ولذلك انتهز أزمة الدولة العثمانية وهزائمها 1912 فطرد الحاميات العثمانية واستولي على منطقة القصيم ثم استولي 1913 على الإحساء والقطيف وبذلك أصبح عبد العزيز آل سعود القوة الرئيسية في وسط جزيرة العرب وشرقها ... وأصبحت طموحاته بغير حدود .

علاقات آل سعود بالإنجليز

بني عبد العزيز آل سعود طموحاته السياسية على ركيزتين .

الركيزة الأولي ... هي الاستناد إلى القوة الدولية الكبرى آنذاك وهي بريطانيا العظمي .

والركيزة الثانية .... هي إنشاء ميليشيات عقائدية مسلحة تكون أداته العسكرية لتحقيق طموحاته السياسي .

لذلك نجد أن عبد العزيز آل سعود استطاع منذ وقت مبكر منذ عام 1899 عن طريق حاكم الكويت مبارك الصباح أن ينسج نوعا من الارتباط والتبعية للسياسية البريطانية التي كانت بدورها حريصة على الاتصال بجميع القوى السياسية في المنطقة العربية وتوجيهها لخدمة مصالحها الاستعمارية , وقد زادت هذه العلاقات بعد أن استعاد آل سعود نفوذهم كحكام للرياض 1902 ثم توثقت عري هذه العلاقة بالاتفاقيات السرية التي تمت بين الطرفين 1904 وتلقي عبد العزيز آل سعود دعما ماديا وسياسيا وعسكريا من بريطانيا ساعده على بسط نفوذه على نجد والاستيلاء على الإحساء والقطيف 1913 .

وعندما قامت الحرب العالمية الأولي 1914 زاد الدعم البريطاني وأصبح ( الكابتن شكسبير ) رجل المخابرات البريطانية ممثلا لبريطانيا العظمي في بلاد الأمير السعودي ولما قتل 1915 حل محله رجل مخابرات إنجليزي آخر هو ( جون فيليبي ) الذي أشرف على تنظيم القوة العسكرية السعودية وتسليحها وكسب الأنصار للنظام السعودي وإحياء العقيدة الوهابية وتوظيفها سياسيا لخدمة الأغراض البريطانية السعودية المشتركة .

ثم عقد الإنجليز مع عبد العزيز آل سعود معاهد ( دارين – 6 ديسمبر 1915 ) التي كان هدفها – كما جاء في ديباجتها – توطيد العلاقات الودية التي مضي عليها وقت طويل بين الطرفين , ومن ثم نصت المعاهدة على اعتراف الإنجليز بعبد العزيز آل سعود حاكما على نجد والاحساء والقطيف وجبيل وتوابعها ومده بالمساعدات المالية والعسكرية وزيادة راتبه الشهري من خمسمائة جنيه استر ليني إلى خمسة آلاف جنيه وذلك في مقابل خضوع ابن سعود للنفوذ البريطاني وقبوله للحماية البريطانية والتزامه بحماية طرق الحج والمحافظة على الحدود وعلاقات حسن الجوار مع الكويت والبحرين وقطر وسواحل عمان .الخاضعة للنفوذ البريطاني .

وقد داعب المندوب السامي البريطاني ( برسي كوكس ) طموحات عبد العزيز ووعده بحكم حائل بدلا من آل الرشيد وحكم الحجاز بدلا من الهاشميين وحكم عسير بدلا من الدارسة كما مناه بالخلافة الإسلامية بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية , وأعلن عبد العزيز آل سعود ردا على ذلك ... إنه لن ينسي لبريطانيا هذا الفضل مدي حياته وأنه سيبقي خادما مطيعا ومنفذا لكل ما تريده بريطانيا العظمي .

جماعة الإخوان الوهابية

أما الركيزة الثانية لحكم آل سعود .. فكانت إنشاء ميليشيات عقائدية مسلحة تكون أداة عسكرية لتحقيق طموحات العرش السعودي ... وقد تفتقت عبقرية آل سعود ومعاونوهم من رجال المخابرات البريطانية عن تأسيس جماعة الإخوان الوهابية .

وقد اقتبس اسم الجماعة من الإخوة الإسلامية فأطلقوا على أنفسهم اسم جماعة الإخوان ... وأضاف إليها المؤرخون لفظ الوهابية تمييزا لهم عن غيرهم من الجماعات الإسلامية .

ومؤدي تجربة الإخوان الوهابية هي تجميع البدو الرحل الذين كانوا يشكلون أكثر من 70% من سكان هضبة نجد. وكانوا يعيشون حياة جاهلية تقوم على الصراعات القبلية وتعتمد على الغزو والسلب والنهب والقتل والتخريب .. ثم توطيتهم في واحات زراعية عرفت باسم الهجر كناية عن هجرتهم للمجتمع الجاهلي وانتقالهم إلى المجتمع الإسلامي الحقيقي .

وقد أنشئت أول الهجر في واحة ( الأرطاوية ) 1912 وتم تجميع البدو من قبيله مطير وتوطينهم في منازل وحفر الآبار وتعليمهم الزراعة وبناء مسجد وتعيين ( المطوعه ) من رجال المذهب الوهابي لتعليمهم الدين وإقامة شعائره وفقا للأصول السلفية .

وبالإضافة إلى ذلك كانت الهجر بمثابة ثكنات عسكرية يتم فيها تنظيم الإخوان عسكريا ولتسليحهم للقيام بعمليات الحرب والغزو تحت شعار الجهاد الديني مقابل حصولهم على بعض العطايا من آل سعود إلى جانب نصيبهم من غنائم الحروب والغزوات .

وقد بلغ عدد الإخوان في هجرة الأرطاوية عشرة آلاف , وقد عين فيصل الدويش زعيم قبيله مطير أميرا وقائدا وإماما لجماعة الإخوان الوهابية في الأرطاوية .

وقد استفاد عبد العزيز آل سعود من الدعم المالي الذي كان يتلقاه من الإنجليز في التوسع في إنشاء الهجر فامتد نظام الهجر إلى أنحاء عديدة من نجد وشمل معظم قبائلها مثل مطير وعتبه وقحطان وحرب والدواسر وغيرهم وزاد عدد الهجر على المائة يقيم في كل منها نحو عشرة آلاف نسمة وزاد جملة مقاتليهم على الخمسين ألف مقاتل .

ويجمع المؤرخون على أن تكون جماعة الإخوان الوهابية لم تكن بهدف ديني كما يبدو من ظاهرها ولكنها في حقيقة أمرها عملية تسييس للدين واستخدامه في عمليات الصراع السياسي حول الحكم ...

كما يتفقون على أن إقدام عبد العزيز آل سعود على هذه التجربة كان بهدف خلق جيش , يختلف في مفهومه وعقيدته القتالية وفي نوعية وأسلوب القتال عن الجيوش البدوية التي تقف أهدافها عند حدود الغزو والثأر والولاء للقبيلة وذلك إدراكا منه بأنه لا يستطيع إقامة سلطته المركزية وبناء دولته التي يتطلع إليها في مجتمع قبلي عشائري غير مستقر ترفض السلطة المركزية بسبب الخوف من الضرائب والتجنيد وفقدان الاستقلال ويتغير موقف القبائل والعشائر بين المتنافسين على السلطة طبقا لما يستشعرونه من قوتهم أو ما يرجونه من مغانم .

مبادئ التربية العقائدية لجماعة إخوان الوهابية

لعل أخطر ما في تجربة جماعة الإخوان الوهابية هو البناء العقائدي الذي كان يتم على أساسه صياغة الإخوة الوهابية فقد تم الاستيلاء على عقول البدو واستلابها ثم إعادة صياغتها في قوالب فكرية جامدة وإحاطتها بسياج ضيق من تعاليم الوهابية التي يمكن إيضاح أهم ملامحها فيما يلي :-

1- العقلية السلفية النصية:

فقد قامت الوهابية على أساس الدعوة إلى العودة بالإسلام إلى أصوله الصحيحة التي كان عليها في عهد النبوة وعهد السلف الصالح من خلفاء المسلمين , ومن ثم فهي دعوة سلفية ترنوا بأبصارها إلى الماضي دون الحاضر أو المستقبل , ويترتب عليها خلق عقلية سلفية تتجاوز الواقع وتتجاهل المستقبل وتقف عند حدود الماضي تحاول إحيائه ويعشه من جديد دون إتاحة فرص الاجتهاد ليتوافق هذا الماضي مع متغيرات الزمن .
لذلك فالعقلية الوهابية تتمسك بحرفية النصوص الدينية كما وردت في القرآن والحديث ومن تعتمد هم من فقهاء الحنابلة ومن ثم فهي عقلية نصبه جامدة ليس فيها مجال للاجتهاد وإعمال العقل بل تقف عند ظاهر النص وحدود النقل .
ويري المحللون أن هذه العقلية السلفية النصبة هي نتاج طبيعي للمجتمعات البدوية المتخلفة فهذه المجتمعات تعيش في عزلة حضارية ضربت سياجا كثيفا على إمكانيات العقل والاجتهاد والإيداع ومن ثم الإحساس بالعجز عن إمكانية تطوير الواقع إلى الأفضل وبالتالي فقدان الأمل في المستقبل والانصراف إلى الماضي .

2- التطرف الديني :

إذ قامت الوهابية على أساس التشدد والتطرف في أمور الدنيا والدين وتميزت أحكامها بالصرامة والجدية فمن يتخلف عن صلاة الجماعة بدون عذر شرعي قد تصل عقوبته إلى حد الموت والتدخين إثم كبير قد تصل عقوبته أيضا إلى القتل والموسيقي رجس من أعمال الشياطين يحرم سماعها وحلق اللحية أيضا من الأمور المحرمة .
ويرى المحللون أن هذا التشدد والتطرف هو انعكاس طبيعي لحياة البادية الصحراوية القاسية وحياة البدو الجافة والفقيرة والخشنة ومرحلة البداوة والتوحش التي يعيشها هؤلاء البدو والتي تخلو من كل مباهج الحياة الحضارية .

3- التعصب والاستعلاء الديني :

فقد اعتبر الإخوان الوهابية أنهم وحدهم هم المسلمون ومن ثم فهم يتميزون على غيرهم من كفار المسلمين أو كفار الأديان الأخرى , وبالتالي نظروا إلى الغير بتعصب شديد وباستعلاء أشد وعاملوا الآخر بعداء وقسوة وتطرف الأمر الذي يمكننا معه أن تقرر أن هذه الصياغة المتعصبة والقائمة على أساس الاستعلاء الديني والتي أصابت الشخصية الوهابية بالشيفونية الدينية كانت في حقيقة أمرها نوعا من التعويض عن الإحساس بالتخلف الإنساني والدونية الحضارية .

4- رفض مظاهر الحضارة الحديثة :

كذلك فقد وقفت الوهابية موقفا معاديا من الحضارة الحديثة ومنتجات العقل الإنساني فكانوا يرفضون المخترعات الحديثة ويرون أن جهاز اللاسلكي هو العفريت الذي تكلمت عنه الأساطير والراديو والتليفون والسيارة هي من أعمال السحر التي اخترعها الشيطان ليضلل المسلمين عن دينهم وكانوا يطلقون على الدراجة حصان إبليس كما كانوا يرفضون الأسلحة الحديثة من مدرعات ومصفحات ويتمسكون بالخنجر والسيف والبندقية ويعتقدون أنه بفضل الإيمان يمكن لهذه الأسلحة أن تتغلب على الأسلحة الحديثة .

5- التكفير والجهاد:

على أن أخطر ما جاءت به الوهابية هو مبدأ التكفير فقد اعتبرت الوهابية أنها دون غربها من المذاهب والملل والنجل الإسلامية هي التي تمثل الإسلام الصحيح وإن كل من لا يؤمن بمبادئها لا يكون مسلما وكذلك المجتمع الذي لا يستجيب لمبادئ الدعوة الوهابية وينقاد لها فإنه يكون مجتمع كافر .
ولم تقف الوهابية عند هذا الحد من التكفير لغيرها من الأفراد والمجتمعات بل أضافت إليه مبدأ الجهاد إذ لا يكفي الإيمان بمبادئ الوهابية بل يجب الجهاد من أجلها فإذا لم يقم المسلم بالجهاد من أجل هذه المبادئ الدينية يكون مرتدا عن الإسلام وينتهي أمره بالكفر .
ويرى المحللون أن مبدأ التكفير والجهاد كما صاغته الوهابية كان انعكاسا لطبيعة الحياة البدوية المتخلفة في هضبة نجد واستجابة لنزعات هؤلاء البدو في الغزو والقتال والحصول على الغنائم والسبي .
ويرى علماء الاجتماع البدوي وعلى رأسهم ابن خلدون أن الغزو وما يصاحبه من مغانم وسبي كان شيئا أساسيا في حياة البدو الجدباء وظاهرة ملحوظة في كل المجتمعات البدوية على مر التاريخ , فقد كان الغزو بالنسبة للبدوي هو سبيل الحياة التي لا يستطيع أن يعيش بدونها وهو سبيل القوة التي لا يستطيع أن يتنازل عنها .
وتأسيسا على ذلك فإن الدعوة الوهابية التي ظهرت حوالي منتصف القرن الثامن عشر في هضبة نجد كان لابد لها أن تعتمد نزعات البدو للغزو والسبي وأن تصبغها بصبغة شرعية لتكون أساسا لبناء الملك السعودي العضود .
لكن بالنظر إلى أن الوهابية قد ظهرت في محيط إسلامي فجميع قبائل نجد تؤمن بالإسلام وكذلك سكان البلاد المحيطة بهذه الهضبة في جزيرة العرب أو على أطرافها الشمالية في العراق والشام يؤمنون بالإسلام ويؤدون شعائره ومن ثم لا يوجد مبرر ديني للغزو والسبي لذلك لجأت الوهابية إلى اعتبار أتباعها وحدهم هم المسلمون أما الآخرون الذين يؤمنون بالإسلام ويؤدون شعائره فهم في نظر الوهابية مشركون يجب جهادهم ويحل دمهم ومالهم ونسائهم .
ومن ثم فقد كان تشدد الوهابية في مبدأ تكفير غيرهم من المسلمين والجهاد ضدهم لمجرد إعطاء شرعية دينية لبدو نجد في الغزو والحصول على الغنائم ومنحهم سندا شرعيا يسمح لهم بالسلب والنهب والقتل والسبي داخل الجزيرة العربية وخارجها .

جماعة الإخوان وبناء الملك السعودي

وقد استخدم عبد العزيز آل سعود جماعة الإخوان الوهابية منذ إنشائها في عام 1912 كقوات ميليشيا عسكرية تعمل من أجل بناء الملك السعودي فقد كان الإخوان فائقي القدرة على التحرك وإتقان حرب الصحراء شديدي القسوة والعنف في الحروب وتميزوا بفدائية فائقة ومن ثم أدي ظهورهم كقوة عسكرية إلى تغيير جذري في توازن القوى العسكرية داخل الجزيرة العربية .

ولذلك فقد لعبت جماعة الإخوان منذ إنشائها 1912 وعلى مدي ثلاثة عشر عاما حتى 1925 دورا هاما في تغيير خريطة الجزيرة العربية وبناء الملك السعودي فكان لهم دور هام في ضم الإحساء والقطيف 1913 وفي منازلة آل الرشيد 1921 وفي ضم عسير 1922 .

كما آغاروا على حدود الكويت والعراق وشرق الأردن غارات متعددة فيما بين 1919 /1924 ثم اندفع الإخوان تحقيقا لأطماع العرش السعودي في الحجاز فاستولوا على تربة والحزمة 1924 وأنزلوا بها أبشع ألوان التخريب والقتل والدمار ثم تقدموا إلى الطائف فاستولوا عليها بعد معارك دامية آثاروا فيها الفزع بعد أن قتلوا أكثر من ألف مسلم من المدنيين العزل بما فيهم من أطفال وشيوخ وسبوا النساء بدعوة أن عدم اعتناقهم للمذهاب الوهابي قد جعلهم كفار خارجين عن الإسلام ومن ثم يحل قتلهم قتلا جماعيا وأخذ أموالهم غنائم وسبي نسائهم ثم اتجهوا إلى مكة وجدة والمدينة باستولوا عليها 1924 / 1925 تباعا وسط ذعر العالم الإسلامي وسخطه على دمويتهم التي نالت الأطفال والنساء وعلى وحشيتهم التي نالت المقدسات الإسلامية بما فيها من أضرحة وأثار للمسلمين الأوائل فقاموا بنهبها وتدميرها بدعوة مخالفتها لتعاليم الإسلام الوهابي .

وهكذا بفضل جماعة الإخوان الوهابية توسع الملك السعودي وامتد إلى بلاد حائل بعد أن تم القضاء على آل الرشيد كما تم ضم عسير بعد القضاء على الهاشميين .

وهكذا أصبح عبد العزيز آل سعود منذ بداية عام 1926 سلطانا على نجد وملكا على الحجاز وأطمعه ذلك في أن يتطلع إلى خلافة المسلمين بعد سقوط الخلافة العثمانية 1924..

ومن ثم بدأ الصدام بين الدولة الدينية السلفية في السعودية والدول المدنية الحديثة في مصر .

الفصل الثاني الشيخ رشيد رضا " حلقة الوصل " من الإخوان الوهابية إلى الإخوان المسلمين

كان من الطبيعي أن تحاول السعودية البحث عن أنصار لها في مصر يبشرون بمذهبها الديني ويدافعون عن طموحاتها السياسية ... وقد وجدت السعودية بمذهبا الوهابي فريقا تعاطف معها بدرجة أو أخري داخل الجماعات السلفية في الأزهر وفي الجمعيات الإسلامية وكان رشيد رضا من أبرز الذين بشروا بالعقيدة الوهابية ودافعوا عن النظام السعودي خاصة فيما بين عامي (1925 /1935 ) ثم إنه كان حلقة الوصل من إخوان الوهابية في السعودية إلى الإخوان المسلمين في مصر .

حياة رشيد رضا

والشيخ محمد رشيد رضا ولد في طرابلس الشام 1865 ودرس العلوم الدينية في المدارس الإسلامية بالشام ثم هاجر إلى مصر عام 1898 وسنة 33 سنة وارتبط بالإمام محمد عبده حتى وفاته 1905 وعاش في مصر حتى توفي عن سبعين سنة في عام 1935 وكان له دور مؤثر في الحركة الدينية عن طريق مجلة المنارومدرسة الدعوة والإرشاد والمؤلفات الدينية التي وضعها ثم انطلق إلى معترك السياسة وقام بدور هام داخل تيار الإسلام السياسي ارتبط خلاله بالنظام السعودي .

وكان رشيد رضا ينتمي على الصعيد الإسلامي إلى ذلك التيار السلفي الذي يؤكد على طبيعة الإسلام الثابتة والصالحة كدين ودولة لكل زمان ومكان اعتمادا على نصوص القرآن والسنة وفقا للمرجعية الحنبلية وامتدادتها عند ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب , ولذلك فقد دعي رشيد رضا إلى توحيد المسلمين والدفاع عن الإسلام والتصدي لأعدائه وإقامة مجتمع إسلامي تحت ظل خليفه للمسلمين يمكن أن يعيد الحضارة الإسلامية ويظهر الدين ويوحد المسلمين .

ولذلك فقد كان رشيد رضا على الصعيد السياسي من دعاة حركة الجامعة الإسلامية والدولة الدينية والخلافة الإسلامية , ومن ثم فقد تبدل ولاؤه ما بين الخلافة العثمانية في استانبول وحركة الشريف حسين في مكة فلما سقطت الخلافة العثمانية على يد أتاتورك 1924 وسقط الحكم الهاشمي في الحجاز على يد السعوديين 1925 بدل ولاءه إلى الدولة السعودية الوهابية التي بزع نجمها بعد استيلائها على الحجاز منذ الربع الثاني من القرن العشرين .

رشيد رضا والسعودية

وقد دخلت الدولة السعودية الوهابية سعيا وراء تحقيق طموحاتها السياسية وأهدافها التوسعية في صراع سياسي وعسكري حاد مع القوى المحلية في المنطقة وفي مقدمتها مصر التي كانت تمثل مركز الثقل الحضاري في المنطقة وتقدم نموذجا مغايرا للنموذج السعودي الديني وهو النموذج المدني الحديث .

لذلك فقد شهدت العلاقات المصرية السعودية فيما بين 1925 / 1936 فترة من الصراع الحاد فقد رفضت مصر أن تسلم للسعودية بحق السيطرة على الأماكن المقدسة في الحجاز كما رفضت الاعتراف بالدولة السعودية ودار الصراع حادا بين الملك فؤاد في القاهرة والملك عبد العزيز في الرياض على منصب خليفة المسلمين كما احتد الصراع الديني بين الإسلام السعودي القائم على التعصب والإسلام المصري القائم على السماحة .

ومن ثم فقد تلاقت مصالح السعودية في القضاء على دور مصر الحضاري وزعامتها للمنطقة العربية والقضاء على نموذجها المدني الحديث ومحاولة اختراقها وإخضاعها بشكل أو آخر للهيمنة السعودية الوهابية مع مصالح رشيد رضا وتطلعاته إلى تحقيق نموذجه السلفي في إقامة الدولة الدينية وإحياء الخلافة الإسلامية .

والدراسة الكاشفة لحياة الشيخ رشيد رضا تؤكد أن السعودية قد نجحت في توظيف رشيد رضا لخدمة أهدافها السياسية والدينية فتكشف لنا المصادر التاريخية أن الشيخ رشيد رضا استطاع أن يؤسس مدرسة الدعوة والإرشاد لتخريج دعاه للدين الإسلامي وتم افتتاح هذه المدرسة رسميا في جزيرة الروضة بالقاهرة 1912 , وقد استغل الشيخ رشيد رضا هذه المدرسة للتبشير بالمذهب الوهابي أو ما كان يسميه عقيدة التوحيد وتخرج على يديه عدد من أنصار الوهابية خدموا النظام السعودي بعد ذلك من أمثال الشيخ يوسف ياسين .

كذلك فقد كرس الشيخ رشيد رضا مجلته ( المنار ) للتبشير بالمذهب الوهابي والدفاع عن النموذج السعودي وقراءة مضمون لهذه المجلة التي كانت زائعة الصيب في الأوساط الإسلامية تكشف الباحثين بوضوح عن توظيف المجلة دينيا لخدمة المذهب الوهابي وسياسيا لخدمة النظام السعودي .

كما جند رشيد رضا قلمه للتبشير بالمذهب الوهابي والدفاع عن الخلافة الإسلامية والنموذج السعودي فيما سطره من مؤلفات كثيرة من أهمها كتابه عن الخلافة أو الإمامة العظمي وكتابة عن الوهابيون والحجاز وكتابه عن الوحدة الإسلامية والإخوة الدينية وكتابه عن السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة .

ففي هذه المؤلفات يؤكد رشيد رضا أن نموذج الدولة هو النموذج الديني الإسلامي وأن الخلافة الإسلامية ضرورة لإقامة المجتمع الإسلامي وهو يري أن حكومة ابن سعود هي الدولة الوحيدة القادرة على إحياء حكومة الخلفاء الراشدين في الأرض وأنه لذلك قد شحذ عزمه على نصرتها وشد أزرها ومجاهدة أعدائها .

وقد أكد رشيد رضا على أن نصب الإمام واجب على المسلمين شرعا وهو فرض كفاية وأعطي لسلطة الخليفة طابعا دينيا شموليا يتحول في التطبيق العملي إلى حكومة دينية وأكد على أن إحياء منصب الخلافة فيه العلاج الشافي لأمراض الأمة الإسلامية واعتبر كل المسلمون آثمون حتى يبايعوا خليفة ...

وكان يؤكد باستمرار أن حكومة الحجاز بعد أن أصبحت في قبضة الوهابيين السعوديين هي المثال النموذجي للحكومة الإسلامية إذ يكفيها أنها لا تحكم بقوانين وضعية أو تشريعات أوربية ولا تعرف التعليم الحديث بل تعتمد التعليم الديني والتشريعات الإسلامية .

وهاجم رشيد رضا المذاهب الإسلامية المختلفة وخاصة مذاهب الشيعة كما هاجم بشدة الطرق الصوفية والتوسل بالأولياء مؤكدا أن ابن سعود وحده " دون باقي حكام المسلمين هو الذي نجح في إقامة حكم إسلامي لم يسبق له نظير بعد الخلفاء الراشدين .

وتولي رشيد رضا مهمة شرح مبادئ الوهابية وأفاض في الكلام عن مذهب محمد بن عبد الوهاب مؤسس الدعوة الوهابية وأحمد بن حنبل الذي استمدت منه الدعوة أصولها الفقهية وأحمد بن تيمية الذي بذر بذور الدعوة وتلاميذه ابن القيم وابن عبد الهادي وأتباعهم مؤكدا أنهم وحدهم هم الموحدون وغيرهم من المسلمين مشركين .

وأصدر رشيد رضا بواسطة مطبعة المنار العديد من مؤلفات المذهب الوهابي السلفي فنشر كثيرا من مؤلفات ابن حنبل وابن القيم وابن تيمية وبن حجي الحنبلي النجدي وغيرها من التراث السلفي الذي تقوم عليه الوهابية .

الدعم المالي السعودي

وكان رشيد رضا يتلقي نظير ذلك دعما ماليا من السعودية فيقول في رسالة له إلى الأمير شكيب أرسلان إنه قد ( تلقي حوالة مالية بمبلغ (716) جنيه من وكيل مالية الحجاز وذلك باقي المستحق له عن طبع الجزء السابع من كتاب – المغني – وأنه بصدد طبع الجزئيين الثامن والتاسع لكن تعوزه الأموال ولذلك فقد كتب إلى الملك عبد العزيز وولده فيصل فاستاء كل منها من تأخير المالية صرف مستحقاته وأمرا بإرسال جميع المستحق له كما أمرا بطبع ألفي نسخه من كتاب الآداب ومجموعة رسائل المرسلين ) .

وقد شجع هذا الدعم المالي الذي كان يتلقاه رشيد رضا من السلطات في الدولة السعودية الناشئة على صورة دعم للمطبوعات الدينية على أن ينتقل رشيد رضا بحياته إلى مستوى معيشي أرقي ووضع طبقي أعلي على الرغم من أن عائد اشتراكات مجلة المناروقيمه المباع من كتبه كانت لا تفي بأجر المطبعة وحدها ولذلك فهو يعترف في رسالة منه إلى الأمير شكيب أرسلان بأن ( الدعم الذي كان يتلقاه من السعودية نظير المطبوعات كان ربحه عظيما ... وأن ذلك جرأة على شراء دار فخمة تكون مستقرا له ولأولاده وكان قسطها السنوى زهاء (400) جنيه على مدة 6 سنوات .

وقد أوقعه هذا الإسراف والبذخ في أزمة مالية فركبته الديون واشتدت به الأزمة المالية حتى أنه أصبح وفقا لما جاء في رسالة له إلى الأمير شكيب أرسلان ( يستجدي المساعدة من السلطان السعودية لسداد ديونه التي زادت على ألف جنيه .. وأنه قد طلب من الحجاز مائتي جنيه سلفه).

وعندما بدأت السعودية تقبض يدها عن رشيد رضا وتقتر عليه في عطاياها استحكمت حلقات أزمته المالية حتى أنه اضطر في أواخر أيامه إلى رهن داره مقابل ألف ومائتي جنيه ولذلك تجده بتوسل إلى صديقه شكيب أرسلان ليتدخل بنفوذه لدي السلطات السعودية لدعمه ماليا حتى يستمر في أداء المهمة المكلف بها لصالح السلطات السعودية وذلك دون نظر لما للسلطات السعودية من ديون على المنار .

الدور السياسي لرشيد رضا

ولم يقف ولاء الشيخ رشيد رضا للنظام السعودي عند حدود التبشير بالفكر الوهابي ونشر المطبوعات السلفية بل تعدي ذلك إلى القيام بدور سياسي منحاز إلى السعودية أفصح عن نفسه في كثير من الأحداث السياسية .

فهو يلعب دور الوسيط بين شيعة إيرام وبين النظام السعودي الوهابي إبان الصراع حول مستقبل الأراضي المقدسة الإسلامية في الحجاز ويحاول تقريب وجهات النظر وتخفيف المعارضة الشيعية الإيرانية لسيطرة ابن سعود على الحجاز , وعندما سافر مبعوث إيراني إلى مكة زوده رشيد رضا بكتاب إلى الملك عبد العزيز لكن محاولته فشلت ولذلك نجده يعترف بأن محاولاته للتأليف بين الشيعة والوهابية لم تثمر الثمرة المرجوة .

كذلك فقد قام رشيد رضا بأدوار سياسية وإعلامية في الصراع الدائر بين الشيعة الزيدية في اليمن وبين السنة الوهابية في السعودية وكان إنحيازه واضحا إلى جانب ابن مسعود حتى انتهي الصراع اليمني السعودي بتوقيع اتفاق 1934 .

أما موقف الشيخ رشيد رضا من الصراع السعودي الهاشمي فقد كان منحازا انحيازا شديدا إلى الجانب السعودي فشن هجوما شديدا على الشريف حسين وأعلن صراحة أنه أميل إلى ابن سعود وأحسن رأيا فيه من الحسين الذي طعن عليه مطاعن لا حصر لها في مجلة المناروزعم أن الله قد فضحه بالمعاهدة الجديدة مع بريطانيا شر فضيحة حتى قامت عليه قيامه العالم الإسلامي وهاجت عليه جميع الجرائد .

وعندما رد خصوم ابن السعود على ذلك بآثاره مسألة علاقة ابن السعود بالإنجليز واتفاقه المسبق معهم على رسم الحدود الشمالية إذا تركوه يمتلك الحرمين لا يجد رشيد رضا دفاعا عن أميرة السعودي سوى نفي هذا الاتهام بشده جازما بأنه لا أصل له زاعما أن دين ابن سعود وتعصب قومه يحولان دون الاتفاق مع أجنبي على حصاة من أرض الحجاز.

وعندما استنكر العالم الإسلامي وحشيه جماعات البدو من الإخوان الوهابية في غزوهم للحجاز وإسالة دماء المسلمين وهدم قباب القبور المقدسة والآثار والمشاهد الإسلامية انبري رشيد رضا للدفاع عن وحشية البدو الوهابية مؤكدا أن الإسلام الصحيح هو ما يمارسه الوهابيون من منع للبدع والخرافات وتحريم الطواف بالقبور والاستعانة بالأموات ..

وزعم أن حملة دفاعه عن السعودية وعقيدتها الوهابية قد أحدثت تحولا في الرأي العام حتى أن شيخ الأزهر قال له على ملأ من علمائه ... جزاك الله خيرا بما أزلت عن الناس من الغمة في أمر الوهابية .

وعندما أصاب العالم الإسلامي القلق على مستقبل الحج بعد أن سيطر السعوديون على الحجاز تصدي رشيد رضا لهذه المخاوف مؤكدا أن حكومة الحجاز السعودية قد فعلت ما لم تفعله حكومة قبلها من حفظ الأمن وتسهيل السبل وتوفير المياه والاسعافات الصحية للحجاج .

ثم هاجم الحكومة المصرية على دعوتها لوضع الحجاز تحت سلطة الحجر الدولي دائما بدعوي أن الحجاز بيئة وبائية تنتشر فيها الكوليرا , كما هاجم مصر لمنعها ما كانت ترسله إلى الحرمين وأهله من الأموال والحقوق المقررة التي كانت ترسلها كل عام وذلك بعد أن منع السعوديون المحمل المصري وتعرضوا للمصريين بالأذى وقال رشيد رضا إن هذه الحقوق هي بعض ما وقفه أهل الخبر والغني على الحرمين الشريفيين لكن وزارة الأوقاف المصرية التي تجبي من أوقاف الحرمين في كل عام الكثير من الأموال تنفقها في غير ما أوقفت من أجله ثم يدعو رشيد رضا الشعوب الإسلامية لمساعدة حكومة الحجاز السعودية بالمال حتى يمكن حفظ الحجاز وعمرانه.

وعندما تصارع الملك فؤاد في القاهرة مع الملك عبد العزيز في مكة على منصب خليفة المسلمين لم يخف رشيد رضا إنحيازه التام لابن سعود ويدل رأيه الذي كان قد سبق أن دعي إليه بتدويل الحجاز بواسطة حكومة جمهورية إسلامية مختارة من جميع الشعوب الإسلامية ودعي إلى أن تكون الحجاز لإبن سعود مؤكدا أن حركة الوحدة الإسلامية يجب أن تبدأ من المركز الطبيعي لها وهو الحجاز وأنه قد جاء وقت العمل في الحجاز للإسلام والعرب وأن هذه فرصة لم يسمح بمثلها الزمان لأنه إذا تم ( لنا ) ما نسعي إليه في الحجاز فإننا نستطيع في سنين قليلة أن نظهر حقيقة الإسلام وتحقيق آمال مسلمي الشرق والغرب ذلك أن استيلاء ابن سعود على الحجاز – في نظر رشيد رضا – هو المشروع الذي تتم به أمنيتنا القديمة في توحيد قوى الجزيرة وإصلاح أمرها ( وأننا ) الآن على باب طور جديد للمسألة العربية بعد بروز قوة جديدة للميدان وزحفها على الحجاز .

ولذلك يعلن رشيد رضا مقاطعته لمؤتمر الخلافة الإسلامية الذي عقد في القاهرة في مايو 1926 موضحا بصراحة أصدره لم ينشرح للدخول في مؤتمر القاهرة وأنه يرجح أن تكون الخلافة في مكة ولذلك فقد بادر للمشاركة بحماس في المؤتمر الإسلامي الذي عقد بمكة في يونيه 1926 حيث لعب دورا سياسيا هاما في هذا المؤتمر وتولي رياسة اللجنة التي وضعت جدول أعمال المؤتمر بغرض تحقيق الشرعية للحكم السعودي في الحجاز وتحسين صورته في العالم الإسلامي وضمان الموارد الاقتصادية التي تأتي للحجاز من العالم الإسلامي وأوقافه وحجاجه .

وعندما فشل هذا المؤتمر في انتزاع اعتراف مصر بالحكم السعودي في الحجاز حاول الملك عبد العزيز تحسين العلاقات مع مصر بغية الحصول على اعترافها فأرسل ولي عهده الأمير سعود يرافقه مستشاره الشيخ حافظ وهبة لزيارة مصر في عام 1926...

وتصور حافظ وهبه أن زيارة الأمير السعودي لبعض مساجد الأضرحة مثل الإمام الشافعي ومسجد الحسين يمكن أن يساعد على إزالة آثار الدعاية المعادية للوهابية وموقفهم المعادي من أهل البيت وأئمة المذاهب لكن الشيخ رشيد رضا اعتبر ذلك مخالفة للمذهب الوهابي وآثار المسألة مما أدي إلى أزمة داخلية بين جماعة الإخوان الوهابية شديدة التعصب وبين العرش السعودي فتم استدعاء الأمير السعودي ومرافقه من مصر ولم تسفر هذه الزيارة عن أى تحسن في العلاقات بين البلدين .

وظل الشيخ رشيد رضا بمثابة مركز اتصال سعودي في القاهرة تدار بواسطته أمور الدولة خاصة بعد غلق الوكالة السعودية في القاهرة 1926 وعدم وجود اعتراف سياسي أو تمثيل دبلوماسي بين القاهرة والرياض .

وأتاح ذلك لرشيد رضا أن يقوم بدور هام في حركة الدعاية والتبشير للمذهب الوهابي بواسطة مجلة ومطبوعات المنار كما تولي الدفاع عن مواقف السعودية السياسية والدينية كما كان بمثابة همزة وصل بين السعودية وبين كثير من الزعامات الإسلامية التي تم استقطابها للتعاون مع النظام السعودي .

وفوق ذلك ظل رشيد رضا بمثابة مركز سعودي يستقبل كثير من المسئولين السعوديين من أمثال الشيخ حافظ وهبه والشيخ يوسف ياسين لإدارة ما يوكل إليهم من مهام عاجلة في مصر ومتابعة هذه المهام .

رشيد رضا وجماعة الإخوان المسلمين

على أن أخطر ما قام به رشيد رضا هو أنه كان حلقة الوصل بين الإخوان الوهابية في السعودية والإخوان المسلمين في مصر فجماعة الإخوان الوهابية التي نشأت في السعودية 1912 انتقلت مؤثراتها السياسية وأفكارها الدينية إلى مصر عن طريق رشيد رضا الذي تتلمذ حسن البنا على يديه وارتبط بفكره السلفي وبمدرسة الدعوة وبمجلة المنار.

ويعترف حسن البنا في مذكرات الدعوة والداعية بتأثير الشيخ رشيد رضا عليه وأنه كان دائم الحضور في مجالسه وأنه قد تأثير كثيرا بما كانت تنشره مجلة المناروحاول إعادة إصدارها بعد وفاة رشيد رضا لتؤدي دورها في خدمة الإسلام والمسلمين ولذلك يذهب المؤرخون إلى جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا عام 1928 خرجت من عباءة الشيخ رشيد رضا , ومن ثم يمكن القول بأن علاقة الإمام المؤسس حسن البنا بفكر رشيد رضا وحركته السياسية قد قادته وجماعته من الإخوان المسلمين إلى الارتباط بشكل أو آخر بالمذهب الوهابي والنظام السعودي .

وفاة رشيد رضا

في عام 1935 زار الأمير سعود ولي العهد السعودي مصر ... وكان الشيخ رشيد رضا طوال هذه الزيارة في معية ولي العهد حتى إذا ما انتهت الزيارة رافق رشيد رضا الأمير إلى ميناء السويس ... وما أن غادر الأمير السعودي ميناء السويس في طريقه إلى جده حتى استدار الشيخ رشيد رضا ليركب السيارة عائدا إلى القاهرة وما زالت أفكاره معلقة بالدولة السعودية وأحلامه مرتبطة بالخلافة الوهابية وولاؤه مرتبط بالعرش السعودي .... لكنه وقبل أن يصل إلى القاهرة ظهر الخميس 22 أغسطس 1935 كانت روحه فاضت وانتقلت إلى الملأ الأعلي .

الفصل الثالث الصراع على الخلافة الإسلامية

الصراع على الخلافة الإسلامية

في 3 مارس 1924 أعلن مصطفي كمال أتاتورك إلغاء الخلافة العثمانية فكان لهذا الحدث التاريخي أصداء واسعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي فقد كان المستقر لدي المسلمين حتى ذلك الحين أن الخلافة الإسلامية ضرورة دينية وركن من أركان الإسلام حتى اعتقد البعض بأن من مات بغير خليفة أو إمام فقد مات ميتة جاهلية.

وقد وجدها حكام البلدان الإسلامية فرصة لتحقيق طموحاتهم السياسية العبيطة فمن أغاخان في الهند حتى ملك المغرب مرورا بملك الأفغان وشريف مكة وسلطان نجد وملك مصر تطلعوا جميعا إلى عرش الخلافة .

وكان أبرز المتطلعون إلى الخلافة الإسلامية الشريف حسين بن على ملك الحجاز الذي تصور أن سيطرته على الأماكن المقدسة الإسلامية في مكة والمدينة ونسبه الشريف الذي يمتد إلى بني هاشم وتزعمه الثورة العربية ضد العثمانيين منذ عام 1916 وعلاقته بالإنجليز تؤهله لتولي منصب الخلافة ولذلك بادر الملك حسين بن على في 12 مارس 1924 بإعلان نفسه خليفة للمسلمين بدعوى عدم جواز بقاء المسلمين أكثر من ثلاثة أيام بلا إمام أو خليفة لكن هذا الانقضاض الهاشمي على عرش الخلافة ووجه بمعارضة شديدة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي الذي كان قد انصرف آنذاك عن الشريف حسين بعد أن أسفرت سياساته منذ عام 1916 عن فشل ذريع بعد أن تخلي الإنجليز عنه وغدروا به .

وأتاح ذلك للملك فؤاد في مصر أن يتطلع إلى عرش الخلافة اعتمادا على مركز مصر الحضاري في العالم الإسلامي وعلى القيمة الدينية التي يمثلها الجامع الأزهر , وبدأ الملك فؤاد يمهد لذلك بالاتصال بالإنجليز لكسب تأييدهم كما استخدم الأزهر ورجال الدين في هذه اللعبة السياسية لتهيئة الرأي العام الإسلامي لتقبله كخليفة للمسلمين في الوقت الذي استمرت اتصالاته السياسية مع القوى المحلية والإسلامية والدولية وصولا إلى هذه الغاية وبدأت أجهزته تعد لعقد مؤتمر إسلامي يعقد في القاهرة يحضره ممثلون عن مختلف البلاد والشعوب الإسلامية ليفصل في مستقبل الخلافة الإسلامية .

ووفقا لذلك المخطط وجه شيخ الأزهر في 25 مارس 1924 بيانا إلى العالم الإسلامي ضمنه دعوة رسمية لمؤتمر في القاهرة ثم عقده بعد عام – أى في مارس 1925 – لبحث مستقبل الخلافة الإسلامية واختيار خليفة للمسلمين .

بيد أن هذه الخطة ووجهت بمقاومة من جانب العلمانيين المصريين دعاة الدولة المدنية الرافضين لفكرة الخلافة والدولة الدينية وقد وصلت هذه المواجهة ذروتها بصدور كتاب الشيخ على عبد الرازق في أبريل 1925 عن الإسلام وأصول الحكم الذي انتهي فيه إلى أن الخلافة ليست أصلا من أصول الحكم في الإسلام وأن الإسلام لم يقرر نظاما بعينه الحكم بل ترك المسلمين مطلق الحرية في تنظيم الدولة وفقا للأحوال الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي يكونون عليها مع مراعاة التطور الاجتماعي ومقتضيات الزمن .

وكان هذا الهجوم على الخلافة الإسلامية في ظل هذه الظروف وما أدي إليه هذا الهجوم من تداعيات محاكمة الشيخ على عبد الرازق وفصله من زمرة رجال الأزهر ومن وظيفته كقاضي شرعي وما ترتب على ذلك من مؤثرات على الرأي العام الذي فقد حماسه للخلافة ومن ثم لم يعد وصول الملك فؤاد إلى عرش الخلافة الإسلامية بالأمر الهين خاصة مع ظهور منافسه شديدة على عرش الخلافة من جانب عبد العزيز آل سعود سلطان نجد.

فقد كان عبد العزيز آل سعود يتطلع منذ وقت مبكر إلى عرش الخلافة الإسلامية يساعده على ذلك طبيعة الدولة التي أقامها على أساس ديني وميليشياته العسكرية التي أعدها بشكل ديني عقائدي لتحقيق هذه الغاية.

لكن مركز عبد العزيز أل سعود كسلطان لنجد لم يكن يؤهله لبلوغ هذه الغاية ومن ثم قرر أن أول خطوة للوصول إلى عرش الخلافة الإسلامية هي الاستيلاء على الحجاز ووضع الأماكن المقدسة الإسلامية في مكة والمدينة تحت قبضته وعندئذ يمكن له أن يتطلع إلى عرش الخلافة وينافس عليه ويفوز به .

الغزو السعودي للحجاز ( 1924 /1925)

وفي إطار ذلك الهدف بادر السلطان عبد العزيز آل سعود إلى عقد مؤتمر في الرياض في يوليو 1934 حضره شيوخ القبائل وفقهاء المذهب الوهابي وزعماء جماعة الإخوان الوهابية وأعلن في هذا المؤتمر ضرورة غزو الحجاز لتخليص بيت الله الحرام من أيدي الهاشمين الذين اتهمهم بأنهم يحولون بين مسلمي نجد وبين أداء فريضة الحج.

وقبل أن يوجه عبد العزيز آل سعود قواته لغزو الحجاز أعلن أنه لا يريد فتح الحجاز لكي يحكمه وإنما ليتنزعه من أيدي الهاشميين ويسلمه إلى المسلمين جميعا ليقرروا مستقبل الأراضي المقدسة ومصير الحجاز .

وبذلك أخفي عبد العزيز أغراضه الحقيقية ثم وجه قواته من جماعة الإخوان الوهابية برئاسة سلطان بن بجاد وخالد بن لؤي نحو الحجاز واندفعت هذه القوات في سبتمبر 1924 حيث تم احتلال الطايف بعد معركة دموية أعقبها استحلال المدينة بذبح رجالها وسبي نسائها وتهب أموالها .

وأصبح الموقف في الحجاز ينذر بخطر جسيم يهدد استقرار الأوضاع في الحجاز وسلامة الأماكن المقدسة الإسلامية في مكة والمدينة ما يرتبط بذلك من أداء الشعائر الدينية وبذلك أصبح الموقف في الحجاز محل اهتمام المسلمين في كل أنحاء العالم .. وكان لابد من البحث عن مخرج .

وتصور أهالي الحجاز أن المخرج هو في تنازل الشريف حسين عن حكم الحجاز إلى ولده على وتصوروا أن ذلك يمكن أن يرضي الهاشميين والسعوديين معا وينقذ بلادهم من الدمار والخراب ويحافظ على الأماكن المقدسة ويسمح بأداء شعائر الحج ومن ثم أجبروا الملك حسين في 3 أكتوبر 1924 على التنازل عن عرش الحجاز لولده علي.

بيد أن شيئا من ذلك لم يتحقق فقد كان السلطان عبد العزيز آل سعود متمسكا بتحقيق أهدافه في التخلص من الهاشميين نهائيا والاستيلاء على الحجاز كخطوة أولي نحو عرش الخلافة الإسلامية ومن ثم عاش العالم الإسلامي لأربعة عشر شهرا فيما بين ( أكتوبر 1924 ديسمبر 1925) في حالة من القلق الشديد حول مستقبل الأماكن المقدسة في مكة والمدينة .

وأدرك عبد العزيز أن هذا القلق الذي يعم العالم الإسلامي يمكن أن يؤدي إلى تدخلات إسلامية ودولية تحول بينه وبين تحقيق أهدافه في الاستيلاء على الحجاز ولذلك بادر إلى الخداع وأعلن أن مكة للمسلمين كافة ويجب أن يكون أمر إدارتها وتنظيمها وفق رغبة العالم الإسلامي بحيث يظل بيت الله الحرام بعيدا عن الشهوات السياسية وأكد أنه لا يطمع في امتلاك الحجاز وأنه سيترك للعالم الإسلامي أمر تقرير مستقبل الأراضي المقدسة وتعهد في منشور أصدره في سبتمبر 1924 أن أمر الحرمين الشريفين سيكون شورى بين المسلمين لكل شعب من الشعوب الإسلامية ولكل فرد من أفراد العالم الإسلامي حق فيه .

وقد أدت هذه التأكيدات بتدويل الأراضي المقدسة إسلاميا وإعلان عبد العزيز التزامه بعقد مؤتمر يمثل فيه جميع الشعوب والدول الإسلامية يكون له وحده حق تقرير مستقبل الأراضي المقدسة في الحجاز إلى تخفيف حدة المعارضة والتخوفات الإسلامية من استيلاء الوهابيين المتعصبين على الحجاز ومن ثم وجد الهاشميين أنفسهم بمعزل أمام القوة السعودية التي استطاعت فتح مكة في ديسمبر 1924 ثم المدينة وجده ديسمبر 1925 وسقط الحكم الهاشمي في الحجاز التي أصبحت في قبضة القوات السعودية .

وكان الملك عبد العزيز في هذه الأثناء قد أرسل مستشاره حافظ وهبه إلى مصر في ديسمبر 1925 حيث التقي بالملك فؤاد وأبلغه أن عبد العزيز آل سعود يأمل في تأييد الملك فؤاد له في صراعه مع الهاشميين وأنه في المقابل يؤيد دعوة الملك فؤاد إلى مؤتمر الخلافة في القاهرة ويري أن الملك فؤاد أحق بهذا المنصب عن غيره من حكام المسلمين .

بيد أنه ما أن استتب الأمر لأبن سعود في الحجاز في مطلع عام 1926 حتى تراجع عن كل وعوده وأعلن ضم الحجاز إلى حكمه وتم تتويجه ملكا على الحجاز في 10 يناير 1926 الأمر الذي أثار سخط العالم الإسلامي وغضبته .

وفي مصر على وجه الخصوص أحس الملك فؤاد بأنه قد خدع من جانب الملك البدوي , ومن ثم اشتعل الصراع المصري السعودي منذ يناير 1926 واستمر لعشر سنوات قادمة حتى عام 1936.

مؤتمر الخلافة بالقاهرة ( مايو 1926)

واضطر الملك فؤاد إزاء سيطرة السعوديين على الأراضي المقدسة في الحجاز إلى أن يسرع بعقد مؤتمر القاهرة للخلافة الإسلامية رغم أن الظروف لم تكن مواتية لذلك خاصة بعد أن تصدي العلمانيين في مصر لفكرة الخلافة وصدر كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ على عبد الرازق وما ترتب عليه من تداعيات أضعفت من فكرة الخلافة الإسلامية ومن أهمية الدولة الدينية .

ولذلك بادر شيخ الأزهر قبل مضي شهر واحد على تنصيب عبد العزيز آل سعود ملكا على الحجاز فأعلن في فبراير 1926 الدعوة لعقد مؤتمر الخلافة في القاهرة في 13 مايو 1926 حضره عدد من ممثلي البلدان الإسلامية .

إلا أن الملك السعودي قاطع المؤتمر تأكيدا على أنه لن يسمح للملك المصري بالحصول على منصب الخلافة , ودعي الملك السعودي إلى مؤتمر إسلامي آخر يعقد في مكة وساعد ذلك على تصاعد المعارضة داخل المؤتمر لتولي الملك فؤاد عرش الخلافة ومن ثم فشل مؤتمر القاهرة في تحقيق أهداف الملك فؤاد في الخلافة وانتهي المؤتمر إلى الدعوة إلى مؤتمر إسلامي أخر تمثل فيه الشعوب الإسلامية تمثيلا تاما حتى يتم اختيار خليفة للمسلمين .

المؤتمر الإسلامي في مكة (يونيه 1926)

وعلى صعيد آخر كان الملك السعودي قد اهتم بعد استيلائه على الحجاز وتعبئة ملكا عليه في يناير 1926 بالدعوة إلى مؤتمر للمسلمين يعقد في مكة بغرض إكسابه الشرعية في الحجاز وتحسين صورته في العالم الإسلامي وضمان الموارد الاقتصادية التي تأتي إلى الحجاز من العالم الإسلامي وأوقافه مع توفير ضمانات الحج .

ولذلك أرسل عبد العزيز آل سعود في مارس 1926 دعوة إلى الشعوب والحكومات الإسلامية للاشتراك في مؤتمر مكة لخدمة الحرمين الشريفين وتسهيل الحج وعقد المؤتمر في يونيه 1926 لكن عددا كبيرا من الدول الإسلامية قاطعت المؤتمر .

وكانت مصر قد رفضت بادئ الأمر المشاركة في المؤتمر ثم أرسلت بعد ذلك الشيخ الظواهري الذي مثلها في المؤتمر .

وقد نجح الشيخ الظواهري في إحداث انشقاق داخل المؤتمر عندما هاجم تعصب الوهابيين وتكفيرهم لكل من توسل بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام وندد بهدمهم للأضرحة والأماكن المقدسة الإسلامية وأثبت أن هذه الأعمال لا تمت إلى الدين ولكنها نبت التعصب الأعمى للوهابية ورتب على ذلك عدم صلاحية الوهابية للإشراف على الأماكن المقدسة الإسلامية في مكة والمدينة بسبب تعصبهم الأعمى ضد غيرهم من أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى .

ورفض بشدة أن يكون لابن سعود باعتباره حاكما للأماكن المقدسة الإسلامية في الحجاز أى سيادة نوعية على العالم الإسلامي كما رفض الاعتراف بحكم آل سعود للحجاز وتمكينه من الأوقاف الإسلامية الخاصة بالحرمين الشريفيين وآثار مخاوف المسلمين من تستر تعصب الوهابية السعودية تحت ستار تطبيق الشريعة الإسلامية لإرهاب الحجاج المسلمين من مختلف بقاع العالم الإسلامي وتعريضهم للقتل أو الضرب ونحوه من وجوه التعذيب الشرعي السعودي لمجرد شربهم للدخان أو توسلهم بالنبي الكريم ونحو ذلك مما لا يجيزه المذهب الوهابي ونعي على ابن سعود أن ارتباطاته بالإنجليز ومعاهداته معهم من شأنها أن تهدد الأماكن الإسلامية المقدسة بالتدخل الأجنبي الإنجليزي في شئون الحجاز .

وفشل ابن سعود في أن يحصل من المؤتمر الإسلامي في مكة عن اعتراف بشرعية حكمه للحجاز وأعلن المؤتمرون أنه لا ثقة لهم بحكم ابن سعود للأراضي المقدسة .

ومن ثم فإن ما توصل إليه هذا المؤتمر من مقررات انصبت على مسائل فرعية تتصل بتوطيد الأمن وتوفير وسائل الصحة والمواصلات ونحو ذلك من الأمور المتصلة بتسهيل الحج.

وهكذا فشل الجميع في الوصول إلى عرش الخلافة الإسلامية

الفصل الرابع حادثة المحمل – يونيه 1926

حادثة المحمل

في يوم 22 يونيه 1926 الموافق أول أيام عيد الأضحى وبينما محمل الحج المصري المكون من الجمال التي تحمل كسوة الكعبة يرافقها قوة عسكرية للحراسة مكونة من ( 400) جندي من المشاة والفرسان والهاجانة ومعهم مدفعية بطارية مكونة من أربع مدافع وتتبعهم فرق طبية من الأطباء والممرضين ويرافقهم آلاف الحجاج المصريين متجهيين لأداء شعائر الحج , في طريقهم إلى وقفة عرفات تصاحبهم أصوات الفرقة الموسيقية العسكرية فوجئوا بقوة من جماعة الإخوان الوهابية من قبائل نجد البدوية يصل تعدادهم إلى ( 70) ألف رجل تهاجمهم وتتحرش بهم .

وبادر اللواء محمود عزمي باشا أمير الحج المصري إلى طلب وساطة الملك عبد العزيز الذي أرسل ولديه الأمير سعود ثم الأمير فيصل واحدا وراء الآخر لمنع تحرش الإخوان الوهابية وصدامهم مع بعثة الحج المصرية لكن هؤلاء البدو لم يكفوا عن عدوانهم بل أمعنوا في رمي الحجاج المصريين بالحجارة وأطلق بعضهم البنادق على جنود الحراسة المصريين المصاحبين للمحمل وهم يكبرون ويهللون .

وإزاء إصابة أربعة من الجند المصرية وبعض الدواب اضطر أمير الحج إلى إصدار أوامر بالرد على المعتدين وحصدت المدافع المصرية 25 رجلا من جماعة الإخوان الوهابية وأربعين جملا من جمالهم وعندئذ اضطروا للتراجع لإعادة تنظيم صفوفهم .

وقرر أمير الحج اللواء محمود عزمي باشا عدم استكمال رحلة الحج وأبلغ الحكومة المصرية بعودة بعثة الحج المصري بما فيها من حجاج تحت حراسة مشددة خوفا من ثأر هؤلاء البدو وإمعانا في الحيطة غير أمير الحج المصري سير المحمل من الطريق البري حتى ينبغ إلى طريق ميناء جدة لكن العريان من جماعة الإخوان الوهابية ترصدوا المحمل عند مضيق جبلي قبل جده وهم مسلحون بالبنادق وعاودوا الهجوم على الحجاج المصريين لكن القوة العسكرية المصرية بادرتهم بنيران مدافعها التي حصدت منهم 250 بين قتيل وجريح وأجبرتهم على الفرار , وركب الحجاج المصريين المراكب من جدة عائدين إلى مصر دون استكمال شعائر الحج , وفي القاهرة تم استقبال المحمل استقبالا رسميا وشعبيا حافلا .

هذه الحادثة عرفت في تاريخ العلاقات المصرية السعودية بحادثة المحمل ... وهي حادثة كان لها أسبابها الدينية والسياسية والاقتصادية كما كان لها دلالاتها على طبيعة العلاقات المصرية السعودية آنذاك .. ثم إنها تركت أثارها على هذه العلاقة لعشر سنوات قادمة فيما بين (1926 /1936) .

قصة المحمل

وقصة المحمل المصري ترتبط بشعائر الحج إلى بيت الله الحرام وما يرتبط بالحج من كسوة الكعبة سنويا وهي شعائر دينية عرفها المسلمون منذ فجر الإسلام بل ربما قبل الإسلام بأكثر من ثلاثة قرون .

وقد انفرد ت مصر منذ العصر المملوكي حوالي منتصف القرن 13 الميلادي وعلى مدار سبعة قرون حتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين بإرسال الكسوة السنوية إلى الكعبة والأماكن المقدسة الإسلامية الأخرى في الحجاز .

وكانت كسوة الكعبة عبارة عن كسوة من القماش الفاخر والمطرز بآيات القرآن والزركشات الإسلامية , وكانت توضع فوق هيكل خشبي يحمل على جمل أصبح يطلق عليه اسم المحمل ثم ترسل إلى الكعبة حيث يتم كسوة الكعبة بها في احتفال مهيب .

وكان المصريون يبدون اهتماما كبيرا بهذا المحمل حيث يقام عند إرسال المحمل سنويا احتفال رسمي وشعبي تعطل فيه المصالح الحكومية ويحضره كبار رجال الدولة وتشارك فيه بعض فرق الجيش وكبار رجال الدين والطرق الصوفية ...

وكان هذا الاحتفال يتم بمشاركة شعبية كبيرة وتصاحبه الفرق الموسيقية ويتخلله عروض شعبية لها مسحة صوفية وكانت الشوارع والميادين تتلألأ بالزينات وبمظاهر الاحتفالات الشعبية والاستعراضات العسكرية حيث يتولي أمير الحج المصري قيادة المحمل والقوات العسكرية المصاحبة للحراسة وآلاف الحجاج المصريين كما كان يرافقه بعض الفرق الطبية لتوفير العلاج وقافلة محملة بالصدقات والمعونات والهبات المرصودة لأهالي الحجاز تحمل الأغذية والأموال والأقمشة لتوزيعها على فقراء أهل الحجاز وخاصة أهل مكة والمدينة من خلال التكية المصرية التي تتولي إطعام الفقراء وكسائهم وعلاجهم على مدار العام .

وكان هذا الاحتفال الديني الكبير يكتسب طابعا شعبيا صوفيا بما يتخلله من فنون الأغاني والموسيقي الشعبية والأهازيج والمدائح الدينية وأذكار الفرق الصوفية .. وكان المصريون يتبركون كعادتهم بهذا المحمل ويعتقدون أن لمسهم أو تمسحهم بكساء الكعبة أو بالجمل الذي يحمل هذا الكساء يحمل إليهم البركة .

وبعد هذا الاحتفال يتم سفر المحمل إلى الأراضي المقدسة بالحجاز حيث يستقبل من أهالي الحجاز استقبالا حافلا وتقام له الاحتفالات الرسمية في جده ومكة والمدين’ .... ووسط هذه الاحتفالات والاستعراضات العسكرية والمهرجانات الدينية والشعبية يتم كسوة الكعبة وأداء شعائر الحج وتوزيع الصدقات على الفقراء وكان أهالي الحجاز يشاركون في هذه الاحتفالات حيث يوزع عليهم القمح والملابس والنفوذ فيفيض على أهالي الحرمين خير كثير .

حتى إذا ما تم موسم الحج عاد المحمل المصري بحجاجة إلى مصر حيث يستقبل أيضا بنوع من الاحتفالات الشعبية .

أسباب حادثة المحمل

ترجع أسباب حادثة المحمل إلى ثلاثة أسباب رئيسية سياسية واقتصادية ودينية , السبب الأول , هو سبب سياسي تمثل في قيام المنافسة بين العرش المصري والعرش السعودي حول منصب الخلافة الإسلامية فأثر إلغاء الخلافة العثمانية في مارس 1924 نشب الصراع بين الملك المصري والملك السعودي على منصف الخلافة وحاول فؤاد أن يصل إلى أهدافه عن طريق مؤتمر للخلافة عقد في القاهرة في مايو 1926 ورد عليه عبد العزيز بعقد المؤتمر الإسلامي في مكة في يونيه 1926 .

في ظل هذه الظروف السياسية والتنافس الشديد بين الملك فؤاد في مصر والملك عبد العزيز في السعودية وقعت حادثة المحمل ومن ثم فهي تعبير عن الأزمة السياسية التي وصلت إليها العلاقات المصرية السعودية آنذاك .

أما السبب الثاني ... فهو سبب اقتصادي فقد حاول النظام السعودي الذي فرض سلطته السياسية مؤخرا على الحجاز أن يكتسب نوعا من الشعبية بين جماهير فقراء أهل الحجاز وأن يقلل في ذات الوقت من ارتباط هذه الجماهير بمصر , وتصور أن ذلك يمكن أن يتحقق عن طريق مشاركة السعوديين للتكية المصرية في توزيع الصدقات التي كانت توزع عليهم سنويا مع المحمل ومن ثم طلب عبد العزيز إشراك حكومته في توزيع الصدقات لكن أمير الحج المصري رفض هذا المطلب وأصر على انفراد التكية المصرية بتوزيع هذه الأموال فرفض عبد العزيز تمكين التكية المصرية من أداء هذا العمل الخيري الأمر الذي اضطر أمير الحج المصري للعودة بمبلغ خمسين ألف جنيه كانت مخصصة للصدقات وهو مبلغ كبير لا يستهان به في ذلك الحين .

عندئذ كان لابد لعبد العزيز آل سعود أن يستغل كعادته العامل الديني فيطلق جماعته من الإخوان الوهابية لتعبر عن عقيدتها المذهبية ضد المحمل المصري فقد كان إخوان الوهابية يجردون غيرهم من المسلمين الذين لا يعتقدون عقيدتهم من حقهم في أن يكونوا مسلمين وكانوا يعتبرونهم كفار يجب القضاء عليهم , وكان شرب الدخان أو سماع الموسيقي والأغاني أو زيارة القبور والتبرك بالأولياء كافيا في نظر التعصب الوهابي لتجريد المسلم من إسلامه .

ولذلك ما أن رأي هؤلاء الإخوان الوهابية المتعصية المحمل محاطا بمظاهر الاحتفال حتى اعتبروه صنما يعبده المصريون الكفار وصاحوا عليه باسم ( هبل ) كبير آلهة الجاهلية , وما أن سمعوا صوت البوق والموسيقي العسكرية المصاحبة له حتى اعتقدوا أنه صوت الشيطان .. ومن ثم راحوا يرجمون المحمل بالحجارة وهم يتصورون أنهم يرجمون إبليس كما في شعائر الحج الإسلامي .

وحاول أمير المحمل المصري احتواء الأزمة بالاستعانة بالملك عبد العزيز الذي تظاهر بالرغبة في احتواء الأزمة لكن تعليماته إلى جماعته من إخوان الوهابية كانت تفجير الأزمة .

نتائج حادثة المحمل

وقد ترتب على حادثة المحمل نتائج بعيدة الأثر في العلاقات المصرية السعودية فقد أثارت هذه الواقعة إستياءا شديدا في الرأي العام المصري وشنت الصحافة المصرية حملة هجوم شديد اللهجة ضد النظام السعودي والمذهب الوهابي وتعصب جماعة إخوان الوهابية وفشلت العناصر المرتبطة بالنظام السعودي والمذهب الوهابي وعلى رأسها الشيخ رشيد رضا ومجلة المنارفي التصدي لهذه الحملة الأمر الذي ترك انطباعا سلبيا لدي الرأي العام المصري عن الدولة السعودية ومذهبها الوهابي .

ثم إن هذه الواقعة كانت مبررا للملك فؤاد في الاستمرار على سياسته في رفض الاعتراف بالحكم السعودي للأراضي المقدسة في الحجاز فانقطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وأغلقت الوكالة السعودية بعد أشهر قليلة من إنشائها في يناير 1926 كما أغلقت القنصلية المصرية في جدة .

وأدي ذلك إلى توقف مصر عن إرسال المحمل منذ عام 1927 وتوقف معه الحج المصري لعدة سنوات فقد أعلنت الحكومة المصرية لراغبي الحج من المصريين أن السفر لأداء فريضة الحج فيه خوف على حياتهم لعدم استتباب الأمن في الحجاز وأنها ليست مسئولة عما قد يتعرضون له في حالة سفرهم تحت مسئولياتهم وأثر ذلك على الحج الشعبي فقل عدد الحجاج المصريين بالرغم من حملات الدعاية التي كانت تنظمها السعودية عن طريق أعوانها في مصر لتشجيع المصريين على الحج .

ووضعت مصر أيضا قيودا على العلاقات التجارية بين البلدين فرفضت الترخيص لتجار الخيول والإبل من النجدين والحجازيين حمل قيمة ما يبيعونه في مصر من خيول وإبل إلى بلادهم ذهبا بدعوى الخوف من استنزاف ثروة مصر من الذهب .

وأوقفت مصر أيضا بعثتها الطبية التي كانت تقوم بالعبء الأكبر في مواجهة الأمراض والأوبئة في الحجاز خاصة في مواسم الحج الأمر الذي أدي إلى سوء الأحوال الصحية في الحجاز وأوقفت الحكومة المصرية أيضا إرسال الصدقات والأوقاف التي كانت ترسلها سنويا لفقراء أهل الحجاز وأثار ذلك الملك السعودي الذي حاول أن يمارس نوعا من الضغط على مصر لإجبارها على إرسال الصدقات المخصصة للحرمين الشريفين وفقراء أهل الحجاز وحرض أتباعه باستمرار على إثارة المسألة فقاد الشيخ رشيد رضا حملة إعلامية في الصحافة كما قام عبد الرحمن عزامعضو مجلس النواب المصري بإثارة المسألة في البرلمان لكن الضغط الإعلامي والبرلماني لم ينجح في إثناء السلطات المصرية عن موقفها المتشدد .

تدهور العلاقات

أخذت العلاقات المصرية السعودية في التدهور أثر حادثة المحمل وتصاعد التوتر بين البلدين عندما أسس بعض الحجازيين اللاجئين إلى مصر هربا من الحكم السعودي مجموعة من الهيئات والأحزاب السياسية المناهضة للنظام السعودي وذلك يدعم من الهاشميين فتكونت في مصر جمعية الشبان الحجازيين برئاسة عبد الحميد الخطيب وحزب الأحرار الحجازيين بزعامة طاهر الدباغ وجمعية الدفاع عن الحجاز بقيادة عبد الرؤوف الصبان ومارست هذه الهيئات والأحزاب نشاطا سياسيا وإعلاميا لمناهضة الحكم السعودي في الحجاز وتحريره من أيدي النجديين وكان التعاطف المصري مع هذه المنظمات المناهضة لآل سعود أثاره في تدهور العلاقات بين البلدين .

كذلك فإن حركة ابن رفاده وهو زعيم قبلي تمرد على الحكم السعودي وقاد حركة عصيان ضد نفوذهم في شمال الحجاز بتأييد من الهاشميين في الأردن كان لها تأثيرها السلبي في تدهور العلاقات المصرية السعودية فقد لجأ ابن رفاده بعد هزيمته إلى الهروب في مصر حيث أقام بها لعدة سنوات وأبدت بعض الصحف المصرية تعاطفا مع حركته ضد حكم آل سعود الأمر الذي جعل عبد العزيز آل سعود يتهم مصر بأنها وراء حركة ابن رفاده وأنها هي التي مولته وأمدته بالأسلحة .

وحاول ابن سعود تسوية المشكلات مع مصر فأرسل مستشاره الشيخ حافظ وهبه الذي اجتمع بوزير الخارجية المصرية واصف غالي في عام 1928 على أمل تصفية العلاقات بين الدولتين والحصول على اعتراف مصر بالنظام السعودي لكن الحكومة المصرية اشترطت لذلك تسوية جميع المشاكل المعلقة بين البلدين وهي مشاكل دينية واجتماعية وسياسية يأتي في مقدمتها مشكلة الحرية الدينية والمذهبية وما يرتبط بها من المسائل الخاصة بشرب الدخان وزيارة القبور وسماع الموسيقي وطلبت مصر أن يكون الحكم بين الناس بالشريعة الإسلامية وأن يراعي فيها أوسع المذاهب لا مذهب ابن حنبل في ثوبه الوهابي كما طالبت بالمحافظة على الحرمين الشريفين بأوضاعهما وأحوالهما وتقاليدهما وعدم التعرض لما جرت به العادة فيهما وكذلك صيانة محل ولادة النبي وباقي الآثار الإسلامية ورعاية صدقة المقابر بوجه عام والمحافظة على تقاليد المحمل والكسوة وما يرتبط بهما من دخول القوة العسكرية المصرية بأسلحتها وموسيقاها .

وطلبت مصر أيضا عدم جباية ضرائب على الحجاج وتوفير المياه في مني ومكة وتحديد أماكن الذبح وتوفير الرعاية الصحية للحجاج وعدم التدخل في توزيع الأرزاق والأموال وكذلك الاحتفالات الدينية التي تقوم بها التكايا المصرية .

وطالبت مصر أيضا بتسوية مشكلة الجنسية الحجازية وإلغاء قانون الجنسية الذي أصدرته السعودية 1926 والذي فرض الجنسية السعودية على جميع أهالي الحجاز وترك الحرية في اختيار الجنسية لمن يريدها .

وفشلت المفاوضات المصرية السعودية 1928 فقد كان الملك السعودي لا يستهدف سوى الوصول على الاعتراف المصري بحكمه للأراضي المقدسة في الحجاز في حين كان عدم الاعتراف من وجهة نظر الملك المصري كفيلا بتقويض أركان الحكم السعودي في الحجاز .

وفي ظل هذا التدهور للعلاقات المصرية السعودية ... نشأت جماعة الإخوان المسلمين في مصر 1928 .

الفصل الخامس حسن البناوتمصير التجربة السعودية

حسن البنا

يحار المؤرخ بين عبارات التبجيل والتقديس التي أسبغها الأنصار والمريدون على شخصية حسن البنا .. وبين عبارات الهجوم التي ألصقها به خصومه ..

فهو في نظر أنصاره ومريديه .. الإمام ... المرشد العام .. الرجل القرآني ... الرجل الرباني ... أذكي الشخصيات السياسية في العالم العربي ... لغز هذا الزمان وأعجوبته .. بل إن بعض أنصاره رفعه إلى مصاف الأنبياء ..

وهو في نظر خصومه ... الشيخ الدجال ... حسن راسبوتين .. الفاشي المعادي للديمقراطية ... عميل القصر والإنجليز المعادي للحركة الوطنية بل إن بعض خصومه الألداء اتهمه بأنه من سلالة يهودية وأن حركته حركة إسرائيلية هدامة .. ولكن وبغض النظر عن آراء الأنصار أو الخصوم فإنه من المؤكد أن حسن البنا قد لعب دورا سياسيا هاما في التاريخ المصري الحديث فيما بين 1928 /1949 كما أنه من المؤكد أن جماعة الإخوان المسلمين التي أنشأها عام 1928 أثرت ولا تزال تؤثر في الحياة المصرية تأثيرا واضحا .

فقد شكلت عقلية الكثير بين وأثرت في وجدان الأمة وكان لها آثارها الهامة على الحركة السياسية.

وقد ولد حسن البنا في عام 1906 في المحمودية بمحافظة البحيرة في أسرة دينية محافظة وحفظ القرآن والتحق بالتعليم الأولي حيث ظهرت ميوله الدينية المتطرفة مبكرا فأسس جمعية لمنع المحرمات والنهي عن المنكر كانت ترسل خطابات تهديد إلى من تتصور خروجهم على تعاليم الأخلاق الإسلامية كما انضم إلى طريقة صوفية كانت تعرف بإخوان الحصافية وكان يحضر اجتماعاتها ويلتزم تقاليدها ويشارك في أذكارها .

وبعد أن قضي فترة للدراسة بمدرسة المعلمين الأولية بدمنهور قرر الالتحاق بمدرسة دار العلوم وانتقل للحياة في مدينة القاهرة حيث تعرف على التيارات الإسلامية السلفية فكان دائم التردد على مجلة المناروعلى علاقة وثيقة بصاحبها الشيخ رشيد رضا كما كان على اتصال بالمكتبة السلفية وصاحبها محب الدين الخطيب ... وتعرف في القاهرة أيضا على الجناح المحافظ من الحزب الوطني من أنصار الخلافة العثمانية والدول الدينية من أمثال الدكتور عبد الحميد سعيد والشيخ عبد العزيز جاويش واللواء محمد صالح حرب وعبد الرحمن عزاموشارك في عام 1927 في تأسيس جمعية الشبان المسلمين .

جماعة الإخوان المسلمين

وإثر تخرجه من مدرسة دار العلوم 1927 عين مدرسا للغة العربية والدين الإسلامي بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية وهناك بدأ نشاطه الديني الذي أسفر عن تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 كجمعية دينية هدفها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومرجعيتها دينية تقوم على أساس أن الإسلام الذي يعتمد على مصادره الأساسية ممثلة في القرآن والسنة هو دين شامل لكافة جوانب الحياة فهو دين ودنيا ... اقتصاد وسياسية ... تشريح وقضاء ... وإن هذا الدين صالح لكل زمان ومكان وإن واجب المسلمين هو إحياء هذا الدين والالتزام به ليشمل مختلف جوانب حياتهم وأن هذا هو الحل الناجح لكل ما يعانيه المجتمع الإسلامي من مشكلات اجتماعية واقتصادية وفكرية وعسكرية وسياسية .

وفي غضون السنوات الأربع التالية 1928 /1923 انتشرت الجماعة في مدينة الإسماعيلية وأصبح لها مقرا رئيسيا في القاهرة كما أسس لها عدة شعب في مختلف الأحياء والمدن وأصبح للجماعة مطبعة وصحافة تعبر عنها وتشكل إطارها التنظيمي ووضع لها نظام أساسي ,.

وأخذت الجماعة في الانتشار وكسب الأنصار بين مختلف فئات المجتمع وخاصة في التجمعات المهنية والأوساط الطلابية خاصة طلاب الأزهر كما قام المرشد العام بعدة رحلات في مختلف أقاليم البلاد ومحافظاتها أسفرت عن إنشاء عدد من الشعب التابعة للجماعة كما أصبح لجماعة الإخوان المسلمين تنظيماتها الاقتصادية مؤسساتها المالية وأنشطتها الصحية والاجتماعية والتعليمية فقد كانت خطة الإخوان المسلمين حسب تعبير البنا هي صبغ الحياة المصرية بالصبغة الإسلامية وهيمنة تعاليم القرآن على جميع مظاهر الحياة من تشريع واجتماع وسياسة واقتصاد ونشر الإسلام ورفع راية القرآن في كل مكان .

وهكذا لم تأت الحرب العالمية الثانية 1939 إلا وكانت جماعة الإخوان المسلمين قد أصبحت قوة سياسية لها وزنها في المجتمع المصري ولها أثرها في صناعة الأحداث على مدار السنوات العشر الباقية من حياة حسن البنا حتى اغتياله 1949 .

أهداف البنا وجماعة الإخوان

أعلن البنا أن الإسلام دين ودولة ومصحف وسيف ... وأن الإخوان المسلمين دعوة سلفية وهيئة سياسية هدفها الوصول إلى الحكم لأن الحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول ومن ثم تبني البنا أطروحات الإسلام السياسي وأعلن أن شعار جماعة الإخوان المسلمين هو ..... القرآن دستورنا والرسول زعيمنا والخلافة الإسلامية غايتنا وأوضح المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين بصراحة أن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض لاستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام لاستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف , وأن الحكم منهاج الإخوان المسلمين وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله ..

وأكد البنا أن الشعب ليس حرا في اختيار الحكم الذي يريد بالمواطنون معرضون للخطيئة ما لم يلزموا أنفسهم بحكومة تقوم على أسس دينية ولذلك فالمسلمون جميعا آثمون ما لم يقيموا الدولة الإسلامية وينصبوا عليهم خليفة .

وقدم البنا نموذجا للدولة الإسلامية التي يتطلع إليها واقتصر هذا النموذج في مجال الاقتصاد على فرض الزكاة وتحريم الربا وفي المجال الاجتماعي اقتصر على تحريم القمار والخمار ومراقبة التمثيل والسينما والأغاني والروايات والصحافة مع العناية في مجال التعليم بتعليم الدين واللغة العربية والتاريخ الإسلامي هذا بالإضافة إلى منع الاختلاط ومقاومة البذخ والخلاعة وعلاج قضية المرأة إسلاميا ومقاومة الثقافة الأجنبية أما على الصعيد السياسي فقد اقتصر نموذج الدولة الإسلامية على المطالبة بالعمل بالتشريع الإسلامي واعتبار دعوي الحسية والالتزام بتعاليم الإسلام في العمل ومراعاة مواقيت الصلاة والمظهر الإسلامي بالإضافة إلى القضاء على الحزبية وإعادة الخلافة الإسلامية وإحياء الجهاد الإسلامي .

هذه هي أهداف البنا والإخوان المسلمين على الصعيد المحلي والإسلامي ... أما على الصعيد العالمي فقد كانت أهداف جماعة الإخوان المسلمين كما صاغها البنا هي تحقيق عالمية الإسلام وسيادته على كافة أنحاء الأرض , ولذلك فقد وقف موقفا معاديا من العالم الخارجي وقسم العالم إلى ديار الإيمان وديار الكفر , وأعطي لنفسه حق حماية الأقليات الإسلامية في البلاد غير المسلمة ودعي إلى أن تعود راية الإسلام عالية خفاقة على البقاع التي سعدت بالإسلام حينا من الدهر وأن الأندلس وصقلية والبلقان وجنوب ايطاليا وجزائر بحر الروم كلها مستعمرات إسلامية يجب أن تعود إلى أحضان الإسلام وأن البحرين الأبيض والأحمر يجب أن يعودا بحيرة إسلامية كما كانا من قبل ..

وتطلع البنا وجماعته إلى أبعد من ذلك فأعلن أنتا نريد أن نعلن ديننا علي العالم وأن نبلغ الناس جميعا حتى يعم الإسلام آفاق الأرض ويخضع له كل جبار ويكون الدين كله لله وأنه لذلك سيغزوا العلمانية في عقر دارها حتى يهتف العالم كله باسم النبي صلي الله عليه وسلم وتؤمن الدنيا كلها بتقاليد الإسلام وينتشر ظل الإسلام الوارق على الأرض جميعها .

الطريق إلى الحكم

كانت وسيلة البنا وجماعة الإخوان المسلمين للوصول إلى الحكم ومن ثم تحقيق أهداف الجماعة هو الانطلاق من أيديولوجية دينية قادرة على جذب أوسع الجماهير واستثمار الموروثات والمقدسات الدينية في كسب الجماهير وابتزاز مشاعرها الدينية وتوظيفها نحو غاية الجماعة في الوصول إلى الحكم .

ولذلك اهتمت الجماعة بأمور الدعاية والإعلان وعنبت بنشر أدبياتها وشيوع أفكارها كما وجهت عناية خاصة إلى التربية العقائدية الصياغة نموذج يناسب غايتها في رفض الآخر والانعزال عنه والتعصب ضده والطاعة العمياء للجماعة والإيمان بها وبأهدافها إيمانا مطلقا والإحساس بالاستعلاء والتمايز الديني على الآخرين سواء من المسلمين الآخرين أو من غير المسلمين .

وفي سبيل ذلك اهتم البنا بقنوات الاتصال الجماهيرية من صحافة ووسائل عامة ومحاضرات ودروس وخطب واجتماعات ودعاة كما استخدم المدارس والمستوصفات ومؤسسات البر والخدمة العامة لخلق مناخ إسلامي تستطيع الجماعة من خلاله تكوين التعاطف الجماهيري معها ومع برامجها وغاياتها .

واستتبع ذلك أيضا توجيه عناية خاصة إلى التعليم ومحاولة صبغ التعليم المدني في مصر بصبغة دينية مع توجيه عناية خاصة للأزهر والتعليم الديني حتى يتحول من مؤسسة رسمية من مؤسسات الدولة إلى معقل الدعوة الإسلامية في صياغة المسلمين صياغة دينية تتفق وأهداف جماعة الإخوان المسلمين ومن ثم يصبح للأزهر بمؤسساته وطلابه وأساتذته ووعاظه أكبر الأثر في نشر دعوة الإخوان وتأييدها .

وإلى جانب ذلك اهتم البنا وجماعة الإخوان المسلمين على الصعيد الاقتصادي ببناء الجماعة اقتصاديا وتوفير التمويل اللازم للاتفاق على تحقيق أهداف الجماعة ونجح البنا فعلا في توفير موارد لهذا التمويل من مصادر متعددة بعضها معلن وبعضها خفي غير معلن ... كما بدأ في تأسيس ما عرف بشركات توظيف الأموال الإسلامية وهي مشروعات اقتصادية تقوم بعمليات استغلال المال بطريق الحلال التي تجيزها الشريعة الإسلامية سواء كان ذلك بطريق الإنتاج أو بطريق المبادلات التجارية من بيع وشراء وإيجار واستثمار ومقاولات ومضاربات شريطة أن تكون هذه الأعمال خالية من شبهة الربا .. واستهل الإخوان ذلك بإنشاء شرطة المعاملات المساهمة للإخوان المسلمين وذلك تحقيقا لفكرة السيطرة الاقتصادية كمقدمة للسيطرة السياسية على الحكم .

وإلى جانب ذلك اهتم حسن البنا ومنذ وقت مبكر ببناء القوة العسكرية لجماعته بتكوين ميليشيات عسكرية عقائدية تكون أداته للوصول إلى السلطة وظهر ذلك في عنايته الفائقة منذ تأسيس الجماعة 1928 بتكوين فرق الجوالة التي كانت تتلقي قدرا من التدريبات الرياضية والنظامية والعسكرية وعين عددا من الضباط العسكرية للإشراف على هذه الفرق وتدريبها وكان البنا نفسه حريصا على مشاركتهم في هذه التدريبات وكان يرتدي الملابس العسكرية ويقف معهم في الصف ويقودهم في الطابور .

ثم تطورت فرق الجوالة في الثلاثينات وأصبحت قوة عسكرية ضاربة ومدربة على جميع أنواع الأسلحة وعمليات حرب العصابات والأعمال التخريبية وعرف هذا النظام باسم التنظيم الخاص أو الجهاز السري .

وكان تصور البنا لوصول جماعته إلى الحكم عن طريق استخدام أساليب القوة الفاشستية والدكتاتورية فلم يؤمن البنا بالديمقراطية بل كان يراها تجارب فاشلة لا تتناسب مع مبدأ القوة الذي تقوم عليه الجماعة الإسلامية , ولم يتصور البنا مفهوم الشورى في الإسلام على نحو يتطابق مع القيم الديمقراطية بل كانت الشورى في نظره أن ينهض فرد واحد بالمسئولية وزعم البنا أنه تلقي الراية عن رسول الله وليس لأحد أن يحاسبه أو يراقبه وأعلن معاداته الصريحة لكل تيارات الفكر الليبرالي ودعاة الحرية والديمقراطية وهذا هو الذي يفسر اختيار الجماعة لشعار السيفان المتقاطعان وبينهما المصحف دلالة على أن طريق الجماعة وأسلوبها في الحكم هو طريق القوة وأسلوب العنف .

نظرية الجهاد الإسلامي

وقد أدرك البنا أن مثل هذه التنظيمات العسكرية تستمد قوتها بالدرجة الأولي من التربية العقائدية التي تغذي الإحساس بالاستعلاء والتمايز الديني ومشروعية أعمال العنف تحت ستار ديني ولذلك أهتم البنا بوجه خاص بصياغة نظرية العنف السياسي أو ما عرف بنظرية التكفير أو ما يطلق عليه في أدبيات الجماعة اصطلاح الجهاد الإسلامي .

وكان قوام هذه النظرية كما صاغها البنا هي مصادرة الدين الإسلامي لصالح جماعة الإخوان المسلمين فأعلن أن منهج جماعة الإخوان المسلمين هو المنهج الإسلامي الصحيح , وأن ما عداه باطل وخارج على الإسلام وأنه عدا جماعة الإخوان فإن جميع الهيئات الأخرى مناوئة لتعاليم الإسلام ومن يخالف الجماعة يكون خارجا على الإسلام ذاته .

ومن ثم كان اتجاه جماعة الإخوان المسلمين إلى العنف السياسي بعد أن توفر لها الأساس الأيديولوجي أو العقائدي هو أمر طبيعي بعد صياغتهم صياغة تقوم على الاعتقاد بأنهم هم وحدهم الذين يمتلكون الحقيقة المطلقة وأنهم وحدهم هم الذين يمثلون الإسلام وأن ما عداهم باطل ومن ثم كان من السهل عليهم تكفير الآخرين .

وبالتالي تبرير العنف ( الجهاد ) ضدهم ذلك أن العنف في الجماعات الدينية المتطرفة هو جزء من تكوينها الذهني والنفسي وهو وليد إحساسها بأنها وحدها التي تمتلك الحقيقة وأنها دون غيرها التي يحق لها الحكم باسم الله ولذلك ترفض هذه الجماعات الرأي الآخر وتعامله على أنه كفر وتري أنهم وحدهم هم جماعة المسلمين ومن يحاول منأواتهم أو الوقوف في سبيلهم مهدر دمه وأن قاتله مثاب على فعله .

الإخوان والعنف السياسي

ولذلك فقد حفل تاريخ جماعة الإخوان المسلمين منذ بداياته المبكرة بمختلف مظاهر العنف السياسي تطبيقا لدعوة البنا لأنصاره بضرب عنق كل المعارضين بالسيف وقد تجلي هذا العنف السياسي بصورة واضحة في أعقاب الحرب العالمية الثانية فشهدت مصر فيما بين 1945 /1949 سلسلة من أعمال العنف فتم اغتيال أحمد ماهر رئيس الوزراء 1945 وتم استخدام العنف ضد الطلبة الوفديين واليساريين داخل حرم الجامعة 1946 واغتيل المستشار الخازندار 1948 وتعرض اليهود المصريون إلى مسلسل من أعمال العنف كما تعرضت أملاكهم للتخريب واستغل الإخوان المسلمون قضية فلسطين 1948 لجمع التبرعات المالية وتدريب عناصرهم وتسليحهم ليزيدون من قوة ميليشياتهم العسكرية التي ستقودهم إلى السلطة .

وظلت الشبهات تحول حول جماعة الإخوان المسلمين وعلاقتها بمسلسل العنف والإرهاب الذي تعرضت له مصر آنذاك 1945 /1948 حتى ضبطت سيارة جيب محملة بالأسلحة في 15 نوفمبر 1948 وكشفت الأوراق التي وقعت في يد سلطات التحقيق القضائية عن مخطط أعده الإخوان المسلمين للعنف والإرهاب .

وكان هذا المخطط يتضمن نسف لبعض ثكنات الجيش ومكاتب شركة قناة السويس وتعطيل خطوط السكك الحديدية ونسف الطرق والكباري وأقسام الشرطة والمطارات والبنوك .

وأيقن النقراشي باشا رئيس الوزراء أن جماعة الإخوان المسلمين قد أصبحت دولة داخل الدولة بأسلحتها وميليشياتها وشركاتها وتنظيماتها ولم يبق لها سوى القفز على السلطة ومن ثم بادر النقراشي في 8 ديسمبر 1948 بإعلان حل الجماعة .. ورد الإخوان على ذلك بفتوى من الشيخ سيد سابق تبيح قتل النقراشي وتم تنفيذ الفتوى واغتيال النقراشي في 28 ديسمبر 1948 ... وتصاعد الصدام حادا بين الدولة وبين جماعة الإخوان المسلمين وهو الصدام الذي وصل ذروته باغتيال حسن البنا في 12 فبراير 1949.

الفصل السادس العرش السعودي وجماعة الإخوان الوهابية

الدين والدولة

إذا كان التناقض بين جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة سياسية ذات مرجعية دينية وبين مؤسسات الدولة المدنية في مصر قد وصل ذروته في الأربعينات بعمليات العنف المتبادل والتي أدت إلى اغتيال رئيس الوزراء المصري 1948 والمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين 1949.

فإن هذا التناقض كان أسبق إلى الظهور في الدولة السعودية فقد تصادمت الدولة السعودية ذات المرجعية الدينية مع جماعة الإخوان الوهابية في أواخر العشرينات صداما دمويا رهيبا أسفر عن القضاء على جماعة الإخوان الوهابية في السعودية 1931 .

وهذا يضعنا أمام إشكالية الدين والسياسة ومسألة العلاقة بين الدين والدولة وما إذا كان الدين ومؤسساته يجب أن يظل خاضعا للدولة ومؤسساتها السياسية أم أن الدين ومؤسساته يمكن أن تكون له السيادة على الدولة ومؤسساتها السياسية ؟

هذه الإشكالية يمكننا أن نتلمس إجابتها في تتبع قصة الصراع بين العرش السعودي وبين جماعة الإخوان الوهابية فيما بين (1926 / 1931 )

عوامل الصدام بين العرش السعودي وجماعة الإخوان الوهابية

كان إخضاع عبد العزيز آل سعود للحجاز في ديسمبر 1925 ثم إعلان نفسه ملكا على الحجاز في يناير 1926 نقطة فاصلة في علاقته بجماعة إخوان الوهابية التي كانت آنذاك القوة الرئيسية العسكرية في مملكة آل سعود والتي تم بالاعتماد عليها توسيع الملك السعودي ليمتد من ساحل الخليج العربي شرقا وحتى ساحل البحر الأحمر غربا .

وترجع أسباب الصدام بين العرش والجماعة إلى مجموعة من العوامل بعضها ديني وبعضها سياسي وبعضها الآخر اقتصادي ..

ويأتي في مقدمة هذه العوامل موقف جماعة الإخوان الوهابية من مستحدثات العلم فقد رفضت المخترعات العلمية الحديثة سواء في مجال الحرب مثل المدرعات والمصفحات أو في مجال الاتصالات مثل اللاسلكي والتليفون والتلغراف والسيارات واستندت معارضة الإخوان الوهابية لهذه المخترعات إلى مخالفتها للدين تأسيسا على أن الرسول والصحابة لم يعرفوها ولم يستخدموها ...

وكانت عقلية الإخوان الوهابية وهي عقلية سلفية جامدة يتوقف التاريخ داخلها عند حدود المرحلة المبكرة من التاريخ الإسلامي في عصر النبوة والخلفاء الراشدين وتعجز عن تقبل مبدأ تطور التاريخ الإنساني ومن ثم تنظر إلى هذه المخترعات الآتية من بلاد الكفار على أنها من أعمال السحر وأنها أدوات الشيطان ليضل المسلمين عن إسلامهم .

هذا في الوقت الذي كان عبد العزيز آل سعود في حاجة إلى بناء دولته التي اتسعت آنذاك لتشمل نجد والإحساء والقطيف وحائل وعسير والحجاز ومن ثم حاجته إلى هذه المخترعات الحديثة لربط هذه البقاع المترامية الأطراف وأحكام قبضته عليها بالاستعانة بآلات الاتصالات الحديثة من تليفون وتلغراف وسيارات وآلات حربية حديثة .

كذلك فقد كان من عوامل الخلاف بين العرش السعودي وجماعة الإخوان الوهابية الموقف مما أطلق عليه في الأدبيات الوهابية ( الجهاد ) والذي قام في حقيقة أمره على الإقرار بحق جماعة إخوان الوهابية في غزو الآخرين واعتبار أموالهم غنيمة وهو ما كان مستقرا فيما بين إنشاء جماعة الإخوان 1912 والاستيلاء على الحجاز 1925 فقد تصادم مبدأ الغزو والغنيمة الذي قامت على أساسه جماعة إخوان الوهابية مع التزامات عبد العزيز آل سعود الدولية ففي الوقت الذي كان فيه عبد العزيز مرتبطا مع بريطانيا بمعاهدات تلزمه احترام حدود البلاد الواقعة تحت السيطرة البريطانية فقد شن مقاتلوا جماعة الإخوان الوهابية غاراتهم المتتالية على حدود الكويت والعراق وشرق الأردن.

وأصبح عبد العزيز في مأزق بين التزاماته الدولية مع بريطانيا باحترام الحدود مع جيرانه وبين مذهبه الديني الذي يجرد سكان هذه البلاد المسلمين من إسلامهم ويكفرهم بدعوى عدم التزامهم بتعاليم المذهب الوهابي وزاد من حرج عبد العزيز أنه قد استغل مبدأ الغزو والغنيمة في فترات سابقة وحرض جماعته من الإخوان على الجهاد ضد خصومه السياسيين في الإحساء وحائل وعسير والحجاز كما وجه الإخوان للإغارة على حدود العراق والأردن والكويت تحقيقا لبعض أطماعه السياسية .

ومن ثم وجد جماعة الإخوان في تناقض عبد العزيز آل سعود ومنعهم من الغارات التي كان قد أباحها لهم والتي كانت تجلب لهم الغنائم والمنافع المادية خضوعا منه لتعاليم الإنجليز الكفار ومنعا لفريضة الجهاد وقتال المشركين , واضطر عبد العزيز أن يلجأ إلى الإنجليز لرد هذه الغارات باستخدام أسلحتهم الحديثة التي لا قبل للإخوان بها فقامت الطائرات والمصفحات البريطانية بمطاردة قوات الإخوان الوهابية ورد غاراتهم على حدود الكويت والعراق والأردن لكن ذلك لم يزد جماعة الإخوان إلا إمعانا في اتهام عبد العزيز بأبطال فريضة الجهاد والخضوع للكفار .

وعلى صعيد آخر كان عبد العزيز آل سعود يتطلع لكسب الاعتراف الدولي بسلطته على الأراضي المقدسة في الحجاز وكان ذلك يتطلب بالدرجة الأولي اعتراف مصر بشرعية حكمه للحجاز ولذلك أرسل عبد العزيز عدة بعثات دبلوماسية إلى مصر سعيا لتحقيق هذه الغاية فأرسل ولي عهده الأمير سعود ومعه مستشاره الشيخ حافظ وهبه لإجراء اتصالات بمصر التي كانت في نظر جماعة إخوان الوهابية بلد شرك لا يجوز التعامل معها ومن ثم اعتبر الإخوان هذه الاتصالات بين العرش السعودي والحكومة المصرية تراجعا عن مذهبهم الذي يوجب الجهاد دولة الشرك في مصر .

وعلى الصعيد الداخلي واجه عبد العزيز مشكلة تعدد المذاهب الدينية بين رعاياه بعد أن اتسعت دولته لتضم شيعة الإحساء وسنة الحجاز إلى جانب وهابي نجد وكان استقرار الأوضاع الداخلية يقتضي من الملك السعودي أن يتعامل مع رعاياه من الشيعة والسنة وأن يكتسب ولاءهم مع حرصه الشديد في ذات الوقت على أن تظل القوة لأهل نجد وأن تظل السيادة للمذهب الوهابي لكن جماعة الإخوان اعتبروا ذلك تساهلا من أمامهم ابن سعود في أمور الدين وتراجعا عن فريضة الجهاد التي كانت تتيح لهم غزو الشيعة والمخالفين لهم من السنة والحصول على أموالهم غنائم ونسائهم سبايا ومن ثم اتهم الإخوان أمامهم بأنه إنما كان يجاهد من أجل شهواته الدنيوية ومطامعه السياسية فلما تحقق له الملك تراجع عن العقيدة وعن الجهاد في سبيل الله .

ومن ثم راحوا يوجهون الاتهامات لعبد العزيز وينتقدون تصرفاته الشخصية وسكناه للقصور وحياة البذخ واستخدام العطور اقتناء مئات الجوارى وكثرة الزواج بالنساء كما انتقدوا إسرافه في إنفاق الأموال وفرض الضرائب والمكوس والانفراد بالسيطرة على أموال المسلمين

وقائع الصدام

في هجرة الأرطاوية في عام 1926 تحت زعامة فيصل الدويش وسلطان بن بجاد وضيدان بن حثللين ووجه زعماء الإخوان في هذا الاجتماع اتهاماتهم لعبد العزيز آل سعود بخروجه على الدين وطالبوه بالكف عن استخدام المخترعات الحديثة من سيارات وتلغرافات وغيرها كما طالبوه بالالتزام بفريضة الجهاد وأن يسمح لهم بغزو الكفار المشركين في الكويت والأردن و العراق وطالبوه أيضا بإلزام جميع رعاياه في الإحساء والحجاز بأصول المذهب الوهابي كما أصروا على أن يقطع علاقاته بالكفار الإنجليز وأن يلتزم عدم إجراء الاتصالات مع المشركين في مصر .

ورد عبد العزيز على ذلك بعقد مؤتمر في الرياض 1927 حاول فيه استخدام المؤسسة الدينية الخاضعة له والمتمثلة في فقهاء المذهب الوهابي ومطوعته لإقناع جماعة الإخوان بأن سياسته تتفق مع قواعد الشرع وإن استخدام المخترعات الحديثة ليس فيه ما يخالف الدين .. لكن جماعة الإخوان رفضوا الانصياع لمحاولته احتوائهم وأصروا على تعصبهم لموقفهم الديني وتمسكوا بمطالبهم .

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل رفع جماعة إخوان الوهابية راية الجهاد وأعلنوا أنهم حملة رسالة التوحيد إلى كافة أرجاء البلاد الإسلامية , وشنوا غاراتهم على الحدود خاصة حدود العراق كما استمروا في موقفهم المعادي للمخترعات الحديثة والمعارض لسياسة عبد العزيز الخارجية والتزاماته الدولية .

وهكذا أصبح الصدام حتميا بين العرش السعودي وجماعة إخوان الوهابية ومهد عبد العزيز لهذا الصدام الدموى بمؤتمر عقده في الرياض 1928 استطاع فيه أن يجند فقهاء المذهب الوهابي ومطوعته إلى جانبه في مواجهة مع جماعة الإخوان وأفتى فقهاء المذهب الوهابي بتكفير جماعة الإخوان الوهابية وخروجهم على الجماعة وعلى طاعة ولي الأمر وأيدوا عبد العزيز في كل المسائل المختلف عليها مع الإخوان وبذلك أوجد عبد العزيز غطاءا شرعيا لتنفيذ خطته في القضاء على جماعة إخوان الوهابية .

ثم قاد عبد العزيز قواته النظامية إلى جانب قوات كبيرة من البدو الذين أقنعتهم فتاوى الفقهاء بشرعية العرش السعودي وأغرتهم أموال عبد العزيز وعطاياه ووعوده في الغنائم بالانضمام إليه وأنزل بجماعة الإخوان هزيمة فادحة في موقعة السبلة في 30 مارس 1929 حيث قتل في هذه المعركة أكثر من ثلاثة آلاف رجل من جماعة الإخوان وطاردت قوات العرش السعودي فلول قوات الإخوان إلى قراهم وهجرهم وقامت بتدمير هذه الهجر وتخريبها وسبي النساء وقتل الرجال في وحشية لا تقل عن وحشية مقاتلي جماعة الإخوان الوهابية .

وبهزيمة جماعة الإخوان الوهابية آن لعبد العزيز أن يعلن عن المعالم الحقيقية للدولة السعودية فعقد مؤتمرا للفقهاء أعلن فيه المبادئ الأساسية للعرش السعودي وهي :-

أ‌) قصر الفتوى الدينية على المؤسسة التابعة للعرش من فقهاء المذهب الوهابي .
ب‌) خضوع الشعب لأوامر ولي الأمر خضوعا كاملا وعدم مناقشة أى أمر صادر منه .
ت‌) عدم السماح للشعب أفراد وجماعات بممارسة السياسة وتحريم الاجتماعات نهائيا .
ث‌) إلغاء مبدأ الجهاد وإنهاء الغزو وتحريم الغنائم

ثم جمع عبد العزيز (1500) من فقهاء مؤسسته الدينية ليضقوا على حركة تصفيته لجماعة الإخوان الوهابية صفة الشرعية الدينية فأفتي له هؤلاء الفقهاء بأن تحكيم السيف في رقاب الخوارج المعتدين من جماعة الإخوان هي حركة جهاد ضد الخارجين على مذهب التوحيد وأنه على جميع الرعايا المسلمين الانضمام إلى الأمير في الحرب ومن يتخلف بغير عذر شرعي يعتبر خارجا على الإسلام .

ولكي يحكم عبد العزيز قبضته على قوات البدو المنضمة إليه ويتجنب إنقلابها عليه في أى وقت أعلن إنفراده بالأعطيات وأن الغنائم جميعها تعود إليه ولا توزع إلا بأمر منه ووعد عبد العزيز كل من يشترك معه في قتال الإخوان بأن تكون أموال الإخوان غنائم لهم وأن تكون نساء الإخوان سبي لهم كما هدد عبد العزيز كل من هادن جماعة الإخوان بمعاملتهم معاملة المشركين وأخذ أموالهم غنائم ونساءهم سبايا .

واستطاع عبد العزيز بهذه القوات أن ينزل ضربته القاصمة بجماعة الإخوان الوهابية وأن يأخذوا أموالهم كغنائم ونساءهم كسبايا , وحاولت بقايا قوات جماعة الإخوان الوهابية أن تلجأ إلى مناطق الحدود مع الكويت والعراق لكن القوات البريطانية المتحالفة مع عبد العزيز بن سعود أغلقت عليهم الطريق وطاردتهم بمصفحاتها وطائراتها . واضطرت قوات الإخوان الوهابية بزعامة فيصل الدويش إلى التسليم للإنجليز الذين قاموا بدورهم بتسليمهم إلى ابن سعود حيث أودع زعماءهم سجن ( المصمك) ... وهناك لقوا حتفهم .. وبذلك تم لأل سعود القضاء على جماعة الإخوان الوهابية .

جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

كان عبد العزيز آل سعود قد أدرك في أعقاب استيلائه على الحجاز في ديسمبر 1925 أنه قد أصبح القوة الأعظم في الجزيرة العربية وأنه لم يعد بحاجة إلى جماعة الإخوان الوهابية كميليشيات عسكرية يفرض بها نفوذه على الجزيرة العربية وأنه بعد أن أصبح سلطانا لنجد وملكا على الحجاز 1926 عليه أن يتعامل كرئيس دولة وليس زعيما لعصابات من الميليشيات العسكرية .

كما أدرك عبد العزيز بعد أن فشل في محاولاته لاحتواء جماعة الإخوان الوهابية وتحويلها إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة أن الصراع مع هذه الجماعة قد أصبح حتميا فلا يمكن أن تخضع الدولة للدين بل يجب أن يخضع الدين للدولة ومن ثم بحث عبد العزيز آل سعود عن صبغة جديدة يتم من خلالها توظيف الدين لحساب السياسة وإخضاع الدين لهيمنة الدولة وتحويله إلى مؤسسة من مؤسساتها .

وقد وجد عبد العزيز هذه الصبغة الجديدة فيما سمي بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... وهي صيغة وجدت في نظم الحكم الإسلامية كترجمة لما عرف بديوان الحسبة ... ووجد عبد العزيز لهذه الفكرة أصولا في تعاليم أمامه الأكبر محمد بن عبد العزيز التي نصت على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على من قدر عليه من جميع الرعية وهو في حق الإمام أعظم فيجب على الإمام القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القريب والبعيد .

وتطبيقا لذلك كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد أنشأ جماعة المطوعين واستخدمهم كشرطة تنحصر مهامها في اعتقال المتخلفين عن أداء الصلاة في المساجد أو انتهاك مبادئ الشريعة الإسلامية ونجح هذا النظام في السيطرة على المجتمع السعودي فقد كان في حقيقته نوعا من المراقبة السياسية الدقيقة تحت ستار الدين .

كما وجد عبد العزيز أيضا في تراث أسلافه من الحكام السعوديين أصولا لهذه التجربة في عهد الدولة السعودية الثانية عندما قام الإمام فيصل بن تركي حوالي منتصف القرن التاسع عشر (1843/1865).

بتنظيم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأصدر أوامره إلى حكام الأقاليم بمساعدة هذه الجماعة واعتبار أفرادها عونا يعتمد عليهم ... فتصبح بمثابة حزب يعتمد عليه وعين للدولة في كل مكان وجعل لها موظفين دينيين هم المطوعة كانوا بمثابة قوة اجتماعية ودينية وسياسية منظمة لدعم الحكم .

ولذلك فقد بادر عبد العزيز في مؤتمر الرياض 1926 إلى تأسيس هيئة دينية جديدة تكون تحت سلطة الدولة عرفت باسم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقوم بالمحافظة على أداء شعائر الدين ومراقبة الأمن العام .

وبدأت الهيئة تمارس مهامها في الحجاز أولا ثم أخذت تنتشر تدريجيا في مختلف أرجاء المملكة وبذلك وضع عبد العزيز الدين في خدمة الدولة فقد أصبحت الهيئة في حقيقة أمرها أداة تنفيذية وجهاز للأمن العام يتخذ من الشريعة الإسلامية وسيلة لمراقبة الناس وضبط الأمن .

وبعد أن نجح عبد العزيز آل سعود في القضاء على جماعة الإخوان 1931 أصبحت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي الشكل الذي انتهي إليه العرش السعودي في توظيف الدين لحساباته السياسية ولم يسمح العرش السعودي لهيئة الأمر بالمعروف أن تتسلح حتى لا تتحول إلى قوة عسكرية على نحو ما كان عليه جماعة الإخوان ولم يسمح لها بتنفيذ العقوبات بنفسها بل أوكل ذلك إلى جهاز الشرطة وبذلك أخضع العرش السعودي الدين الإسلامي لحساب الدولة السعودية .

الفصل السابع السعودية والإخوان المسلمون

وهنا تأتي إلى السؤال الذي طرحناه في مقدمة هذه الدراسة ومؤداه .. هل هناك ثمة علاقة بين تجربة جماعة الإخوان الوهابية في السعودية 1912 وبين تجربة جماعة الإخوان المسلمين في مصر 1928 .

رأي الدكتور هيكل

يجيبنا الدكتور محمد حسنين هيكل على هذا السؤال الملح والمحير في مذكراته في السياسة المصرية قائلا :" أنه قبيل سفره للحج في عام 1936 علم أن على ماهر باشا – رئيس الوزراء – يريد أن يعيد العلاقات بين الدولتين السعودية والمصرية ..

فذهبت إليه وعرضت عليه معاونته لتحقيق مقصده .. ثم سافرت إلى الحجاز على ظهر الباخرة ( كوثر ) وأنني لفي بهوها يوما بعد أن ارتديت رداء الإحرام إذ تقدم إلى حاج لم أكن قد رأيته من قبل وقدم نفسه ذلك هو الشيخ حسن البنا وقد ذكر لى يومئذ أنه ألف جمعية الإخوان المسلمين لتهذيب الناس تهذيبا إسلاميا صحيحا وأنه يطمع في قبولي رئاستها والرجل لبق حسن الحديث حلو الالقاء عرفت ذلك عنه في هذه المقابلة وعرفته بعد ذلك أثناء مقامنا بالحجاز فكان يقف في كل جمع خطيبا واعظا يتلو القرآن في مناسباتها ويلقي خطبه في عبارة بليغة وعربية صحيحة وقيل لى وأنا بالحجاز – إن له صلة بالحكومة السعودية وأنه يلقي منها عطايا ومعونة ".

التقارير الأمنية

وتؤكد تقارير جهاز البوليس السياسي ما انتهي إليه الدكتور هيكل من وجود صلة لحسن البنا بالحكومة السعودية وأنه يلقي منها عطايا ومعونة وتؤكد هذه التقارير الأمنية أن " حسن البنا مرتبط ببعض دوائر الحكم السعودي وله اتصالات مشبوهة بأجهزة النظام السعودي وأنه يسمح له في مواسم الحج بنشاط واسع ويستقبل من رجاله الدولة السعودية استقبالا ينم عن الحفاوة والاهتمام الخاص "

زعامات الإخوان المنشقة

وتثير بعض زعامات الإخوان المسلمين التي انشقت على حسن البنا مسألة تمويل جماعة الإخوان المسلمين مؤكدة اتهام البنا بتقاضي أموال من جهات أجنبية والتلاعب المالي فالذين انشقوا على البنا في الإسماعيلية 1932 اتهموه في ذمته المالية , والذين انشقوا عليه في القاهرة من جماعة شباب محمد 1939 اتهموه بالتلاعب المالي , وانشقاق عام 1947 الذي تزعمه أحمد السكري نائب المرشد العام وجه تهمة العمالة إلى البنا واتهمه بتلقي أموال من جهات أجنبية .

مذكرات البنا

ويحاول البنا تبرئة ذمته المالية وإزالة الشكوك التي علقت بمسألة تمويل جماعة الإخوان المسلمين فيقول في مذكراته الدعوة والداعية " " ولا زالت موارد الإخوان وتنظيمهم المالي ومصادر نفقاتهم لغزا كبيرا أمام كثير من الذين لم يتصلوا بهم ولم يحاولوا أن يتعرفوا الأمور على وجهها وكثير من الناس حين يري هذا النشاط الدائب والعمل المتواصل والمشروعات الكثيرة والمطبوعات المتوالية والحفلات الضخمة والاجتماعيات الحاشدة يسأل نفسه .. من أين للإخوان كل هذا ؟!

وكيف يحصلون على المال ومن أى جهة يجلبونه وهم قوم معظمهم إنما يجد ما يكفيه فقط وليس فيهم كثير من الأغنياء أو الأثرياء ؟!

خصوصا إذا كان هذا المتسائل من رجال الأحزاب أو الجماعات التي تنفق الكثير في مثل هذا النشاط ولا تجد القليل من البذل من الأعضاء والأنصار وقد يذهب الكثير من هؤلاء المتسائلين في الظن إلى درجة الاتهام بالباطل فيقول يأخذون من الدول الفلانية أو الهيئة العلانية أو تنفق عليهم هذه الجهة العالية أو تلك الناحية الخفية وكل ذلك وهم باطل وظن فاسد واتهام جرئ وقول مفتري لن يقوم عليه دليل ولا شبه دليل "..

ويجيب زعماء الإخوان المسلمين المنشقين على المرشد العام بأننا " طلبنا من فضيلته تكوين هيئة قوية لمراقبة المال والمحافظة عليه لتكون مسئولة أمام الإخوان المسلمين فأعرض فضيلته وأصم أذنيه عن هذا القول "..

فقد كان المرشد العام حريصا أشد الحرص على أن يحكم قبضته على أوجه النشاط المالي للجماعة تمويلا وإنفاقا وأن ينفرد به وحده وأن يديره بطريقة في غاية السرية ..

يؤكد ذلك أن المرشد العام قد أدار جماعة الإخوان المسلمين بشكل فردي تماما حتى عام 1933 عندما وضع أول هيكل تنظيمي لإدارة الجماعة لكن المرشد العام احتفظ لنفسه بحق تحديد مهمة واختصاصات كل جهاز في هيكل الجماعة الإداري , ولم يحدث أن أعطي البنا أى جهاز من أجهزة الجماعة أى اختصاصات مالية وعندما وضع القانون الأساسي لجماعة الإخوان في عام 1945 لم يمنح أى جهاز من أجهزة الهيكل الإداري للجماعة أى اختصاصات مالية ومن ثم ظلت الأمور المالية في قبضة المرشد العام الذي كان حسب تعبير السادات في كتابه عن أسرار الثورة " الرجل الذي يعد العدة لحركة الإخوان ويرسم سياستها ثم يحتفظ بها لنفسه وأن أقرب المقربين إليه لم يكن يعرف من خططه شيئا ولا من أهدافه شيئا ".. ومن ثم فإنه في ظل مثل هذا النظام الاداري والمالي لا نتوقع وجود وثائق مالية تكشف تفاصيل العطايا والمعونة التي كان يتلقاها البنا من السعودية .. ولذلك فقد حق للبنا أن يتحدي خصومه الذين يتهمونه بالحصول على تمويل من الخارج بأن يقدموا دليلا أو شبه دليل على ذلك .

بيد أن هذا الاتهام وأن أعوزه الدليل الوثائقي الذي يكشف تفاصيل ما كان يتلقاه البنا من عطايا ومعونات من الحكومة السعودية فإنه يظل مع ذلك قائما في حق البنا فلم يقدم البنا تفسيرا لما أثاره حول مصادر التمويل التي مكنت الجماعة من القيام بنشاطها الهائل ... بل ترك مسألة موارد الإخوان وتنظيمهم المالي ومصادر نفقاتهم لغزا كبيرا على حد تعبيره دون أن يقدم حلا لهذا اللغز .. وقعود البنا عن تقديم حل للغز الكبير يكفي في حد ذاته لتأكيد الاتهامات التي وجهت إلى البنا بأنه يلقي من الحكومة السعودية عطايا ومعونات

علاقة البنا بالسعودية

لكن المرشد العام وإن أنكر وجود تمويل لجماعته من السعودية أو غيرها من القوي الخارجية والدول الأجنبية فإنه لم ينكر ارتباطه بعلاقات وثيقة مع السعودية فهو يكشف في مذاكرته الدعوة والداعية عن علاقته المبكرة بالنظام السعودي منذ إنشاء الجماعة في عام 1928 فيقول " فضيلة الشيخ حافظ وهبة مستشار جلالة الملك ابن السعود حضر إلى القاهرة رجاء انتداب بعض المدرسين من وزارة المعارف ليقوموا بالتدريس في معاهدها الناشئة , .

وكانت الحكومة المصرية لم تعترف بعد بالحكومة السعودية تنفيذا للسياسة الإنجليزية التي تفرق دائما بين الأخوين على حين كان الشعب المصري بأسره يستنكر هذا الوضع الشاذ وكانت الطبقة المثقفة تري في نهضة الحجاز الجديدة أملا من آمالها فاتصل بي السيد محب الدين الخطيب وحدثني في هذا الشأن فوافقت مبدئيا .. ثم يستطرد قائلا – إنه قد تقابل مع صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حافظ وهبه مستشار جلالة الملك ابن السعود للاتفاق معه على السفر وشروط الخدمة ..

ويضيف البنا – وكان أهم شرط وضعته أمام فضيلة الشيخ حافظ ألا أعتبر موظفا يتلقي مجرد تعليمات لتنفيذها بل صاحب فكرة يعمل على أن تجد مجالها الصالح في دولة ناشئة هي أمل من آمال الإسلام والمسلمين شعارها العمل بكتاب الله وسنة رسوله وتحرى سيرة السلف الصالح ".. ثم يمضي البنا موضحا الجهود التي بذلها الشيخ حافظ وهبه لدي وزيري الخارجية والمعارف للموافقة على سفر البنا للعمل بالسعودية إلا أن هذه الجهود لم تنجح وتم اختيار مدرس آخر بدلا منه .

ثم يؤكد البنا استمرار علاقته وعلاقة جماعة الإخوان المسلمين بالنظام السعودي فيقول في مذكراته عن أحداث عام 1934 " كان الإخوان ينتهزون كل فرصة فيتصلون برجال البلاد العربية والإسلامية توثيقا للرابطة ونشرا للدعوة ومن ذلك زيارتهم للسيد عباس القطان محافظ المدينة المنور بمناسبة شفائه من المرض – ثم يضيف – وقد تحدث الإخوان مليا في شئون الحجاز وشئون المسلمين عامة "..

هذه النصوص التي ساقها البنا في مذكراته تكشف عن وجود علاقة بين البنا وجماعة الإخوان المسلمين وبين النظام السعودي وحرص البنا وجماعته على استمرار الاتصالات بالمسئولين السعوديين توثيقا للروابط , كما تكشف عن تعاطف البنا مع النظام السعودي منذ بداية تأسيس جماعته 1928 واستنكاره بشدة لموقف الحكومة المصرية من عدم الاعتراف بالحكومة السعودية , .

كما تكشف عن أن علاقة البنا بالسعودية لم تكن علاقة وظيفية بقدر ما كانت علاقة ذات طبيعة خاصة – سياسية ودينية – فقد كان البنا يري في السعودية الدولة الممثلة للإسلام وكان يعتبرها أمل المسلمين وكان يأمل أن يكون له دور داخل إطارها الأيديولوجي وأهدافها السياسية .

الصراع المصري السعودي

كذلك فإن علاقة البنا وجماعة الإخوان المسلمين يمكن أن تكون أكثر وضوحا إذا وضعت داخل النسق العام لتطور الأحداث التاريخية وطبيعة الصراع المصري السعودي والتدهور الذي أصاب هذه العلاقات خاصة في أعقاب إلغاء الخلافة العثمانية خلال عشرينات هذا القرن .

ومن ثم فقد كان من الطبيعي أن يكون لمصر سياستها تجاه السعودية فقد تخوفت مصر من أطماع عبد العزيز بن سعود في الاستيلاء على الأراضي المقدسة في الحجاز فلما تم له غزو الحجاز 1925 وإعلان نفسه ملكا عليها 1926 رفضت مصر بشدة الاعتراف بسلطة ابن سعود على الحجاز وظلت العلاقات مقطوعة بين البلدين لعشر سنوات حتى 1936 وتصاعد الخلاف بين البلدين حول موضوع الخلافة الإسلامية مما أدي إلى فشل مؤتمر الخلافة الإسلامية في القاهرة ( مايو 1926 ) وفشل المؤتمر الإسلامي في مكة ( يونيه 1926) .

ووصل الخلاف ذروته بحادثة المحمل ( يونيه 1926 ) والصدام الدموى الذي شهدته هذه الحادثة ثم ما تلي ذلك من تطورات عدائية فأوقفت مصر إرسال المحمل والبعثة الطبية وأوقفت إرسال الصدقات والأرزاق ووضعت قيودا على الحج وفتحت أبوابها لقوى المعارضة الحجازية ضد الحكم السعودي مثل جمعية الشبان الحجازيين وحزب الأحرار الحجازيين وحركة ابن رفاد وشنت الصحافة المصرية حملة عدائية ضد حكم آل سعود وتعصب الوهابية الديني .

وكان من الطبيعي أيضا أن يكون للسعودية سياستها تجاه مصر خاصة بعد أن تطلعت السعودية بعد سيطرتها على الأماكن المقدسة الإسلامية 1925 إلى زعامة العالم الإسلامي ودخلت في صراع مع مصر على زعامة المنطقة وأدي الصراع بين الملك فؤاد في مصر والملك عبد العزيز في الحجاز حول مسألة الخلافة إلى قطع العلاقات بين البلدين ..

وأعادت هذه الأزمة إلى أذهان السعوديين خبرات تاريخية سابقة ترجع إلى مستهل القرن التاسع عشر عندما نجحت الدولة المدنية الحديثة التي أسسها محمد على في مصر في القضاء على الدولة الدينية السلفية في السعودية ومن ثم أدركت السياسة السعودية أن بناء دولتها الدينية السلفية وهين بتحجيم الدور المصري ومقاومة الاتجاهات التحديثية ولذلك بادرت السعودية إلى محاولة اختراق مصر وخلق أنصار لها في مصر يبشرون بمذهبها الوهابي وينحازون إلى نظامها السعودي , واستخدمت سلاح المال خاصة بعد أن تزايدت مواردها المالية من الحج والزكاة والمعونة البريطانية بالإضافة إلى تزايد عائدات النفط السنوية من 4/1 مليون دولار إبان سنوات الحرب العالمية الأولي إلى 10 مليون دولار إبان سنوات الحرب العالمية الثانية ثم وصلت إلى 60 مليون دولار في عام 1948 .

وقد نشأت جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 وتطورت حتى عام 1949 داخل هذا الإطار من الصراع المصري السعودي .

دور الشيخ رشيد رضا

وداخل هذا الإطار التاريخي والنسق الفكري للصراع المصري السعودي يأتي دور رشيد رضا الذي ارتبط به حسن البنا لدرجة يمكن القول معها بأن جماعة الإخوان المسلمين قد خرجت من عباءة الشيخ رشيد رضا ومجلته ( المنار ) وقد كان رشيد رضا على اتصال وثيق بالنظام السعودي واستخدم مدرسة الدعوة ومجلة المنارلنشر الفكر الوهابي والتبشير بالنظام السعودي ومن ثم يمكن القول بأن علاقة البنا والإخوان بفكر رشيد رضا ونشاطه السياسي قد قادهم بشكل أو آخر للارتباط بالفكر الوهابي والنظام السعودي .

الصوفية

كذلك يشكل تغير موقف البنا وجماعة الإخوان المسلمين من الطرق الصوفية علامة هامة على الارتباط بالسعودية وبالمذهب الوهابي , فقد كان البنا في البدء من أنصار استخدام الطرق الصوفية في نشر دعوة الإخوان المسلمين وكان بحكم نشأته الصوفية وانتمائه إلى الطريقة الحصافية ومشاركته في بعض مظاهر الدروشة الدينية والطقوس الصوفية واعتقاده بمعجزات الأولياء وكراماتهم شديد الإعجاب ببعض أولياء الصوفية مثل السيد البدوي وإبراهيم الدسوقي ودور الصوفية في توظيف الدين لأغراض سياسية على مر التاريخ.

لكن هذا الموقف من الصوفية وطرقها سرعان ما تغير بعد أن توثق ارتباط البنا بالفكر الوهابي والنظام السعودي فأعلن معاداته الصريحة للصوفية وعدائه المطلق لطرقها واتهمها بالخروج على الإسلام وتضليل المسلمين , وأدي موقف البنا المتصلب من الصوفية وعدائه المطلق لطرقها إلى انشقاقات داخل جماعة الإخوان المسلمين وخروج كثير من أعضاء الجماعة الذين يؤمنون بالصوفية وعلى رأسهم مصطفي الطير الوكيل الثاني للمرشد حسن البنا .

ولا شك أن هذا الموقف المتغير للمرشد العام من الصوفية كان بسبب الارتباط الوثيق لمرشد الإخوان بالفكر الوهابي الذي يعادي فكر الصوفية وتبعية للنظام السعودي الذي يحرم جميع أشكال الطرق الصوفية .

علاقة البنا بالسعودية

كذلك يشكل موقف البنا وجماعة الإخوان المسلمين من فريضة الحج علامة أخرى على مدى الارتباط بالسعودية وبمذهبها الوهابي , فرغم أن الحج فريضة إسلامية لمن استطاع إليه سبيلا فإن الثابت من سيرة البنا أنه كان حريصا على أداء شعائر الحج سنويا وأنه فيما بين عامي 1936 /1948 لم يتخلق عن الحج سوى عام واحد .. فهل كان ذلك فرط ورع من المرشد العام ومزيد من حرصه الشديد على نشر دعوته والحديث إلى وفود بيت الله الحرام والسعي في توثيق الصلات والعهود مع الوافدين من أنحاء عالم الإسلام كله كما ذهب إلى ذلك أبو الحسن الندوي ؟

ربما كان ذلك يمكن أن يكون صحيحا لو أن المسألة اقتصرت على شخص حسن البنا لكن عندما تتعدي المسألة ذلك إلى درجة الإلزام بالنسبة لجميع أعضاء جماعة الإخوان المسلمين فإنها تكون في حاجة إلى تفسير آخر .

ذلك أن الإمام البنا وضع لائحة لأداء الحج والعمرة بالنسبة لأعضاء جماعته ونصت هذه اللائحة الصادرة عام 1935 على تكليف أعضاء الجماعة من مرتبة الإخوة العاملين الإخوة المجاهدين بادخار جزء من أموالهم يخصص للحج سنويا وإذا حدث تقصير في الادخار بغير عذر شرعي قاهر تنزل مرتبة العضو العامل أو المجاهد إلى مرتبة أدني هي مرتبة الأخ المنتسب أو المساعد .

كما كانت اللائحة تنص على تشكيل لجان للدعاية للحج والتشجيع عليه .

وتفسير هذا الاهتمام المبالغ فيه بمسألة الحج يمكن أن نجد تفسيره فيما أصاب السعودية من خسائر مالية من جراء انقطاع الحجاج فقد نقص عدد الحجاج نقصا شديد من (190) ألف في عام 1926 إلى (30) ألف عام 1932 وحاولت السعودية تنشيط الحج بكافة الطرق التي كان من بينها استخدام رجلها وتنظيمها في مصر لمساعدتها في الخروج من أزمتها المالية والسياسية التي سببها تناقص أعداد الحجاج .

وحدة النظرية وتنوع التطبيق

والآن نأتي إلى عامل حاسم وأخيرا في علاقة تجربة الإخوان المسلمين في مصر 1928 بتجربة إخوان الوهابية في السعودية ألا وهو .. وحدة النظرية مع قدر من التنوع في التطبيق .

وفي هذا المجال يمكننا أن نسجل الملاحظات الرئيسية التالية :-

1- التشابه في الاسم – فقد سميت التجربة السعودية باسم ( الإخوان ) أو ( إخوان الهجر ) أما التجربة المصرية فقد أطلق عليهم اسم ( الإخوان المسلمين ) واسم الإخوان بالأساس مفهوم ديني مقتبس من رابطة الإخوة الإسلامية أو على حد تعبير البنا – نحن إخوانا نعمل للإسلام ونجاهد في سبيله فنحن أخوة في خدمة الإسلام وإذن فنحن ( الإخوان المسلمون ).

2- فكرة الهجرة – فقد قامت كلا التجربتين السعودية والمصرية على فكرة الهجرة كناية عن هجرتهم للمجتمع الكافر وانتقالهم إلى المجتمع الإسلامي الحقيقي وتشبها بهجرة المسلمين الأوائل من ديار الجاهلية في مكة إلى ديار الإسلام في يثرب .

وفكرة الهجرة هذه كانت واضحة تماما في التجربة السعودية حيث اعتبر الانتقال من حياة البداوة إلى حياة الاستقرار والزراعة في الواحات التي سميت باسم الهجرة كناية عن الهجرة الجاهلية إلى الإسلام .

أما في التجربة المصرية فنجد أن الشيخ البنا فكر في الهجرة بجماعته من مصر إلى بلد يكون أشد قربا من الإسلام وذلك تطبيقا لفكرة هجرة المجتمع الجاهلي لتكوين الجماعة الإسلامية ثم العودة للقضاء على المجتمع الكافر , لكن البنا عدل عن هذه الفكرة واقتنع بأن مصر على ما بها من عيوب هي أحسن بيئة للدعوة الإسلامية وتكوين الجماعة الإسلامية .

2- الموقف المعادي من الحضارة الحديث كذلك فقد اشتركت تجربتا الإخوان في السعودية وفي مصر في الموقف المعادي من الحضارة الأدبية ومنتجها المادي والفكري فكان إخوان الوهابية يرفضون المخترعات الحديث ويرونها نوعا من السحر اخترعه الشيطان ليضلل المسلمين عن دينهم أما الإخوان المسلمين فهم إخوان لم يعارضوا المنهج المادي للحضارة الحديثة بنفس الدرجة إلا أنهم رفضوا بشدة المنتج الثقافي الذي تمثل في مفاهيم وقيم ونظم العصر الحديث فرفضوا النظريات العلمية والفلسفية والأفكار الاجتماعية ورفضوا مبدأ تحرير المرأة والديمقراطية السياسية والليبرالية الفكرية وأعلن البنا صراحة أنه وجماعته يرفضون بشدة كل الأفكار الإلحادية والعلمانية التي أنتجتها الحضارة الحديثة .

3- العناية بالمظهر الديني – حيث حرصت الجماعتان السعودية والمصرية على عدد من المظاهر الخاصة بالملبس والشكل والسلوك وأصبغوا عليها صبغة إسلامية فتمسكوا بشدة بمسألة إطلاق اللحية وحلق الشارب ومنع لبس الحرير والذهب ومنع التدخين والموسيقي وكذلك اهتموا بمراعاة مواقيت الصلاة والمظهر الإسلامي ودعوا إلى وجوب التمسك بكل المظاهر الإسلامية مع فرق في درجة التمسك فكان إخوان الوهابية في السعودية أكثر تشددا في هذه المظاهر عن الإخوان المسلمين في مصر .

4- ظاهرة العنف – حيث اشتركت التجربتان السعودية والمصرية في سمة العنف وظاهرة الإرهاب ففي التجربة السعودية تم تجنيد البدو وإعدادهم عسكريا واستغلال نزعاتهم الحربية وكانت هجرهم بمثابة ثكنات عسكرية وقاموا بعمليات غزو وسلب وتخريب وسبي اتسمت بالعنف والوحشية وأشاعوا الذعر فيما حولهم من قبائل ودول .

ولم تختلف التجربة المصرية إلا في درجة العنف والإرهاب والوحشية فقد حرص البنا على تكوين التنظيم الخاص أو الجهاز السري وقام بتدريبه وتسليحه بحيث أصبح قوة ميليشيا عسكرية قامت بكثير من عمليات الاغتيال السياسي عمليات التخريب والإرهاب وأشاعت في مصر خاصة خلال حقبة الأربعينات ظاهرة العنف والإرهاب .

5- العقلية النقلية النصبة السلفية – كذلك فقد اشتركت التجربتان السعودية والمصرية في الاعتماد على نظرية العودة بالإسلام إلى أصوله الصحيحة التي كان عليها في عهد النبوة والسلف الصالح ومن ثم كانا دعوة سلفية تقف عند حدود الماضي وتحاول إحيائه وبعثه ولذلك كانت عقلية الإخوان في مصر والسعودية تتمسك بحرفية النصوص الدينية كما وردت في القرآن والسنة ومن ثم اتسمت عقليتهم بالجمود وبالوقوف عند ظاهر النص وحدود النقل دون أن تتيح مجالا مناسبا للاجتهاد وإعمال العقل .

6- التطرف والتعصب والاستعلاء الديني – كذلك فإن من السمات المشتركة لشخصية الإخوان في السعودية وفي مصر ذلك التطرف والتعصب الديني الناتج عن إحساسهم بامتلاكهم وحدهم للحقيقة الكاملة والمطلقة وأنهم وحدهم هم الذين يتميزون على غيرهم بأنهم المسلمون الحقيقيون ومن ثم إحساسهم بالاستعلاء الديني على الآخرين .

7- نظرية التكفير – كذلك فقد اتفقت الجماعتان السعودية والمصرية في الاعتماد على نظرية تكفير الآخرين ومصادرة الإسلام لحسابهم الخاص فكانت جماعة الإخوان في السعودية تعتبر أنهم دون غيرهم من المذاهب والملل والنحل الإسلامية هم المسلمون الحقيقيون وأن من لا يعتنقون مبادئهم لا يكونوا مسلمين والمجتمع الذي لا يستجيب لمبادئهم وينقاد لها يكون مجتمع كافر .

وهذا ذاته هو ما اعتمد عليه حسن البنا حيث صادر الدين الإسلامي لصالح جماعته وأعلن أن منهج جماعة الإخوان المسلمين هو المنهج الإسلامي الصحيح وأن ما عداه باطل وخارج علي الإسلام وأنه عدا جماعة الإخوان المسلمين فإن جماعة الهيئات الأخرى مناوئة لتعاليم الإسلام ومن يخالف الجماعة يكون خارجا على الإسلام ذاته .

8- نظرية الجهاد – وقد ترتب على الأخذ بنظرية التكفير الأخذ بنظرية الجهاد حيث أخذ إخوان الوهابية بمبدأ الجهاد من أجل أهداف الجماعة واعتبروا التخلي عن الجهاد رده وكفر عن الإسلام فلا يكفي في نظرهم أن تؤمن بمبادئهم بل يجب أن تجاهد من أجلها .. وهذا هو ما أخذ به حسن البنا مع اختلاف في الدرجة فقد صاغ الإخوان المسلمين مبدأ الدعوة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل عدواني ودعي البنا صراحة لإهدار دم جميع المخالفين وضرب أعناقهم بالسيوف .

8- شكل المجتمع الإسلامي – كذلك فقد التقت الجماعتان السعودية والمصرية في تصورها لشكل المجتمع الإسلامي ونظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. ففي مجال الاقتصاد اتفقا على فرض الزكاة وتحريم الربا , وفي المجال الاجتماعي اقتصر تصورهم على تحريم القمار والخمر وتحريم اللهو ومنع الاختلاط والاهتمام بتعليم الدين واللغة العربية والتاريخ الإسلامي ومقاومة الثقافة الأجنبية ومراعاة مواقيت الصلاة والمظهر الإسلامي وعلى الصعيد السياسي اقتصر نموذج الدولة الإسلامية على الأخذ بالتشريع الإسلامي وإقامة الدولة الدينية ودعم سلطة الإمام المطلقة ورفض الحزبية والنظم الديمقراطية .

9- هكذا يمكننا أن نخلص إلى اتحاد السمات النظرية والتطبيقية لكل من جماعة الإخوان الوهابية التي نشأت في السعودية 1912 وجماعة الإخوان المسلمين التي نشأت في مصر 1938 .