العلاقة العكسية بين الحصانة والحرية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
العلاقة العكسية بين الحصانة والحرية



أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة المنصورة


أ.د/زكريا سليمان أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة المنصورة

الحصانة مصطلح عرفه الناس من خلال العلاقات السياسية بين الدول تتوفر بموجبه نوع من الحماية للعاملين في الحقل السياسي أو الدبلوماسي لا يتعرضون بموجبها لأي عدوان من قبل المعارضين لسياسة دولهم في البلدان التي يمثلون بلادهم فيها .

وعرفت الحصانة التي منحت لرجال القضاء منذ عصور بعيدة في الحضارة الرومانية والإسلامية وغيرها ضمانا لعدم تعرض القاضي لأية ضغوط قد تؤثر في أحكامه أو تعرضه للإيذاء من قبل من صدرت ضدهم الأحكام ، فوفرت لهم الدولة نوعا من الحصانة التي تعني الحماية والحرية.

وحين كان الدعاة المسلمون يعتلون منابر المساجد لنشر الدعوة التي تساند الدولة ، أي كانت الدولة وسيلة لها ، لم تتوفر لهؤلاء الدعاة حصانة بل كان الأمر شوري يقبل تعدد الآراء واختلافها بحرية كاملة ، فترسخ دور المسجد علي كونه منبرا تناقش فيه القرارات السيادية التي تحدد مصير الأمة . ولكن حين تحول الأمر إلي تحول الدعوة لخدمة الدولة واستئثار الدولة بالأمر وفرت الدولة حصانة للدعاة باسم الحفاظ علي هيبة الدين ، وحرم الناس من حرية النقاش ، واستأثر دعاة الدولة بمنبر منحوا فيه أنفسهم مطلق الحرية التي سلبت من الناس ، ولم يصبح من حق أحد مناقشة من يعتلي المنبر في معلومات موجهة أو خاطئة ، وفتح الباب للجهلاء وأرباع المثقفين لاعتلاء المنبر الذين غرتهم حصانته التي احتمت بالدين أو الدولة أو كلاهما فظنوا أنهم وحدهم الذين يفهمون الحقيقة ويستأثرون بمفاتيح الجنة ويمنحون صكوك الغفران ، وفقد المسجد بهم هيبته ودوره الأساسي .

وعلي نفس شاكلة دعاة الدولة حاول المشتغلون بوسائل الإعلام الاحتماء بالحصانة علي اعتبار أنهم منبرا آخر يسعى للدفاع عن حقوق الكادحين وكذلك ترسيخ مفهوم الحرية وهم بهذا يحتاجون إلي حماية وحرية . ووفرت لهم العديد من الجمعيات السرية في السابق هذا المطلب من الحرية في إطار صراع النفوذ والمصالح ، كما نعموا بقدر من ذلك من قبل الدول والأنظمة السياسية في إطار صراعها أو دعم نفوذها ووجودها أو استمرارها . ولتنامي تأثيرهم أصبحوا قوة في حد ذاتهم أطلقوا علي نفسها في الزمن الحالي السلطة الرابعة، وازداد نفوذهم وتأثيرهم مع ازدياد وسائل الإعلام إلي درجة كبيرة . ولم يقلل من سقف الحرية التي منحها الإعلام لمنتسبيه وجود البعض منهم من حملة المباخر والمداهنين للسلطة السياسية والساعين والمروجين لانتقاص حرية بعض الشرائح الاجتماعية ، وكذلك وجود العديد من الجهلاء وجامعي أعقاب الثقافات الذين استغلوا مناخ الحرية في هذه الوسائل فأصدروا الأحكام الخاطئة ونشروا المعلومات المبتورة والمنقوصة والمغرضة دون حسيب أو رقيب . فحين تتابع بعض البرامج في الفضائيات ويضيق صدرك من المعلومات المشوهة التي يطلقها مقدموا البرامج تعييك وسيلة الاتصال بهم فهي مسألة مبرمجة . وإذا ساعدك الحظ وشاءت إرادة المعد لتقبل اتصالك فعليك أن تساير ما ذكره من معلومات أو يقطع عليك الخط ، وإذا سمح لك لظرف طارئ أن تكمل رأيك المخالف للمعد فيكون جزاؤك التسفيه لرأيك واتهامك بالجهل وأنت لا تملك حرية الرد . أما إذا نالك شرف الاستضافة في أي من هذه القنوات من باب زركشة الجلسات لا أن يستفاد بما لديك من علم ، فشكل التساؤلات والوقت المتاح للجواب وإدارة النقاش لن تسمح إلا بأن تساق حيث يريد أهل الحصانة دون أي حرية في إظهار الحقيقة ، وتشعر أنك في تمرين علي تقبل القهر والدكتاتورية من دعاة الحرية .

ومن الذين يطالبون بالحصانة أيضا في الفترة الأخيرة نقابة المحامين باعتبار أن المحامين حلقة ن حلقات التقاضي وإرساء العدل ، فإذا أدركنا عدد خريجي الحقوق وعدد كليات الحقوق لعلمنا حجم طالبي الحصانة ، ولم يع هؤلاء أن كليات الحقوق تقبل أدني مجموع في الثانوية العامة أي أضعف شرائح الطلاب المصريين إلا النادر الذي يعشق هذا الفرع من العلوم.

وأصبح من اللائق وسط هذا الزحام من طالبي الحصانة أن تتوفر لصناع كوادر الحصانة أي أساتذة الجامعات فهم الذين يعلمون الدبلوماسي والقاضي والمحامي والإعلامي ، وهم دعاة حرية الفكر التي قد لا تتوفر في بعض المجتمعات إلا داخل الجامعة ، فهم أولي بحصانة تحمي دعمهم لحرية الفكر .

وهناك حصانة مؤقتة يحصل عليها نواب المجالس النيابية من أجل حمايتهم وتوفير الحرية لهم في دفاعهم عن حقوق الكادحين فيستثمرها البعض في غير ذلك من مصالح ، وبدلا من مراقبة السلطة التنفيذية ومطالبتها بتحقيق قدر من العدل يستخدمونها في التقرب إلي هذه السلطة لنيل الامتيازات ، بل إن أحدهم قد طالب بإطلاق الرصاص علي المتظاهرين من أصحاب الحقوق من هؤلاء الكادحين الذين أوصلوه للحصانة. هذا إلي جانب حصانة رجال الأعمال والمستثمرين التي انتزعوها انتزاعا وفرضوها بالمال .

والغريب بعد ذلك أنه لم يتبق من شعب مصر محروما من الحصانة وما توفره من الحرية سوى جموع الفلاحين والعمال علي الرغم من أنهم هم الذين يوفرون مقومات الحياة الأساسية للمتمتعين بالحصانة أو الساعين إليها . وأصبح علي الفلاح أمام هذا الفقر أن يستنهض الفلاح الفصيح لكي يتعلم منه كيف يتحدث مع الفراعنة الجدد من المتمتعين وحدهم بالحصانة . وبقي علي العامل أن يتمرد علي سادته من أصحاب الحرية والحصانة ، فليس من المعقول أن يتمتع لابس الحذاء بالحرية ويحرم منها صانع الحذاء الذي لولاه لأصبح علية القوم حفاة . وليس من المعقول أن يتمتع أصحاب الحصانة بالخبز ويحرم منها صانعه الذي لولاه لبات هؤلاء جوعي .

لقد أصبحت الحصانة التي تمنح أصحابها الحرية المطلقة في مصر حكرا في الغالب علي الأغنياء دون الفقراء، وأصبح استخدامها قاصرا علي الكسب السريع مهما كانت مصادره والتحكم في الأسعار وتدعيم الاحتكار علي حساب الكادحين المقهورين من الفقراء .

إننا في مصر في حاجة ماسة إلي العودة للبحث عن تقويم متوازن متحضر يرضي الله في تحديد العلاقة بين الحصانة والحرية وإلا فاجأنا المحرومون من الحصانة والحرية وطلاب العدل الاجتماعي بتمرد يتيح لهم الحرية علي حساب المحتمون بالحصانة .