العدل : من ثمار الإسلام

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
العدل : من ثمار الإسلام

بقلم: للشيخ سعيد حوى

مقدمة

الداعية سعيد حوى

... ثمرة خامسة من ثمار محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشهد أنه رسول الله ، ولولا ذلك ما كانت ، هي العدل الذي ما عرف تاريخ العالم له مثيلاً .

وسنختار حوادث من حياةرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الذين رباهم .

نرى فيها كيف ارتفعت النفس البشرية بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبهديه إلى آفاق هي أعلى ما يطمح إليه الطامحون على مدى الأزمان والأجيال .

ونرى بذلك كيف أن القرآن كان واقعاً حياً متمثلاً بهذا الجيل الفريد ، وكيف أن القرآن يرفع الإنسان إلى أعلى آفاق الإنسانية وما خالفه يدنيه نحو حضيض الحيوانية .

... {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى? أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} النساء : 135 .

... {يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى? أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} المائدة : 8 .

... {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} النساء : 58 .

... 1 – أخرج انب ماجه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : جاء أعرابي إلى النبي - r - يتقاضاه ديناً كان عليه فاشتد عليه حتى قال : أحرج عليك إلا قضيتني فانتهره أصحابه فقالوا : ويحك تدري من تكلم ؟ قال : إن أطلب حقي .

فقال النبي - r - : هلا مع صاحب الحق كنتم ؟ ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها : إن كان عندك تمر فاقرضينا حتى يأتينا تمر فنقضيك فقالت : نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله فاقترضه فقضى الأعرابي وأطعمه فقال : أوفيت أوفى الله لك فقال :

... " أولئك خيار الناس إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع " .

... أي من غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه . والحديث رواه البزار عن عائشة مختصراً والطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد جيد .

... 2 – وأخرج البخاري عن عروة أن امرأة سرقت في عهد رسول الله - r - في غزوة الفتح ففزع قومها إلى أسامة بن زيد رضي الله عنه يستشفعونه . قال عروة : فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله - r - وقال :

... أتكلمني في حد من حدود الله ؟

... فقال أسامة : استغفر لي يا رسول الله .

... فلما كان العشي قام رسول الله - r - خطيباً فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال :

... " أما بعد فإنما أهلك الناس أنهم كانوا إذا سرق فيه الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " .

... ثم أمر رسول الله - r - بتلك المرأة فقطعت يدها فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت .

قالت عائشة رضي الله عنها : كانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله -

... 3 – أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص " أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام يوم جمعة فقال :

... إذا كان بالغداة فأحضروا صدقات الإبل نقسم ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن فقالت امرأة لزوجها :

... خذ هذا الخطام لعل الله يرزقنا جملاً ، فأتى الرجل فوجد أبا بكر وعمر قد دخلا إلى الإبل فدخل معهما فالتفت أبو بكر فقال :

... ما أدخلك علينا ؟

... ثم أخذ منه الخطام فضربه ، فلما فرغ أبو بكر من قسم الإبل دعا الرجل فأعطاه الخطام وقال : استقد ( أي اقتص مني كما ضربتك فاضربني ) فقال له عمر : والله لا يستقيد لا تجعلها سنة قال أبو بكر فمن لي من الله يوم القيامة فقال عمر : أرضه . فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة ورحلها وقطيفة ( أي كساء له خمل ) وخمسة دنانير فأرضاه بها " .

... 4 – كان الرسول - r- قد وكل بتقدير حصة المسلمين في خيبر عبد الله بن رواحة وكان أهلها يهوداً وفي ذلك يروي البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنه حديثاً منه :

... كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يأتيهم كل عام فيخرصها ( أن يخمنها ) عليهم ثم يضمنهم الشطر فشكوا إلى رسول الله - r - شدة خرصه وأرادوا أن يرشوه فقال :

... يا أعداء الله تطعموني السحت ( أي الحرام ) والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض " .

.. 5 – أخرج ابن عساكر وسعيد بن منصور والبيهقي عن الشعبي قال : " كان بين عُمَرَ وبين أبي كعب – رضي الله عنهما – شيء فقال عمر :

... اجعل بيني وبينك رجلاً فجعل بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه فأتياه فقال عمر :

... أتيناك لتحكم بيننا وفي بيته يؤتى الحكم . فلما دخلا عليه وسع له زيد عن صدر فراشه فقال ها هنا يا أمير المؤمنين ، فقال له عمر : هذا أول جور جرت في حكمك ولكن اجلس مع خصمي فجلسا بني يديه فادعى أبي وأنكر عمر فقال زيد لأبي : اعف أمير المؤمنين من اليمين وما كنت لأسألها لأحد غيره فحلف عمر ثم أقسم لا يدرك زيد القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء " .

... 6 – وأخرج ابن سعد وابن راهويه عن عطاء قال : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم فإذا اجتمعوا قال : " يا أيها الناس إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم وليقسموا فيئكم بينكم فمن فعل به غير ذلك فليقم " فما قام أحد إلا رجل قام فقال :

... يا أمير المؤمنين إن عاملك فلاناً ضربني مائة سوط قال : فيم ضربته ؟ قم فاقتص منه فقام عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك وتكون سنة يأخذ بها من بعدك . فقال : أنا لا أقيد ؟ وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه قال : فدعنا لنرضيه .

... قال : دونكم فأرضوه فافتدى منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين .

... 7 – وأخرج ابن عساكر قال :

... كتب عمر بن الخطاب إلى فيروز الديلمي رضي الله عنهما :

... " أما بعد فقد بلغني أنه قد شغلك أكل اللباب بالعسل فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم على بركة الله فاغز في سبيل الله " فقدم فيروز فاستأذن على عمر رضي الله عنهما فأذن به فزاحمه فتى من قريش فرفع فيروز يده فلطم أنف القرشي فدخل القرشي على عمر مستدمى فقال له عمر من فعل بك ؟

... قال : فيروز وهو على الباب .

... فأذن لفيروز بالدخول فدخل فقال :

... ما هذا يا فيروز ؟

... قال : يا أمير المؤمنين إنا كنا حديثي عهد بملك ، إنك كتبت إلي ولم تكتب إليه ، وأذنت لي بالدخول ولم تأذن إليه فأراد أن يدخل في إذني قبلي فكان من ما قد أخبرك .

... قال عمر : القصاص .

... قال فيروز : لا بد ؟

... قال : لا بد .

... فجثى فيروز على ركبتيه وقام الفتى ليقتص منه فقال له عمر رضي الله عنه : على رسلك أيها الفتى حتى أخبرك بشيء سمعته من رسول الله - r- : سمعت رسول الله - r- ذات غداة وهو يقول : قتل الليلة الأسود العنسي الكذاب قتله العبد الصالح فيروز الديلمي ، أفَتَراك مقتصاً منه بعد أن سمعت هذا من رسول الله -r- قال الفتى : قد عفوت عنه بعد أن أخبرتني عن رسول الله - r - بهذا فقال فيروز لعمر : أفَتَرى هذا مخرجي مما صنعت إقراري له وعفوه غير مستكره ؟ قال : نعم قال فيروز : فأشهدك أن سيفي وفرسي وثلاثين ألفاً من مالي هبة له " .

... 8 – وأخرج الطبري عن إياس بن سلمة عن أبيه قال : مر عمر بن الخطاب في السوق ومعه الدرة فخفقني بها خفقة فأصاب طرف ثوبي فقال : أمط عن الطريف لما كان في العام المقبل لقيني فأخذ بيدي فانطلق بي إلى منزله فأعطاني ست مائة درهم وقال : استعن بها على حج واعلم أنها بالخفقة التي خفقتك قلت يا أمير المؤمنين : ما ذكرتها .

... " قال : ما نسيتها " .

... 9 – أخرج المحب الطبري في مناقب العشرة قال :

... كان لعثمان بعبد فقال له : إني كنت عركت أذنك فاقتص مني فأخذ بأذنه ثم قال عثمان : أشدد يا حبذا قصاص في الدنيا لا قصاص في الآخرة .

... 10 – وأخرج ابن عساكرعن علي بن ربيعة قال : " جاء جعدة بن هبيرة إلى علي رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين يأتيك الرجلان أنت أحب إلى أحدهما من نفسه أو قال :

... من أهله وماله والآخر لو يستطيع أن يذبحك لذبحك فتقضي لهذا على هذا قال : فلهزه علي رضي الله عنه وقال : إن هذا لشيء لو كان لي فعلت ولكن إنما ذا شيء لله " .

... 11 – وأخرج الترمذي والحاكم عن الشعبي قال : خرج علي بن أبي طالب إلى السوق فإذا هو بنصراني يبيع أدرعاً فعرف علي رضي الله عنه الدرع فقال : هذه درعي بيني وبينك قاضي المسلمين ، وكان قاضي المسلمين شريحاً ، كان علي استقضاه ، فلما رأى شريح أمير المؤمنين قام من مجلس قضائه وأجلس علياً في مجلسه وجلس شريح قدامه إلى جنب النصراني فقال علي :

... اقض بيني وبينه يا شريح فقال شريح :

.. ما تقول يا أمير المؤمنين ؟ فقال علي : هذه درعي وقعت مني منذ زمان فقال شريح : ما تقول يا نصراني ؟

... فقال النصراني : ما أكذب أمير المؤمنين الدرع درعي .

... فقال شريح : ما أرى أن تخرج من يده فهل من بينة ؟

... فقال علي : صدق شريح .

... فقال النصراني : أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء . أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه وقاضيه يقضيه عليَّ ، هي والله يا أمير المؤمنين درعك ، اتبعتك وقد زالت عن جملك الأورق فأخذتها فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .

... فقال علي :

... أما إذا أسلمت فهي لك وحمله على فرس .

... 12 – وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الحارث بن سويد قال : كان المقداد بن الأسود رضي الله عنه في سرية فحصروا فعزم الأمير أن لا يجشر أحد دابته ( أي لا يخرجها للمرعى ) فجشر رجل دابته لم تبلغه العزيمة فضربه فرجع الرجل يقول : ما رأيت كما لقيت اليوم قط فمر المقداد فقال : ما شأنك . فذكر له قصده فتقلد السيف وانطلق معه حتى انتهى إلى الأمير فقال : أقد من نفسك فأقاده فعفا الرجل فرجع المقداد وهو يقول : ( لأموتن والإسلام عزيز ) .

... إن هذا العدل الذي رأينا بعض نماذجه فيما مضى ، إنما كان وليد دعوة السيد الرسول - r - وإلا فإن العرب قبل كان شعارهم " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " وإن الإنسان ليعجب كيف تمثل أصحاب رسول الله - r - هذا العدل بهذه السرعة ، وبهذا العمق ، بحيث أنهم غلبوا أمماً ، وسيطروا عليها .

فساسوها سياسة عادلة لا مثيل لها ، مما أدى بهذه الشعوب أن تدخل في الإسلام أفواجاً بمجرد أن رأوا معاملة هؤلاء الفاتحين الذين لا يغلبون . العادلين الذين لا يجورون .

... وعلى الرغم من تضاؤل جيل الصحابة بالنسبة لرقعة الأرض المفتوحة ، فإن قوة الحياة التي صبتها تربية الرسول - r - في قلوب الأصحاب ، كانت كافية لأن تجعل الأمور تمشي في طريقها المستقيم .

... وحتى بعد ذلك ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فإن قضاة الإسلام المتحققين بالإسلام علماً وعملاً .

هم الذين يضربون أبداً المثل الأعلى في العدل الرباني العظيم ، الذي يتضاءل بجانبه كل قضاء .

... وأنقل هنا مثلين لقاض من قضاة الدولة العباسية .

وهو شريك بن عبد الله قاضي الكوفة في زمن الخليفة المهدي . لنرى فيها نزاهة القضاء الإسلامي وعدله :

... 1 – " قال عمر بن الهياج : كنت من صحابة شريك ، فأتيته يوماً وهو في منزله باكراً فخرج إليَّ بفرو ليس تحته قميص عليه كساء ، فقلت له : ألا تقوم إلى مجلس الحكم ؟

.. قال : غسلت ثيابي أمس فلم تجف فأنا أنتظر جفوفها اجلس . فجلست فجعلنا نتذاكر باب ( العبد يتزوج بغير إذن مواليه ) فقال : ما تحفظ فيه ؟ ما تقول فيه ؟

.. وكانت الخيرزان قد وجهت رجلاً في الطراز إلى الكوفة وجاء الوالي عيسى بن موسى الأمر بألا يتعرض له ، فكان هذا الرجل حر التصرف لا يعصى له أمر ، ولا سلطان للأمير عليه .

... فخرج علينا ذلك اليوم من زقاق يفضي إلى النخع ، ومعه جماعة من أصحابه . عليه جبة خز وطيلسان على برذون فاره ، وإذا رجل بين يديه مكتوف فلما مر ببيت القاضي صاح الرجل :

... واغوثاه أنا بالله ثم بالقاضي ، ففتح شريك الباب وخرج ، فدعا به فإذا ظهره مكشوف وآثار الضرب فيه . فأقعده إلى جنبه وقال له : ما شأنك ؟ قال : أنا رجل أطرز وأعمل الوشي ، هذه صناعتي ، وكراء مثلي مئة في الشهر .

وأخذني هذا منذ أربعة أشهر قسراً ، وحبسني وألزمني بالعمل بالقوة ، ولا يعطيني أجراً ولي عيال قد ضاعوا ، فهربت منه فلحقني فضربني وكتفني . فقال شريك للوكيل : قم فاجلس مع خصمك .

... قال : أصلحك الله يا عبد الله هذا من خدم السيدة ، وهذا أمرها فاحبسه حتى يشتغل لها . قال : ويلك قم فاجلس معه كما يقال لك ، فقام فجلس معه . قال :

... ما هذه الآثار التي تظهر بظهر هذا الرجل ؟ من أثرها به ؟ قال : أصلح الله القاضي إنما ضربته أسواطاً بيدي وهو يستحق أكثر من هذا لأنه لم يشتغل للسيدة . احبسه حتى يشتغل ، هذا أمر السيدة .

... فألقى شريك رداءه وقام فدخل داره ، وأخرج سوطاً وضرب بيده إلى مجامع ثوب الوكيل وقال للرجل :

... اذهب إلى أهلك وجعل يضرب الوكيل . فهم أعواني أن يخلصوه فقال : من ها هنا من شباب الحي ؟ فجاءه جماعة فقال :

... من وقف من هؤلاء فاذهبوا به إلى الحبس . فهربوا جميعاً وتركوه ، وما زال يضربه حتى رأى أن ذلك يكفيه . فتركه فانصرف وهو يهدد بانتقام السيدة . فألقى السوط من يده . وعاد إلى ما كنا فيه من المذاكرة كأنه لم يصنع شيئاً وقال لي :

... يا أبا حفص ما تقول في العبد يتزوج بغير إذن مواليه ؟

... وأراد الوكيل أن يركب برذونه فاستعصى عليه . ولم يكن معه من يمسك له الركاب فجعل يضرب البرذون فصاح به شريك :

... ارفق به ويلك ، فإنه أطول لله منك ، فمضى ماشياً . فقال لي شريك : خذ فيما كنت فيه قلت : مالنا ولهذا الآن ؟ قد فعلت والله فعلة ستكون لها عاقبة مكروهة : من ضرب وكيل الخيرزان فكأنه ضربها .

ومن ضربها فكأنما ضرب الخليفة . قال : أعز أمر الله يعزك .

خذ فيما كنا عليه . فعدنا نتذاكر في مسألة العبد يتزوج بغير إذن مواليه . وذهب الوكيل إلى موسى بن عيسى أمير الكوفة فدخل عليه شاكياً باكياً .

وكشف عن ظهره فارتاع الوالي وغضب وقال :

... من فعل بك ذلك ؟

... قال : شريك .

... قال : لا والله ما أتعرض لشريك ، قال : سأشكوك إلى السيدة .

... قال : لا أتعرض لشريك .

... فمضى الوكيل ولم يعد " .

... 2 – كان موسى أمير الكوفة من كبار أمراء البيت العباسي .

وكان له سلطان الإمارة وسلطان النسب . وكان مع ذلك كله يتجنب أن يكون بينه وبين القاضي خلاف .

ويبتعد عن طريقه ولا يعارضه في شيء .

ولم ينج مع هذا كله من الخلاف . و

لم يختلفا لأن الأمير عرض له في قضائه بين الناس .

ولا لأنه دخل مؤيداً لمدع أو مدعى عليه ، بل اختلفا من أجل دعوى أقيمت على الأمير نفسه ، وسبب الدعوى " أن الأمير أراد أن يوسع داره .

وكان إلى جنبها بستان نخل لأخوة ورثوه من أبيهم .

وكانوا خمسة إخوة وأختاً واحدة .

فاشترى منهم جميعاً إلا الأخت .

فإنها أبت أن تبيع فزادها في الثمن وضاعفه لها أضعافاً .

وهي تصر على الإباء .

فغاظه أن يفسد عليه أمره حمق هذه المرأة .

وأراد أن يضطرها إلى البيع وكان بينها وبين حصص إخواتها التي باعوها سياج .

فبعث غلمانه ليلاً فأزالوه .

... وأصبحت المرأة فرأت نخلها قد اختلط بنخل إخوتها ولم تعد تعرف أرضها من الأرض التي باعوها للأمير .

فأقبلت تبكي وتلطم .

ولا تدري ماذا تفعل .

وذهبت تكلم الأمير فلم يسمع منها وقال لها :

... خذي ثمن الأرض أضعافاً .

... فقال : لا أبيعها وانطلقت تتوسل إليه بوجوه البلد ، فما وجدت منهم مسعفاً ولا معيناً فقال لها واحد من جيرانها :

... أنا أدلك على من يخلص لك حقك .

فاستبشرت وابتهجت وقالت : من هو ؟ قال : القاضي . اذهبي إليه فنادي أنا بالله ثم بالقاضي ، وقصي عليه قصتك .

... فذهبت تسأل الناس : أين قصر القاضي فيضحكون منها ويقولون لها : ومتى كان للقاضي قصر ؟ اطلبيه في المسجد أو في داره .

ودلوها على داره فرأت داراً صغيرة من اللبن والطين . ما على بابها حرس ، وليس حولها جند . فقالت في نفسها أين هذا من قصر الأمير وهمت بالرجوع ، ثم أحبت أن تجرب فقرعت الباب تسأله عنه ، فقالت له امرأته هو في مجلس الحكم في المسجد .

فدخلت إلى المسجد تسأل عنه فدلوها عليه .

فصاحت أنا بالله ثم بالقاضي . قال : من ظلمك ؟

... قالت : الأمير موسى بن عيسى .

... قال : فيم وما دعواك ؟ فحكت له قصتها ، فأعطاها ورقة بعد أن ختمها وقال لها : امض بها إلى بابه حتى يحضر معك .

... فلما أرادت الدخول على الأمير صاح بها الحاجب : مكانك يا امرأة ماذا تريدين ؟

... قالت : الأمير .

... فأراد إرجاعها فقالت :

... إن معي هذه ، قال : وما هذه يا امرأة ، قالت : بطاقة القاضي للأمير فوثب وقال : تقولين إنها بطاقة القاضي هاتيها لأراها ، فلما رآها قال ويحك وَلِمَ لم تقولي من أول الأمر إن معك بطاقة القاضي ؟ ادخلي .

فلما قرأها الأمير أمر بدعوة صاحب الشرطة فلما جاءه قال :

... امض إلى شريك فقل له يا سبحان الله ما رأيت أعجب من أمرك .

امرأة ادعت دعوى لم تصح أعديتها علي ، فحاول صاحب الشرطة أن يعتذر عن هذه المهمة ، فأصر الأمير فأرسل صاحب الشرطة من يأخذ له أغراضه إلى السجن ولما أوصل الرسالة أمر به شريك إلى السجن لأنه يتدخل في شأن القضاء ، فأرسل الأمير الحاجب فسجنه شريك أيضاً ، فأرسل إليه الأمير وجوه الكوفة للوساطة فسجنهم جميعاً . فجاء الأمير ليلاً ففتح باب السجن وأخرجهم جميعاً ، ولما بلغ من الغد الأمر إلى شريك قال لغلامه :

... الحقني بثقلي إلى بغداد ، والله ما طلبنا هذا منهم ، ولكن أكرهونا عليه وقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه إذا تقلدناه لهم ، وركب دابته ومضى نحو قنطرة الكوفة في طريقه إلى بغداد ، وأخبر الناس الأمير فلحقه وجعل يمشي معه ويقول له :

... يا أبا عبد الله تثبت أنظر ، دع أعواني ، أفتحبس إخوانك ؟ إخوانك تحبسهم ؟ قال : نعم ، لأنهم مشوا لك في أمر لم يجز لهم المشي فيه ، ولست براجع حتى يردوا جميعاً إلى الحبس ، وإلا مضيت إلى أمير المؤمنين فاستعفيته مما قلدني ، فأمر موسى بردهم جميعاً إلى الحبس وهو واقف مكانه ، حتى جاءه السجان فقال : قد رجعوا إلى الحبس . فقال القاضي لغلامه : خذ بلجامه فقده إلى مجلس الحكم ، ونودي على المرأة فجاءت فأجلسها معه ، فقال الأمير : أنا قد حضرت أفلا تطلق من حبستهم ، قال : أما الآن فنعم ، وأمر بإخراجهم من السجن وقال للأمير :

... ما تقول يا رجل فيما تدعيه هذه المرأة ؟

... قال : صدقت .

... قال : أتعيد سياجها وترد ما أخذته منها ؟

... قال : نعم .

... قال للمرأة : بقي لك شيء تدعينه ؟

... قالت : نعم . بيت حارس البستان ومتاعه .

... قال : ما تقول ؟

... قال : أرد ذلك كله .

... قال : بقي لك شيء .

... قالت : لا وجزاك الله خيراً .

... قال : قومي .

ووثب فأخذ بيد موسى وأجلسه في مجلسه وقال له : السلام أيها الأمير أتأمر بشيء ؟ فضحك وقال : بأي شيء آمر ، قال : ذاك حق الشرع وهذا حق الأدب "(1) .

... عدل لا مثيل له ، ذلك ثمرة من ثمار محمد - r - تدلُّ على أنها ثمرة نبي ، إذ ليس لها مصدر سواه تنسب إليه في أمة لم تهذبها ثقافة سابقة ، ولا تجربة قضائية مستمرة ، ولا رقابة اجتماعية معترف عليها .

الدليل والبرهان - براهين سعيد حوى

المصدر