المرأة بين الفقه والقانون

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
المرأة بين الفقه والقانون


بقلم : مصطفى السباعي

الناشر

المرأة بين الفقه والقانون

الدكتور مصطفى السباعي

بسم الله الرحمن الرحيم

قضية المرأة هي قضية كل

أب وكل ابن. وما دام في الدنيا

آباء وأبناء ففي الدنيا احترام

عميق لكرامة النساء. والذين

لا يفرقون بين الكرامة والابتذال

هُم غارقون في الأوهام والأوحال.

من كتاب

هكذا علمتني الحياة

للمؤلف

الاهداء

الى المرأة المسلمة التي رباها الاسلام

وكانت خير زوجة وخير أم.

الى الفتيات المؤمنات اللاتي يُقاومن

اغراء الحضارة وفتنتها.

الى أمي التي ربتني فأحسنت تربيتي،

ورعتني فأحسنت رعايتي.

الى أمي التي هي مثل كثير من أمهات

الجيل الماضي استقامة وعفة واخلاصاً

للزوج، وتفرغاً لحياة البيت فتفانين

في تربيتنا وتهذيبنا، وغرس المثل

العُليا في نفوسنا كأطفال، وشجعننا على

المُضي في طريقنا ودعوتنا كرجال.

الى هؤلاء جميعاً أقدم هذا الكتاب

مصطفى السباعي

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه الغر الميامين، ومن تبع هداهم الى يوم الدين.

وبعد فهذا الكتاب هو في أصله محاضرة ألقيتها على مدرج جامعة دمشق في الموسم الثقافي لعام 19611962 وقد استغرق إلقاء المحاضرة ساعتين أو أكثر، وكنت أتعرض لبعض الأبحاث تعرضاً عاجلاً موجزاً نظراً لضيق الوقت، فلما أرادت جامعة دمشق ضمها الى مجموع محاضرات الموسم الثقافي للعام المذكور – كعادتها في كل سنة – رأيت من الواجب أن أبين ما أجملته، وأشرح ما أوجزته، واستدل لكل موضوع من مواضيع هذا البحث بالأدلة الشرعية. وبالوقائع التي تنشر عن حال المرأة الغربية وبأقوال المنصفين من الغربيين في الدفاع عن تهجمات المتعصبين من مستشرقيهم ورهبانهم ودعاة الاستعمار البغيض الذين ما فتئوا يكررون الهجوم على الاسلام والمسلمين لتبرير استعمارهم للبلاد الاسلامية، وافهام السذّج من الغربيين ان الاستعمار الغربي لهذه البلاد نعمة وتمدين واقتلاع للتشريع السيء في رأيهم – السائد في هذه البلاد.

وقد ألحقت في هذه الطبعة الخاصة ملاحق متعددة، فيها تأييد لأكثر الموضوعات التي تحدثت عنها في المحاضرة، وكل قصدي من اضافة هذه الملاحق أن أضع بين يدي القارئ مجموعة من الأدلة والشواهد يستوثق بها لما أوردته من آراء. وشأني في ذلك شأن المحامي الذي يطالب بحق أو يدافع عن حق، فيستكثر من الشواهد والأدلة ليزيد المحكمة اقتناعاً بما يترافع فيه. إن قضية المرأة قد استكثر فيها من الشواهد والأدلة من طرف واحد، وأنا أريد أن أضع بين يدي الطرف الآخر الذي أمثل آراءه في هذا الكتاب أدلة وشواهد تؤيد ما ندعو اليه ونقتنع به. ولم أذكر في هذه الملاحق كل ما بين يدي من الوثائق فذلك أمر طويل، ولكني اقتصرت على أهم هذه الوثائق مع ذكر مصادرها ليزداد القارئ اطمئناناً وإني أكرر ما قلته من أنه ليس الموضوع هو عداوة المرأة أو صداقتها كما يلذ لبعض الناس أن يصوروا ذلك لأغراض غير خافية، وإنما الموضوع هو ما ينبغي أن يكون عليه وضع المرأة الصحيح في مجتمع مسلم متماسك قوي الأخلاق، متين الدعائم. ونحن لا يزيد موقفنا عن الدفاع عن كرامة المرأة عندنا وحقوقها المشروعة، والمحاولة لابعادها عن مجال الاستغلال لانوثتها بما يرهقها ويؤدي الى شقائها، رجاء أن لا تقع فيما وقعت فيه أختها في الحضارة الغربية مما ضج منه عقلاؤها ومفكروها الأحرار.

نسأل الله التوفيق والسداد فيما نحاول من إقامة مجتمعنا على دعائم وضع الاسلام أساسها، وأثبتت التجارب قوتها وصحتها.

دمشق

28 من جمادي الآخرة 1382

25 من تشرين الثاني 1962

مصطفى السباعي

مقدمة المحاضرة

إن قضية المرأة هي قضية كل مجتمع في القديم والحديث، فالمرأة تشكل نصف المجتمع من حيث العدد، وأجمل ما في المجتمع من حيث العواطف، وأعقد ما في المجتمع من حيث المشكلات، ومن ثمة كان من واجب المفكرين أن يفكروا في قضيتها دائماً على أنها قضية المجتمع، أكثر مما يفكر أكثر الرجال فيها على أنها قضية جنس متمم أو مبهج. ولست في حديثي الآن متعرضاً لقضية المرأة من جميع نواحيها، فذلك ما أتهيب الخوض فيه حتى هذه الساعة، لوعورة الطريق، وكثرة المتاهات فيه، وتحكم العواطف به، وقلة المنصفين من المستمعين اليه أو القارئين عنه. وقد تميز عصرنا هذا بمميزات: منها أنه عصر الدعاية، فللدعاية تأثير كبير على تفكيرنا واتجاهاتنا واقبالنا على الشيء أو اعراضنا عنه، وقد لعبت الدعاية في قضية المرأة دوراً في تبلبل الآراء، وتشتت الأهواء، وتغطية وجه الحق السمح المنير، حتى قسمت الباحثين في أمرها الى قسمين: صديق محب لها، وعدو كاشح عنها، وفي هذا التقسيم من المغالطة والبعد عن الحق ما فيه، فأنا لا أتصور رجلاً يكون عدواً للمرأة، لأن المرأة أمه أو زوجته أو بنته أو أخته أو قريبته، فكيف يتصور أن يكون الانسان عدواً لأمة أو لزوجته أو بنته أو أخته مثلاً؟ فاذا كان يريد منعها من بعض الأشياء فذلك لأنه يريد في ذلك مصلحتها قبل كل شيء، ثم مصلحة المجتمع بعد ذلك، ولا تكون الصداقة أو العداوة في الاعطاء والمنع، ولكنما تكونان بجلب الخير أو التوريط في الشر.

ومثل ذلك يقال فيمن تسميهم الدعايات المغرضة بأصدقاء المرأة، فهل معنى صداقتهم لها أن يورطوها فيما يسيء أو يضر بمصلحتها؟ أو يسبب لها القلق والشقاء النفسي والاجتماعي؟ إن الصديق الذي يريد أن يعمل بصديقه مثل هذا إنما هو عدو ولو تحدث بالأسلوب الناعم الرقيق المرضي للأهواء والشهوات، وقديماً قال بعض حكمائنا "صديقك من صَدَقك لا من صدّقك" وبهذا يكون تقسيم المختلفين في إصلاح أمر المرأة اليوم الى أصدقاء وأعداء فيه من تعمد المغالطة ما فيه، ولا يلبث أن ينكشف عند مناقشة الآراء، وتحري الحقائق. إنني سأخوض في بحثي هذا في بعض نواحي القضية مما يتصل باختصاصي ودراستي وتجاربي كشخص عالج القضايا العامة بالعيش فيها فترة طويلة من حياته وأنا قبل ذلك مواطن عليه أن يسهم في بناء كيان أمته الاجتماعي بما يستطيعه من جهد، وقبل كل شيء فإني مؤمن بأن كرامة الانسان مرتبطة بحريته في تفكيره، وحريته في التعبير عن هذا التفكير، ولن يستهويني تصفيق الجماهير أو استهجانهم وإعراضهم، بقدر ما يستهويني أن أخلص في توجيه التفكير في أمتي بدقة وعمق وإخلاص. ويخيفني أن أسكت عن الحق، وأساير في الخطأ وأنجرف في التيار.

مقدمة تاريخية - تطور حقوق المرأة عبر التاريخ

لا بد لي قبل أن أبداً حديثي عن "المرأة بين الفقه والقانون" من استعراض تاريخي لأوضاع المرأة الاجتماعية والقانونية في المجتمعات القديمة حتى ظهور الاسلام ثم فيما بعد ذلك في أوروبا في القرون الوسطى والعصور الحديثة، ومن الواضح لكل دارس منصف لهذه الأوضاع أن المرأة برغم التباين في موقف الأمم والشرائع من القسوة عليها أو الرحمة بها أنها قبل الاسلام لم تنل مكانتها الاجتماعية وحقوقها القانونية التي تستحقها بما يتفق مع رسالتها العظيمة التي خصصتها لها الحياة الطبيعية فيها، ولا مع مكانتها التي ينبغي أن نعترف بها، واليكم بعض الحديث عن ذلك.

عند اليونان

كانت المرأة في المجتمع اليوناني أول عهده بالحضارة محصنة وعفيفة لا تغادر البيت، وتقوم فيه بكل ما يحتاج اليه من رعاية، وكانت محرومة من الثقافة لا تسهم في الحياة العامة بقليل ولا كثير، وكانت محتقرة حتى سموها رجساً من عمل الشيطان، وكان الحجاب شائعاً في البيوتات العالية، أما من الوجهة القانونية فقد كانت المرأة عندهم كسقط المتاع تباع وتشرى في الأسواق وهي مسلوبة الحرية والمكانة في كل ما يرجع الى حقوقها المدنية، ولم يعطوها حقاً في الميراث، وأبقوها طيلة حياتها خاضعة لسلطة رجل وكلوا اليه أمر زواجها فهو يستطيع أن يفرض عليها من يشاء زوجاً، وعهدوا اليه بالاشراف عليها في ادارة أموالها، فهي لا تستطيع أن تبرم تصرفاً دون موافقته، وجعلوا للرجل الحق المطلق في فصم عرى الزوجية بينما لم يمنحوا المرأة حق طلب الطلاق إلا في حالات استثنائية، بل وضعوا العراقيل في سبيل الوصول الى هذا الحق، ومن ذلك أن المرأة اذا أرادت أن تذهب الى المحكمة لطلب الطلاق تربص بها الرجل في الطريق فأسرها وأعادها قسراً الى البيت. أما في اسبارطة فقد توسعوا في اعطائها شيئاً من الحقوق المدنية فأعطوها شيئاً من الحق في الارث والبائنة (الدوطة) وأهلية التعامل، وما كان ذلك عن سماحة منهم واعتراف بأهلية المرأة، وإنما كان لوضع المدينة الحربي حيث كان أهلها في حرب وقتال، فكان الرجال يشتغلون بالحرب دائماً ويتركون التصرف في حال غيبتهم للنساء، ومن هنا كانت المرأة في اسبارطة أكثر خروجاً الى الشارع وأوسع حرفة من أختها في اثينا وسائر مدن اليونان، ومع هذا فقد كان أرسطو يعيب على أهل اسبارطة هذه الحرية والحقوق التي أعطوها للمرأة ويعزو سقوط اسبارطة وانحلالها الى هذه الحرية والحقوق. وفي أوج حضارة اليونان تبدلت المرأة واختلطت بالرجال في الأندية والمجتمعات، فشاعت الفاحشة حتى أصبح الزنى أمراً غير منكر، وحتى غدت دور البغايا مراكز للسياسة والأدب، ثم اتخذوا التماثيل العارية باسم الأدب والفن، ثم اعترفت ديانتهم بالعلاقة الآثمة بين الرجل والمرأة، ثمن آلهتهم "افروديت" التي خانت ثلاثة آلهة وهي زوجة إله واحد وكان من أخدانها رجل من عامة البشر فولدت "كيوبيد" إله الحب عندهم! ثم لم يشبع غرائزهم ذلك حتى انتشر عندهم الاتصال الشاذ بين الرجل والرجل، وأقاموا لذلك تمثال "هرموديس وارستوجتين" وهما في علاقة آثمة، وكان ذلك خاتمة المطاف في حضارتهم فانهارت وزالوا.

عند الرومان

أما عند الرومان فقد كان الأمر عندهم في العصر القديم أن الأب ليس ملزماً بقبول ضم ولده منه الى أسرته ذكراً كان أو أنثى، بل كان يوضع الطفل بعد ولادته عند قدميه، فاذا رفعه وأخذه بين يديه كان دليلاً على أنه قبل ضمه الى أسرته، وإلا فإنه يعني رفضه لذلك، فيؤخذ الوليد الى الساحات العامة أو باحات هياكل العبادة فيطرح هناك، فمن شاء أخذه اذا كان ذكراً، وإلا فان الوليد يموت جوعاً وعطشاً وتأثراً من حرارة الشمس أو برودة الشتاء. وكان لرب الأسرة أن يدخل في أسرته من الأجانب من يشاء، ويخرج منها من أبنائه من يشاء عن طريق البيع، ثم قيد قانون الانثي عشر لوحاً حق البيع بثلاث مرات، فاذا باع الأب ابنه ثلاث مرات متوالية كان له الحق في التحرر من سلطة رئيس الأسرة، أما البنت فكانت تظل خاضعة لرب الأسرة ما دام حياً. وكانت سلطة رب الأسرة على أبنائه وبناته تمتد حتى وفاته مهما بلغ سن الأبناء والبنات، كما كانت له سلطة على زوجته وزوجات أبنائه وأبناء أبنائه، وكانت هذه السلطة تشمل البيع والنفي والتعذيب والقتل، فكانت سلطته سلطة ملك لا حماية، ولم يلغ ذلك إلا في قانون جوستنيان (المتوفي 565 م) فان سلطة الأب فيه لم تعد تتجاوز التأديب. وكان رب الأسرة هو مالك كل أموالها فليس لفرد فيها حق التملك، وإنما هم أدوات يستخدمها رب الأسرة في زيادة أموالها، وكان رب الأسرة هو الذي يقوم بتزويج الأبناء والبنات دون ارادتهم. أما الأهلية المالية فلم يكن للبنت حق التملك، وإذا اكتسبت مالاً أضيف الى أموال رب الأسرة ولا يؤثر في ذلك بلوغها ولا زواجها وفي العصور المتأخرة في عصر قسطنطين تقرر أن الأموال التي تحوزها البنت عن طريق ميراث أمها تتميز عن أموال أبيها. ولكن له الحق في استعمالها واستغلالها، وعند تحرير البنت من سلطة رب الأسرة يحتفظ الأب بثلث أموالها كملك له ويعطيها الثلثين. وفي عهد جوستنيان قرر أن كل ما تكتسبه البنت بسبب عملها أو عن طريق شخص آخر غير رب أسرتها يعتبر ملكاً لها، أما الأموال التي يعطيها رب الأسرة فتظل ملكاً له، على أنها وإن أعطيت حق تملك تلك الأموال فإنها لم تكن تستطيع التصرف فيها دون موافقة رب الأسرة.

واذا مات رب الأسرة يتحرر الابن اذا كان بالغاً، أما الفتاة فتنقل الولاية عليها الى الوصي ما دامت على قيد الحياة، ثم عدل ذلك أخيراً بحيلة للتخلص من ولاية الوصي الشرعي بأن تبيع المرأة نفسها لولي تختاره. ويكون متفقاً فيما بينهما أن هذا البيع لتحرزها من قيود الولاية فلا يعارضها الولي الذي اشتراها في أي تصرف تقوم به. وإذا تزوجت الفتاة أبرمت مع زوجها عقداً يسمى "اتفاق السيادة" أي بسيادة الزوج عليها، وذلك باحدى ثلاث طرق:

1- في حفلة دينية على يد الكاهن.

2- بالشراء الرمزي أي يشتري الزوج زوجته.

3- بالمعاشرة الممتدة بعد الزواج الى سنة كاملة.

وبذلك يفقد رب الأسرة سلطته الأبوية على ابنته وتنتقل هذه السلطة الى الزوج. وعلى الجملة فقد تحولت السلطة على المرأة – في عهد الازدهار العلمي للقانون الروماني – من سلطة ملك الى سلطة حماية ولكنها مع ذلك ظلت قاصرة الأهلية. فبينما كانت قوانين الألواح الاثني عشر تعتبر الأسباب الثلاثة الآتية أسباباً لعدم ممارسة الأهلية وهي: السن، والحالة العقلية، والجنس أي الأنوثة وكان فقهاء الرومان القدامي يعللون فرض الحجر على النساء بقولهم: لطيش عقولهن، جاء قانون جوستنيان ينص على أنه يشترط لصحة التعاقد أهلية حقوقية وأهلية فعلية واقعية. أما الأهلية الحقوقية فيعتبر فاقداً لها:

1- الرقيق.

2- الأجانب في العقود الوطنية كالعقود الشفهية بالوعد كالعهود الكتابية الخاضعة لسلطة رئيس أسرة وهن البنات والزوجات.

وأما الأهلية الفعلية الواقعية فيعتبر فاقداً لها:

1- الأولاد (الصغار) والمعتوهون.

2- السفهاء في الحالة التي يصبحون فيها مدينين.

3- البنات والسيدات البالغات الخاضعات لسلطة رئيس أسرة (أب وزوج) وذلك في الحالات التي يصبحن فيها مدينات دون اذن من سيدهن.

4- النساء البالغات المستقلات، وذلك في الحالة التي يصبحن فيها مدينات دون إذن من الوصي عليهن.

غير أن هذه الحالة الأخيرة من فقدان الأهلية قد زالت مع زوال الوصاية على النساء في الامبراطورية السفلى، لكن هؤلاء النساء البالغات المستقلات ظللن فاقدات الأهلية عند تحمل دين الغير دون نفع لهن، فلسن أهلاً لأن يتحملن ديناً عن أزواجهن ولا أي واحد من الناس[1].

في شريعة حمورابي

كانت المرأة في شريعة حمورابي تحسب في عداد الماشية المملوكة، حتى أن من قتل بنتاً لرجل كان عليه أن يسلم بنته ليقتلها أو يتملكها.

عند الهنود

وكان علماء الهنود الأقدمون يرون أن الانسان لا يستطيع تحصيل العلوم والمعارف ما لم يتخل عن جميع الروابط العائلية. ولم يكن للمرأة في شريعة منو حق في الاستقلال عن أبيها أو زوجها أو ولدها، فاذا مات هؤلاء جميعاً وجب أن تنتمي الى رجل من أقارب زوجها، وهي قاصرة طيلة حياتها، ولم يكن لها حق في الحياة بعد وفاة زوجها بل يجب أن تموت يوم موت زوجها وأن تحرق معه وهي حية على موقد واحد، واستمرت هذه العادة حتى القرن السابع عشر حيث أبطلت على كرهٍ من رجال الدين الهنود. وكانت تقدم قرباناً للآلهة لترضى، أو تأمر بالمطر أو الرزق. وفي بعض مناطق الهند القديمة شجرة يجب أن يقدم لها أهل المنطقة فتاة تأكلها كل سنة. وجاء في شرائع الهندوس: ليس الصبر المقدر، والريح، والموت، والجحيم، والسم، والأفاعي، والنار، أسوأ من المرأة.

في أمثال الأمم القديمة

يقول المثل الصيني: أنصت لزوجتك ولا تصدقها.

ويقول المثل الروسي: لا تجد في كل عشرة نسوة غير روح واحدة.

ويقول المثل الاسباني: احذر المرأة الفاسدة. ولا تركن الى المرأة الفاضلة.

ويقول المثل الايطالي: المهماز للفرس الجواد والفرس الجموح، والعصا للمرأة الصالحة والمرأة الصالحة.

عند اليهود

كانت بعض طوائف اليهود تعتبر البنت في مرتبة الخادم، وكان لأبيها الحق في أن يبعها قاصرة، وما كانت ترث الا اذا لم يكن لأبيها ذرية من البنين وإلا ما كان يتبرع به لها أبوها في حياته. ففي الاصحاح الثاني والأربعين من سفر أيوب: "ولم توجد نساء جميلات كنساء أيوب في كل الأرض، وأعطاهن أبوهن ميراثاً بين اخوتهن". وحين تحرم البنت من الميراث لوجود أخ لها ذكر يثبت لها على أخيها النفقة والمهر عند الزواج، إذا كان الأب قد ترك عقاراً فيعطيها من العقار، أما اذا ترك مالا منقولا فلا شيء لها من النفقة والمهر ولو ترك القناطير المقنطرة.

وإذا آل الميراث الى البنت لعدم وجود أخ لها ذكر لم يجز لها أن تتزوج من سبط آخر، ولا يحق لها أن تنقل ميراثها الى غير سبطها. واليهود يعتبرون المرأة لعنة لأنها أغوت آدم، وقد جاء في التوراة: "المرأة أمرُّ من الموت، وإن الصالح امام الله ينجو منها، رجلاً واحداً بين الف وجدت، أما المرأة فبين كل أولئك لم أجد".

عند المسيحيين

لقد هال رجال المسيحية الأوائل ما رأوا في المجتمع الروماني من انتشار الفواحش والمنكرات، وما آل اليه المجتمع من إنحلال أخلاق شنيع، فاعتبروا المرأة مسؤولة عن هذا كله، لأنها كانت تخرج الى المجتمعات، وتتمتع بما تشاء من اللهو، وتختلط بمن تشاء من الرجال كما تشاء، فقرروا أن الزواج دنس يجب الابتعادعنه، وأن العزب عند الله اكرم من المتزوج، وأعلنوا أنها باب الشيطان، وأنها يجب أن تستحيي من جمالها لأنه سلاح ابليس للفتنة والاغراء. قال القديس "ترتوليان": إنها مدخل الشيطان الى نفس الانسان. ناقضة لنواميس الله، مشوهة لصورة الله أي الرجل.

وقال القديس سوستام: إنها شر لا بد منه، وآفة مرغوب فيها، وخطر على الأسرة والبيت، ومحبوبة فتاكة، ومصيبة مطلية مموهة. وفي القرن الخامس اجتمع مجمع "ماكون" للبحث في المسألة التالية: هل المرأة مجرد جسم لا روح فيها؟ أم لها روح؟ وأخيراً قرروا أنها خلو من الروح الناجية ( من عذاب جهنم) ما عدا أم المسيح. ولما دخلت أمم الغرب في المسيحية كانت آراء رجال الدين قد أثرت في نظرتهم الى المرأة، فعقد الفرنسيون في عام 586 للميلاد (أي في أيام شباب النبي عليه الصلاة والسلام) مؤتمراً للبحث: هل تعد المرأة انساناً أم غير إنسان؟ وأخيراً قرروا أنها إنسان خلقت لخدمة الرجل فحسب.

واستمر احتقار الغربيين للمرأة وحرمانهم لحقوقها طيلة القرون الوسطى حتى ان عهد الفروسية الذي كان يظن فيه أن المرأة احتلت شيئاً من المكانة الاجتماعية حيث كان الفرسان يتغزلون بها ويرفعون من شأنها، لم يكن عهد خير لها بالنسبة لوضعها القانوني والاجتماعي، فقد ظلت تعتبر قاصرة لا حق لها في التصرف بأموالها دون إذن زوجها. ومن الطريف أن نذكر أن القانون الانجليزي حتى عام 1805 كان يبيح للرجل أن يبيع زوجته، وقد حدد ثمن الزوجة بستة بنسات (نصف شلن – ربع ليرة سورية) فقد حدث أن باع انجليزي زوجته عام 1931 بخمسمائة جنيه، وقال محاميه في الدفاع عنه: إن القانون الانجليزي قبل مائة عام كان يبيح للزوج أن يبيع زوجته، وكان القانون الانجليزي عام 1801 يحدد ثمن الزوجة بستة بنسات بشرط أن يتم البيع بموافقة الزوجة، فأجابت المحكمة بأن هذا القانون قد ألغي عام 1805 بقانون يمنع بيع الزوجات أو التنازل عنهن، وبعد المداولة حكمت المحكمة على بائع زوجته بالسجن عشرة أشهر.

وقد حدث في العام الماضي أن باع ايطالي زوجته لآخر على أقساط، فلما امتنع المشتري عن سداد الأقساط الأخيرة قتله الزوج البائع (مجلة حضارة الاسلام: السنة الثانية ص 1078). ولما قامت الثورة الفرنسية (نهاية القرن الثاني عشر) وأعلنت تحرير الانسان من العبودية والمهانة، لم تشمل بجنوها المرأة، فنص القانون المدني الفرنسي على أنها ليست أهلاً للتعاقد دون رضا وليها إن كانت غير متزوجة، وقد جاء النص فيه على أن القاصرين هم: الصبي والمجنون والمرأة، واستمر ذلك حتى عام 1938 حيث عدلت هذه النصوص لمصلحة المرأة، ولا تزال فيه بعض القيود على تصرفات المرأة المتزوجة، سنتكلم عنها قريباً.

عند العرب قبل الاسلام

وإذا عدنا الى البيئة العربية قبل الاسلام، وجدنا المرأة العربية مهضومة في كثير من حقوقها، فليس لها حق الارث، وليس لها على زوجها أي حق، وليس للطلاق عدد محدود، ولا لتعدد الزوجات حد معين، ولم يكن عندهم نظام يمنع تمكين الزوج من النكاية بها، كما لم يكن لها حق في اختيار زوجها، ولقد كان رؤساء العرب وأشرافهم فحسب يستشيرون بناتهم في أمر الزوج، كما نستنتج ذلك من بعض القصص التاريخية. وكان الرجال إذا مات وله زوجة وأولاد من غيرها، كان الولد الاكبر أحق بزوجة أبيه من غيره، ويعتبرها إرثاً كبقية أموال أبيه، فان أراد أن يعلن عن رغبته في الزواج منها طرح عليها ثوباً، وإلا كان لها أن تتزوج بمن تشاء. وكانوا يتشاءمون من ولادة الأنثى، وكانت بعض قبائلهم تئدها خشية العار، وبعضهم كان يئدها ويئد أولاده عامة خشية الفقر، ولم تكن هذه عادة فاشية في العرب، وإنما كانت في بعض قبائلهم، ولم تكن قريش منها. وكل ما كانت تعتز به المرأة العربية في تلك العصور على أخواتها في العالم كله، حماية الرجل لها، والدفاع عن شرفها، والثار لامتهان كرامتها.

[1] انظر في: المدخل الى تاريخ الحقوق الرومانية للدكتور معروف الدوالبي والمرأة عند اليونان، والمرأة عند الرومان للدكتور محمود سلام زناتي.

موقف الإسلام - مبادئ الإسلام في المرأة

في أواخر القرن السادس الميلادي، ووسط هذا الظلام المخيم من قضية المرأة في جميع أنحاء العالم المتمدن وغير المتمدن يومئذ، انطلق من جزيرة العرب، من فوق رمالها الدكناء، وسهولها الجرداء، وجبالها الحمراء، من مكة: انطلق صوت السماء على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يضع الميزان الحق لكرامة المرأة، ويعطيها حقوقها كاملة غير منقوصة، ويرفع عن كاهلها وزر الاهانات التي لحقت بها عبر التاريخ، والتي صنعتها أهواء الأمم، يعلن انسانيتها الكاملة، وأهليتها الحقوقية التامة، ويصونها عن عبث الشهوات وفتنة الاستمتاع بها استمتاعاً جنسياً حيوانياً، ويجعلها عنصراً فعالاً في نهوض المجتمعات وتماسكها وسلامتها.

مبادئ الإسلام في المرأة:

وتتلخص المبادئ الاصلاحية التي أعلنها الاسلام على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالمرأة في المبادئ التالية:

أولاً: إن المرأة كالرجل في الانسانية سواء بسواء، يقول الله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} [النساء: 01] ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إنما النساء شقائق الرجال" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم.

ثانياً: دفع عنها اللعنة التي كان يصقلها بها رجال الديانات السابقة، فلم يجعل عقوبة آدم بالخروج من الجنة ناشئاً منها وحدها، بل منهما معاً. يقول تعالى في قصة آدم: {فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه} [البقرة: 36] ويقول عن آدم وحواء: {فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وُري عنهما من سوآتهما} [الأعراف: 20] ويقول عن توبتهما {قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 23]. بل إن القرآن في بعض آياته قد نسب الذنب إلى آدم وحده فقال {وعصى آدم ربه فغوى} [الأحزاب: 35]. ثم قرر مبدأ آخر يعفي المرأة من مسؤولية أمها حواء وهو يشمل الرجل والمرأة على السواء: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون} [البقرة: 36].

ثالثاً: إنها أهل للتدين والعبادة ودخول الجنة إن أحسنت، ومعاقبتها إن أساءت، كالرجل سواء بسواء، يقول الله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. ويقول تعالى: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض} [آل عمران: 195]. وانظر كيف يؤكد القرآن هذا المبدأ في الآية الكريمة التالية: {إن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، والصادقين والصادقات، والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيراً والذاكرات، أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً} [الأحزاب: 35].

رابعاً: حارب التشاؤم بها والحزن لولادتها كما كان شأن العرب ولا يزال شأن كثير من الأمم ومنهم بعض الغربيين كما تحققت ذلك بنفسي، فقال تعالى منكراً هذه العادة السيئة: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب؟ ألا ساء ما يحكمون} [النحل: 59].

خامساً: حرم وأدها وشنع على ذلك أشد تشنيع فقال: {وإذا الموءودة سئلت: بأي ذنب قتلت} [التكوير: 09]. وقال: {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم} [الأنعام: 100].

سادساً: أمر بإكرامها: بنتاً، وزوجة، وأماً. أما إكرامها كبنت فقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة: منها قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمّها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها الخ... ". وأما إكرامها كزوجة ففي ذلك آيات وأحاديث كثيرة: منها: قوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم: 21]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "خير متاع الدنيا الزوجة الصالحة، إن نظرت اليها سرتك، وإن غبت عنها حفظتك" (رواه بألفاظ قريبة منه مسلم وابن ماجه).

وأما إكرامها كأم ففي آيات وأحاديث كثيرة: قال الله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً، حملته أمه كرهاً ووضعته كرها} [الأحقاف: 15]. وجاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من أحق الناس بصحبتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك!" (رواه البخاري ومسلم). وجاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أريد الجهاد في سبيل الله، فقال له الرسول: هل أمك حية؟ قال: نعم، قال: الزم رجلها فثم الجنة" (رواه الطبراني).

سابعاً: رغب في تعليمها كالرجل، فقد مر معنا قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها الخ...". وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم". (رواه البيهقي). وقد اشتهر هذا الحديث على ألسنة الناس بزيادة لفظ "ومسلمة" وهذه الزيادة لم تصح رواية، ولكن معناها صحيح، فقد اتفق العلماء على أن كل ما يطلب من الرجل تعلمه يطلب من المرأة كذلك.

قال الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص 277: قد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث "مسلمة" وليس لها ذكر في شيء من طرقه، وإن كان معناها صحيحاً.

ثامناً: أعطاها حق الارث: أماً، وزوجة، وبنتاً: كبيرة كانت أو صغيرة أو حملاً في بطن أمها.

تاسعاً: نظم حقوق الزوجين، وجعل لها حقوقاً كحقوق الرجل، مع رئاسة الرجل لشؤون البيت، وهي رئاسة غير مستبدة ولا ظالمة. قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} [البقرة: 228].

عاشراً: نظم قضية الطلاق بما يمنع من تعسف الرجل فيه واستبداده في أمره فجعل له حداً لا يتجاوزه، وهو الثلاث، وقد كان عند العرب ليس له حد يقف عنده، وجعل لايقاع الطلاق وقتاً، ولأثره عدة تتيح للزوجين العودة الى الصفاء والوئام. وهذا مما سنتعرض له بعض الشيء في بحثنا هذا.

الحادي عشر: حد من تعدد الزوجات فجعله أربعاً وقد كان عند العرب وعند غيرهم من الأمم التي تبيح التعدد غير مقيد بعدد معين.

الثاني عشر: جلعها قبل البلوغ تحت وصاية أوليائها، وجعل ولايتهم عليها ولاية رعاية وتأديب وعناية بشؤونها وتنمية لأموالها، لا ولاية تملك واستبداد.

وجعلها بعد البلوغ كاملة الأهلية للالتزامات المالية كالرجل سواء بسواء. ومن تتبع أحكام الفقه الاسلامي لم يجد فرقاً بين أهلية الرجل والمرأة في شتى أنواع التصرفات المالية كالبيع، والاقالة، والخيارات، والسلم، والصرف، والشفعة، والاجارة، والرهن، والقسمة، والبينات، والاقرار والوكالة، والكفالة، والحوالة، والصلح، والشركة، والمضاربة، والوديعة، والهبة، والوقف، والعتق، وغيرها.

النتيجة:

من هذه المبادئ الاثنى عشر نعلم أن الاسلام أحل المرأة المكانة اللائقة بها في ثلاث مجالات رئيسية:

1- المجال الانساني: فاعترف بانسانيتها كاملة كالرجل وهذا ما كان محل شك أو انكار عند أكثر الأمم المتمدنة سابقاً.
2- المجال الاجتماعي: فقد فتح أمامها مجال التعلم "وأسبغ عليها مكاناً اجتماعياً كريماً في مختلف مراحل حياتها منذ طفولتها حتى نهاية حياتها، بل إن هذه الكرامة تنمو كلما تقدمت في العمر: من طفلة الى زوجة، الى أم، حيث تكون في سن الشيخوخة التي تحتاج معها الى مزيد من الحب والحنو والاكرام.
3- المجال الحقوقي: فقد أعطاها الأهلية المالية الكاملة في جميع التصرفات حين تبلغ سن الرشد، ولم يجعل لأحد عليها ولاية من أب أو زوج أو رب أسرة.

موقف الإسلام - بعض الفوارق (في الشهادة - في الميراث - دية المرأة - رئاسة الدولة)

ومع هذا فإننا نجد الاسلام قد فرق بين الرجل والمرأة في بعض المجالات، ومن المؤكد أن هذا التفريق لا علاقة له بالمساواة بينهما في الانسانية والكرامة والأهلية – بعد أن قررها الاسلام لها على قدم المساواة مع الرجل – بل لضرورات اجتماعية واقتصادية ونفسية اقتضت ذلك، وإليك البيان:

1- في الشهادة:

جعل الاسلام الشهادة التي تثبت الحقوق شهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين، وذلك في قوله تعالى في آية المداينة: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، أن تضل احداهما فتذكر احداهما الأخرى} [البقرة: 282]. ومن الواضح أن هذا التفاوت لا علاقة له بالانسانية ولا بالكرامة ولا بالأهلية، فما دامت المرأة انسانا كالرجل، كريمة كالرجل، ذات أهلية كاملة لتحمل الالتزمات المالية كالرجل، لم يكن اشتراطه اثنتين مع رجل واحد إلا لأمر خارج عن كرامة المرأة واعتبارها واحترامها، وإذا لاحظنا أن الاسلام – مع إباحته للمرأة التصرفات المالية – يعتبر رسالتها الاجتماعية هي التوفر على شؤون الأسرة، وهذا ما يقتضيها لزوم بيتها في غالب الأوقات – وخاصة أوقات البيع والشراء – أدركنا أن شهادة المرأة في حق يتعلق بالمعاملات المالية بين الناس لا يقع إلا نادراً، وما كان كذلك فليس من شأنها أن تحرص على تذكره حين مشاهدته، فانها تمر به عابرة لا تلقي له بالاً، فاذا جاءت تشهد به كان أمام القاضي احتمال نسيانها أو خطأها ووهمها، فاذا شهدت امرأة أخرى بمثل ما تشهد به زال احتمال النسيان والخطأ، والحقوق لا بد من التثبت فيها، وعلى القاضي أن يبذل غاية جهده لإحقاق الحق وإبطال الباطل....

هذا هو كل ما في الأمر، وقد جاء النص عليه صراحة في الآية ذاتها حيث قال تعالى في تعليل اشتراط المرأتين بدلاً من الرجل الواحد: {أن تضل احداهما فتذكر احداهما الأخرى} أي خشية أن تنسى أو تخطئ إحداهما فتذكرها الأخرى بالحق كما وقع. ولهذا المعنى نفسه ذهب كثير من الفقهاء إلى أن شهادة النساء لا تقبل في الجنايات، وليس ذلك إلا لما ذكرناه من أنها غالباً ما تكون قائمة بشؤون بيتها، ولا يتيسر لها أن تحضر مجالس الخصومات التي تنتهي بجرائم القتل وما أشبهها، وإذا حضرتها فقل أن تستطيع البقاء إلى أن تشهد جريمة القتل بعينيها، وتظل رابطة الجأش، بل الغالب أنها اذا لم تستطع الفرار تلك الساعة كان منها أن تغمض عينيها وتولول وتصرخ، وقد يغمى عليها، فكيف يمكن بعد ذلك أن تتمكن من أداء الشهادة فتصف الجريمة والمجرمين وأداة الجريمة وكيفية وقوعها؟ ومن المسلّم به أن الحدود تدرأ بالشبهات، وشهادتها في القتل وأشباهه تحيط بها الشبهة: شبهة عدم إمكان تثبتها من وصف الجريمة لحالتها النفسية عند وقوعها. ويؤكد مراعاة هذا المعنى في الاحتياط لشهادتها فيما ليس من شأنها أن تحضره غالباً، أن الشريعة قبلت شهادتها وحدها فيما لا يطلع عليه غيرها، أو ما تطلع عليه دون الرجال غالباً، فقد قرروا أن شهادتها وحدها تقبل في إثبات الولادة، وفي الثيوبة والبكارة، وفي العيوب الجنسية لدى المرأة وهذا حين كان لا يتولى توليد النساء وتطبيبهن والاطلاع على عيوبهن الجنسية إلا النساء في العصور الماضية.

فليست المسألة إذاً مسألة إكرام وإهانة، وأهلية وعدمها، وإنما هي مسألة تثبت في الأحكام، واحتياط في القضاء بها. وهذا ما يحرص عليه كل تشريع عادل. وبهذا نعلم أنه لا معنى للشغب والتشنيع على الاسلام في هذه القضية، واتخاذها سلاحاً للادعاء بأنه انتقص المرأة، وعاملها دون الرجل كرامة ومكانة. مع أنه أعلن إكرامها ومساواتها بالرجل في ذلك بنصوص صريحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وقد ذكرنا بعضها فيما مضى.

2- في الميراث:

أثبت الاسلام تقديره للمرأة، ورعايته لحقوقها، باعطائها حق الميراث، خلافاً لما كان عليه عرب الجاهلية وكثير من الشعوب القديمة وبعض الشعوب في العصر الحاضر بالنسبة للزوجة مثلاً. وهذا النصيب يختلف في أحكام الارث بين حالات:

1- بين أن يكون نصيبها مثل نصيب الذكر، كما في الأخوات لأم، فان الواحدة منهن إذا انفردت تأخذ السدس كما يأخذ الأخ لأم إذا انفرد، وإذا كانوا ذكوراً وإناثاً، اثنين فأكثر: فإنهم يشتركون جميعاً في الثلث، للذكر مثل حظ الانثى.
2- وبين أن يكون نصيبها مثله أو أقل منه، كما في الأم مع الأب إذا كان للميت أولاد "فإن ترك معهما ذكوراً فقط أو ذكوراً وإناثاً، كان لكل من الأب والأم السدس من التركة، وإن ترك معهما إناثاً فقط، كان لكل من الأب والأم السدس، ويأخذ الأب بعد ذلك مازاد من التركة عن السهام، فمن مات عن بنت وزوجة وأم وأب، كان للبنت النصف، وهو اثنا عشر من أربعة وعشرين، وللزوجة الثمن، وهو ثلاثة، وللأم السدس وهو أربعة، وللأب السدس والباقي فيكون له خمسة.
3- وبين أن تأخذ نصف ما يأخذه الذكر، وهذا هو الأعم الأغلب، بل هو القاعدة العامة إلا ما ذكرناه، فهل هذا لنقصٍ من انسانيتها في نظر الإسلام؟ أم لنقصٍ في مكانتها وكرامتها؟.

ليس في الأمر شيء من هذا، فمن المستحيل أن ينقض الاسلام في ناحية ما يبينه من ناحية أخرى، وأن يضع مبدءً ثم يضع أحكاماً تخالفه، ولكن الأمر يتعلق بالعدالة في توزيع الأعباء والواجبات على قاعدة: "الغْرُم بالغُنْم".

ففي نظام الاسلام يلزم الرجل بأعباء وواجبات مالية لا تلزم بمثلها المرأة، فهو الذي يدفع المهر، وينفق على أثاث بيت الزوجية، وعلى الزوجة والأولاد. أما المرأة فهي تأخذ المهر ولا تسهم بشيء من نفقات البيت على نفسها وعلى أولادها ولو كانت غنية، ومن هنا كان من العدالة أن يكون نصيبها في الميراث أقل من نصيب الرجل، وقد كان الاسلام معها كريماً متسامحاً حين طرح عنها كل تلك الأعباء، وألقاها على عبء الرجل ثم أعطاها نصف ما يأخذ!... لنفرض رجلاً مات عن ابن وبنت وترك لهما مالاً، فماذا يكون مصير هذا المال غالباً بعد أمدٍ قليل؟ إنه بالنسبة الى البنت سيزيد ولا ينقص! يزيد المهر الذي تأخذه من زوجها حين تتزوج، ويزيد ربح المال حين تنميه بالتجارة أو بأية وسيلة من وسائل الاستثمار...

أما بالنسبة إلى أخيها الشاب فإنه ينقص منه المهر الذي سيدفعه لعروسه، ونفقات العرس، وأثاث البيت، وقد يذهب ذلك بكل ما ورثه ثم عليه دائماً أن ينفق على نفسه وعلى زوجته وعلى أولاده. أفلا ترون معي أن ما تأخذه البنت من تركة أبيها يبقى مدخراً لها لأيام النكبات وفقد المعيل من زوج أو أب أو أخ أو قريب!.. بينما يكون ما يأخذه الابن معرضاً للاستهلاك لمواجهة أعبائه المالية التي لا بد له من القيام بها!.

لقد وجهت مرة هذا السؤال على طلابي في الحقوق – وفيهم فتيان وفتيات – وأردفته بسؤال آخر: هل ترون مع ذلك أن الاسلام ظلم المرأة في الميراث أو انتقصها حقها أو نقص من كرامتها؟ أما الطلاب فقد أجابوا بلسان واحد: لقد حابى الاسلام المرأة على حسابنا نحن الرجال!.. وأما الفتيات فقد سكتن، ومنهن من اعترفن بأن الاسلام كان منصفاً كل الانصاف حين أعطى الانثى نصف نصيب الذكر!...

إن الشرائع التي تعطي المرأة في الميراث مثل نصيب الرجل، ألزمتها بأعباء مثل أعبائه، وواجبات مالية مثل واجباته، لا جرم أن كان أعطاؤها مثل نصيبه في الميراث في هذه الحالة أمراً منطقياً ومعقولاً، أما أن نعفي المرأة من كل عبء مالي، ومن كل سعي للانفاق على نفسها وعلى أولادها، ونلزم الرجل وحده بذلك، ثم نعطيها مثل نصيبه في الميراث فهذا ليس أمراً منطقياً مقبولاً في شريعة العدالة!. وقد يقال: لِم لَم يلزم الاسلام المرأة بالعمل ويكلفها من الأعباء بمثل ما كلف الرجل؟ وجوابنا على هذا سنسمعه في آخر هذه الأبحاث حين نناقش هذا الموضوع: هل من مصلحة الاسرة والمجتمع أن تكلف المرأة بالعمل لتنفق على نفسها، أو تسهم في الانفاق على نفسها، وعلى أولادها؟ أم أن تتفرغ لشؤون بيتها وأولادها؟

وحسبنا أن نقول الآن: أنه لا مجال للمطالبة بمساواة المرأة مع الرجل في الميراث إلا بعد مطالبتها بمساواتها في الأعباء والواجبات.. إنها فلسفة متكاملة، فلا بد من الأخذ بها كلها أو تركها كلها.. أما نحن كمسلمين فنرى أن فلسفة الاسلام في ذلك أصح، وأكثر منطقية، وأحرص على مصلحة الأسرة والمجتمع والمرأة ذاتها.. وفي تجارب الحضارة الحديثة التي سنذكر طرفاً منها ما يؤيد وجهة نظر الاسلام لمن أراد الحق خالصاً من الأهواء والرغبات العاطفية..

وقبل أن أنتقل من بحث هذا الموضوع أرى من المفيد أن أتعرض لفائدتين تاريخيتين:

الأولى: ان نصارى جبل لبنان في عهد الحكم العثماني كان من أسباب نقمتهم عليه أنه أراد أن يطبق عليهم أحكام الشريعة الاسلامية فيما يتعلق بالميراث فقد غضبوا لأن الشريعة تعطي البنت نصيباً من الميراث يعادل نصف نصيب أخيها، وليس من عادتهم توريثها لأن ما تأخذه من المال يذهب الى زوجها، وقد ذكر هذا الأب بولس سعد في مقدمة كتابه "مختصر الشريعة" للمطران عبد الله قراعلي واليكم نص عبارته: "جاء في الرسالة التي أنفذها البطريرك يوسف حبيش الى رئيس مجمع نشر الايمان المقدس في 29 أيلول 1840 ما يلي: وأما الآن فمن حيث أن القضاة أخذوا يمشوا كلشي (كل شيء) في الجبل على موجب الشرائع الاسلامية فصار عمال يقع السجن والاضطهاد من هذا التغيير وبالأخص من جهة توريث البنات، لأن الشرائع الاسلامية تحدد أن كل بنتين ترثا بقدر ما يرث صبي واحد، ومن هنا واقع خصومات ومنازعات وشرور متفاقمة واضطرابات، من حيث أن العادة السابقة كانت سالكة في هذا الجبل عند الجمهور أغنياء وفقراء بأن الابنة ليس لها إلا جهاز معلوم بقيمة المثل من والديها، إلا اذا هم أوصوا بشيء خصوصي. ومن سلوك القضاة الآن بخلاف ذلك صار الوالدين في اختباط حال جسيمة مضر بالأنفس والأجساد، من حيث أن الآباء لا يرتضوا بتوريث بناتهم حسب وضع الشريعة الاسلامية حذراً من تبذير أرزاقهم وخراب بيوتهم، ولذلك فيحتالون بأيام حياتهم أن يعطوا أرزاقهم لأولادهم الذكور بضروب الهبة والتمليك ليمنعوا عنهم دعوى البنات بعد موتهم". ثم يقول البطريرك المذكور بعد أن شرح مالحق الآباء من الضرر في هبة أموالهم لأولادهم الذكور: "ومن حيث أن الشرور الناتجة من هذا النوع هي أثقل من باقي الأنواع كما لخصناه أعلاه، فمستبين لنا ضروريا أن نسعى بترجيع توريث البنات والنساء للعادة السالفة، نعني أنهن لا يرثن على الذكور بل لهن الجهاز بقيمة المثل كما ذكرنا أعلاه، ليحصل الهدوء بذلك، وتنقطع أسباب الشرور الخ. 1 هـ. ص 25.

الثانية: إن البلاد السكندنافية لا تزال بعضها حتى الآن تميز الذكرعلى الأنثى في الميراث فتعطيه أكثر منها، برغم تساويهما في الواجبات والأعباء المالية[1].

3- دية المرأة:

جعلت الشريعة دية المرأة التي قتلت خطأ أو التي لم يستوجب قاتلها عقوبة القصاص لعدم استيفاء شروطه، بما يعادل نصف دية الرجل. وقد يبدو هذا غريباً بعد أن قرر الإسلام مساواتها بالرجل في الانسانية والأهلية والكرامة الاجتماعية. غير أن الأمر لا علاقة له بهذه المبادئ وإنما هو ذو علاقة وثيقة بالضرر الذي ينشأ للأسرة عن مقتل كل من الرجل والمرأة. إن القتل العمد يوجب القصاص من القاتل، سواء كان المقتول رجلاً أو امرأة، وسواء كان القاتل رجلاً أو امرأة. وهذا لأننا في القصاص نريد أن نقتص من انسان لانسان، والرجل والمرأة متساويان في الانسانية.

أما في القتل الخطأ وما أشبهه، فليس أمامنا إلا التعويض المالي والعقوبة بالسجن أو نحوه، والتعويض المالي يجب أن تراعى فيه – كما هو من مبادئه المقررة – الخسارة المالية قلة وكثرة. فهل خسارة الأسرة بالرجل كخسارتها بالمرأة؟

إن الأولاد الذين قتل أبوهم خطأ. والزوجة التي قتل زوجها خطأ، قد فقدوا معيلهم الذي كان يقوم بالانفاق عليهم والسعي في سبيل اعاشتهم. أما الأولاد الذين قتلت أمهم خطأ، والزوج الذي قتلت زوجته خطأ، فهم لم يفقدوا فيها إلا ناحية معنوية لا يمكن أن يكون المال تعويضاً عنها. إن الدية ليست تقديراً لقيمة الانسانية في القتيل، وإنما هي تقدير لقيمة الخسارة المادية التي لحقت أسرته بفقده، وهذا هو الأساس الذي لا يماري فيه أحد. ومما يؤكد هذا المعنى أن قوانينا الحاضرة جعلت للدية حداً أعلى وحداً أدنى، وتركت للقاضي تقدير الدية بما لا يقل عن الأدنى ولا يزيد عن الأعلى، وما ذلك إلا لتفسح المجال لتقدير الاضرار التي لحقت بالأسرة من خسارتها بالقتيل، وهي تتفاوت بين كثير من الناس ممن يعملون ويكدحون، فكيف لا تتفاوت بين من يعمل وينفق على أسرته، وبين من لا يعمل ولا يكلف بالانفاق على أحد، بل كان ممن ينفق عليه؟ وأعود فأقول ان ذلك مرتبط أيضاً بفلسفة الاسلام في عدم تكليف المرأة بالكسب للانفاق على نفسها وعلى أولادها، رعاية لمصلحة الأسرة والمجتمع اما في المجتمعات التي تقوم فلسفتها على عدم اعفاء المرأة من العمل لتعيل نفسها وتسهم في الانفاق على بيتها واطفالها، فان من العدالة حينئذ أن تكون ديتها اذا قتلت معادلة على العموم لدية الرجل القتيل.

4- رئاسة الدولة:

يحتم الاسلام أن تكون رئاسة الدولة العليا للرجل، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" وهذا النص يقتصر المراد من الولاية فيه على الولاية العامة العليا، لأنه ورد حين أبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن الفرس ولوا للرئاسة عليهم احدى بنات كسرى بعد موته، ولأن الولاية باطلاقها ليست ممنوعة عن المرأة بالاجماع، بدليل اتفاق الفقهاء قاطبة على جواز أن تكون المرأة وصية على الصغار وناقصي الأهلية، وأن تكون وكيلة لأية جماعة من الناس في تصريف أموالهم وإدارة مزارعهم وأن تكون شاهدة، والشهادة ولاية كما نص الفقهاء على ذلك، ولأن أبا حنيفة يجيز أن تتولى القضاء في بعض الحالات، والقضاء ولاية. فنص الحديث كما نفهمه صريح في منع المرأة من رئاسة الدولة العليا، ويلحق بها ما كان بمعناها في خطورة المسؤولية. أما توليها غير ذلك من الوظائف فهذا ما سنعرض له في آخر هذه الأبحاث. وهذا أيضاً مما لا علاقة له بموقف الاسلام من انسانية المرأة وكرامتها وأهليتها، وإنما هو وثيق الصلة بمصلحة الأمة، وبحالة المرأة النفسية، ورسالتها الاجتماعية. إن رئيس الدولة في الاسلام ليس صورة رمزية للزينة والتوقيع، وإنما هو قائد المجتمع ورأسه المفكر، ووجهه البارز، ولسانه الناطق، وله صلاحيات واسعة خطيرة الآثار والنتائج:

فهو الذي يعلن الحرب على الاعداء، ويقود جيش الأمة في ميادين الكفاح، ويقرر السلم والمهادنة، إن كانت المصلحة فيهما، أو الحرب والاستمرار فيها إن كانت المصلحة تقتضيها، وطبيعي أن يكون ذلك كله بعد استشارة أهل الحل والعقد في الأمة، عملا بقوله تعالى {وشاورهم في الأمر} ولكنه هو الذي يعلن قرارهم، ويرجح ما اختلفوا فيه، عملاً بقوله تعالى بعد ذلك: {فإذا عزمت فتوكل على الله}. ورئيس الدولة في الاسلام يتولى خطابة الجمعة في المسجد الجامع، وإمامة الناس في الصلوات، والقضاء بين الناس في الخصومات، اذا اتسع وقته لذلك. ومما لا ينكر أن هذه الوظائف الخطيرة لا تتفق مع تكوين المرأة النفسي والعاطفي، وبخاصة ما يتعلق بالحروب وقيادة الجيوش، فان ذلك يقتضي من قوة الاعصاب، وتغليب العقل على العاطفة، والشجاعة في خوض المعارك، ورؤية الدماء، ما نحمد الله على أن المرأة ليست كذلك وإلا فقدت الحياة أجمل ما فيها من رحمة ووداعة وحنان.

وكل ما يقال غير هذا لا يخلو من مكابرة بالأمر المحسوس، واذا وجدت في التاريخ نساء قدن الجيوش، وخضن المعارك، فانهن من الندرة والقلة بجانب الرجال مالا يصح أن يتناسى معه طبيعة الجمهرة الغالبة من النساء في جميع عصور التاريخ وفي جميع الشعوب، ونحن حتى الآن لم نر في أكثر الدول تطرفاً في دفع المرأة الى كل ميادين الحياة من رضيت أن تتولى امرأة من نسائها وزارة الدفاع، أو رئاسة الأركان العامة لجيوشها، أو قيادة فيلق من فيالقها، أو قطع حربية من قطعاتها. وليس ذلك مما يضر المرأة في شيء، فالحياة لا تقوم كلها على نمط واحد من العبوس والقوة والقسوة والغلظة، ولو كانت كذلك لكانت جحيما لا يطاق، ومن رحمة الله أن الله مزج قوة الرجل بحنان المرأة، وقسوته برحمتها، وشدته بلينها، وفي حنانها ورحمتها وانوثتها سر بقائها وسر سعادتها وسعادتنا.

أما خطبة الجمعة والامامة في الصلاة فلا ينكر أن العبادة في الديانات – وبخاصة في الاسلام – تقوم على الخشوع وخلو الذهن من كل ما يشغله، وليس مما يتفق مع ذلك أن تعظ الرجال امرأة أو تؤمهم في الصلاة. على أن السبب الحقيقي في رأينا ليس هو الخطبة والامامة ولا حل المشكلات، وإنما هو ما تقتضيه رئاسة الدولة من رباطة الجأس، وتغليب المصلحة على العاطفة، والتفرغ التام لمعالجة قضايا الدولة، وهذا مما تنأى طبيعة المرأة ورسالتها عنه.

الخلاصة:

والخلاصة أن الاسلام بعد أن أعلن موقفه الصريح من انسانية المرأة وأهليتها وكرامتها، نظر الى طبيعتها وما تصلح له من أعمال الحياة، فأبعدها عن كل ما يناقض تلك الطبيعة، أو يحول دون أداء رسالتها كاملة في المجتمع، ولهذا خصها ببعض الأحكام عن الرجل زيادة أو نقصانا. كما أسقط عنها – لذات الغرض – بعض الواجبات الدينية والاجتماعية كصلاة الجمعة "ووجوب الاحرام في الحج، والجهاد في غير أوقات النفير العام، وغير ذلك، وليس في هذا ما يتنافى مع مبدأ مساواتها بالرجل في الانسانية والأهلية والكرامة الاجتماعية، ولا تزال الشرائع والقوانين في كل عصر، وفي كل أمة تخص بعض الناس ببعض الأحكام لمصلحة يقتضيها ذلك التخصيص دون أن يفهم منه أي مساس بمبدأ المساواة بين المواطنين في الأهلية والكرامة.

حقائق يحسن أن نذكرها:

من هذا الاستعراض السريع الشامل لموقف الاسلام من المرأة، ومبادئه العامة التي أعلنها في كل ما يتعلق بحقوقها وكرامتها، نستطيع أن نستخلص الحقائق التالية:

أولاً: إن موقف الاسلام من المرأة كان ثورة على المعتقدات والآراء السائدة في عصره وقبل عصره من حيث الشك بانسانيتها.

ثانياً: إنه كان ثورة على المعتقدات السائدة قديماً ولا تزال سائدة عند اتباع بعض الديانات والطوائف الشرقية من أنها غير جديرة بتلقي الدين ودخول الجنة مع زمرة المؤمنين الصالحين.

ثالثاً: إنه كان ثورة على المعتقدات والتقاليد السائدة من عدم احترامها الاحترام الحقيقي اللائق بكرامتها الانسانية.

رابعاً: إنه كان تقدما فكريا انسانياً قبل الحضارة الغربية الحديثة باثني عشر قرنا على الأقل في الاعتراف بأهلية المرأة كاملة غير منقوصة. وحسبنا أن نعلم أن أسباب الحجر في التشريع الاسلامي هي: الصغر، والجنون، بينما هي في القانون الروماني، وفي القانون الفرنسي حتى عام 1938 ثلاثة: الصغر، والجنون، والأنوثة. ولما عدل القانون الفرنسي في عام 1938 لرفع القيود عن أهلية المرأة بقيت أهليتها مقيدة بقيود قانونية وقيود ناشئة عن نظام الأموال المشتركة بين الزوجين. فمن القيود القانونية عدم جواز ممارسة المرأة الفرنسية احدى المهن بدون إجازة من زوجها. ومن القيود المنبثقة عن نظام الاشتراك بالأموال أن المرأة الفرنسية المتزوجة لا يمكنها أن تتصرف بأموالها الخاصة، ويجب عليها أن تحتفظ بحق الانتفاع للزوج، ولا يمكنها أن تتصرف بالرقبة إلا بإجازة الزوج، وإذن المحكمة وحده لا يكفي[2]. وإذا قورنت هذه القيود على أهلية المرأة الفرنسية، بالأهلية الكاملة التي تتمتع بها المرأة المسلمة منذ أربعة عشر قرنا، والتي لا تعرف مثيلاً لقيود المرأة الفرنسية المعاصرة أدركنا أي سبق حققه الاسلام في ميدان التشريع الانساني بالنسبة لحقوق المرأة وأهليتها، وأدركنا بذلك مغزى ما يشعر به المتشرعون الفرنسيون من ألم بسبب نقصان أهلية المرأة الفرنسية حتى الآن، حتى قال وزير العدلية الفرنسية السابق "ره نولد" ان حلم المرأة الفرنسية وأملها لم يتحققا الى الآن[3].

خامساً: إن التشريع الاسلامي كان انساني النزعة والعدالة، حين قرر للمرأة حقوقها دون ثورة النساء ومؤامراتهن، بينما لم تحصل المرأة الفرنسية على حقوقها إلا بعد ثورات ومؤامرات واضطرابات، وكانت تنتزع حقوقها بالتدريج شيئاً بعد شيء، بينما سلم الاسلام لها بحقوقها دفعة واحدة طائعاً مختاراً.

سادساً: كان التشريع الاسلامي نبيل الغاية والهدف حين أعطى المرأة حقوقها من غير تملق لها أو استغلال لأنوثتها، ففي الحضارتين اليونانية والرومانية وفي الحضارة الغربية الحديثة، سمح لها بالخروج وغشيان المجتمعات للاستمتاع بأنوثتها، لا اعترافاً بحقوقها وكرامتها بدليل موقف هذه الحضارات من أهليتها الحقوقية. بينما كان الاسلام على العكس من ذلك، فقد قرر لها كل ما تتم به كرامتها الحقيقية من حيث الأهلية القانونية والمالية، وحد من نطاق اختلاطها بالرجال وغشيانها المجتمعات، لمصلحة الأسرة والمجتمع، ولصيانة كرامتها من الابتذال وأنوثتها من الاستغلال.

سابعاً: إن التشريع الاسلامي بعد أن أعطاها حقوقها، وأعلن كرامتها راعى في كل ما رغب اليها من عمل، وما وجهها اليه من سلوك. ان يكون ذلك منسجما مع فطرتها وطبيعتها، وأن لا يرهقها من أمرها عسراً. ولنضرب لذلك مثلاً، فهو قد أجاز لها البيع والشراء وشتى أنواع المعاملات وصحح ذلك منها، واعتبرها كاملة الأهلية في كل هذه التصرفات، لكنه رغب اليها أن لا تباشر ذلك إلا عند الضرورة، وأفهمها أن الخير لها ولأسرتها ولمجتمعها أن تتفرغ لأداء رسالتها التي لا تقل ارهاقاً عن ارهاق العمل الحر وهي في الواقع تفوقه قدسية وشرفاً، وهو أدل على انسانيتها وكرامتها من مزاولتها العمل خارج البيت لتأكل وتعيش، إن الاسلام كان في هذا الموقف جد حكيم ومعتدل، فلا هو منعها أهلية العمل خارج بيتها كما كان شأن الشرائع قبله، وشأن الأمم كلها حتى العصر القريب، ولا هو حرضها على هجر البيت وزين لها مزاحمة الرجل وترك شؤون الأسرة كما هو شأن الحضارة الحديثة. ولا ريب أن هذا صنع الهِ حكيم وتشريع عليم خبير.

ثامناً: ونتيجة لهذا كله يحق للمرأة المسلمة بوجه عام، والمرأة العربية بوجه خاص أن تفاخر جميع نساء العالم بسبق تشريعاتها وحضارتها جميع شرائع العالم وحضاراته الى تقرير حقوقها، والاعتراف بكرامتها، اعترافاً انسانياً نبيلاً لا يشوبه غرض ولا هوى، ولا يدفع اليه قسر ولا ضرورة.

[1] الزواج: لزهدي يكن: 93.

[2] الزواج لزهدي يكن: 224.

[3] المصدر السابق: 226.

وضع المرأة المسلمة عبر التاريخ

في عصور الازدهار:

على ضوء هذه المبادئ الاصلاحية الجذرية التي أعلنها الاسلام، قام في الدنيا لأول مرة مجتمع تحترم فيه المرأة كانسان كامل الأهلية وتلاقي من المجتمع الاحترام اللائق بها كزوجة وأم صانعة للأبطال والعظماء، وتصان سمعتها عن اللغط وأقاويل السوء، بعدم اختلاطها المشبوه مع الرجال إلا في أماكن العبادة، ومجالس العلم، ومعارك التحرير، وفي هذه الأماكن كانت لها مجالسها الخاصة بها، ولباسها المحتشم، ووقارها المتدين، فما كانت تتعلق بها الأعين، ولا تتطلع اليها النفوس، بل اذا كانت مرت تُغضُ الأبصار حياء، واذا جلست تنصرف الوجوه عنها احتراما، وإذا حاربت تخفق لها القلوب إبكاراً وتقديراً. وتقررت مبادئ الاسلام نحوها في الفقه الاسلامي على اختلاف مذاهبه وأصبحت مبادئ مسلّماً بها في جميع العصور، لأنها مبادئ صريحة واضحة في كتاب الله، وسنة رسوله، وعمل الرسول وصحابته والتابعين من بعده.

في عصور الانحطاط:

ثم أتى على المرأة عصور متباينة من حيث الرعاية او الاهمال، نتيجة لتطور الحضارة الاسلامية، وعادات البلاد الاسلامية المتباينة، حتى انتهى الأمر بالمرأة في عصور الانحطاط إلى اهمالها اهمالاً تاماً، والتجاوز الواقعي على كثير من حقوقها، مما جعلها معطلة عن أداء رسالتها الاجتماعية التي حملها إياها الاسلام. وينبغي أن نلاحظ أنه في هذه العصور المظلمة بقيت حقيقتان قائمتان:

أولاهما: أن حقوقها التي قررها الاسلام ظلت مقررة في كتب الفقهاء، برغم أن المجتمع لم يكن ينفذ منها كثيراً، وهذا عائد الى أن الحقوق التي اكتسبتها، المرأة المسلمة في الاسلام لم تكن حقوقاً أوحت بها ظروف اجتماعية طارئة ثم زالت، وإنما كانت حقوقاً ثابتة جاء بها تشريع إلهي خالد لا يستطيع أحد مهما علا شأنه في المجتمع أن يناله بالتغيير والتبديل.

ثانيهما: إن عفتها وسمعتها العطرة وقيامها بواجبها الاسروي ظلت مستمرة خلال هذه العصور تقريباً، برغم جميع الاضطرابات والانحرافات التي أصابت المجتمع الاسلامي في عصور الانحطاط. وهذا ما جعل المرأة المسلمة محل غبطة شديدة، وتنويه كبير من الكتاب الغربيين الذين أخذوا منذ مطلع الاستعمار الغربي يتصلون بالمسلمين ويتحرون الحقائق عنهم.

ومن الحق أن نشهد بأن الأوساط غير الاسلامية في بلاد المسلمين استفادت من تقاليد المجتمع الاسلامي في صيانة عفة المرأة والابتعاد عن العبث بها سمعة مشرفة أيضاً، بالنسبة الى المرأة الغربية وإن كانتا تتبعان ديناً واحداً، وهذا ما نشاهده في الأسر المسيحية العريقة برغم ما أصابنا وأصابهم من عدوى التقاليد والأخلاق والعادات الغربية.

الحاجات إلى الإصلاح

لم يكن بدٌ وقد بدأ اتصالنا بالحضارة الغربية في مستهل هذا القرن تقريباً، من أن تتجه افكار المصلحين الاجتماعيين الى معالجة قضية المرأة عندنا بعد أن وصلت إلى ما وصلت اليه في عصور الانحطاط: من الاهمال والافتئات على كثير من حقوقها حتى غدت غير ذات أثر فعال في تطور مجتمعنا والنهوض بأمتنا.

طريقان للاصلاح:

وكان جمهور هؤلاء المنادين بالاصلاح: ذوي اتجاهين متباينين في كثير من نقاط الرأي:

1- فالذين درسوا الاسلام وعلموا ما جاء فيه من اصلاح عظيم لشؤون المرأة، والذين آمنوا بوجوب احتفاظ المرأة عندنا بخصائصها كامرأة عربية مسلمة، أخذوا ينادون بوجوب الاستفادة من تراث الاسلام وتجارب الأمم في اصلاح المرأة وإنهاضها.

2- والذين بهرتهم أنوار المدنية الغربية وغرتهم مظاهر حياة المرأة الغربية، أخذوا ينادون بوجوب اتباع النهج الغربي في رقي المرأة عندنا وإنهاضها من كبوتها.

هذان هما الاتجاهان الرئيسيان اللذان انقسم اليهما دعاة الاصلاح، وطبعاً إنني أسقط هنا أولئك الذين أعجبهم وضع المرأة على ما هو عليه تماماً، فلم يروا حاجة لادخال أي تبديل أو تغيير في حياتها.. هؤلاء لا أتحدث عنهم لأني لست أراهم قوماً عمليين ولا مدركين خطورة بقاء المرأة على ما توارثته من عهود الانحطاط والتخلف. وكان لا بد لاتجاهات الفريقين المتباينين في وجهات النظر في طريق اصلاح المرأة من أن تعكس على قوانينا في عصر النهضة الذي نعيش فيه فجاءت فيها أحكام مستمدة من الفقه الاسلامي، وأحكام تخالفه، وأنا متحدث عن أهم هذه الأحكام بقدر ما أستطيع من إيجاز يسمح به الوقت:

نواحي الاصلاح:

نستطيع أن نقسم الاصلاحات أو الأحكام التي دخلت في قوانيننا لاصلاح حالة المرأة والهوض بها الى أقسام رئيسية ثلاثة:

أ‌- في نطاق الأحوال الشخصية.
ب‌- في نطاق الحقوق السياسية.
ت‌- في نطاق الحقوق الاجتماعية.

في الأحوال الشخصية - في الزواج

من المعلوم أن أحكام الأسرة عندنا كانت تؤخذ من مذهب أبي حنيفة رحمه الله خلال مئات السنين، وكذلك كان الحال في لبنان والأردن ومصر والعراق، كما كانت تؤخذ من مذهب مالك في كل من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وكانت تؤخذ من الشافعي في الحجاز وبعض البلاد الأخرى، وتؤخذ من مذهب أحمد في السعودية والكويت وأمارات الخليج العربي. وحين تخاصم الناس فيما بينهم ويتحاكمون الى فقيه من فقهاء الشريعة. كان كل فقيه يفتي بمذهبه الذي يتمذهب به. ولا شك في أن كل مذهب قد يحتوي من الأحكام ما لا يتفق مع مصالح الأسرة، وبخاصة بعد تطور الحضارة والعادات والتقاليد، لذلك بدأت الدولة العثمانية في أواخر عهدها باصلاح ما تراه ضرورياً من أحكام القضاء في شؤون الأسرة، فأصدرت في عام 1336 هـ قانون حقوق العائلة الذي أخذ بعض أحكامه من آراء في المذهب الحنفي نفسه، ومن آراء من المذاهب الاجتهادية الأخرى، كما أخذت مصر تسن في بعض مسائل الأحوال الشخصية قوانين تأخذ فيها بآراء غير المذهب الحنفي، فصدر في عام 1920 القانون رقم 25، وفي عام 1929 القانون رقم 15، كما صدر في عام 1943 القانون رقم 77 وهو المتضمن لأحكام المواريث، وصدر في عام 1946 القانون رقم 71 وهو المتضمن لأحكام الوصية كلها.

وقد صدر في سورية عام 1951 قانون الأحوال الشخصية شامل لأحكام الزواج وانحلاله، والأهلية والوصية والمواريث. وقد أخذت بعض أحكامه من آراء المذاهب الاجتهادية غير المذهب الحنفي، ونص في آخر مادة منه (المادة 308) على أنه في الحالات التي لا يوجد عليها نص في القانون يعمل فيها بمذهب أبي حنيفة. وكذلك صدر في كل من الأردن وتونس والمغرب والعراق قوانين جديدة تنظم أحكام الأسرة من المذاهب السائدة فيها. وقد تضمنت بعض هذه القوانين أحكاماً جديدة في أحكام الأحوال الشخصية كالمواريث تخالف أحكام الشريعة صراحة. ومما تميز به قوانين الأحوال الشخصية التي صدرت حديثاً في البلاد العربية أنها أزالت كثيراً من الشكوى التي كان يشكو منها الناس نتيجة التقيد بمذهب معين كما كان العمل عليه في المحاكم الشرعية، مع أنه ليس لذلك سند من شريعة أو مصلحة. وسأقتصر في بحثي هذا على أهم الاصلاحات التي تضمنها قانون الأحوال الشخصية السوري ومثله في القوانين المصرية، ولعل مثله جاء في القوانين العربية الأخرى.

1- في الزواج

1- منع زواج الصغار دون سن البلوغ

ذهبت الآراء الاجتهادية في المذاهب الأربعة وغيرها الى صحة زواج الصغار ممن هم دون سن البلوغ، واستندوا في ذلك الى اجتهادات من نصوص القرآن الكريم، وإلى وقائع حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين. وخالفهم في ذلك عدد قليل من الفقهاء منهم ابن شبرمة والبتي، فذهبوا الى عدم صحة زواج الصغار مطلقاً، وأن العقد الذي يعقده أولياؤهم نيابة عنهم يعتبر باطلاً لا يترتب عليه أثر ما. ولا شك في أن حكمة التشريع من الزواج يؤيد هذا الرأي، وليس للصغار مصلحة في هذا العقد، بل قد يكون فيه محض الضرر لهم، إذ يجد كل من الفتى والفتاة نفسه بعد البلوغ مجبراً على الزواج بشخص لم يؤخذ رأيه في اختياره، وقد لا يتفق معه في المزاج والأخلاق والطباع وقد يكون احدهما سيء الأخلاق، الى غير ذلك مما يقع كثيراً.

والذي يحمل الناس – وخاصة في الريف – على اجراء مثل هذه العقود رغبة الوليين - وقد يكونان أخوين في ربط أسرتيهما برباط المصاهرة لمصلحة عائلية أو مادية أو شخصية، ومثل هذه المصالح لا يقيم لها الشرع وزنا، ولم تعد في حياتنا الحاضرة محل اعتبار بالنسبة للسعادة الزوجية، ووجوب الاحتياط لكل ما قد يؤدي بها الى الضعف أو التفكك. لقد كان الأمر قديماً في مجتمعنا أن الفتاة لا رأي لها في اختيار الزوج، بل أبوها يزوجها بمن يريد أو تريد أمها، وما دام كذلك فمن السهل عليهم أن يزوجوها وهي صغيرة فاذا كبرت وجدت نفسها ملزمة بهذا الزواج لا تستطيع أن تبدي عليه اعتراضاً، وإلا كان نصيبها التأنيب والاهانة وقد يصل الأمر الى القتل اذا أصرت على الرفض والامتناع. وهذا أمر لا تقره الشريعة. ولا تبيحه مصلحة الأسرة والمجتمع وفيه عدوان صارخ على حق الفتى والفتاة في اختيار كل منهما من يشاء لبناء حياته الزوجية المرتقبة. وقد أيدت التجارب فساد مثل هذا النوع من الزواج وفشله وكثيراً ما ينتهي بجرائم خلقية أو عدوانية. ومن هنا أخذ قانون الأحوال الشخصية السوري بمبدأ عدم صحة زواج الصغار، وأن أحداً لا يملك تزويجهم ولياً كان أم وصياً، وإن كان ذلك كان لغواً لا أثر له. وقد اقتضى قانوننا في ذلك إثر قانون حقوق العائلة العثماني. أما قانون مصر فقد منع سماع دعوى الزوجية في مثل هذه الحالة، ومعنى ذلك أن العقد صحيح ولكن المحكمة الشرعية لا يمكنها تسجيله، ولعل عذرهم في ذلك واقع الريف المصري، فان زواج الصغار منتشر جداً، فأرادوا احترام الأوضاع الاجتماعية القائمة، واعتبروا عدم سماع الدعوى في هذا الزواج خطوة أولى في طريق إيقافه. والذي نراه أن ما فعله قانوننا أصح وأحزم.

2- تحديد سن الزواج

ليس في الفقه الاسلامي تحديد لسن الزواج، بل أحكامه العامة قاضية ببلوغ الرشد حين البلوغ الجنسي فعلاً، أو تقديراً بخمس عشرة سنة ولكن قانون الأحوال الشخصية جعل سن الأهلية الكاملة للزواج ثمانية عشر عاماً للفتى، وسبعة عشر عاماً للفتاة، وأجاز القانون للفتى اذا بلغ خمسة عشر عاماً، وللفتاة اذا بلغت ثلاثة عشر عاماً، وأرادا الزواج، أن يتقدما بطلب الى القاضي للاذن لهما بعقد الزواج. فاذا وجد القاضي أن جسميهما يحتملان الزواج ووافق الأب أو الجد فقط على ذلك، يسمح لهما بالزواج وإلا فلا. وليس لهذا التحديد مستند من آراء الفقهاء الاسلاميين، ولكنه أخذ عن القوانين الغربية، وللغربيين بيئتهم وأوضاعهم الخاصة، غير أني لا أرى هذا التحديد متفقاً مع مرحلة البلوغ الجنسي لكل من الفتى والفتاة في بلادنا، ولا يتفق مع المصلحة الأخلاقية العامة، فيجب أن يسمح بالزواج منذ البلوغ الجنسي، والفتى والفتاة وأولياؤهما أدرى بالمصلحة متى تكون في الزواج، أهو بمجرد البلوغ أم بانتظار سنوات بعد ذلك، وتدخل القانون في هذا الموضوع لا معنى له، بعد أن فتح الباب بالسماح بالزواج بمجرد البلوغ الجنسي ولكن عن طريق اقتناع بأن جسم الفتى أو الفتاة يحتمل الزواج!.. كأن القاضي أغير على مصلحة الفتى والفتاة منهما أو من أوليائهما!

على أني لم أجد فائدة لتدخل القاضي في هذا الموضوع، فالآباء الراغبون في زواج بناتهم قبل بلوغهم سن الزواج القانوني يلتمسون من الحيل ما يفسد احتياط القانون لذلك، ومن أهم هذه الحيل أن يعرضوا على القاضي أو مندوبه شقيقة الفتاة الكبرى، أو بنت عمها، أو احدى قريباتها أو احدى جاراتها على أنها هي التي يراد زواجها، فيوافق القاضي... فما فائدة هذا التدخل؟ ولم ندخل القاضي في مثل هذه المشاكل؟

إن عصرنا عصرٌ وعى الناس لمشكلاته تماماً، فالفتاة تعرف مشكلات الزواج ومتاعبه، فلا توافق أولياءها على الزواج إلا وهي مقتنعة بأن مصلحتها فيه، وكذلك أولياؤها يعرفون متاعب الزواج المبكر جداً، فاذا رغبوا في زواج فتاتهم بعد بلوغها بسنوات قلائل كان ذلك عندهم أنه في مصلحتها.

قد يقال: إن بعض الآباء يرغمون بناتهم على الزواج وهن في سن مبكرة رغبة في منافع مادية يؤملونها. والجواب على هذا بأن مذهب أبي حنيفة – وهو الذي أخذ به في قانون الأحوال الشخصية – أن الفتاة متى كبرت لا يستطيع أبوها أو أولياؤها إجبارها على قبول الزواج، بل لابد من رضاها، وفي هذا ضمانة كافية لمنع تسرع الآباء في تزويج فتياتهم رغبة في منافع مادية.

الزواج المبكر

إنني من أنصار الزواج المبكر نسبياً، فالزواج المبكر أحفظ لأخلاق الشباب، وأدعى الى شعورهم بالمسؤولية. وهو أفضل لصحة الزوجين، وللزوجة بصورة خاصة. وقد ثبت علمياً – كما أيده الدكتور فيكتور بوجومولتز في كتابه "من الجلد الى الذهن" وترجم أخيراً بعنوان "عش شاباً طول حياتك" – ان انجاب الأطفال شيء مهم جداً في حياة المرأة من كل ناحية، ولم يقرر أحد من المختصين أن تعب البنية من كثرة الولادة قاض عليها، ويقول (ص 68):

"إن من المؤكد أن عملية الحمل والولادة عامل حيوي جداً في نشاط بنية المرأة، ولست أميل الى القول بأن المرأة تتعرض لتقصير حياتها بافراطها في انجاب الذرية، فكلنا نعرف نساء أنجبن كثيراً من الأولاد، وعمرن طويلاً جداً".
"اذا رجعنا الى أمثلة معينة بين من نعرف فربما بدت لنا القوة التناسلية دليلا على حيوية خارقة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك. فلاح روسي اسمه "فيودور فاسيليان" يبلغ من العمر خمساً وسبعين، وقد أنجب ثلاثة وثمانين طفلاً من زوجتين متعاقبتين، فقد ولد له من الأولى أربعة توائم، أربع مرات متتالية، وثلاثة توائم، أربع مرات متتالية أيضاً، وتوأمان ست عشر مرة، وولد من من زوجته الثانية الحالية ثلاثة توائم مرتين، وتوأمان ست مرات، وخمسة أطفال فرادى".

ثم يقول هذا الطبيب: ولكن مثل هذه الحالات لا تعتبر تفسيراً مقنعاً في نظر العلم، وإن المقطوع به أو الولادة مفيدة عموماً لبنية المرأة، وقد لاحظ العلامة "ألكس كاريل" أن الاناث من ذوات الثدي قد لا تصل الى غاية نموها إلا بعد الحمل مرة أو أكثر، فالحمل عند المرأة من عوامل توازنها الحيوي، أما تكاليفه من المتاعب فلما يصاحبه من ظروف عارضة، ولهذا يعتبر الطب الظاهري الحياة الجنسية والتناسلية على أعظم جانب من الأهمية لدى المرأة، ويميل الى تشجيع النشاط الجنسي (المشروع لمصلحة أعضائها واستدامة شبابها واطالة عمرها).

وأريد بهذه المناسبة أن أتحدث عن تأخر الشباب والشابات وبخاصة الطلاب والطالبات – في الزواج الى الوقت الذي يضمنون فيه مستقبلهم بعد تخرجهم، وهذه ظاهرة خطيرة أدت الى مساوئ اجتماعية لا عداد لها. إن الزواج اذا يسرت وسائله وقضي على التقاليد السيئة فيه يصبح أمراً عادياً جداً، فالطالب الذي ينفق عليه أبوه يستطيع أن يضم اليه زوجة في نفس الغرفة التي يسكن فيها دون أن يرهق والده. ويجب أن نفرق بين الزواج وبين انجاب الأولاد، فقد أصبح من الممكن علمياً الآن إيقاف إنجاب الأولاد الى الوقت الذي يصبح فيه الزوجان قادرين على الانفاق على الأولاد. والمهم أن تبكير شبابنا وشاباتنا في الزواج يعصم أخلاقهم من الانحراف، ويهدئ أعصابهم، ويقيهم أخطار الانفعالات النفسية ذات الأثر الضار في دراستهم واتجهاههم السلوكي في الحياة. وقد جاءتنا الأنباء بأن زواج الطلاب بالطالبات في جامعات أمريكا قد أصبح "الموضة" المنتشرة بينهم، وبلغ عدد المتزوجين من الطلاب والطالبات في إحدى الجامعات الأمريكية الكبرى أربعين في المائة، وجاءت الأخبار من إنجلترا بأن هذه "الموضة" قد سرت الى جامعاتها أيضاً، ويؤيد عدد من أساتذة الجامعات في أوروبا وأمريكا هذا الاتجاه الجديد بين الطلاب والطالبات، وقد صرح البروفسور هاردن أستاذ علم النفس في جامعة هارفارد بأن الزواج المبكر لا يضر كما يعتقد البعض، وخاصة بين طلاب وطالبات الجامعة. إن الظاهرة التي يشاهدها الناس في الجامعات هي ظاهرة طبيعية وجد مفيدة، فالطالب المتزوج يدرك قيمة مستقبله (جريدة الوحدة الدمشقية) 5/11/1961.

إنني كأستاذ جامعي وكمتزوج أشجع وأدعو طلابنا وطالباتنا الى الزواج بعضهم من بعض، وأنا كفيل لهم بحياة سعيدة هانئة، وذلك يقتضي شبابنا وفتياتنا أن يبدؤا بأنفسهم بالثورة على التقاليد السيئة التي ترافق الزواج وتجعله عبئاً مالياً ثقيلاً، وحسب الفتاة أن تقول لأبيها وأمها إنني أرضى بالزواج في غرفة شاب يقيم مع أسرته إلى أن يتيسر له الانفراد بسكن مستقل، وحسب الشاب أن يفعل ذلك، ومتى بدأ به بعض أفراد منهم أصبح أمراً مألوفاً يحتذيه اخوانهم من بعدهم. ولا بد لي من التوجه أيضاً الى الجمعيات النسائية بأن تحمل لواء الدعوة في الأوساط النسائية الى نبذ تلك التقاليد التي نشكو منها جميعاً، وان تحاربها في اجتماعاتها ونشراتها وندواتها بكل ما وسعها الجهد، فذلك خير عمل تقدمه لجيلنا وللأجيال الآتية من بعده. إن جيلنا المثقف جدير بأن يضرب أول معول في بناء هذه التقاليد الضارة...

3- منع الفرق الكبير في السن بين الزوجين

في المجتمع الواعي الذي يقدر القيم الأخلاقية والمعاني الاجتماعية النبيلة، يترك التشريع لابنائه تقدير الظروف والمناسبات التي يباح فيها الشيء أو يمتنع مما يختلف باختلاف الدواعي والأسباب. ومن ذلك أن الشريعة الاسلامية اكتفت ببيان الحكمة من الزواج وبيان غاياته الاجتماعية النبيلة: من كونه سبباً لسكن النفس واطمئنانها، وقيامها بواجباتها وبناء خلية اجتماعية صالحة تمد المجتمع بنسل صالح قوي عامل. ولم تضع حداً لفارق السن بين الزوجين، فذلك مما تتنبه له العقول السليمة وتعيه الارادة الحكيمة، والناس في هذا مختلفون، فكم من متقدم في السن أكثر قدرة على القيام بواجباته الزوجية، وأكثر استعداداً لاسعاد زوجته وملء بيتها رغداً وهناءاً من كثير من الشباب. إلا أن بعض الناس قد تعميهم المصلحة العاجلة عن الضرر الآجل وتهمهم مصالح أنفسهم قبل مصالح أبنائهم وذويهم، وقد يرون في الثروة والجاه وسيله للسعادة دون الفتوة والقوة والشباب، فيقدمون على تزويج بناتهم من شيوخ يعجزون عن القيام بواجباتهم الزوجية، ويستحيل أن تكون حياة الفتاة معهم حياة قلب وروح، بل حياة أشباح تتهاوى، وقبور تفتح لتستقبل أصحابها. مثل هؤلاء يسيئون الى بناتهم بالغ الاساءة، والشريعة وإن لم تنص بصراحة على منعهم من هذا العمل إلا أن روحها وأهدافها التي أعلنتها من شرع الزواج تمنعهم منه وتشنع عليهم صنيعه. وقد نص بعض الفقهاء على حرمة ذلك، قال القليوبي في حاشيته على المنهاج: ويصح أن يزوج بنته الصغيرة بهؤلاء (عجوز وأعمى) وإن حرم عليه، قال الجمهور: (انظر: 3/230). فأنت ترى أنهم فرقوا بين صحة العقد وبين حرمته، فالعقد وإن كان صحيحاً، فيه حرمة اتفق عليها الجمهور، وهذا ما يعبر عنه الفقهاء بتعبير آخر يجوز قضاء ويحرم ديانة. وكثير من الناس لا يردعهم القول بحرمة الشيء عن اتيانه ماداموا يرونه صحيحاً، ولذلك كثر في الأيام الأخيرة تزويج فتيات في مقتبل العمر طمعاً في ثروة الأزواج وجاههم ووراثة ممتلكاتهم، ومن المؤسف أن الفتيات أنفسهن قد يكن راغبات بهذا الزواج للبواعث ذاتها، وهذه البواعث غير كريمة في نظر الخلق ولا مرضية في نظر الشريعة، ومثل هذا الزواج لا يعصم الزواج الفتاة ولا يحقق لها الهناء والاستقرار لذلك وجب أن يتدخل المشرع في منعه، عملاً بالسياسة الشرعية، فلولي الأمر منع المباح اذا نشأت عنه مفسدة، فكيف اذا كان حراماً؟ وبذلك أخذ قانوننا في وجوب تقارب الزوجين في العمر، ونص على أنه اذا كان الفارق كبيرا ولا مصلحة في هذا الزواج فللقاضي أن لا يأذن به. ونعم ما فعل. غير أن القانون لم يحدد للفارق سناً معينة، وقد جرت محاكمنا الشرعية على اعتبار الفارق المسموح به ما كان دون العشرين عاما، فان زاد على ذلك كان غير مسموح به، وقد يكون هذا مقبولاً على وجه العموم.

4- منع تحكم الولي في الزواج:

لا تزال التقاليد في مجتمعنا – وبخاصة في الريف – تكاد تسلب الفتاة حريتها في اختيار الزوج، والأغلب أن يفرض عليها من يريده الأب، أو ترضاه الأم وهي بواقعها كفتاة عذراء تستحي أن تبدي رأيها، وبواقع المجتمع الذي تعيش فيه لا يحق لها أن تعترض على ارادة أبيها وأوليائها وكثيراً ما أخفق الزواج في مثل هذه الحالات، وجر وراءه مآسي كثيرة.

ولي لهذا سند صريح من الشريعة، إلا أن بعض المذاهب الاجتهادية ذهبت الى أن الأب يستطيع اجبار فتاته البكر – دون الثيب – على الزواج ويستحب له أن يأخذ رأيها. وخالف في ذلك أبو حنيفة رحمه الله ومن وافقه، فقالوا: ليس للأب ولا لغيره من الأولياء اجبار البنت البكر البالغة على الزواج، ويجب على الأب أو الأولياء استئمارها في الزواج، فان وافقت عليه صح العقد وإلا فلا. وقد كان العمل – ولا يزال – في المحاكم الشرعية جارياً على الأخذ برأي أبي حنيفة، فلم يكن للأب أو الأولياء سبيل إلى اعنات الفتاة واجبارها على الزواج بمن لا تريد.

غير أن أبا حنيفة ومن معه يرون من حق الأولياء الاعتراض على رغبة الفتاة في الزواج بمن تحب عن طريق الادعاء بأمرين:

الأول: عدم كفاءة الزوج، وللكفاءة عند أبي حنيفة وغيره مقاييس من الحسب والمهنة ومكانة الآباء والجدود والغنى وغير ذلك مما يفتح المجال واسعاً أمام الأولياء الجاهلين للتحكم في زواج بناتهم إذا لم يوافقوا على مكانة عائلة الخاطب وثروته وغير ذلك.
الثاني: عدم مهر المثل، فاذا زوجت الفتاة نفسها بأقل من مهر مثلها كان لأبيها أو لأوليائها فسخ العقد لأنه مما تلحقهم فيه المعرة.

ولا شك أن تطور الحياة الاجتماعية يقتضي تغيير النظرة الى هذه المسألة تغييراً أساسياً، ولذلك عالجها قانوننا للأحوال الشخصية معالجة موفقة. فمن حيث الكفاءة أقر القانون اشتراط الكفاءة بين الزوجين، هذا من حيث المبدأ لضمان سعادتها وتفاهمهما، ولكنه ترك تحديد الكفاءة الى عرف البلد الذي يجري فيه العقد، وهذا إجراء حكيم مرن يمكن تطبيقه في كل وقت بما يكفل هناءة الأسرة. وجعل القانون من حق الأب الذي تزوجت فتاته في سن الزواج القانوني بغير رضاه أن يعترض لدى القاضي بعدم الكفاءة فحسب، فان تحقق القاضي عدم الكفاءة فسخ العقد وإلا أجراه. وبهذا حال القانون دون تعنت الآباء أو الأولياء في زواج فتياتهم. وبقي في القانون مشكلة على مذهب أبي حنيفة، وهي ما إذا عقدت فتاة في السادسة عشرة من عمرها زواجاً من كفءٍ ولم يوافق أبوها على ذلك، فان هذا العقد لا يستطيع القاضي إجراءه بحسب نصوص القانون، وهو صحيح على مذهب أبي حنيفة قولاً واحداً. أما مهر المثل فقد ألغى القانون اعتباره تماماً، ولم يجعل للأب حق الاعتراض بسببه، وقد أحسن القانون في ذلك صنعاً، فان المهر في الاسلام رمز لاكرام المرأة والرغبة في الاقتران بها، والتعيير بنقصانه صنيع البيئات الجاهلة التي تغفل الحكمة من مقاصد الزواج وحكمة المهر فيه، ومثل هذا لا يقيم له الاسلام وزناً، وبذلك قال الأئمة المجتهدون غير أبي حنيفة.

5- الشروط في عقد الزواج

قد تكون للزوجة مصلحة في اشتراط أمر معين في عقد الزواج، فما هو موقف الشريعة حينئذ؟

إن الشريعة تنظر الى مصالح الناس بلا ريب، وتسعى الى تحقيق ما لا يتنافى منها مع مقاصد الشريعة أو مبادئ النظام العام، أو مصلحة الجماعة بوجه عام. وللفقهاء مسالك معروفة في الشروط في العقود، ما بين متشددين في عدم السماح بها إلا في نطاق ضيق، وما بين متسامحين في قبول كل شرط إلا ما خالف مبادئ الشريعة وأنظمتها، وهؤلاء هم الحنابلة، ولكل مذهب ادلته التي استند اليها في تحديد الشروط التي يقبلها أو يرفضها. أما في عقد الزواج فالاجماع منعقد على أن كل شرط فيه يخالف نظامه الأساسي يعتبر لغوا وباطلاً، وذلك كاشتراط أن لا تدخل في طاعته، أو أن لا ينفق عليها. واختلفوا فيما وراء ذلك، والذي عليه فقهاء الحنفية وهو الذي كان معمولاً به في المحاكم الشرعية عندنا قبل صدور قانون الأحوال الشخصية عام 1951 أن كل شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائم نظامه، ولم يرد نص خاص بجوازه، وليس مما جرى به العرف، فهو شرط فاسد، بمعنى أن العقد صحيح والشرط لاغ لا قيمة له ولو تراضيا عليه في العقد. وعلى هذا فلو اشترطت عليه أن لا يسافر بها من بلدها، أو أن لا يتزوج عليها صح العقد ولغا الشرط، وله بعد ذلك أن يسافر بها، وأن يتزوج عليها، وإن كان الأولى أن يفي بما ارتضاه عند العقد، لأن الله رغب في الوفاء بالعهود والمواثيق. لقد كان ينشأ من تطبيق هذا المبدأ ضرر بالغ بالمرأة، وتغزير خطير بها فهي ما أقدمت على العقد إلا بناء على ما اشترطته فيه لمصلحتها، وقد قبل الزوج بذلك، فعدم وفائه بعدئذ بالشرط الذي اتفقا عليه إخلاف لما وعد به الزوج به، وتغرير منه. لذلك عالج قانون الأحوال الشخصية هذا الموضوع بما يحفظ حقوق الزوجة، ويمنع الزوج من التغرير بها، فاختار مبدأ الحنابلة أساساً في قبول الشروط، ولكنه قسمها تقسيماً جديداً توخى فيه مصلحة الزوج والزوجة على السواء. فقد قسم القانون الشروط الى ثلاثة أقسام:

1- شروط باطلة لا يحق الوفاء بها، ويكون العقد معها صحيحاً، وذلك بأن يقيد عقد الزواج بشرط ينافي نظامه الشرعي، كاشتراط عدم المهر، أو انفاق الزوجة على الزوج، أو بشرط ينافي مقاصده الشرعية، كاشتراط الاستمتاع الزوجي، أو أن يلتزم فيه ما هو محظور شرعاً، كاشتراط المرأة أن تسافر وحدها. فهذا النوع من الشروط باطل، والعقد صحيح، ولا يجوز الوفاء بالشرط وقد قدمنا أن هذا حكم متفق عليه في المذاهب الاجتهادية، ولا نعلم فيه خلافاً.

2- شروط صحيحة يلزم الزوج بالوفاء بها، بمعنى أن القضاء يجبر الزوج على تنفيذها، وهي الشروط التي تكون فيها مصلحة مشروعة للزوجة، ولا تمس حقوق غيرها، ولا تقيد حرية الزوج في أعماله الخاصة المشروعة، كأن لا يسافر بها، أو أن لا ينقلها من دار أبيها أو بلدها، فهذا الشرط صحيح ولا يستطيع الزوج أن يسافر بزوجته، فان أصر على السفر بها منعه القاضي من ذلك. وهذا مأخوذ من مذهب أحمد رحمه الله.

3- شروط صحيحة، ولكنها غير ملزمة للزوج بمعنى أن القضاء لا يجبر الزوج على تنفيذها، وذلك في الحالتين التاليتين:

أ‌- أن تشترط الزوجة في عقد الزواج ما فيه تقييد لحرية الزوج في أعماله الخاصة المشروعة، كأن تشترط عليه أن لا يسافر، أو لا يتوظف، أو لا يشتغل في السياسة! أو لا يتزوج عليها.
ب‌- أن تشترط ما يمس حقوق غيرها، كاشتراطها أن يطلق زوجته الأخرى.

فالشرط في مثل هاتين الحالتين شرط صحيح، ولكن لا يلزم الزوج الوفاء بسلطة القضاء، فاذا لم يف كان للزوجة طلب فسخ النكاح. وهذا متفق مع مذهب أحمد رحمه الله أيضاً، الا في اشتراط تطليق الضره، فان للحنابلة رأيين: أحدهما يقول بجوازه، والآخر، لا. ومن هنا تبين أن القانون قد أعطى الزوجة حق اشتراط ما تشاء من الشروط التي لا تنافي نظام عقد الزواج، وأن هذه الشروط منها ما تستطيع ان تجبر الزوج على تنفيذه بسلطان القضاء، ومنها ما يعطيها الحق بطلب فسخ النكاح اذا نكل الزوج عن الوفاء به. وبهذا رفع غبن كبير عن المرأة كانت تئن تحت وطأته بسبب التقيد بمذهب أبي حنيفة قبل صدور القانون.

غير أن الحق فسح المجال كثيراً أمام شروط الزوجة قد يعود بالضرر البالغ على الزوج، خذ لذلك مثلاً: اشتراطها أن لا يسافر بها من بلدها، ان الزوج قد يجد نفسه مضطراً للسفر، كأن يكون موظفاً صدر الأمر بنقله الى بلد آخر، فاذا أصرت الزوجة على عدم السفر معه، لم يكن أمامه إلا أن يتركها تعيش وحدها، ويعيش هو وحده، وفي هذا من تشتت للأسرة، وتعرض الحياة الزوجية لعدم الاستقامة، وإما أن يضطر الى طلاقها، وفي هذا خراب بيته، وانهيار حياته الزوجية، وتعريضه لهزات عنيفة ليس من اليسير تلافيها... إني أرى اعادة النظر في مثل هذه الشروط بحيث لا يعنت الزوج، ولا تعنت الزوجة، والحياة الزوجية ليست شركة مادية يحاول كل طرف فيها أن ينال أكبر كسب ممكن، بل هي شركة معنوية، لا بد أن يتنازل فيها كل واحد للآخر عن بعض حقه. حتى يتم الوئام والانسجام والاستقرار.

بقيت هنا نقطتان لا بد من الاشارة اليهما:

الأولى: أن فقهاء الحنفية يقررون أنه اذا اشترطت الزوجة في العقد جعل حق الطلاق بيدها بحيث تطلق نفسها متى شاءت، فان هذا شرط محترم، ويكون من حقها أن تطلق نفسها في أي وقت تريد، وهم يحرّجونه لا على أنه من قبيل الشرط حتى يكون فاسداً كما هي قاعدتهم، بل على أن الزوج قد ملّكها حقاً يملكه بعد العقد متى يشاء، فله أن يعجل بتمليكها هذا الحق عند العقد. وليس في هذا ما ينافي القواعد العامة.

الثانية: أن قانون حقوق العائلة قد نص على أن الزوجة اذا اشترطت أن لا يتزوج عليها، واذا تزوج كانت هي أو ضرتها طالقة، فالعقد صحيح والشرط معتبر (المادة 38) وهذا ليس من قبيل الشروط الفاسدة، بل هو من قبيل تعليق الطلاق بشرط، وهو صحيح كما اذا قال لها: إن ذهبت الى مكان كذا فأنت طالق. ثم ذهبت فالطلاق واقع قولاً واحداً.

فكرة التعدد

يشن الغربيون المتعصبون من رجال الدين والاستشراق والاستعمار حملة قاسية على الاسلام والمسلمين بسبب تعدد الزوجات، ويتخذون منها دليلاً على اضطهاد الاسلام للمرأة واستغلال المسلمين لها في إرضاء شهواتهم ونزواتهم. والغربيون في ذلك مكشوفو الهدف، مفضوحو النية، متهافتو المنطق.

1- فالاسلام لم يكن أول من شرع تعدد الزوجات، بل كان موجوداً في الأمم القديمة كلها تقريباً: عند الاثينيين، والصينيين، والهنود، والبابليين والأشوريين، والمصريين، ولم يكن له عند أكثر هذه الأمم حد محدود، وقد سمحت شريعة "ليكي" الصينية بتعدد الزوجات الى مائة وثلاثين امرأة، وكان عند أحد أباطرة الصين نحو من ثلاثين ألف امرأة!...

2- والديانة اليهودية كانت تبيح التعدد بدون حد، وأنبياء التوراة جميعاً بلا استثناء كانت لهم زوجات كثيرات، وقد جاء في التوراة أن نبي الله سليمان كان له سبعمائة امرأة من الحرائر وثلاثمائة من الإماء.

3- ولم يرد في المسيحية نص صريح بمنع التعدد، وإنما ورد فيه على سبيل الموعظة أن الله خلق لكل رجل زوجته.. وهذا لا يفيد على أبعد الاحتمالات إلا الترغيب بأن يقتصر الرجل في الأحوال العادية على زوجة واحدة، والاسلام يقول مثل هذا القول، ونحن لا ننكره، ولكن أين الدليل على أن زواج الرجل بزوجة ثانية مع بقاء زوجته الأولى في عصمته يعتبر زنى ويكون العقد باطلاً.

ليس في الأناجيل نص على ذلك، بل في بعض رسائل بولس ما يفيد أن التعدد جائز، فقد قال: "يلزم أن يكون الاسقف زوجا لزوجة واحدة"[1] ففي إلزام الأسقف وحده بذلك دليل على جوازه لغيره. وقد ثبت تاريخياً أن بين المسيحيين الأقدمين من كانوا يتزوجون أكثر من واحدة، وفي آباء الكنيسة الأقدمين من كان لهم كثير من الزوجات، وقد كان في أقدم عصور المسيحية من إباحة تعدد الزوجات في أحوال استثنائية وأمكنة مخصوصة. قال "وستر مارك" (Wester Mark) العالم الثقة في تاريخ الزواج: إن تعدد الزوجات باعتراف الكنيسة بقي الى القرن السابع عشر. وكان يتكرر كثيراً في الحالات التي لا تحصيها الكنيسة والدولة[2].

ويقول أيضاً في كتابه المذكور:

إن "ديارماسدت" ملك إرلندة كان لو زوجتان وسريتان. وتعددت زوجات الميروفنجيين غير مرة في القرون الوسطى. وكان لشرلمان زوجتان وكثير من السراري، كما يظهر من بعض قوانينه ان تعدد الزوجات لم يكن مجهولاً بين رجال الدين أنفسهم. وبعد ذلك بزمن كان فيليب اوفاهيس وفردريك وليام الثاني البروسي يبرمان عقد الزواج مع اثنتين بموافقة القساوسة اللوثرين. وأقر ماتر لوثر نفسه تصرف الأول منهما كما أقره ملانكنون. وكان لوثر يتكلم في شتى المناسبات عن تعدد الزوجات بغير اعتراض، فإنه لم يحرم بأمر من الله، ولم يكن ابراهيم – وهو مثل المسيحي الصادق – يحجم عنه إذ كان له زوجتان. نعم إن الله أذن بذلك لأناس من رجال العهد القديم في ظروف خاصة ولكن المسيحي الذي يريد أن يقتدي بهم، يحق له أن يفعل ذلك متى تيقن أن ظروفه تشبه تلك الظروف، فإن تعدد الزوجات على كل حال أفضل من الطلاق. وفي سنة 1650 ميلادية بعد صلح وسنفاليا، وبعد أن تبين النقص في عدد السكان من جراء حروب الثلاثين. أصدر مجلس الفرنكيين بنورمبرج قراراً يجيز للرجل أن يجمع بين زوجتين. بل ذهبت بعض الطوائف المسيحية الى ايجاب تعدد الزوجات، ففي سنة 1531 نادى اللامعمدانيون في مونستر صراحة بأن المسيحي – حق المسيحي – ينبغي أن تكون له عدة زوجات، ويعتبر المورمون كما هو معلوم أن تعدد الزوجات نظام الهي مقدس[3].

ويقول الأستاذ العقاد: ومن المعلوم أن اقتناء السراري كان مباحاً – أي في المسيحية – على اطلاقه كتعدد الزوجات، مع اباحة الرق جملة في البلاد الغربية، لا يحده إلا ما كان يحد تعدد الزوجات، من ظروف المعيشة البيتية، ومن سورية جلب الرقيقات المقبولات للتسري من بلاد أجنبية، وربما نصح بعض الأئمة – عند النصارى – بالتسري لاجتناب الطلاق في حالة عقم الزوجة الشرعية. ومن ذلك ما جاء في الفصل الخامس عشر من كتاب الزواج الأمثل للقديس اوغسطين، فانه يفضل التجاء الزوج الى التسري بدلاً من تطليق زوجته العقيم. وتشير موسوعة العقليين الى ذلك. ثم تعود الى الكلام عن تعداد الزوجات فتقول: إن الفقيد الكبير جروتيوس دافع عن الآباء الاقدمين فيما أخذه بعض الناقدين المتأخرين عليهم من التزوج بأكثر من واحدة، لانهم كانوا يتحرون الواجب ولا يطلبون المتعة من الجمع بين الزوجات. وقال جرجي زيدان: "فالنصرانية ليس فيها نص صريح يمنع اتباعها من التزوج بامرأتين فأكثر، ولو شاؤا لكان تعدد الزوجات جائزاً عندهم، ولكن رؤساؤها القدماء وجدوا الاكفتاء بزوجة واحدة أقرب لحفظ نظام العائلة واتحادها – وكان ذلك شائعاً في الدولة الرومانية – فلم يعجزه تأويل آيات الزواج حتى صار التزوج بغير امرأة حراماً كما هو مشهور".

4- ونرى المسيحية المعاصرة تعترف بالتعدد في افريقيا السوداء، فقد وجدت الارسالية التبشيرية نفسها أمام واقع اجتماعي وهو تعدد الزوجات لدى الافريقيين الوثنيين، ورأوا أن الاصرار على منع التعدد يحول بينهم وبين الدخول في النصرانية، فنادوا بوجوب السماح للافريقيين المسيحيين بالتعدد الى غير حد محدود، وقد ذكر السيد نورجيه مؤلف كتاب "الاسلام والنصرانية في أواسط افريقية" (ص 92-98) هذه الحقيقة ثم قال: "فقد كان هؤلاء المرسلون يقولون إنه ليس من السياسة أن نتدخل في شؤون الوثنيين الاجتماعية التي وجدناهم عليها، وليس من الكياسة أن نحرم عليهم التمتع بأزواجهم ماداموا نصارى يدينون بدين المسيح، بل لا ضرر من ذلك ما دامت التوراة وهي الكتاب الذي يجب على المسيحيين أن يجعلوه اساس دينهم تبيح هذا التعدد، فضلاً على أن المسيح قد أقر ذلك في قوله: "لا تظنوا أني جئت لأهدم بل لأتمم" 1. هـ. وأخيراً أعلنت الكنيسة رسمياً السماح للافريقيين النصارى بتعدد الزوجات الى غير حد!...

5- والشعوب الغربية المسيحية وجدت نفسها تجاه زيادة عدد النساء على الرجال عندها – وبخاصة بعد الحربين العالمينين – إزاء مشكلة اجتماعية خطيرة لا تزال تتخبط في ايجاد الحل المناسب لها. وقد كان من بين الحلول التي برزت، اباحة تعدد الزوجات. فقد حدث أن مؤتمراً للشباب العالمي عقد في "مونيخ" بألمانيا عام 1948 واشترك فيه بعض الدارسين المسلمين من البلاد العربية: وكان من لجانه لجنة تبحث مشكلة زيادة عدد النساء في ألمانيا أضعافا مضاعفة عن عدد الرجال بعد الحرب، وقد استعرضت مختلف الحلول لهذه المشكلة وتقدم الأعضاء المسلمون في هذه اللجنة باقتراح اباحة تعدد الزوجات. وقوبل هذا الرأي أولاً بشيء من الدهشة والاشمئزاز، ولكن أعضاء اللجنة اشتركوا جميعاً في مناقشته فتبين بعد البحث الطويل أنه لا حل غيره، وكانت النتيجة أن أقرت اللجنة توصية المؤتمر بالمطالبة باباحة تعدد الزوجات لحل المشكلة. وفي عام 1949 تقدم أهالي "بون" عاصمة ألمانيا الاتحادية بطلب الى السلطات المختصة يطلبون فيه أن ينص في الدستور الألماني على اباحة تعدد الزوجات[4] ونشرت الصحف في العام الماضي أن الحكومة الألمانية أرسلت الى مشيخة الأزهر تطلب منها نظام تعدد الزوجات في الاسلام لأنها تفكر في الاستفادة منه كحل لمشكلة زيادة النساء ثم أتبع ذلك وصول وفد من علماء الألمان اتصلوا بشيخ الأزهر لهذه الغاية، كما التحقت بعض الألمانيات المسلمات بالأزهر لتطلع بنفسها على أحكام الإسلام في موضوع المرأة عامة وتعدد الزوجات خاصة. وقد حدثت محاولة قبل هذه المحاولات في ألمانيا أيام الحكم النازي لتشريع تعدد الزوجات، فقد حدثنا زعيم عربي اسلامي كبير أن هتلر حدثه برغبته في وضع قانون يبيح تعدد الزوجات، وطلب اليه أن يضع له في ذلك نظاماً مستمداً من الاسلام، ولكن قيام الحرب العالمية الثانية حالت بين هتلر وبين تنفيذ هذا الأمر.

وقد سبق أن حاول "أدوارد السابع" مثل هذه المحاولة فأعد مرسوماً يبيح فيه التعدد ولكن مقاومة رجال الدين قضت عليه[5]. ثم إن المفكرين الغربيين الاحرار أثنوا على تعدد الزوجات، وبخاصة عند المسلمين. فقد عرض "جروتيوس Grotius" العالم القانوني المشهور لموضوع تعدد الزوجات فاستصوب شريعة الآباء العبرانيين والانبياء في العهد القديم[6]. وقال الفيلسوف الألماني الشهير "شوبنهور": في رسالته "كلمة عن النساء". "إن قوانين الزواج في أوروبا فاسدة المبنى بمساواتها المرأة بالرجل، فقد جعلتنا نقتصر على زوجة واحدة فأفقدتنا نصف حقوقنا، وضاعفت علينا واجباتنا، على أنها ما دامت أباحت للمرأة حقوقاً مثل الرجل كان من اللازم أن تمنحها أيضاً عقلاً مثل عقله!...". إلى أن يقول... "ولا تعدم امرأة من الأمم التي تجيز تعدد الزوجات زوجاً يتكفل بشؤنها، والمتزوجات عندنا نفر قليل، وغيرهن لا يُحصَين عدداً، تراهن بغير كفيل: بين بكر من الطبقات العليا قد شاخت وهي هائمة متحسرة، ومخلوقات ضعيفة من الطبقات السلفى، يتجشمن الصعاب ويتحملن شاق الأعمال، وربما ابتذلن فيعشن تعيسات متلبسات بالخزي والعار ففي مدينة (لندن) وحدها ثمانون ألف بنت عمومية (هذا على عهد شوبنهور!..) سفك دم شرفهن على مذبحة الزواج ضحية الاقتصار على زوجة واحدة، ونيتجة تعنت السيدة الأوروبية وما تدعيه لنفسها من الأباطيل".

"أما آن لنا أن نعدّ بعد ذلك تعدد الزوجات حقيقة لنوع النساء بأسره"؟ "إذا رجعنا الى أصول الأشياء لا نجد ثمة سبباً يمنع الرجل من التزوج بثانية إذا أصيبت إمرأته بمرض مزمن تألم منه، أو كانت عقيماً، أو على توالي السنين أصبحت عجوزاً، ولم تنجح "المورمون" (فرقة من البروتستانت تبيح تعدد الزوجات وتمارسه فعلاً ولها كنائسها المنتشرة في أوروبا وأمريكا) في مقاصدها إلا بإبطال هذه الطريقة الفظيعة: طريقة الاقتصار على زوجة واحدة[7]". وتحدث "غوستاف لوبون" في "حضارة العرب" عن تعدد الزوجات عند المسلمين وهو الذي عاش بنفسه سنوات طويلة في بلاد الشرق والاسلام فقال "لا نذكر نظاماً اجتماعياً أنحى الأوروبيون عليه باللائمة كمبدأ تعدد الزوجات، كما أننا لا نذكر نظاماً أخطأ الأوروبيون في إدراكه كذلك المبدأ فيرى أكثر مؤرخي أوروبة إتزاناً أن مبدأ تعدد الزوجات حجر الزاوية في الاسلام، وأنه سبب انتشار القرآن، وأنه علة انحطاط الشرقيين ونشأ عن هذه المزاعم الغربية على العموم أصوات سخطٍ رحمة بأولئك البائسات المكدّسات في دوائر الحريم فيراقبهن خصيان غلاظ، ويُقتلن حينما يكرههن سادتهن!... ذلك الوصف مخالف للحق، وأرجو أن يثبت عند القارئ الذي يقرأ هذا الفصل بعد أن يطرح عنه أوهامه الأوروبية جانباً، أن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطاً، ويمنح المرأة احتراماً وسعادة لا تراهما في أوروبة. وأقول قبل إثبات ذلك: إن مبدأ تعدد الزوجات ليس خاصاً بالاسلام، فقد عرفه اليهود والفرس والعرب وغيرهم من أمم الشرق قبل ظهور محمد صلى الله عليه وسلم ولم تر الأمم التي دخلت الاسلام فيه غنما جديداً إذن، ولا نعتقد مع ذلك وجود ديانة قوية تستطيع أن تحول الطبائع فتبتدع أو تمنع مثل ذلك المبدأ الذي هو وليد جو الشرقيين وعروقهم وطرق حياتهم. تأثير الجو والعرق من الوضوح بحيث لا يحتاج الى ايضاح كبير، فبما أن تركيب المرأة الجثماني وأمومتها وأمراضها الخ... مما يكرهها على الابتعاد عن زوجها في الغالب. وبما أن التأيم المؤقت مما يتعذر في جو الشرق، ولا يلائم مزاج الشرقيين، كان مبدأ تعدد الزوجات ضربة لازب. وفي الغرب، حيث الجو والمزاج أقل هيمنة، لم يكن مبدأ الاقتصار على زوجة واحدة في غير القوانين، لا في الطبائع حيث يندُر!. ولا أرى سبباً لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من مبدأ تعدد الزوجات السّري عند الغربيين! مع أنني أبصر بالعكس ما يجعله أسنى منه، وبهذا ندرك مغزى تعجب الشرقيين الذين يزورون مدننا الكبيرة من احتجاجنا عليهم، ونظرهم الى هذا الاحتجاج شزراً. ثم ينقل غوستاف لوبون ملاحظات العالم المتدين "لوبليه" في كتابه "عمال الشرق" عن الضرورة التي تدفع أرباب الأسر الزراعية في الشرق الى زيادة عدد نسائهم، وكون النساء في هذه الأسر هن اللائي يحرضن أزواجهن على البناء بزوجات أُخَر من غير أن يتوجعن. وختم ذلك بقوله: إن رأي الأوروبيين (في تعدد الزوجات) ناشئ عن نظرهم الى الأمر من خلال مشاعرهم، لا من خلال مشاعر الآخرين. وقال: ويكفي إنقضاء بضعة أجيال لإطفاء أوهام أو احداثها [8].

ويقول وستر مارك في تاريخه: إن مسألة تعدد الزوجات لم يفرغ منها بعد تحريمه في القوانين الغربية وقد يتجدد النظر في هذه المسألة كرة بعد أخرى، كلما تحرجت أحوال المجتمع الحديث فيما يتعلق بمشكلات الأسرة. ثم تساءل: هل يكون الاكتفاء بالزوجة الواحدة ختام النظم ونظام المستقبل الوحيد في الأزمنة المقبلة؟. ثم أجاب قائلاً: إنه سؤال أجيب عنه بآراء مختلفة، إذ يرى سبنسر أن نظام الزوجة الواحدة هو ختام الأنظمة الزوجية، وأن كل تغيير في هذه الأنظمة لا بد أن يؤدي الى هذه النهاية. وعلى نقيض ذلك يرى الدكتور ليبون Lepon أن القوانين الأوروبية سوف تجيز التعدد. ويذهب الأستاذ اهرنفيل Ehrenbel إلى حد القول بأن التعدد ضروري للمحافظة على بقاء "السلالة الآرية". ثم يعقب وستر مارك بترجيح الاتجاه الى توحيد الزوجة إذا سارت الأمور على النحو الذي أدى الى تقريره[9].

[1] انظر رسالة بولس الأولى إلي تيموشاوس.

[2] العقاد: حقائق الاسلام: 177.

[3] نقل ذلك الاستاذ العقاد في كتابه "المرأة في القرآن الكريم" ص 132-133.

[4] الدكتور محمد يوسف في أحكام الشخصية 121 طبعة ثانية.

[5] العلاييني: الاسلام روح المدنية: 228 الطبعة الجديدة.

[6] العقد في "حقائق الاسلام وأباطيل خصومه: 177".

[7] الغلايني في "الاسلام روح المدنية" ص 224 (الطبعة الجديدة).

[8] حضارة العرب: 482-486.

[9] العقاد: المرأة في القرآن الكريم ص 134 طبع دار الهلال.

ضرورات التعدد الاجتماعية

وإذا نحن حاكمنا الموضوع محاكمة منطقية بعيدة عن العاطفة وجدنا للتعدد حسناته وسيآته. وحسناته ليست من حيث التعدد ذاته، فما من شك أن وحدة الزوجة أولى وأقرب الى الفطرة، وأحصن للأسرة، وأدعى الى تماسكها، وتحاب أفرادها، ومن أجل ذلك كان هو النظام الطبيعي الذي لا يفكر الانسان المتزوج العاقل في العدول عنه إلا عند الضرورات، وهي التي تسبغ عليه وصف الحسن، وتضفي عليه الحسنات. والضرورات هنا تنقسم الى إجتماعية وشخصية.

ضرورات التعدد الاجتماعية:

أما الضرورات الاجتماعية التي تلجئ إلى التعدد فهي كثيرة نذكر منها حالتين لا ينكر أحد وقوعهما:

1- عند زيادة النساء على الرجال في الأحوال العادية، كما هو الشأن في كثير من البلدان كشمال أوروبا، فإن النساء فيها في غير أوقات الحروب وما بعدها تفوق الرجال بكثير، وقد قال لي طبيب في دار للتوليد في هلسنكي (فنلندا) أنه من بين كل أربعة أطفال أو ثلاثة يولدون يكون واحد منهم ذكراً والباقون إناثاً. ففي هذه الحالة يكون التعدد أمراً واجباً أخلاقياً واجتماعياً، وهو أفضل بكثير من تسكع النساء الزائدات عن الرجال في الطرقات لا عائل لهن ولا بيت يؤويهن، ولا يوجد إنسان يحترم استقرار النظام الاجتماعي يفضل انتشار الدعارة على تعدد الزوجات، إلا أن يكون مغلوباً على هواه، كأن يكون رجلاً أنانياً يريد أن يشبع غريزته الجنسية دون أن يحمل نفسه أي التزامات أدبية أو مادية نحو من يتصل بهن، ومثل هؤلاء خراب على المجتمع، واعداء للمرأة نفسها، وليس مما يشرف قضية الاقتصار على زوجة واحدة أن يكونوا من أنصارها، وحياتهم هذه تسخر منهم ومن دعواهم. ومنذ أوائل هذا القرن تنبه عقلاء الغربيين إلى ما ينشأ من منع تعدد الزوجات من تشرد النساء وانتشار الفاحشة وكثرة الأولاد غير الشرعيين، وأعلنوا أنه لا علاج لذلك إلا السماح بتعدد الزوجات.

فقد نشرت جريدة (لاغوص ويكلي ركورد) في عددها الصادر بتاريخ 20 نيسان 1901 نقلاً عن جريدة (لندن تروث) بقلم إحدى السيدات الإنجليزيات ما يلي: "لقد كثرت الشاردات من بناتنا، وعم البلاء، وقل الباحثون عن أسباب ذلك، وإذ كنت امرأة تراني أنظر الى هاتيك البنات وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزنا، وماذا عسى يفيدهن بثي وحزني وإن شاركني فيه الناس جميعاً!! لا فائدة إلا في العمل بما يمنع هذه الحالة الرجسة، ولله در العالم الفاضل (تومس) فإنه رأى الداء ووصف له الدواء الكامل الشفاء وهو "الاباحة للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة" وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محال وتصبح بناتنا ربات بيوت، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوروبي على الاكتفاء بامرأة واحدة". "إن هذا التحديد بواحدة هو الذي جعل بناتنا شوارد، وقذف بهن الى التماس أعمال الرجال، ولا بد من تفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة". "أي ظن وخرص يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كلاً وعاراً وعالة على المجتمع، فلو كان تعدد الزوجات مباحاً لما حاق بأولئك الأولاد وأمهاتهم ما هم فيه من العذاب الهُون، ولسلم عرضهن وعرض أولادهن.. إن إباحة تعدد الزوجات تجعل كل امرأة ربة بيت وأم أولاد شرعيين[1]". وتدل الاحصائيات التي تنشر في أوروبا وأمريكا عن ازدياد نسبة الأولاد غير الشرعيين زيادة تقلق الباحثين الاجتماعيين، وهؤلاء ليسوا إلا نتيجة عدم اقتصار الرجل على امرأة واحدة، وكثرة النساء اللاتي لا يجدن طريقاً مشروعاً للإتصال الجنسي.

2- عند قلة الرجال عن النساء قلة بالغة نتيجة الحروب الطاحنة، أو الكوارث العامة. وقد دخلت أوروبا حربين عالميتين خلال ربع قرن، ففني فيهما ملايين الشباب، وأصبحت جماهير من النساء ما بين فتيات وما بين متزوجات، قد فقدن عائلهن، وليس أمامهن – ولو وجدن عملاً – إلا أن يتعرفن على المتزوجين الذي بقوا أحياء، فكانت النتيجة أن عملن باغرائهن على خيانة الأزواج لزوجاتهن، أو انتزاعهم من أحضان زوجاتهن ليتزوجن بهم. وقد وجدت النساء المتزوجات في هذه الأحوال من القلق وتجرع الهجر والحرمان ما يفوق مرارة انضمام زوجة أخرى شرعية الى كل واحدة منهن، وقامت في بعض بلاد أوروبا – وبخاصة في ألمانيا – جمعيات نسائية تطالب بالسماح بتعدد الزوجات، أو بتعبير أخف وقعاً في أسماع الغربيين وهو "إلزام الرجل بأن يتكفل امرأة أخرى غير زوجته". وضرورات الحروب ونقصان الرجال فيها لا تدع مجالاً للمكابرة في أن الوسيلة الوحيدة لتلافي الخسارة البالغة بالرجال هو السماح بتعدد الزوجات. وهذا الفيلسوف الانجليزي "سبنسر" برغم مخالفته لفكرة تعدد الزوجات، يراها ضرورة للأمة التي يفنى رجالها في الحروب. يقول "سبنسر" في كتابه "أصول علم الاجتماع":

إذا طرأت على الأمة حال اجتاحت رجالها بالحروب ولم يكن لكل رجل من الباقين إلا زوجة واحدة، وبقيت نساء عديدات بلا أزواج، ينتج عن ذلك نقص في عدد المواليد لا محالة، ولا يكون عددهم مساوياً لعدد الوفيات، فاذا تقاتلت أمتان مع فرض أنها متساويتان في جميع الوسائل المعيشية وكانت إحداهما لا تستفيد من جميع نسائها بالأستيلاد، فإنها لا تستطيع أن تقاوم خصيمتها التي يستولد رجالها جميع نسائها، وتكون النتيجة أن الأمة الموحدة للزوجات تفنى أمام الأمة المعددة للزوجات[2]" هـ. ونحن نقول زيادة على هذا إن الأمم المتحاربة ولو كانت كلها ممن تذهب إلى وحدة الزوجة، إلا أن الأمة المغرقة في الترف هي تتعرض للفناء أمام الأمة التي هي أقل حضارة وأقرب الى الفطرة، لأن نساء الأمة المتحضرة المغرقة في الترف تميل دائماً الى الإقلال من النسل كما هو في فرنسا، بخلاف الأمة الأخرى فإنها تنجب أكثر كما هو في روسيا، فلا بد للأمة الأولى من أن تلجأ إلى تعدد الزوجات لتسدرك نقصان التناسل فيها...

[1] مجلة المنار للسيد رشيد رضا: المجلد الرابع ص 485 – 486.

[2] دائرة معارف فريد وجدي: 4/692 في مادة (زوج).

ضرورات التعدد الشخصية

هناك حالات كثيرة قد تلجئ الانسان الى التعدد، نذكر منها على سبيل المثال:

1- أن تكون زوجته عقيماً، وهو يحب الذرية، ولا حرج عليه في ذلك، فحب الأولاد غريزة في النفس الإنسانية: ومثل هذا ليس أمامه إلا أحد أمرين: إما أن يطلق زوجته العقيم، أو أن يتزوج أخرى عليها، ولا شك في أن الزواج عليها أكرم باخلاق الرجال ومروؤاتهم من تطليقها، وهو في مصلحة الزوجة العاقر نفسها، وقد رأينا بالتجربة أنها – في مثل هذه الحالة – تفضل أن تبقى زوجة ولها شريكة أخرى في حياتها الزوجية، على أن تفقد بيت الزوجية، ثم لا أمل لها بعد ذلك فيمن يرغب في الزواج منها بعد أن يعلم أن طلاقها كان لعقمها، هذا هو الأعم الأغلب، إنها حينئذ مخيرة بين التشرد أو العودة الى بيت الأب، وبين البقاء في بيت زوجها لها كل حقوق الزوجية الشرعية وكرامتها الاجتماعية، ولها مثل ما للزوجة الثانية من حقوق ونفقات. نحن لا نشك في أن المرأة الكريمة العاقلة تفضل التعدد على التشرد، ولهذا رأينا كثيراً من الزوجات العقم يفتشن لأزواجهن عن زوجة أخرى تنجب لهم الأولاد.

2- أن تصاب الزوجة بمرض مزمن أو معد أو منفر بحيث لا يستطيع معه الزوج أن يعاشرها معاشرة الأزواج، فالزوج هنا بين حالتين: إما أن يطلقها وليس في ذلك شيء من الوفاء ولا من المروءة ولا من كرم الأخلاق، وفيه الضياع والمهانة للمرأة المريضة معاً، وإما أن يتزوج عليها أخرى ويبقيها في عصمته، لها حقوقها كزوجة، ولها الانفاق عليها في كل ما تحتاج اليه من دواء وعلاج، ولا يشك أحد في أن هذه الحالة الثانية أكرم وأنبل، وأضمن لسعادة الزوجة المريضة وزوجها على السواء...

3- أن يشتد كره الزوج لها بحيث لم ينفع معه علاج التحكيم والطلاق الأول ولا الثاني، وما بينهما من (هدنة) العدة التي تمتد في كل مرة ثلاثة أشهر تقريباً، وهنا يجد الزوج نفسه أيضاً بين حالتين: إما أن يطلقها ويتزوج غيرها، وإما أ يبقيها عنده لها حقوقها المشروعة كزوجة، ويتزوج عليها أخرى، ولا شك أيضاً في أن الحالة الثانية أكرم للزوجة الأولى، وأكثر غرماً على الزوج، ودليل على وفائه ونبل خلقه، وهو في الوقت نفسه أضمن لمصلحة الزوجة خصوصاً بعد تقدم السن وإنجاب الأولاد.

4- أن يكون الرجل بحكم عمله كثير الأسفار، وتكون إقامته في غير بلدته تستغرق في بعض الأحيان شهوراً، وهو لا يستطيع أن ينقل زوجته وأولاده معه كلما سافر، ولا يستطيع أن يعيش وحيداً في سفره تلك الأيام الطويلة، وهنا يجد نفسه كرجل بين حالتين. إما أن يفتش عن امرأة يأنس بها عن غير طريق مشروع، ولسي لها حق الزوجة، ولا لأولادها – الذين قد يأتون نتيجة اتصال الرجل بها – حقوق الأولاد الشرعيين، وإما أن يتزوج أخرى ويقيم معها إقامة مشروعة في نظر الدين والأخلاق والمجتمع، وأولادها منه أولاد شرعيون يعترف بهم المجتمع، وينشؤون فيه كراماً كبقية المواطنين، واعتقد أن المنطق الهادئ والتفكير المتزن، والحل الواقعي، كل ذلك يفضل التعدد على الحالة الأولى.

5- بقيت حالة أريد أن أكون فيها صريحاً أيضاً، وهي أن يكون عنده من القوة الجنسية، ما لا يكتفي معه بزوجته، إما لشيخوختها، وإما لكثرة الأيام التي لا تصلح فيها للمعاشرة الجنسية – وهي أيام الحيض والحمل والنفاس والمرض وما أشبهها – وفي هذه الحالة نجد الأولى والأحسن أن يصبر على ما هو فيه، ولكن: إذا لم يكن له صبر فماذا يفعل؟ انغمض أعيننا عن الواقع وننكره كما تفعل النعامة أم نحاول علاجه؟ وبماذا نعالجه؟ نبيح له الاتصال الجنسي المحرم؟ وفي ذلك إيذاء للمرأة الثانية التي اتصل بها، وضياع لحقوقها وحقوق أطفالها، عدا ما فيه من منافاة لقواعد الدين والأخلاق؟ أم نبيح له الزواج منها زواجاً شرعياً تصان فيه كرامتها، ويعترف لها بحقوقها، ولأولادهم بنسبهم الشرعي معه؟ هنا تتدخل مبادئ الأخلاق والحقوق فلا تتردد في تفضيل الحالة الثانية على الأولى. ولا بد لي هنا من ذكر حديث جرى بيني وبين أحد الغربيين يلقي ضوءً على هذا الموضوع.

حين سافرت إلى أوروبا في عام 1956 موفداً من جامعة دمشق في رحلة استطلاعية للجامعات والمكتبات العامة، كان ممن اجتمعت بهم في لندن "البروفسور إندرسون" رئيس قسم قوانين الأحوال الشخصية الشرقية في معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن، وجرى بيننا – فيما جرى من الأحاديث – نقاش حول تعدد الزوجات في الإسلام.

سألني أندرسون: ما رأيك في تعدد الزوجات؟

قلت له: نظام صالح يفيد المجتمعات في كثير من الظروف إذا نفذ بشروطه!

قال: أنت إذا على رأي محمد عبده بوجوب تقييده!!

قلت: قريباً من رأيه لا تماماً، فإني أرى أن يقيد بقدرة الزوج على الانفاق على الزوجة الثانية ليمكن تحقيق العدل بين الزوجات كما طلب الإسلام.

قال: وهل مثلك في هذا العصر يدافع عن تعدد الزوجات؟

قلت: إني أسألك فأجبني بصراحة! من كانت عنده زوجة فمرضت مرضاً معدياً أو منفرداً لا أمل بالشفاء منه. وهو في مقتبل العمر والشباب فماذا يفعل؟ هل أمامه إلا ثلاث حالات: أن يطلقها، أو يتزوج عليها، أو أن يخونها ويتصل بغيرها اتصالاً غير مشروع؟

قال: بل هناك رابعة، وهي: أن يصبر ويعف نفسه عن الحرام.

قلت: وهل كل انسان يستطيع أن يفعل ذلك؟

قال: نحن المسيحيين نستطيع أن نفعل ذلك بتأثير الإيمان في نفوسنا.

فتبسمت وقلت: أتقول هذا وأنت غربي؟ أنا أفهم أن يقول هذا القول مسلم أو مسيحي شرقي، فقد يسطيع أن يكف نفسه عن الحرام، لأن محيطه لا يهيء له وسائل الاختلاط بالمرأة في كل ساعة يشاء وأنى يشاء، ولأن تقاليده وأخلاقه لا تزالان تسيطران على تصرفاته، ولأن الدين لا يزال له تأثير في بلاده. أما أنتم الغربيون الذين لم تتركوا وسيلة للاتصال بالمرأة والاختلاط بها والتأثير عليها واغوائها إلا فعلتم، حتى لم تعودوا تستطيعون أن تعيشوا ساعة من نهار أو ليل دون أن تروا المرأة أو تخالطوها منذ تغادرون البيت حتى تعودوا اليه، أنتم الذين يضج مجتمعكم بالأندية والبارات والمراقص، وتغص شوارعكم بالأولاد غير الشرعيين.. تدعون أن دينكم يمنعكم من خيانة الزوجة المريضة؟ وكيف ذلك وخيانات الزوجات الجميلات الصحيحات الشابات تملأ أخبارها اعمدة الصحف والكتب، وتصك الآذان، وتشغل دوائر القضاء؟

قال: إنني أخبرك عن نفسي، فأنا أستطيع أن أضبط نفسي وأصبر.

قلت: حسناً، فكم تبلغ نسبة الذين يضبطون أنفسهم من المسيحيين الغربيين أمثالك بالنسبة إلى الذين لا يصبرون.

قال: لا أنكر أنهم قليلون جداً.

قلت: وهل ترى أن التشريع يوضع للقلة التي يمكن أن تعد بعدد الأصابع، أم للكثرة والجمهرة من الناس؟ وما فائدة التشريع الذي لا يستطيع تطبيقه إلا أفراد محدودون؟

فسكت وانتهت المناقشة فيما بيننا، أقول هذا لأبين أن الذين يزعمون بأن الغريزة الجنسية ليست كل شيء في حياة الانسان، وأن هنالك قيما أثمن وأغلى كالوفاء والصبر يحرص عليها الحر الكريم، وأن تبرير التعدد بالحاجة الجنسية هو هبوط بالانسان الى مستوى الحيوان... هذا الكلام وأمثاله، كلام جميل، وخيال خصب، قيل في ظل غير هذه الحضارة، ومن غير هؤلاء الذين يتكلمون هذا الكلام.. لو قيل من عباد زهّاد تعف ألسنتهم وأقلامهم وأعينهم عما حرم الله من زينة المرأة ومفاتنها: واهواء الحياة وشهواتها! أما من أولئك فلا، وخير لهم أن يحترموا واقع الحياة التي تعيشها الانسانية ويعالجوا مشاكلها بصراحة الحكيم المجرب، لا بمراوغة المجادل المكابر...

سؤال غريب

أما وقد ذكرت المبررات الشخصية والاجتماعية لتشريع تعدد الزوجات، فإني أحب أن أتعرض لسؤال غريب سألتني إياه طالبة في الجامعة حين كنت اتحدث الى طلابي عن موضوع تعدد الزوجات، قالت:

إذا كانت المبررات التي ذكرتموها تبيح تعدد الزوجات، فلماذا لا يباح تعدد الأزواج عند وجود المبررات نفسها بالنسبة الى المرأة؟

وكان جوابي فيه شيء من التلميح فهمته تلك الفتاة وتفهمه امثالها من النساء وهو أن المساواة بين الرجل والمرأة في أمر التعدد مستحيلة طبيعة وخلقه، ذلك لأن المرأة في طبيعتها لا تحمل إلا في وقت واحد، مرة واحدة في السنة كلها، أما الرجل فغير ذلك، فمن الممكن أن يكون له أولاد متعددون من نساء متعددات، ولكن المرأة لا يمكن إلا أن يكون لها مولود واحد من رجل واحد. فتعدد الأزواج بالنسبة الى المرأة يضيع نسبة ولدها الى شخص معين، وليس الأمر كذلك بالنسبة الى الرجل في تعدد زوجاته. وشيء آخر وهو أن للرجل رئاسة الأسرة في جميع شرائع العالم فاذا أبحنا للزوجة تعدد الأزواج فلمن تكون رئاسة الأسرة؟ أتكون بالتناوب؟ أم للأكبر سناً؟ ثم إن الزوجة لمن تخضع؟ أتخضع لهم جميعاً وهذا غير ممكن لتفاوت رغباتهم؟ أم تخص واحداً دون الآخرين، وهذا ما نسخطهم جميعاً إن السؤال فيه من الطرافة أكثر مما فيه من الجدية؟.

مساوئ التعدد

وهنا نجد من الانصاف أن نذكر مساوئ التعدد بعد أن ذكرنا محاسنه.

1- فمن أهم مساوئه ما ينشأ بين الزوجات من عداء وتحاسد وتنافس يؤدي الى تنغيص عش الزوجية، وانشغال بال الزوج بتوافه الخصام بين الزوجات، مما يجعل حياته معهن جحيما لا يكاد يطاق، وحياتهن فيما بينهن نكداً لا يكاد ينتهي. وقد اطلعت أثناء تبييض هذه المحاضرة على أبيات للمرحوم الشيخ عبدالله العلمي الغزي الدمشقي أوردها في تفسيره لسورة يوسف – الذي طبع حديثاً – يصور عذاب المتزوج باثنتين[1]:

تزوجت اثنتين لفرط جهلي

وقد حاز البلى زوجُ إثنتين

فقلت أعيش بينهما خروفاً

أُنَعّم بين أكرم نعجتين

فجاء الأمر عكس الحال دوماً

عذاباً دائماً ببليّتين

رضا هذي يحرك سُخط هذى

فما اخلوا من احدى السخطتين

وكثيراً ما يهيج الشر بينهن أن احداهن تكون أحب الى قلب الزوج من الآخرى أو من أخراهن، فيكون الحسد الذي لا يغثأ حدته الى حكمة الزوج، وهيهات إلا من أوتي أخلاق النبيين وعقل الفلاسفة والحكماء!

2- إن هذا العداء ينتقل غالباً إلى أولاد الزوجات، فينشأ الأخوة وبينهم من العداء والبغضاء ما يؤدي في الكثير الغالب إلى متاعب للأسرة، وللأب خاصة ما يكون له أسوأ الآثار في إستقرار الحياة الزوجية وسعادتها.

3- إن الزوج لا يمكنه العدل بين زوجاته في المحبة – كما أخبر الله تعالى – مهما حرص على العدل في النفقة والمعاملة، وفي ميل الزوج الى زوجته الجديدة إيحاش لقلب زوجته الأولى، وإيلام لها حيث تشعر أن زوجها كان لها خالصاً، فأصبح لها من ينافسها في حبه وعواطفه ومسكنه ومأكله ومشربه، إن الحب لا يقبل مشاركة ولا مزاحمة، فكيف يقر للزوجة الأولى قرار بعد هذا الشريك المزاحم الجديد؟ وأي عذاب هذا الذي تستطيع أن تتحمله ودونه كل عذاب؟

4- وقد قيل في مساوئ التعدد إنه سبب من أسباب تشرد الطفولة في بلادنا، كما قيل مثله عن الطلاق. ولكن التدقيق في دراسة التشرد وأسبابه وأماكنه يرد هذه الدعوى ونذكر من ذلك أمراً بسيطاً، وهو أن التعدد في بلادنا كثيراً ما يقع في الريف، ويقصد منه أن يكون للأب أولاد كثيرون يساعدونه في زراعة الأرض التي يملكها، وهو لا يكون غالباً إلا من الموسرين كما تدل عليه الاحصاءات، ولا وجود للتشرد في الريف، ولا في أولاد الموسرين، وإنما هو موجود في المدن الكبرى وفي أولاد الفقراء، وفي اليتامى وأبناء المجرمين والمشردين، فللتشرد عوامل اجتماعية خاصة ليس تعدد الزوجات ولا الطلاق من أسبابه[2]. إن المساوئ الثلاثة الأولى هي التي تسلّم في مساوئ تعدد الزوجات، ولكن: أي نظام لا مساوئ له؟ ثم أي شيء في الدنيا يجري كما يحب كل إنسان ويهواه؟ على أن التدين الصحيح والتربية الخلقية الكاملة يخففان كثيراً من هذه الأضرار حتى كأنها لا وجود لها. إن نظام التعدد لا ينفذ غالباً إلا عند الضرورات، وللضرورات احكامها، وهو في رأيي كالعملية الحربية: فيها آلام، وفيها ضحايا، ولكن إذا كانت لا بد منها، كانت دفاعاً مشروعاً يتحمل في سبيله كل تضحية وكل ألم، وإذا لم تكن ضرورية كانت عملاً جنونياً لا يقدم عليه عاقل، وهذا هو تماماً موقف كل إنسان وكل مجتمع من قضية التعدد.

ثم إن شعور المرأة بالألم لمزاحمة زوجة أخرى لها، لا يدفعه منع التعدد فما دام الرجل يتطلع الى امرأة أخرى، فبماذا تحول زوجته دون انصراف عواطفه الى تلك المرأة؟ إنه يستطيع أن يخونها، وأن يواصل تلك المرأة سراَ ويعاشرها سراً، وقد تعلم ذلك ولكنها لا تستطيع أن تفعل معه شيئاً، كما هو الواقع في حياة الغربيين، وفي حياة كثير من المنحرفين في بلادنا أليس الأكرم لها ولزوجها وللمرأة الأخرى أن يكون هذا اللقاء بعلمها ورضاها، وأن يكون مشروعاً على سنة الله ورسوله كما يقولون؟ والرجل الذي يقتصر على امرأة واحدة ولا يحب زوجته، ألا يؤلمها ذلك؟ ألا ينغص عيشها؟ ألا يفقدها السعادة والهناء في حياتها الزوجية؟ ولكنها ماذا تستطيع أن تفعل معه؟ أتجبره على حبها؟ هذا مستحيل! أتحبسه في بيتها؟ أتتوسل اليه بالرقى والتعاويذ؟ ان الحب كما لا يقبل المزاحمة لا يقبل الاكراه فاذا ابتليت الزوجة بمن لا يحبها كان ذلك في الكتاب مقدوراً، ولا سبيل الى دفع عذابها النفسي وألمها بسبب ذلك، فاما ان تخسر الزوج كلها بالطلاق، واما أن تخسر نصفه بالتعدد، فأيهما أكثر خسارة لها وأشد إيلاماً؟

[1] الجزء الأول: 285.

[2] انطر في هذا الموضوع البحث القيم الذي كتبه الأستاذ المحقق محمد أبو زهرة في كتابيه: تنظيم الاسلام للمجتمع، وعقد الزواج وآثاره، وانظر الاحصاء الدقيق الذي نشره الدكتور عبد الرحمن الصابوني في كتابه "مدى حرية الزوجين في الطلاق" وهو الذي نال به شهادة الدكتوراه في الحقوق من جامعة الأزهر

تعدّد الزوجات - التعدد نظام أخلاقي

إن نظام التعدد – وبخاصة نظامه في الاسلام – نظام أخلاقي إنساني. اما إنه أخلاقي فلأنه لا يسمح للرجل أن يتصل بأي امرأة شاء، وفي أي وقت شاء. إنه لا يجوز له أن يتصل بأكثر من ثلاث نساء زيادة عن زوجته. ولا يجوز له أن يتصل بواحدة منهن سراً، بل لا بد من إجراء العقد وإعلانه ولو بين نفر محدود، ولا بد من أن يعلم أولياء المرأة بهذا الاتصال المشروع ويوافقوا عليه، أو أن لا يبدوا عليه اعتراضاً، ولا بد من تسجيله – بحسب التنظيم الحديث – في محكمة مخصصة لعقود الزواج، أو يستحب أن يولم الرجل عليه، وأن يدعو لذلك أصدقاءه، وأن يضرب له الدفوف (الموسيقى) مبالغة في الفرح والإكرام.

وأما أنه انساني فلأنه يخفف الرجل به من أعباء المجتمع بإيواء امرأة لا زوج لها ونقلها الى مصاف الزوجات المصونات المحصنات. ولأنه يدفع ثمن اتصاله الجنسي مهراً وأثاثاً ونفقات تعادل فائدته الاجتماعية من بناء خلية اجتماعية تنتج للأمة نسلاً عاملاً. ولأنه لا يخلي بين المرأة التي اتصل بها وبين متاعب الحمل وأعبائه، بل يتحمل قسطاً من ذلك ينفقه عليها أثناء حملها وولادتها. ولأنه يعترف بالأولاد الذين أنجبهم هذا الاتصال الجنسي، ويقدمهم للمجتمع ثمرة من ثمرات الحب الشريف الكريم، يعتز هو بهم، وتعتز أمته في المستقبل بهم. إن نظام التعدد، يحدد الانسان فيه شهوته الى قدر محدود، ولكنه يضاعف أعباءه ومتاعبه ومسؤولياته الى قدر غير محدود. لا جرم ان كان نظاماً أخلاقياً يحفظ الأخلاق، إنسانياً يشرف الانسان.

تعدد الغربيين لا أخلاقي ولا إنساني

وأين هذا من التعدد الواقع في حياة الغربيين حتى تحداهم أحد كتابهم أن يكون أحدهم وهو على فراش الموت يدلي باعترافاته للكاهن، تحداهم أن يكون فيهم واحد لا يعترف للكاهن بأنه اتصل بامرأة غير امرأته ولو مرة واحدة في حياته. إن هذا التعدد عند الغربيين واقع من غير قانون، بل واقع تحت سمع القانون وبصره. إنه لا يقع باسم الزوجات، ولكنه باسم الصديقات والخليلات. إنه ليس مقتصراً على أربعة فحسب، بل هو الى ما نهاية له من العدد. إنه لا يقع علناً تفرح به الأسرة، ولكن سراً لا يعرف به أحد. إنه لا يلزم صاحبه بأية مسؤولية مالية نحو النساء اللاتي يتصل بهن، بل حسبه أن يلوث شرفهن، ثم يتركهن للخزي والعار والفاقة وتحمل آلام الحمل والولادة غير المشروعة. إنه لا يلزم صاحبه بالاعتراف بما نتج عن هذا الاتصال من أولاد، بل يعتبرون غير شرعيين، يحملون على جباههم، خزي السفاح ما عاشوا، لا يملكون أن يرفعوا بذلك رأساً. إنه تعدد قانوني من غير أن يسمى تعدد الزوجات، خال من كل تصرف أخلاقي أو يقظة وجدانية، أو شعور إنساني. إنه تعدد تبعث عليه الشهوة والانانية، ويفر من تحمل كل مسؤولية. فأي النظامين ألصق بالأخلاق، وأكبح للشهوة، وأكرم للمرأة، وأدل على الرقي، وأبر بالانسانية؟

شغب الأوروبيين

بعد هذا يحق لك أن تتعجب من إثارة الغربيين للضجة على الاسلام والمسلمين حول تعدد الزوجات، ونتساءل: ألا يشعرون في قرارة أنفسهم بأنهم ليسوا على حق في إثارة هذه الضجة على الإسلام؟ ألا يشعرون بأنهم حين يضجون من تفكك الأسرة، وتكاثر الأولاد عاماً بعد عام، يعترفون ضمناً بأنهم لا يستطيعون أن يقتصروا على امرأة واحدة؟ ألا يشعرون بأن من يقتصر على أربعة خير ممن يجدد كل ليلة زوجة؟ وأن من يلتزم نحو من يتصل بها بمسؤوليات أدبية ومالية أنبل ممن يتخلى أمامها عن كل مسؤولية. ألا يشعرون أن انجاب نصف مليون ولد بصورة مشروعة أكرم وأحسن للنظام الاجتماعي من انجابهم بصورة غير مشروعة! في اعتقادي أنهم يشعرون بذلك لو تخلو عن غرورهم من جهة وتعصبهم من جهة أخرى. أما الغرور فهو اعتقادهم أن كل ما هم عليه حسن وجميل، وأن ما عليه غيرهم من الأمم والشعوب – وبخاصة المستضعفة منها – سيء وقبيح. وأما التعصب فهو هذا الذي ما يزالوا يتوارثونه جيلاً بعد جيل ضد الاسلام ونبيه وقرآنه. حين كنت في دبلن (ارلندا) عام 1956 زرت مؤسسة الآباء اليسوعيين فيها، وجرى حديث طويل بيني وبين الأب المدير لها، وكان مما قلته له: لماذا تحملون على الاسلام ونبيه وبخاصة في كتبكم المدرسية بما لا يصح أن يقال في مثل هذا العصر الذي تعارفت فيه الشعوب والتقت الثقافات؟

فأجابني: نحن الغربيين لا نستطيع أن نحترم رجلاً تزوج تسع نساء!...

قلت له: هل تحترمون نبي الله داود، ونبيه سليمان؟

قال: بلى! وهما عندنا من أنبياء التوراة!

قلت: إن نبي الله داود كان له تسع وتسعون زوجة! كملهن بمائة بالزواج من زوجة قائدة أوريا كما هو معلوم "ونبي الله سليمان كانت له – كما جاء في التوراة – سبعمائة زوجة من الحرائر، وثلاثمائة من الجواري وكن أجمل أهل زمانهن، فلم يستحق احترامكم من يتزوج ألف امرأة، ولا يستحق من يتزوج تسعاً؟ لماذا لا يستحق احترامكم من تزوج تسعاً، ثمانية منهن ثيبات، وأمهات، وبعضهن عجائز، والتاسعة هي الفتاة البكر الوحيدة التي تزوجها طيلة عمره؟

فسكت قليلاً وقال: لقد أخطأت التعبير أنا أقصد أننا نحن الغربيين لا نستسيغ الزواج بأكثر من امرأة، ويبدوا لنا أن من يعدد الزوجات غريب الأطوار، أو عارم الشهوة!

قلت: فما تقولون في داود وسليمان وبقية أنبياء بني اسرائيل الذين كانوا جميعاً معددين للزوجات بدءً من ابراهيم عليه السلام؟

فسكت ولم يحر جواباً...

تشريع التعدد في القرآن

جاء في القرآن الكريم في أول سورة النساء {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} [النساء: 03]. وجاء في السورة نفسها: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً} [النساء: 129].

تفيد هاتان الآياتان بمجموعهما كما فهمها جمهور المسلمين من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين وعصور الاجتهاد فما بعدها: الاحكام التالية:

1- اباحة تعدد الزوجات حتى الأربع، فلفظ "انكحوا" وإن كان لفظ أمر إلا أنه هنا للاباحة لا للايجاب، وعلى ذلك جمهور المجتهدين في مختلف العصور لا نعلم في ذلك خلافاً. ولا عبرة بمن خالف ذلك من أهل الأهواء والبدع فذهبوا الى أن الآية تفيد إباحة التعدد بأكثر من أربعةن وهذا ناشئ من جهلهم ببلاغة القرآن وأساليب البيان العربي، ومن جهلهم بالسنة كما قال القرطبي رحمه الله.

2- أن التعدد مشروط بالعدل بين الزوجات، فمن لم يتأكد من قدرته على العدل "لم يجز" له أن يتزوج بأكثر من واحدة، ولو تزوج كان العقد صحيحا بالاجماع ولكنه يكون آثما. وقد أجمع العلماء – وأيده تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله – أن المراد بالعدل المشروط هو العدل المادي في المسكن واللباس والطعام والشراب والمبيت وكل ما يتعلق بمعاملة الزوجات مما يمكن فيه العدل.

3- أفادت الآية الأولى اشتراط القدرة على الانفاق على الزوجة الثانية وأولادها، بناء على تفسير قوله تعالى {أن لا تعولوا} أن لا تكثر عيالكم، وهذا هو التفسير المأثور عن الشافعي رحمه الله. قال البيهقي في "أحكام القرآن" الذي جمعه من كلام الشافعي رحمه الله في مصنفاته: وقوله: "ألا تعولوا" أي لا يكثر من تعولون اذا اقتصر المرأة على واحدة، وإن أباح له أكثر منها" (ص 260). وهذا يفيد ضمناً اشتراط القدرة على الانفاق لمن أراد التعدد، إلا أنه شرط ديانة لا قضاء.

4- وأفادت الآية الثانية أن العدل في الحب بين النساء غير مستطاع وأن على الزوج أن لا يميل عن الأولى كل الميل فيذرها كالمعلقة، لا هي مطلقة، بل عليه أن يعاملها باللطف والحسنى بما استطاع، عسى أن يصلح قلبها ويكسب مودتها. وقد فهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية كما ذكرناه، فكان حين يعدل بين زوجاته يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك" يعني بذلك حبه لعائشة رضي الله عنها أكثر من غيرها من زوجاته.

فهم خاطئ متهور

وقد حاول بعض الناس ممن لا علم لهم بالشرع، ولا بالكتاب والسنة أن يزعموا أن القرآن يمنع التعدد في آيتيه السابقتين، لأن الآية الأولى تشترط إباحة التعدد بالعدل بين الزوجات، والآية الثانية تقطع باستحالة العدل بينهن، فكأن التعدد مشروط بما يستحيل امكانه، فهو ممنوع. ولا ريب في أن قليلاً من النظر يرد هذه الدعوى لأمور كثيرة منها:

أولاً- إن العدل المشروط في الآية الأولى وهو غير العدل المقطوع باستحالته في الآية الثانية. فالعدل المشروط في الأولى هو العدل الذي يمكن للزوج أن يفعله وهو العدل المادي في مثل المسكن والمبيت واللباس والطعام وغير ذلك. والعدل المقطوع بعدم استطاعته هو العدل الذي لا يمكن في الواقع للزوج أن يفعله، وهو العدل المعنوي في الحب والمكانة القلبية، فما تزوج الثانية إلا وهو معرض عن الأولى بسبب من الأسباب، فكيف يعدلها بها ويساويها معها في حبه وعواطفه!

وعلى هذا فلا تعلق بين العدلين في الآيتين، الا من حيث أنه عدل بين الزوجات! ويكون تعليق التعدد بالعدل المادي بين الزوجات لا يزال مشروطاً وقائماً، فمن علم أنه لا يعدل بينهن كان آثماً في التعدد، وإذا تزوج فلم يعدل كان آثماً. وأما عدم عدله في حبه بينهن فلا يؤاخذه الله عليه إلا إذا أفرط في الجفاء، وبالغ في الانصراف.

ثانياً- إن نص الآية الثانية قاطع بالمراد من العدل الذي لا يستطيعه الانسان، وهو الحب، وذلك أن الله تبارك وتعالى بعد أن علم طبيعة النفس الانسانية وأنها لا تستطيع العدل بين الأولى والثانية، خاطبه بما يستطيع، فنهاه عن أن يميل عن الأولى "كل" الميل، فيذرها كالمعلقة ومعنى ذلك أن الميل "بعض" الميل جائز، بل هو الذي لا بد أن يقع وهو مما لا يحاسب الله عليه الزوج. ولذلك ختم الآية الكريمة بقوله: {وأن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً} وهذا حث آخر للزوج أن يصلح الوضع فيما بينه وبين زوجته الأولى، ويتقي الله في أمرها فلا يهجرها ويسيء عشرتها، وأنه إن فعل ذلك فإن الله يغفر له ما يكون منه من ميل الى زوجته الثانية أكثر من الأولى، وأن الله رحيم بتلك الزوجة، بما سيلقي في قلب زوجها من وجوب العدل معها وحسن معاملته لها.

ثالثاً- لو كان الأمر كما زعمه هؤلاء لما كان لقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} معنى، ولا أدى الى غرض ولكان الأولى أن يمنع التعدد رأساً بلفظ واحد، لا أن يبيح التعدد ويعلقه بشرط مستحيل، فهذا عبث من الكلام يصان عنه أي واحد من العقلاء فكيف بكلام رب العالمين، الذي هو الذروة العليا من الفصاحة والبلاغة والبيان العربي المبين؟... أليس مثل ذلك – في دعواهم – كمثل من قال: أبحت لك أن تسلك هذه الطريق أوهذه الطريق، أو هذه الطريق، ولكن من المستحيل عليك أن تسلك إلا طريقاً واحداً لكذا وكذا؟ ما معنى مثل هذا الكلام؟ وما فائدته؟ وهل يقع في مثل هذا في قانون؟ أو دستور أو كتاب علمي؟ فضلاً عن كتاب رب العالمين.

رابعاً- من المعلوم في الدين بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم مفسر لكتاب الله، وأنه لا يفعل حراماً، ولا يسمح بحرام ولا يقر عليه، وقد ثبت أن العرب الذين دخلوا في الاسلام كان منهم كثيرون تحتهم أكثر من أربع زوجات، منهم من كان عنده ست، ومنهم من كان عنده ثمان، ومنهم من كان عنده عشر، ومنهم من كان عنده ثماني عشرة... وهكذا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار كل واحد أربعاً من زوجاته ويفارق سائرهن، ولو كان التعدد حراما بنص هاتين الآيتين لأمرهم أن يختاروا واحدة منهن ويفارقوا سائرهن. ومن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عدد زوجاته، وأن أصحابه قد عددوا الزوجات في حياته وعلى مسمع منه وعلم، ولم ينكر عليهم، فاذا قيل إن تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم خاص به – مع أن خصوصيته في الزيادة على الأربع لا في الزيادة على واحدة باجماع المسلمين – فكيف أقر النبي تعدد زوجات أصحابه، وكيف رضي بذلك وسكت عنه؟ ولا أعتقد عاقلاً يزعم أن الصحابة والتابعين وجماهير المسلمين خلال أربعة عشر قرنا لم يفهموا هاتين الآيتين حق الفهم، وأن الله أدخر هذه الفضيلة لأصحاب هذا الفهم، إن قال أحد مثل هذا فقد حكم بنفسه على عقله!... في اعتقادي أن الذين قالوا مثل هذا ليسوا من الجهل والغباوة الى هذا الحد، ولكنهم بين فريقين: بين مخلص حسن النية رأى شدة هجوم الغربيين على نظام التعدد في الاسلام، فظن أنه بمثل هذا القول يخلص الاسلام مما يتهمونه به، ومثل هذا ضعيف الايمان، ضعيف الشخصية، لا يثق بما عنده، ويخشى ما عند أعدائه، فينهزم أمامهم لأول حملة مصطنعة، وأرى أن عصر هؤلاء قد ولى، وأن الغربيين قد أصبحوا بحاجة الى ترميم بنيانهم المتداعي، فلم يعودوا يصلحون للهجوم على الناس.. ولم يعودوا يخيفون من يهاجموه.... وبين آخر سيء النية يريد أن يخدع المسلمون عن دينهم، فيزين لهم التبرئ مما فعله رسولهم وصحابته وجماهير الملايين المسلمين أربعة عشر قرناً، بحجة أنهم لم يفهموا القرآن كما ينبغي، ومثل هذا مهتوك الستر لا يمكن أن يخدع أحداً، وقد أصبح المسلمون من الثقة بدينهم، والوعي لدسائس خصومهم بما لا تنطلي عليهم مثل هذه الدسائس، ولا هاتيك التحريفات!

أثر الاصلاح الاسلامي في التعدد

جاء الاسلام ونظام التعدد شائع في كل شرائع العالم وشعوبه تقريباً ولكنه لم يكن له حد ولا نظام. فكان أول إصلاح في هذا النظام أن قصره على أربع زوجات، وهو اصلاح عظيم الشأن إذا علمنا أن بعض الناس، بل بعض الأنبياء السابقين كانت لهم مئات الزوجات. وكان مما عمله أن شدد فيه على العدل بين الزوجات، عدلاً مادياً إلى أقصى حدود المستطاع، وقد بنى الفقهاء المسلمون على هذا المبدأ إحكام أحكام في نهاية السمو الأخلاقي الذي لا مثيل له حتى في أخيلة الفلاسفة والحكماء. وإن تعجب فمن صنيع النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه: كان يرحص على أن يبيت عند كل زوجة ليلة كما يبيت عند الآخرى، وكان من شدة مرضه لا يستطيع المشي، فكان يحمل من بين زوجة الى بيت زوجة أخرى حتى إذا ثقل عليه المرض، استأذن زوجاته في أن يظل عند عائشة تمرِّضه، فلما أذنّ له وعلم رضاهن بذلك انتقل الى بيت عائشة وظل عندها حتى توفي بعد ليالٍ صلوات الله وسلامه عليه! أنا لا أرى تعبيراً عن انسانية الاسلام وأخلاقيته ومثاليته في تعدد الزوجات أبلغ من هذا المثال... وكان من إصلاح الاسلام في هذا الأمر أن ربى ضمير الزوج المسلم على خوف الله ومراقبته، ورغبته في ثوابه إن نفذ أوامره، وخشيته من عذابه إن خالفها، وبذلك كان مع زوجاته لا رجلاً مستعلياً مستبداً يتحكم بهن كما يشاء، بل مؤمنا حاكما على ضميره، مراقباً بنفسه لنفسه فيما يكون قد قصر من حق نحو إحدى زوجاته أو أساء من معاملة. ومثل هذه التربية تجعل التعدد – حين تقتضيه ظروف الانسان الشخصية أو ظروف المجتمع العامة – قليل المساوئ، قليل الاضرار، فلا بيت تنهكه العداوات، ولا أولاد تفرق بينهم الخصومات، وكل ما في الأمر غيرة لا بد منها تكبح الزوجة المسلمة جماحها بأدب الإسلام، وتعفى آثارها بحسن طاعتها لزوجها وقيامها بحقه... ونشأ البيت الاسلامي في العصور الأولى، تعمره الفضيلة، ويملؤه الحب، ويشيع في جنباته الوفاء والاخلاص، لا فرق في ذلك بين البيت ذي الزوجة الواحدة، وهو الأكثر، وبين البيت ذي الزوجتين، وهو الغالب في التعدد، وبين البيت ذي الزوجات الثلاث أو الأربع، وهو القليل في حالات التعدد... وكان للتعدد أثره في حروب الفتح، فمن المعلوم أن المعارك الإسلامية مع

أعداء الإسلام استمرت منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فدولة الخلفاء الراشدين فالأمويين، فعهد غير قصير من أيام العباسيين. مرحلة امتدت أكثر من مائتي سنة، تتلاحق فيها المعارك في الشرق والغرب والشمال والجنوب، وفي المعارك ضحايا من شهداء ومشوهين وأسرى ومفقودين، ومع ذلك فلم يشك الجيش الاسلامي يوماً من تناقص المحاربين! ولقد خاضت أوروبا معركتين خلال ربع قرن، ففني من رجالها عشرات الملايين، وأصبحت لها مشكلتها الاجتماعية الكبرى: نقصان الرجال وكثرة النساء، فكيف استطاع المسلمون أن يواصلوا الحروب أكثر من مائتي سنة، ثم واصلوا الحروب بعد ذلك في غزوات التتار، وفي غزوات الصليبيين، وفيما بعد ذلك دون أن يشكو نقصاً في الرجال، وكثرة في النساء؟ في اعتقادي أن لنظام تعدد الزوجات والتسري أثراً كبيراً في هذه النتيجة، ولمن شاء من الباحثين أن يدلنا عن سبب غير هذين..

المسلمون اليوم والتعدد

منذ أفاق المسلمون على ضجيج الحضارة الغربية تصك آذانهم، على جيوشها وحكوماتها تسيطر على شؤونهم ومقدراتهم، وعلى كتبها وعلومها تغزو عقولهم وأفكارهم، وعلى مستشرقيها ومبشريها يحاولون النيل من دينهم وتراثهم، تنبه المفكرون فيهم الى وجوب اصلاح المجتمع الاسلامي وتنقيته من الشوائب، وإنهاضه من كبوته، وبعثه من رقاده. ومما كثر جدلهم في تعدد الزوجات، وهو أمر كان فاشياً شيئاً ما في ذلك الحين، ثم أخذ يتقلص شيئاً فشيئاً لعوامل كثيرة، وهو منتشر في بعض الأقطار الإسلامية أكثر منه في أقطار أخرى، فهو في مصر مثلا أكثر منه في بلاد الشام.. وقد يكون في تركيا أقل منه في الشام وهكذا. ولقد كان التعدد يومئذ نتيجة جهل المسلمين، وبُعدهم عن أحكام الاسلام يؤدي الى أضرار كثيرة في الأسرة والمجتمع، مما لا علاقة له بنظام التعدد في الاسلام، بل بأخلاق المسلمين أنفسهم. إزاء هذا وإزاء حملات الغربيين السديدة على نظام التعدد في الاسلام فكر عدد من المصلحين الاسلاميين في معالجة أضرار التعدد بأساليب شتى. وكان أقوى من تكلم في ذلك، وأبعدهم أثراً، هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله. فقد كتب كثيراً في أضرار التعدد كما كان عليه في أيامه، وكما شاهد مساوئه بنفسه، وقد تعرض له في دروسه في التفسير التي كان يلقيها في الجامع الأزهر ويدونها حينئذ تلميذه وحامل علمه السيد رشيد رضا رحمه الله، فكان ينشرها في مجلته "المنار" ثم نقل شيئاً منها في تفسيره (ج 4 ص 349). قال الاستاذ الامام في تفسيره:

"فمن تأمل الآيتين (اللتين ذكرناهما من سورة النساء) علم أن اباحة تعدد الزوجات في الاسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق، كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة باقامة العدل، والأمن من الجور، وإذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد، جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يربي أمة فشا فيها تعدد الزوجات، فإن البيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لا تستقيم له حال، ولا يقوم فيه نظام، بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت، كأن كل واحد منهم عدو للآخر، ثم يجيء الأولاد بعضهم لبعض عدو، فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد الى البيوت، ومن البيوت الى الأمة. ثم قال: كان للتعدد في صدر الإسلام فوائد أهمها صلة النسب والصهر الذي تقوى بالعصبية، ولم يكن من الضرر مثل ما له الآن... لأن الدين كان متمكنا من نفوس النساء والرجال، وكان أذى الضرة لا يتجاوز ضرتها، أما اليوم فإن الضرر ينتقل من لك ضرة الى ولدها، الى والده، الى سائر أقربائه، فهي تغري بينهم العداوة والبغضاء، تغري ولدها بعداوة اخوته، وتغري زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها، وهو بحماقته يطيع أحب نسائه اليه، فيدب الفساد في العائلة كلها". الى أن يقول: "وناهيك بتربية المرأة التي لا تعرف قيمة الزوج ولا قيمة الولد، وهي جاهلة بنفسها، وجاهلة بدينها لا تعرف منه إلا خرافات وضلالات تلقفتها من أمثالها، يتبرأ منها كل كتاب منزل، وكل نبي مرسل، فلو تربى النساء تربية دينية صحيحة يكون بها الدين هو صاحب السلطان الأعلى على قلوبهن، بحيث يكون هو الحاكم على الغيرة، لما كان هناك ضرر على الأمة من تعدد الزوجات، وإنما يكون ضرره قاصرا عليهن في الغالب، أما والأمر على ما نرى ونسمع، فلا سبيل الى تربية الأمة مع فشو تعدد الزوجات فيها، فيجب على العلماء النظر في هذه المسألة – خصوصاً الحنفية منهم – الذين بيدهم الأمر، وعلى مذهبهم الحكم فهم لا ينكرون أن الدين أنزل لمصلحة الناس وخيرهم، وإن من أصوله منع الضرر والضرار، فاذا ترتب على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله، فلا شك وجوب تغير الحكم وتطبيقه على الحال الحاضرة، يعني على قاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. قال: وبهذا يعلم أن تعدد الزوجات محرم قطعاً عند الخوف من عدم العدل". ثم قال السيد رشيد رضا بعد ذلك: هذا ما قاله الأستاذ الامام في الدرس الأول الذي فسر فيه الآية، ثم قال في الدرس الثاني: "تقدم أن اباحة تعدد الزوجات مضيقة قد اشترط فيها ما يصعب تحققه فكأنه نهى من كثرة الأزواج، وتقدم أنه يحرم على من خاف عدم العدل أن يتزوج أكثر من واحدة، ولا يفهم منه كما فهم بعض المجاورين (طلاب بالأزهر) أنه لو عقد في هذه الحالة يكون العقد باطلاً أو فاسداً فإن الحرمة عارضة لا تقتضي بطلان العقد، فقد يخاف الظلم، وقد يظلم ثم يتوب فيعدل، فيعيش عيشاً حلالاً". 1. هـ.

من هذا يتبين لك:

أولاً- ان الاستاذ الإمام لا يرى في نظام تعدد الزوجات كما جاء في الإسلام، وكما طبقه المسلمون الأولون أي ضرر بالمجتمع.

ثانياً- أنه يرى في التعدد الذي شاهد آثاره بنفسه مضار تتعدى الأسرة الى المجتمع.

ثالثاً- أنه يرى وجوب تشريع يحول دون الاضرار التي يلحقها تعدد الزوجات بالمجتمع.

ولم يفصح رحمه الله عما يراه بخصوص هذا التشريع، هل هو منع التعدد؟ أم تقيده بقيود تقلل من وقوعه ومن أضراره؟. ونحن لا نظن مطلقاً أنه كان يرى منع التعدد – ولو أن في كلامه ما يمكن أن يفهم منه ذلك لمن أراد أن يفهم – فمنع التعدد تغيير لأحكام الله، وحيلولة بين الأمة وبعض الأفراد وبين الاستفادة من هذا التشريع حين تقتضي الضرورات ذلك. ولا نعتقد أن الأستاذ الإمام رحمه الله يرى هذا، ولو أنه رأى هذا لكان رأيه مردوداً عليه، فشرع الله أحق أن يتبع، والله أعلم بالحكمة في تشريعه، واساءة استعمال أي تشريع لا تقتضي إلغاءه، بل تقتضي منع تلك الاساءة...

محاولات لمنع التعدد أو تقييده

المهم أن هذه الصرخات كان لها صداها فيما بعد في نفوس المخلصين من رجال التشريع، واستغلها بعد ذلك المبشرون والمستعمرون والمتزلفون اليهم، فقاموا بحملات مركزة بغية حمل الحكومات الاسلامية على اصدار تشريع يمنع تعدد الزوجات أو يقيده تقييدا يشبه إلغاءه.

في مصر:

يحكي لنا العلامة الجليل الأستاذ محمد أبو زهرة في كتابه "محاضرات في عقد الزواج وآثاره" (ص 127) أنه بعد نحو من عشرين سنة من وفاة الاستاذ الإمام وجدت مقترحات تتضمن تقييد تعدد الزواج قضائياً بقيدين وهما: العدالة بين الزوجات، والقدرة على الانفاق، وكان ذلك في اللجنة التي ألفت في أكتوبر 1926 إذ قدمت مشروعاً مشتملاً على ذلك، ولكن بعد الفحص والتمحيص والمجاوبات المختلفة بين رجال الفقه ورجال الشورى، رأى أولياء الأمر العدول عن ذلك، وجاء المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 خالياً منه. وفي سنة 1943 همت وزارة الشؤون الاجتماعية المصرية أن تنشر المقبور، لأن وزيرها إذ ذاك ظن أنه يصلح للحياة، ولكنه عدل وشيكا عما هم به فكان له بذلك فضل. ثم جاء من بعد ذلك وزير آخر، وجعل من أعظم ما يعنى به هذه المسألة، فأعاد نشر ذلك الدفين، وهمّ بأن يقدمه لدار النيابة ليأخذ سيره ولكنه بعد أن خطا بعذ الخطوات، ونبه الى ما فيه من خطر اجتماعي – وممن كتب في ذلك الأستاذ أبو زهرة نفسه في مجلة القانون والإقتصاد في العددين الأول والثاني للسنة الخامسة عشرة – أعاده الى حيث كان. وبعد أن طبع الأستاذ أبو زهرة كتابه هذا، أعيد الجدل مرة أخرى في العام الماضي – 1961 – على صفحات الصحف، وقد أيدت عناصر مختلفة منع التعدد أو وضع قيود له، وعارضه علماء الاسلام وعلى رأسهم العلامة الشيخ أبو زهرة معارضة قوية. ومن الطريف أن رئيس تحرير مجلة كبرى في القاهرة – آخر ساعة – وهو الأستاذ محمد التابعي كتب مقالاً مدعماً بالاحصاءات الرسمية عن تركيا وكيف أن منع التعدد قانوناً لم يمنع الشعب التركي من التعدد فعلا، وقد انتهى فيه الى أن أي تشريع يمنع التعدد سيلقى الفشل الذي لقيه قانون منع التعدد في تركيا، وقد نقلت احدى الصحف اليومية الكبرى – الاخبار – هذا المقال برمته في شهر أيلول (سبتمبر) من العام الماضي على ما أذكر.

في تونس

أما في تونس فقد صدر قانون يمنع التعدد تماماً وفرض عقوبة على من يتزوج أكثر من واحدة. ومن المعروف عن الحاكم هناك أنه غربي النزعة والثقافة والاتجاه. وقد كان لقرار منع التعدد صدى مختلف الأثر، ففي الأوساط الاسلامية والعلمية كان له صدى مؤسف بالغ الدلالة على الاتجاه الفكري الذي تساق اليه تونس في عهدها الاستقلالي، وفي الأوساط الاستعمارية والنسائية كان له صدى مستحب حيث نعت هذا الاجراء بأنه خطوة تقدمية في سبيل تحرير المرأة التونسية!

في الباكستان

وقد جاءت أنباء الباكستان أخيرا تفيد بأن رئيس جمهوريتها السيد أيوب خان أصدر قانونا – بصفته الحاكم العسكري – يضع قيودا شديدة جدا للزواج بأكثر من واحدة، منها أن يعرض ذلك على مجلس عائلي، وأن يدفع مبلغاً ضخماً من المال، الى غير ذلك مما لا نستطيع الافاضة فيه لأننا لم نطلع على نص القانون كما هو، وإنما وافتنا أنباء الصحف بمعلومات مقتضبة موجزة جداً عنه. وقد قوبل هذا القانون في الباكستان في الأوساط العالمية الاسلامية وفي الأوساط الشعبية بالسخط والاستنكار، كما قوبل من السيدات المثقفات ثقافة اجنبية وأمثالهن من المثقفين كذلك باستحسان وسرور، وقد أيدته الصحف الاستعمارية والأوساط التبشيرية وأثنت عليه كثيراً. أما في سورية فقد جاء في قانون الأحوال الشخصية الذي صدر بتاريخ 17/09/1953 ما يلي في باب الأهلية: وهذا كما نرى تقييد للتعدد بقيد واحد، وهو قدرة المتزوج بواحدة على الانفاق على الزوجة الأخرى، وان للقاضي أن "لا يأذن" بهذا العقد إذا تحقق عدم القدرة المالية. وهذا النص صريح في أنه عند عدم القدرة تكون سلطة القاضي في عدم الاذن فقط، ولم يتعرض القانون لعدم صحة العقد، وذلك يدل على أن العقد صحيح تترتب عليه آثاره الشرعية وهذا يتفق مع الأحكام الفقهية المجمع عليها، ولكن صاحب العقد يتعرض للعقوبات المالية كأي عقد من عقود الزواج لا يسجل في المحكمة الشرعية.

مناقشة للمنع

نريد أن نذكر أمراً واحداً قبل الدخول في مناقشة هذه المحاولات وهي أنه لا توجد في العالم الاسلامي الآن مشكلة تعرف بمشكلة تعدد الزوجات، فالاحصاءات التي تنشر عن الزواج والطلاق في البلاد العربية الاسلامية تدل على أن نسبة المتزوجين بأكثر من واحدة نسبة ضئيلة جدا لا تكاد تبلغ الواحد بالألف. والسبب في ذلك واضح، وهو تطور الحياة الاجتماعية، وارتفاع مستوى المعيشة. وازدياد نفقات الأولاد في معيشتم وتعليمهم والعناية بصحتهم. يضاف الى ذلك أن الزوج لم يعد متفرغاً – كما كان من قبل – لشؤون الأسرة ومشكلاتها، فهو مع زوجة واحدة وأولاده منها لا يكاد يتفرغ تفرغاً كافياً للاشراف على شؤونهم والقيام بواجباتهم، فكيف يضيف الى هذا أعباء جديدة ومشاكل جديدة؟ ثم إن التعدد كان يقع غالباً في الريف، في الأسر الغنية رجاء أن يكون لرب الأسرة أولاد يكفون لزراعة أراضيه والقيام على شؤونها، وقد كان الأولاد يرضون أن يقيموا في الريف مع أبيهم على جهلهم أو على شيء قليل من العلم. أما الآن فقد انتشر التعليم ولم يعد ابن القرية الذكي الطموح ليرضى أن يظل مزارعاً طيلة حياته مهما غلّت له ارضه عن غلات، بل يريد أن يتعلم ويدخل الجامعة ويتوظف ويقيم في المدينة، ولهذا كثرت هجرة أبناء القرى الى المدن هجرة تقلق بال الباحثين الاجتماعيين. ويضاف الى هذا قوانين الاصلاح الزراعي التي أخذت تحدد الملكية الزراعية بما لا يترك في أيدي المالكين أراضي شاسعة كما كان الأمر من قبل. كل هذه العوامل وغيرها من انتشار الوعي الاجتماعي والصحي والحضاري أدى الى انخفاض نسبة تعدد الزوجات، وسينخفض كلما ازدادت هذه العوامل رسوخاً في مجتمعنا، فليس التعدد عندنا الآن من الأهمية بالمكان الذي تثار من أجله كل هذه الضجة، اللهم الا من راغبين في الشهرة بأنهم تقدميون.. وانهم متحررون. وهي لا تكلفهم الا بضع كلمات في مقالة، أو سطرا واحدا في قانون يصدرونه حين يكونون في الحكم. ومن أجل هذا لا نرى فيما فعلته تونس والباكستان وتحاول أن تفعله بضع البلدان الأخرى إلا مجرد استرضاء للغربيين اثباتاً لتحرر هؤلاء المسؤولين من سيطرة عقائدهم وتراثهم عليهم، وهو في الوقت ذاته دليل تهافت الشخصية، واحتقار الذات، وترام على اقدام المتعصبين الغربيين لاستجلاب عطفهم وثنائهم وثناء صحفهم ومبشريهم ومستشرقيهم على حساب امتنا وكرامتنا وديننا. إنني لست أخشى من انتشار تعدد الزوجات أو بقاء نسبته كما هي، بقدر ما أخشى انعدامه في مجتمعنا الاسلامي. ذلك أن من الملاحظ اعراض الشباب عن الزواج، ورغبة المتزوجين في عدم الاكثار من النسل، وهذا يؤدي في المستقبل الى عدم تكاثرنا بالنسبة للأمم الأخرى، وبخاصة للأمم المجاورة لنا، وفيها أمم تناصينا العداء، وتزيدنا اضعافا مضاعفة في السكان أو دولة – كاسرائيل – تحاول بكل جهدها أن تزيد من عدد سكانها بإغراء اليهود على الهجرة اليها وتخشى كل الخشية من زيادة سكان البلاد العربية لها وبخاصة مصر التي يقدر أنها في نصف قرن سيبلغ تعداد سكانها خمسين مليونا. وهذا ما يرعب اسرائيل والاستعمار. فعوضاً عن التفكير في تشجيع الزواج وتكثير النسل بأية طريقة مشروعة، نحاول أن نعمل بأيدينا على انقاص عددنا مأخوذين بأكثر النظريات الخاطئة التي يشيعها الغربيون – عن سوء نية أو حسن نية – هي من فوائد تحديد النسل، ومضار التعدد، والخطر الذي سيدهم العالم يوما ما نتيجة تكاثر السكان، وهو خطر المجاعة...

ان الغربيين قد يقولون هذا صادقين بالنسبة الى رقعة ارضهم وعدد سكانها، ولكننا نحن العرب، نحن المسلمين، نسكن مساحات شاسعة من الأرض، لم نستثمر من خيراتها حتى الآن إلا الأقل الأقل مما تحتويه. فلو استثمر استثماراً علمياً فنياً لاتسعت لأضعاف عدد سكانها الآن.. فالتهديد بخطر المجاعة من تكاثر السكان.. لست أدري بماذا أصفه – على قلة خبرتي في هذا الموضوع – ولكني أحس احساساً عميقاً بأن مثل هذا الكلام لا ينبغي أن يقال لنا، وان جهات استعمارية أو صهيونية تروجه، ولا ينبغي لنا أن نصغي اليه قبل أن نستنفذ كل امكانيات ارضنا الطيبة الخيرة الغنية... اننا في سورية مثلاً نشكو من قلة السكان بالنسبة لأراضينا الواسعة الشاسعة التي لم تستثمر بعد، فهل يجوز التفكير بمنع تعدد الزوجات، والتعدد يمدنا حتما باعداد من الأيدي العاملة لا يمنحنا اياها نظام الزوجة الواحدة! وأعتقد أن ما يقال عن بلادنا في سورية يقال عن كثير من بلادنا في غيرها فقد أعلن مدير البنك الدولي أن ثروات العراق تكفي لأن يعيش فيها سبعون مليونا في مستوى من العيش لا يقل عن أمريكا هذا مع العلم بأن عدد سكان العراق حالياً سبعة ملايين فقط.... فالتسرع في سن التشريعات التي تؤدي الى اضرار بالغة في مستقبل الأمة عدديا أو عسكريا أو وطنيا أو غير ذلك، تسرع فهو في مصلحة خصومنا الذين لهم مؤسسات علمية خفية منبثة لا يشعر بها كثير من المسؤولين. فليتقوا الله فإن المؤامرات كثيرة، والأعداء ايقاظ، والحيل واسعة، والخداع محكم، والمتنبهين قليلون.

مناقشة التقييد:

ليست هنالك قيود يمكن أن توضع لتعدد الزوجات وهي مستقاة من الشريعة إلا قيدين اثنين:

القيد الأول: العدل بين الزوجات، وهذا كما رأينا شرط صريح في القرآن لإباحة التعدد، لا لصحته، باجماع العلماء، وقد مر بنا قول الاستاذ الامام محمد عبده في ذلك. فلو جعل شرطاً قانونياً لسماح القاضي بالزواج بامرأة ثانية لمن عنده زوجة واحدة، كيف يمكن للقاضي أن يتحقق من ذلك؟ هل للعدل أمارات سابقة؟ هل يمكن أن يثبت ذلك بالشهادة؟ هل يكتفي فيه بيمين الزوج أنه سيعدل؟ هل هو مما تجري فيه الفراسة؟ وهل يكون القضاء بالفراسة؟ هل يسأل القاضي أقرباء الزوج وأصدقاءه عن خلق الزوج في العدالة وعدمها؟ وهل يمكن أن يحكم القاضي بشهادتهم في ذلك؟ ثم كيف يمكن أن نمنع عقداً لمحظور لم يوجد بعد! ولا سبيل الى التحقيق من وجوده في المستقبل؟ نحن مع الأستاذ الجليل أبي زهرة في أن العدل الذي جعل شرطاً دينياً لا يمكن أن يجعل شرطاً قانونياً يتوقف عليه السماح بالتعدد أو عدمه[1].

القيد الثاني: القدرة على الانفاق على الثانية مع الأولى والقدرة على الانفاق على أولاده منهما أو منهن. وقد قلت إن هذا الشرط يستفاد ضمناً من قوله تعالى {ذلك أدنى ألا تعولوا} على تفسيرها بألا تكثر عيالكم كما ذهب الى ذلك الشافعي رحمه الله. ويستفاد أيضاً منه اشتراط العدالة، فان الذي لا يستطيع الانفاق على زوجتيه وعلى أولاده منهما لا بد له من أن ينفق على احداهما دون الأخرى، فتنتفي بذلك العدالة المشروطة ديناً، ولا بد له من أن يهمل الانفاق على بعض أولاده وهذا تفريط يحال بينه وبين أسبابه. ان هذا الشرط ممكن، ويستطيع القاضي أن يتأكد منه، بالسؤال عن قدرته المالية، ومعرفة دخله وإيراده، فاذا وجده قادراً على الانفاق على زوجتيه وأولادهما لم يكن هنالك مانع من السماح له باجراء هذا العقد. ونحن في هذا نخالف الاستاذ الجليل أبا زهرة في ادعائه بأنه شرط لا يمكن التحقق منه كالعدالة، فالواقع أن هناك فرقاً واضحاً بينهما، ذلك أن العدالة أمر معنوي مغيب لا يعرف إلا عند المعاملة، أما القدرة المالية فهي أمر مادي يمكمن أن تعرف حالاً، ولها أدلة تثبتها بكل سهولة، ودعوى الاستاذ أبي زهرة بأنه لم يؤثر عن النبي وصحابته أنهم تحروا في القدرة على الانفاق يجاب بأن المعيشة في عصورهم كانت بسيطة، وكانت الأرزاق على الأولاد وغيرهم جارية فلا خوف من الضياع. ونرى في هذا الشرط منعاً لاساءة استعمال التعدد في بعض حالاته، حين يقدم بعض الناس على التزوج بأكثر من واحدة، لشهوة عارمة، أو رغبة في التفكه أو الانتقام من زوجته الأولى، وهو غير قادر على الانفاق على البيتين معاً، فتضيع الزوجتان، ويهمل الأولاد، وتتشرد الأسرة. إن مثل هذه الحالة سفه محض، وتستطيع الدولة أن تمنعها دون أن تقف مكتوفة الأيدي، كما تتدخل في أمر كل سفيه فتحد من تصرفاته، وتمنع عنه وعن غيره الضرر والأذى. وبعد هذه المناقشة أرى أن موقف القانون السوري هو أعدل المواقف وأحكمها وقد وقف في ذلك موقفاً وسطاص بين المانعين، وفي ذلك ما فيه من العدوان على شريعة الله والتضييق على مصلحة الأمة وبعض الأفراد، وبين المطلقين الذين يمنعون أي قيد فيه، وفي هذا ما فيه من فسح المجال لبعض السفهاء باستعمال هذا الحق في غير موضعه، فتضيع الزوجات والأولاد. ولست أرى الذهاب الى أبعد من ذلك في هذا الموضوع، والعناية بالتربية الدينية وتنمية الوعي الاجتماعي كفيلان بحسن استعمال هذا الحق حين يستعمل عند الضرورة، دون إضرار بالمجتمع أو اساءة الى وحدة الأسرة وتماسكها. إنني أنا شخصياً ممن لا يفكر في الزواج إلا بزوجة واحدة، وقد قلت في بعض ما كتبت[2]:

"أقوى الناس على تحمل المتاعب من يتزوج اثنتين، وأسرع الناس الى الهلاك من يتزوج ثلاثاً، وأقرب الناس على الجنون من يتزوج أربعاً، وليس في اباحة الله لنا ذلك، ما يحملنا على التعرض للمتاعب من غير ضرورة ملجئة". وشريعة الله حين أباحت التعدد إنما تركت الباب مفتوحاً لمعالجة الضرورات الفردية والاجتماعية ولم ترغب في ذلك ولم تنفر، لأن طبيعة الانسان تغني عن الترغيب او التنفير من ذلك، ففي فطرة كل انسان ان لا يتحمل طائعاً مختاراً إلا زوجة واحدة، وان لا يهدأ ولا يستقر إلا بذلك، ولكن التشريع الخالد ما وجد فيه الناس جميعاً حاجاتهم، وما وجدت فيه الأمم طلباتها في مختلف ظروفها وأحوالها.

فليس في ترك التعدد مباحاً كما هو في الشريعة ترغيب للناس في ذلك، وهذا هو الواقع المشاهد، ولكن في تضييقه أو منعه حيلولة دون معالجة مشكلات خاصة تجد علاجها في التعدد، ومنع الأمة في ظرف من الظروف الطارئة من حل مشكلة من مشكلاتها لا علاج لها إلا بالتعدد، والتشريع الحكيم هو الذي يترك الباب مفتوحاً لمعالجة المشاكل ولا يوصد الباب دونها. إذا كانت بعض الأمم تفكر في الاستفادة من نظام التعدد عندنا لمعالجة أخطر مشكلاتها الاجتماعية بعد الحرب، أفلسنا نحن معرضين لمثل ما تعرضت له هذه الأمم؟ ألسنا نتهيأ – حكومات وشعوبا – لخوض معارك طاحنة مع اسرائيل، ونحن نعلم أننا لن نخوضها مع اسرائيل وحدها، وقد لا نخوضها نحن وحدنا، فالحرب المقبلة ربما كانت أخطر حروب تخوضها أمتنا في تاريخها الطويل، إنها ستكون أخطر من معاركنا مع التتار، ومن معاركنا مع الصليبيين، ومن معاركنا مع الفرس والروم، وأنا لا أشك أن أمتنا بعد هذه الحروب أو في هذه الحروب، ستجد في نظام التعدد أكبر عون لها على بقائها صامدة في المعركة، تمدها بقوافل المجاهدين عشرات فعشرات، وتعوض بعد الحرب ما أفنته الحرب من شباب ورجال.. لست أقول هذا خيالاً، إنني أرى بوادره منذ الآن، وليس من الحكمة أن نضع أيدينا على أعيننا لئلا نرى الحقائق.

أرى خلل الرماد وميض نار

ويوشك أن يكون لها ضرام

ومن ناحية أخرى نرى اسرائيل تحاول أن تحشر في الأرض المحتلة من فلسطين – على ضيق رقعتها – عشرات الملايين. وهي غير حاسبة لمشكلة معيشة هذه الملايين حسابا، مع أن امكانياتها الزراعية ضيقة. بل كل همها أن تكثر من تعداد سكانها، ضاربة بعضر الحائط كل ما يقال عن وجوب تحديد النسل احتياطاً لمعيشة سكان الأرض، حيث يرى بعض خبراء التغذية أن الأرض ستصبح في يوم ما عاجزة عن تأمين القوت لسكان كوكبنا الأرضي.. إنها وهي ذات الرقعة الضيقة والموارد الزراعية المحدودة لا تهتم إلا بحشر أكثر عدد ممكن فيها من يهود العالم لأغراض سياسية عدوانية... فكيف نستجيز لأنفسنا – نحن سكان البلاد العربية خاصة – أن نخدع بالنظريات التي يروجها علماء من اليهود أنفسهم، حول وجوب تحديد النسل، مع أن أراضينا واسعة، تتسع لعشرة أضعاف سكانها الحاليين – حتى مصر يقال إن مشكلة تكاثر السكان فيها يحتم التفكير في منع تعدد الزوجات والأخذ بمبدأ تحديد النسل – اذا استخدمت ثرواتها الطبيعية الظاهرة والدفينة، وحشدت كل طاقات امكانياتها البشرية والفكرية، وأقيمت الصناعات المختلفة ما بين مدنية وعسكرية. ومثل ذلك يقال عن باكستان بالنسبة لجارتها الهند التي يبلغ سكانها خمسة أضعاف سكان باكستان أو أكثر، وهي في مشكلات مع الهند لا يؤمن معها يوماً أن تقع الحرب بينهما. فأية جريمة هذه التي يحاول المسؤولون فيها أن يضعوا عراقيل تؤدي الى منع تعدد الزوجات بدلاً من أن يفكروا في الوسائل التي تؤدي الى كثرة سكانها مع رفع مستواهم المعيشي؟ وليس ذلك بمستحيل إذا صدقت العزائم واستخدم العلم في تنمية الثروة القومية. وأرى أن أختم هذا البحث بكلمة قيمة للأستاذ العقاد. قال في كتابه "المرأة في القرآن الكريم (ص 137):

وحسب الشريعة أن تقيم الحدود، وتوضح الخطة المثلى بين الاختيار والاضطرار، وأما ما عدا ذلك من التصرف بين الناس، فشأنه شأن جميع المباحات التي يحسن الناس وضعها في مواضعها، أو يسيئون العمل والفهم فيها، على حسب أحوال الأمم والمجتمعات من الارتقاء والهبوط، وعلى المعرفة والجهل، ومن الصلاح والفساد، ومن الرخاء والشدة، ومن وسائل المعيشة على التعميم. فالمباحات الاجتماعية والفردية كثيرة تأذن بها الشريعة، ولكنها لا تأخذ بأيدي الناس ليحسنوا تناولها والتصرف فيها، فليس أكثر من الطعام المباح، وليس أكثر من اضرار الطعام بمن يستبيحونه على غير وجهه، وبالزيادة أو النقص في مقداره، وبالخلط بين ما يصلح منه للسليم، وما يصلح منه للمريض، وما يطيب منه في موعد، ولا يطيب في موعد سواه، وإنه لمن الشطط على الشرائع – وعلى الناس – أن ننتظر من الشارع حكماً قاطعاً في كل حالة من هذه الحالات، لأن الضرر من فرضها على من يتولاها بغير بصيرة، أوهم وأعظم من تركها للتجربة والاختيار. إن الممنوع من تعدد الزوجات لا حيلة فيه للمجتمع إلا بنقض بناء الزواج، وإهدار حرماته جهرة أو في الخفاء... أما المباح من تعدد الزوجات، فالمجتمعات موفورة الحيلة في اصلاح عيوبه على حسب أحوالها الكثيرة من أدبية ومادية، ومن اعتدال أو اختلال في تكوين أسرها وعائلاتها وسائر طبقاتها. فالتربية المهذبة كفيلة بالعلاقة الصالحة بين الزوج والزوجة، فلا يحمد الزوج نفسه علاقة بينه وبين امرأته لا تقوم على العطف المتبادل والمودة الصريحة، والمعاونة الثابتة في تدبير الأسرة، ولا يتهيأ له جو البيت على المثال الذي يرتضيه مع زوجتين تدعوه الى الجمع بينهما داعية من دواعي الأثرة والانقياد للنزوات. وقد ينشأ المانع لتعدد الزوجات في حالتي الغنى والفقر على السواء. فالغني يستطيع ان ينفق على بيوت كثيرة، ولكنه لا يستطيع أن يجد غنياً مثله يعطيه بنته، ليجمع بيناه وبين ضرة تنازعها، ولو اعتزلتها في معيشة أخرى، وقد يشق عليه أن ينفق على الزوجات الغنيات بما تتطلبه هذه النفقة من السعة والاسراف، وإذا وجد النساء الفقيرات فلعلها حالة لا تحسب إذ ذاك من أحوال الاضطرار بالنسبة لمن يقبلن عليها من الزوجات. والفقير قد يحتاج الى كثرة النساء والأبناء لمعاونته على العمل – ولا سيما العمل الزراعي – ولكنه يهاب العالة، ويحجم عما يجهده من تحصيل النفقة والمأوى. والمجتمع يحق له أن يشترط الكفاية في الزوج لتربية أبنائه، ويتوخى لذلك دستورا يحافظ على حرية الرجال والنساء، ولا يخل بحقوقهم في التراضي على الزواج متى اتفقت رغبتهم عليه، وليس من العسير تسويغ ذلك الدستور من جانب المجتمع، لأن الأزواج المقصرين يجنون عليه، ويحملونه تبعات كل كفالة للأبناء، يعجز عنها الآباء والأمهات. ومن حسنات السماح بتعدد الزوجات عند الضرورة، أن يكون ذريعة من ذرائع المجتمع لدفع غوائل العيلة والفاقة عند اختلال النسبة العددية بين الجنسين، فاذا كان هذا العارض من العوارض التي يخطر لرجل في علم "ليبون" أنه يستلزم القوانين لتداركه، فليس افتراضه في الشريعة باطلا يقضي عليه بالعبث في جميع الظروف، ويحق للمجتمع أن يرجع اليه في تقدير تلك الظروف، فلا تصطدم عقائد الدين ودواعي المصلحة بين جيل وجيل" 1. هـ.

وأخيراً فإنني أعلن بكل صراحة أنني من أعداء منع تعدد الزوجات تشريعاً وقانوناً، أو وضع العقبات في طريقه، وإن كنت من أنصار وحدة الزوجية في حياتي الشخصية. ولا غرابة في ذلك ولا تناقض، فإن الانسان العاقل يختار الحياة الأفضل، والمتشرع الحكيم يختار لأمته القانون الأشمل. فأنا لا أدعو الى أن يعدد كل متزوج الآن زوجاته، ولكنني أدعو جعل مبدأ التعدد مسموحاً به من غير قيود – ما عدا قيود القدرة على الانفاق – ليستطيع من تلجؤه ظروفه الخاصة الى التعدد، ولتستطيع الأمة في حالة الحروب والأزمات التي يقل فيها الرجال ويكثر النساء أن تستفيد من تشريع التعدد بما يسد به نقص الرجال، وتكفل به حياة النساء، ويحال بينهن وبين التشرد والتسكع، وإغواء المتزوجين، وإغراء غير المتزوجين. وبذلك تحفظ كرامتهن، ويصان المجتمع من كثرة الفواحش وازدياد الأولاد غير الشرعيين كما يقع الآن تماماً في أوروبا. فقد أصبحت مشكلة تكاثر الأولاد غير الشرعيين مشكلة اجتماعية وإنسانية حملت كثيراً من المفكرين عندهم على أن ينادوا بوجوب الاعتراف بهؤلاء وإلحاقهم بآبائهم وأن يكون لهم في القانون حقوق الأولاد الشرعيين.. ولو أنهم أباحوا التعدد لما وصلوا الى هذه الحالة.

[1] انظر محاضرات في عقد الزواج وانحلاله: 129.

[2] من كتاب "هكذا علمتني الحياة".

في الأحوال الشخصية - في الطلاق

شرع الله الطلاق علاجاً للخلافات الزوجية حين لا ينفع معها علاج سواه، وقد كان الغربيون منذ قرن مضى يعيبون على الاسلام شرع الطلاق ويعتبرونه دليلا على استهانة الاسلام بقدر المرأة، وبقدسية الزواج. ومع أن الاسلام لم يكن أول من شرع الطلاق أيضاً، وقد جاءت به الشريعة اليهودية، وعرفه العالم قديماً، فإن الاسلام قد جاء فيه بنظام يكفل لكل من الزوجين حقوقهما وكرامتهما كشأنه دائماً في كل ما قام به من اصلاح للأوضاع الاجتماعية، كما أنه لا يجعل من مبدأ الطلاق أداة للتلاعب بقدسية الزواج وعدم استقرار الحياة الزوجية، كما حصل للغربيين حين أباحوا الطلاق. إن الاسلام يفترض أولاً أن يكون عقد الزواج دائماً، وأن تستمر الزوجية قائمة بين الزوجين حين يفرق الموت بينهما، ولذلك لا يجوز في الاسلام تأقيت عقد الزواج بوقت معين، فإن نص فيه على وقت معين صح العقد ولغا التأقيت وكان مؤبداً. وما يجيزه الامامية في عقد المتعة – وهو زواج مؤقت – لم توافقهم عليهم جمهرة المذاهب الفقهية في الاسلام، بل انفردوا وحدهم بالقول بجوازه، حتى أن الشيعة الزيدية وهم من أهم فرق الشيعة يتفقون مع الجمهور في بطلان عقد المتعة وعدم جوازه[1]. غير أن الاسلام وهو يحتم أن يكون عقد الزواج مؤبدا، لا يغمض عينيه عن طبائع الناس، وتجارب الأمم، وما يمكن أن يقوم بين الزوجين من خلاف منشؤه اختلاف الأمزجة والاخلاق، أو اختلاف المصالح في بقاء الزوج أو انحلاله، أو ما أشبه ذلك من دواعي الخلاف بين الزوجين، كما أنه لم يغفل أيضاً إمكان المصالحة بينهما قبل ايقاع الفرقة بينهما، ولذلك جاء بتشريع محكم لا يتطرق اليه الخلل لو نفذ بنصه وروحه، وتقيد الناس بأحكامه وتعاليمه.

مبادئ عامة في الطلاق

سلك الاسلام في معالجة الخلاف العائلي بين الزوجين الطرق التالية:

1- دعا الزوجين الى أن يشعر بمسؤوليته نحو الآخر ونحو أولادهما أمام الله سبحانه وتعالى، فهو المطلع على حسن سلوكهما أو انحرافه، وقد جعل كلاً منهما راعياً ومسؤولاً، ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته" إلى أن يقول: والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيته".

2- فإذا بدأ الخلاف بينهما أوصاهما بأن يتحمل كلّ أخلاق الآخر ويصبر على ما يكرهه منه، فالحياة لم تسو بين الناس في عقولهم وأخلاقهم وطباعهم، ولا بد من اغضاء الانسان عما لا يرضيه، وكثيراً ما يكون الخير فيما يكرهه الانسان ويتأذى به. وفي ذلك يقول الله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} [النساء: 19].

3- فإذا لم يعد أحدهما يحتمل الآخر. ويصبر على الخلاف معه، واشتد الخلاف بينهما بحيث يخشى من الشقاق والافتراق، أوجب الاسلام أن يُحكّم أهلهما في هذا الخلاف، فيختار الزوج واحداً يمثله، وتختار الزوجة واحداً يمثلها ويجتمعان كمحكمة عائلية ينظران في أسباب الخلاف وعوامله، ويحاولان إصلاح الأمور بينهما بما يستطيعان، ولا ريب في أن كلاً من الزوج والزوجة إذا كان راغباً في انهاء الخلاف وعودة الوئام بينهما الى سابق عهده فان الحكمين سينجحان في مهمتهما، وهذا ما تحدث عنه القرآن الكريم بقوله: {وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} [النساء: 25].

4- فإذا لم ينفع التحكيم وأصر كل من الطرفين على موقفه، أجاز الاسلام أن يقع الطلاق بين الزوجين لمرة واحدة تعتد فيها الزوجة في بيت الزوجة مدة تقارب ثلاثة أشهر – ويعرف تفصيل ذلك من محله في كتب الفقه[2] - وفي خلال العدة تعيش الزوجة في بيت الزوجية، إلا أن زوجها لا يعاشرها معاشرة الأزواج، والحكمة من جعل العدة بهذا الشكل هو ترك الفرصة الكافية لاعادة الصفاء بين الزوجين، بعد أن تهدأ أعصاب كل منهما، ويريان نتيجة الانفصال وآثاره السيئة على حياتهما وحياة أولادهما، فلعلهما يعودان عن الخصام والنزاع، ويعود الهدوء والحب الى جو الأسرة. هذا ومع أن الاسلام أجاز ايقاع الطلاق في هذه الحالة كأمر لا مفر منه فإنه يراه مكروها، وينفر منه أشد التنفير. وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الحلال الى الله الطلاق". ثم إن الطلقة التي أوقعها تعتبر طلقة رجعية ما دامت المرأة في العدة، بمعنى أن الزوج يستطيع أن يرجع اليه من غير مهر ولا عقد ولا شهود بل يكفي أن يتعاشرا معاشرة الأزواج لينتهي أثر هذه الطلقة، وتعود الحياة الزوجية الى سابق عهدها، وفي مذهب الشافعي لا بد من المراجعة بالقول كأن يقول لها: "راجعتك" فتحل له رأساً.

5- اذا انتهت العدة ولم يراجع الزوج زوجته أصبحت الطلقة بائنة بمعنى أن الزوج لا يستطيع أن يعود اليها الا بمهر وعقد جديدين، وان المرأة لو رفضت العودة اليه وفضلت أن تقترن بزوج آخر، لا يملك الزوج الأول إجبارها على العودة، ولا منعها من الزواج بالثاني.

6- اذا عادا الى الحياة الزوجية – سواء خلال العدة أو بعدها – ثم تكرر الخلاف نعيد ذات الخطوات السابقة، من ايصائهما بحسن معاملة احدهما الآخر، وتحمل احدهما لما يكرهه من الثاني، فاذا اشتد الخلاف ثانية لجأنا الى التحكيم العائلي، فاذا لم ينجح في الاصلاح بينهما كان للزوج أن يطلقها طلقة ثانية، ولها ذات الأحكام التي تأخذها الطلقة الأولى.

7- فإذا عاد الزوج الى زوجته بعد الطلقة الثانية وعاد الخلاف بينهما، عدنا الى اتخاذ الخطوات السابقة قبل ايقاع الطلاق، فاذا لم ينفع كل ذلك في الاصلاح بينهما جاز للزوج أن يطلق زوجته الطلقة الثالثة والأخيرة، وتصبح بائنة منه بينونة كبرى بمعنى، أنه لا يستطيع أن يرجعها اليه بعد هذه الطلقة الا بعد اجراء شديد الوقع على نفس الزوج والزوجة معاً وهو أن تكون الزوجة قد تزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها من الأول، ثم وقع الخلاف بينهما وبين الثاني فطلقها، عندئذ يجوز للزوج الأول أن يعود اليها بعد عدتها من طلاق الزوج الثاني ويجب أن يكون ذلك كله طبيعياً من غير احتيال ولا تواطؤ. والحكمة من هذا الاجراء أن الزوج لا يقدم على ايقاع الطلقة الثالثة بعد كل ما سبق من محاولات التحكيم، وبعد طلقتين سابقتين اعتدت المرأة بعدهما، إلا بعد استفحال الخصومة بينه وبين زوجته، بحيث أصبح يعتقد أن استمرار حياتهما الزوجية على هذا الشكل: طلاق وافتراق ثم عودة والتقاء مرتين متتاليتين، أصبح جحيماً لا يطاق، وأنه قرر التخلص نهائياً من هذه الرابطة الزوجية، فأفهمه الشارع أن حين يوقع الطلقة الثالثة قد بانت عليه بينونة كبرى لا سبيل الى رجوعها اليه إلا بعد أن تجري الحياة الزوجية مع زوج آخر، ولو أبحنا له أن يعود الى الزواج منها بعد طلاقها للمرة الثالثة، ثم يعود فيطلقها حين يختلفان، ثم يعود فيرجعها حين يتفقان، لكان ذلك عبثاً في الحياة الزوجية، واستمرار لتعاسة الأسرة وشقائها الى ما لا نهاية، إذن فلا بد من حد يقف عنده الطلاق، وقد قدره الشارع بثلاث تخفيفاً لعذاب الزوج والزوجة والاولاد على السواء. وحكمة أخرى، وهي أن زواج المرأة من زوج آخر، ثم عودتها الى زوجها الأول، أمر شديد الوقع على نفس كل من الزوج والزوجة وهو مما تنفر منه النفوس الكريمة، فكان تعليق إباحة عودتهما الى الحياة الزوجية بعد الطلقة الثالثة على الزواج بزوج آخر ثم طلاقها منه، منعاً في الحقيقة لايقاع الطلقة الثالثة بحيث لا يقدم عليها الزوج وهو يعلم ما وراءها من حكم قاس تشمئز منه نفسه، إلا وقد يئس نهائياً من استمرار حياته معها.

تلك هي أهم مبادئ الطلاق وخطواته في الاسلام، وهي كما ترى حريصة كل الحرص على أن لا تنقطع الحياة الزوجية لأول خلاف يقع بينهما، بل قد جعل الاسلام لها فرصاً "للهدنة" بينهما يستطيعان فيها إصلاح ما في نفسيهما إن أرادا الاصلاح والعيش معاً في حياة هانئة مستقرة.

[1] انظر هذا البحث في كتابنا "شرح قانون الأحوال الشخصية" الجزء الأول الطبعة الخامسة.

[2] انظر كتابنا الجزء الأول شرح قانون الأحوال الشخصية.

لماذا جعل الطلاق في يد الرجل

وهنا يتبادر الى الاذهان سؤال كثيراً ما أثاره الذين لا يؤمنون بنظام الاسلام وعظمته وسمو حكمته، هو: لماذا جعل الطلاق بيد الرجل وحده بحيث يتحكم الرجل في بت الحياة الزوجية متى شاء؟ وكثيراً ما يكون إثر خصام أو حالة من الغضب شديدة؟ ولماذا لم يجعل للمرأة رأي في ذلك ما دامت هي شريكة الرجل في حياته؟

إن الاحتمالات العقلية في هذا الموضوع لا تخلو عن خمسة:

1- أن يجعل الطلاق بيد المرأة وحدها.
2- أن يجعل الطلاق باتفاق الرجل والمرأة معاً.
3- أن يجعل الطلاق عن طريق المحكمة.
4- أن يجعل الطلاق بيد الرجل وحده.
5- أن يجعل الطلاق بيد الرجل. وتعطى المرأة فرصاً للطلاق إذا أساء الرجل استعمال حقه، فلنناقش كل احتمال منها على حدة.

1- لا سبيل لاعطاء المرأة وحدها حق الطلاق، لأن فيه خسارة مالية للرجل وزعزعة لكيان الأسرة، والمرأة لا تخسر ماديا بالطلاق، بل تربح مهراً جديداً، وبيتاً جديداً، و (عريساً) جديداً وإنما الذي يخسر هو الرجل الذي دفع المهر للمرأة ويقوم بنفقة البيت والأولاد، وقد دفع نفقات العرس، وثمن اثاث البيت، فاذا أعطيت المرأة حق الطلاق بمجرد إرادتها سهل عليها أن توقعه متى اختصمت مع الزوج نكاية به ورغبة في تغريمه، سيما وهي سريعة التأثر، شديدة الغضب، لا تبالي كثيراً بالنتائج وهي في ثورتها وغضبها، ولنتصور رجلاً اختلف مع زوجته فاذا هي تطلقه وتطرده من البيت وهو صاحبه ومنفق عليه؟!

2- وجعل الطلاق بيد الرجل والمرأة معاً، أمر يكاد من المستحيل اتفاقهما عليه، إن الإسلام لا يمنع أن يتفاهم الرجل والمرأة معاً على الطلاق، ولكن لا يعلق صحته على اتفاقهما معاً، إذ ماذا يكون الحال فيما لو أصبحت حياة الرجل مع امرأته شقاء ليس بعده شقاء، فأراد أن توافقه على طلب الطلاق فأبت؟ وكثير من النساء في مثل هذه الحالة يفضلن عذاب الرجل وتعاسته على راحته وخلاصه، ثم إن المرأة لم تنفق شيئاً على البيت، ولا دفعت مالاً للرجل، فلماذا تربط إرادته بارادتها في إنهاء الحياة الزوجية؟ وكيف تجبره على ان يعيش مع امرأته كرهها ثم أبت ان توافق على طلاقها منه؟

3- وجعل الطلاق عن طريق المحكمة كما هو عند الغربيين، قد ثبتت أضراره من جهة، وعدم جدواه من جهة أخرى. أما أضراره فلما يقتضيه من فضح الأسرار الزوجية أمام المحكمة والمحامين عن الطرفين، وقد تكون هذه الأسرار مخزية من الخير لأصحابها سترها لنتصور أن رجلاً اشتبه في سلوك زوجته، وتقدم الى المحكمة طالباً طلاقها لهذا السبب، كم تكون الفضائح في هذا الموضوع؟ وكم يكون مدى انتشارها بين الأقرباء والأصدقاء والجيران وبعض الصحف التي تتخذ من مثل هذه القضايا مادة للزواج؟ وأما عدم جدواه فان المتتبع لحوادث الطلاق في المحاكم في الغرب يتأكد أن تدخل المحكمة شكلي في الموضوع، فقل ان تقدمت إمرأة أو رجل بطلب الطلاق الى المحكمة ثم رفض، وإن كثيراً من ممثلات السينما يعلن عن رغبتهن في الطلاق من أزواجهن، والزواج من آخرين قبل أن يتقدمن الى المحاكم بهذا الطلب، ثم ما تلبث المحاكم أن تجيبهن الى طلبهن. وأبشع من ذلك أن المحاكم في بعض البلاد الغربية لا تحكم بالطلاق الا إذا ثبت زنى الزوج أو الزوجة، وكثيراً ما يتواطئان فيما بينهما على الرمي بهذه التهمة ليفترقا، وقد يلفقان شهادات ووقائع مفتعلة لإثبات الزنى حتى تحكم المحكمة بالطلاق. فأي الحالتين أكرم وأحسن وأليق بالكرامة؟ أن يتم الطلاق بدون فضائح؟ أم أن لا يتم إلا بعد الفضائح؟

4- وجعل الطلاق بيد الرجل وحده، هو الطبيعي المنسجم مع واجباته المالية نحو الزوجة والبيت، فما دام هو الذي يدفع المهر ونفقات العرس والزوجية، كان من حقه أن ينهي الحياة الزوجية إذا رضي بتحمل الخسارة المالية والمعنوية الناشئين عن رغبته في الطلاق. والرجل في الأعم الغالب اضبط اعصابا، وأكثر تقديراً للنتائج في ساعات الغضب والثورة، وهو لا يقدم على الطلاق إلا عن يأس من امكان سعادته الزوجية مع زوجته ومع علم بما يجره الطلاق عليه من خسارة، وما يقتضيه الزواج الجديد من نفقات، فقل ان يقدم عليه إلا وهو على علم تام بالمسؤولية، وعلى يأس تام من استطاعته العيش مع زوجته لذلك نجد أن إعطاء الرجل وحده حق الطلاق طبيعي ومنطقي ومنسجم مع قاعدة "الغُرم بالغُنم".

اعتراض وجوابه:

غير أنه يرد عليه ان الرجل لا يوقع الطلاق دائماً وهو معذور فيه أو مضطر اليه، بل قد يفعل ذلك نكاية بالزوجة ورغبة في الاضرار بها وكثير ممن لا خلاق لهم يطلقون زوجاتهم لمجرد الرغبة في الاستمتاع بامرأة جديدة، وقد يكون له من الأولى أولاد فتسيء الزوجة الجديدة معاملتهم، وكثيراً ما يرضخ الزوج لرغبة زوجته الجديدة فيرضى أو يسهم في تعذيب أولاده من زوجته الأولى وإساءة معاملتهم. والجواب أن كل نظام في الدنيا يساء استعماله، وكل صاحب سلطة لا بد من أن يتجاوزها إذا كان سيء الأخلاق ضعيف الوازع الديني، ومع ذلك فلا يخطر في البال أن تلغى الأنظمة الصالحة لأن بعض الناس يسيئون استعمالها، أو أن لا تعطى لأحد في الدولة أية صلاحية لأن بعض أصحاب الصلاحيات تجاوزوا حدودها. إن الإسلام أقام دعامته الأولى في أنظمته على يقظة ضمير المسلم واستقامته ومراقبته لربه. وقد سلك لذلك سبلاً متعددة تؤدي – إذا روعيت بدقة وصدق – إلى يقظة ضمير المسلم وعدم إساءته ما وكل إليه من صلاحيات. وأكبر دليل على ذلك، أن الطلاق لا يقع عندنا في البيئات المتدينة تديناً صحيحاً صادقاً إلا نادراً، بينما يقع في غير هذه الأوساط لا فرق بين غنيها وفقيرها. على أن كل نظام وكل قانون في الدنيا لا بد من أن ينشأ عند تطبيقه بضع الأضرار لبعض الأفراد، ومقياس صلاح النظام أو فساده هو نفعه لأكبر قدر من الناس أو اساءته اليهم، وإذا قارنا بين حسنات إعطاء الرجل حق إيقاع الطلاق بسيئات نزع هذا الحق منه أو اشراك غيره معه فيه رجحت عندنا كفة الحسنات على السيآت كثيراً، وهذا وحده كافٍ في ترجيح إعطاء الرجل وحده حق الطلاق.

اعتراض آخر وجوابه:

وهنالك اعتراض آخر كان قائماً منذ سنوات، وكانت الألسنة تلهج به، وهو أن في بعض أحكام الطلاق ما يؤذي المرأة حتما، وليس فيها ما ينصفها أو يدفع عنها الأذى، ومن ذلك إيقاع الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد، وطلاق المرأة في حالة غضب الزوج غضباً لا يكاد يعي فيه ما يقول، وعدم استطاعة الزوجة الخلاص من زوج يسيء معاملتها حتى أصبحت معه جحيما لا يطاق، وهي تتمنى طلاقها منه بأي وسيلة ولكنه يتعنت ذلك ويأبى طلاقها. إن مثل هذه الحالات كانت قائمة في مجتمعنا، وكانت الشكوى منها عامة ولكن الحق أنها ليست ناشئة من نظام الطلاق كما جاء في القرآن والسنة، ولكنها ناشئة من التقيد بأحكام مذهب معين من المذاهب الأربعة كما كان العمل عليه في محاكمنا الشرعية منذ عصور حتى سنوات خلت. ولهذا اتجهت عناية المصلحين الى الاستفادة من المذاهب الاجتهادية الأربعة وغيرها مما يخفف هذا الاعنات عن المرأة، ومما يفسح أمامها مجالاً للخلاص من زوج ظالم قاسي القلب سيء الأخلاق لا ترى منه إلا كل غلظة وفظاظة. وأستطيع أن أؤكد أن ما وضع في سبيل ذلك من تشريع – سواء في سورية أو مصر أو غيرها – قد أزال كثيراً من أسباب الشكوى من انفراد الزوج بحق الطلاق، هذا مع اعتقادي بأنه لا تزال هناك ثغرات يجب أن تعالج أيضاً بالأخذ بما يصلح من المذاهب الاجتهادية في الاسلام. لقد قامت هذه التشريعات على الحل الخامس المعقول الذي ذكرناه من قبل، وهو أن يبقى الطلاق بيد الرجل، على أن تعطى المرأة فرصاً للخلاص من زوج تكرهه، أو زوج يتعمد اعناتها وإيذائها. وبذلك نحول دون استبداد الزوج بحق الطلاق استبدادا يتنافى مع الخلق الاسلامي بعد أن ضعف الوازع الديني، وساءت الأخلاق إلى حد كبير.

الاصلاحات التشريعية في الطلاق

وإنني سأستعرض بإيجاز أهم ما احتواه قانوننا للأحوال الشخصية، وهو في ذلك متفق مع قوانين مصر في كثير من هذه الأحكام. وينفرد عنها بأحكام جديدة.

1- جعل الطلاق رجعياً

جعل الطلاق كله رجعياً إلا في الحالات الآتية:

أ‌- الطلاق الثالث فإنه يقع بائناً فوراً.
ب‌- الطلاق قبل الدخول والخلوة الصحيحة.
ت‌- الطلاق على مال وهو الخلع أو المخالعة.
ث‌- التفريق للعلل الجنسية.
ج‌- التفريق للشقاق بين الزوجين.

وقد كان العمل قديماً بمذهب أبي حنيفة من أن ألفاظ الكناية والطلاق المقترن بما يفيد التشديد فيه وغير ذلك يعتبر طلاقاً بائناً، فكان إذا قال لزوجته: أنت عليّ حرام يقع الطلاق بائناً ولا يمكن للزوج مراجعة زوجته في العدة. ولكن المذاهب الأخرى لا تذهب الى هذا التضييق، ولذلك ذهب قانوننا الى أن كل طلاق يقع رجعياً إلا ما ذكرناه، وفي هذا اصلاح كبير، فإنه يترك الفرصة خلال العدة لمراجعة الزوج من غير أن يحتاج الى عقد ومهر جديدين.

2- الطلاق الثلاث بلفظة واحدة

جعل الطلاق الثلاث بلفظة واحدة إلا طلقة واحدة، وقد كان العمل قديماً بمذهب أبي حنيفة وتؤيده المذاهب الثلاثة الأخرى الى أن الطلاق الثالث يقع ثلاثاً مرة واحدة، وكانت تقع نتيجة لذلك من المشكلات والحيل واللجوء الى "المحلل" ما يندى له الجبين. ولكن قانوننا أخذ برأي بعض الصحابة والتابعين وبعض أتباع المذاهب الاجتهادية الأخرى كابن تيمية وابن القيم رحمهما الله. ومذهب الامامية على الراجح عندهم من أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع إلا واحدة. وأنا لا أريد الخوض في مناقشة الأدلة التي يوردها الطرفان حول هذا الموضوع، ولكنني ألفت النظر الى أن آيات الطلاق في القرآن تشير الى أن جعل الطلقات ثلاثاً إنما هو لفسح المجال لعودة الصفاء بين الزوجين بعد الطلقة الأولى والطلقة الثانية، ويكاد يكون النص القرآني صريحاً في ذلك. يقول الله تعالى: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} ثم يقول بعد ذلك: {فإن طلقها (أي للمرة الثالثة) فلا تحل من بعد حتى تنكح زوجاً غيره}. فهو هنا صريح في أن الطلاق على مراحل، تقع الطلقة الأولى فاما أن يمسكها بمعروف أي يراجعها وإما أن يسرحها بإحسان، فإذا راجعها ثم طلقها للمرة الثانية كان عليه أيضاً أن يراجعها وإما أن يسرحها بإحسان. فإذا طلقها للمرة الثالثة لم تعد تحل له حتى تتزوج غيره.

هذا هو نظام الطلاق بصراحة في القرآن الكريم، فكيف يتأتى تطبيق هذا النظام فيما لو طلقت الزوجة طلاقاً بائناً بينونة كبرى بمجرد أن يطلقها زوجها ثلاثاً بلفظ واحد في مجلس واحد وفي ثانية واحدة؟ ثم إن الله تعالى يقول في سورة الطلاق {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن، وأحصوا العدة، واتقوا الله لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، وتلك حدود الله، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً. فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف}. فهذه الآيات صريحة في أن الطلاق يجب فيه التأني، وأن المطلقة يجب أن تعتد في بيت الزوجية ولا تخرج منه احتمال أن يحدث الله بعد ذلك أمراً، أي احتمال أن يعود الصفاء إلى قلب الزوجين فيعودا الى حياة الزوجية، فاذا انتهت العدة فاما أن يمسك الرجل مطلقته أي يعيدها اليه كزوجة، وإما أن يفارقها، وقد أخبر الله في هذه الآيات أن من لم يتقيد بهذه الحدود فقد ظلم نفسه. فهل يمكن تطبيق ذلك في الطلاق الثلاث بلفظ واحد إذا أنفذناه ثلاثاً فبانت منه زوجته بينونة كبرى؟ هل هناك أمل بأن يحدث الله أمراً؟ هل يمكنه أن يمسكها بعد ذلك بالمعروف؟ وإذا رجعنا الى آية الظهار نجد أن الله أمر من ظاهر امرأته – بأن يقول لها أنت عليّ كظهر أمي – أن يتربص أربعة أشهر فلعله يعود إليها ويرجع عما انتواه من هجرها وطلاقها، فاذا انتهت الشهور الأربعة، وقع الطلاق إما بنفس الظهار أو بلفظ جديد على خلاف بين الفقهاء. الذي نستنتجه من مجموع هذه النصوص أن الله لم يشرع الطلاق لبيت الحياة الزوجية بتاً نهائياً، وإنما جعله على مراحل، وترك بين كل مرحلة وأخرى فرصة للمراجعة والمصالحة.. وهذا لا يتأتى مع إنفاذ الثلاث بلفظة واحدة. إن قانوننا أحسن صنعاً بالأخذ بهذا الرأي – كما أخذ بذلك من قبل قانون مصر – وخلصنا من مشكلة التحليل والمحلل وما يلابسها من مخازٍ ومخجلات....

3- طلاق السكران والمكره والمدهوش

الأصل في صحة التصرفات كلها اكتمال الأهلية وذلك بالعقل والبلوغ، وتمام ذلك بالرضى، وعلى ذلك كان مقتضى القواعد العامة أن لا يقع طلاق السكران ولا المكره، أما السكران فلفقدان التمييز والعقل حين تلفظ بالطلاق، وأما المكره فلفقدان الرضى منه. ولكن مذهب أبي حنيفة صحة طلاق السكران، ويرى ذلك من قبيل العقوبة له على سكره، فيكون إيقاع طلاقه رادعاً له عن السكر، ولكن الواقع أن هذا الحكم لم يردع السكارى عن سكرهم، وأن هذه العقوبة جاءت على رأس الزوجة المسكينة التي ربما كان طلاقها لأنها أنبت زوجها السكران على سكره، فعاجلها بالطلاق، لذلك كان الصحيح ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من عدم صحة طلاقه. وهذا ما أخذ به قانوننا. وأما المكره فقد ذهب الأئمة الثلاثة إلى عدم صحة طلاقه أيضاً، لفقدان الرضى منه، ولكن أبا حنيفة خالفهم فأجاز طلاقه، وقد أخذ القانون بما ذهب اليه الأئمة الثلاثة. وأما المدهوش وهو الغضبان الذي فقد تمييزه من شدة الغضب أو المرض أوغيرهما حتى أصبح لا يعي ما يقول، فقد ذهب الأئمة الثلاثة إلى صحة طلاقه، ولكن أبا حنيفة ذهب الى عدم صحته، وهذا هو المعقول وهو الذي أخذ به القانون.

4- اليمين بالطلاق

كان العمل في المحاكم على أن من حلف على امرأته بالطلاق أن لا تفعل شيئاً ففعلته، يحكم بطلاق المرأة، ولكن مذهب الظاهرية والى ذلك ذهب بعض أصحاب الشافعي وأحمد، التفصيل في ذلك:

فان كان قصد من قوله، إن دخلت، أو قصد بذلك التأكيد عليها بعدم دخول لا إيقاع الطلاق إن دخلت، أو قصد بذلك التأكيد عليها بعدم دخول الدار، لا يقع الطلاق بدخولها، وكان كلامه كاليمين يقصد به التأكيد والاستيثاق، وتكون فيه كفارة اليمين. وإن قصد أنها إن دخلت الدار طلقت فعلاً، فإنها تطلق بدخول الدار. ولما كان أكثر الناس يقصدون من مثل تلك العبارة معنى اليمين لا إيقاع الطلاق، كان الأخذ بذلك التفصيل أرفق بالناس. وأكثر تضييقاً لدائرة الطلاق، وبهذا أخذ قانوننا.

5- اشتراط المرأة جعل الطلاق بيدها

قلنا إن مذهب أبي حنيفة جوز أن تشترط المرأة في العقد أن يكون أمر الطلاق بيدها تقوله متى شاءت، وهو من الشروط الجائزة في مذهب أحمد كما ذكرناه، ولما كان في الأخذ به احتياط لمصلحة المرأة، ومنع من استبداد الرجل بأمر طلاقها، فقد أخذ القانون بصحة هذا الشرط.

6- الطلاق للغيبة:

إذا غاب الرجل عن زوجته غيبة منقطعة بحيث لا يدري أين هو؟ فما حكم زواجه؟

مذهب أبي حنيفة والشافعي أن الزوجة تظل في عصمة زوجها الغائب حتى يحضر أو يحكم القاضي بموته، واختلفوا متى يحكم القاضي بموته؟ وأشهر الأقوال في المذهب الحنفي أن يموت آخر واحد من أقرانه، وقيل أن يبلغ من العمر ثمانين سنة. وذهب مالك وأحمد الى التفريق بينها وبين زوجها الغائب بعد مدة قليلة قيل إنها أربع سنوات، وقيل ثلاث، وقيل سنة، وقيل ستة أشهر. ولا شك أن الأخذ بمذهبي أبي حنيفة والشافعي فيه إعنات بالمرأة واضرار بالغ بها، اذ عليها أن تنتظر حتى يبلغ عمر زوجها ثمانين سنة، ثم تعتد بعد ذلك وتحل للأزواج، ومن الذي يتزوج بها حينئذ؟ وكيف نجبرها على الوحدة والصبر خلال هذه السنين الطوال؟ وغالباً ما تموت قبل أن يحكم القاضي بموت زوجها على مذهبي الشافعي وأبي حنيفة. لذلك كان الأرفق بالمرأة، والأحصن لها أن يؤخذ برأي المذاهب الأخرى، فاختار القانون أن الزوج إذا غاب بلا عذر مقبول أو حكم عليه بعقوبة السجن أكثر من ثلاث سنوات جاز لزوجته بعد سنة من غيابه أو سجنه أن تطلب الى القاضي التفريق بينها وبين زوجها، ولو كان له مال تستطيع الانفاق منه. ثم نص القانون أن هذا التفريق طلاق رجعي، فاذا رجع الغائب أو أطلق السجين والزوجة في العدة حق له مراجعتها. والغيبة المنقطعة هي أن لا يكون للزوج مكان معلوم، أو كان في مكان لا تصل اليه الرسائل. ويشترط في الغيبة أن لا تكون لعذر مقبول، إذ يكون ذلك دليلاً على قصده الاضرار بها، فان كان لعذر مقبول، كالغياب في خدمة العلم، أو الجهاد في سبيل الله، أو طلب العلم، لا يحق لها طلب التفريق لأنه لم يقصد بغيابه الاضرار بها.

7- الطلاق لعدم الانفاق:

اذا امتنع الزوج عن الانفاق على زوجته، فقد ذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد الى جواز التفريق بينهما، أخذاً من قوله تعالى: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} [البقرة: 131] ولا شك في أن امساكها مع الامتناع عن الانفاق عليها إضرار بالغ بها. وذهب أبو حنيفة الى عدم جواز التفريق لعدم الانفاق، لأن الزوج لا يخلو من أن يكون معسراً أو موسراً، فإن كان معسراً فلا ظلم منه بعدم الانفاق، والله تعالى يقول: {لينفق ذو سعة من سعته، ومن قُدر عليه رزقه (ضُيق) فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسرٍ يسرا} [الطلاق: 07] وإذا لم يكن ظالماً فلا يجوز أن نظلمه بإيقاع الطلاق عليه، وإن كان موسراً فهو بلا شك ظالم في امتناعه، ولكن دفع ظلمه لا يتعين بالتفريق بينهما، بل هنالك وسائل أخرى لرفع الظلم، منها: بيع ماله جبرا عنه للانفاق على زوجته، ومنها حبسه لإرغامه على الانفاق، وأيا ما كان فان الظلم لا يدفع بالظلم. كان العمل قديماً بمذهب أبي حنيفة، ولكن قانوننا أخذ بمذاهب الأئمة الثلاثة حفظاً للزوجة من الضياع، وصيانة لها عن الانحراف، وقد فصل القانون في هذه الحالة تفصيلاً ليس هذا محله.

8- الطلاق المعلل:

الأصل في الزواج أن يكون لسكن النفس واطمئنانها، ومما يؤثر في ذلك وينغض الحياة الزوجية وجود العلل والأمراض في أحد الزوجين فما مصير الزواج اذا اكتشف أحدهما علة في الآخر بعد الزواج؟.

تنقسم الى قسمين:

1- علل جنسية تمنع من الاتصال الجنسي كالحَبب والسُعنة والخصاء في الرجل، والرَتق والقرن في المرأة.
2- علل لا تمنع من الاتصال الجنسي ولكنها منفرة أو معدية أو ضارة بحيث لا يمكن المقام معها إلا بضرر، كالجذام والبرص والجنون والسل والزهري.

وتختلف مذاهب العلماء في حكم هذه العلل بالنسبة للزواج. فذهبت الظاهرية إلى أنه لا يحق لأحد من الزوجين طلب التفريق بسبب علة من العلل مطلقاً، ولو كانت عللاً جنسية. وهذا بعيد عن حكمة التشريع، ولذلك لم يوافق عليه أحد من أئمة الاجتهاد. وذهب فريق من العلماء – منهم ابن شهاب الزهري وشريح وأبو ثور – إلى جواز طلب التفريق من كل عيب مستحكم، سواء كان في الزوج أو الزوجة، لأن العقد قد تم على أساس السلامة من العيوب، فاذا انتفت السلامة فقد ثبت الخيار، وهذا قول قريب جداً من حكمة التشريع. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف الى أن العيوب الجنسية ان كانت في المرأة فلا خيار للرجل في فسخ النكاح، لأنه يملك تطليقها في أي وقت يشاء... وإن كانت العلل الجنسية في الرجل فللمرأة حق طلب فسخ النكاح في ثلاثة منها فحسب، وهي: الجَب، والخصاء، والسعنة. أما العلل غير الجنسية فلا خيار للرجل ولا للمرأة في حق الفسخ. ومعنى ذلك أنه لا حق في طلب الفسخ من مرضٍ كالسل أو الزهري أو غيرهما من الأمراض المعدية أو المنفرة. وهذا بعيد عن حكمة التشريع في الزواج. وذهب محمد الى أن العيوب إن كانت في المرأة فلا حق للرجل في طلب الفسخ جنسية أم غير جنسية، لأن الرجل يملك التطليق حين يريد. وإن كانت في الرجل فلها طلب الخيار في العيوب الجنسية، وفي غير الجنسية إذا كانت لا يمكن المقام معها إلا بضرر. هذا هو الصحيح من مذهب محمد[1] خلافاً لما توحيه عبارات بعض فقهاء الحنفية. وذهب مالك والشافعي وأحمد الى أن لكل من الرجل والمرأة طلب التفريق اذا وجد أحدهما بالآخر عيباً جنسياً أو منفراً بحيث لا يمكن المقام معه إلا بضرر. وهذا هو أقرب الآراء الى حكمة التشريع في الزواج، وإلى منع الضرر عن الرجل والمرأة على السواء.

في قانوننا:

كان العمل قديماً قبل صدور قانون حقوق العائلة برأي أبي حنيفة وأبي يوسف من أن العلل التي تبيح للرجل طلب فسخ النكاح إذا وجدت في المرأة هي العلل الجنسية الثلاثة المذكورة آنفاً. وهي الجَب، والخصاء، والسُعنة. ثم جاء قانون حقوق العائلة فأخذ بقول محمد وأجاز للرجل طلب الفسخ لكل العيوب المنفرة. ولما صدر قانوننا للأحوال الشخصية كان موقفه غريباً من هذا الموضوع فقد كان رجعة الى الوراء، إذ جعل من حق الزوجة طلب التفريق بينها وبين زوجها إذا كان فيه احدى العلل المانعة من الدخول بشرط سلامتها منها، وإذا أصيب بالجنون بعد الزواج. ومعنى هذا أن المرأة لا حق لها في طلب التفريق اذا وجدت بزوجها مرضاً معدياً أو منفراً، كالسل والجزام والبرص والزهري وغير ذلك. وهذا في منتهى الغرابة، إذ كيف تستطيع المرأة أن تصبر على زوج مبتلي بمثل تلك الأمراض وتعيش معه وتمنحه حبها وقلبها؟! وكيف يتحقق السكن النفسي في مثل هذا الزواج؟ مع أن بعض العلل المانعة من الدخول قد تكون أخف على المرأة كثيراً من الأمراض المؤذية والمعدية، فالمرأة قد ترضى بالعيش مع رجل عاجز عن الاتصال الجنسي، ولكنها لا ترضى أنتعيش مع رجل مصاب بمرض مؤذ أو معدٍ ولو كان قادراً على الدخول بها... فكيف غاب هذا الأمر عن واضعي القانون. يقول ابن القيم (زاد المعاد: 4/30) في التعقيب على ما ذكره بعض فقهاء الحنابلة من أن الامام أحمد قصر العيوب الجنسية على ثلاثة أو خمسة فقط:

"وأما الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة دون ما هو أولى منها أو مساوٍ لها فلا وجه له، فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة اليدين أو الرجلين أو أحدهما، أو كون الرجل كذلك، من أعظم المنفرات، والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش، وهو منافٍ للدين، والاطلاق في العقد إنما ينصرف الى السلامة فهو كالمشروط عرفاً، وقد قال عمر لمن تزوج امرأة وهو لا يولَد: أخبرها أنك عقيم وخّيرها، فماذا يقول رضي الله عنه في العيوب التي هذا (أي العقم) عندها (عند تلك العيوب) كمال بلا نقصان، والقياس أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة يوجب الخيار".

ثم قال: "ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده وعدله وحكمته وما يشتمل عليه من المصالح لم يخف عليه رحجان هذا القول وقربه من قواعد الشريعة". وقصارى القول إن قانون الأحوال الشخصية السوري قصر في هذا الموضوع تقصيرا ضاراً بالمرأة والرجل على السواء، ومن الواجب تعديله بما يعطي حق كل من المرأة والرجل في طلب الفسخ إذا اطلع أحدهما في الآخر على عيب منفر أو معد بحيث لا يمكن المقام معه إلا بضرر، وهذا متفق مع قول محمد ومع الصحيح من مذهب الحنابلة، وهو قبل كل شيء متفق مع قواعد الشريعة ومقاصدها وحكمة التشريع في الزواج.

9- التفريق للشقاق:

قلنا إن الاسلام أوجب تأليف لجنة محكّمة لبحث أسباب النزاع بين الزوجين على أن يكون من أهل الزوج، والآخر من أهل الزوجة. وقد نص قانوننا على اتخاذ هذا الإجراء عند ادعاء الزوج أو الزوجة أن أحدهما يضر بالآخر ويتعمد الإساءة إليه، ثم تقدم اللجنة المحكّمة تقريراً الى القاضي عن نتيجة تحقيقاتها في النزاع وأسبابه، فان اقترحا الإصلاح بينهما لم يكن للقاضي التفريق، وإن اقترحا التفريق فرق القاضي بينهما، ويعتبر ذلك طلقة بائنة. وقد فصل القانون في الحكم بالمهر، على حسب ما يتحقق له من أن الإساءة كانت من الزوج أو الزوجة. هذا والقول بالتفريق للشقاق هو مذهب مالك وأحمد، ولا يرى أبو حنيفة والشافعي جواز التفريق للشقاق، فيكون القانون قد استمد هذا الحكم من مذهبي المالكية والحنابلة، ونعم ما فعل، فان الحياة الزوجية لا تستقيم مع الشقاق والنزاع، عدا ما في ذلك من ضرر بالغ بتربية الأولاد وسلوكهم. ولا خير في اجتماع بين متباغضين، ومهما يكن أسباب هذا النزاع خطيراً أو تافهاً فإن من الخير أن تنتهي العلاقة الزوجية بين هذين الزوجين لعل الله يهيئ لكل واحد منهما شريكا آخر لحياته يجد معه الطمأنينة والاستقرار.

10- الطلاق التعسف:

كل الأسباب السابقة التي ذكرناها يكون الطلاق أو التفريق فيها أمراً تحتمه المصلحة، إما مصلحة الزوجة أو مصلحة الزوج. وهنالك حالتان يكون الطلاق فيهما تعسفاً وعدواناً خالصاً. وقد تعرض القانون لهما أيضاً:

1- أن يطلق الرجل المريض مرض الموت زوجته ليحرمها من ارثها منه، وهذا بلا شك عدوان لا يرضاه الله وتأباه المروؤة، وللأئمة فيه آراء مختلفة:

فيرى الشافعي أن المرأة إذا طلقها زوجها طلاقاً بائناًَ وهو في مرض الموت ثم مات قبل أن تنتهي عدتها، لا ترث من ذلك الزوج، لأن الطلاق البائن يقطع عرى الزوجية فلما مات لم تكن زوجته فلا ترث منه، أما أن يكون قصده من طلاقها حينئذ الفرار من ارثها فذلك أمر يعاقبه الله عليه، ولا يؤثر على الصيغ والعقود. ويرى الأئمة الثلاثة أن العدل يقتضي معاقبته على قصد اضراره بالزوجة، واختلفوا بعد ذلك في الحكم:

فرأى أبو حنيفة توريثها منه إذا مات وهي لا تزال في عدتها، فان انقضت عدتها من الطلاق ثم مات بعد ذلك لم ترث منه.

ورأى أحمد أنها ترث منه ولو مات بعد انتهاء عدتها ما لم تتزوج زوجاً آخر، فاذا تزوجت فلا إرث لها من زوجها الأول.

ورأى مالك أنها ترث ولو انتهت عدتها وتزوجت من آخر، وهذا كما ترى على طرف النقيض من رأي الشافعي، بينما ذهب أبي حنيفة وأحمد متوسطان.

وقد اختار القانون رأي أبي حنيفة، ونحن نختار رأي أحمد فهو أقرب الآراء الى العدالة، وأدناها الى معاملة الزوج بخلاف قصده، إذ قصد الفرار من إرثها، فورثناها منه ما لم تتزوج زوجا آخر، فإنها سترث من هذا الأخير فلا معنى لتوريثها من الأول.

2- والحالة الثانية من حالات التعسف أن يطلقها لغير سبب معقول، وقد تكون فقيرة أو عجوزا لا أمل في زواجها مرة ثانية، فبقاؤها من غير زوج ينفق عليها إضرار بها، ولؤم في معاملتها، وهو آثم بلا شك فيما بينه وبين الله تعالى، ولكن العمل قديماً على عدم إنصاف مثل هذه المرأة، فجاء قانوننا يعطي الحق للقاضي أن يفرض لها على مطلقها بالتعويض بنسبة التعسف ودرجته. وهذا مبدأ جديد في قوانيننا، ومستنده – فيما نظن – أن الله أوجب لبعض المطلقات متعة – وهي مثل ثيابها عند خروجها من بيتها ويجوز أن يقدر ذلك بدراهم – كما رغب في اعطاء المتعة لبعض المطلقات الأخر. بحيث لا تخلو مطلقة من متعة تأخذها من الزوج، وليس للمتعة كما قال الفقهاء حد معين ولا لباس معين، وإنما تقدر بحسب عرف البلد وتعامل الناس، لأن القرآن الكريم قيدها " بالمعروف" وهذا مما يختلف فيه الناس بين بلد وبلد، وبين زمن وزمن، وبين امرأة وأخرى، فاستند قانوننا الى هذا المبدأ الشرعي فأجاز للقاضي أن يحكم على المطلق بتعويض يتناسب مع ظلمه للمرأة وتعسفه في طلاقها. وهذا تشريع جميل بلا ريب من شأنه أنه يخفف عن المطلقة ألم الطلاق، ولكننا نأخذ على القانون أنه اشترط أن لا يزيد التعويض عن نفقة سنة لأمثالها فوق نفقة العدة، فنحن نرى أن لا يقيد ذلك بنفقة سنة، فما دام الزوج ظالماً متعسفاً، وما دامت الزوجة مظلومة، فلم لا يلزم بالانفاق عليها حتى تتزوج ان كانت في سن قابل للزواج، أو حتى تلقى وجه ربها إن كانت عجوزاً شارفت على وداع الحياة؟ والشريعة الاسلامية في عدالتها تأبى أن تترك مثل هذه المرأة العجوز تعاني آلام البؤس والفاقة حتى تلقى وجه ربها، بعد أن أمضت زهرة شبابها مع زوج لم يكن عنده من الوفاء ما يحفظ لها كرامتها في أخريات أيامها.

الخلاصة:

نجد من كل ما تقدم أن الاسلام في أصل نظامه الذي وضعه للطلاق راعى فيه ضرورات الحياة وواقع الناس في كل زمان، كما أنصف فيه المرأة من فوضى الطلاق التي كانت سائدة عند عرب الجاهلية حيث لا عدد ولا عدة ولا حقوق ولا التزامات، كما كانت سائدة في الشعوب التي تبيح شرائعها الطلاق. ونجد أيضاً أن المرأة لم تعد تحت رحمة الرجل الذي يملك حق الطلاق، بل فتح لها الاسلام منافذ تنفذ منها الى حياة الراحة من زوجية شقية بائسة مع زوج قاس ظالم، فأعطاها حق اشتراط أن يكون الطلاق بيدها عند عقد الزواج، ويسر لها الخلاص من الزوج برضاه ورضاها إذا كفلت له التعويض عن خسائره المالية بسبب الطلاق، وذلك عن طريق "الخلع" أو "المخالعة" كما فتح لها الطريق الى القضاء ليحكم بالتفريق بينها وبين زوجها في حالات لا تستطيع الحياة فيها مع زوجها. وحتى في حالات الطلاق التعسفي من جانب الرجل فقد ضمن لها الاسلام حقوقها كما رأينا، فلم يبق بعد ذلك مجال للشكوى إلا من حالات أساء فيها الزوج استعمال حق الطلاق، ومثل هذه الحالات لا يستطيع أي قانون في الدنيا أن يحتاط لمنع وقوعها، وإنما المدار في ذلك على التربية الدينية، ويقظة الضمير واستقامة الوجدان، وهذا ما حرص الاسلام على أن يربى عليه المسلم تربية تمنعه من الاساءة لا إلى زوجته فحسب، بل الى أي انسان كان قريباً أو بعيداً، مواطناً أو أجنبياً، وإني أحيل الذين يشككون في هذا الأمر الى احصاءات الطلاق ليروا كيف يكاد الطلاق ينعدم في البيئات المتدينة تديناً واعياً صادقاً لا جهل فيه ولا غباوة، ولا تدجيل ولا تجارة...

[1] انظر السراج الوهاج شرح القدوري للحدادي.

في الحقوق السياسية

لم تكن المرأة العربية في صدر الإسلام – برغم ما أعطاها الاسلام من حقوق تتساوى مع الرجل فيها – تعنى بالشؤون السياسية، فلا نعلم أن المرأة اجتمعت مع الصحابة في سقيفة بني ساعدة إثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم للتشاور فيمن يختارونه خليفة لهم، ولا نعلم أنها كانت تشارك الرجال في هذا الشأن، ولا نعلم أن الخلفاء الراشدين – بصورة خاصة – كانوا يجمعون النساء لاستشارتهم في قضايا الدولة كما يفعلون ذلك مع الرجال، ولا نعلم في تاريخ الاسلام كله أن المرأة تسير مع الرجل جنباً إلى جنب في إدارة شؤون الدولة وسياستها وقيادة معاركها. وكل ما يرويه لنا التاريخ أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من النساء بيعة – دون أن يصافحهن – على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصين رسول الله في معروف، وقد كانت هذه البيعة يوم فتح مكة، ثم أخذ بيعة الرجال على مثل ما أخذ من بيعة النساء. ومن زعم أن هذا يدل على اشتغال المرأة المسلمة بالسياسة فقد ركب متن الشطط وحمّل وقائع التاريخ ما لا تحتمل. ونعلم أيضاً أن بعض نساء الصحابة كن يخرجن مع الرجال في معارك الرسول صلى الله عليه وسلم يضمدن الجرحى ويسقين العطشى، وكانت لرفيدة خيمة تداوي فيها الجرحى، فإذا أصيب بعض المسلمين في المعركة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ الى خيمتها. وهذا أيضاً لا يدل على اشتغال المرأة بالسياسة، بل على أساسها في الوقائع الحربية ما بين أعمال التمريض والسقاية، وما بين القتال عند الضرورة، وهذا الحكم باق لا ينازع أحد فيه كما سيأتي. ونعلم أيضاً أن المرأة المسلمة أسهمت في بدء الدعوة الاسلامية بقسط وافر من التضحية والفداء، كما فعلت أخت عمر بن الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر، وغيرهما. وهذا يدل على أثر المرأة في حركات الاصلاح ووجوب اسهامها فيها ولا يزال هذا الحكم قائما، أما أن يدل على الاشتغال بالسياسة بمعناه المفهوم اليوم، فلا.

ونعلم أيضاً أن النساء في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كن يحضرن خطبة العيد، ودروس وعظه صلى الله عليه وسلم منفصلات عن الرجال. وهذا لا يدل على اشتغالهن بالسياسة، ومن زعم ذلك، فقد ارتكب شططاً. ونعلم أن عائشة أم المؤمنين خاضت معركة شهيرة في التاريخ بمعركة الجمل، وكانت قائدة المعركة فيها من وراء ستار وهي على هودجها. ولكن المؤكد أن عائشة ندمت على ما فعلت، وأن أمهات المؤمنين لمنها على ذلك، إذ ما كان يجوز لها الخروج من بيتها كزوجة للرسول بنص القرآن، ولكنها تأولت فأخطأت، ثم تابت واستغفرت، وأحاطها علي بعد المعركة بكل مظاهر الاكرام والحراسة حتى عادت الى بيتها في المدينة. فلا يمكن إذاً أن يتخذ عملها هذا دليلاً على اشتغال المرأة المسلمة بالسياسة في تلك العصور، كما يزعم بعض المتهورين، لأنها حادثة فردية أدركت فيها عائشة خطأها. ونعلم أنه في بعض أدوار التاريخ الاسلامي تولت احدى النساء الملك والحكم كما فعلت شجرة الدر، وأن منهن من كن ذات تأثير كبير على أزواجهن كزبيدة زوجة هارون الرشيد. ولكن هذه حوادث فردية، وتدخلهن إنما كان من قبيل السيطرة والنفوذ على أزواجهن، لا على انه اسهام منهن في سياسة الدولة بالمعنى المفهوم اليوم. إذاً فمن المؤكد أن المرأة المسلمة لم تشتغل في السياسة، ولم تسهم في الأحداث السياسية التي مرت بالمسلمين في كل أدوار التاريخ، فلمَ هذا؟ مع أننا قررنا أن الاسلام رفع مكانتها وسواها في الأهلية القانونية بالرجل ورفع عنها الغبن اللاحق بها في مختلف البيئات والشعوب؟ هنا يجب أن نذكر حقيقة تلقي لنا الضوء على هذه الظاهرة التي تكاد تبدو متناقضة، وهي أن الاسلام برغم إعطائه المرأة كل حقوقها المسلوبة من قبل، وبرغم مساواته لها بالرجل في الأهلية الحقوقية والمالية، يرى أن من الخير لها ولأسرتها وللمجتمع أن تتفرغ لشؤون الأسرة وتهتم بها ولذلك أسقط عنها تكاليف المعيشة، فألزم زوجها بالانفاق عليها – مع أنها أهل لأن تبيع وتشتري وتزاول كل أعمال الكسب – كما ألزم أباها بالانفاق عليها حتى تتزوج، لتكون متمرسة بأعمال البيت تحت اشراف أمها، فكأنها وهي في البيت تحت رعاية أبيها وأمها في مدرسة الفنون النسوية: الأم تعلم، والأب ينفق.

وبهذا الموقف الحكيم صان الاسلام كرامة المرأة فلم يسلبها حقوقها، وصان سعادة الأسرة فلم يلزم الزوجة بترك البيت لتشتغل بشغل آخر مما يعمل فيه الرجال من سياسة أو تجارة أو غيرها. ومن هنا نفهم سر عدم اشتغال المرأة المسلمة بالسياسة في جميع أدوار التاريخ، مع ما نالته من حقوق كانت تمكنها من أن تشتغل بالسياسة، ولكنها أدركت واجبها الأول في الحياة، وهي أن تكون أماً وربة بيت ويشبه موقفها هذا موقف المرأة السويسرية التي نالت حقوقها وتساوت مع الرجل في حقوقه، ومنها الحق السياسي، ومع ذلك فهي لم تستعمله، ولا تريد أن تستعمله، لأنها تفضل أن تتفرغ لبيتها وأولادها على أن تخوض معارك السياسة بخصوماتها ومشكلاتها.

المرأة والسياسة في عصرنا الحديث

غير أن المرأة المسلمة لم تبق على ما كانت عليه قابعة في بيت الزوجية تتفرغ لشؤون زوجها وأولادها، بل أخذت – بتأثير الحضارة الغربية – أو أخذ المقتنعون باتجاه الحضارة الغربية في قضية المرأة يطالبون لها بأن تنال حقوقاً سياسية كالرجل، وأخيراً حصلت في بلادنا على حق الانتخاب وحق الترشيح للنيابة في المجالس النيابية. وأريد أن أسجل هنا للتاريخ أن هذين الحقين لم تنلهما المرأة بإرادة الشعب الحرة، وإنما نالتهما في غيبة الحياة النيابية وقيام الانقلابات العسكرية، أو الحكم الفردي المستبد. وأيا ما كان فقد أصبح من حقها أن تنتخب وأن تُنتخب، فما هو موقف الاسلام من ذلك؟

حق الانتخابات

كان أول مرة أعطيت فيها المرأة في بلادنا حق الانتخاب في عام 1949 وفي عهد حسني الزعيم إثر إنقلابه المعروف، فقد صدر في عهده قانون جديد للانتخاب أعطيت فيه المرأة حق الانتخاب، وقد فرض هذا القانون على الأمة فرضاً. ولما قامت الجمعية التأسيسية في ذلك العام وبدأ بوضع الدستور، رأينا بعد المناقشة وتقليب وجهات النظر أن الاسلام لا يمنع من اعطاء هذا الحق، فالانتخاب هو اختيار الأمة لوكلاء ينوبون عنها في التشريع ومراقبة الحكومة، فعملية الانتخاب عملية توكيل، يذهب الشخص الى مركز الاقتراع فيدلي بصوته فيمن يختارهم وكلاء عنه في المجلس النيابي يتكلمون باسمه ويدافعون عن حقوقه، والمرأة في الاسلام ليست ممنوعة من أن توكل إنساناً بالدفاع عن حقوقها والتعبير عن إرادتها كمواطنة في المجتمع، وكان المحظور الوحيد في إعطاء المرأة حق الانتخاب هو أن تختلط بالرجال أثناء التصويت والاقتراع، فيقع ما يحرمه الاسلام من الاختلاط والتعرض للمحصنات وكشف ما أمر الله به أن يستر. وقد تقرر دفعاً لذلك المحظور أن يجعل لهن مراكز للاقتراع خاصة بهن، فتذهب المرأة وتؤدي واجبها ثم تعود الى بيتها دون أن تختلط بالرجال أو تقع في المحرمات. وتقرر في الدستور الذي أصدرناه عام 1950 حق المرأة في الانتخاب فقط، ثم جاء عهد الوحدة، فصدر قانون بإرادة الحاكم الفرد يعطي المرأة حق الترشيح للنيابة، ومع أن عدداً من النساء قد رشحن أنفسهن للانتخابات بعد ذلك إلا أن واحدة منهن لم تنجح لأن الأمة لم تقتنع بعد بفائدة نيابة المرأة واشتغالها بالسياسة، وقد كان فرض منهن عدد في مجلس الأمة أيام الوحدة لم يكن للشعب نفسه رأي في اختيارهن ولا نيابتهن.

حق النيابة

وإذا كانت مبادئ الاسلام لا تمنع أن تكون المرأة ناخبة، فهل تمنع أن تكون نائبة؟ قبل أن نجيب على هذا السؤال يجب أن نعرف طبيعة النيابة عن الأمة انها لا تخلو من عملين رئيسين:

1- التشريع: تشريع القوانين والأنظمة.
2- المراقبة: مراقبة السلطة التنفيذية في تصرفاتها وأعمالها.

أما التشريع فليس في الاسلام ما يمنع أن تكون المرأة مشرعة، لأن التشريع يحتاج قبل كل شيء الى العلم مع معرفة حاجات المجتمع وضروراته التي لا بد منها والاسلام يعطي حق العلم للرجل والمرأة على السواء، وفي تاريخنا كثير من العالمات في الحديث والفقه والأدب وغير ذلك. وأما مراقبة السلطة التنفيذية فإنه لا يخلو من أن يكون أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، والرجل والمرأة في ذلك سواء في نظر الاسلام، يقول الله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}. وعلى هذا فليس في نصوص الاسلام الصريحة ما يسلب المرأة أهليتها للعمل النيابي كتشريع ومراقبة. ولكننا اذا نظرنا إلى الأمر من ناحية أخرى نجد مبادئ الاسلام وقواعده تحول بينها وبين استعمالها هذا الحق – لا لعدم أهليتها – بل لأمور تتعلق بالمصلحة الاجتماعية. فرعاية الأسرة توجب على المرأة أن تتفرغ لها ولا تشتغل بشيء عنها. واختلاط المرأة بالأجانب عنها محرم في الاسلام – وبخاصة الخلوة مع الأجنبي. وكشف المرأة من غير ما سمح الله بكشفه وهو الوجه واليدان محرم في الاسلام. وسفر المرأة وحدها خارج بلدتها دون أن يكون معها محرم منها لا يبيحه الاسلام. وهذه الأمور الأربعة التي تؤكدها نصوص الاسلام تجعل من العسير – إن لم يكن من المستحيل – على المرأة أن تمارس النيابة في ظلها ففي النيابة ترك للبيت خلال أكثر النهار والليل، وفيها اختلاط بالنواب في غير قاعة المجلس النيابي، وفيها تضطر المرأة أن تكشف ما حرم الله اظهاره من زينتها وجسمها، وفيها سفرها خارج بلدتها – اذا كانت من مدينة غير العاصمة – وليس معها أحد من محارمها، وقد تسافر الى مؤتمرات برلمانية في دول أجنبية. مثل هذه المحرمات لا يجرؤ مسلم أن يقول بإباحتها، فالمرأة إن كانت بحسب أهليتها لا يمنعها الاسلام من النيابة، ولكنها بحسب طبيعة النيابة وما يقتضيها ستقع في محرمات يمنعها الاسلام منها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، نرى الاسلام يجعل للمصلحة العامة الاعتبار الأول في تشريعه، فما كانت تقتضيه المصلحة أباحه، وما لا تقتضيه المصلحة منعه أو حذر منه. وإذا أردنا أن نناقش نيابة المرأة من حيث المصلحة العامة نرى مضارها أكثر من فوائدها.

فمن مضارها إهمال البيت وإهمال شؤون الاولاد، ومن ذلك ادخال الخصومات الحزبية الى بيتها وأولادها، وقد قرأنا في انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة أن زوجة قتلت زوجها لأنها كانت تتحمس لمرشح غير مرشح الحزب الذي ينتمي اليه الزوج. واشتغال المرأة بالسياسة من المشكلات التي لا ينكرها منصف، فهي عاطفية وتتأثر بالدعاية الى حد كبير، وللجمال والذوق أثر كبير فيمن تختاره من المرشحين. ونضيف الى ذلك احتمال أن تكون هي جميلة، فتستعمل جمالها سلاحاً لاقناع الرجال بانتخابها، ومن عانى الدعايات الانتخابية وعناء المرشحين في الطواف على بيوت الناخبين وأحيائهم وقراهم، ومواصلتهم سهر الليل بعمل النهار، أدرك أي شقاء وتعب وهموم ستتعرض لها المرأة المرشحة. أنا لا أريد أن أذكر الناس بما جرى في الانتخابات التكميلية سنة 1957 في مراكز اقتراع النساء في دمشق – من شد شعور بعضن لبعض واتهام بعض المتحمسات لأحد المرشحين، لكرائم السيدات بتهم تأنف من سماعها المروءات، وما كان من هجوم بعضهن على بعض وضربهن بالأحذية، والاستنجاد بالشرطة، مما جعل المتحمسين لاشتغال المرأة عندنا بالسياسة يندمون على موقفهم – أنا لا أريد أن أذكر الناس بتفاصيل ما وقع، ولكني أريد أن أذكر السيدات اللاتي يحسبن النيابة أمراً هيناً، بأن الحكم بالأشغال الشاقة أهون مما يجب على المرشح أن يقوم به من استرضاء لخواطر الناخبين وتردد عليهم وتزلف لهم، فهل تتحمل طبيعة المرأة هذا؟ أم تحسب أن مجرد ترشيحها نفسها كاف لنجاحها؟ ثم ماذا نفعل بالأمومة؟ هل نحرم النائبة أن تكون أما؟ وذلك ظلم لفطرتها وغريزتها وظلم للمجتمع نفسه، أم نسمح لها بذلك على أن تتقطع عن عملها النيابي مدة ثلاثة أشهر كما تفعل المدرسات والموظفات؟ وهل نسمح لها أن تقطع أيام "الوحم" وقد تمتد شهرين فأكثر، وطبيعة المرأة في تلك الأيام طبيعة غير هادئة ولا هانئة، بل تكون عصبية المزاج، تكره كل شيء؟ فماذا بقي لها بعد ذلك من أيام العمل الخالصة وقد تكون الدورة البرلمانية خلال هذه الأشهرالتي تنقطع فيها عن العمل الخارجي؟ أنا لا أفهم ما هي الفائدة التي تجنيها الأمة من نجاح بضعة مرشحات في النيابة: أيفعلن ما لا يستطيع الرجال أن يفعلوه؟ أيحللن من المشاكل ما يعجز الرجال عن حلها؟ ألأجل أن يطالبن بحقوقهن؟ إن كانت حقوقاً كفلها الاسلام فكل رجل مطالب بالدفاع عنها وإن كانت حقوقا لا يقرها الاسلام. فلن تستجيب الأمة لهن وهي تحترم دينها وعقائدها.

يقولون: إن الفائدة من ذلك إثبات كرامة المرأة وشعور المرأة بانسانيتها!....

ونحن نسأل: هل إذا منعن من ذلك كان دليلاً على أن لا كرامة لهن ولا انسانية؟...

أفليس في قوانيننا القائمة مواطنون منعهم القانون من الاشتغال بالسياسة كأفراد الجيش مثلاً؟ فهل يعني منعهم من حق الاشتغال بالسياسة أنهم دون المواطنين كرامة وإنسانية؟

أليست قوانيننا تمنع الموظف من الاشتغال بالتجارة؟ فهل يعني ذلك أنه فاقد الأهلية أو ناقصها؟

إن مصلحة الأمة قد تقضي تخصيص فئات منها بعمل لا تزاول غيره، وليس في ذلك غض من كرامتها، أو انتقاص من حقوقها، فلماذا لا يكون عدم السماح للمرأة بالاشتغال بالسياسة هو من قبيل المصالح التي تقتضيها سعادة الامة كما تقتضي تفرغ الجندي لحراسة الوطن دون اشتغاله بالسياسة؟ وهل تفرغ الأم لواجب الأمومة أقل خطراً في المجتمع من تفرغ الجندي للحراسة، وتفرغ الموظف للادارة دون التجارة؟

كلمة صريحة:

لنكن صريحين في معالجة هذا الموضوع، فأنا لا يخيفني أن أتهم بالجمود والرجعية وعداوة المرأة بمقدار ما يهمني أن أذكر آرائي بكل حرية وأن أنبه أمتي الى الاخطاء. لقد وفدت الينا عدوى اشتغال المرأة بالسياسة من الغرب، ومع أن الغرب لم يعط هذا الحق للمرأة إلا بعد مئات السنين من نهضته، نحب أن نتساءل: ماذا كانت نتيجة هذه التجربة عند الغربيين؟

إن أول شيء يبدو للمتتبع لهذه القضية تناقص عدد النائبات سنة عن سنة، ومعنى ذلك أن الغربي بدأ يشعر بعد التجربة أن إعطاء المرأة حق الاشتغال بالسياسة لا فائدة منه إن لم يكن قد عمل على تفكك الأسرة، أو أن المرأة نفسها أصبحت عازفة عن الاشتغال بالسياسة والنيابة عن الشعب.

وثاني الملاحظات – وقد زرت أوروبا أربع مرات أقمت في بلادها بضعة شهور – أني لم أحس أبداً بأثر المرأة الغربية في السياسة عندهم بوجه عام، وفي المجالس النيابة بوجه خاص، ولقد زرت مرة مجلس العموم البريطاني وحضرت جلسة طويلة من جلساته، فلم أشاهد نائبة واحدة من نائباته، بل كن كلهن غائبات!...

وثالث الملاحظات، أن المرأة السويسرية ما تزال حتى الآن ترفض باختيارها أن تمارس حقها السياسي، وفي كل مرة تستفتى في هذا الموضوع يكون جواب 95% منهن رفض الاشتغال بالسياسة، هذا مع العلم بأن سويسرا من أرقى بلاد العالم الحديث، ونساءها لا يتهمن بالجمود والرجعية والرضى بالقيود والأغلال! كما يحلو لبعض المتمردات عندنا أن يتهمن زميلاتهن اللاتي يعلن عن رفضهن للإشتغال بالسياسة...

ولذلك فإني أعلن بكل صراحة أن اشتغال المرأة بالسياسة يقف الاسلام منه موقف النفور الشديد إن لم أقل موقف التحريم – لا لعدم أهلية المرأة لذلك – بل للأضرار الاجتماعية التي تنشأ عنه، وللمخالفات الصريحة لآداب الاسلام وأخلاقه، وللجناية البالغة على سلامة الأسرة وتماسكها، وانصراف المرأة عن معالجة شؤونها بكل هدوء وطمأنينة.

حق التوظف - العمل - الإختلاط

كانت المرأة عندنا في العصور الأخيرة محرومة من التعليم، مع أن الاسلام يحث على العلم ويرغب فيه الرجال والنساء على السواء، وليس فيه نص واحد صحيح يحرم على المرأة أن تتعلم، وقد قلت إن في تاريخنا مئات العالمات والأدبيات والمحدثات ممن شهرن بذلك ودونت سيرتهن في كتب التراجم. وتحضرني الآن سيرة فاطمة بنت الشيخ علاء الدين السمرقندي الفقيه الحنفي الكبير صاحب تحفة الفقهاء (المتوفي عام 539 هـ) فقد كانت فقيهة جليلة، تزوجها تلميذ أبيها الشيخ علاء الدين الكاساني (المتوفي 587 هـ) صاحب البدائع الذي بسط فيه كتاب شيخه السمرقندي حتى قيل عنه شرح تحفته وزوجه ابنته، وكانت فاطمة من جلالتها في الفقه ان كان زوجها يخطيء فترده الى الصواب، وكانت الفتوى تأتي فتخرج وعليها خطها وخط أبيها، فلما تزوجت بصاحب البدائع كانت الفتوى تخرج وعليها خطها وخط أبيها وخط زوجها. ومما لا ريب فيه أن لجهل المرأة المسلمة في العصور الأخيرة أثراً في تأخر المسلمين، فالأمهات الجاهلات ينجبن أبناء جاهلين خاملين. لذلك كان من النهضة المحمودة أن يفتح للفتاة باب التعليم وأن تكثر فينا الزوجات المتعلمات والأمهات المتعلمات. وكل ما نلاحظه على تعليم الفتاة أنها كانت تدرس نفس المناهج والدروس التي يدرسها الفتى، وهذا خطأ بالغ، فان الفتاة تحتاج في حياتها العملية بعد التخرج الى ما لا يحتاج اليه الفتى، فهي مهيئة بفطرتها وخلقتها لتكون زوجة وأما "ومن ثم فمن الواجب أن تتعلما ما يفيدها في حياتها المقبلة، وقد انشئت في البلاد مدارس لتعلم الفنون النسوية، ومن الخير أن نكثر مثل هذه المدارس وأن تطعم مناهج الدراسة للبنات بقسط أكبر من أصول التربية المنزلية لتكون لها من الخبرة ما يساعدها على النجاح في حياتها المرتقبة.

1- حق التوظف

قلت فيما سبق إن الاسلام نص بصراحة على منع تولي المرأة رئاسة الدولة وبينت الحكمة في ذلك، ثم قلت ويلحق برئاسة الدولة كل ما كان بمعناها في تحمل المسؤوليات الخطيرة. أما سائر الوظائف الأخرى فليس في الاسلام ما يمنع المرأة من توليها لكمال أهليتها، ولكن يجب أن يتم ذلك وفق مبادئ الإسلام وأخلاقه. فلا يصح أن تكون الوظيفة معطلة لعمل الأم في بيتها وإشرافها على شؤون بيتها. ولا يصح أن تختلط الموظفة بالرجال وتبدي من جسمها مالا يجوز كشفه. ولا يصح أن تكون الموظفة في غرفة واحدة مع موظف أو أكثر من الرجال لئلا تتم الخلوة التي يحذر منها الشارع أشد تحذير. هذا من الناحية الشرعية، أما من الوجهة الاجتماعية فقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن توظيف المرأة في وظائف الدولة يزاحم الرجال في ميدان عملهم الطبيعي، ومن المشاهد أنه في الوقت الذي تزدحم فيه دوائر الحكومة عندنا بالموظفات، نرى العديدين من المتعلمين حملة الشهادات العليا يتسكعون في الطرقات، أو يملؤون المقاهي جالسين طيلة النهار إذ لا يجدون لهم عملاً في دوائر الحكومة. إن توظيف المرأة بدلاً من الرجل عمل لا تبرره المصلحة، فلو كنا نشكو قلة الأكفاء من الرجال لملء وظائف الدولة لجاز أن يبرر ذلك توظيف المرأة، أما أن نخرج المرأة من بيتها ونأتي بها الى دواوين الدولة، ثم نطرد الشاب من مكانه الطبيعي في دواوين الدولة، ونرده الى البيت أو المقهى أو الشارع. فهذا قلب للأوضاع، وإفساد للمجتمع، وسير بقافلة البلاد الى طريق الفوضى والأزمات.

ومن الملاحظ أن بعض دواوين الدولة عندنا تكاد تكون كلها من النساء، وحسبك أن تقف على بابها عند انتهاء الدوام الرسمي، ثم تنظر أفواج الفتيات وهن خارجات من وظائفهن، فيروعك ما ترى وما تشهد. وقد أصبح من المؤكد أن المرأة في الوظيفة لا تكاد تؤدي نصف عمل الرجل، وقد أذاع بذلك بيانا رئيس دائرة موظفي الدولة في مصر في العام الماضي، وفيه يؤكد هذه الحقيقة، وقد تأكد أيضاً أن الموظفة إن اجتمعت بموظفة مثلها أمضت كثيرا من الوقت في كلام عاطفي لا علاقة له بالوظيفة ولا يمت إلى مصلحة البلاد بسبب. ومن هنا عدلت كثير من الدوائر عندنا عن توظيف المرأة بعد أن كانت تشجع على ذلك، فهنا مؤسسة من أهم مؤسسات الدولة فائدة، وقد أوقفت منذ سنوات توظيف فتيات عندها بعد ما ثبت لها أن الرجل أكثر انتاجا. وقد امتنعت وزارة الخارجية في عهد الوحدة من توظيف النساء في دوائرها بعد ما ثبت لها أن لا فائدة من ذلك الدولة سوى إنفاق الأموال وضياع الأوقات سدى. وإذا أضفنا الى ذلك ما ينشأ من العلاقات العاطفية بين الفتاة الموظفة وبين الرجل الموظف الذي يكون معها في غرفة واحدة، وقد يكون متزوجا وأبا لعدة أولاد. وقد كثرت الشكوى من ذلك على صفحات الصحف، إذا أضفنا هذا الى ما سبق أيقن أنه لا داعي للإكثار من توظيف النساء في دوائر الدولة إلا تقليد الغربيين، ومحاولة إثبات تقدمنا وتطورنا مما يرفع شأننا في نظرهم!.. والواقع أن هذا التفكير ساذج يدعو الى الاستغراب الشديد، فرقي الأمة واحترام الدول لها لا يكون بطرد الشبان من وظائف الدولة، وإحلال الفتيات محلهم، وإنما يكون بمبلغ ما تصل اليه الأمة من وعي، وما تتصف به من نشاط وما تطمح إليه من آمال، وما تملكه من قوة... فهل يؤدي الى هذا كله توظيف النساء في مؤسسات الدولة؟ هذا سؤال نحيله الى المتحمسين لتوظيف السيدات والفتيات منهن خاصة، من رؤساء بعض المؤسسات الحكومية؟ إن المرأة تستطيع أن تفيد كثيراً في بعض مؤسسات الدولة، كالمستشفيات ومدارس الأطفال، والمدارس الإعدادية والثانوية للبنات، وفي مختلف نواحي النشاط الاجتماعي الذي تنجح فيه نجاحا كبيراً، وهذا ما يدعونا الى الاهابة بالمسؤولين أن لا يفتحوا باب التوظيف للمرأة على مصراعيه، بل يقتصروا فيه على ما لا ينجح فيه إلا المرأة وما تنجح فيه أكثر من الرجل. وهذا ميدان واسع نستطيع أن نستفيد فيه من مواهب المرأة وخصائصها التي خصها الله بها.

2- العمل

لا ينازع أحد يفقه أحكام الإسلام في أن عقود المرأة وتصرفاتها التجاربية صحيحة منعقدة لا تتوقف على إجازة أحد من ولي أو زوج، وقد قدمنا ذلك في أول هذه الأبحاث. ولا ينازع أحد في أن المرأة إذا لم تجد من يعولها من زوج أو أقرباء، ولم يقم بيت المال بواجبه نحوها أنه يجوز لها أن تعمل لتكسب قوتها. حتى إن الأب الذي يكلف بالانفاق على ابنته حتى تتزوج، لو رضي بأن تعمل بنته عملاً تكتسب منه كالخياطة مثلاً سقطت نفقتها عنه، وأصبحت هي مسؤولة عن نفسها. قال ابن عابدين في حاشيته على الدر المختار (2/671).

قال الخير الرملي: لو استغنت الانثى بنحو خياطة وغزل يجب أن تكون نفقتها في كسبها كما هو ظاهر، ولا نقول: تجب (أي النفقة) على الأب مع ذلك إلا إذا كان لا يكفيها فتجب على الأب كفايتها بدفع القدر المعجوز عنه، ولم أره لأصحابنا، ولا ينافيه قولهم بخلاف الأنثى لأن الممنوع إيجارها، ولا يلزم منه عدم الزامها بحرفة تعلمها 1. هـ. أي أن الممنوع إيجارها للخدمة ونحوهما مما فيه تسليمها للمستأجر، بدليل قولهم لأن المستأجر يخلو بها، وذا لا يجوز في الشرع، وعليه فله دفعها لامرأة تعلمها حرفة كتطريز وخياطة مثلاً. فنحن لا نتكلم الآن فيمن تضطرها حالتها المادية للعمل خارج بيتها، فذلك جائز قطعاً بشرط المحافظة على آداب الاسلام في ذلك كأن لا تخلو بالرجل، وأن لا تبدي زينتها لهم وأن لا تطمعهم في نفسها بمعسول القول أو مشبوه التصرف. وإنما نتكلم في اشتغال المرأة بوجه عام وتركها بيتها وأولادها إن كانت أماً، أو تركها البيت ان كانت فتاة، مع وجود من يتكفل بالانفاق عليها، وصيانتها عن ذل الحاجة في العمل وإرهاقه ومشقاته. هناك فلسفتان في هذا الموضوع ولكل منها آثارهما الواضحة في المجتمع:

1- فلسفة الاسلام، في أن البنت والمرأة بوجه عام لا يصح أن تكلف بالعمل لتنفق على نفسها، بل على أبيها أو زوجها أو أخيها مثلاً أن يقوم بالانفاق عليها، لتتفرغ لحياة الزوجية والأمومة، وآثار ذلك جلية واضحة في انتظام شؤون البيت، والاشراف على تربية الأولاد، وصيانة المرأة من عبث الرجال وإغرائهم وكيدهم، لتظل لها سمعتها الكريمة النظيفة في المجتمع.

2- فلسفة الغربيين، في أن البنت متى بلغت سناً معينة – وهو في الغالب سبعة عشر عاماً – لا يجب على أبيها أو أقربائها الانفاق عليها، بل يجب عليها أن تفتش عن عمل لها تعيش منه وتدخر ما تقدمه بائنة (دوطة) لزوجها المرتقب. فاذا تزوجت كان عليها أن تسهم مع زوجها في نفقات البيت والأولاد، فاذا شاخت – وكانت لا تزال قادرة على الكسب – وجب عليها أن تستمر في العمل لكسب قوتها ولو كان ابنها من أغنى الناس.

وآثار هذه الفلسفة واضحة كما شاهدناه بأعيننا في ديار الغرب، وكما قرأنا عنها في كتابات المفكرين الغربيين، وفي صرخات المرأة الغربية أخيراً. كما ترى في "الملاحق". إن أهم آثار هذه الفلسفة المادية أنها خالية من كل تقدير لرسالة المرأة الخطيرة في الحياة، وأنها تلقى بها في أتون شهوات الرجال وشرهم الجنسي لقاء لقمة العيش، وأنها ترهق المرأة من أمرها عسراً فوق ارهاقها الطبيعي بالحمل والولادة، وأنها تؤدي الى تفكك الأسرة وتشتت شملها، ونشوء الأولاد بعيدين عن مراقبة آبائهم وأمهاتهم. إن كثيرين عندنا – رغبة في مسايرة الحضارة الغربية في كل شيء – ينادون بوجوب فتح باب العمل للمرأة كالرجل سواء بسواء، وهم يغالطون أنفسهم حين يزعمون أن مساواة المرأة بالرجل لا تتم إلا بهذا، وأن سر قوة الغربيين في أن المرأة عندهم تكافح في سبيل الحياة بجانب الرجل، وتتحمل من المسؤوليات مثل ما يتحمل.

ولقد ناقشتني فتاة جامعية مرة في هذا الموضوع، وكانت تشتغل ضاربة على الآلة الكاتبة في محل تجاري الى جانب دراستها الجامعية، وهي غير محتاجة الى العمل، ولكنها قالت: أنا إنما أعمل لأشعر بانسانيتي! فأجبتها بأن العمل وعدمه لا علاقة له بشعور الانسان بانسانيته، فكثير من الذين يشتغلون لا يشعرون أبداً بانسانيتهم، وكثير من الذين لا يعملون بأيديهم، ولكنهم يعملون بجهودهم الفكرية وغيرها هم أكثر الناس شعوراً بانسانيتهم وتقديراً لها. وضربت لها مثلاً بالجندي والموظف، فكل منهما ممنوع بحسب القوانين المرعية في أكثر بلاد العالم من التجارة والكسب بأيديهم، وذلك ليتفرغوا لأداء رسالة اجتماعية هي أكثر فائدة للمجتمع من اشتغالهم بأيديهم، فهل يعتبر منعهم من التجارة والعمل امتهانا لانسانيتهم؟ وهل يشعر الموظف من رئيس الجمهورية حتى أصغر موظف في الدولة أنه فاقد لانسانيته حين يكون في غرفته مكباً على أوراق بين يديه يدرسها ويوقع عليها؟

قالت: أنا لا أريد أن أكون عالة على أبي، بل أريد أن آكل من كد يميني وعرق جبيني.

قلت لها: ليس الموظف ولا الجندي اللذان يقبضان رواتبهما من خزينة الدولة أول كل شهر، يشعران بأنهما عالة على الدولة، بل يقبضان رواتبهما بكل كرامة وإعتزاز، لأنهما يؤديان واجباً اجتماعياً نبيلاً، وأنت حين تكونين في بيت أهلك قبل الزواج، تتمرسين على شؤون البيت وأعماله وإدارته بعد الزواج، فأنت في عمل اجتماعي نبيل، أنت في مدرسة تتعلمين فيها الحياة البيتية عملياً من اساتذة مخلصين "وهم أبوك وأمك" ومتى كانت البنت التي تتفرغ للدراسة تخجل من أن تأكل من بيت أبيها؟ ثم اذا تزوجت بعد ذلك تبدأين بالعمل فوراً، وهو عمل يستغرق وقتك كله، فهل أنت حينئذ تكونين عالة على زوجك؟ أم إنك ستقومين بأعمال مرهقة قد تكون أكثر ارهاقاً من عمل زوجك خارج البيت؟ هل ستتركين العمل في البيت لتعملي خارجه؟ أم تقومين بالعملين معاً؟ ان التي أوكلها الله اليك، وفي قيامك بالعملين معاً ارهاق لجسمك لا تتحملينه ولا تقدرين عليه، وهو ظلم منك لنفسك ما بعده ظلم، فالاسلام حين أراد منك أن تتفرغي للأمومة وأعبائها، وألزم زوجك أو وليك بالانفاق عليك إنما صانك عن الابتذال. وكفاك مشقة العمل فوق عملك المرهق فهل انقلبت العناية بك في نظرك الى احتقار وازدراء؟

إن الرغبة المتفشية الآن عندنا في اشتغال المرأة خارج البيت، هو تقليد غربي بحت، وعلى المرأة أن تتحمل كل ما تحملته المرأة الغربية في هذا السبيل، وعليها أن تقبل بكل نتائج الفلسفة الغربية في هذا الموضوع، فعليها أن تتكفل بنفقات حياتها ودراستها منذ تجاوز الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، وعليها أن تعمل كثيراً لتدخر ما تقدمه لمن ترغب في الاقتران به من مال يرضيه، وعليها أن تشارك الزوج بعد ذلك في نفقاتها ونفقات بيتها وأولادها، وعليها أن تستمر في العمل لكسب قوتها حتى تبلغ الستين من عمرها إذا كانت هنالك أنظمة للتكافل الاجتماعي تكفل معونة الانسان بعد بلوغه سن الستين، وإلا فعليها أن تستمر في العمل حتى تلقى ربها، ولا يحق لها أينما كان، وكيفما كان: في دوائر الحكومة، في الشركات، في المكاتب التجارية، في المخازن الكبرى بائعة أو محاسبة، في بيع الجرائد، في تنظيف الشوارع، في مسح الأحذية، في جمع القمامة (الزبالة) في قطع تذاكر الركاب في السكك الحديدية أو سيارات النقل الكبرى، في تنظيف المحطات، في تنظيف المراحيض العامة، في حراسة الأبنية الكبيرة في أخريات الليل، في قيادة سيارات التكسي (السيارات العمومية) في حمل الاثقال في صناعة الصلب والحديد في حمل الصناديق الثقيلة في المعامل، في كل ما يشتغل فيه الرجل ويقوم به من أعمال. وهذه أعمال رأينا المرأة الغربية تقوم بها في جميع بلاد أوروبا وفي بلاد الاتحاد السوفياتي. فاذا كانت المرأة عندنا الآن ترغب في العمل خارج بيتها، ولا تتعرض إلا لأعمال سهلة لا مشقة فيها، فإنها يجب أن تنتظر الأعمال الشاقة المرهقة كالمرأة الغربية، فالأمر يجر بعضه الى بعض، ومساواة المرأة بالرجل من شأنها أن تجعلها تقوم بكل ما يقوم به.

تفكك الأسرة نتيجة اشتغال المرأة

وأهم ما في الأمر من خطورة أن فسح المجال أمام المرأة للعمل خارج البيت سيغريها أول الأمر، إذ تجد فيه حرية أوسع من حريتها في بيتها، ثم ما تلبث أن تجد نفسها متورطة في أعمال لا تستطيع الشكوى منها، وآخر ما ينشأ عن ذلك من أخطاء، تفكك الأسرة وتشرد الأطفال، وهذا من أكبر العوامل في انحلال المجتمع وانهياره.

شكوى الغربيين وتذمرهم

ولا تظن أن الغربيين راضون بما انتهت إليه حالة الأسرة وحالة المرأة بعد نزولها إلى ميدان العمل، فقد بدأ المفكرون منهم منذ أواخر القرن الماضي يشكون من ذلك، وينذرون بالأخطاء الناشئة عنها، ويعلنون عن قرب انهيار حضارتهم نتيجة لذلك. ونحن نذكر شيئاً من أقوالهم في ذلك.

يقول العالم الشهير (أجوست كونت) مؤسس علم الاجتماع الحديث في كتابه (النظام السياسي)، "لو نال النساء يوماً من الأيام هذه المساواة المادية التي يتطلبها لهن الذين يزعمون الدفاع عنهن بغير رضائهن، فان ضمانتهن الاجتماعية تفسد على قدر ما تفسد حالتهن الأدبية لأنهن في تلك الحالة سيكنّ خاضعات في أغلب الصنائع لمزاحمة يومية قوية، بحيث لا يمكنهن القيام بها كما أنه في الوقت نفسه تتكدر المنابع الأصلية للمحبة المتبادلة"[1]. ولما كتبت مدام (هيركور) الشهيرة بالمدافعة عن حقوق النساء الى الفيلسوف الاشتراكي المشهور (برودون) تسأله رأيه في مسألة النساء أجابها كما يقول في كتابه (ابتكار النظام) بأن هذه الجهود المبذولة من النساء لا تدل إلا على علة أصابت جنسهن، وهي تبرهن على استعدادهن لتقدير قوة أنفسهن وسياسة أمورهن بذاتهن". وبعد أن برهن على ذلك بالأدلة العلمية قال: إن حالة المرأة في الهيئة الاجتماعية إذا جرت على النسق الذي تريدينه كما هو في حالة الرجل فيكون أمرها انتهى فانها تصير مستعبدة مملوكة[2]".

ويقول الفيلسوف الاقتصادي "جول سيمون" في مجلة المجلات (المجلد 17): "النساء قد صرن الآن نساجات وطباعات الخ الخ وقد استخدمتهن الحكومة في معاملها، وبهذا فقد اكتسبن بضعة دريهمات، ولكنهن في مقابل ذلك قد قوضن دعائم أسرهن تقويضاً، نعم إن الرجل صار يستفيد من كسب امرأته، ولكن بإزاء ذلك قل كسبه لمزاحمتها له في عمله، ثم قال: "وهناك نساء أرقى من هؤلاء يشتغلن بمسك الدفاتر، وفي محلات التجارات، ويستخدمن في الحكومة في وظيفة التعليم، وبينهن عدد عديدات في التلغرافات والبوسطات (هكذا) والسكك الحديدية وبنك فرنسا والكريدي ليونيه، ولكن هذه الوظائف قد سلختهن من أسرهن سلخاً"[3].

ويقول أيضاً (أجوست كونت) في كتابه السابق: "يجب أن يغذي الرجل المرأة: هذا هو القانون الطبيعي لنوعنا الانساني وهو قانون يلائم الحياة الأصلية المنزلية للجنس المحب (النساء) وهذا الاجبار (اجبار الرجل على تغذية المرأة) يشبه ذلك الاجبار الذي يقضي على الطبقة العاملة من الناس بأن تغذي الطبقة المفكرة منهم، لتسطيع هذه أن تتفرغ باستعداد تام لأداء وظيفتها الأصلية، غير أن واجبات الجنس العامل من الجهة المادية (الرجل) نحو الجنس المحب (المرأة) هي أقدس من تلك تبعاً لكون الوظيفة النسوية تقتضي الحياة المنزلية، ولكن بالنسبة للمفكرين فإن هذا الاجبار يكون تضامنياً فقط بخلافه بالنسبة الى النساء فإنه ذاتي". ثم يقول: "وفي حالة عدم وجود زوج ولا أقارب (للمرأة) يجب على الهيئة الاجتماعية أن تضمن حياة كل امرأة، إما في مقابل عدم استقلالها الذي لا يمكنها أن تتجنبه، وإما على الخصوص بالنسبة إلى وظيفتها الأدبية الضرورية، واليك في هذا الموضوع المعنى الحقيقي للرقي الانساني، يجب أن تكون الحياة النسوية منزلية على قدر الامكان، ويجب تخليصها من كل عمل خارجي ليمكنها على ما يرام أن تحقق وظيفتها الحيوية[4]". هـ.

ويقول (جيوم فربور) البحاثة الشهير في أحوال الانسان وتطوراته في (مجلة المجلات، المجلد: 18). "يوجد في أوروبا كثير من النساء اللواتي يتعاطين اشغال الرجال، ويلتجئن بذلك الى ترك الزواج بالمرة، وأولاء يصح تسميتهن بالجنس الثالث، أي انهن لسن برجال ولا نساء". ثم قال: وقد ابتدأ علماء العمران يشعرون بوخامة عاقبة هذا الأمر المنافي للسنن الطبيعية، فان هاته النسوة بمزاحمتهن للرجال صار بعضهن عالة على المجتمع لا يجدن ما يشتغلن به، ولو تمادى الحال على هذا المنوال لنشأ منه خلل اجتماعي عظيم الشأن[5]".

ويقول (جول سيمون): "يجب أن تبقى المرأة امرأة.. فإنها بهذه الصفة تستطيع أن تجد سعادتها وأن تهبها لسواها، فلنصلح حال النساء ولكن لا نغيرها، ولنحذر من قلبهن رجالاً، لأنهن بذلك يفقدن خيراً كثيراً ونفقد نحن كل شيء، فان الطبيعة قد أتقنت كل ما صنعته، فلندرسها ولنسع في تحسينها، ولنخش كل ما يبعد عن قوانينها وامثلتها[6]".

وتقول الكاتبة الشهيرة (أنى رورد) في مقالة نشرتها في جريدة (الاستران ميل) في عدد 10 مايو 1901: "لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاءً من اشتغالهن في المعامل، حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها الى الأبد، الا ليت بلادنا كبلاد المسلمين، فيها الحشمة والعفاف والطهارة رداء الخادمة والرقيق يتنعمان بأرغد عيش ويعاملان كما يعامل أولاد البيت، ولا تمس الأعراض بسوء. نعم إنه لعار على بلاد الانجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال. فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما بوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها؟[7]".

ويقول (جون سيمون) في مجلة المجلات الفرنسية: "المرأة التي تشتغل خارج بيتها تؤدي عمل عامل بسيط ولكنها لا تؤدي عمل امرأة[8]".

هذا ما كان من الغربيين منذ أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، ثم اشتدت حالة الأسرة سوءاً نتيجة كثرة اشتغال النساء خارج بيوتهن. وإنا لنذكر أن هتلر في أواخر أيامه قد بدأ يمنع الجوائز لكل امرأة تترك عملها خارج البيت وتعود الى بيتها، وكذلك فعل موسوليني يومئذ. وقد كثر في الآونة الأخيرة شكوى المفكرين الغربيين من انحلال الأسرة عندهم، وكثرت أبحاثهم لحل هذه المشكلة ويكادون يجمعون على أنه ليس هنالك من سبب لتفكك الأسرة إلا هجر المرأة بيتها لتعمل خارجه. قال الفيلسوف المعاصر "برتراندرسل": "إن الأسرة انحلت باستخدام المرأة في الأعمال العامة، وأظهر الاختبار أن المرأة تتمرد على تقاليد الأخلاق المألوفة، وتأبى أن تظل أمينة لرجل واحد إذا تحررت اقتصاديا[9]". حين كنت في لندن عام 1956 سألني أحد الأساتذة الانجليز: ما هو موقف الاسلام من الحضارة الغربية؟

فأجبته: نأخذ أحسن ما فيها ونترك أسوأ ما فيها.

قال: إن هذا غير ممكن، فالحضارة لا تتجزأ، وسأضرب لك مثلاً: إننا في أوروبا منذ بدأ عندنا عصر التصنيع بدء تفكك الأسرة، لأن المرأة صارت تشتغل في المعامل، وهذا أمر لا بد منه ومن هنا تفككت الأسرة.

فأجبته: بأن تفكك الأسرة عندكم ليس راجعاً في رأيي الى التصنيع، بل ناشيء من اخراج المرأة من بيتها، وأنتم الغربيون أخرجتموها لباعثين: الأول نفسي وهو رغبتكم في أن تروا المرأة بجانبكم في كل مكان.. في الترام وفي الطريق، وفي المتجر، وفي المطعم، وفي المكتب في دواوين الدولة، والثاني مادي أناني وهو أنكم لا تريدون أن تتحملوا نفقات المرأة من بنت أو زوجة أو أم، فأجبرتموها على العمل لتعيل نفسها بنفسها، فاضطرت لمغادرة البيت، ومن هنا تفككت الأسرة عندكم.

قال: وأنتم ماذا تفعلون في مثل هذه المشكلة؟

قلت: إن نظام النفقات في الاسلام يجبر الأب على الانفاق على بنته حتى تتزوج، فاذا تزوجت كانت نفقتها ونفقة أولادها على الزوج وحده، فاذا مات زوجها ولم يكن لها مال ولا ولد، فنفقتها على والدها وهكذا... إنها لا تجد نفسها في فترة من فترات حياتها في الغالب محتاجة الى أن تدخل المعمل لتأكل وتعيش...

وهنا قال صاحبي متعجباً: نحن الغربيين لا نستطيع أن نتحمل مثل هذه التضحيات!

وأذكر أننا حين كنا على ظهر الباخرة من ميناء دوفر بانجلترا الى ميناء اوستن في بلجيكا في تلك الرحلة العلمية، التقينا بفتاة ايطالية تدرس الحقوق في جامعة اكسفورد. وتحدثنا عن المرأة المسلمة وكيف تعيش وما هي حقوقها في الاسلام، وكيف وفر الاسلام لها كل مظاهر الاحترام حين اعفاها من مؤنة العمل لتعيش، بل جعلها تتفرغ لأداء رسالتها كزوجة وأم وربة بيت.. وبعد أن أفضنا في هذا الحديث وقارنا بين حال المرأة في الاسلام وبين حالها في الحضارة الغربية، قالت الفتاة بكل بساطة ووضوح: إنني أغبط المسلمة وأتمنى أن لو كنت مولودة في بلادكم؟ وهنا اغتنمت هذه الفرصة فقلت لها: هل ستحاولين أن تطلبي الى المرأة الغربية العودة الى البيت وأن يقوم الرجل بواجبه نحوها؟.

قالت: هيهات! لقد فات الأوان! إن المرأة الغربية بعد أن اعتادت حرية الخروج من البيت وغشيان المجتمعات، يصعب عليها جداً أن تعتاد حياة البيت بعد هذا ولو أني اعتقد في ذلك سعادة لا توازيها سعادة.

والواقع أن المجتمع الغربي يعاني من إهمال المرأة للبيت واشتغالها خارجه ما ارتفعت منه الشكوى وما ظهر أثره الواضح في هذا الجيل الجديد الذي نشأ عندهم ويسمى في ألمانيا (هالب شتارك) وفي غيرها (جيمس دين) هذا الجيل الصاخب الفوضوي الذي يطيل شعره ويطلق لحيته ويلبس لباساً غريباً.. ويعربد في الشوارع، ويقلق الراحة العامة، ويحطم الحانات والمقاهي، وهو الآن يشغل رجال الأمن وعلماء التربية والاجتماع.. وقد أجمعت الآراء على أن سبب وجوده هو خلو البيت من المرأة. وقد بدأت المرأة الغربية أو بعض النساء هناك يطالبن بالعودة الى البيت للتفرغ الى اولادهن على أن يجبر الزوج أو الدولة على تأمين معيشتها ومعيشة أولادها. فقد نشرت مجلة "الأسبوع الألمانية" وهي أكبر مجلة أسبوعية تصدر في ميونيخ بألمانيا رسالة من سيدة ألمانية بتاريخ 29/08/1959 تقول فيها: "دوما يسمع الانسان ويقرأ كيف قضي على الزوجات والأمهات اللاتي يمارسن عملاً (مثلاً إنهن لا يحصلن على الكفاية) بغض النظر عن النسبة القليلة اللواتي يمارسن عملاً حقيقياً حسب وظيفتهن، فقلائل تلك السيدات اللواتي يعملن من أجل حاجتهن الكمالية... إن أغلب النساء يعملن لأنهن يجب أن يعملن، ولأن ايراد الرجل قليل لا يكفي حاجيات العائلة الضرورية.. أنا نفسي مثلاً يجب أن أرسل ولدي كل صباح من البيت حتى أستطيع الذهاب الى العمل، لأن ما يكسبه زوجي للبيت لا يكفي لمعيشتنا. إنني أرغب البقاء في منزلي ولكن طالما إن "اعجوبة الاقتصاد الألماني الحديث" لم تشمل كل طبقات الشعب فان أمراً كهذا (العودة الى المنزل) مستحيل ويا للأسف.

ويجمع كل من زار الغرب من الشرقيين وبخاصة العرب المسلمين، على أن المرأة هناك أصبحت في وضع مؤلم لا تحسد. وقد زرت أوروبا أربع مرات فما تألمت فيها لشيء كما تألمت لشقاء المرأة الغربية وابتذالها في سبيل لقمة العيش أو رغبتها في أن تكون مثل الرجل تماماً، وقد استطاع الرجل الغربي أن يستغل ضعف المرأة في هذه الناحية فسخرها الى أقصى الحدود في سبيل منافعه المادية وشهواته الجنسية، قد تأكد لي بعد كل ما رأيته أن المرأة المسلمة على ما هي عليه اليوم أسعد حالاً وأكرم منزلة من المرأة الغربية. وأزيد على ذلك أن الذين يخدعون بمظاهر حياة المرأة الغربية كما تبدو في السينما والتلفزيون والمجلات المصورة والحفلات العامة هم قصار النظر جداً، ففي أوروبا كلها عشرات من النساء يحللن مراكز مرموقة؟ بينما تعيش عشرات ملايين النساء فيها في حياة شقية مضنية تشبه حياة الارقاء، وقد تأكد لي أيضاً أن هذه الحرية التي نالتها بالعمل خارج البيت وحضور الحفلات العامة وغيرها هي أوقعتها في رق من نوع جديد لم تعرفه المرأة في أية حضارة من الحضارات السابقة. يقول الأستاذ شفيق جبري في كتابه "ارض السحر":

"إن المرأة في أمريكا أخذت تخرج عن طبيعتها في مشاركتها للرجل في اعماله، ان هذه المشاركة لا تلبث أن تضعضع قواعد الحياة الاجتماعية، فكيف تستطيع المرأة أن تعمل في النهار وأن تعنى بدارها وبأولادها في وقت واحد؟ فالمرأة الأميركية قد اشتطت في هذا السبيل اشتطاطاً قد يؤدي في عاقبة الأمر الى شيء من التنازع بينها وبين الرجل". وقد علقت على ذلك السيدة سلمى الحفار الكزبري من زعيمات الحركة النسائية في بلادنا وقد زارت أوروبا وأمريكا أكثر من مرة فقالت (في جريدة الايام تاريخ 3 أيلول (سبتمبر) 1962):

"يلاحظ الأديب الرحالة مثلاً الاميركان يوجهون اطفالهم منذ نعومة أظفارهم لحب الآلة والبطولة في ألعابهم، كما يلاحظ أن النساء أصبحن يمارسن أعمال الرجال في مصانع السيارات، وتنظيف الطرقات، فيتألم لشقاء المرأة في صرف شبابها وعمرها في غير ما يتناسب مع الأنوثة والطبيعة والمزاج، ولقد اسعدني ما قاله الاستاذ جبري لأني عدت من رحلتي للولايات المتحدة منذ خمسة أعوام وأنا أرثي لحال المرأة التي جرفها تيار المساواة الأعمى، فأصبحت شقية في كفاحها لكسب العيش، وفقدت حتى حريتها، هذه الحرية المطلقة التي سعت طويلاً لنيلها إذ أسمت أسيرة للآلة وللدقيقة، لقد أصبح التراجع أمراً صعباً، ومن المؤسف حقاً أن تفقد المرأة أعز وأسمى ما منحتها اياه الطبيعة. وأعني: أنوثتها، ومن ثم سعادتها، لأن العمل المستمر المضني قد أفقدها الجنات الصغيرات التي هي الملجأ الطبيعي للمرأة والرجل على حد سواء والتي لا يمكن أن تتفتح براعمها ويفوح شذاها بغير المرأة الأم وربة البيت، ففي الدور وبين أحضان الأسرة سعادة المجتمع والأفراد، ومصدر الالهام، وينبوع الخير والإبداع". وخلاصة القول في هذا الموضوع أننا لا بد لنا من أن نختار احدى الفلسفتين: فلسفة الاسلام الذي يصون كرامة المرأة ويفرغها لاداء رسالتها الاجتماعية كزوجة وأم، وفي سبيل ذلك يجب أن يتكفل المجتمع بضمان حاجاتها المعاشية، وذلك بالزام الزوج واقربائها الانفاق عليها وعلى أولادها، وليس في ذلك غضاضة عليها، ما دامت تتفرغ لأهم عمل اجتماعي فيه سعادة الأمم ورقيها. أو بين فلسفة الحضارة الغربية المادية التي ترهقها بمطالب الحياة وتجبرها على أن تكدح وتعمل لتأمين معيشتها، مع وظيفتها الطبيعية كزوجة وأم. وبذلك تخسر نفسها وأولادها ويخسر المجتمع استقرار حياة الأسرة فيه وتماسكها والعناية بها.

ونحن المسلمون ما رأينا خيراً من فلسفة الاسلام ونظامه: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون؟}

3- الإختلاط

هنا حقائق شرعية ينبغي أن نتذكرها في هذا الشأن:

1- لا يجيز الاسلام أن تبدي المرأة من زينتها ولا من سائر جسمها إلا وجهها وكفيها من غير زينة ولا بهرجة، فلا يجيز كشف الشعر والصدر والنحر والساعدين مما تفعله كثير من نسائنا وبناتنا المتأثرات بالحضارة الغربية.

2- لا يجيز الاسلام أن تخلو المرأة برجل أجنبي عنها ولو كانت محتشمة في لباسها ومظهرها. وفي ذلك جاء الحديث الشريف: "ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" وهذا شاهد معلوم مؤيد بالوقائع والحوادث المتعددة. وعلى هذا فلا يجيز الاسلام أن تستقبل المرأة في بيتها رجلاً أجنبيا عنها أو قريباً غير محرم لها مهما يكن صديقاً لزوجها أو للأسرة كما يقولون.

3- لا يجيز الاسلام أن تختلط المرأة بالرجال في الحفلات العامة أو المنتديات ولو كانت محتشمة، وإنما الذي يجيزه الاسلام أن تجتمع المرأة مع الرجال في ثلاث مواطن:

a. مواطن العبادة. فيجوز أن تحضر صلاة الجمعة وصلاة الجماعة على أن يكون مكانها منفصلاً عن الرجال.
b. في أماكن العلم. فيجوز أن تحضر المرأة مجالس العلم مع الرجال على أن تكون منفصلة عنهم أيضاً، وأن تكون مرتدية اللباس الشرعي الذي لا يبدي غير وجهها وكفيها.
c. في ميدان الجهاد حين يعلن النفير العام، فتخرج للجهاد مع الرجال على أن تكون منفصلة عنهم، لها مكانها الخاص وتجمعاتها الخاصة.

وفلسفة الاسلام في هذه الأحكام متمشية مع فلسفته الخاصة بالمرأة فهو يرى أن إكرامها يكون بالاعتراف بحقوقها التي تقتضيها اهليتها، وبابعادها عن مواطن الشباب ومزالق الشهوات حتى تكون لها سمعتها العطرة كفتاة يتزاحم الشباب على الاقتران بها، وكزوجة يتحدث الناس عن اخلاصها لزوجها واستقامتها، وكأم تعرف كيف تغرس في نفوس أبنائها وبناتها معاني الشرف والفضيلة، والكرامة والرجولة الكاملة أو الأنوثة الفاضلة. فكل ما يفوت على المرأة هذه الأجواء الكريمة يقصيها الاسلام عنها، ولو كانت في ذاتها من أفضل النساء وأعفهن، فإن ألسنة السوء تتناول الصالحة والطالحة حين التعرض للشبهات، والنفس أمارة بالسوء، وطبيعة الرجل اذا التقت مع طبيعة المرأة كان منهما ما يكون بين كل رجل وامرأة من الميل والأنس والاستراحة الى الحديث والكلام، وبعض الشيء يجر الى بعض الشيء، وإغلاق باب الفتنة أو الشبهة احزم وأحكم وأبعد عن الندامة في المستقبل. لهذا كله يتشدد الاسلام في منع اختلاط النساء بالرجال، وقد قامت حضارته الزاهرة التي فاقت كل الحضارات في انسانيتها ونبلها وسموها على الفصل بين الجنسين، ولم يؤثر هذا الفصل على تقدم الأمة المسلمة وقيامها بدورها الحضاري الخالد في التاريخ. واليوم وقد امتدت الينا عدوى عادات الغربيين في كل شيء، بدأت مجتمعاتنا تفتح صدرها للاختلاط في الحفلات العامة، وفي دور السينما وغيرها، ثم امتدت الى الحفلات الرسمية، فبدأت الدعوات توجه الى الرجل وعقيلته، ومن المؤسف أن هذه العدوى امتدت أخيراً الى سفارات عربية اسلامية تمثل دولاً عرفت في العالم كله بأنها دول اسلامية، فكان على سفاراتها أن تراعي تمثيلها لأخلاق دولها وآداب دينها، ولكنه التقليد الأعمى لما يشكو منه عقلاء الغربيين أنفسهم.

ومن الواجب أن نذكر هنا تأثير اختلاط المرأة كما نعرفه في أوروبا على حضارة الأمة ونهضتها، وأثر ذلك في سقوط الحضارتين اليونانية والرومانية، وفي سقوط الحضارة الغربية الحديثة. فمن المعلوم تاريخياً أن من أكبر أسباب انهيار الحضارة اليونانية تبرج المرأة ومخالطتها للرجال ومبالغتها في الزينة والاختلاط. ومثل ذلك حصل تماما للرومانيين، فقد كانت المرأة في أول حضارتهم مصونة، محتشمة فاستطاعوا أن يفتحوا الفتوح ويوطدوا أركان امبراطوريتهم العظيمة، فلما تبرجت المرأة وأصبحت ترتاد المنتديات والمجالس العامة وهي في أتم زينة وأبهى حلة فسدت أخلاق الرجال، وضعفت ملكتهم الحربية وانهارت حضارتهم انهياراً مريعاً. تقول دائرة معارف القرن التاسع عشر:

"كان النساء عند الرومانيين محبات للعمل مثل محبة الرجال له، وكن يشتغلن في بيوتهن، أما الأزواج والآباء فكانوا يقتحمون غمرات الحروب، وكان أهم أعمال النساء بعد تدبير المنزل الغزل وشغل الصوف".

ثم دعاهم بعد ذلك داعي اللهو والترف الى إخراج النساء من خدورهن ليحضرن معهم مجالس الأنس والطرب، فخرجن كخروج الفؤاد من بين الأضالع، فتمكن الرجل لمحض نفسه من اتلاف أخلاقهن وتدنيس طهارتهن وهتك هيائهن حتى صرن يحضرن المراقص ويغنين في المنتديات، وساد سلطانهن حتى صار لهن الصوت الأول في تعيين رجال السياسة وخلعهم، فلم تلبث دولة الرومان على هذه الحالة حتى جاءها الخراب من حيث تدري ولا تدري. وقد قام في اليونان حكماء نبهوا أمتهم إلى أخطار التهاون في تبرج المرأة واختلاطها بالرجال. قالت دائرة معارف القرن التاسع عشر[10]: لما حصلت لدى الرومان ثورة يقصد بها نسخ القانون الذي كان يحدد بذخ النساء وتبرجهن. قام (كاتون) وهو ذلك الروماني المشهور بالفلسفة والحكمة بين جمهور الرومانيين في القرن الثاني قبل الميلاد وقال: "أتتوهمون معشر الرومانيين أنه يسهل عليكم احتمال النساء والرضاء بهن إذا مكنتموهن من فصم الروابط التي تقيد استقلالهن وتخضعهن لأزواجهن؟ ألم يصعب علينا حتى مع وجود هذه القيود إلجاؤهن إلى أداء واجباتهن؟ أما ترون أنهن سيصرن مساويات لنا وسيوقعننا تحت نيرهن؟ أي حجة مقبولة يمكنكم بسطها لتبرئة اجتماعهن الثوري؟ لقد أجابتني واحدة منهن قائلة إننا نريد أن نكون متلألئات في الذهب والأقمشة القرمزية، وأن نتمشى في طرق المدينة في أيام الأعياد وسائر الأيام الأخرى، ونركب في المركبات الفخمة لأجل أن نظهر انتصارنا (على ذلك القانون الممسوخ الذي يجبرهن علىعدم الابتذال) وأن نتمتع بحرية انتخابكم، ونريد أيضاً أن لا تضعوا حداً لنفقاتنا وبذخنا". "فيا أيها الرومان لقد سمعتموني كثيراً ما أشكوا من إسراف الرجال والنساء والعامة والمشترعين أيضاً، ولقد سمعتموني كثيراً ما أقول: إن الجمهورية مصابة بدائين متناقضين: الشح والبذخ، وهما الداءان اللذان قلبا الممالك العظيمة رأساً على عقب".

ثم أردفت دائرة معارف القرن التاسع عشر تقول: إن (كاتون) لم ينجح في دفاعه عن ذلك القانون، ولكن تحققت انذاراته كاملة، وفي حياتنا الاجتماعية الحاضرة التي يتمتع فيها النساء بحرية مفرطة نرى دناءة ذوقهن (كذا!...) وميلهن الشديد الذي يحملهن دائماً على الاشتغال بجمالهن وبكل ما يزيد حسنهن ورُواءهن، كل ذلك أكثر حظاً مما كانت عليه الحالة في روما. ثم قالت دائرة المعارف:

إنا لسنا أول من لاحظ هذا الأثر السيء الذي يحدثه حب النساء للزينة يوماً فيوماً على أخلاقنا، فان أشهر كتابنا لم يهملوا الاشتغال بهذا الموضوع الخطير. فكيف النجاة من هذا الداء الذي يقرض مدنيتنا الحالية ويهددنا بسقوط سريع جداً، وإن شئت فقل بانحطاط لا دواء له[11]. ومن الملاحظ أن عقلاء الأوروبيين بدؤوا يحذرون قومهم من المصير الذي انتهى اليه الرومان نتيجة الافراط في تبرج المرأة واختلاطها، فنجد العلامة (لويز برول) يقول في مجلة المجلات (المجلد 11) تحت عنوان السياسي ما يأتي: "إن فساد الأسس السياسية وجد في كل زمان، ومن الغريب المدهش أن عوامله في الزمن الغابر هي ذات عوامله في الزمن الحاضر، يعني أن المرأة كانت العامل الأقوى في هدم الأخلاق الفاضلة[12]". ثم أخذ هذا العالم يقارن بين العلامات المنذرة اليوم وبين ما كان في عهد جمهورية الرومان حتى قال:

"لقد كان الرجال السياسيون في آخر عهد الجمهورية الرومانية يعيشون صحبة النساء ذوات الطبائع الخفيفة اللاتي كان عددهن بالغاً في الكثرة، فصار الحال اليوم كما كان في ذلك العهد ترى النساء اندفعن في تيار الحب البالغ حد الجنون وراء البذخ واللذات". وقالت الكاتبة الانجليزية (اللادي كوك) في جريدة (الايكو): "إن الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها، وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، وههنا البلاء العظيم على المرأة". ثم قالت: "أما آن لنا أن نبحث عما يخفف – إذا لم نقل عما يزيل – هذه المصائب العائدة بالعار على المدنية الغربية؟ أما آن لنا أن نتخذ طرقاً تمنع قتل ألوف الآلاف من الأطفال الذين لا ذنب لهم بل الذنب على الرجل الذي أغرى المرأة المجبولة على رقة القلب". "يا أيها الوالدان! لا يغرنكما بعض دريهمات تكسبها بناتكما باشتغالهن في المعامل ونحوها، ومصيرهن إلى ما ذكرنا، علموهن الابتعاد عن الرجال، أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد، لقد دلنا الاحصاء على أن البلاء الناتج عن حمل الزنا يعظم ويتفاقم حيث يكثر إختلاط النساء بالرجال، ألم تروا أن أكثر أمهات أولاد الزنا من المشتغلات في المعامل والخادمات في البيوت وكثير من السيدات المعرضات للأنظار، ولولا الأطباء الذين يعطون الأدوية للاسقاط لرأينا أضعاف ما نرى الآن، لقد أدت بنا هذه الحال الى حد من الدناءة لم يكن تصورها في الإمكان... وهذا غاية الهبوط بالمدنية[13]".

وقال شوبنهور الفيلسوف الألماني في كتابه "كلمة عن النساء": "قل هو الخلل العظيم في ترتيب أحوالنا الذي دعا المرأة لمشاركة الرجل في علو مجده وباذخ رفعته، وسهل عليها التعالي في مطامعها الدنيئة (كذا..) حتى أفسدت المدنية الحديثة بقوي سلطانها ودنيء آرائها (كذا...)." ويجدر بي أن أذكر هنا ما قاله اللورد (بيرون) في كتابه "الرسائل والجرائد" جزء 2 ص 399 قال: لو تفكرت أيها المطالع فيما كانت عليه المرأة في عهد قدماء اليونان لوجدتها في حالة يقبلها العقل، ولعلمت أن الحالة الحاضرة (حالة المرأة) لم تكن غير بقية من همجية القرون الوسطى (عند الغربيين): حالة مصطنعة مخالفة للطبيعة، ولرأيت معي وجوب اشغال المرأة بالأعمال المنزلية مع تحسين غذائها وملبسها فيه، وضرورة حجبها عن الاختلاط بالغير، وتعليمها الدين، وابعادها عن الشعر والسياسة، وعن قراءة كل كتاب يبحث في غير الدين والطباخة[14]".

أقول: إن ديننا لا يسمح بوصف النساء بما وصفهن شوبنهور، ولكن ذكرته للعظة والاعتبار. وكتب الأستاذ (جيوم فريرو) في المجلد الأول من مجلة المجلات ما يلي: إن العلامات المنذرة بقرب حلول الأزمة النهائية لهذا الشكل من المدنية الذي تعيش فيه كثيرة جداً "بحيث لا يمر يوم حتى يقف الباحث على إنذارات جديدة فيه، فلنعط نحن أيضاً أنفسنا وظيفة الطبيب، ولنجتهد في مساعدة ما شخصه الأطباء من هذا المرض الاجتماعي في زماننا هذا بدرس الشكل الجديد من الرهبنة التي مع عدم استنادها الى دين تهددنا بأنها ستصل الى الحد الذي وصلت إليه الرهبنة الدينية في زمن من أزمنة القرون الوسطى". إلى أن يقول: "إن الشروط الاجتماعية الحالية تستدعي عفة المرأة في عزوبتها، والعفاف يقتضي حذف وظيفة الأمومة وهي الوظيفة التي خلقت المرأة لأجلها جسما وروحاً، لا شك إذاً أن في هذه الحالة يجب أن تفسد شخصيتها فسادا ذريعاً، ولا شك أيضاً في أن عدداً كبيراً من هذه النسوة يحدثن آثاراً هائلة على الهيئة الاجتماعية[15]".

حجة المنادين بوجوب اشتغال المرأة

لا بد لنا من أن نتعرض لأهم حجة يستند إليها المتحمسون في بلادنا لاشتغال المرأة خارج بيتها، وهي أن إشتغالها يزيد في الثروة القومية للبلاد، وان البلاد تخسر كثيرا بقصر عمل المرأة على أعمال البيت، عدا ما فيه من تعويد على الكسل وقتل وقتها بما لا يفيد، ويتندر بعضهم بسمن النساء في بلادنا سمناً لا يوجد مثيله في البلاد الغربية التي يشتغل فيها نساؤها. ودحض هذه الحجة "الاقتصادية" سهل إذا تذكرنا الحقائق التالية:

1- إن اشتغال المرأة يؤثر على الحياة الاقتصادية تأثيراً سيئاً، باعتبار أن إشتغالها فيه مزاحمة للرجل في ميدان نشاطه الطبيعي، مما يؤدي الى نشر البطالة في صفوف الرجال، كما وقع في بلادنا منذ أخذت المرأة طريقها الى وظائف الدولة فقد أصبح عدد كبير من حملة الشهادات الثانوية والعليا عاطلين عن العمل، يملؤون المقاهي، ويقرعون أبواب الحكومة طلباً للوظائف، بينما تحتل أمكنتهم فتيات لا يحملن غالباً مثل مؤهلاتهم وكفاءاتهم. ومثل ذلك يقع الآن في أمريكا فقد أدت مزاحمة المرأة للرجل إلى بطالة متفسية في الرجال تزداد يوماً بعد يوم، وسترى في "الملاحق" ما يؤيد هذا.

2- إذا ثبت أن إشتغال المرأة يؤدي الى بطالة الرجل، كان من المحتمل أن يكون هذا الرجل الذي زاحمته زوجها أو أباها أو أخاها، فأي ربح إقتصادي للأسرة، إذا كان اشتغال المرأة يؤدي إلى بطالة عميدها والمكلف بالانفاق عليها؟

3- إن مصالح الشعوب لا تقاس دائماً بالمقياس المادي البحت، فلو فرضنا أن اشتغال المرأة يزيد في الثروة القومية، إلا أنه من المؤكد أن الأمة تخسر بذلك خسارة معنوية واجتماعية لا تقدر، تلك هي خسارتها بانسجام الأسرة وتماسكها، فقد ذكرنا فيما مضى – وسترى ذلك في الملاحق – أن الغرب خسر كثيراً باشتغال المرأة، حيث انهار صرح الأسرة، وفسدت أخلاق الأولاد، فأي الخسارتين أبلغ ضرراً في الأمة؟ الخسارة المادية! أم الخسارة الاجتماعية! إن الين يلحون على ضرورة إشتغال المرأة خارج بيتها لتكسب البلاد نتيجة عمل المرأة، لا يبالون بما تخسره البلاد من تفكك الأسرة، وفقدان الرقابة والرعاية على تربية أبنائها وبناتها، ومثل هؤلاء يتبنون فلسفة مادية بحتة – وهذا ما تفعله الشيوعية تماماً – ولكن المجتمع لا تتم سعادته إذا نظر الى القيم الأخلاقية والروحية والعائلية نظرة ثانوية أو نظرة ازدراء، ومجتمعنا مجتمع متدين تسيّر سلوكه المبادئ الأخلاقية التي جاءت بها أديانه، فلا يمكن أبداً أن ينظر إلى الأسرة بالمنظار الذي تنظر به الشيوعية والحضارة الغربية المادية اليها، وإلا كان ذلك خراباً للمجتمع في نظر أديانه ومبادئه ومثله الخلقية، ورسالته الانسانية.

إن النظر الى كل فرد في المجتمع كآلة منتجة لا تهتم الدولة إلا بزيادة إنتاجها، هو رجوع بالانسان الى الوراء.... إلى عهود الرق والعبودية والسخرة... وهذا ما لا ترضاه الانسانية الكريمة في انسان مجتمعنا المتدين الراقي بعواطفه وأخلاقه ومثله العليا...

4- على أن هذه النظرة المادية لا تنطبق على واقع حياتنا وحياة المجتمعات الأخرى حتى في الشيوعية نفسها، فهنالك – في كل مجتمع – فئات معطلة عن الانتاج المادي، فالجيوش والموظفون لا يزيدون في ثروة الأمة المادية، وقد رضيت كل الأمم بأن يتفرغ الجيش لحماية البلاد، دون أن تلزمه بالعمل والكسب، فهل يقال أن هذا تعطيل للثروة البشرية يؤدي الى انخفاض الثروة القومية في البلاد؟ أم إن هؤلاء المنادين باشتغال المرأة خارج بيتها يوافقون على حرمان الأمة من جهود أفراد الجيش الاقتصادية في سبيل مصلحة أعلى وأثمن من المنفعة الاقتصادية؟ وإذا كان كذلك فهل يكون التفرغ لشؤون الأسرة أقل فائدة للأمة من تفرغ الجيش لحماية البلاد؟ أم يريدون أن ترهق المرأة بالعملين معاً؟ إن حياة الناس – أي ناس كانوا – ليست كلها تحسب بحساب الربح والخسارة المادية، فالكرم والشهامة والتضحية والوفاء، وبذل العون للآخرين كل ذلك خسران مادي، ولكنه ربح عظيم لا يتخلى عنه الناس الشرفاء الذين يعتزون بكرامتهم الانسانية. وليست صيانة الأسرة، ورعاية الطفولة، وتربية الأولاد بأقل شأناً في نظر الانسان الراقي المعتز بانسانيته من تلك القيم الاخلاقية التي لا تقاس بالمقياس المادي البحت. وأخيراً فإن خوض الأمة معارك الدفاع عن حياتها أو انتزاع استقلالها من أيدي المغتصبين، ترحب به كل أمة، بل لا تستطيع أي أمة كانت أن تفعل غيره، فكم تحلق بالأمة من خسائر مادية وبشرية في سبيل الدفاع المشروع؟ وهل يجرؤ أحد على أن يدعو الأمة الى تسريح جيشها، وعدم شراء الأسلحة والذخائر أو صنعهما، وعدم مقاومة المغيرين المعتدين بحجة أن في ذلك كله خسارة مادية، واضراراً بالانتاج القومي والثروة العامة في البلاد؟.

5- ثم أي معنى لقول من يقول: ان وجود المرأة في البيت يعودها الكسل ولذلك تسمن نساؤنا أكثر من الغربيين، إن مثل هؤلاء لا يعرفون متاعب البيت وأعماله، وكيف تشكو المرأة من عنائه، فما يمسي المساء إلا وهي منهوكة القوى تروح عن نفسها بالاجتماع الى جاراتها وصديقاتها. والبنت ما دامت في المدرسة فهي تتلقى العلم فلا يجوز ارهاقها بالعمل معه. واذا انتهت من المدرسة لا تمكث في بيت أبيها وأمها إلا بمقدار ما تتهيء للانتقال الى بيت الزوجية، فهي في هذه الحالة تتلقى دروساً عملية عن أمها في إدارة البيت وأعماله وشؤونه، فلا يجوز مع ذلك إرهاقها بالعمل خارج البيت.... إن الذي أؤكده في الموضوع أن اعمال المرأة في البيت – بنتاً كانت أم زوجة – لا تقل عن أعمالها خارج البيت مشقة وعناءً. وكثيرا ما تكون أكثر مشقة وإرهاقاً.

أما ما يزعمون من سمن المرأة الشرقية فهذه نكتة لا تستحق المناقشة لولا اننا سمعناها كثيرا من هؤلاء المتحمسين لعمل المرأة خارج بيتها، ذلك أن السمن والنحافة تابعان لنظام التغذية "ومما لا ينكر أن نظامنا في الطعام يؤدي الى السمنة في الرجل والمرأة على السواء، بل الملاحظ أن السمن عند الرجال في الغرب كما شاهدنا ذلك، ويؤكد هذا ان الاعراب المقيمين في الصحراء قل أن يوجد فيهم السمين، ولقد لاحظت في احدى المرات التي أديت فيها فريضة الحج وقد حضره من مختلف أنحاء الجزيرة العربية ما يبلغ نحواً من ثلاثمائة ألف بدوي، لاحظت حينئذ أنه قل أن يوجد بينهم سمين، بل إني لم أر من هذا العدد الضخم سميناً واحداً قط. فالقضية تابعة لنظام التغذية ونوع الغذاء لا الى الراحة أو التعب.

الخطر المرتقب:

من هذا كله يتبين لنا أن الخطر الذي يحدق اليوم بالحضارة الغربية كما أحدق من قبل بالحضارتين اليونانية والرومانية نتيجة تبرج المرأة واختلاطها الفاحش بالرجال، سيحدق بنا نحن أيضاً مع فارق واضح، وهو أن هذه الحضارات التي كان تبرج المرأة مرضاً من أمراضها القاضية عليها قد بلغ أصحابها ذروة الحضارة عندهم، بينما يحدق بنا الخطر ونحن في أول طريق النهوض والتقدم، ومن العجيب أن يريد لنا بعض الناس أن نبدأ من حيث انتهى غيرنا، وأن نساير الغربيين في أمر بدؤا يعلنون أنه سيقضي على حضارتهم. وليس للأمة مصلحة في استجلاب هذا الخطر الى بيوتها وأسرها، وهي هانئة تنعم بالاستقرار والتماسك وجو الحب والثقة، الأمر الذي لا يعرفه الغربيون بعد أن تفشت فيهم تلك الأمراض، بل بدؤا يحنون اليه ويعلنون عن أسفهم للحرمان منه.

خطر أدباء الجنس:

وفي يقيني أن هؤلاء الذين يحرضون المرأة في أدبهم على الخروج على الآداب الصالحة التي عرفنا بها، ويغرونها بأن تتبع طريق المرأة الغربية ويعملون على حرمانها من هدوئها وسعادتها، يحملون أكبر وزر من انجراف المرأة والمجتمع في هذا التيار الضار، وقد كان الظن بهم أن يكونوا رواد نهضة حقيقية تبعث في الأمة روح الكفاح وتحبذ لها حياتها الأسروية الهانئة، ليكون مجتمعنا في نهضته الجديدة مجتمعاً متماسكاً قوي البنيان، إن هؤلاء الناس من أدباء الجنس يحملون بأيديهم معاول التهديم في صرح كياننا الداخلي المتين، وهم في هذا الطريق الذي اختطوه لا يريدون بذلك مصلحة الأمة ولا يندفعون وراء عقولهم. بل وراء أهوائهم وشهواتهم، وهم يبغون منه الاثراء المادي بنشر هذا الأدب الرخيص المدمر بين الشباب والفتيات ليقبلوا عليه ويلتهموا ما فيه. إني لا أرى فرقاً بين أثرياء الجنس وأثرياء الحرب، فكلاهما يجد في الأزمات فرصة للربح والكسب، بل في رأيي ان أثرياء الجنس أشد خطراً وأسوأ أثراً، فلماذا نتركهم يخربون بيوتنا باسم الحرية، وما كانت الحرية الخالصة من الشوائب إلا حرية بناء لا تهديم، وحرية تقدم حقيقي لا رجوع الى الوراء آلاف السنين حين كان الانسان ينطلق وراء شهواته لا يبالي بمجتمع ولا يتقيد بنظام؟

ومن الغريب أن أدباء الجنس يقصرون انتاجهم كله على هذا النوع المؤدي الى تفسخ الاخلاق وانحلال الأسرة وشيوع الميوعة، بينما نعيش أخطر مرحلة في تاريخنا كله، مرحلة الكفاح مع اسرائيل، والكفاح – كما تعلم – يقتضي أدب الرجولة لا أدب الميوعة، وأدب القوة لا أدب الضعف، وأدب التضحية لا أدب المنفعة، وأدب الحرمان لا أدب اللذة وإحياء الغرائز والشهوات. إني لأهيب بعقلاء الأمة، وشبابها وفتياتها الفاضلات الطاهرات، وبجمعياتها النسائية، أهيب بكل مخلص في هذه الأمة رجالاً ونساءً، أن يقفوا في وجه هؤلاء العابثين يمنعونهم من التخريب باسم حرية الكلمة، ويشعرونهم أن شرف الكلمة قبل حريتها، وأن تنظيم الطاقات الجنسية هو غير كبتها كما يزعمون وأننا في معركة لا سلاح لها إلا العلم والإيمان والاخلاق، وإن كل من يريد أن يُدخل الى بيوتنا.. الى بناتنا... الى زوجاتنا.. مرض الاباحية والتحلل الأخلاقي إنما هم لصوص سارقون، سارقون لأشرف ما تحتفظ به الأمة من أخلاق، وأكرم ما تعتز به من فضائل.. نحن نقول لهؤلاء.. اتركوا لنا بناتنا عفيفات، اتركوا لنا زوجاتنا وفيات مخلصات.. اتركوا لنا شبابنا شباب ثورة وكفاح لا شباب ميوعة وانحلال.. إن الذي يريد أن يهدم بيتي لا أتركه يتم جريمته باسم الحرية، ولكن آخذ على يده باسم القانون، ولا أتركه يحرق بيتي باسم الفن، ولكن أحول منه وبين ما يريد باسم الحق، باسم الكرامة، باسم القوة التي نحن أحوج ما نكون اليها. والفن اذا لم يخدم مبادئ النهضة الأساسية في الأمة كان عبثاً ولهواً وفساداً[16].

التضليل باسم التحرير

إن كل ما يقال حول قضية المرأة و "تحريرها" كلام فيه قليل من الحق وكثير من الباطل والتضليل، ليس في بلادنا قضية باسم "تحرير المرأة" بعد أن حررها الاسلام، وإنما هي مشكلة كانت عند الغربيين ولا تزال، وليس طلب الاسلام حشمة المرأة وتفرغها لاداء رسالتها الاجتماعية الكبرى "كبتا" للطاقة، بل "تنظيم" لها، والتنظيم غير الكبت، ووضع كل شيء في موضعه ومنعه من تجاوز حده، أمر غير الفوضى والانفلات من كل حق للأسرة أو المجتمع. وكلنا يعلم الفرق بين "الكبت" وبين "التنظيم" كما يعلم الفرق بين "التخريب" وبين "البناء" وبين "القانون" وبين "الفوضى".

[1] دائرة معارف فريد وجدي: 8/605 – 606.

[2] أيضاً: 8 / 605 - 606.

[3] المصدر السابق: 8 / 606.

[4] المصدر السابق: 8 /612 – 614.

[5] أيضاً: 8 / 616.

[6] أيضاً: 8 / 616.

[7] مجلة المنار للسيد رشيد رضا رحمه الله: المجلد الرابع ص 486.

[8] الاسلام روح المدنية للشيخ مصطفى الغلاييني ص 199 الطبعة الجديدة.

[9] الاسلام والحضارة الغربية لكرد علي: 2 / 92.

[10] دائرة معارف فريد وجوي: 8/618.

[11] أيضاً: 8/619، 624.

[12] المصدر السابق: 8/621.

[13] مجلة المنار للسيد رشيد رضا: / 486.

[14] الاسلام روح المدنية للغلاييني: 248 من الطبعة الجديدة.

[15] دائرة معارف حدين: 8/611.

[16] أشبعت هذه المعاني ايضاحاً في كتابي "هكذا علمتني الحياة" الذي صدر حديثاً.

الخاتمة

خلاصة رأينا في قضية المرأة:

وأحب أن أوجز خلاصة رأيي في قضية المرأة:

1- يجب تعليمها، وجعل برامج التعليم للبنات يختلف قليلاً عن برامج التعليم للشبان بما يهيؤها لحياتها في المستقبل.

2- يجب أن تتمتع بجميع الحقوق التي منحها إياها الإسلام – وقد ذكرتها في أول هذا البحث.

3- يجب العناية باعدادها لأيام النكبات والحروب، فنحن معرضون لحروب دامية اقليمية أو عالمية، فيجب أن تتعلم ما يتعلق بالدفاع المدني، والاسعاف المنزلي وغيره، وأن تتدرب على استعمال السلاح واتقان الرمي والدفاع، وكل ذلك يجب أن يتم في حدود الاخلاق الاسلامية.

4- يجب أن يضيق من نطاق توظيفها في الدولة، بحيث لا توظف إلا في وظائف تتفق مع رسالتها ومع طبيعتها، كالتطبيب للنساء، وتطبيب الأطفال، والتعليم في مدارس الأطفال، وفي المدارس الثانوية للبنات وما أشبهها من أعمال التوجيه الاجتماعي للأسر والعائلات.

5- يجب أن تهيء لأداء رسالتها الاجتماعية النبيلة بما يجعل منها امرأة صالحة لتكوين الأسرة "والاشراف على شؤون البيت والأولاد".

6- يجب منع اختلاطها بالرجال الأجانب عنها، إلا ما تقتضيه الضرورة الماسة في حدود الأخلاق الاسلامية، ومن ذلك أداؤها للعبادات في المساجد، وتلقيها العلم في الجامعات.

7- يجب عدم افساد سعادتها بالاشتغال بالسياسة، لتصان داخل المجتمع – وهو مجموع العائلات فيه – من خطر الخلافات الحزبية، ولتفرغ لاداء رسالتها الكبرى.

8- يجب أن تهيء للقيام بالصلاح الاجتماعي والاخلاقي في الأوساط النسائية، فعائلاتنا وأمهاتنا ونساؤنا في أشد الحاجة الى وعي حقيقي تعرف به المرأة كيف تؤدي رسالتها على أكمل وجه، والمرأة أقدر من الرجل وأصلح منه للقيام بهذا العمل الاصلاحي العظيم في أوساط النساء.

9- يجب أن لا يسمح للمرأة بالاشتغال خارج منزلها، إلا حين تكون فقيرة لا عائل لها من زوج أو أب أو قريب، وذلك الى أن ينفذ نظام الاسلام القاضي بإعالة مثل هؤلاء من بيت المال دون إلجائهن الى ذل الكسب وإرهاق مطالب العيش.

10- يجب منع التبرج وإبداء ما حرم الله إبداءه من جسمها وزينتها، ويجب وضع القوانين التي تحقق ذلك، ومعاقبة من تصر على إبداء معالم فتنتها للرجال بعقوبات متناسبة مع وضع المرأة ونفسيتها.

11- يجب إيقاف هذا الطوفان الخطير من أدب الجنس، وأن تتعاون الحكومة مع الشعب في هذا الشأن، وفي اعتقادي أن عبء هذا الايقاف يقع أثقله على عاتق سيداتنا وآنساتنا الفضيلات، بأن يبدين رأيهن صريحاً في استنكار هذا النوع من الأدب واستهجانه.

كلمة أخيرة

وأخيراً فما لا أخشى لومة لائم حين أعلن أن أمتنا لا ترضى أن تخرج عن حدود دينها، لأنها مقتنعة بصلاح نظامه وفلسفته، وأن كل خروج على حدود ما جاء به الاسلام نحو المرأة سيقابل من علماء الأمة وعقلائها، من جيلها المؤمن، من نسائها وبناتها الفضيلات الكريمات، بالرفض والاعراض والمحاربة لكل من يحمل لواء مثل تلك الدعوة الآثمة. ولسنا مؤاخذين بعد أن نقوم بهذا الواجب، اذا انتشر هذا التيار المخالف للاسلام وللحق ولمصلحة المجتمع، برغم مقاومتنا له، فحسبنا أننا عملنا وسنعمل في تنوير الأذهان، وتبيين الأخطاء بكل ما في وسعنا من جهد، واذا استمر التيار بعد ذلك في تدفقه يخرب ويهدم، فيكفينا في انصاف التاريخ أن نقف موقف "كاتون" ويكفينا من ثواب الله أن يصدق علينا قوله تعالى {واذ قالت منهم لِمَ تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يرجعون}. حسبنا أننا قمنا بالواجب ونبهنا الى الخطر، وفرقنا بين الحق والباطل في هذه القضية الخطيرة. ولئن بدا للناس أن هذا التيار لا يمكن ايقافه لوقوعنا تحت سلطان الحضارة الغربية المادي والمعنوي، فان الواضح أيضاً أنه قد أصبح للحق الذي ننادي به جيش ضخم من الشباب المؤمن والشابات المؤمنات، عاهدوا الله عهداً لا رجعة فيه على أن يجهروا بالحق ويحملوا لواءه، ويكافحوا في سبيله، غير عابئين بالعقبات، ولا مكترثين بالاتهامات من فئات تحيط بها كل الشبه والاتهامات. هذا الجيش المؤمن الذي انتشر جنوده في جميع أنحاء العالم العربي والاسلامي ليس الا امتداد لكتائب الخير التي حملت لواء الكفاح مع الشر منذ ابتدأ الصراع بين الخير والشر على ظهر الأرض، وسيمضون في طريقهم يرددون قوله تعالى: {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار}.

الملاحق

تمهيد

هذه الملاحق التي ألحقناها بالكتاب – دون المحاضرة – إنما نتوخى منها كما قلت في المقدمة تأييد ما أوردناه في الكتاب من آراء في مختلف شؤون المرأة وقصدنا من ذلك أن يفتح المخدوعون بمظاهر حياة المرأة في الغرب وتمتعها بحريتها المزعومة، أعينهم على واقع تلك الحياة البراقة الخادعة، فيعلموا أن الاسلام كان قبل أربعة عشر قرناً أهدى سبيلاً من هذه الحضارة، وأبعد نظراً، وأكثر تقديراً واحتراماً للمرأة، حين رفع من شأنها وأعطاها حقوقها، كما كان أحرص على سعادتها وهنائها، حين منعها من التبرج والاختلاط، ووقاها شقاء العمل وأضراره لها، بالزام الرجل الانفاق عليها لتتفرغ لشؤون الأسرة وتربية الأطفال. وسيرى القارئ أن كل ما أوردناه في هذه الملاحق، أسندناه الى المراجع الغربية ذاتها أو الى غيرها من كتب وصحف ومجلات وأنباء.

المرأة قبل الاسلام

جاء في المجلد السادس من مجلة الأزهر ص 721 عن مقال نشر في المجلة الاسلامية التي تصدر بلندن تحت عنوان "الاسلامية والمسيحية" ما يلي:

إن الاسلام قد اعتبر المرأة مستقلة في نظر القانون، وأعطاها حق حيازة الملك، وجعلها مسؤولة عما تدخل فيه من الالتزامات، وتعلمون أن الحال ليست كذلك في نظر أوروبا المسيحية، ففي أغلب الممالك الأوروبية تنتقل ملكية أملاك المرأة الى زوجها عند الزواج، وفي انجلترا تصبح المرأة في نظر القانون العام هي وزوجها شخصاً واحداً، ليس لها الحق وحدها في التملك أو الدخول في الالتزامات، ثم جاء قانون 1882 لملكية النساء المتزوجات، فأعطاهن الحق الذي لم يتمتعن به من قبل، فأصبحت المرأة مسؤولة عما تدخله من الالتزامات والتعهدات بقدر أملاكها الخاصة إلا أن هذا القانون لم يجعل الزوج خالياً من تبعة تصرفات زوجته، فإن للمدعي حق الاختيار بين مقاضاة الزوجة بمفردها أو إشراك زوجها معها، وإذا لم يكن للزوجة مال خاص أمكن للمدعي مقاضاة الزوج بصفته مسؤولاً عن تصرفات زوجته. نستنتج من ذلك أن فكرة الاسلام في اعتبار المرأة مستقلة أمام القانون سبقت كل ما أحدثه فقهاء الغرب، ثم اننا نجد غير ذلك: أن كل شخص ذكراً كان أو أنثى، له الحق في الميراث، ولا يمكن سلبه هذا الحق (أي في الشريعة الاسلامية) فاذا قارنا ذلك بالحرية المطلقة في الوصية في القانون الانجليزي (بحيث يستطيع حرمان جميع ورثته) نحمد الله على ما هدانا اليه من ضرورة الاعتراف بحقوق الأسرة.

بيع الزوجات في أوروبا

قال الأستاذ السيد رشيد رضا في كتابه: "نداء للجنس اللطيف" ما يلي:

يقول الفيلسوف "هربرت سبنسر" الانجليزي في كتابه "علم وصف الاجتماع" إن الزوجات كانت تباع في انجلترا فيما بين القرن الخامس والقرن الحادي عشر، وإنه حدث أخيراً في القرن الحادي عشر أن المحاكم الكنيسة سنت قانوناً على أن للزوج أن ينقل أو (يعير) زوجته الى رجل آخر لمدة محدودة حسبما يشاء الرجل المنقولة اليه المرأة، وشرٌ من ذلك ما كان للشريف النبيل (حاكما روحانياً كان أو زمنياً) من الحق في الاستمتاع بامرأة الفلاح الى مدة أربع وعشرين ساعة بعد عقد زواجها عليه (أي على الفلاح). وفي سنة 1567 ميلادية صدر قرار من البرلمان الاسكوتلاندي بأن المرأة لا يجوز أن تمنح أي سلطة على أي شيء من الأشياء. وأغرب من هذا كله أن البرلمان الانجليزي أصدر قراراً في عهد هنري الثامن ملك انجلترا يحظر على المرأة أن تقرأ كتاب العهد الجديد، أي يحرم عليها قراءة الاناجيل وكتب رسل المسيح. ويقول السيد رشيد معقباً على هذا: فأين هذا من وضع الصحابة المصحف الأول الذي كتب في خلافة أبي بكر عند امرأة وهي حفصة أم المؤمنين؟ ويعقب السيد رشيد على بيع النساء في انجلترا بقوله: من الغرائب التي نقلت عن بعد صحف انجلترا في هذه الأيام (أي منذ ثلاثين سنة تقريباً) أنه لا يزال يوجد في بلاد الارياف الانجليزية رجال يبيعون نساءهم بثمن بخس جداً، كثلاثين شلناً (15 ليرة سورية) وقد ذكرت أسماء بعضهم " 1. هـ من ص 36 من الكتاب المذكور.

يبيع زوجته ثم يقتل المشتري

جاء في حضارة الاسلام مجلة ص 1078 من المجلد الثاني لعام 1962 ما يلي:

أوردت إحدى وكالات الانباء من ريجيو كالابريا في إيطاليا أن شخصاً أقدم على قتل آخر، ولما سئل في التحقيق عن سبب اقترافه هذه الجريمة أفاد بأنه كان قد اتفق مع القتيل لبيعه زوجته بمبلغ خمسمائة وسبعين جنيهاً استرلينياً وقد دفع منه أربعمائة جنيه ومضت مدة طويلة دون أن يدفع باقي الحساب، ولما طالبه تهرب من الدفع وأقدم على قتله.\

في انصاف الاسلام وتقديره للمرأة

قال جورج سال في مقدمة ترجمة القرآن الانجليزية ص 80: ليس صحيحاً ما ينسب الى الاسلام من التهمة الكاذبة التي اتهمه بها بعض الكتاب قولهم أنه لا يعتبر المرأة ذات نفس (الإسلام روح المدنية 267) نقلاً عن كتاب "الهلال والصليب". وقال فولتير في (مقالة القرآن) في معجم الفلسفة: ولقد نسبنا الى القرآن كثيرا من السخافات وهو في الحقيقة خال منها. إن مؤلفينا الذين كثروا كثرة الانكشارية يجدون من السهل أن يجعلوا نساءنا من حزبهم بواسطة اقناعهن أن محمداً اعتبرهن حيوانات ذات ذكاء، وأنهن في نظر الشريعة بمثابة الارقاء، لا يملكن شيئاً من دنياهن، ولا نصيب لهن في أخراهن، وبديهي أن هذا الكلام باطل، ومع ذلك فقد كان الناس يصدقونه. نحن لا نجهل أن القرآن يميز الرجل تلك الميزة المعطاة له من الطبيعة ولكن القرآن يختلف عن التوراة في أنه لا يجعل ضعف المرأة عقاباً إلهياً كما ورد في سفر التكوين الاصحاح الثالث العدد 16. ومن الخلط أن ينسب إلى شارع عظيم نظير محمد مثل تلك المعاملة المنكرة للنساء. والحقيقة أن القرآن يقول: {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}. ويقول: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (الاسلام روح المدنية ص 267 نقلا عن كتاب الهلال والصليب).

وقالت "أني بيزنت" زعيمة التيوصوفية العالمية في كتابها: الاديان المنتشرة في الهند": "ما أكبر خطأ العالم في تقدير نظريات النبي فيما يتعلق بالنساء، فقد قيل إنه قرر بأن المرأة لا روح لها! فلماذا هذا التجني على رسول الله! أعيروني أسماعكم أحدثكم عن حقيقة تعاليمه في هذا الشأن. جاء في القرآن: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً} وبعد أن سردت كثيراً من الآيات القرآنية التي تحث على رعاية المرأة وإكرامها قالت: ولا تقف تعاليم النبي عند حدود العموميات، فقد وضع قانوناً لوراثة النساء، وهو قانون أكثر عدلاً وأوسع حرية من ناحية الاستقلال الذي يمنحها إياه من القانون المسيحي الانجليزي الذي كان معمولاً به الى ما قبل نحو عشرين سنة، فما وضعه الاسلام للمرأة يعتبر قانوناً نموذجياً فقد تكفل بحمايتهن في كل ما يمكنه، وضمن لهن عدم العدوان على أي حصة مما يرثنه عن أقاربهن واخوانهن وأزواجهن" (مجلة الأزهر، المجلد الثامن ص 290).

ويقول "بول تيتو" كما نقلته عن مجلة الأزهر المجلد العاشر ص 712: "ولا تنسى أن القرآن أصلح حال المرأة في الحياة الاجتماعية اصلاحاً عظيماً".

وقالت جريدة "المونيتور" الفرنسية كما نقلته مجلة الأزهر في المجلد الحادي عشر 315: "وقد أوجد الاسلام اصلاحاً عظيما في حالة المرأة في الهيئة الاجتماعية، ومما يجب التنويه به أن الحقوق الشرعية التي منحها الاسلام للمرأة تفوق كثيراً الحقوق الممنوحة للمرأة الفرنسية".

وتقوله "لورافيشيافا غليري" في كتابها "دفاع عن الاسلام" (ص 106): ولكن إذا كانت المراة قد بلغت من وجهة النظر الاجتماعية في أوروبا مكانة رفيعة، فان مركزها، شرعياً على الأقل، كان حتى سنوات قليلة جداً ولا يزال في بعض البلدان أقل استقلالاً من المرأة المسلمة في العالم الاسلامي".

وفيما يلي فقرات متفرقة من كتاب "حضارة العرب" لغوستاف لوبون: "ومبادئ المواريث التي نص عليها القرآن على جانب عظيم من العدل والانصاف، ويمكن القارئ أن يدرك ذلك من الآيات التي أنقلها منه، وأن أشير فيه بدرجة الكفاية الى أحكامها العامة، ويظهر من مقابلتي بينها وبين الحقوق الفرنسية والانجليزية أن الشريعة الاسلامية منحت الزوجات، اللاتي يزعم أن المسلمين لا يعاشرونهن بالمعروف، حقوقا في المواريث لا نجد مثلها في قوانيننا" (ص 474 الطبعة الثانية. ترجمة المرحوم الأستاذ عادل زعيتر). "كان الاسلام ذا تأثير عظيم في حال المرأة في الشرق. فهو قد رفع حال المرأة الاجتماعي وشأنها رفعا عظيما بدلاً من خفضهما، خلافا للمزاعم المكررة على غير هدى، فالقرآن قد منح المرأة حقوقا إرثية بأحسن مما في قوانيننا الأوروبية". ثم قارن المؤلف بين حال المرأة العربية قبل الاسلام وبين حالها بعده، وتابع حديثه قائلاً: "وإذا أردنا أن نعلم درجة تأثير القرآن في أمر النساء وجب علينا أن ننظر اليهن أيام ازدهار حضارة العرب، فقد ظهر مما قصه المؤرخون فنذكره فيما بعد أنه كان لهن من الشأن ما اتفق لاخواتهن حديثاً في أوروبة، وذلك حين انتشار فروسية عرب الأندلس وظرفهم". "وقد ذكرنا – في فصل سابق – أن الأوروبيين أخذوا عن العرب مبادئ الفروسية وما اقتضاه من احترام المرأة، فالإسلام أذن – لا النصرانية هو الذي رفع المرأة من الدرك الأسفل الذي كانت فيه، وذلك خلافاً للاعتقاد الشائع، فاذا نظرت الى امراء النصارى الاقطاعيين في القرون الوسطى، رأيتهم لم يحملوا شيئاً من الحرمة للنساء". "واذ ا تصفحت كتب تاريخ ذلك الزمن وجدتَ ما يزيل كل شك في هذا الأمر فعلمتَ أن رجال عصر الاقطاع كانوا غلاظاً نحو النساء قبل أن يتعلم النصارى من العرب أمر معاملتهن بالحسنى، فمن ذلك ما جاء في تاريخ "غاران لولوهيران" من معاملة النساء في عصر شارلمان وعن معاملة شارلمان نفسه لهن: "انقض القيصر شارلمان على أخته في أثناء جدال، وأخذ بشعرها وضربها ضرباً مبرحاً وكسر بقفازه الحديدي ثلاثاً من أسنانها"!.. فلو حدث مثل ذلك الجدل مع سائق عربة في الوقت الحاضر لبدا هذا السائق أرحم منه بلا ريب". "ومن الأدلة على أهمية النساء أيام حضارة العرب كثرة من اشتهر منهن بمعارفهن العلمية والأدبية، فقد ذاع صيت عدد غير قليل منهن في العصر العباسي في المشرق والعصر الأموي في أسبانية".

ثم نقل عن مؤرخي عبد الرحمن الثالث قولهم: "إن ذلك الزمن الذي كان فيه للعلم والأدب شأن عظيم ببلاد الأندلس "كنّ محبات للدرس في خدورهن، وكانت الكثيرات منهن يتميزن بدماثتهن ومعارفهن" ثم أخذ يذكر الأمثلة على ذلك وقال: "خبت حضارة قدماء الخلفاء الساطعة في عهد وارثي العرب، ولا سيما في عهد الترك – فنقص شأن النساء كثيرا، وسأبين في مكان آخر أن حالتهن الحاضرة أفضل من حالة أخواتهن في أوروبة حتى عند الترك، وما تقدم يثبت أن نقصان شأنهن حدث خلافاً للقرآن لا بسبب القرآن على كل حال" "وهنا نستطيع أن نكرر إذن قولنا: إن الاسلام الذي رفع المرأة كثيرا بعيد من خفضها، ولم نكن أول من دافع عن هذا الرأي، فقد سبقنا إلى مثله "كوسان دوبر سفال" ثم مسيو "بارتلمي سنت هيلر". "ولم يقتصر فضل الاسلام على رفع شأن المرأة، بل نضيف الى هذا أنه أول دين فعل ذلك، ويسهل إثبات هذا ببياننا أن جميع الأديان والامم التي جاءت قبل العرب أساءت الى المرأة". ص 488 – 490. "وحقوق الزوجية التي نص عليها القرآن ومفسروه أفضل كثيرا من حقوق الزوجية الأوروبية" ص (497). "وتعامل المرأة المسلمة باحترام عظيم فضلاً عن تلك الامتيازات، فتنال بذلك حالاً اجمع الباحثون المنصفون – ومنهم من ناصب بعاطفته مبدأ تعداد الزوجات العداء – على الاعتراف بحسنها. وعلى هؤلاء مسيو "دو أميسبس" الذي قال في معرض الحديث عن المرأة في الشرق، وذلك بعد أن أنحى باللائمة على تعدد الزوجات وفق وجهة نظره الأوروبية: "إن المرأة في الشرق تحترم بنبل وكرم، على العموم، فلا أحد يستطيع أن يرفع يده عليها في الطريق، ولا يجرؤ جندي أن يسيء الى أوقح نساء الشعب حتى في أثناء الشغب، وفي الشرق يشمل البعل زوجته بعين رعايته، وفي الشرق يبلغ الاعتناء بالأم درجة العبادة، وفي الشرق لا تجد رجلاً يقدم على الاستفادة من كسب زوجته (أقول: هذا قبل أن تسري الينا مبادئ الحضارة الغربية) والزوج هو الذي يدفع المهر الى زوجته في الشرق، الخ (ص 497). وختم "لوبون" كلامه قائلاً: وإنني أطمع أن يعقتد القارئ بعد وقوفه على ما تقدم، أن مبدأ تعدد الزوجات أمر طيب، وأن حب الأسرة، وحسن الأدب، وجميل الطبائع أكثر نمواً في الأمم القائلة به مما في غيرها على العموم، وأن الاسلام حسن حال المرأة كثيراً، وأنه أول دين رفع شأنها، وأن المرأة في الشرق أكثر احتراماً وثقافة وسعادة منها في أوروبة على العموم ص (503).

وقال هملتن من علماء الانجليز: إن أحكام الاسلام في شأن المرأة صريحة في وفرة العناية بوقايتها من كل ما يؤذيها ويشين سمعتها، (الاسلام والحضارة العربية: 1/91).

رأي زعيمة الحركة النسائية في الشرق في نصيب الأنثى من الميراث

نشرت مجلة "الفتح" القاهرية في عددها الصادر في 22 رجب 1347هـ 3 يناير 1929م ص 452 ما يلي:

علم القراء مما نشرناه في العدد الماضي أن سلامة موسى خطب في جمعية الشبان المسيحية في أمر لا علاقة له به كما أنه لا علاقة لجمعية الشبان المسيحيين به أيضاً، وهو التعرض للمرأة المسلمة وحجابها وسفورها، وما عينه لها القرآن الكريم من نصيب في الميراث، فتدخل هؤلاء الفضوليون في أمر لا يعنيهم، وظنوا أن المرأة المسلمة اذا تطرفت في بعض الشؤون ممكن اتخاذها أداة للسعي في هدم دينها، فوجه هؤلاء الفضوليون همهم لتحريض السيدة هدى شعراوي على مطالبة حكومة مصر الاسلامية بالعدوان على حكم الله في القرآن فيما يتعلق بنصيب المرأة في الميراث. ولم يكتف القوم بذلك بل أرسلوا رسالة خصوصية الى هدى هانم شعراوي يحرضونها على هذا العدوان. وقد أرادت هدى هانم أن تفهمهم أنها مهما بلغ بها الأمر في المساعي النسوية فإنها لم تصل الى حد أن ترضى لنفسها بأن تكون آلة لخداع هؤلاء الزعانف، ولذلك ألقمت سلامة موسى وجماعته حجراً بما نشرته في الصفحة الأولى من جريدة الاهرام صباح يوم الجمعة الماضي، قالت: دعاني الاستاذ الفاضل سلامة أفندي موسى في كتاب أرسله إلي بناء على اقتراح وجه اليه، أن أطلب الى وزارة الحقانية (العدل) سن قانون يساوي بين المرأة والرجل في حق الميراث، وأرفق خطابه بملخص محاضرة ألقاها بدار جمعية الشبان المسيحية عن نهضة المرأة في مصر ونشرت بجريدة المقطم في يوم 23 ديسمبر الماضي (من عام 1928). يهمني أن أبلغ حضرة الأستاذ ومن حضروا خطبته أني في خدمتي لهذه النهضة أؤدي واجباً معهوداً الي من جمعية الاتحاد النسائي التي شرفتني برئاستها، ولما كان نصيب المرأة في الميراث ليس من المسائل الداخلة في برامجها فليس لي أن أتدخل في هذا الموضوع لا بإقرار الحالة الحاضرة ولا بتعديلها.

وإن كان ولا بد من ابداء رأيي في هذا الموضوع فأقول بصفتي الشخصية إني لست من الموافقين على رأي الأستاذ الخطيب (سلامه موسى) فيما يتعلق بتعديل نصيب المرأة في الميراث، ولا أظن مثله أن النهضة النسوية في هذه البلاد لتأثرها بالحركة النسوية بأوروبا يجب أن تتبعها في كل مظهر من مظاهرها، وذلك لأن لكل بلد تشريعه وتقاليده، وليس كل ما يصلح في بعضها يصلح في البعض الآخر. على أننا لم نلاحظ تذمراً من المرأة أو شكوى من عدم مساواتها للرجل في الميراث، والظاهر أن اقتناعها بما قسم لها من نصيب، ناشيء من أن الشريعة عوضتها مقابل ذلك بتكليف الزوج بالانفاق عليها وعلى أولادها، كما منحتها حق التصرف في أموالها. أما القول بأن عدم المساواة في الميراث من دواعي إحجام كثير من الشبان عن الزواج في الشرق فغير وجيه، لأننا نشاهد في أوروبا انتشار هذا الداء (الاعراض عن الزواج) في عصرنا الحالي انتشاراً أشد خطورة منه في الشرق، بالرغم من أن المرأة الأوروبية ترث بمقدار ما يرث الرجل، فضلاً عن أنها ملزمة بدفع المهر، ومكلفة بالتخلي عن إدارة أموالها لزوجها. ولو سلمنا بنظرية الأستاذ سلامة موسى وجاريناه في طلب تشريع جديد فهل لا يخشى أن يؤدي الى اسقاط الواجبات الملقاة على عاتق الزوج نحو زوجته وأولاده بالزام الزوجة بالاشتراك في الصرف، وفي ذلك ما فيه من حرمان يعود بالشقاء والبؤس على الزوجات الفقيرات اللاتي لم ينلن ميراثاً من ذويهن؟.. وهذه الطبقة تشمل أغلبية الزوجات ولا يخفى ما هنّ عليه من جهل وأمية لا تسمحان لهن بمقاومة هذا الشقاء أو تلطيفه، بخلاف مثيلاتهن في الفقر بأوروبا لأن التعليم هناك يشمل الطبقات. نرى الغربية أكثر حظاً منها لأنها تظهر لنا حائزة لقسط كبير من الحرية المدنية المساوية للرجل، بيد أنها أقل حظاً من أختها الشرقية في الحرية الاقتصادية، فبينما الشرقية غير المتساوية بالرجل في حق الميراث، تتمتع بكافة أنواع الاستقلال في إدارة أعمالها وأموالها، نجد الغربية المساوية لأخيها في الميراث، محرومة من هذه النعم، إذ لا يمكنها أن تنفق أي مبلغ من مالها ولا أن تتعاقد مع الغير، ولا أن تحترف حرفة، دون تصديق زوجها وموافقته، لذلك نراها ثائرة في جميع بلدان أوروبا على تلك القيود التي تحول بينها وبين الحرية الحقيقية والاستقلال الذين تتمتع بهما المرأة الشرقية منذ عصور طويلة.

ثم قالت:

إن أهم ما يشغلها اليوم في الوصول بالمرأة الى المركز اللائق بها ليس هو السعي في تغيير القوانين، أو قلب الشريعة، فلله الحمد لم نجد في هذه ولا تلك من الأحكام ما يحملنا على التذمر والشكوي، بل كل ما نسعى اليه هو حسن تطبيق هذه القوانين بما يطابق غرض الشارع وحكمه، 1. هـ.

وقد علقت مجلة "الفتح" على هذا البيان فقالت: في هذا البيان من هدى هانم شعراوي أمور يحسن الاشارة اليها: منها: أن الاتحاد النسوي يطالب بتحسين حالة المرأة وفقاً لأحكام الشرع الاسلامي، ولا يعمل قط عملاً يخرج عن أحكام الشريعة الغراء، فإذا احتُرمت هذه القاعدة أمكن من السهل التفاهم مع المتقيدين بها والاحتكام الى الشريعة في أي مطلب منهم يلوح أن فيه شذوذاً عن أحكامها. وفي هذا البيان اعلان أن المرأة المسلمة أحسن حالاً من المرأة الاوروبية فيما خولتها الشريعة الاسلامية من حق التصرف بما تملك، بينما المرأة الاوروبية مقيدة بارادة زوجها. وأن المرأة المسلمة أحسن حالاً من المرأة الاوروبية من جهة أن الشريعة الاسلامية كلفت الزوج بالانفاق على الزوجة والأولاد. وزعم محرضو المسلمين على مخالفة الاسلام أن التشريع الاسلامي الخاص بالميراث نشأ عنه إحجام كثير من الشبان عن الزواج، فقالت لهم السيدة التي يحرضونها: انكم كاذبون لأن الامتناع عن الزواج في أوروبا هو الفظيع، وأما عندنا فالأمر بخلاف ذلك.

حول تعدد الزوجات

يقول المستشرق الفرنسي المسلم "ناصر الدين دينيه" في كتابه "محمد رسول الله":

"الواقع يشهد بأن تعدد الزوجات شيء ذائع في سائر أرجاء العالم، وسوف يظل موجوداً ما وجد العالم، مهما تشددت القوانين في تحريمه، ولكن المسألة الوحيدة هي معرفة ما إذا كان الأفضل أن يشرع هذا المبدأ ويحدد، أم أن يظل نوعاً من النفاق المتستر، لا شيء يقف أمامه ويحد من جماحه؟" وقد لاحظ جميع الرحالة الغربيين – ونخص بالذكر منهم "جيرال دي نيرفال" و "الليدي مورجان" أن تعدد الزوجات عند المسلمين – وهم يعترفون بهذا المبدأ – أقل انتشاراً منه عند المسيحيين الذين يزعمون أنهم يحرمون الزواج بأكثر من واحدة، وليس ذلك بالأمر الغريب على الفطرة البشرية، فالمسيحيون يجدون لذة الثمرة المحرمة عند خروجهم على مبدئهم في هذا. ولكن: هل تعدد الزوجات حقيقة أمر يصح أن نعلق عليه كبير اهتمام في عصرنا هذا؟ إن مقتضيات الحياة الحديثة – ولندع جانباً كل الظروف الأخرى – تجعل من العسير جداً وجود تعدد الزوجات في المدن الكبيرة، وسوف يزول هذا الأمر بين المسلمين الذين يأخذون بأسباب الحضارة الحديثة خلال فترة قصيرة، واذا كان مبدأ التعدد سوف يبقى، فلن نجده مطبقاً إلا في قلب البادية، حيث تضطر الناس اليه ظروف الحياة التي لا مفر لها. ومع ذلك فإننا نتساءل: هل في زوال تعدد الزوجات فائدة أخلاقية؟ إن هذا أمر مشكوك فيه، فالدعارة تندر في أكثر الأقطار الاسلامية وبغيره سوف تتفشى فيها وتنشر آثارها المخربة. وكذلك سوف يظهر في بلاد الاسلام داء لم تعرفه من قبل، ذلك هو عزوبة النساء التي تنتشر بآثارها المفسدة في البلاد المقصور فيها الزواج على واحدة، وقد ظهر ذلك فيها بنسبة مفزعة، وخاصة عقب فترات الحروب".

ويقول هذا المستشرق المسلم نفسه في كتابه "أشعة خاصة بنور الاسلام": لا يتمرد الاسلام على الطبيعة التي لا تغلب، وإنما هو يساير قوانينها ويزامل أزماتها، بخلاف ما تفعل الكنيسة من مغالطة الطبيعة ومصادمتها في كثير من شؤون الحياة، مثل ذلك الفرض الذي تفرضه على أبنائها الذين يتخذون الرهبنة، فهم لا يتزوجون وإنما يعيشون عزباء. وعلى أن الاسلام لا يكفيه أن يساير الطبيعة وأن لا يتمرد عليها، وإنما هو يدخل على قوانينها ما يجعلها أكثر قبولاً وأسهل تطبيقاً، في اصلاح ونظام ورضا ميسور مشكور، حتى لقد سمي القرآن لذلك "بالهدي" لأنه المرشد الى أقوم مسالك الحياة، ولأنه الدال على أحسن مقاصد الخير. والأمثلة العديدة لا تعوزنا، ولكنا نأخذ بأشهرها، وهو التساهل في تعدد الزوجات وهو الموضوع الذي صادف النقد الواسع، والذي جلب للاسلام في نظر أهل الغرب مثالب جمة، ومطاعن كبيرة. ومما لا شك فيه أن التوحيد في الزوجة هو المثل الأعلى، ولكن ما العمل وهذا الأمر يعارض الطبيعة ويصادم الحقائق. بل هو الحال الذي يستحيل تنفيذه؟ لم يكن للاسلام أمام الأمر الواقع، وهو دين اليسر، إلا أن يستبين أقرب أنواع العلاج، فلا يحكم فيه حكماً قاطعاً. ولا يأمر به أمراً باتاً. والذي فعله الاسلام أول كل شيء أنه أنقص عدد الزوجيات الشرعيات، وقد كان عند العرب الأقدمين مباحا دون قيد، ثم أشار بعد ذلك بالتوحيد في الزوجة، في قوله تعالى: {وإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة}. وأي رجل في الوجود يستطيع أن يعدل بين زوجاته المتعددات؟ ولذا كان التعدد بهذا الشرط مستحيل التنفيذ[1]. ولكن انظر كيف وضعه الاسلام وضعاً هو غاية في الرقة والدقة واللطف مع الحكمة. ثم انظر: هل حقيقي أن الديانة المسيحية بتقريرها الجبري لفردية الزوجة والتوحيد فيها وتشديدها في تطبيق ذلك، قد منعت تعدد الزوجات؟ وهل يستطيع شخص أن يقول ذلك دون أن يأخذ منه الضحك مأخذه؟ وإلا فهؤلاء ملوك فرنسا – ودع عنك الأفراد – الذين كانت لهم الزوجات المتعددة، والنساء الكثيرات، وفي الوقت نفسه لهم من الكنيسة كل تعظيم وإكرام. إن تعدد الزوجات قانون طبيعي، وسيبقى ما بقي العالم! ولذلك فإن ما فعلته المسيحية، لم يأت الغرض الذي أرادته، فانعكست الآية معها، وصرنا نشهد الإغراء بجميع أنواعه، وكان مثلها في ذلك مثل الشجرة الملعونة التي حرمت ثمراتها فكان التحريم إغراء. على أن نظرية التوحيد في الزوجة، وهي النظرية الآخذة بها المسيحية ظاهراً، تنطوي تحتها سيئات متعددة ظهرت على الأخص في ثلاث نتائج واقعية شديدة الخطر جسيمة البلاء، تلك هي "الدعارة" و "العوانس من النساء" و "الأبناء غير الشرعيين". وإن هذه الأمراض الاجتماعية ذات السيئات الأخلاقية لم تكن تعرف في البلاد التي طبقت فيها الشريعة الاسلامية تمام التطبيق، وإنما انتشرت فيها بعد الاحتكاك بالمدنية الغربية.

- وتقول الكاتبة الايطالية "لورافيشيا فاغليري" استاذة اللغة العربية وتاريخ الحضارة الاسلامية في "نابولي" بايطاليا، في كتابها "دفاع عن الاسلام" ص 97:

"إنه لم يقم الدليل حتى الآن بأي طريقة مطلقة، على أن تعدد الزوجات هو بالضرورة شر اجتماعي وعقبة في طريق التقدم. ولكننا نؤثر أن لا نناقش المسألة على هذا الصعيد، وفي استطاعتنا أيضاً أن نصر على أنه في بعض مراحل التطور الاجتماعي عندما تنشأ أحوال خاصة بعينها – كأن يقتل عدد من الذكور ضخم الى حد استثنائي في الحرب مثلاً – يصبح تعدد الزوجات ضرورة اجتماعية، وعلى أية حال فليس ينبغي أن نحكم على هذه الظاهرة بمفاهيم العصور القديمة المتأخرة، لأنها كانت في أيام محمد (صلى الله عليه وسلم) مقبولة قبولاً كاملاً، وكانت معترفا به من وجهة النظر الشرعية، لا بين العرب فحسب، بل بين كثير من شعوب المنطقة أيضاً.

[1] قد بينا خطأ هذا الفهم فيما مضى من هذا الكتاب.

يشجعون تعدد الزوجات

جاء في مجلة "الفتح" القاهرية في العدد الصادر بتاريخ 15 من المحرم 1346هـ الموافق 14 يولية (تموز) 1927م في ص 3 ما يلي:

لحظت بعض الصحف الفرنسية ان جريدة (دايلي ميل) الانجليزية الشهيرة نشرت اخيراً مقالة غريبة في الاشادة بتعدد الزوجات لو نشرت قبل اليوم لجلبت على الجريدة والكاتب أشد سخط وأروع عقاب، فقد كان المساس بالعادات والتقاليد في انجلترا من أشد الخطورات. لحظ كاتب المقال أن في انجلترا وبلاد الغال زيادة في عدد النساء على الرجال تقدر بمليونين من السيدات، وقال: إن إباحة تعدد الزوجات هي الطريقة الوحيدة للعلاج الناجع. قال الكاتب: وليست مسألة الزوجة الواحدة إلا مسألة اعتقاد واتفاق وهي في الحق والواقع نتيجة نسبة عددية، ثم ذكر أن نظرية المرأة الواحدة للرجل الواحد هي نظرية الأنسب والأوفق، ولكن الاستمساك بها لا يستحسن إلا عند التعادل العددي في الجنس، أما اذا زاد عدد جنس على الآخر. ولم تتخذ التدابير لذلك فلا مفر من حرب طاحنة تنشب بين الجنسين.

تعدد الزوجات عند الغربيين

نشرت مجلة "الفتح" في عددها الصادر بتاريخ 9 جمادى الأولى 1346هـ الموافق 3 نوفمبر 1927م ص 302 ما يلي:

كتب "اليوتنان كولونيل كادي" مقالة في عدد 2 أكتوبر من جريدة "لا ديبش دوليست" ترجمتها جريدة "النجاح" التي تصدر في الجزائر ومما جاء في مقالة الكولونيل كادي:

"إن تعدد الزوجات تجيزه الشريعة الاسلامية بشروط محدودة، وبالفعل نرى العالم كله يستعمله، وكم من بائع خمر من مدينة "تربون" – ان كان ذا ثروة – يكون له بيت مختفٍ في كل المدن التي تدعوه اليها أموره". "نعم من الواضح أن الفرنسوي الثري الذي يمكنه أن يتزوج باثنتين فأكثر، هو أقل حالاً من المسلم الذي لا يحتاج الى الاختفاء اذا أراد أن يعيش مع اثنتين فأكثر، وينتج عن ذلك هذا الفرق: ان أولاد المسلم الذي تعددت زوجاته متساوون ومعترف بهم، ويعيشون مع آبائهم جهرة بخلاف أولاد الفرنسوي الذي يولدون في فراش "مختف" فهم خارجون عن القانون. وفي مقال للأمير شكيب ارسلان في مجلة الفتح بتاريخ 16 شعبان 1348هـ / 16 يناير 1930م ص 501 ما يلي:

- وكان الألمان بعد حرب الثلاثين سنة قد نقص عدد رجالهم كثيراً، فقرر مجلس حكومة فرانكونيا إجازة أن يزوج الرجل بامرأتين، ونفذ هذا القرار مدة طويلة. وهذا منذ 250 سنة.

-8-

دفاع احرار الفكر في الغرب عن تعدد الزوجات

قالت "آني بيزانت" زعيمة التيوصوفية العالمية في كتابها: "الأديان المنتشرة في الهند":

إني أقرأ في العهد القديم (التوراة) أن صديق الله الذي يفيض قلبه طبقاً لإرادة الله كان معددا للزوجات، وزيادة على هذا فإن العهد الجديد (الانجيل لا يحرم تعدد الزوجات إلا على من كان أسقفاً أو شماساً، فإنهما هما المكلفان أن يكتفيا بزوجة واحدة، وإني لأجد كذلك تعدد الزوجات في الكتب الهندية القديمة، وما يتهمون الاسلام إلا لأنه من السهل على الانسان أن يتتبع العيوب في عقائد الغير ويشهر بها. ولكن كيف يحوز أن يجرؤ الغربيون على الثورة ضد تعدد الزوجات المحدود عند الشرقيين ما دام البغاء شائعاً في بلادهم! ومن يتأمل فلا يجد وحدة الزوجة محترمة إلا لدى نفر قليل من الرجال الطاهرين، فلا يصح أن يقال عن بيئة أهلها موحدون للزوجة ما دام فيها الى جانب الزوجة الشرعية خدينات من وراء ستار. ومتى وزنا الأمور بقسطاس العدل المستقيم ظهر لنا إن تعدد الزوجات الاسلامي الذي يحفظ ويحمي ويغذي ويكسو النساء، ارجح وزناً من البغاء الغربي الذي يسمح بأن يتخذ الرجل امرأة لمحض اشباع شهواته، ثم يقذف بها الى الشارع متى قضى منها أوطاره، صرحوا بأن الأمرين قبيحان! ولكن لا تسمحوا للمسيحي أن يذم أخاه المسلم بسبب أمر يشتركان في ارتكابه" 1. هـ. عن مجلة الأزهر: المجلد الثامن ص 291. أقول: لا يسلم للكاتبة بأن تعدد الزوجات كالبغاء! وهذا ما لا يختلف فيه. بل إنها هي ذاتها فيما سبق تعترف بأن التعدد أشرف وأكرم للمرأة وأولادها من البغاء، فكيف يستويان في القبح؟.

التعدد في نظر المنصفين من المسيحيين

قال الدكتور نظمي لوقا في كتابه: "محمد" الرسالة والرسول: ص 67 ما يلي:

الزوجة الواحدة أو الزوجات الكثيرات. هذا هو لباب ما يثور حول موضوع الزواج في دين الاسلام فلا بد من وقفة هاهنا لنتبين الحقيقة في هذا. من المسلم به أن الدين لا يقصد به مستوى من البشر دون مستوى، ولا عصراً من العصور دون سائرها، ولا بيئة من البيئات بعينها. وإنما يراد به التشريع للكافة وتنظيم حياة البشر من حيث هم كذلك، مع مراعاة فطرتهم السوية.. ولكن مع الاشارة الى ما فوق ذلك من درجات السمو التي لا يبلغ اليها إلا الخاصة وأولو العزم من الناس. وعلاقة المساكنة بين الذكر والأنثى هي أساس الأسرة، وهي تنبعث من غريزة طبيعية ينظمها التشريع أو العرف الاجتماعي ما وسعه التنظيم، عسى أن يضع حدوداً لتلك القوة الحيوية العارمة ترتفع بالانسان فوق مستوى البهيم. وما من شك أن نظام الزوجة الواحدة الدائمة نظام مثالي. ومن البديهي أيضاً ألا يطيقه إلا المثاليون، وخاصة ذوي العزم، وما لهؤلاء فحسب جعلت هداية الدين. ونظرة الى واقع الحياة البشرية في تاريخ مجتمعاتها الغابرة والحاضرة، تطلعنا على تعدد النساء في حياة الرجل الواحد، سواء جهرا أو سرا، وسواء برخصة من القانون أو الدين، أو حتف القانون والعقيدة. وما من عاقل يفضل التعدد بغير رخصة على التعدد برخصة، فإن أثر الشعور بالاثم والاختلاس على السلوك البشري بعامة أثر خبيث يسمم حلاوته ويعكر صفاءه الذي لا تقوم السعادة الروحية والنفسية بغيره. فضلاً عما في العلاقات المختلسة من أضرار بالمرأة وإفساد لحياتها لا حلية فيه. ثم إن حياة البداوة والريف غير حياة الحضر. ففي الريف والبادية يعز القوت أحياناً ولا سيما على المرأة. وقد يكون في عدد النساء زيادة عن الرجال. فلا يصان عرض المرأة ولا تستقر معيشتها مادياً ونفسياً إلا اذا صارت في كنف رجل. وعندئذ لا حيلة في التعدد، لأنه الحل السليم الوحيد، أو هم أسلم أساس لجماعة هذه حقيقة ظروفها، والضرورات تبيح المحظورات. هي رخصة إذن تستخدم بحقها، وعند حصول مسوغاته الطبيعية من أحوال البيئة، أو من أحوال الأفراد.

وما القول في زوجة أقعدها المرض؟ وما القول في الزوجة العقيم؟ وما القول في الزوجة الفاترة؟ وما القول في الزوجة السقيمة الأعصاب؟ أطلاقها أرحم بها أم إردافها بزوجة أخرى؟ لا شك أن الأمر واضح. هي رخصة إذن تستخدم بحقها. ولكنها ليست الزاماً، فهذه سورة النساء تقول بصريح النص:

{فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} بل وتقول أكثر من هذا: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} وفي هذا إيحاء، بل حض على التزوج بواحدة. وليس من الانصاف في شيء أن نقيس هذا الحض بمقياس زماننا وآدابنا. بل بمقياس زمان الدعوة وآدابه، ففي تلك البيئة الصحراوية الجاهلية كان التعدد مطلقاً من كل قيد.. ومن هذا نفهم سر قول القرآن: {مثنى وثلاث ورباع} بلهجة من يعدد للطامع ما هو مباح، بأسلوب يوحي بالتوسيع، وهو يرمي الى التضييق كل التضييق.. ما أشبه هذا – في تصوري – بالأب الذي يقول لطفله الشره الى الحلوى شرها لا يقف عند حد، أو لا يؤذن بقناعة دون العشرة والعشرين:

- سنعطيك واحدة في الصباح، أو قل اثنتين. وثالثة في الظهر ورابعة في العصر. أرأيت أني لم أبخل عليك؟ أما ما زاد عن ذلك فليس اليه سبيل!.

ثم تلا ذلك الايحاء بالواحدة لا تزيد لمن خاف الظلم عند التعدد، وليس عن الظلم عند تعدد محيص. أما في غير تلك البيئة وشبيهاتها من بيئات البشر كافة الذين تتوجه اليهم الدعوة، فالمسألة أوضح، ولن تضيرهم رخصة التعدد وهم على التوحد أو أقرب اليه طبعاً ونشأة، ولهذا قيل {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} ففي ميدان الفضل والتعفف سعة، وبه يتفاضل الناس بعضهم فوق بعض درجات. ولا يتم النظر في موضوع الزواج، ما تعدد منه وما توحد، من غير النظر في كيفية الزواج، أو نوع الصلة الزوجية. إنها ليست مسافدة حيوانية بين ذكر وأنثى. على اطلاق بواعث الرغبة والاشتهاء الغريزي بين جنسي النوع البشري. بل لغير هذا قامت كوابح الآداب وضوابط الشرائع والعقائد. كلا! {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة}. هكذا جاء في سورة الروم. واني لأرى في قوله {من أنفسكم} لمسة تمس شغاف القلب، وقد ذكر بما في الزواج من قربى تجعل الزوجة قطعة من النفس ثم أردف ذلك بالسكن. وما أقرب السكن من سكينة النفس في هذا الباب لا مساكنة الأجساد، بدليل ما أردف بذلك من المودة والرحمة.

مشاطرة نفس، وسكنها وسكينتها، ومودة ورحمة، ما من شيء في هذه كلها من خصائص المتعة الشهوية والرغبة الجنسية البحت. فإن الشهوة تأخذ، وتنال، وهي معتصمة بأنانيتها وانعزالها عن الطرف الآخر، ولا تزيد بعد مأربها الا شعوراً بالعزلة والوحدة الموحشة. وشتان هذا والمشاطرة، وسكن النفس، والمودة والرحمة. كل أولئك من صفات الحنان: الحنان الذي يرحم ويؤثر، ومن صفات المحبة التي تعطى قبل أن تأخذ، وتنيل قبل أن تنال، وتقيم مطمئنة لتزداد بالمساكنة غنى وأمناً وأنساً.. وتلك عليا مناعم المعاشرة والانسانية، بما فيها من غلبة الروح على نزوات الأجساد ودفعات الرغبة العمياء.. الزواج مطلب نفسي وروحي عند الانسان، وليس مطلباً شهويا جسديا وإن كان له أساس جسدي. فما كان أحرى الناس لو أن مطلب الجسد رائدهم ومبتغاهم ألا يعرفوا حدود الزواج وقيوده، التي تفرض الالتزامات على كل حال، ثقلت تلك الالتزامات أو خفت، وتربط بين الزوج وزوجه برباط هو قيد على كل حال، وفي خارج الزواج لا قيد لمن كل همه متاع البدن وقضاء اللبانات الشهوية. ورب قائل: أما والزواج مطلب نفسي وروحي عند الانسان وليس مطلباً شهوياً جسدياً وإن كان له أساس جسدي.. ففيم التعدد إذن، وإن كان رخصة يهتبلها من شاء ويتنكبها متعففاً من شاء؟.. أما كان التوحد هو سبيل ذلك السكن النفسي بمعنى الكلمة؟ والجواب ان هذا صحيح من حيث المبدأ ولا مراء.. ولكن المبادئ قلما تعيش في دنيا البشر فتتيسر في أمور هي أمس ما تكون بالحياة اليومية والحقائق المادية. وأزيد الأمر وضوحاً:

أين هي الزوجة المثلى التي تملأ جوانب الرجل النفسية وتسكن اليها نفسه سكناً كاملاً حتى لا يفتقد في كنفها لونا من السكينة والطمأنينة كان يرجوه أو يشتاق اليه؟ قليل. أقل من القليل. وسل سليمان الحكيم، الذي عرف ألوف النساء من جميع الأصناف والألوان، وقد اجتمع في خطابه من التجارب الزوجية، والنسوية ما لم يجتمع لانسان، يقول لك:

"الزوجة الفضلى أثمن من اللؤلؤ النفيس.. من ذا يجدها؟!". حتى أنت يا سليمان؟! فماذا يقول اذن سواك من عباد الله الذين لم يؤتوا الملك العضوض والجاه العريض؟

ان من وجد هذه اللؤلؤة بين النساء لن تهفو نفسه الى سواها، بل يتعلق بها تعلق الطفل بصدر أمه لا يرضى به بديلاً ولا يروم عنه حولا... أما من لم يجدها، ففي نفسه أشواق ظمأى، تتلفت صادفة تنشد ريها هنا وهناك. وهنا وهناك هذه واقع نلمسه كل يوم، وكل ساعة، في رجال محصنين بالزواج، تصبو نفوسهم الى غير زوجاتهم، في علاقات مختلسة، تسف بهم وبشريكاتهم الى درك الحيوان، أو درك الخزي والتأثم المهدد لشعور الكرامة الذي هو خاصة الانسان بالاطلاق.. فراغ ينشد الامتلاء، فالطبيعة تفزع من الفراغ وتأباه كما يقول الحكيم القديم.. ومن هنا يكون في رخصة التعدد ملاذ يكفي الناس شرين: أولهما شر التورط في الآثام التي قد تشوه النفس مهما أرضت نوازع الاشواق الجسدية وثاني الشرين تطليق الزوجة القديمة لتفسح للزوجة الجديدة مكانا في نظام التوحد وقد تكون للزواج الأول ثمرات تذوق التشرد. وقد تكون الزوجة الأولى مثقلة بالسنين أو العلة أو الأبناء أو عاطلة من الجمال، خالية اليد من مهنة، خالية الوفاض من مال فتقوض حياتها، ولعلها كانت تؤثر البقاء في كنف زوجها على كل حال. وإني أعرف من تجربتي الشخصية حالات كثيرة من هذا القبيل، سأذكر منها حالة جار لنا في دمنهور منذ عشرين سنة كان متزوجاً من سيدة قضى معها ربع قرن لم تشركها زوجة أخرى، وكان لهما ولد واحد تجاوز العشرين من عمره، ثم مات فجأة.. وخيم الحزن على البيت.. وكان واضحاً أن الزوجة بلغت من اليأس منذ زمن.. واذا بها تلح على زوجها أن تخطب له زوجة تنجب لها ولدا تقر به أعينهما في خريف العمر! وخطبت الزوجة لزوجها. وأعرس في دارهما. وكانت الزوجة الأولى من أبر الناس وأرفقهم بالزوجة الجديدة وكأنها ابنتها.. وكان فرحها بالمولود البكر فرحاً جارفاً، فكأنما دبت الخضرة في عودها الجاف، وعود زوجها الثاكل.. وأشهد أن هذا الطفل كان ألصق بصدر زوجة أبيه الكهلة من صدر أمه الشابة. وأشهد أني أدركت من أحوال هذه الأسرة معنى ما حفلت به كتب بني اسرائيل من ندب الزوجة العاقر جارية لها كي تحمل من زوجها وتلد لها نسلا! وفي اعتقادي ان هذا الرأي المستمد من الواقع في تحديد ظروف التوحد والتعدد هو أقرب ما يكون للتعليل الطبيعي. ولو نظرنا الى حياة الرسول نفسه لوجدناه لم يشرك في فراشه أحداً مدة حياة خديجة، وقد طال زواجها ربع قرن تقريباً، هو طور الفحولة في حياة الانسان، ما بين الخمسة والعشرين والخمسين.. ولم تتعدد زوجاته الا بعد وفاتها. وليس هذا موضع الكلام في ظروف زواجه باولئك الزوجات، بل حسبنا الاشارة الى أن خديجة كانت الزوجة المثلى في حياة الرسول، ظل يشهد بذلك ويغار عليها الى ختام أيامه، ويؤكد لعائشة الصغيرة البكر أن الله لم يبدله بخديجة خيراً منها قط؟ زوجة مثلى ملأت فراغ النفس فسكنت اليها. ولما ذهبت تركت فراغاً هائلاً لم تستطع واحدة أن تملأه. وأكاد أحس أن الكثيرات عجزن عن ملء هذا الفراغ الكبير على وجه التمام.. وأيا كان التعدد بموجبات تلك الرخصة، فهو مشروط على كل حال بالمودة والرحمة، فلا تحل فيه المغايظة والاضرار الاناني اللئيم... وبحسبي أن أشير هنا الى ما يذهب اليه المعتزلة من تحريم زواج الرجل بثانية ما دامت الأولى في عصمته لما في ذلك من المضارة للزوجة وهي سيئة لا يستحسنها العقل. وهذا في اعتقادي من باب السمو الذي يحض القرآن عليه اذ أشار الى الاكتفاء بواحدة خيفة الظلم الذي لا مناص منه في حال التعدد، ولكن الرخصة واضحة، والحكمة منها قاطعة بأن التعدد غير محرم لمن عجز عن الخطة المثلى وهي التوحد. رخصة مبذولة لمن لا مندوحة لهم عنها، والمرتقى فوق ذلك مفتوح لمن استطاع وهو محمود. وها نحن نرى ظروف الناس تتقدم بهم يوماً بعد يوم نحو سياسة التوحد في الزواج، مع ارتقاء العلم، وانفساح الفرص للزواج عن بينة ودرس وتمحيص.

ولا بد في هذا المقام من التعرض لناموس الزواج أصلاً، بعد أن أشاعت المسيحية حوله جوا خاصاً، خلاصته أن العفة وأن الرهبانية هي الأصل، ومن لم يستطع ذلك فليتزوج. فكان الزواج رخصة يرتخصها من لا مندوحة له من ذلك والسلام. ولا شك أن هذا المفهوم مرتبط بفكرة الخطيئة الأولى، واعتبار أن العلاقة الجنسية شر في ذاتها ولذاتها. وإن الجسد كله عورة بكل رغائبه وطلبه للطيبات من الدنيا، فهذا الترهب، مع النسك، والصيام المسيحي العزوف عن أطايب الادام، أدلة على الضيق بالبدن، وازدرائه، وصحبته على مضاضة، والنظر الى مطالبه، والى زينة الدنيا جملة نظرة عداء وخصومة. البدن شر لا بد منه، وكذلك الزواج. والخير كل الخير في محاربتها وعدم الانسياق لهما والاخلاد اليهما. حياة لا طمأنينة فيها ولا قرار. وإنما هو الصراع المستعر، والقلق المستمر، الذي تفسد به الدنيا، وتعيا به النفس. وقد كشف لنا علم النفس الحديث عن العلل والآفات المخربة التي تسمم ينابيع الحياة بسبب الشعور بالتأثم من الجسم وغرائزه النوعية. وما حال إنسان يمارس الحياة حزيناً من كل نبضة سرور بها وكل خلجة استمتاع فيها وكل انتفاضة طبيعية اليها؟ ان الاسلام لا يقاوم الحياة، بل يقر الفطرة البشرية على تقديسها، وهيانة ينابيعها من الاكدار. ولا يفصل بين حياة الروح وحياة الجسد حيث لا انفصال لهما في واقع الجبلة التي جبلها خالقها الحكيم الخبير. ان القرآن يكرر فضل الخالق وحكمته السامية في ابداع الجنسين وكيف ان هذه سنة الله في خلقه كافة في جميع مراتب الحياة. والرسول يؤكد ان الزواج نصف الدين. وأي تعبير أقرب الى فطرة الحياة، ويرفع عن تلك الصلة كل شبهة في خزي أو هبوط معيب، مما ورد في سورة البقرة، بذلك التعبير اللطيف الرقيق اللبق: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}. أو كما ورد في سورة النساء في باب تعظيم ما يكون بالزواج من ميثاق وعقد وعهد له حرمة ترعى:

{... وقد أفضى بعضكم الى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً...} بل ان الكراهة أمر لا يسوّغ البدار الى فصم العروة الوثقى، كما جاء في سورة النساء أيضاً: {... وعاشروهن بالمعروف.. فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله في خيراً كثيراً..}. ان الاساس في ذلك العقد أنه لا ضرر ولا ضرار {فإمساك أو تسريح بإحسان}. كما جاء في سورة البقرة.. وإن ذلك لمسبار الخلق الكريم الذي يترفع في سمت الفروسية عن الافتئات الذميم والجور اللئيم. حتى ان الرسول قال في خطبة الوداع:

"واستوصوا بالنساء خيراً فانهن عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله". ان الرجل يمسك المرأة ويقوم على أمرها في كنفه، فهي تحت رحمته، ومن ثم وجبت عليه الرحمة بها ولم يجز له الاستبداد بأمرها. إنها أمانة في يده وعنقه. وليس بعد أمانة الله محرجة لمن ألقى السمع وهو شهيد! استجابة للحياة في طلاقة وبراءة من التأثم. وتقديس لدوافعها وورود طلق لينابيعها، مع الحفاظ عليها من أكدار البهيمية المسفة. بذلك يسعد المرء من بني الانسان، وتترقرق في نفسه نضارة الثقة وافراح الحياة. ولا يجد حرجاً بين ربه ونفسه، وربه قد خلقه على تلك الفطرة، ولو شاء لجعله ملكاً لا بدن له ولا شهوة. كان لا بد من اصلاح ما بين الانسان وبين نفسه التي بين جنبيه بعقيدة موفقة بين الدين والدنيا. وقد نهض بهذا الاسلام، وكانت سنته في الزواج كفاء خطته في جوانب الهداية البشرية الفطرية، لتحرير البشر من الذعر، والخزي وعقيدة الاثم الشوهاء التي كبلته ولم تزل تكبل الكثيرين عن انطلاقة الحياة وسواء الفطرة.

الغربيون يطالبون بما يشبه تعدد الزوجات

نشرت الأهرام في سبتمبر عام 1953 نبأ مؤتمر "تورنتو" بإيطاليا الذي عقده اتحاد القانونيات العالميات، وسبق عقده من قبل في باريس وجنيف وستراسبورج وغيرها، ومثلت فيه بعض الدول العربية، ويعنى الاتحاد ببحث حقوق العائلة والأحوال الشخصية للمرأة، والعمل على وضع القوانين التي تكفل حمايتها. قالت الأهرام: وقد بحث المؤتمر في دورته الحالية مسألتين: حقوق النساء والابن غير الشرعي، وما سموه بالأم الآنسة، أي التي أنجبت أطفالاً دون أن تتزوج، ورأت المجتمعات ترتيب حقوق لكل امرأة قِبَل أي رجل يتصل بها، وذكرت رئيسة المؤتمر أن الاتحاد وضع مشروع معاهدة لحماية الابن غير الشرعي، وعلاقة المرأة بالرجل. وقد خطت امرأة انجليزية خطوة ايجابية لعلها من آثار الدعوة الى هذه المعاهدة، ورفعت قضية على طيار أمريكي تطلب النفقة لها ولوليدها منه، فرفضت المحكمة دعواها بحجة أن على فتيات الانجليز أن يحرصن في علاقاتهن مع الامريكان. وكانت هذه واحدة من سبعين ألفاً من الأمهات الأوانس في الأيام الأخيرة شغلن الضمير المتمدن في نصف العالم الحر...! بالاستماع لحظة الى أمريكي مسؤول ينادي بعقد معاهدة في شأن أولئك الفتيات البائسات.

وقد علقت الأهرام في "باب ما قل ودل" بتاريخ 18/02/1954 بما يلي:

ستعقد بين بريطانيا وأمريكا معاهدة من نوع جديد فلا هي سياسية ولا هي عسكرية، ولا هي مالية، إنها معاهدة غرامية. ويقول السناتور "جرين" عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي. إن الضمير الأمريكي يجب أن يتحرك، وإن معاهدة لتصحيح الموقف يجب أن تعقد.. أما الموقف فهو خاص بسبعين ألف ابن حرام، ولدوا بسبب الجنود الأمريكان، فلما حاولت إحداهن أن ترفع قضية نفقة حكم القضاء البريطاني ضدها، وقال القاضي في حكمه: إن العبرة تقضي بضرورة أن تحرص هؤلاء الشباب في علاقتهن مع الجنود الأمريكان حرصاً أكثر من ذلك وبذلك سقطت نفقة سبعين ألف فتاة وامرأة"[1]. أقول: ماذا بقي من إباحة تعدد الزوجات بعد المطالبة بوجوب انفاق الرجل على من اتصل بامرأة اتصالاً محرماً، وبالاعتراف بالاولاد الناشئين عن هذه العلاقة الآثمة؟ أليس الأفضل والأكرم للمرأة نفسها أن تكون علاقتها بالرجل علاقة مشروعة تحت سمع القانون وبصره، وفي رعاية المجتمع وتكريمه؟ أليس من حق هؤلاء الأولاد غير الشرعيين أن تكون ولادتهم عن طريق شرعي، فعيشوا في المجتمع مرفوعي الرأس، موفوري الكرامه؟ أليس الاصرار على منع التعدد قانونا مع المطالبة بالاعتراف بنتائج التعدد غير القانوني إهانة للمرأة، وإساءة الى الاولاد، وتشجيعاً على الاثم والفجور وفساد الاخلاق؟ بلى! ولكن الغربيين قوم منافقون في ادعاء المعاني الانسانية النبيلة!

[1] من كتاب "المرأة في الاسلام" للأستاذ كمال أحمد عون ص 87.

نتائج منع تعدد الزوجات في الغرب

بالارقام والاحصاءات

نشرت مجلة حضارة الاسلام في المجلد الثاني عام 1981 هـ و 1961م ص 165 ما يلي:

تدل الاحصاءات في السويد على أنه بين كل سبع زيجات تنتهي واحدة بالطلاق، وفي التزويج بين كل ست زيجات تنتهي واحدة بالطلاق. وليس نادراً أن تجد شابات في الدانمرك طلقن مرتين أو ثلاث مرات قبل أن يبلغن الثلاثين. أما الاطفال غير الشرعيين ففي السويد يولد طفل غير شرعي بين كل عشرة أطفال. وفي الدانمرك طفل بين كل ثلاثة عشر طفلاً، كما تتم حالات إجهاض كثيرة بواسطة سيدات غير اخصائيات مما حفز الصحف على مطالبة الحكومة كي تجعل الاجهاض قانونياً!.. لا يسأل الأطباء عنه إذا قاموا به علانية! أما في أمريكا فقد ولد 221 ألف طفل غير شرعي في الولايات المتحدة خلال عام 1959 أي بنسبة 52 طفلاً في كل ألف طفل ولد في أمريكا خلال ذلك العام. وقدمت الدكتورة – راشل دافيز – عضو الجمعية العمومية لولاية شمال كارولينا مشروعاً بتعقيم السيدات اللاتي يلدن أكثر من مولودين غير شرعيين!.. ونشرت المجلة المذكورة في ص 489 من المجلد الثاني ما يلي: يحاول البوليس الانجليزي الآن لقضاء على مائة ألف امرأة تعمل في البغاء وبعد أن صدر قانون بالغائه. وقد أعلن البوليس أخيراً أنه عجز عن القيام بهذه المهمة وحده، وطلب من كل سيدة أن تتولى الابلاغ عن كل فتاة من بنات الليل تجدها تتسكع في الطرقات، للقبض عليها في الحال. وقد نشرت جريدة اللواء الدمشقية في عددها الصادر بتاريخ 19 شعبان 1382هـ الموافق 14 كانون الثاني 1963م برقية صادرة عن الأمم المتحدة من وكالة "رويتر" ما يلي:

يقول تقرير الأمم المتحدة حول التمييز ضد الأطفال غير الشرعيين أن ما يقارب 30% من الأطفال في بعض البلدان يولدون خارج نطاق الزواج!

-12-

سكرتيرات بدل تعداد الزوجات

عند الغربيين

نشرت مجلة حضارة الاسلام في المجلد الثاني ص 364 ما يلي:

طلبت جوزبي الطلاق من زوجها في شهر العسل، ووقفت تبكي أمام القاضي وهي تروي له قصتها، قالت لقد احتفلنا بزواجنا في الأسبوع الماضي وقررنا أن نمضي شهر العسل على شاطئ البحر، ولكنني صدمت في اليوم التالي عندما وجدت فتاة شقراء جميلة تشاركنا في شهر العسل، لقد قال لي زوجي: "إنها سكرتيرته الخاصة وإنه لا يستطيع أن يستغني عنها لحظة واحدة!" ولم يكن ممكناً أن أحتمل وجود امرأة أخرى وهي تجلس أمام زوجي بالمايوه ليملي عليها خطاباته، ويمضي معها نصف شهر عسلي أنا.." وطلب القاضي من الزوج أن يختار بين الزوجة والسكرتيرة، فخرج من المحكمة وهو يتأبط ذراع سكرتيرته!...

حول طائفة "المورمون"

نقل الاستاذ كرد علي في كتابه: الاسلام والحضارة العربية: 1/2 عن غوستاف لوبون ما يلي:

"إن شيعة المورمون الأميركية القائلة بتعدد الزوجات لم يمنعها اعتقادها هذا من الارتقاء، ومن منتحليها من يتزوج عشر نساء، وقد كان البروتستانت هناك حاربوها إبان ظهورها حرب إبادة وتدمير، فهرب من دانوا بالمورمونية الى ولايات أخرى، ونشأت لهم في خمسين سنة مدنية زاهرة وأسسوا بكدهم في أرض كانت قفراء ممحلة ما يغبطون عليه من الصناعات الراقية، والزراعة المتقنة، والمعامل والمصانع، والمدن الزاهرة". ولقد سئلت احدى نساء المورمون عن رأيها في تعدد الزوجات فقالت: أفضل أن أكون المرأة العاشرة لرجل سامٍ بمداركه على أن أكون الزوجة الوحيدة لرجل متوسط. ويقول الأستاذ جبري وهو يقص ما شاهده في أمريكا في كتابه "أرض السحر":

أما المورمون فهم نصارى ولكنهم يعتقدون أن الكاثوليك والبروتستانت ليسوا نصارى في حقائقهم، فهم لا يمثلون النصرانية على النحو الذي أراده السيد المسيح، وقد اجتمعت الى رجل من أكابر رجالهم، وأخذ يقص عليّ حقيقة معتقداتهم، وفي جملة ما قال لي:

إننا نؤمن بنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم فقلت له: هل أستطيع اذا رجعت الى بلادي أن أقول لهم هذا القول؟ فتردد حينئذ دقيقة، وأخذ يشرح لي معنى إيمانهم بأنبياء الديانات، ولا بد لي أن أعترف في هذا المقام بأن صدري ضاق من الدخول في أمثال هذه الأمور. ولكني أستطيع أن أقول وهو كل ما بقي في ذهني من شرح صاحبنا، أنهم يقولون بتعدد الزوجات، ولقد كان لقائدهم "يونج Yunng" عشرون زوجة!.. ويتزوج الرجل منهم ثلاث أخوات ويجمع بينهم، ويتزوج أماً وبنتها، وقد كانت الحكومة في الماضي ساكتة عن ذلك، أما اليوم فقد منعت تعدد الزوجات، فاضطر المورمون الى الاكتفاء بزوجة واحدة، ولكنهم في المبدأ لا يزالون يعتقدون بتعدد الزوجات، ومعنى هذا أن الحكومة اذا سمحت لهم بهذا المبدأ عادوا اليه، وقد قرأت مقالا في بعض المجلات الامريكية لرجل مورموني يشرح قصته ويقول: عندي خمس زوجات! ولماذا يعجب الناس من هذا الأمر؟ اذا سألنا كل أمريكي عن رأيه في النساء، أفلا يشتهي أن يكون عنده أكثر من امرأة؟.... (ص 177، 178).

وقد صرح بهذه الحقيقة الكاتب الانجليزي الشهير "سومرست موم" حين قال: قلما يوجد في الدنيا رجل يحب أن يقضي حياته مع امرأة واحدة... (حضارة الاسلام) السنة الأولى، ص 250). وقد علقت المجلة على ذلك بقولها: لماذا يشنعون اذاً على تعدد الزوجات في الاسلام؟ وأقول: إن الكاتب الانجليزي إنما تحدث عن أخلاقه وأخلاق قومه الغربيين، ولكننا نحن المسلمين عشنا قروناً طويلة ونعيش اليوم – في جماهيرنا الساحقة - بالقناعة بامرأة واحدة، وأكثر الذين يعددون الزوجات وهم نسبة ضئيلة جداُ في جماهيرنا لم يعددوا لشهوات جنسية.

رأي في تفسير آيات التعدد

للأستاذ الشيخ محمد المدني شيخ كلية الشريعة في جامعة الأزهر رأي في فهم الآيات التي تحدثت عن التعدد نوجزه فيما يلي: ملخصاً من رسالته بعنوان "رأي جديد في تعدد الزوجات". يرى الأستاذ ان الآية التي أباحت التعدد جاءت في صدد اليتيمات، ومشروطة بالخوف من عدم العدل معهن، واستنتج من ذلك ان التعدد المباح في الاسلام مشروط بشرطين:

1- أن يكون له مبرر، وقد كان هذا المبرر في القرآن الكريم الخوف من عدم العدل في شؤون اليتيمات وعدم قيام الأوصياء بما يجب لهن من رعاية، وذلك أن مبادئ الاسلام تقتضي عدم الاختلاط بالاجنبيات، وذلك قد يؤدي أن لا يختلط الوصي بالمرأة التي مات عنها زوجها او البنت التي مات أبوها، خشية من الوقوع في الحرام، مع أن مصلحتهن قد تقتضي الدخول عليهن وسؤالهن عما يحتجن اليه، فأبيح له أن يتزوجهن اتقاءً لهذا المحظور وبذلك أبيح تعدد الزوجات الى أربع. هذا مرر واحد ذكره القرآن، ومثله مبررات الحروب التي تفني الرجال وتستبقي النساء.

2- أن يعرف من نفسه القدرة على العدل بين زوجاته.

هذان هما الشرطان اللذان يشترطهما القرآن لإباحة التعدد، وهو يرى أن الشريعة لا تمنع "أن يعهد بظروف الناس في هذا الى هيئة رسمية أو قضائية وأن يقيد الناس في التعدد بحكم هذه الهيئة جوازاً أو منعاً". ثم يقول: وليس ذلك من باب تحريم المباح، فان الذي معنا مباح بشرطين: أحدهما أن يكون له مبرر وداع شريف معترف به شرعاً، والآخر أن لا يؤدي التعدد الى الجور وعدم العدل، فولي الأمر لا يقول: أحرّم ما أحله الله، وأمنع ما أباحه، ولكن يقول: أراقب تحقق الشرطين اللذين قيد الله بهما هذه الاباحة، لئلا يقع من عدم تحققهما ضرر يكرهه الله ولا يأذن به، فهو بذلك خادم للحكم الشرعي لا معطل له[1]".

هذا خلاصة رأيه، وهو يرى أن بإمكان أي هيئة رسمية أو قضائية ان تتأكد من استطاعته العدل بين الزوجات، ونحن لا نزال على رأينا الذي ذكرناه في بحث التعدد أنه من المستحيل أن تحكم هيئة أو أناس بما سيكون عليه الزوج في المستقبل من عدل بين الزوجات أو عدم عدل بينهن، لأن هذا أمر نفسي متغير، فقد يكون فيما مضى من عمره متخلقاً بخلق العدل، ولكنه لا يكون كذلك في المستقبل، وبخاصة أن من يتزوج ثانية – مهما كانت الأسباب والمبررات – ستكون أحب الى قلبه من الأولى وآثر عنده منها، وهذا الإيثار في الحب يستلزم غالباً تفضيل الثانية على الأولى في الرعاية والعناية، فالقضية قضية خلق يحاسبه الله عليه، لا قضية تحكم المحكمة بوجوده أو عدمه.

[1] ص 22.

تناقص عدد النائبات في البرلمانات الغربية

جاء في كتاب "فتاة الشرق في حضارة الغرب" للأستاذ البحاثة محمد جميل بيهم ما يلي:

"كان عدد الممثلات الأمريكيات في مجلسي النواب والشيوخ سنة 1926 يبلغ 108 امرأة، ثم تصاعد هذا العدد في الانتخابات اللاحقة الى 131 امرأة، ولكن الزهد الذي استحوذ من بعد على نساء الولايات المتحدة في هذه الناحية جعل هذا العدد يتراجع حتى لم يبق في الكونجرس الأمريكي الآن إلا تسع نائبات فقط على ما قرأت!".

الملاحق - من فوائد اشتغال المرأة بالسياسة!..

نشرت مجلة "حضارة الاسلام" في عددها الثاني للسنة الثانية بتاريخ صفر 1381هـ وتموز 1961م ما يلي:

لجأ الحزب الاشتراكي الياباني المعارض الى وسيلة جديدة للدعاية الانتخابية فقد أعلن أنه سيبيع أحمر الشفاه وأنواع الكريم وأدوات الزينة بالتخفيض للناخبات اليابانيات، وذلك لمحاولة كسب أصواتهن الى جانبه في الانتخابات!...

أقوال الغربيين في المساواة

يقول ول ديورانت مؤلف قصة الحضارة:

إن المرأة التي تحررت من عشرات الواجبات المنزلية، ونزلت فخورة الى ميدان العمل بجانب الرجل، في الدكان والمكتب، قد اكتسبت عاداته، وأفكاره، وتصرفاته، ودخنت سجائره ولبست بنطلونه...

ونشرت الأهرام 30/04/1955 ما يلي:

كل مظهر من مظاهر الحياة يجافي المساواة، فالمساواة التي لا تقوم إلا نظراً في عنصر من عناصر الكمال، وهل للكمال أثر في احداث الحياة؟ المرأة تطلب مساواتها بالرجل في الحقوق، ويهيب بها "جول لميتر" ان لا تتشبه بالرجل اذا أرادت أن تكون مساوية له، بل أن تمعن في الأنوثة. وقال: على المرأة أن تتزوج حديثة السن – اذا استطاعت – وأن تكره الحياة الخالية من الجد، وأن تكون لها أولاد وألا تشفق من ارضاعهم، لأن أداء الواجبات الطبيعية عن طواعية يتحول الى سعادة، وأن تحب أولادها مرضاة لهم، لا مرضاة لها، وألا تصرفها عن العمل، وأن تجعل منهم رجالاً، حينئذ تزداد المرأة سلطانا، فتحتل في المجتمع مرتبة أعلى من المرتبة التي قد ترتقي اليها بحكم القانون، وحينئذ لا تكون المرأة مساوية للرجل، بل تكون أرفع منه، ذلك ما يطلب الرجل من المرأة فلا عجب أن يكون أحب الرجال اليها أشدهم مقاومة لمطالبتها بحقوقها[1]".

وقال "غوستاف لوبون" في كتابه "سر تطور الأمم": وباسمه (باسم مذهب المساواة) قامت المرأة تطلب المساواة بالرجل في الحقوق وفي التربية، وقد نسيت ما بين النوعين من الفروق العظيمة في القوة العاقلة! وهي اذا فازت بمطلبها جعلت الأوروبي رجلاً من الرُحّل لا يعرف له بيتاً يؤويه ولا عائلة يسكن اليها... أقول: كتب لوبون هذا الكلام منذ ثمانين عاماً تقريباً. وقد تحقق ما قاله عن البيت الاوروبي الى حد كبير كما يشهد بذلك الأقوال والاحصاءات التي ذكرناها في هذه الملاحق. ومن طريف ما نقلته الصحف في هذا الموضوع، ما نشرته جريدة الأيام الدمشقية في تاريخ 20 شعبان 1382هـ الموافق 15 من كانون الثاني 1962م تحت عنوان "مع الناس": قال المعلق البريطاني "كونيتبن كرو": كثيراً ما يختلط علينا الأمر في بريطانيا، فلا ندري: هل طابور الدراجات البخارية المقبل من بعيد هو طابور نسوان، أو رجال! فجميعهم شعورهم قصيرة، وكلهم يرتدون السويتر والبنطلون القصير ويدخنون، وسبحان من قلب رجال العصر الى نساء، ونساءهم الى رجال!!

[1] نقلاً عن كتاب "الاسلام والأسرة".

تمرد المرأة الغربية

نشرت مجلة "حضارة الاسلام" في ص 491 من المجلد الثاني:

سئل عدد كبير ممن اعتادوا زيارة لندن من الأجانب، عما طرأ على المرأة الانجليزية من تغير في نصف القرن الأخير، والسؤال وجه من احدى المجلات لمن تجاوزوا طبعاً الخمسين من العمر، وقد ثبت من اجاباتهم أن أبرز مظاهر هذا التغير، هو ان الانجليزية اندفعت وراء الحصول على حريتها حتى وصلت الى ما يسيء الى الحرية، فهي تحاول أ، تثبت للرجل أنها ليست أقل منه في شيء، ولهذا تأبى أن تستعين به في شيء!... وأصبح من المألوف في انجلترا أن تمتنع الزوجة عند عقد قرانها عن أن تقسم القسم التقليدي: "أقسم أن أكون مطيعة لزوجي" لأنها ترفض أن تتقيد بهذه الطاعة، وهو ما لم يحدث في أية دولة من دول أوروبا...

آراء المفكرين الغربيين في ضرر اشتغال المرأة

قال العلامة الانجليزي "سامويل سمايلس" وهو من أركان النهضة الانجليزية:

"إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد فان نتيجته كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية، لأنه هاجم هيكل المنزل، وقوض أركان الأسرة، ومزق الروابط الاجتماعية، فإنه بسلبه الزوجة من زوجها والأولاد من أقاربهم، صار بنوع خاص لا نتيجة له إلا تسفيل أخلاق المرأة، إذ وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات المنزلية مثل ترتيب مسكنها وتربية أولادها والاقتصاد في وسائل معيشتها، مع القيام بالاحتياجات البيتية، ولكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات بحيث أصبحت المنازل غير المنازل، وطفئت المحبة الزوجية، وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الطريفة القرينة المحبة للرجل، وصارت زميلته في العمل والمشاق، وباتت معرضه للتأثيرات التي تمحو غالباً التواضع الفكري والأخلاقي الذي عليه مدار حفظ الفضيلة[1]".

[1] دائرة معارف فريد وجدي: 08/639.

تبرم الغربيين من نتائج عمل المرأة خارج بيتها

نشرت جريدة الأخبار القاهرية بتاريخ 08/03/1953:

اذاعت باحثة انجليزية – أخيراً – بعد استفتاء اجرته بين ثمانمئة امرأة عاملة: إن المرأة ينقصها الطموح، وان ذلك هو سبب تفوق الرجل عليها في ميدان الأعمال ثم قالت هذه الباحثة: إن المرأة العاملة تشغلها امورها الشخصية فقط، فهي تعنى بملابسها وتصفيف شعرها. وفي تاريخ 09/03/1953 نشرت الجريدة المذكورة مقالاً للأستاذ علي أمين قال فيه: كنت دائماً من أنصار اشتراك المرأة في الحياة العامة، وكنت أنادي أن على الزوجة أن تبحث عن عمل تكتسب منه حتى تضاعف دخل الأسرة، وترفع مستوى المعيشة في البلاد، ولكني قرأت اليوم في جريدة "الايفننج ستاندارد" بحثاً للدكتورة "ايدا ايلين" بينت فيه أن سبب الأزمات العائلية في أمريكا، وسر كثرة الجرائم في المجتمع، هو أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة. فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق... وتنادي الخبيرة الاميركية (المذكورة) بضرورة عودة الأمهات فوراً الى البيت... حتى تعود للأخلاق حرمتها. وللأبناء والأولاد الرعاية التي حرمتهم منها رغبة الأم في أن ترفع مستواهم الاقتصادي. وقالت الدكتورة "ايلين" أن التجارب أثبتت أن عودة المرأة الى الحريم، هو الطريقة الوحيدة لانقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي يسير فيه، ثم قال علي أمين: ولا شك أن غياب الأم عن بيتها قد أثر تأثيراً خطيراً على النشء الحديث، وهدم التقاليد التي كانت تعتمد عليها الاسرة ولكن هل معنى هذا أن تعود المرأة الى سجنها القديم؟ وهل يمكن للمرأة التي ذاقت طعم الحياة العامة "ان تعود المرأة الى المطبخ؟ وتقضي وقتها في تقشير البطاطس وجلي الصحون[1]؟". أقول: بعد الاعتراف بخطورة مغادرة المرأة بيتها للعمل، على الاسرة والمجتمع، أي معنى يبقى لاستنكار عودتها الى المطبخ؟ ان الاعتراف السابق هو حكم العقل، والتساؤل الاخير هو ايحاء العاطفة؟ والمجتمعات لا تبنى على العواطف الهوجاء!..

ثم من الذي قال: إن عمل المرأة في بيتها هو تقشير البطاطس وغسل الصحون؟ لو كان الأمر كذلك لأغنى عنها أي طباخ أو طباخة؟ أهكذا تُسِفّون برسالة المرأة الى هذا الحد؟ هل الخطر الذي تعترفون به على الاسرة والمجتمع، هو عدم وجود امرأة في البيت تقشر البطاطا وتغسل الصحون؟ أم هو عدم وجود زوجة تشرف على البيت، وأم تعنى بتربية الأطفال؟ ثم أي عاقل يعرف خطورة رسالة المرأة في البيت، يعتبر تفرغها لأداء هذا الواجب سجناً؟ فلم لا نقول ان الموظف الممنوع من ترك وظيفته ليعمل ويكتسب يعتبر في ديوانه في الوظيفة سجيناً؟! ونشرت جريدة الأهرام تحت عنوان "مع المرأة" وتحررها سيدة: إنهم في انجلترا طعنوا في المرأة العاملة في أنوثتها، بعد أن عجزوا عن ردها عن العمل، واقاموا استفتاء بين عدد كبير من الرجال من مختلف الطبقات لمعرفة رأيهم في أهم الصفات التي تعبر عن أنوثة المرأة، وادعوا ان نتيجة الاستفتاء كانت كالآتي:

1- طبقة العمال قالت: ان الانوثة تبرز في الفتاة التي تتدلل وتمتنع في نفس الوقت، فتفر من الرجل ان قرب منها، وإذا ابتعد عنها عادت من نفسها قبل ضياع الفرصة!
2- واتفق الفنانون على ان الفتاة الهادئة، هي الأكثر انوثة، لأنها توحي بالضعف، والضعف هو الانوثة.
3- أما الموظفون والطلبة الجامعيون الذين هم أكثر احتكاكا بالمرأة، فقد اتفقوا على أن الأنوثة لا تتمتع بها الا المرأة التي تجلس في بيتها، حيث ترعى أولادها بنفسها، وتقوم بجميع أعمال المنزل، أما المرأة العاملة فهي مجردة نهائياً من الأنوثة، وكان هذا رأي الأغلبية هناك.

ثم قالت المحررة نفسها في باب "مع المرأة" في عدد آخر:

محاولة هدم المرأة العاملة انتقلت هذا الاسبوع من انجلترا الى أمريكا. فقد اجتمع أعضاء الكونغرس الامريكي لمناقشة موضوع منع الأم التي لديها اطفال من الاشتغال مهما كلفها ذلك. قال عضو منهم في تبريره للمنع: ان اشتغال الامهات يسبب مشكلات إجتماعية واقتصادية لا حصر لها. وقال آخر: إن الله عندما منح المرأة ميزة انجاب الأولاد لم يطلب منها أن تتركهم لتعمل في الخارج، بل جعل مهمتها في البقاء في المنزل لرعاية هؤلاء الأطفال. وقال ثالث: إن المرأة تستطيع أن تخدم الدولة حقاً، إذا بقيت في البيت الذي هو كيان الأسرة. وقال رابع: إنه لمن الواجب اتخاذ قرار سريع بمنع المرأة التي لديها اطفال دون الثامنة من العمل. وقال خامس: إن الأم كالفيتامين، اذا حرم الأولاد منها، مرضوا وماتوا....

واتفقوا في النهاية على السماح للمرأة بالتعليم حتى تفيد أولادها مستقبلاً، أما العمل فلا. ثم أخذت هذه المحررة تهاجم هذه الآراء، وتزعم أنها ليست أكثر من غيرة من الرجال لمنافسة المرأة له في العمل. وأعلنت في عدد آخر من الأهرام هزيمتها في مهاجمة القائلين بمنع المرأة من العمل فقالت: توليت المرافعة في قضية خاسرة، ودافعت عن مكانة المرأة العاملة وأنوثتها، ولكن يبدو أنني سأكف عن مرافعتي بعد أن تبينت أني خسرت القضية بهذا الجواب الذي وصلني من واحدة منا، صاحبته سيدة، تشغل مركزاً محترماً، وتعمل من خمس وعشرين سنة! تقول لي بالحرف الواحد:

"إما أنك تخدعين نفسك، وإما أنك ما زلت في أول سنوات العمل، إن الرجال على حق فيما يقولون.. فالمرأة العاملة تفقد انوثتها فعلاً بالعمل، وقد يدهشك أنني أتمنى بعد أن أمضيت مدة طويلة في العمل المضني، واشعر أن غيري كثيرات يشاركنني هذا التمني – أن لا أخرج من بيتي، وأن لا أترك أولادي صباح كل يوم لأذهب الى مكتبي، ولكنني أعمل وأشقى، لأفقد أنوثتي فعلاً في سبيل العند (العناد) أنني مثلك أخشى أن يقول الرجال إننا تراجعنا عن ميدان العمل وفشلنا، ولذلك فأنا وغيري نضحي بأنفسنا لكي نغيظ الرجال، قولي الحقيقة: إن المرأة مهما تقدمت في عملها، فهي لا تحب أن تصبح رجلاً.. بل تتمنى أن تتمتع بأنوثتها الى أقصى حد، حالة واحدة تتمنى فيها المرأة أن تعمل، عندما يكبر الأولاد، ويذهب كل منهم الى حال سبيله، وفي هذه الحالة تستشعر رغبة شديدة في العمل إذ لم يعد هناك ما يذكرها بأنوثتها، إنها تعود الى العمل باحساس الرجل لا باحساس المرأة[2]".

[1] من كتاب "الاسلام والاسرة" للاستاذ معوض عوض ابراهيم.

[2] عن الاسلام والأسرة: ص 37-39.

الزواج يهدد النظام المدرسي - الهاربون من زوجاتهم

الزواج يهدد النظام المدرسي

في مجلة حضارة الاسلام، المجلد الثاني ص 101 ما يلي:

انزعجت السلطات التعليمية في سكوتلاندا بسبب موجة الزواج التي تعصف بالمدرسات فقد تبين أنه خلال عام 1960 عينت 1563 مدرسة في سكوتلاندا وفي نهاية العام الدراسي تركت ألف منهن الوظيفة للزواج، وقالت السلطات: إن الزواج يهدد النظام المدرسي. أقول: هذه طبيعة المرأة كما خلقها الله لا تجد أغلى عندها من الأمومة وحياة البيت، فكل اخراج لها عن هذه الفطرة مصادمة للطبيعة، وتعذيب للمرأة، وإخلال بالمجتمع فإذا جاز أن تمارس التدريس للأطفال والاناث، فأي مبرر لإخراجها عن طبيعتها وتعريضها للعذاب في غير ما تقتضيه مصلحة الأسرة وتبيحه شرائع الله؟

-22-

الهاربون من زوجاتهم

في مجلة حضارة الإسلام ص 960 من المجلد الثاني:

أعلنت اليوم هيئة مقرها بنيويورك وعملها البحث عن الزوجات أو الأزواج الهاربين من بيوتهم، أنه قد اتضح من العمليات التي قامت بها في عام 1952 أن في الولايات المتحدة سبعين ألف زوج هارب من زوجته مقابل 15 زوجة فقط هاربات من أزواجهن.

أثر اشتغال المرأة في انتشار البطالة

قالت محررة "مع المرأة" في اهرام 19/10/1960:

بدأ الرجال في أمريكا يخشون اكتساح المرأة لجميع ميادين العمل بشكل يهددهم بالبطالة، فقد دلت الاحصاءات الأخيرة على أن هناك 24 مليون امرأة عاملة نظامية، علاوة على السيدات اللاتي يعملن بصفة غير منظمة أو غير رسمية وبذلك تصبح نسبتهن ثلث عدد العاملين، ولوحظ أن نسبة العاملات ترتفع بشكل مخيف جداً في كل عام حتى تنبأ الاخصائيون باكتساح المرأة في خلال سنوات قليلة جداً. وقد بدأت المرأة العاملة في أمريكا تهدد نقابات العمال تهديدات صريحة إذا لم تلب لها جميع رغباتها، وفعلاً بدأت نقابات العمال تعطيها امتيازات جديدة لتوفر لها الراحة الكاملة في العمل وتمكنها – في الوقت نفسه – من القيام بواجباتها الاخرى في البيت كزوجة وأم.

ندامة النساء في الغرب على اشتغالهن خارج المنزل

جاء في كتاب "فتاة الشرق في حضارة الغرب" للاستاذ محمد جميل بيهم:

وجدير بالذكر الاشارة الى أنه حتى النساء اللواتي قضى عليهن الزمان بمغادرة المنزل وراء الكسب، غلب عليهن الاسى والندامة لهذا المصير، واكبر دليل على ذلك الاستفتاء الذي قام به معهد غالوب في أمريكا من مدة قريبة – وهو معهد مهمته الاستفتاءات العامة لتحديد اتجاهات الرأي العام – قام باستفتاء علم في جميع الأوساط في الولايات المتحدة بصدد تعيين رأي النساء الكاسبات في صدد العمل، واذا هو ينشر الخلاصة الآتية: "إن المرأة متعبة الآن، ويفضل 65% من نساء امريكا العودة الى منازلهن كانت المرأة تتوهم انها بلغت امنية العمل، اما اليوم، وقد أدمت عثرات الطريق قدمها، واستنزفت الجهود قواها، فانها تود الرجوع الى عشها والتفرغ لاحتضان فراخها".

المرأة الغربية تفضل الزواج على العمل

ذكرت محررة باب "مع المرأة" في اهرام 21/12/1960 تحت عنوان: "الاحصائيات اثبتت أن المرأة تفضل النجاح في زواجها عن النجاح في عملها" ما يلي:

"في المانيا اجريت احصائيات ضخمة بين السيدات اللاتي يمتلكهن المراكز الكبيرة في الشركات والمصالح، وسئلت كل واحدة: هل تفضل نجاحها في العمل؟ أم نجاحها في الحياة الزوجية؟ ومن الغريب جداً ان الاجابات كانت واحدة بدون استثناء! فقد اجابت كل سيدة متزوجة بأنها تفضل النجاح في حياتها الزوجية على النجاح في عملها، وانها مستعدة للتضحية بعملها ومركزها الكبير، ولا يمكن ان تضحي ببيتها وزوجها وأولادها. وأجابت مجموعة كبيرة من السيدات غير المتزوجات: بأنهن كن يفضلن الزواج، مع البقاء في مراكز صغيرة جداً، وتقاضي مرتبات ضئيلة جداً من الوصول إلى هذه المراكز المرموقة بدون زواج، فقد تبين لهن أن النجاح في العمل لم يعطهن الاستقرار والسعادة التي تتمناها كل واحدة لنفسها[1]!..

[1] نقلاً عن كتاب "الاسلام والأسرة" ص 43-44.

كاتب غربي يؤيد تفرغ المرأة لشؤون البيت وانفاق الزوج عليها

ويؤكد أن ما تقوم به المرأة في البيت أثمن من المال

نشرت جريدة "الأيام" الدمشقية في أحد أعدادها الصادرة في آب (أغسطس) 1962 خلاصة مقال عربه السيد سعيد م. عودة عن احدى المجلات الغربية واليك هذا المقال:

يقول الكاتب في بحثه:

"ما هي الدوافع والقوى التي تدفعنا الى الزواج باعتباره طريقاً للحياة؟ إن أول تجربة للانسان في حياته هي اندماجه في مجتمع صغير ووحدة خاصة هي العائلة، وهذا المجتمع الصغير المؤلف من بعض الأفراد والذي كان نتيجة للزواج يمثل المهد الأول "لطبيعة الاجتماع" فهذه الحياة العائلية التي يولد فيها الانسان أول حياة اجتماعية يراها ويعرفها. وقد لا نستطيع ان ندرك الطابع الذي تطبعه الحياة العائلية في نفوسنا ولكننا نصبح متأثرين، تأثرا كبيرا قبل أن نتعلم بفترة طويلة ما يمكن أن يحل محله، فإذا جاء الوقت للتفكير فيه، فان فكرة تكوين الأسرة تبدو أمام أنظارنا مسألة طبيعية وصحيحة وواجبة، لأننا نريد أن نصبح كآبائنا وأمهاتنا، فما نكاد نبلغ سن الرشد حتى نبدأ في الاعراب عن رغبتنا في تأسيس العلاقة الاجتماعية التي عرفناها.. وهي العائلة. والذي لا مراء فيه أن أغلب الأسباب التي نقدمها للإجابة على سؤالنا:

- لماذا نتزوج؟ إنما هي أسباب تأتي بعد التفكير، بالزواج، وما من واحد يقول إنه طبع بهذا الطابع العائلي منذ نشأته، وإنه يفعل ذلك بضغط العادة فيؤلف أسرة خاصة به. وبدلا من ذكر هذه الأسباب الراسخة في أعماق نفوسنا فإننا نكتشف قبل أن يتم الزواج كل مزايا الزواج ونذكرها كأسباب واقعة للزواج. على أننا نفشل في أن ندرك أن هذا الاكتشاف لم يكن نتيجة تفكيرنا الشخصي في هذا الموضوع، بل هو الواقع ثمرة من ثمرات ثقافتنا الاجتماعية، والنساء أكثر حساسية من الرجال في الشعور لكل ضروب الضغط الاجتماعي. وعلى الرغم من التحرر المزعوم الذي تتشدق به المرأة. فان الغالبية الساحقة من النساء خلقن ليكن ربات دور، وعلى الرغم من أن عدد النساء الباحثات عن أعمال لهن خارج الدور يزداد يوماً بعد يوم، فان المرأة تفضل الزوج على العشيق، لأن الزوج يستطيع أن يقدم لها الضمان الاقتصادي والحب معا، أما العشيق فلا يقدم لها الا الحب وحده. ومن أجل البناء الاقتصادي للمجتمع، ورسوخ قدم الرجال في هذه الناحية، فان النساء يفضلن الزواج لا بقوة ضغط العادة وحدها، بل لحاجتهن للضمان الاقتصادي كذلك. والمرأة التي تتزوج تعلو مكانتها علواً فعلياً، وهذا عامل يجب أن لا يغفل فإنها تصبح بعد الزواج ربة بيت خاص بها، وبعد أن كانت مسؤولة أمام والديها، فإنها تصبح وهي تدير تبعا لرغباتها الشخصية وتحس الى جانب ذلك أنها أصبحت عاملاً في المجتمع. والزواج يمنح المرأة ربحا عاطفيا خفيا يضاف الى شعورها باستقلالها، فالمرأة بحكم الزواج أصبحت مهيمنة على سلوك زوجها وهذه خطوة واسعة نحو النضج الحقيقي. وفي بنائنا الاجتماعي الحالي لا يطلب من المرأة شيء أكثر من أن تبلغ وأن تكون قادرة على التناسل. وليست دوافع الرجال للزواج بأكثر من دوافع النساء ولا يجني الرجال من الزواج أقل مما تجنيه النساء. ومن الخطأ الكبير أن يقال إن الرجل بما ينفقه من ايراده على الدار هو العائل الوحيد للأسرة. فالمرأة تؤدي عملاً كذلك، ولو قومت الأعمال التي تقوم بها في الدار بالمال، لا ربى أجرها في كثير من الحالات على ما ينفقه الرجل!.

- ال إن الرجل بما ينفقه من ايراده على الدار هو العائل الوحيد للأسرة. فالمرأة تؤدي عملاً كذلك، ولو قومت الأعمال التي تقوم بها في الدار بالمال، لا ربى أجرها في كثير من الحالات على ما ينفقه الرجل!.

وفي حالة الزواج يجد الانسان شخصاً آخر يعنى بالكثير من حاجاته ولوازمه، ولا ريب أن المرء يستطيع أن يجد كثيرين يؤدون هذه الحاجات، ولكن هناك ثمرات أحسن وأفضل حين نجد شخصاً واحداً يؤدي كل هذه المهام في عناية خاصة، ومثل هذا الشخص يوفر علينا عناء البحث من حين الى حين، عن الاشخاص الذين يستطيعون اداء هذه المهام، ويوفر علينا العناء واضطراب الاعصاب اللذين نعانيهما من امثال هؤلاء الاشخاص العديدين المتغيرين. والزوج يخلق مجتمعاً دائماً ويطرد الوحدة من الدار، فثم من يستطيع أن نتحدث اليه، وان نضع معه خطط المستقبل، وهذا الاجتماع بين اثنين من خير نعم الزواج، لأنه من العسير على المرء أن يشق طريقه وحيداً في الحياة. والوحدة شر مستطير لبني الانسان، ومن أخطر أمراض الانسانية، ومن آثارها تلك الاعراض المفجعة: مثل الشك والتردد والخوف وفقدان الثقة بالنفس، والضجر والملل الدائمين وشرود الذهن، أما مساهمة الرجل والمرأة في الزواج، فإنها تتيح لكليهما الاستمتاع بالحياة ومسراتها. ان الزوج يقدم للانسان الفرصة للتخلص من ضروب التظاهر والادعاء فيطلق نفسه على سجيتها ويستمتع بالاعجاب والحب.... وليس ثم مخلص لنا من آلام الوحدة وأوجاعها بغير الزواج".

اضطراب الحياة العائلية في الغرب نيتجة لاشتغال المرأة

ونشرت "الايام" الدمشقية في آب 1962 ترجمة المقال التالي عن احدى المجلات الألمانية:

كانت المرأة الألمانية في الماضي تفتش عن أناقتها وتبحث عن رحلات الصيد والمغامرة، وتعتني بانجاب الأطفال وتربيتهم، إلا أن تغييراً كبيراً طرأ على حياتها اليوم، فأضحى همها الأول أن تعمل من أجل كسب المال وجمعه، بغض النظر عن حاجتها اليه أو عدمها، فكثيرات أولئك اللاتي يعملن من أجل شراء سيارة فولكسواغن!، وقد عبر وزير العائلة الألماني "فرانز جوزيف ويرميلنغ" عن ذلك بدهشة قائلاً: ان المرأة الألمانية أصبحت اليوم تفضل أن تحصل على سيارة فولكسواغن (تستعمل للمرة الثانية) على أن تنجب طفلاً ثانياً..! ففي العاصمة (بون) تجد النساء يقمن بأعمال كثيرة منها – الحلاقة – سوق السيارات – قطع التذاكر – بيع اللحوم – أعمال البوليس.. الخ. وقد بلغ عدد النساء في اثنتين وعشرين مهنة نسبة تفوق نسبة الرجال كما تسطير المرأة – كذا – على مهنة من أصل كل خمس مهن. وتقول المجلة الألمانية التي نشرت هذا التقرير: ولا تعمل المرأة بسبب حاجتها للمال، فان 13% من النساء يحتجن للمال الذي يحصلن عليه من وراء كدحهم، و 87% منهن مدفوعات بالرغبة في منافسة الرجل!. وتضيف المجلة قائلة: "وقد تسببت هذه النزعة في خلق المشاكل العائلية فازدادت نسبة الطلاق ازدياداً مريعاً، وتناقص عدد الأطفال تبعاً لرغبة المرأة في تجنب الارهاق بالتربية والاهتمام بشؤون المنزل. وفي هذا الجو تعود المرأة لتتذكر الأيام القديمة التي لم يكن الرجل فيها يملك سيارة، ولكنه كان يملك المحبة والعطف والهدوء".

اعلان الحرب على المرأة العاملة

وجاء في مجلة "حضارة الاسلام" ما يلي:

تجددت الحملات في انكلترا على المرأة العاملة فلقد تقدم بعض الاعضاء في مجلس العموم البريطاني باقتراع بالغاء العلاوات التي تضاف الى مرتبات المرأة المتزوجة ما دامت تحصل عليها من مرتب زوجها، وأكثر من هذا، اقترحوا عدم قبول طلب المرأة المتزوجة للعمل الا بعد الاكتفاء بالرجل أولاً، لأن توظيف النساء أدى الى بطالة قسم كبير من الرجال.

أثر حرية المرأة على الاخلاق- محاولات الحد من تبرج المرأة في أوروبا

أثر حرية المرأة على الاخلاق

نشرت مجلة "الفتح" في عددها الصادر 22 من المحرم 1336 الموافق 21 يوليو 1927 كلمة للفيلسوف الألماني شوبنهور جاء فيها:

"اتركوا للمرأة حريتها المطلقة كاملة بدون رقيب، ثم قابلوني بعد عام لتروا النتيجة، ولا تنسوا أنكم سترثون معي للفضيلة والعفة والأدب، واذا مت فقولوا: أخطأ أو أصاب كبد الحقيقة" (ص 51).

-30-

محاولات الحد من تبرج المرأة في أوروبا

ونشرت أيضاً في عددها الصادر بتاريخ 27 المحرم 1384 الموافق 4 يوليو 1929 ص 39 ما يلي:

نشر في مقطم الثلاثاء 25 يونيو سنة 1929 بين تلغرافاته الخصوصية خبراً بهذا النص:

"جاء في تلغراف من روما أن اللجنة التي عهد اليها مراقبة ملابس الحشمة للنساء قررت أن يكون الفستان مزدوجاً، وأن لا يكون شفافاً ولا لاصقاً بالجسم، ولا قصيراً جداً، ويجب أن تغطي الاكمام والأكواع، ويجب أن يكون طول فستان الفتاة الى الركبتين، وأن يصل فستان المتزوجات والأوانس الى ما تحت الركبة بكثير، ويحظر عليهن الجوارب الشفافة أو التي يكون لونها محاكياً للون الجسم".

حنين المرأة الغربية الى حياة الأسرة - في مشكلة الجيل الجديد في الغرب

حنين المرأة الغربية الى حياة الأسرة

نشرت مجلة "حضارة الاسلام" في عددها الأول للسنة الثانية بتاريخ المحرم 1381 حزيران 1961 ما يلي:

"روجعت 1800 أغنية شعبية صدرت في أمريكا فيما بين عام 1900 وعام 1950 لمعرفة أكثر هذه الأغنيات نجاحاً وأبعدها مدى، وقد تبين أن الملل من الأغنيات الخليعة التي راجت رواجاً كبيراً جعل هذه الأغنيات لا تأتي في المقدمة، بينما يدفع الحنين الى حياة الأسرة والأم وأيام الطفولة وهي الأشياء التي حرم منها الأميركيون الى تفضيل الأغاني التي تصور هذه الآمال المفقودة.

-32-

في مشكلة الجيل الجديد في الغرب

قالت مجلة حضارة الاسلام في المجلد الثاني ص 365:

تقوم حرب شعواء ضد المدارس الداخلية للبنات في أمريكا، وذلك بعد أن أثبتت الاحصائيات والاستفتاءات أن البنات في المدارس الداخلية يعانين متاعب نفسية وانحرافات لا حصر لها بسبب ابتعادهن عن جو الأسرة، وطالب علماء النفس بالغاء المدارس الداخلية بامريكا فورا وقالوا: ان الامهات اللاتي يضطررن الى ارسال بناتهن الى مدارس داخلية يجب أن يبحثن عن أي حل آخر غير المدارس الداخلية. وأكد علماء النفس هؤلاء أن علاج هذه المشكلة جذريا لا يمكن أن يتم إلا بعناية الأمهات ببناتهن، واشرافهن المباشر على تربيتهن. لأن كل بنت تصارح أمها بمشكلاتها، فإذا كانت البنت بعيدة عن أمها انطوت على نفسها، ونجم عن ذلك العلاج انحراف خطير... فالعلاج الحق أن تعود الأم الى بيتها.. وإلى أبنائها وبناتها."

المرأة في الحضارة الغربية

نشرت مجلة "حضارة الاسلام" التي تصدر في دمشق، في العدد الأول من السنة الثانية بتاريخ المحرم 1381 حزيران 1961 ما يلي:

أصدرت احدى المؤسسات الأمريكية منشوراً تحرم فيه على الموظفات البس الفساتين القصيرة جاء فيه: "محظور أن تكون ركبتا العاملات بالمؤسسة عاريتين وهن جالسات الى مكاتبهن" وقد ثارت ثائرة الجمعيات النسائية هناك لهذا القرار، وبعثت احداها لادارة المؤسسة تقول "ان هذا أمر تعسفي.. وثقوا أن جو العمل سوف تنقصه متعة كبيرة اذا لم تكن الركبتان مرئيتين!...".

وجاء في العدد نفسه ما يلي:

بلغ عدد سرقات المتاجر الكبيرة في انجلترا خلال العام الماضي (1960) نحو 34194 سرقة، هذا عدا الحالات التي لم تبلغ لادارة البوليس، والغريب أن 60% من السرقات ارتكبتها نساء جاوزن سن البلوغ، و 30% ارتكبها ذكور أقل من السابعة عشرة، وتقول الاحصائيات إن كل السرقات من النساء لم يكن في حاجة للمال!...

وجاء في المجلد الثاني ص 490 من المجلة المذكورة:

عندما زار وفد المغتربين العرب سورية جرت محادثة صحفية بين احد الصحفيين في دمشق واحدى المغتربات حول المرأة، فكان مما قالته المغتربة عن الحياة في الغرب وعن المرأة فيها، بعد أن تنهدت ألماً وحرقة: ليت رحلتنا تدوم، أو ليت البقاء يكتب لي هنا، وأشارت بيدها الى البعيد وتابعت: هناك.. حيث، بعيداً، بعيداً.. حركة وضجيج، ومادة، وسرعة، وتعايش غير انساني، كل انسان يريد أن يفهم الدنيا كسباً، وأن ينتهبها لذة، وأن يسيطر عليها نفوذاً، وما أصعب الحياة الصاخبة، وما أحلى أن يعيش الانسان في حدود إنسانيته، يفعل ما يرى أنه بحاجة اليه نابعاً من ذاته، ويعمل ما يريد لأن المجتمع أراد، ويتحمس لما لا يحسن لأن المجموعة متحمسة ويخالف ضميره ومزاجه ومبادئه في كثير من الأحيان لأن سنة السرعة والحركة تفرض عليه هذا، ولا يستطيع الهرب أو الانطلاق من السلسلة التي تطوقه.

ثم تابعت حديثها بلغة عربية غير سليمة ولكنها مفهومة تجيب على سؤال الصحفي حين سألها عن المرأة. وهل هي متزوجة؟ فأجابت:

لم أتزوج بعد، لأنني لم أجد الزوج الذي يقدس المرأة ويميزها، ويقدمها على نفسه ويعرف قدرها كالزوج العربي، هناك يعامل الزوج زوجته على قدم المساواة مع أي جار أو صديق! إنها شيء في حياته يجوز الاستغناء عنه، وفي أحسن الحالات يجوز أن يتساوى معه، أما هنا فالزوجة والمرأة بشكل عام، مفضلة، مدللة، محترمة المكانة، يسعى الرجل لاسعادها قبل أن يسعد نفسه، وعندما قال الصحفي الدمشقي للمغتربة: إن النساء هنا لا يرضين عن هذه المعاملة، إنهن يطالبن بالمساواة مع الرجل!... ضحكت المغتربة ساخرة، وقالت: لو ذهبن الى أمريكا، وأذعن ما يطالبن به هنا لضحكت كل النساء الأميركيات من هذه المطالب.. إن المرأة الأميركية تحسد المرأة العربية، وتتمنى حياة زوجية كحياتها. ونشرت المجلة أيضاً في ص 829 من المجلد الثاني ما يلي نقلاً عن مجلة "ومانزهوم كومبانيون": أصبح الحمل أهم مشكلة من مشكلات الصحة في دوائر الصناعة الأمريكية، فإن العاملات اللاتي يبلغ عددهن 20 مليون امرأة يوشكن أن يصبحن جميعاً في سن الحمل، وأكثر من نصفهن متزوجات، والعاقبة المتوقعة هي: نسبة تغيب عالية، ونسبة اجهاض آخذة في الازدياد، وعواقب سيئة تعرض الصحة للخطر، وقد وجدت شركة كبيرة أن سدس العاملات المتزوجات بتغيب، إما لأنهن قد وضعن، أو كن على وشك الوضع، أو أنهن أجهضن، وهذه الشركة لا تثبط الأمومة، ولكن هناك مصانع تطرد المرأة يوم تظهر عليها أعراض الحمل، فإذا هي تخير خياراً أليماً بين طفلها وبين عملها، وكثيراً ما تخفض أجرها فتستمر في العمل أو تأخذ طريقها الى طبيب يجضها، ويقدر الدكتور موريس فيشباين نسبة الارتفاع في حالات الاجهاض أثناء الحرب بما يترواح بين 20 و 40%. ونشرت مجلة حضارة الاسلام في ص 619 من المجلد الثاني ما يلي:

جاء في التقرير السنوي لوزارة الداخلية البريطانية أن عصابات النساء والمراهقات زادت زيادة خطيرة عما يهدد الأمن العام. القي القبض على 742 ألف فتاة وسيدة خلال العام الماضي بتهمة السطو والسرقة، وعشرة آلاف فتات تحت سن العشرين يتهمة الدعارة والتسكع والتحريض على الفسق. وجاء في التقرير أن 2680 فتاة تحت سن الثامنة عشرة دخلن السجن بتهمة السرقة بالاكراه. وقد صرح مدير سكوتلانديارد بأن عصابات المراهقات والنساء تهدد أمن لندن، وأن نسبة الجرائم التر ترتكبها الفتيات أكثر مما يرتكبه الفتيان، ويرجع هذا الى الحرية الفردية التي يتمتعن بها، ولبرامج التلفزيون الشاذة ولأماكن اللهو والخمر. ونشرت حضارة الاسلام في ص 819 من المجلد الثاني ما يلي: أحدث تصريح سكرتير الممثلة بريجيت باردو ضجة في الأوساط الفرنسية، فقد عقد مجلس بلدية باريس جلسة خاصة لمناقشة هذا الموضوع لما يؤدي اليه اعتزال الممثلة المذكورة من خلل في الموارد الاقتصادية لباريس. وشبيه بالنبأ تصريح أحد وزراء خارجية فرنسا السابقين "بيدو" حين قاوم الحركة التي تنادي بالبغاء الرسمي في فرنسا معلناً في خطاب رسمي: أن لبغايا باريس فضلاً على فرنسا لأنهن يجلبن لها ملايين الدولارات الأمريكية في كل عام!...

ونشرت "حضارة الاسلام" في ص 1079 من المجلد الثاني:

تعالج مجلة "نيودمن" قضية سبق أن عالجتها الصحف كثيراً ولكن هذه المجلة تعود لإثارة الموضوع من جديد، مستعينة بالنتائج المادية والاجتماعية التي أدى اليها اشتغال المرأة خارج البيت. وقد أوردت هذه المجلة كل الأسباب التي قيلت بقبول توظيف المرأة، وزادت عليها ما يمكن أن يقال في المستقبل، ولكن باستقراء النتائج أكدت بأن توظيف المرأة سلاح ذو حدين، فهو من ناحية يسد الفرص أمام بعض الرجال، ومن ناحية ثانية يقلل من الاعتناء بالبيوت والاهتمام بالأطفال. وقالت بأن هذا العصر ينظر الى الأطفال وكأنهم أنواع خاصة من الآلة والسلع، وأن دور الحضانة، وكل أنواع التسلية والاجتماع التي تقدم لهم، لا تعوضهم عن ساعة واحدة يقضونها مع أمهاتهم. وتقول بأنه من الصعب ما دامت الأم مشغولة بوظيفة خارج البيت، من الصعب أن تجعل للأطفال شخصية فيها خصائص الآباء، وفيها القابلية لنقل تراث الأجداد، لأن الطفل منذ أيامه الأولى يضيع في جماعة كبيرة تساعد على محو شخصيته، وأكدت المجلة بالنهاية أن عمل المرأة خارج البيت وتركها لأطفالها أصاب الأطفال والمجتمع بكارثة وأدى الى نتائج خطيرة، وأن الحل الوحيد لهذه المشكلة الاجتماعية الكبرى هو أن تعود المرأة الى بيتها وتنصرف الى تدبير شؤون أطفالها ورعايتهم.

نسبة الانتحار عند الفتيان والفتيات في تصاعد مستمر

الفراغ الداخلي دافع جديد

"ننقل المقال التالي عن مجلة "فوخن شاو" الصادرة في فينا بتاريخ تشرين الأول 1959 ترجمه الى العربية قلم التحرير في (حضارة الاسلام)":

بعد جدال مع أمها قفزت الى الارض في الأسبوع الماضي الفتاة اليزابيت البالغة من العمر اثني عشر عاماً من الطابق السادس حيث تسكن ووجدت هناك قتيلة. لم تكن الفتاة مجتهدة ولكنها كانت ذكية فدوافع الانتحار اذن ليست في هذا الجانب من حياتها بل تكمن في جانب آخر... في نفسيتها المحطمة، وان والديها يعيشان مفترقين "بعد طلاق" هذه الحادثة – وقبلها حادثة انتحار طفل – تقدم لنا الى المسرح مشكلة مهمة. انها مشكلة زهد الفتيان والفتيات في الحياة. كثيراً ما نتذمر من تلك الفئة التي تهيم بالخروج عن الخلق الاجتماعي وكثيراً ما يكون تذمرنا محقاً، واننا لا نعطي كثيرا من الاحيان الا التفاتة بسيطة عندنا نسمع بانتحار فتاة أو فتى كأن نقول بصوت منخفض: حماقة! ألم ير سبيلا آخر؟. نعم إننا لا نستطيع بسهولة أن نناقش الدوافع.. ولا نستطيع بسهولة أن نفهم أن وراء هذه المحاولات المتعددة تكمن دوافع مشتركة.. وليس سهلاً علينا كذلك أن نعيد النظر في طريقة التربية عند الآباء خلال عشرين عاماً مضت. ولهذا فإن الدراسة التي قام بها أحد أساتذة الجامعة في هذا المضمار تعد من الأهمية بمكان ولا غرابة أن قلنا انها موضوع الساعة. إن هذه الدراسة "حول انتحار الفتيان والفتيات، قام بها – الدكتور Ringel الاستاذ في مستشفى الجامعة لقسم الأمراض العصبية والنفسية في فينا وهي منشورة في المجلة العالمية للطب الواقي والصحة الاجتماعية: إن هذه الدراسة ليست ذات أهمية فقط في عالم الاخصائيين بل كذلك في عالمنا كله. اذا وصل الى الشرطة خبر محاولة انتحار فان المريض يؤخذ الى مستشفى التحليل النفسي، ولما كان الكثيرون يعتقدون أن في افضاء المريض الى الطبيب عاراً وعيباً، فانه كثيراً ما يحاول أهل المريض السكوت وإخفاء الحادثة غافلين ان هذا المحاول اذا عاد مرة ثانية فانه سيعود وقد هيأ أسبابا "دون أن يشعروا" أشد فتكا وفيها الجدارة أن تقضي عليه. والمحلل النفسي هو وحدة الانسان الذي يمكنه أن يقرر وضع المريض واحتمال عودته ثانية الى المحاولة وان يحدد الوسائل التي يجب استعمالها من أجل تلافي ذلك. الدكتور Ringel بدأ موضوعه بأعداد مفزعة.. ان اعداد محاولات الانتحار التي لم نتجح "والتي أنقذت" والتي أتى بها الى قسم التحليل النفسي في المستشفى الذي يعمل به ازدادت من عام 1948 الى عام 1956 من 650 حادثة الى 1040 حادثة سنويا ومن عام 1956 الى الآن حافظ العدد تقريباً على ثباته وهو 1040 حادثة كل عام، ففي هذه الأشهر الاحدى عشر الأخيرة من هذا العام بلغ العدد 953 وهذا يتفق مع النسبة السابقة.

وقد لوحظ أن النساء أكثر محاولة من الرجال، ففي عام 1948 كان عدد المحاولات من النساء 381 وهذا يوافق 85,61% من المجموع وفي عام 1956 كان العدد 590 أي بنسبة 56,73% وفي عام 1959 كانت النسبة 55,92%. كما لوحظ أن نسبة المحاولات في الفتيان والفتيات الذي تتراوح أعمارهم بين 14 عاما و20 عاما ترتفع باستمرار، فعند الفتيان كانت النسبة في عام 1948، 6,5% وفي عام 1956 6,53% وفي عام 1959 6,82%. وأما عند الفتيات فالتصاعد مخيف ففي عام 1948 حاولت 50 فتاة الانتحار وهذا يشكل نسبة 7,69% من مجموع محاولات الانتحار في ذاك العام وفي عام 1956 حاولت 89 فتاة الانتحار وهذا يشكل نسبة 8,55% وفي عام 1959 حاولت 150 فتاة الانتحار وهذا يعني نسبة 14,20%. وهذا يعني أن في كل تسعة أيام توجد ست محاولات انتحار، أربع منها من جانب الفتيات واثنتان من جانب الفتيان. يعرف الانسان في هذه الأيام أن محاولة الانتحار في كثير من الاحيان هي عملية رد فعل لوضع آني معين، والدافع ان كان خيبة حب أو سبباً آخر هو في كثير من الأحيان قابل للتفسير وللايضاح، ولكن الذي يجب أن يعرفه الانسان بالاضافة لذلك أن محاولة الانتحار هي غالباً ما تكون نتيجة تطور مريض تبدأ جذوره في الطفولة فاليأس وغيره من الأسباب التي قد تكون سبباً للانتحار هي على العموم لا تكون إلا في الكبر، ووجود حوادث محاولة الانتحار عند الاطفال تنبهنا الى وجود أسباب أخرى. إن 136 بنتاً حاولن الانتحار في 11 شهراً منهن 114 تعود لأوضاع عائلية مؤلمة وغير طبيعية. ثلاثة أرباع لم يكن لهن آباء عندما مروا في سنوات التطور المهمة: في 37 حادثة لم يعد الأب فيها من الحرب وفي الباقي: عائلات يعيش فيها الوالدان متفرقين نتيجة طلاق أو نتيجة نزاع وخلاف: أمهات مضطرة أن تعمل: آباء متغيرون: عائلات مخربة: نفسيات أطفال مهدمة. فقط هذه الأوضاع العائلية تفسر لنا محاولات الانتحار، وعندما نسأل فتاة: لعل هذا يسيء الى والديك تجيب: من يتألم عندما أفنى؟ وعندما يبحث الانسان في تاريخ حياة المريضة العائلية منذ البدء يجد تفسيراً لهذه الرسالة المؤثرة والتي كتبتها فتاة لأهلها قبل يوم من محاولة انتحارها، لقد كتبت:

(في مستهل رسالتي أخبركم أنني بغير تطلع ورغبة استلمت رسالتكم ويؤسفني أن أخبركم أن نفسي عازفة عن معرفة أي شيء عنكم، وكل ما أطلبه منكم هو أن ترسلوا لي أغراضي وأن لا تحاولوا الاهتمام بي، فما أعمله ليس لكم به شأن، وذلك لأنه لو كان الموضوع يتعلق بحاجاتي فلا أجد منكم سوى تململ وعزوف، لماذا تكتبون لي أنكم مرضى وانكم ضعفاء أنا لا يهمني هذا، واعلموا أنني لو رأيتكم في حالة النزاع فلا تحلموا آنئذ بجرعة ماء مني.. أشعر أنني مبغوضة من كل مكان، ولقد سمعت منكم كثيراً ما تقولون أنني حجرة في طريقكم وأنه يحسن أن تقتلوني، وعلمت أنكم تمنيتم موتي أثر حادثة الاصطدام التي وقعت بي. سأفعل ما يدهش الجميع ويحرركم ويتيح لكم الفرصة أن تختاروا انسانا آخر. فعلى كل حال يجب أن يقام بعمل فيه لا يراعي الانسان شيئاً، انني سأنتقم منكم جميعاً). لقد حذفنا من الرسالة المواضيع السيئة جداً، ولكن مع كل هذا فان القارئ يشعر كيف أن الفتاة تفضح حقدها، وتقول أكثر مما أرادته في أول الرسالة، ونلاحظ كذلك كيف أنها تتأرجح ما بين مهاجمة أهلها ومهاجمة نفسها فمرة تريد أن تنتقم انتقاماً دموياً، ومرة تريد أن تنتقم من نفسها فتنتحر. إنه من السهل أن نكسر العصا على فتاة تكتب الى والديها رسالة من هذا النوع، ولكن هذا دواء لا معنى له وتصور فاسد للتربية. الدكتور Ringel يوضح في بحثه سبب ازدياد محاولات الانتحار بأن هذا يعود لأن الفتيان قد عاشوا سنوات طفولتهم بأزمان غير ملائمة (المثال المحزن من عام 1938 الى عام 1945 يجب أن يكون درساً في الصحة النفسية فخلال ذلك الوقت ارتكب الآباء أخطاء جسيمة في تربية أطفالهم كان لها الأثر الكبير في سلوك أطفالهم فيما بعد. والدكتور Ringel يتوقع كذلك أن عدد محاولات الانتحار سيزداد حتى تنشأ ذرية جديدة ناشئة سليمة نفسياً في مجموعة الفتيان. وانه من الصعب بمكان أن توجد علاجات واقية لهذا المرض، لأن من لم يرتكب محاولة انتحار لا يعرض على التحليل، ومن يذهب متطوعا للعلاج النفسي؟ ويمكننا أن نقسم الـ 136 فتاة اللواتي حاولن الانتحار الى أربع مجموعات: ثلاث منها معروفة منذ زمن بعيد، وأما المجموعة الرابعة فلم تكن ظاهرة قبل حوالي عشر سنوات إلا نادراً، ولكنها بعد ذلك بدأت تكثر حتى أنها تأتي في المرتبة الثانية عدداً "بالنسبة الى المجموعات الأخرى" بالمرتبة الأولى خطورة.

المجموعة الأولى، وهي تمثل مجموعة ضعفاء العقول. هؤلاء الذين يعطون أحكاما بسرعة ويبدأون بالتطبيق. والى هؤلاء ينتمي الذين يحاولون الانتحار نتيجة لآلام الاضراس: عدد هذه المجموعة 14 من أصل 136.

المجموعة الثانية: تمثل أشخاصاً أخطئ في تربيتهم، أو أنهم متأخرون في تطورهم فيفضلون في حالات الاخفاق "كعدم تلبية رغبتهم في الحصول على بطاقة سينما" أو عندما يطلب منهم أن يعيشوا في بيت مخصص لأمثالهم.. يفضلون في هذه الأحوال أن ينتحروا.. هذه المجموعة قد ازدادت أخيراً وعددها 34 حالة.

المجموعة الثالثة: وهي تتألف من بنات لا يردن بالحقيقة أن ينحرن أنفسهن، إنهن مهيئات لا شعوريا أن ينطلقن باحتراس، "هدفهن اللاشعوري"، أن يحققن شيئاً: ولهذا يمكن معالجتهن بأن نولد فيهن الأمل بالنجاح. وعدد هذه المجموعة 49 وخطر اعادة الانتحار هنا قليل.

المجموعة الرابعة: وعددها 39 فتاة قدموا الى التحليل بعد محاولة انتحارهن، ولكن لم يتبين من النظرة الأولى أي سبب لانتحارهن، بل وعلى الأغلب هن على مستوى من الجمال لا بأس به، ويشغلن وظائف لائقة، وأوضاعهن العامة تعطي الأمل في مستقبل ممتاز بالاضافة الى أنهن على مستوى جيد من الذكاء ومستواهن العام أعلى من مستواهن العمري.. هذه مظاهرهن الخارجية ولكنهن داخلياً على شكل آخر.. فاحداهن تقول لا فرق عندي أن أكون في سن الستين أو أكون في سن السادسة عشرة من العمر. هذه المجموعة فريدة من نوعها، وهي غالباً ذات علاقات واسعة، ولكن لا تحقق احدى هذه العلاقات الشروط الملائمة لها، وكذلك وظيفة هذه المجموعة لا تعجبها.. اذا لم يكن هذا الرجل فآخر، وان لم تكن هذه الوظيفة فتلك.. ان نفوس هذه الفتيات فارغة.. وكثيراً من الاحايين لا يعرفن ذلك.. وان نظرن بمناسبة ما الى ذاتيتهن لنشأ مباشرة خطر محاولة الانتحار. ان طفولة هذه المجموعة تبين لنا بوضوح أن عنصر الحب كان مفقوداً "أو مقترا به" اثناء تربيتهن وان عائلاتهن مميزة اما بعدم انسجام أو بعد نظام. فعندما نقوم بدورنا أحسن قيام ونقدر اطفالنا ونحبهم نستطيع تكييف حياتهم ونزيد ارتباطهم بنا وبالعكس من لا يقدرهم ولا يهبهم الحب سوف لا يملأ شعورهم، وهذا مما يضعف قيمته لديهم ويؤدي الى فقدان الثقة. والفتيات اللواتي لا يجدن من يثقن به هن غير صالحات للحاية مما يجعلهن مرة أن يرفضن الحياة كذلك. ويلاحظ الكاتب أن خطر اعادة المحاولة عند هذه المجموعة شديدة، ويلاحظ كذلك أن نسبة محاولة الانتحار من هذا النوع عند الفتيان ضعيفة مع أنه هناك كثير منهم يعيش في نفس الظروف، والسبب في ذلك يعود الى أن الفتيان ينضم بعضهم لبعض، ويعوضون بذلك عن فقدان ثقتهم بأنفسهم، كما انهم يفرغون اعتداءاتهم على الوسط الخارجي بدلاً من صبهم هذا على أنفسهم.

ونشرت مجلة "حضارة الاسلام" في ص 829 من السنة الثانية، الخبر التالي:

تقول فرقة بوليس الأخلاق في مونتريال إن هناك حلقة رذيلة في المدينة تتبع وسيلتي التعذيب والضرب لارغام النساء على تعاطي البغاء أو مواصلته، ويقول اللفتانت دوت شارم – أحد كبار رجال البوليس – إنه قبل أن نهتدي الى الفتيات أو قبل أن يستطعن الوصول الينا كن يضربن مرات عديدة ويعذبن ويعاملن بفظاعة وقسوة!.

زعماء الشرق يجمعون على عدم اشتغال المرأة خارج بيتها

قال الاستاذ محمد جميل بيهم في كتابه "فتاة الشرق في حضارة الغرب".

"أجمع المصلحون المجددون في الشرق أمثال غاندي وفيصل الأول، ومحمد علي جنة (جناح)، وسعد زغلول، وعبد الرحمن شهبندر، وهم غير طبقة رجال الاصلاح المحافظين. على أنه ليس من صالح الشرق أن يفتح المجال لنسائه لكي يخرجن من خدورهن الى ميادين الكسب، ثم قال الاستاذ بيهم، وهو من أكبر العاملين لقضية المرأة في الشرق العربي: وهو الصواب عينه، لأن المرأة التي تنصرف الى الأعمال الخارجية يخسر بيتها وزوجها وأولادها من الراحة المنزلية، بقدر ما تربح من المال خارج المنزل وذلك لأن الزواج يخلق للمرأة واجبات لا تستطيع الخادمات – مهما كن حاذقات – سد فراغها، هذا إذا بقي في المستقبل خادمات، وإن العالم الغربي في أوروبا وأمريكا لا يكابر في هذا الموضوع، بل انه لا يزال يجنح عملياً الى فكرة لزوم المرأة دارها، حتى إن نسبة النساء اللواتي يقتصرن على الشؤون المنزلية في الولايات المتحدة – وهي أكثر البلاد تطرفاً في حرية المرأة – لا تزال تبلغ رقماً عالياً. والى هذا فان الأعمال الاجتماعية والانسانية لا تقبل عليها هناك الضبايا اللواتي تلقى على عواتقهن الواجبات، فقد تساءلت مساء يوم في واشنطن عن أسباب اقبال جمهور كبير من السيدات الراقيات على بهو "ماي فلور اوتيل"، حيث كنت أنزل، وليس بينهن صبية واحدة، وربما ولا كهلة أيضاً!.. فقيل لي إنهن على موعد لمؤتمر، وقيل لي – وقد افتقدت الصبايا – إن هذه الأعمال في أمريكا إنما يتفرغ لها المتقدمات في العمر، وذلك لأنهن يمسين اقل ارتباطاً من سواهن بالشؤون العائلية والواجبات المنزلية.

رأي شبابنا في المرأة الحديثة المتأثرة بالحضارة الغربية

نشرت جريدة الأيام الدمشقية بتاريخ 9/11/1962 في زاوية "ضيف المحرر" سؤالاً وجواباً مع فنان شاب في بلادنا، وقد سأله المحرر فيما سأله:

- يقولون ان وراء كل رجل عظيم امرأة فما رأيك؟

- يقولون ذلك، ولكن المرأة لا تضع رجالاً بل تضع أطفالاً.

- إذن ليس في حياتك امرأة؟

- كلا، فانهن لا يستحققن ذلك، فالمرأة المثالية التي كانت في القرون الماضية قد زالت من الوجود، والمرأة اليوم لا تبحث إلا عن الزواج والمال والسيارة الانيقة والشقة الفخمة (المنزل الفخم).

من نتائج توظيف المرأة في بلادنا

لم يعد خافياً على أحد له صلة بدوائر الحكومة ما يقع من مشاكل كل خلقية بين بعض الموظفين والموظفات ونحن نكتفي الآن بنشر شكوى زوجة سلبت منها إحدى الموظفات زوجها، وزوج سلب منه بعض الموظفين زوجته. وكلتا الشكويين نشرتهما جريدة الأيام الدمشقية في احد أعدادها لشهر أيلول (سبتمبر) لعام 1962:

1- الزوجة الشاكية:

قالت جريدة "الايام": كنا قد اغلقنا باب الحديث عن المرأة والوظيفة، ولكن هذه الرسالة الجريئة، والمأساة التي تعيشها الزوجة الفاضلة صاحبة الرسالة، بسبب وجود زوجها بين عدد من الموظفات في غرفة واحدة دفعتنا لفتح باب مجدداً ووضع هذه المأساة امام المسؤولين عن توظيف المرأة، وها نحن ننشرها بنصها الكامل ليطلع عليها من يعنيهم الأمر.

قرأت لك في زاوية من أعداد الأيام موضوعاً تعالج به مشكلة توظيف البنات في وظائف الدولة، بينما الشبان لا يجدون عملاً. سيدي هذا موضوع مهم جداً، وأهميته جعلتني أكتب اليك وأعرض عليك مشكلتي، لاني وجدت فيك الكاتب الوحيد الذي عالج هذه القضايا الاجتماعية بجرأة وصدق، واندفاعك في الدفاع عن الحق والفضيلة، ونصرك للضعيف، فأرجو أن أجد عندك الصدر الرحب وأن تنصرني وتتجاوز عن اخطائي. سيدي: أنا سيدة في العقد الثالث من العمر، من عائلة محافظة ومحترمة، تزوجت منذ خمسة عشر عاماً من رجل كل ما يمتاز به أنه حسن السيرة والسلوك موظف في إحدى دوائر الدولة براتب ضئيل جداً، لا يكاد يكفي ما تتطلبه لوازم الحياة الضرورية، ولكني تحملت ذلك بكل سرور، وكنت قانعة، وكانت قناعتي مصدر سعادتي، مع العلم أني كنت أعيش في منزل أهلي حياة رفاهية وبذخ، وتجنبت الاحتكاك كثيراً مع أهلي حتى لا أرى الفرق الكبير بين حياتي وحياتهم. وأرى من الضروري أن تعلم أن أهلي هم الذين وافقوا على زواجي منه مع معارضتي الشديدة لهذا الزواج. ومع كل ذلك وجدت نفسي راضية بما أراده الله لي، وانجبت أربعة أطفال وازداد دخله مع زيادة الأولاد والحمد لله، وأرسلنا أولادنا الى احسن المدارس ونحن أنا وزوجي نضحي بكل شيء في سبيل تعليمهم حتى ان زوجي يضحي بمصروفه الخاص من أجل نفقاتهم المدرسية ومتطلباتهم. ولكن يا سيدي حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد بدأت الموظفات تفد الى دوائر الدولة الى حد أصبح في كل غرفة أكثر من موظفة، بينما لا يكون بين هذه الموظفات إلا رجل واحد، وكان زوجي من بين الموظفين الذين ابتلاهم الله بأن يجلسوا كل يوم أمام بنتين أو ثلاث من الصباح حتى الثانية بعد الظهر أي ست ساعات متوالية، طبعاً كان بلاء في أول الأمر، لأنه كان رجلاً فاضلاً غيوراً وله ضمير، ولكنه أصبح عصبياً لأن عمله توقف "والهدوء الذي كان ينشده أصبح معدوماً، فلكل واحدة أصدقاء وصديقات في الجامعة يأتون لزيارتها، وتبدأ النكات والضحك والمزاح، وهكذا تمضي ست ساعات من اليوم دون أي عمل وبدأ زوجي يأتي بعمل الدائرة الى البيت لانجازه، وأهمل عمله الاضافي الذي كنا نسدد منه كثيراً من المصروفات عن اجرة المنزل وأهملني وأطفاله، وأصبح عبوس الوجه. حاد الطبع، لا يكاد يكلمه أحد أطفاله حتى ينهال عليه ضرباً مبرحاً، وعندما أسأله عما آلى اليه حاله يقول! – قولي للدولة أن تمنع هذا، فأنا انسان، وأبدأ أسمع منه ما يجري بين هذه وذاك من أمور، وهويرى بعينه ويسمع بأذنيه ولا يمكنه أن يتكلم. وبعد: يا سيدي، أتعلم ماذا جرى؟ لقد جرفته الدوامة وأصبح المال القليل الذي كان ينفق على الأولاد ومدارسهم وأكلهم وملبسهم ودوائهم لا يكفي لاناقته وحده.. وبدأت تتراكم الديون علينا وبالأحرى علي أنا، لأنه لم يعد يهمه من البيت إلا أن يأكل به وينام، وكأنه ليس مسؤولاً عنه، وبدأت الخلافات تزداد وشعر الأولاد باهمال والدهم لهم فأصبحوا لا يهابون أحداً، حتى البنات، وبدأت أخلاقهم يا سيدي بالانحلال، وهذا ما كنت أخافه وأخشاه، وهكذا يا سيدي تقوضت سعادتي، وانهار هذا المنزل الذي بنيته بقناعتي وصبري ونكران ذاتي. سيدي: هذه هي مشكلتي، بل مشكلة كل زوجة ابتلاها الله بأن يكون زوجها موظفاً، الا تراها جديرة بالاهتمام؟ الا تراها مشكلة أمة ومستقبل جيل؟ فأنا لا ألوم زوجي ولا أي رجل. وماذا تريد من الرجل أن يفعل أمام الاغراء، أيغمض عينه؟ وخاصة عندما يبقى في كثير من الاحيان مع احداهن منفرداً؟.

2- الزوج الشاكي:

وقالت جريدة "الايام" بعد أيام:

قبل أيام نشرنا مأساة الزوجة المتألمة السيدة "م. ن" التي تكاد تخسر زوجها بسبب وجوده بين عدد من الموظفات الفاتنات، اللواتي سلبن قلبه وأوشكن أن ينزعنه من بين أحضان زوجته وأطفاله، وننشر اليوم مأساة الاستاذ (هـ. ن) المدرس في إحدى مدارس دمشق ونحتفظ بالاسم كاملاً نزولاً عند طلبه، ونتساءل من جديد عن رأي انصار توظيف المرأة، وإفساد الجنسين، وإلقاء الشبان المحتاجين للوظيفة في الشارع. قرأت ببالغ الأهمية في باب "منبر حر" الشكوى التي تقدمت بها الزوجة "م. ن" من سوء تصرف الزوج حيال اسرته، وانحراف سلوكه عن الطريق السوي الذي كان يسلكه عندما كان في منأى عن وجود زميلات له في مهنته. ولعل مشكلة هذه الزوجة التائهة المتألمة التي لا يهدأ لها بال ولا يقر لها حال، قد اعادت بي الذاكرة الى عامين ونيف عندما حدثت المأساة: المأساة التي كان سببها الرئيسي – الوظيفة – توظف المرأة في وزارات ومؤسسات ودور الحكومة. والتي كان من نتيجتها هدم أسرة صغيرة قوامها أبوان وطفل يحبو بينهما. كنت ولا أزال موظفاً في سلك التعليم بدمشق، فانما بمرتبي البسيط أعمل جاهداً من أجل سعادة أسرتي، واسمحوا لي سيدي وليسمح لي قراء صحيفة – الايام – أن أسرد حديثاً بل القصة بشكل موجز، لعلها تكون عبرة لمن يعتبر. بعد عامين من زواجي، ألحت علي زوجتي بأن تعمل من أجل أن نحيا حياة أفضل. رفضت في بادئ الأمر، وعملت مربية في أحد معاهد دمشق براتب بسيط جداً، وبعد عام ركب الغرور رأسها، طالبة أن تعمل في الوزارات أو في مؤسسات الدولة. قنعت بذلك لثقتي باخلاقها وشدة حرصها على سمعتها وكرامتها ولأنها أم لطفل صغير. ولم تمض بضعة شهور على عملها في مؤسسة ما حتى حدثت المأساة الخطيرة، التي لم تكن في حسباني. ماذا حدث؟ حدث ان طارت الزوجة مع زميل لها في العمل عندما زين لها فكرة الهرب، وسلب رشدها بمعسول الكلام، فكان له ما أراد. طارت معه أياماً وليالي لتذر زوجها الذي وثق باخلاصها مشدوهاً أمام هول الكارثة التي حلت بالأسرة الهادئة، غير آبهة بطفلها الصغير الذي كان موضع عنايتها واهتمامها ولا بمصيره الاسود الذي ينتظره من جراء فعلتها النكراء. لقد فرت الزوجة عن دارها لتتمتع بلذة الحياة في كنف شاب وضيع وسوس لها، فأرادت أن تمرح بالشهوة الرخيصة الى جانب شيطانها، فخسرت لذائذ الدنيا السامية في الدار والزوج والولد. ولم يدر في خلدها ان المرأة التي تهرب من عشها الزوجي المقدس إنما هي امرأة عاهر القلب، فاسقة العقل، فاجرة الضمير. وهل الزوجة أيها القراء الأعزاء التي تسلك هذا السلوك سوى امرأة ساقطة انتكست انسانيتها، ومات ضميرها اذ هي في عين زوجها وباء، وفي موكب الحياة عار، انها تتوارى عن الأعين المتطلعة لانها نزعت رداء الطهر بل رداء الشرف والكرامة.

انها – أعزائي – لمحة صغيرة عن واقع قصتي التي انتهت بما أحله الله. ان في مجتمعنا مآسي كثيرة مثل هذه، ولكن العبرة في من لا يعتبر. لذا فأنا أخشى على الأسرة، اسرة السيدة (م – ن) من الضياع من جراء استخفاف الزوج بواجباته نحو اسرته، وانصح هذا الزوج بعودته الى سلوكه السابق، وان يتحاشى الاختلاط بزميلاته بقدر الامكان إلا فيما يتعلق بمستلزمات عمله. وأنا أؤيد كل ما ورد في شكوى الزوجة من القاء اللوم والتبعة عل رجال الدين، خلفاء الله في الأرض، وكذلك رجال الفكر والصحافة كل يسخروا أقلامهم وأفكارهم في محاربة الرذيلة، والقضاء على الفساد، ولتفسح النساء مجال العمل للشبان، ولتلزمن خدورهن للاهتمام بالنشء وتحقيق السعادة للمجتمع بحسن تربيتهن لجيلنا الناشئ. وإن كان لا بد من توظيف المرأة فهناك في مجال التعليم ليس إلا.

كاتبة: هـ. ن. من دمشق

نتائج الاختلاط والتبرج في ازدياد نسبة الطلاق

قال الاستاذ سيد قطب في كتابه: "السلام العالمي والاسلام" ص 56:

ان من حق الرجل كما إن من حق المرأة أن يطمئن كلاهما الى رفيقه وان لا يتعرض للاغراء الذي قد تنحرف معه عواطفه نحو شريكه، إن لم يقده الانحراف الى الانزلاق والخطيئة، مما يهدد ذلك الرباط المقدس، ويطير عن جوه الثقة الكاملة والاطمئنان. هذا الانحراف في العواطف، والانزلاق الى ما هو أبعد، واقع كل يوم وكل لحظة في المجتمعات التي ينطلق فيها الاختلاط، وتنطلق فيها المرأة متزينة متبرجة، وتنطلق معها شياطين الفتنة والاغراء، وهذر فارغ يكذبه الواقع ما تلهجه به ألسنة الببغاوات هنا، وألسنة الشاردين هناك، من ان الاختلاط يهذب المشاعر، ويصرف الطاقات المكبوتة، ويعلم الجنسين آداب الحديث وآداب المعاشرة، ويزود بالتجربة التي تصون من الزلل، وأن الاختيار (اختيار أحد الزوجين للآخر) القائم على التجربة الكاملة – حتى عنصر الخطيئة – كفيل بأن يمسك الشريكين كلا لصاحبه، لأنه إنما اختاره عن رضى وبعد تجربة... أقول هذر يهدمه الواقع، واقع الانحرافات الدائمة، والتحولات المستمرة في العواطف، وتحطيم البيوت بالطلاق وغير الطلاق، وانتشار الخيانات الزوجية المزدوجة في تلك المجتمعات. فأما خرافة التهذيب والتصريف النظيف، باللقاء والحديث، فليسألوا عنها نسبة الحبالى من تلميذات المدارس الثانوية الامريكية، وقد بلغت في احدى المدارس 48%. وأما البيوت السعيدة بعد زواج الاختلاط المطلق والاختيار الكامل، فليسألوا عنها نسبة البيوت المحطمة بالطلاق في أمريكا، وهي تقفز فترة بعد فترة كلما ازداد الاختلاط وكلما تم الاختيار، وهذه النسبة المخيفة تمضي في هذه الخطوط:

التاريخ النسبة في المائة
سنة 1890 6%
سنة 1900 10%
سنة 1910 10%
سنة 1920 14%
سنة 1930 14%
سنة 1940 20%
سنة 1946 30%
سنة 1948 40%

ونشرت "حضارة الاسلام" في المجلد الثاني ص 489 الخبر التالي: وافق مجلس الشيوخ الامريكي من مدة قصيرة على مشروع قانون يسمح للمحاكم بمعاقبة الامهات غير المتزوجات!.. اللواتي ينجبن طفلين او أكثر بالسجن من سنة الى سنتين!. أقول: مسكينة هي المرأة الغربية! أخرجوها من بيتها ودفعوها الى العمل في المصانع وغيرها، فلما انتجت هذه الفلسفة نتيجتها الطبيعية قاموا يعاقبونها بالسجن من سنة الى سنتين، ولو سألوا ضمائرهم: من المسؤول عن وقوع المرأة غير المتزوجة عندهم في هذه الجريمة؟ لأجابوا نحن الرجال!..

عمل الأمهات خارج البيوت من مشكلات الحضارة الغربية

نشرت مجلة حضارة الاسلام في المجلد الثاني ص 455 المقال التالي تحت عنوان "عمل الامهات" مقالاً للدكتور "هانسي كبر خهوف" ترجمة الاستاذ توفيق الطيب:

إنه لمن الصعب علينا أن نغير طرائق تفكيرنا المعتادة غير أنه يجب علينا أن نصحح الوضع الموروث للمرأة من مسألتي: طاقتها على العمل، وقابليتها له. فقد أصبحت نسبة النساء العاملات 34% من مجموع العمال بحيث أن الوقت الذي سيصبح فيه عدد النساء مساويا لعدد الرجال لا يبدو بعيداً. حقاً ان عجلة التطور لا يمكن أن تعود الى الوراء، ولكن في مقابل ذلك يجب أن ينظر الى مهمة المرأة الاساسية في ضوء "الامومة". ان الأصوات التي تتعالى يوماً بعد يوم شاكية من الأعباء الثلاثة التي تنوء بها المرأة ما تزال في ازدياد: أعني: عبء المهنة، وتدبير المنزل، والعائلة بحيث أن وضع المرأة هذا لم يعد يطاق. فكما كان "تشغيل الأطفال" قبل مئة عام لطخة عار في نظامنا الاجتماعي، كذلك يعتبر اليوم "تشغيل الامهات" وانه لمن المؤلم جدا ان ندرج مسألة ترك المرأة للبيت في قضية المساواة.

ان تغييراً جديداً للأوضاع الاجتماعية، وحشد جميع امكانيات المسؤولين السياسيين، وجمعيات أرباب العمل والعمال، والمؤسسات الاجتماعية من أجل فحص كل صغيرة وكبيرة فيما يتصل بموضوع "تشغيل المرأة" وتعاون هذه المؤسسات مع بعضها أصبح أمراً ضرورياً يجب أن يقوموا به خطوة فخطوة. ان الطبيب يشير الى الأخطار التي تتعرض لها صحة المرأة ويطالب بإلحاح بتحقيق وصاياه التي تعتبر اليوم خيالية كقوله: بأن كل امرأة لها أولاد لم تتجاوز أعمارهم الخامسة عشر سنة لا يجوز لها القيام بأي عمل خارج البيت. إن مهمتها الحقة هي أن تكون راعية للأسرة (هي رعاية أسرتها والسهر على مصلحة أطفالها). ان استثمار احتياطي الاقتصاد الذي لم يستثمر بعد يقع على عاتق تلك الفئة الكبرى من النساء اللواتي تجاوزت أعمارهن الأربعين سنة. واللواتي يرغبن في العودة الى حياة العمل من جديد. كما أن مشروع التشغيل "النصف يومي" للمرأة أمر يجب أن يتم. ان الدكتور هانسي كير خهوف Heinz Kirchoff مدير المستشفى النسائي في جامعة جوتنجن يقدم[1] لنا حديثاً فيما يصف فيه بصورة مؤثرة أعباء المرأة (العاملة) ويطالب باتخاذ الوسائل اللازمة من أجل انصافها ورفع العبء عن كاهلها. "لمعرفة أوفى في التفاصيل يرجع الى محاضرته التي ألقاها في يوم الأطباء الرابع والستين بعنوان: "توصيات طيبة".

القسم الأول

اسمحوا لي أولاً ان أذكر النقاط الهامة التي تجعل من موضوع "أعباء المرأة العاملة" أمراً دقيقاً ومتعدد الجوانب:

1- ان الاقتصاد الحالي ومجتمعنا المعاصر لا يمكنه الاستغناء عن تشغيل المرأة إذا أراد استثمار طاقات العمل جميعها. ولقد قدم لنا Ruth Bergholz "روت برجهولس" بحثاً بعنوان "الاقتصاد يحتاج الى المرأة" يجد المرأة فيه تفصيلات كافية حول هذه الناحية. انه لا ينبغي لنا – كما أنه ليس بامكاننا – ان نتهرب من الوقائع أو أن نتعمد رد العجلة الى الوراء الى ذلك "الزمان السعيد الغابر" إذا أردنا حقاً أن يجنب كياننا الاجتماعي المصاعب. لقد قال Arnold Gelhn آرنولد جلن: ان الشكل الحديث للحضارة الغربية أكثر تعقيداً من أي حضارة ماضية ولكن فيما اذا كان في ذلك سعادة الانسان أو، لا، ما يزال موضع شك كبير.

2- وبسبب نقص اليد العاملة فاننا لم نحتج الى مزيد من النساء العاملات فحسب بل طالبنا المرأة بأن تضاعف انتاجها.

3- فاذا لم يكن ممكناً – ولا واجباً – تغيير اتجاه نظامنا الاجتماعي هذا برده الى وضعه الماضي، فان واجباً هاماً ينشأ عن ذلك. واجباً يحتم على جميع الجهات المسؤولة ألا تظل غافلة عن الوظائف الطيبة للمرأة، وأن تحميها، وأن تعيد لها مفاتنها. أعني أو الواجب يدعونا الى اعتبار "بناء الاسرة" الوظيفة الأساسية للمرأة، لكي تتمكن من أداء دورها في تربية الأطفال والعناية بهم عناية تامة.

4- ان الدراسة الفيزيولوجية والاجتماعية بالاضافة الى تجارب حربين عالميتين تشير الى ضرورة تصحيح الوضع الحالي للمرأة من مسألتي قابليتها للعمل وطاقتها عليه من أساسه. انه لم يعد من حقنا بعد اليوم أن نتكلم عن "جنس ضعيف" عندما نتناول "موضوع المرأة" كما أنه لا يحق لنا أن ننظر الى عملها على أنه زهيد وقليل القيمة بالقياس الى عمل الرجل، ولكنه لا ينبغي لنا أن نوافق الاستاذ الامريكي “Ashley Montagu” اشلي مونتاجو، على آرائه المتشعبة المثيرة، والتي يزعم فيها بأن للمرأة "أفضلية طبيعية على الرجل" إن هذه الآراء غير صحيحة على الاطلاق. فنحن حينما نتحدث عن المرأة والرجل فاننا لا نتحدث عن "طبيعة أعلى" أو "طبيعة أدنى" بل "طبيعة أخرى".

5- فإذا كنا لا نستطيع وضع حد لتزايد تشغيل النساء. وعلى الرغم من ذلك ننظر الى مهمة المرأة الأساسية في "أمومتها"، وأردنا التوفيق بين هذين الفرضين المتعارضين فانه يجب أن نعمل ما بوسعنا من أجل تجنب الاضرار الصحية والاخطار الاجتماعية. وأهم من ذلك كله ألا نهمل الاسرة وبالتالي النسل بأجمعه.

6- ان اختبارات الطب الاجتماعي واختبارات الطب البشري حول الأضرار الصحية للمرأة، الناجمة أو التي يمكن أن تنجم من جراء عملها لم تلاحظ أكثر من التغيرات العضوية المرضية التي تنشأ عن بعض العوامل كالوقوف الطويل، أو الجلوس غير المريح، أو وضع الانحناء، أو رفع الأوزان الثقيلة، أو العمل الذي يعتمد على اجهاد عضو معين من الجسم وعلى اجهاد بعض الاعضاء دون غيرها" – بينما التأثيرات الضارة غير المباشرة لم يلتفت اليها لأنه من الصعب إدراكها ولأن الاعتبارات الضرورية لنفسية المرأة لم تقدر حق تقديرها ولعدم مراعاة امكانية اعطاء المرأة عملاً مناسباً لها. ومن هذه العوامل جميعاً يبرز عامل – يزداد في الكتابات الحديثة دائماً ذكره على نحوٍ مُرضٍ – تنسب اليه مسؤولية النتائج النفسية والجسمية لعمل النساء – هذا العامل هو العمل المزدوج او على الأصح ذو الثلاثة جوانب، أعني: المهنة – تدبير المنزل – الأسرة. ولزيادة في التفصيلات يرجع الى بحث من الفاميدرال وفيولا كلين بعنوان "الدور المزدوج للمرأة في الأسرة والمهنة" والى كتاب الأسرة "النساء بين الأسرة والمصنع" د. ا. ل. هوفمان ورتيرش كيرستن.

7- وهناك أسباب أخرى تدل على مدى تعقد المشكلة نشأت عن تطويل عمر الانسان – فعمر المرأة يبلغ حالياً 72 سنة – وعن امكانية زيادة سني العمل التي تترتب على ذلك وخاصة في مرحلة الكبر. إنها تضع الطبيب أمام مشكلة جديدة، بالاضافة الى أن قلة المواليد الحالية تتيح لكثير من النساء في سن مبكر نسبياً العودة الى المهنة من جديد.

القسم الثاني

فالى جانب التشغيل الكامل في هذا العصر ذي المستوى الاقتصادي المرتفع، تلعب أسباب شخصية دوراً هاماً في تزايد عمل المرأة المهني مما يجب أن يكون معلوماً لدى الاجتماعيين ورجال السياسة والأطباء، إذا أرادوا أن يقدروا أسباب ردود الفعل المخيبة وأسباب الانهاك والضرر النفسي والجسمي المتسبب عن العمل حق تقديرها، وان يصلوا بعد ذلك الى نتائج صحيحة ان ذلك مهم جداً بالنسبة للآثار الايجابية والسلبية – بوجه خاص – للنشاط المهني أعني فيما إذا كان المرء يذهب الى عمله بسرور وارتياح او بدافع الحاجة فحسب دون أن يشعر برغبة داخلية أو بعلاقة تشده الى عمله. فيما إذا كان المرء يذهب الى عمله متحرراً من أعباء الواجبات الأخرى مدفوعاً بالطموح وإرادة الابداع، أو مكرهاً مشغول الفكر بمنزله وأطفاله المتروكين دونما رعاية أو بزوجة المريض المهمل شأنه. إن المعنى المألوف والقائل: بان تزايد تشغيل المرأة مبعثه رغبتها في الخروج من دائرة الحياة المنزلية الضيقة والدخول في ميدان العمل النابض، بالاضافة الى أن ذلك يؤدي الى رفع مستوى الحياة باقتناء ثلاجة مناسبة أو رائي "تلفزيون"، ان هذا المعنى صادق ولا شك على نسبة ضئيلة جداً من النساء. ولكن السبب الأساسي – وهذا ما تؤكده الاحصاءات والاختبارات بشكل واضح – انما هو الواجب القاسي او الحاجة المرة. إن المرأة لا تشتغل على الاطلاق من أجل نفسها بل – وبدون استثناء تقريباً – من أجل الأسرة. إن أجر الرجل أو راتبه التقاعدي لا يكفي، فعلى المرأة أن تعمل معه، ولقد تبين من أحد الاستفتاءات لأحد المرافق أن ثلثي من وجهت اليهم الأسئلة كان عليهم أن يؤمنوا ربحاً فوق راتبهم يعادل – 30-50% منه لكي يحافظوا على كيان أسرتهم، فالمسكن وأثاثه والضرائب يجب أن تغطى من الطرفين. كما أن المرفق الخاص يتطلب عوناً كاملاً من المرأة بالإضافة الى عملها المنزلي. فلنفكر اذن في المصير التعس للنساء الريفيات ولنفكر أيضاً بالعدد الضخم من أرملات الحرب والمطلقات اللواتي يتوجب عليهن أن ينتزعن لقمة عيشهن وعيش أطفالهن بأنفسهن.

ففي ألمانيا الاتحادية تعيش 1,150,000 أرملة حرب و 2,800,000 أسرة محرومة الأبوين، وهذا يعني ربع مجموع العائلات الألمانية. كما أن هناك 1,700,000 رجلاً من مشوهي الحرب اللذين يعادل كسبهم أقل من نصف كسب الرجل العادي، وغالبية هؤلاء متزوجون. كل هذا بالاضافة الى أن عدد النساء في ألمانيا الاتحادية يزيد على الرجال بثلاثة ملايين. ان هذه الأسباب المذكورة باختصار تجعلنا ندرك النتائج التي تترتب على المرأة، بحيث يتبين لنا أن النساء اللواتي يعني العمل عندهن إملاء فراغ المرأة، لا يشكلن غير نسبة ضئيلة فحسب، أما الأغلبية فيسبب لها متاعب جسيمة ونفسية. ولعل الحديث يصبح أكثر تأثيراً عندما يعالج المرء النسبة العددية لمشاركة النساء في العمل، اسمحوا لي أرجوكم في أن تفهموني وان تكونوا معي في الرأي عندما أسوق بعض الاحصائيات التي لا تعتبر سارة لما هو معلوم: ففي 30 حزيران عام 1960 بلغ عدد النساء العاملات في المانية الاتحادية 6,900,000 امرأة وهذا يعني أكثر من العدد في عام 1950 بـ 2,800,000 وهذه السبعة ملايين تقريباً تشكل نسبة 34% من مجموع العمال بحيث أن الوقت الذي سيصبح فيه عدد النساء العاملات مساويا لعدد الرجال لا يبدو بعيداً. ان 36% من النساء العاملات متزوجات، والأرقام الآتية يجب أن تسترعي انتباهنا: 1,7 مليونا وهذا يعني 14% من مجموع المتزوجات يعملن خارج نطاق العمل المنزلي، فهؤلاء النساء يقمن بالإضافة الى ساعات العمل اليومي الثمانية. بالذهاب الى أماكن العمل – التي ليست دائماً قريبة – والعودة منها. الى جانب أعمالهن المنزلية. وحسب احصاء عام 1957 كان هنالك 1,2 مليون عاملة عليهن أن يرعين أبناءهن الذين لا تتجاوز أعمارهم الـ 6 سنوات بالاضافة الى عملهن. ويمكن أن نضيف هنا مثالاً بسيطاً يبدو أنه لا يمس القضية مباشرة لكنه في الحقيقة يجب أن يسترعي اهتمامنا: إنها مسألة مصير أطفال الامهات العاملات الذين يدعون بـ "أطفال الاقفال" أو حسبما يتطلبه التعبير المؤلم: "يتامى الصناعة". فبينما كان المرء منذ عشر سنوات مضت في عام 1950 يعد مليونين من الاطفال الذين تذهب أمهاتهم وآباؤهم الى العمل يقدر هذا العدد اليوم بثلاثة ملايين طفل. إننا لسنا بحاجة الى ذكر النكبات المترتبة على ذلك والتي تحل بايتام الصناعة، هؤلاء الذين يبقون دون أبوين، على الرغم من جميع الاحتياطات الاجتماعية كدور الحضانة اليومية وحدائق اللعب. هذا عدا الآثار الجسمية والنفسية التي تتحملها أمهات هؤلاء الاطفال العاملات والتي تترتب على وجوب ترك أطفالهن. وهناك بعد، مجموعتان من الأرقام سنذكرها من أجل فهم بعض الآلام والمتاعب التي تبدو غير واضحة، والتي يزعم أنها ناشئة من العمل مباشرة، ولكنها في الحقيقة ناشئة في كون الأمهات غير مسرورات في عملهن. إنها تتعلق بدلائل النشاط في العمل وبالوضع الثقافي. فهناك 9% فقط من النساء يزاولن الاعمال الحرة وتختلف هذه النسبة عن أمريكا حيث تبدو هناك أعظم. كذلك في البلاد الاخرى حيث يزداد الميل الى مشاركة النساء في المهن المستقلة (الحرة) والراقية. فأكثر من 60% من النساء هن عاملات أو مستخدمات أو موظفات و 22% منهن يعملن بالاضافات الى عملهن المنزلي في مرافق خاصة كالفلاحات في الاقتصاد الريفي والتجارة، وهكذا فان 92% من النساء يقمن بأعمال عادية، وهناك حقيقة هامة توضح بعض الثغرات والنتائج المترتبة عليها. تلك هي أن 9% من النساء فقط يقمن بعمل اختصاصي – أي كصناع – (بينما تبلغ هذه النسبة 50% في الرجال) وبالمقابل فان 45% من النساء يعتبرن متعلمات و 46% جاهلات (في حين 70% من الرجال متعلمين و 30% جاهلين). فبينما يزداد مشاركة المرأة في الصناعة من عام الى عام فانه يجب في وقتنا الحالي ان نأخذ كظاهرة نموذجية – وان تكن غير سارة – تلك هي أن عمل المرأة في الحقل المنزلي وحقل رعاية الأسرة بدأ يتناقص، إن هذه الحقيقة تجعلنا محقين عندما نتحدث عن الفرار من البيت بعد أن كنا نتحدث عن الفرار من الريف. وانني لأعتبر من واجبي أن أذكر مواطني ما وراء الستار الحديدي. ان عدد النساء العاملات يزداد عن النسبة العالمية التي رأيناها في الجمهورية الاتحادية ففي عام 1950 كان النساء يشكلن 38,4% من عدد العمال وفي عام 1956، 43,6% وفي النهاية فان كل امرأة من اثنتين من النساء اللواتي تتراوح أعمارهن من 15-60 كانت لها مهنة. ويبلغ عدد المتزوجات 41%. ويجدر بنا ان نذكر بأنه الى جانب تلك المشاركة غير العادلة للنساء في حياة العمل في ألمانية الشرقية، فان الرعاية الاجتماعية من ترتيبات الحماية لهؤلاء – وخاصة اللواتي سيصبحن أمهات – في تزايد مستمر، ولذلك لم تنشأ حسب الاحصاءات التي أعطيت تأثيرات ضارة بالوضع الصحي للمرأة وسير الحمل والولادة ووفاة الرضع.

القسم الثالث

ان تزايد دخول المرأة في مجال عمل الرجل دفعت الاخصائيين الاجتماعيين وأطباء العمال – في وقت مبكر – الى عقد مقارنة بين الطاقة على العمل والقابلية له بين كلا الطرفين. ففي البداية قيل ان عمل النساء أقل قيمة من عمل الرجال، فان المرأة لا تملك غير 20-30% من القدرة العضلية للرجل. فالفروق الفسيولوجية والتشريحية بين الرجل والمرأة تتطلب الانتباه عند تقسيم العمل وتجهيز مكانه. حتى فيما يتعلق بوضع الآلة. ان الشكل العام للمرأة والذي يتميز بزيادة وزن النصف العلوي منها والشكل الواسع والعميق للفراغ البطني في الانثى، وشكل الحوض الذي جهز بشكل خاص من أجل الحمل، وما ينتج عن ذلك من تغير نوعي في توازن المرأة، والعادة الشهرية والتغييرات التي تتسبب عن الحمل والولادة. كل هذا يتطلب حرصاً كبيراً لوضع المرأة من الآلة وحمايتها، فالقدرة الوظيفية المتناقصة لجهاز الدوران التنفسي تعيق وقد تحول احيانا وبلا شك من مقدار الطاقة على العمل، كذلك فان جسم المرأة ليس مخلوقاً في الاصل للعمل المستمر، وفي مقابل ذلك فان المرأة أفضل موهبة من الرجل في الاعمال التي تتطلب مهارة. وهكذا فعندما يتطلب عمل المرأة – على أساس فروق البيئة وتغيرات أطوار حياة المرأة خاصة فيما يتعلق بوظائف التناسل – انسجاماً كلياً مع معطياتها التشريحية والفيزيولوجية والنفسية، فانه سوف تتفادى المتاعب العصبية في عمل المرأة في المستقبل وخاصة في مجال الصناعة، حيث أصبحت الأهمية فيه حتى اليوم للاعتبارات الجسمية أكثر من النفسية والروحية، ولقد وصف لنا الكاتب المختص (جراف Graf) هذا الوضع بشكل مؤثر حيث قال: "ان العامل أصبح بدرجة متزايدة – سواء قلت أو كثرت – جهاز ضرائب لآلات العمل. ولذا فقد وضعت مسألة قدرة المرأة على الاعمال الصناعية في غير محلها". واننا لنتفق معه أيضاً حينما يتابع قوله: انه لكي نحكم على طاقة العمل يجب أن نفحص دور المتطلبات الروحية والأعباء العصبية، وان نقيم لهذا الدور وزنا أكثر مما عرفنا حتى اليوم.

[1] هو الحديث الذي يلي هذه المقدمة.

إقدام البريطانيات على الانتحار

قالت مجلة حضارة الاسلام في العدد العاشر من المجلد الثاني ص 1204:

يؤخذ من تقرير نشرته مجلة طبيب العائلة التي تصدرها الجمعية الطبية البريطانية بلندن: ان عدد النساء اللواتي يحاولن الانتحار يزيد على عدد الرجال، ولكن عدد الرجال الذين يجحون عن عملية الانتحار يزيد على عدد النساء. ويقول الدكتور ف. ركاسون واضع التقرير: ان عدد الرجال الذين يحاولون الانتحار اخذ في الانخفاض بالنسبة الى عدهم قبل 50 عاماً. اما عدد النساء فأخذ في الازدياد! ويشير التقرير الى أن هذا ربما عاد الى تولي نساء هذا العصر مسؤوليات اقتصادية أكبر، والى تحررهن من حياة التزمت في عصر الملكة فيكتوريا. ويقول التقرير: ان أكثر من 5000 حادثة انتحار وقعت في انكلترا خلال احدى السنوات الأخيرة. وقد تناولت هذه الحوادث 2,116 رجلاً و 2,091 امرأة أي بمعدل خمس وفيات انتحار لكل ست وفيات نتيجة لحوادث على الطرق.

على الرجل ان يبقي زوجة في البيت لتتفرغ لشؤون الأسرة

وقالت المجلة نفسها في العدد السابق والصفحة السابقة في الرقم المتقدم:

حاول أحد الأزواج في أمريكا أن يدخل في موضوع عناد مع زوجته لأنها أصرت على الالتحاق بوظيفة بدون رغبته، فلم يجد أمامه وسيلة إلا أن يعتصم في البيت ويرفض الذهاب الى عمله او الخروج من البيت نهائياً. ولما ضاق الزوج من البيت ومن الحبس، ووجد ان اعتصامه لم يلن قناة زوجته أو يرغمها على التنازل، قدم شكوى الى قسم البوليس يتهمها فيها بالتقصير في واجباتها نحوه بالجمع بين الوظيفة والحياة الزوجية. وفي المحكمة قال الزوج: إنه لا يقبل فكرة ترك البيت وحده بدون أية رعاية، وأنه اضطر للبقاء في البيت عندما أصرت زوجته على الخروج للعمل يومياً. وفي النهاية أعلن القاضي أنه من حق الزوج شرعاً أن يبقي زوجته في البيت ويمنعها من الخروج للعمل ما دامت رغبته كذلك، ولكن ليس من حقه أن يعتصم في البيت ويمتنع عن الذهاب للعمل في كل مرة ترفض فيها زوجته طاعة أوامره. أو كل مرة تخرج فيها من البيت لقضاء بعض مصالحها.

طالب عربي في جامعات الغرب يتحدث عن الأسرة هناك

جاء في "حضارة الاسلام" في العدد الأول من السنة الثالثة نقلاً عن احدى صحف دمشق:

يقول أحد القادمين من سويسرا حديثاً وهو طالب يدرس في احدى الجامعات الألمانية أنه قبل عودته الى "دمشق" قادماً من أوروبا قام بجولة في بلدان أوروبا كان آخرها سويسرا، وحين سئل عن مشاهداته وانطباعاته خلال جولته في البلدان الأوروبية، كان مما قاله: ان هناك ظاهرة عجيبة نلمسها في أوروبا. ان الأسرة الأوروبية مفككة جداً، وروح الاستقلال التام تسيطر عليها وتوجهها. الأب يعمل، والأم تعمل هي الأخرى. وهما لا يلتقيان إلا على مائدة العشاء، والعمل في أوروبا يبدأ من الثامنة صباحاً حتى الثانية عشرة، ومن الثانية بعد الظهر حتى السابعة مساء، والأم ليس لديها الوقت الكافي لتمضيه مع أولادها. إنها تلتقي بهم في مدرسة داخلية، ولا تراهم إلا في المواسم والأعياد، ونسبة كبيرة جداً من الأوروبيات لا يحملن أبداً لا لضيق الوقت فحسب، ولكن للمحافظة على جمال الجسم، ولحفظ حقهن في الطلاق! فبين كل ثلاث زيجات في سويسرا تقع حالة طلاق واحدة! وعندما ينتهي الابن أو الابنة من الدراسة الابتدائية، يلتحق باحدى المدارس المهنية ليتعلم حرفة ما في هذه المدارس، مدة الدراسة فيها تتراوح بين ثلاث وأربع سنوات فقط، وبعدها يتخرج الطالب ليعمل على الفور، ومعنى هذا ان الفتاة تبدأ العمل في سن مبكرة جداً لا تزيد على 18 سنة وكذلك الشاب. ومن النادر أن يكمل الشاب السويسري دراسته الجامعية. أولاً لأن أباه – مهما كان ثرياً – يبخل عليه، ولا يدفع له مصروفات الدراسة الجامعية الباهظة، وأغلب الطلبة السويسريين الذين يدرسون في الجامعة يدفعون مصروفات دراستهم من عرق جبينهم، لا من جيوب آبائهم. والفتاة الأوروبية حرة في كل تصرفاتها. إنها تدفع لأسرتها ايجار غرفتها وثمن طعامها وغسل ملابسها. أعرف فتاة تدفع لأمها 20 سنتيما عن كل مكالمة تليفونية لها في المنزل! وهي تحمل مفتاحاً للشقة.

دناءة استغلال الرجل الغربي للمرأة عندهم

قالت حضارة الاسلام أيضاً في ص 109 من العدد الأول للمجلد الثالث ما يلي:

تقوم لجنة تحقيق تابعة لمجلس الشيوخ الأميركي بسماع شهادات حول استخدام فتيات الريف الساذجات في النوادي الليلية وارغامهن على تعاطي الدعارة. وتحقق تلك اللجنة التي يرأسها السناتور جون ماكلين في عمليات احدى النقابات التي تدعي بأنها تضم في عضويتها عدداً كبيراً من راقصات التعري. واستمعت اللجنة في الاسبوع المنصرم الى شهود ذكروا ان عقود العمل التي تبرمها النقابة وهي الجمعية الاميركية للفنانين تتضمن نصوصاً لحماية أعضائها من الاستغلال. وقال المستر وليام سكوت المساعد الخاص السابق للنائب العام في ايلينويس: ان بعض النوادي الليلية في شيكاغو يديرها أشقياء من رجال العصابات، وان العاملات فيها يرغمن على الاشتراك في نشاط غير مشروع كالدعارة والنشل، وأضاف قائلاً ان أعضاء هذه النقابة الاجرامية المنظمة تنظيماً حسناً جداً لا يتعاطون الرذيلة والمقامرة وحسب، بل يقومون عملياً بارتكاب جميع أنواع الموبقات والجرائم المعروفة. وقال ان بعض الفتيات اللواتي يعملن في الاندية الليلية يتعرضن الى ضرب مستخدمي هذه الاندية، ويخضعن الى حالة من الرعب لدرجة أنهن لا يجرؤن على الشهادة في المحكمة. ووصف المستر سكوت الفتيات اللواتي يعملن في تلك الاندية بأنهن عادة من الفتيات القادمات من المناطق الريفية الصغيرة واللواتي يتعرضن في أوائل فترات الشباب الى المشاكل ويضعن أطفالا غير شرعيين. وأعلنت الممثلة والراقصة الشقراء جون غينسلي أمام لجنة مجلس الشيوخ ان مديري احد النوادي الليلية في احدى ضواحي شيكاغو حاولوا ارغامها على البغاء، وسألها مستشار اللجنة عما اذا كان النادي يتعاطى البغاء؟ فأجابت بالايجاب، ثم سألها اذا كانت توجد غرف خلفية تستخدم للدعارة؟ فأجابت بالايجاب أيضاً. وقالت: إنها لم تسمع أبداً بأن المسؤولين كانوا يلجأون الى التهديد، وأضافت قائلة ان بعض العاملات في النادي لا يتعاطين الدعارة بمحض اختيارهن لأسباب معينة. وأعلنت المسز كوري ستاين وهي راقصة أخرى أمام اللجنة أنه في أحد نوادي ميامي في فلوريدا كان يتوجب على الفتيات أن يبعن أنفسهن ثم يعدن بما حصلن عليه من نقود الى رب العمل، وقالت: ان معظم الزبائن منحلو الاخلاق وهم يعلمون سبب مجيئهم الى الاندية الليلية، ويعتقدون أن بامكانهم معاملة الفتيات بفظاظة بحيث ينجحون في نيل مبتغاهم وعادة يستطيعون ذلك. وأضافت قائلة انني كنت أدعو منذ عدة سنوات الى الحماية النقابية ولكنهم كانوا يردون علي بوصمي بانني راقصة متعرية متعصبة! وقالت: لقد نجوت بنفسي لأنني نجمة سينمائية ورفضت ذلك.

آثار أدب الجنس في الغرب

نشرت "حضارة الاسلام" في المجلد الثاني ص 488 ما يلي:

أصدرت الجمعية البريطانية أوامرها بسحب كتاب "يتزوجون من السوق، وهو الكتاب الذي جاء فيه ان العذرية (البكارة) بين الفتيات الانجليزيات أصبحت "مودة" قديمة، وقد أعلن مؤلفا الكتاب استقالتهما من الجمعية احتجاجاً على مصادرته. ونشرت في الصفحة نفسها ما يأتي:

زاد عدد الروائيات في بلاد الغرب زيادة كبيرة في السنوات الأخيرة، وقد تبين ان معظم انتاجهن من الروايات الغرامية الماجنة، وقد صرح أحد الناشرين الانجليز بانه يتعامل مع اربعين كاتبة ينشر لهن مائتين وخمسين رواية كل سنة، ويبيع منها نحو مليون نسخة، تشتري دور الكتب العامة نحو ربعها، ودلت الاحصاءات على أن أكثر مستعيري هذه الكتب (من دور الكتب العامة) نساء في أواسط العمر حرمن من الزواج، أو فتيات وفتيان في سن المراهقة.

طبيب يعلن النفير العام للأطباء لانقاذ العاملات

نشرت مجلة (ده كستيل به كلايدونع Dextil Bekleidung) الصادرة في مدينة Dusseldorf في عددها الصادر في شهر آب 1962 المقال التالي، ترجمة السيد: ر. سعيد، أحد طلابنا في جامعات ألمانيا، وهو الذي أرسل الينا هذه الترجمة. قال البروفسور دكتور Kline رئيس أطباء المستشفى الحكومي للنساء في مدينة Ludwiksbuven في مؤتمر الأطباء هناك:

ان ثلاثين في المئة من النساء في مجتمعنا لسن سعيدات في حياتهن، والسبب في ذلك هو المتطلبات الجسيمة والروحية المتصاعدة، وعلى هذا فانني أعلن النفير العام لعلم الطب. ان الواجب على الـ Bundestay "المجلس البلدي" ان ينظر الى هذه الفاجعة التي تحل بكثير من نسائنا العاملات بعين الجد والاعتبار، ان هذا الخطر يهدد كثيرين منا، لأن هذا معناه انهيار عظيم وخسارة مزدوجة لملايين من البشر. أرجوك أن تساعدني يا دكتور، انني لم أعد أتحمل هذا الألم المستمر أرجوك مساعدتي، انني أنازع، هذا ما يردد الف مرة يومياً في عيادة أطباء النساء، ولكن هؤلاء الرجال المرتدين بالكساء الابيض يقفون مكتوفي الأيدي أمام متطلبات النساء الكثيرات اللاتي يملأن العيادة نحو الممشى، لانه أي طب يمكن مساعدة هؤلاء المساكين الذين يعانون عبئا مزدوجاً لا بل مثلثاً، من وظيفة – أعمال البيت – ومتطلبات الحياة العائلية: هذا العبء الأبدي غير الاعتيادي – والضغط العصبي الناتج عن التحميل الجسمي والروحي. ان معامينتنا ليست باستطاعة مساعدة تلك النساء، هذا ما يقوله لنا أحد أطباء النساء المعروفين في ميونخ: ان عيادتي هي البرهان الوحيد وهي الشاهد ضد الزمان، ان حالة النساء في خطر عام، خذ مثلاً المرأة التي أتت لي البارحة – احدى العاملات النشيطات في معامل النسيج والخياطة الضخمة – انها لم تكن مريضة لحد الآن، والآن تأتي تحت عامل انهيار عصبي تام، ففجأة مثلاً بينما هي تخيط تدخل ابرة الماكنة في أصبعها، وفي حالة أخرى تنهار على الماكنة متهالكة في حالة إغماء، المسؤولون في المعمل يدعون هذه الحالة، حالة اصابة في العمل، ولكن الحقيقة هي غير ذلك: ان هذه المرأة لا تدري ماذا تعمل. ان هذه الحادثة لا تدعو للاستغراب، لأن هذه المرأة منذ سنوات عديدة تستيقظ يومياً منذ الساعة الخامسة لتهيء أعمال البيت وتعد أطفالها الى المدرسة، ومن ثم تذهب الى المعمل لتجلس أمام ماكنتها ثمانية ساعات ونصف، ساعة ونصف تحتاج للذهاب والإياب الى المصنع، وإذا ما وصلت الى البيت متهالكة يبدأ العبء الثالث لها، ألا وهو العمل المنزلي الذي لم ولن ينجح معها بتاتاً. السبب هل الاعصاب. ان في الجمهورية الاتحادية الالمانية اليوم حوالي سبعة ملايين من النساء العاملات، وهذا أكثر من ثلث المجموع من عدد العمال. ان أكثر من ثلث النساء متزوجات، ومعظمهن عندهن طفل أو أكثر من الذين لا يزالون في سن الطفولة تحت سن السابعة، وهؤلاء الأطفال بحاجة خاصة الى عناية الأم، ان هذا العبء المثلث على تلك النساء هو السبب الوحيد الذي يؤدي الى تدهور حالتهن الصحية التي بدورها تؤدي الى تدهور الطفولة، ومن ثم المجتمع العام.

انه من المعروف أن البناء الجسمي والروحي لدى النساء يختلف اختلافا كبيراً عن تركيب بنية الرجال القاسية المتينة. انه ليس داعياً للتعجب أن تعطينا الاحصاءات الطبية الصحيحة في المجتمع الألماني ان كل ثامن امرأة تعاني مرضاً في القلب وفي جهاز الدوران الدموي. ان التقارير الطبية ترد هذا الى التعب غير الطبيعي، ان نسبة وجع الرأس الدائم عند العاملات هو أكثر بسبع مرات من تلك اللاتي في البيت بدون عمل، والمرض الجنسي من موت الجنين أو الولادة قبل الأوان هو كما يتخيل أنه الوقوف الدائم أو الجلوس المنحني أمام منضدة العمل أو الحمل الثقيل غير الاعتيادي، لا بل هناك العامل النفسي الذي هو الأساسي، ومن المعروف اليوم أن التشويه عند النساء: تضخم الرجلين، أو تضخم البطن أو غير ذلك، يعود الى الحالات النفسية التي تقاد من الدماغ ومركزها في النخاع الشوكي الذي قد يؤدي الى الشلل او العاهة الجسمية.

لماذا يعمل النساء؟

والآن يفتح الستار أمام السؤال: لماذا يعمل النساء – اذا كان المصير هو هذا المصير الفاجع – أليست الصحة فوق كل شيء؟؟ الجواب على ذلك: ان السبب ليس فقط الرفاهية في الحياة: سيارة براد، تلفزيون الخ.. لا بل ان الاحصاءات أعطت أن الطمع المادي والطمع في زيادة المال هو الذي يؤدي الى هذه الحياة المرة، فكثير من نسائنا لسن بحاجة الى العمل لانهن يملكن جميع رفاهيات الحياة، ومع كل هذا يسرن يومياً كالدواب الى العمل. ومع كل هذا فالتحميل الجسمي والنفسي ليس هو الوحيد الذي يجعل امرأتنا (غير شهية) لأنهن كنساء يشعرن بعدم الرضا الجنسي، بل هو ذلك الشعور الذي يخامرهن ألا وهو التقدم في السن الذي يعزلهن عن الاناث الشابات اللاتي يزاحمنهن في حياتهن الاجتماعية واللاتي يرمينهن في زاوية المهملات، انه أكبر مسبب للطلاق وتدهور الحياة الزوجية من أي مسبب آخر. وعلى هذا فان ملايين النساء يرين أنفسهن مقبوضاً عليهن في حلقة الشيطان، وبطاقتهن الخاصة لا يمكن لهن التخلص منها. ان مساعدتهن واجب على كل من يستطيع، وان رفع الراتب هو سياسة غير ناجحة في هذه الحالة، انه صحة وسعادة الملايين من الأسر.

حول ملكات الجمال

نشرت "حضارة الاسلام" في العدد الثالث من المجلد الثاني ص 351 عنوان ملكات الجمال" ما يلي:

كثرت ملكات الجمال في هذا الزمان، حتى أصبحن أكثر من الهم على القلب، أو أكثر من دود القطن في فصل الصيف. وأكثرهن يشبه دود القطن نعومة والتواء وقلة كساء وحياء، ونحن نعلم أن الأمراض والأوجاع تنتشر على أثر الحروب في شكل وبائي، ولدينا جدول مفصل لهذه الأمراض ولا بد لنا أن نضيف الى هذا الجدول، والى أصناف الحميات التي تتفشى بعد الحروب هذا الداء الجديد، وهو حمى ملكات الجمال، كان هذا المرض موجوداً قبل الحرب، ولكنه لم يعدو في حالات فردية نادرة. أما الآن فقد أضحى مرضاً وبائياً، مثله كمثل الحمى الاسبانية التي اجتاحت جميع القارات في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أو الحمى الاسيوية التي اكتسحت القارات والمحيطات بعد الحرب العالمية الثانية بعشر سنين. والاسم الذي أطلق على هذا المرض يوهمنا، لأول وهلة، أنه مما يصيب النساء دون الرجال، فيكون – في هذه الحالة – من اختصاص أطباء الأمراض النسائية. غير أن التشخيص الدقيق أثبت أن جرثومة المرض متأصلة في الرجال أيضاً، وإن كانت أعراضه قلما تظهر إلا على النساء. لذلك يرى العلماء ان الرجل هو بمثابة حامل الجرثومة وناقل المرض، وان كانت الضحايا في "الاكثر الأغلب" من النساء. ولم يكن بد – بعد ان كثرت ملكات الجمال هذه الكثرة الهائلة – ان تتعدد أنواعها وأشكالها، فأصبحت هنالك ملكات للقرى والمدن والعواصم والأقطار والقارات، وملكات لبعض أعضاء الجسم، مثل ملكات الساق والأنف والأذن والحنجرة، وملكات لبعض السلع التجارية كملكة القمح أو الأرز أو البامية. ولا شك أن مجال التعدد والتنوع لا يزال واسعاً فسيحاً. وبعد أيها القارئ الكريم! ما أظنك إلا مدركا ان هذه المبتدعات الغربية ما هي إلا من قبيل تمجيد الجسد الزائل الحائل، في زمن لم يتعلم أهله بعد كيف يمجدون الروح، ولا بد أن يمضي وقت طويل، بل لا بد أن تبدل الأرض غير الأرض، والناس غير الناس، قبل أن نسمع بملكات للصدق والأمانة، والوفاء والاخلاص.

الدكتور محمد عوض محمد

رئيس المجلس التنفيذي لمنظمة اليونيسكو

أزمة الحضارة الغربية يرجع أكثرها الى تفكك الأسرة وشيوع أدب الجنس

نشرت "حضارة الاسلام" في العدد الثاني ص 100 من المجلد الثالث ترجمة مقال كتبه الكاتب الاجتماعي "ج. س. يولاك" يتحدث فيه عن أخلاق الشباب في الغرب، وفوضاهم، وسلوكهم الشاذ ويحاول ان يبحث عن أسباب هذه المشكلة، ومما قاله:

إننا نلاحظ منذ سنوات ان عصرنا يفقد بالتدريج حرارة الحياة فيه ويخسر باطراد: الدفء والطمأنينة من القلب البشري، فحياة الفرد المعاصر لا تعرف الارتباطات والواجبات الاجتماعية كما عرفها إنسان الأمس، ولم يعد المرء يشعر نحو جواره بذلك الشعور الذي كان معروفاً في الماضي، كما ان روابط الأسرة لم تعد كما كانت، بل فقدت كثيراً من مقوماتها. إننا في الحقيقة وسائل للميكانيكية (التصنيع) التي غيرت كل الروابط الاجتماعية حتى روابط الأسرة، إننا ويا للأسف ندفع ثمناً لما يعطينا التطور التكتيكي من أدوات، إننا نعاني خسارة مطردة في مادتنا الروحية دون أن نشعر. وبعد أن يتحدث عن طبائع الجيل في الغرب يقول: وهكذا ينقلب الفتيان حول الثانية عشر الى قطاع طرق، ويتحول الشباب والشابات الطبيعيون عادة في رقصة "روك أندروك" الى فوضويين مخربين، لقد بلغت خسائر رقصة روك اندروك وما نتج عنها من فوضى في احدى مقاهي برلين في الشهر الماضي مبلغ 300,000 شلن، وفي هامبورغ 120,000 شلن. ثم يتحدث الكاتب عن أثر كتب أدباء الجنس والأفلام السينمائية في وصول الشباب الى هذه الحالة فيقول: إن 62% من مجموع الفتيان هم زوار نظاميون للسينما، وبذلك نجد أن الفيلم يحتل مقعد التوجيه المنتظم لثلثي شباب اليوم، الفيلم بما يحمله من قصص قطاع طرق مجرمين وقصص خيانة اجتماعية، وما الى ذلك. وإني لأتساءل هنا بشدة: ألم ينتبه المسؤولون حتى الآن كم لعبت السينما دور مدرسة المجرمين، بالاضافة الى السينما تلعب هذه "الكتيبات" الحقيرة التي تطبع منها ملايين النسخ، والتي يقبل الفتيان على قراءتها وتدوالها، بلهفة شديدة، إنها كتب لا تحوي سوى قصص الخيانة والاجرام. لقد دلت الاحصاءات على أن 40% من طلاب المدارس يقرؤون هذه الكتب، وأن كل واحد من هؤلاء يملك ما بين 10 إلى 200 كتاب منها. ولقد اعترف احد هؤلاء الفتيان أنه يقرأ أسبوعياً 11 كتاباً من هذه الكتب الجذابة. ويتابع الكاتب بحثه فيقول:

مخازن مفسدي الأطفال

ما أظن أن أحداً لا صلة له بالكتب السيئة ومخازنها يستطيع أن يقدر الأثر السيء الذي تسببه هذه الكتب. ان دور نشر كبيرة وعبيد الربح أيا كان مصدره يقومون بانتاج وتوزيع هذه الكتب الوسخة، مستغلين أوضاع الشباب النفسية وقلقهم واضطرابهم الداخلي، وحبهم للتطلع. ان هذه الكتيبات تكنس كل ما في الفتوة من خجل واحترام وكيان، وتهدم كل مقومات صيانة الأخلاق الطبيعية التي يحملها في نفسه بحكم فطرته. ما أظن أحداً يستطيع أن يقدر المقود الضخم الذي تملكه الكلمة المطبوعة بالنسبة للذين لم يتم نموهم بعد، والذين لا يزالون في منتصف مرحلة النمو، وخصوصاً تلك الكلمات المنتقاة، مثل: جنس، عمل اغتصابي، انحراف جنسي، ان لهذه الكلمات قوة هائلة على نفوس هؤلاء الشباب، وعلى سبيل المثال: فقد بلغ المشهد نهايته العظمى في أحد هذه الكتيبات التي التقطت من طفل في الثانية عشرة من عمره، وفي هذا المشهد يصور للطفل صورة انسان يحترق، لقد ورد في هذا الكتاب: هل رأيت شمعة إنسانية تحترق، وبشكل خاص عندما تقفز هنا وهناك وترجف مع قفزها؟ تماماًَ كما يفعل الديك الذي قطعت رقبته، لقد أوقدنا شمعة إنسانية منذ عدة أسابيع قفز رجل عالياً كالصاروخ وهرب الى بيته، وهناك ابتدأت النيران تشتعل فأحرقت الخزائن معه أيضاً زوجه وأطفاله. إنه من طبيعة الفتيان الذين لم يبلغوا بعد امكانية الحكم على الأشياء حكماً صحيحاً، أن ينقلوا صور هذا العالم الثنائي البعد، عالم الكلمة المطبوعة، وعالم الصور المتحركة على الشاشة البيضاء، الى التنفيذ العملي، وتحت هذا الفيض الزاخر من عمل العنف وارتكاب الجنايات تنطفئ كل دوافع المسؤولية واحترام الانسان، وبهذا ينحني سلوك الفرد وتصبح عوامل العنف عنده أمراً طبيعياً، وبقدر ما يوجد من آباء واعين مسؤولين، يمكن أن تدرك هذه الحقائق كما يدركها آلاف من المربين والقساوسة وأطباء النفس،.... ولكن لماذا لا نبحث عن مخططات لمعالجة الموقف؟ أما يشغل الوزارات غير رؤوس نائمة لا تدرك خطر الأفلام والكتيبات؟

الجنس ينمو أسرع من النفس

لم يعد في مقدور الآباء أن يقدموا لأطفالهم ما يملأ فراغ عالم إدراك الشاب الذي لم يبلغ من العمر الثلاثين أو الأربعين، وذلك بما تقدمه له الأفلام والصحف المصورة والتلفزيون من مشاهد لا يراعى في انتقائها واختيارها أي وقع لهؤلاء الفتية، ومن ثم تسلم ضمائر هؤلاء الأطفال الى اضطراباتها. يضاف الى هذا أيضاً ذلك التعقيد المتمثل بنمو الطفل الجسمي أسرع من الماضي، متأثراً بهذا العالم التكتيكي حوله، وهذا ما أثبته الأستاذ A. Huhn في جامعة ميونيخ، حيث وجد أن 95% من فتيان اليوم يمرون في سنة التطور الجسمي مع تأخر في النفسي، فالفتى الذي يبلغ من العمر أربعة عشر عاماً، والذي يبدو في المظهر أنه يبلغ ثمانية عشرة عاماً، هو في الحقيقة لا يتجاوز من حيث النمو النفسي اثني عشر عاماً. ان الذرية الحالية تشعر بالرغبة في أن ترسم مخطط حياتها بنفسها في سن مبكر، في حين أنها في الواقع ليس لديها الاستعداد النفسي لذلك.

وأخيراً فقد كانت العائلة في الماضي تضم أفرادها مدة أطول تحت سلطانها، وليس الأمر كذلك بالنسبة لانسان اليوم، فسلطة والديه عليه ضعيفة، وما الأب سوى شكل جانبي في الأسرة، بينما كان يمثل الشخصية المحترمة الأولى التي تدير الأسرة وتقودها.

كثير من المال وقليل من التربية

إن إشتراك المرأة في العمل والوظيفة شغل جل وقتها، ونتج عن هذا أمر خطير هو شلل شعور الأمومة فيها، فلم يعد عند الأم فراغ تهتم به بأبنائها، بل تركت للمال الذي تقدمه لهم بسخاء، أن يعوض عن الحب والاهتمام بشؤونهم، وبهذا انعدم وجود نساء يستطعن ان ينمين في أطفالهن شعور الايثار والتضحية وحب الانسانية والاستعداد للعيش مع الآخرين بوئام وانسجام، لقد تحول العالم وتغير الانسان، وأصبحت الأمهات تتسابقن في تحقيق كل رغبة لأطفالهن، فتجاوز دلال الأطفال كل حد، وطفح كيل تزويدهم بكل حديث، وفتحت لهم أبواب تحقيق مسراتهم على مصراعيها: السينما والسيارة (أو الموتور) والالعاب الاوتوماتيكية، ومزاولة الرقص في كل ساعة من ساعات اليوم، حتى أصبحت هذه الامور من البديهيات.. ولكن الكلمة التي يجب أن تقال هنا: إن الشباب الحالي يملك كثيراً من المال، وكثيراً من الوقت، وكثيراً من الحرية أيضاً، ولكن لا نجد أحداً يعتني بتكوينهم وتربيتهم، وقلما يلاحظ المرء أنه مع نماء المظهر الخارجي والسعادة الظاهرية للانسان، تنمو كذلك، صحراء داخلية في قلب كل فتى وفتاة. إن ما ذكرناه في هذه الكلمة ليس في الحقيقة إلا محاولة بسيطة لمعرفة بعض الأسباب الرئيسية لمشكلة شبابنا.

نصيحة أشهر ممثلة في الاغراء للمراهقات بعد انتحارها

نشرت "حضارة الاسلام" في عددها الثالث للمجلد الثالث ص 331 ما يلي: اكتشف المحقق الذي يدرس قضية انتحار مارلين مونرو رسالة محفوظة في صندوق الأمانات في مانهاتن بانك في نيويورك... ألقت هذه الرسالة بعض الأضواء على انتحار مونرو: اذ وجد على غلافها كلمة تطلب عدم فتح هذه الرسالة قبل وفاتها. فتح المحقق الرسالة، وجدها مكتوبة بخط مونرو بالذات، وهي موجهة الى فتاة تطلب نصيحة مارلين عن الطريق الى التمثيل... قالت مارلين في رسالتها الى الفتاة والى كل من ترغب بالعمل في السينما:

احذري المجد... احذري كل من يخدعك بالأضواء.. إني أتعس امرأة على هذه الأرض... (لم أستطع أن أكون أماً...) إني امرأة افضل البيت... الحياة العائلية الشريفة على كل شيء... ان سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة، بل ان هذه الحياة العائلية لهي رمز سعادة المرأة بل الانسانية... وتقول في النهاية: لقد ظلمني كل الناس... وان العمل في السينما يجعل من المرأة سلعة رخيصة تافهة مهما نالت من المجد والشهرة الزائفة. اني أنصح الفتيات بعدم العمل في السينما وفي التمثيل – ان نهايتهن اذا كن عاقلات كنهايتي....

كيف تعيش ممثلات هوليود؟

وجاء في الصفحة نفسها من العدد المذكور:

هذا السؤال وجه الى بطل أفلام رعاة البقر المشهور (هيك اوبريان) فأجاب: انهن كالمسحورات.. امنية الواحدة منهن أن تضيف الى شعرها الأشقر صبغة جديدة، وأن تستعمل آخر مبتكرات مساحيق ماكس فاكتور، ناسية ان الجمال لا يدوم، وان الجمهور لا يرحم... وسريع النسيان.. وهوليود تعرف كيف تفتك بهؤلاء الممثلات اللواتي لا يعرفن السعادة أبداً... وترى الواحدة منهن قبل أن تكبر تفضل الموت على الحياة... وسئل عن رأيه في انتحار الممثلة المشهورة مارلين مونرو فقال: كنت في لندن عندما سمعت بموتها ولقد صدمت لهذا الخبر.. ان هوليود هي السبب المباشر بمقتلها، وان هوليود تتحكم بعمالة السينما فترفعهم ساعة تشاء... وتقضي عليهم ساعة تشاء.. لقد قست هوليود كثيراً على مارلين وعاملتها معاملة احتقار بعد ان استغلتها... وهذه الطريقة من المعاملة لها اخصائيون في هوليود، انهم يعرفون وفي الوقت المناسب، كيف يقضون على الفنان الذي يكون قد أمضى زهرة شبابه تحت أضواء الاستوديو والنظام القاسي المعمول به... ولا أريد أن أتكلم بأكثر من ذلك لأن ظروفي لا تسمح لي. وقال: لقد كنت على علم بأنها ستموت قبل أن تموت.. كنت انتظر لها مثل هذه النهاية التعيسة... وأضاف يقول ان فاتنات هوليود أكثر نساء العالم تعاسة! انهن دمى بيد تجار هوليود، وما على الفنانة لكي تصل الى الشهرة الا أن تبيع نفسها وارادتها وكرامتها، ثم لا تلبث أن تأتيها الضربة القاصمة بعد أن ينتهي دورها وتستنفذ مواهبها...

انهيار الشباب في الغرب نتيجة لأدب الجنس

ونشرت "حضارة الاسلام" أيضاً في عددها الرابع للمجلد ص 444 ما يلي:

في مؤتمر عقد أخيراً في الولايات المتحدة أعرب أحد الاخصائيين عن اعتقاده بأن موجة من "هستريا الجنس" أصابت العالم في السنوات الأخيرة، وترتب عليها زيادة نسبة المواليد غير الشرعيين في أكثر العالم، ويرجع ذلك الى تفكك الروابط العائلية، والى المثل السيئة التي يضربها الآباء والامهات للابناء والبنات، وإلى رواج الخمور والمكيفات والمثيرات الجنسية في السينما والصحف والمجلات؟ وفي العدد الثالث من المجلد الثالث من المجلة المذكورة نشرت مقالاً مترجماً بعنوان "يجب أن لا تلعنوهم" ننشره بنصه لما فيه من العظة التي ينبغي أن تفتح عيوننا وضمائرنا قبل أن يفلت الأمر فنقع في نفس ما وقع فيه الغربيون؟ ان مشكلة ارتكاب الفتيان للإجرام، عادت حديثاً على بساط البحث، ففي محاضرة حول "الفتيان والشرطة أكد الدكتور Otto Kornde أحد كبار موظفي الشرطة، أن السبب في تصرف الفتيان الاجرامي يقع بالدرجة الأولى على عاتق نضوجهم الجسمي بسرعة تفوق نموهم النفسي، الى جانب أسباب أخرى، مثل: "كثرة الطلاق" و "الغربة النفسية" بين الآباء والأبناء و "الفيلم" الذي يقوم بنصيبه في تعويد الفتيان "الجلافة" وحب الاجرام. ولقد أوضح البروفسور Dinelt في بيت النقابات، ان تربية الفتيان اليوم أصعب منها في الزمن الماضي، لأن حصن الصيانة التربوي الوحيد هو العائلة السليمة، في حين ان التربية بواسطة عوامل التأثير من الوسط الخارجي، تعترضها مشاكل معقدة، وعقبات تستعصي على الحل، عد البروفسور منها، كظواهر سلبية، الانحراف الجنسي الخطر، بسبب ما يشاهده الفتى من حوادث "قبل استعداده لرؤيتها Vorzeitige Erlebnime" وقلة الخضوع أمام السلطة الحقة، وغلبة النزعة المادية، الى جانب نقص في الادراك لمعنى المال، إدراكا يتضمن فهما للمسؤولية، وميوعة تؤدي الى ذوق فاسد، والتواء في الشعور مشحون بغمغمة وانمياع في المفاهيم. وفي محكمة الاحداث، بدأ النقاش حول الأخذ بالاجراءات الكفيلة بمنع اتصال الفتيان الذين عوقبوا مرة، بالفتيان الآخرين، وشكلت لجنة من أجل هذا الغرض، كانت تخبر كل يوم عن كثير من الحوادث التي يرتكب فيها الفتيان اعمال الشر. وعلى النقيض من هذا، يقرأ القارئ رسالة "مشوه حرب" الرجل الذي تجوس به زوجته خلال الشوارع، فتراه يقول ان الدموع كانت تترقرق في عينيه، عندما يرى بعض الفتيان المظلومين "المتهمين عدوانا بما يرميهم به الناس" يساعدون زوجته، بشكل عفوي، معتبرين ذلك أمراً بدهياً. يرفضون عليه بعد ذلك أي شكر.

مؤسسة دار التربية:

انه لا شيء يوضح هذا الاختلاف بين فتيان مجرمين، وآخرين طبيعيين يقدمون المساعدة للمرضى والمشوهين، كزيارة لدار التربية Kaiser-Ebersdorf حيث يستطيع المرء هنالك، أن يفهم الوضع الصحيح لهؤلاء الفتيان.

أعمال المؤسسة وغايتها:

قبل سبع سنوات، منحتني وزارة العدل اذنا خاصاً بزيارة هذه المؤسسة وذلك بعد أن حصل فيها عصيان ناشد الفتيان فيه الرأي العام، وطلبوا منه أن يقف الى جانبهم؟ ولم يكن في وسعي أن أصمم على نشر انطباعاتي عن الدار في ذلك الحين، لأنها كانت لا تزال في دور التأسيس، ولكن لما ظهر في العام الماضي كثير من الأخبار المكذوبة عن هذه المؤسسة، بالاضافة الى أن البعض بدأ يجعل هذا الموضوع، الذي يهمنا ويهم كل انسان في النمسا، شهرة وتجارة، فقد صممت أن أنشر شيئاً عنه اليوم:

ان وظيفة هذه المؤسسة صعبة ومتشعبة، فهي ترمي الى التعرف على المنحرفين المحالين الى المؤسسة، تعرفاً كاملاً، "وحتى اذا اقتضى الأمر استعمال وسائل تشخيص ملائمة" من أجل تقديم العلاج الشافي من جميع العوامل المؤثرة وكذلك تنمية علاقة تربوية – موهبة – ذاتية لدى بعض المنحرفين، وجعلهم صالحين للعمل والوظيفة، وتوليد حب العمل عندهم بشروط ملائمة، الى جانب تربيتهم الجسمية الصحية، وتعويدهم كيف يقضون أوقات فراغهم، وتهيئتهم للشروط الاجتماعية التي من المحتمل أن يعيشوا فيها بعد فك سراحهم.

صعوبات وعقوبات:

ان بامكان المرء أن يدرك ان ادارة المؤسسة مهما كانت قوية، لا يمكنها ان تفي بالمطلوب، اذ لم يشارك الفتى المنحرف "المريض" نفسه في ذلك؟ وحتى لو فعل ذلك، لا يكفي أيضاً، ما دام المجموع لم يشاركوا "عائلياً" الموضوع تحت العلاج... ذلك أن للأمر علاقة هامة بالضرائب والناحية المالية.. ومن جهة أخرى، فان وظيفة المصح ليست "مصحاً" بكل معنى الكلمة، وليس كذلك ان تنشىء في الفتى نقمة على الجو المحيط به باستعمال شدة مفرطة... وسأكتب فيما يلي ما قاله اثنان من هؤلاء الفتيان في العدد الخامس والعشرين من جريدة المؤسسة Derweg، التي يحررها الفتيان أنفسهم: لقد أوضح (Tritz) رأيه في صحافة اليوم، واشتكى من الأخبار الغريبة التي تنشرها هذه الصحافة، وقال: ان هذا ليس له الا نتيجة واحدة هي أن هذه المؤسسة (Kaiser-Elerdorf) تكتسب مع الزمن سمعة سيئة لدى الرأي العام، فعندما يبحث أحد "الفتيان" الذي أصبحوا "أصحاء" عن عمل، يجد ان العثور عليه أمر صعب! وقال الثاني (Hainz): علينا أن نعالج نقطة رئيسية: أي رئيس عمل أو مدير مصنع يقبل أن يعطي أحدنا عملاً؟ ومن منهم يمنحنا ذرة من الثقة؟ ومن منهم لم تكن لديه بعض المخاوف من أن نسرقه؟

من هم "المرضى" ومن الذي يحيلهم الى المؤسسة؟

أما المحيلون اليها فهم القضاة الجنائيون في محاكم الأحداث، وقضاة الرعاية والعناية فحسب، وليس لأحد غيرهم، كالشرطة والدرك، حتى ولا للأوصياء مثل هذا الحق، وعلى هؤلاء القضاة ان يتقيدوا بالفقرة 2 من J.G.G والتي تحصر حق الاحالة على هذه المؤسسة بالفتيان الذين يرتكبون عملاً ممنوعاً معاقباً عليه في القانون، اذا أثبت التحقيق ان ارتكابهم لهذا العمل راجع لنقص في التربية. ويجب على الفتى المحال أن يبقى ثلاثة أشهر مع المجموعة المقبولة حديثاً، تحت الرعاية الطبية والتحليلية النفسية، ومن ثم يمكنه أن يخرج من المؤسسة برفقة "مربي مجموعة"، وبعد ستة أشهر يمكنه أن يخرج وحيداً بواسطة بطاقة مرور. وبعد أن يتم قبول هؤلاء الفتيان، يتصرفون كصغار الابقار أو الخيل حشرت في "اسطبل" تضيق به ذرعاً، فتراهم "يضربون بأرجلهم وحوافرهم" على الأرض، ويحاولون خرق الجدار برؤوسهم، أي إنهم يبدؤون بلعن الشرطة والآباء! ثم ما يلبثون أن يهدؤا عندما يدرك جلهم أنه يراد بهم الخير.

نتيجة:

ان هذه المؤسسة: K.E.D ليست سجناً للفتيان، ولا مؤسسة للأعمال الالزامية، إنما تبغي تطبيق برنامج تربوي معين، فليس على نوافذها قضبان حديدية، والفتيان الذين ارتكبوا جريمة فعلاً، لا يتصلون بأولئك الذين ثبت عندهم نقص في التربية، ولم يرتكبوا جريمة بعد. ولكن يبقى بعد ذلك كله، عدد من "البليدين" الذين لا يقدرون على تعلم ما يحتاجون اليه في حياتهم المستقبلية.... وهذا ليس بأمر غريب فان أمثال هؤلاء موزعون ضمن العائلات وفي الجيش والمعامل... والنسبة بين القابلين للتحسس و "الشفاء" وغير القابلين له هي نسبة ثمانين الى عشرين.

جريمة النظام الاجتماعي:

وأراني هنا بشكل لا إرادي أتذكر قول غوته:

"أنتم قدتمونا الى داخل الحياة...."
"أنتم جعلتم الفقراء يرتكبون الخطايا..."

أتذكر هذا عندما أعلم أن بعض هؤلاء الفاسدين والمجرمين من الفتيان ممن فشلت هذه المؤسسة التربوية في علاجهم، قد ترعرعوا في بيئة فاسدة مليئة بالأخطاء والأوساخ... لقد قال لي أحد الآباء مرة بالحرف الواحد: "إن أجمل أيام حياتي، يوم يقف ابني السارق أمام القضاء"!! كان أباً سكيراً مجرماً، لاعباً للقمار، وبعد أن أطلق سراح ابنه من المؤسسة السابقة، وهو في سن العشرين، تمكن هذا الابن من تحقيق أمنية والده! حين وقف أمام المحكمة، لتحكم عليه بالسجن لارتكابه جريمة السرقة، فهل يمكننا أن نلعن هذا الولد الذي أنجبه هذا الوالدظ "إن الإله الكريم قد أعطى أبناء هذا العصر آباء وأمهات، ولكنه لم يمنحهم والدين، هذه العبارة يمكنني أن أضعها عنوانا على موضوع بين قيمة وأهمية الوالدين في التربية، والدليل على ذلك، في المؤسسة نفسها: إن فيها من بين مائة فتى Zöglinge خمسة وسبعين لم ينشأوا تحت رعاية أبوية، بل ربوا تربية مهملة... وبين الخمسة والعشرين الباقين، اثنان وعشرون انحدروا من أبوين عاملين... وثلاثة فقط ترعرعوا في أحضان أبويهم.

المؤسسة وقيام المجتمع الصالح:

إن بإمكاننا أن نغلق هذه المؤسسات، عندما يقوم الآباء نحو أبنائهم بواجبهم التربوي الصحيح، غير أن خبيراً تعليمياً عارضني مرة بقوله "يجب أن نربي الآباء أولاً، ولعل هذا الاعتراض صحيح لحد ما، خصوصاً ونحن نسمع من الآباء الاعتراض التالي: اذا لم يذهب كلانا (الرجل والمرأة) الى العمل، لنكسب قدراً أعظم من المال، فاننا لا نستطيع أن نشتري هذا... ولا ذاك... وهنا نضطر دوماً للإجابة على هذا الاعتراض، بقولنا: ان المطبخ الامريكي، والسجادة الجميلة، والزخارف والبورسلان، ليست ضرورية لتربية الطفل! ان التربية الصحيحة في بيت الآباء (حيث لا تضطر المرأة الى العمل خارج المنزل) تعطي الولد القوة والقدرة على أن يقطع حياته الدراسية بسهولة ويسر، وتؤهله لدخول المعترك الاجتماعي بشكل صحيح، أليس هذا واضحاً من 30% فقط من الفتيان المنحرفين عاشوا تحت رعاية (مهملة) من والديهم؟!

هل يقوم على تربية الأبناء من رزق بهم؟

وعلى الطريق، نحو بناء مستقبل اقتصادي عال، يتحطم الأزواج، وتتفكك الأسرة، ويقع الطلاق، والضحية بعد ذلك كله هم الأبناء، الذين لا يجدون من يقوم بأمر تربيتهم والاعتناء بهم، ويمكننا أن نرى نسبة الوالدين المنفصلين عن بعضهم بالطلاق، من الأبناء الموجودين في المؤسسة، الذين انحرف بهم مجتمعهم نحو الجريمة والفوضى، وفيما يلي إحصاء بسيط يبين هذه النسبة:

25,4% من عائلة غير متفككة (يعيش الأبوين معاً).

21,2% من أبوين منفصلين.

27,3% من عائلات بدون أب.

10,1% من عائلات بدون أم.

6% بدون أبوين.

ومن الملاحظ أنه في الحالة التي يعيش فيها الزوجان معاً، في حالتين منها، يعمل الوالد خارج منطقة سكنه، وهو بهذا لا يساهم فعلاً في التربية، وفي ثلاث أحوال: يوجد للآباء أبناء كثيرون، وقد دّلل أحدهم، في ثلاث أحوال أخرى: كان الآباء فيها مجرمين، وفي عشرة أحوال: كان الأجداد فيها كعوامل فاسدة في التربية، أكثر من مربين، وفي تسع أحوال: كان الآباء مشوهي حرب أو عمل، أو في سن التقاعد، حيث لا يقدرون على القيام بأعباء التربية. هذا الى جانب أحوال أخرى: كان كلا الوالدين فيها – أو بعضهما – مدمناً على الشرب، أو أن الأم أو الأب مريض بمرض معضل أو أن النزاع بين الأم والأب ليس له حد، أو أن الوالدين كانا يدللان ابنهما "الوحيد" أو أن الأطفال – أخيراً – قد أصيبوا بجروح أو انفلونزا رأس، أو اضطرابات دماغ، أو التهابات الاذن الوسطى، أو تقيحات جوف الجبهة....

عاطفة الحب:

وما أسميه عجباً في هذه المؤسسة، هو أنها نجحت في تحويل كثير من هؤلاء المشردين (الزعران) الى شباب نابهين، يسلكون سبيلاً حسناً، ويتصرفون تصرفات يرضى عنها، حتى أن بعضهم قد أطلق سراحه مبكراً ولم يتمكن "او لم يرد" مدير المؤسسة أن يشرح لي أسباب ذلك. لكني لاحظت وعرفت أنه في الدار: K.E.B يجد الفتى لأول مرة في حياته من "يحبه" ويعطف عليه. نعم ان المربين والمساعدين والمعلمين يحبون هؤلاء الأطفال، كما يحب المرأ أخاه، وعندهم صبر وتفهم لأحوالهم، ولقد شاهدت بعيني "فتى" كان الشرطي يحاول ادخاله الى المؤسسة، ثانية، بعد أن عاد لارتكاب الجرائم عقب خروجه من المؤسسة كيف أنه وقف معانداً ارادة الشرطي، حتى أتى "مربيه" السابق، فانكب على قدميه يقبلهما ويطلب منه السماح.

وأخيراً:

ان بناء هذه الدار: K.E.B الضخم، والمشيد منذ ثلاثمائة عام لا يصلح لإجراء برنامج التربية، ولقد قال أحد النواب بعد زيارته لهذه المؤسسة: وراء هذه الجدران القديمة والمظلمة، لا يمكن أن يشفي انسان.

يوصي بسكرتيرته ويحرم زوجته

قالت مجلة حضارة الاسلام ص 619 من المجلد الثاني:

توفي أحد أثرياء مقاطعة تورمبيش بانجلترا، وعندما فتحت وصيته وجد أنه ترك كل أملاكه وهي: منزل ريفي كامل يقدر بـ 10 آلاف جنيه، وعقار، ومكتبه الخاص، وسيارته، و 50 ألف جنيه في البنوك لسكرتيرته الحسناء (ماري فيرا) ولم يترك لزوجته قرشاً واحداً، وكتب في وصيته: إنني لم أترك لزوجتي شيئاً لأنها كانت سبب شقائي وآلامي المستمرة ولا تستحق إلا الفقر والموت، وإني أترك كل أموالي لسكرتيرتي التي أحببتها وأخلصت لها واليها يرجع الفضل في التغلب على نكد زوجتي. أقول: نحيل هذا الى الذين ينكرون غرائز الفطرة والحياة الواقعية، ما شرعه الله ويستنكرون الله من تعدد الزوجات!

حول خوف المجاعة تزايد سكان العالم

نشرت مجلة حضارة الاسلام ص 249 من المجلد الأول مقالاً للكاتب "كريستوفرهوليس" نشرته مجلة "سبكتيتور" اللندنية وهو ما يلي:

هناك اعتقاد شائع في هذه الأيام بأن عدد سكان العالم في تزايده المستمر سيكون خطراً يهدد الجنس البشري في المستقبل القريب. وحجة أصحاب هذا ان عدد السكان في البلاد المختلفة يزداد زيادة مرعبة، بينما الانتاج يزداد ببطء بالغ، وفي رأيهم أنه ما لم تكتشف طريقة رخيصة لمنع الحمل وما لم تتكلف الحكومات لتحديد النسل في العالم، فان المشكلة ستكون في المستقبل مستعصية لا حل لها. ويحمل مثل هذا الرأي رجال هم صفوة المفكرين مثل بروفسور توينبي. وفي رأيي أن هذا الاعتقاد لا صحة له. والواقع يثبت عكسه. وبين أيدينا احصائيات سكرتيرية الأمم المتحدة التي تقول ان الانتاج في الشرق الأقصى قد زاد في عشر السنوات الأخيرة بنسبة 3% بينما زاد عدد السكان في المدة ذاتها بنسبة 1,4%. أضف الى هذا أن تحسن وسائل الانتاج سيزيد الانتاج نفسه: فانتاج الفدان من الرز في جاوا على الرغم من صلاحية الظروف لزراعته فيها، يبلغ ثلث انتاج الفدان من الرز في اليابان. وليست التربة في اليابان خيراً منها في جاوا لزراعة الرز. وتقول التقديرات ان نحو 50% من مساحة الأرض صالحة للزراعة، أما المستغل منها الآن فلا يزيد عن 10% فقط. وفي رأيي أننا لو استصلحنا واستثمرنا كل الأراضي الصالحة للزراعة فان الانتاج سيكون كافياً لـ 28 بليون انسان "أي عشرة أضعاف سكان الأرض الآن" وفي مستوى حياة المواطن في هولندا الآن، وهذا الانتاج نفسه يكفي لـ 90 بليون انسان في المستوى المعاشي الذي عليه سكان آسيا. وللتقدم العلمي الدور الأول في تحسين وسائل الانتاج، واستخراج الطاقات المحركة من الفحم والايدروجين المضغوط، ولن يمضي زمن طويل حتى نجد الطاقات الذرية، وقد استعملت على نطاق يخفف من أعباء الحياة على الانسان.

من أمثلة الانحلال الخلقي عند الغربيين

نشرت "حضارة الاسلام" في عددها الرابع للمجلد الثالث ص 443 ما يلي:

في بعض الحفلات الخيرية! في بلاد الغرب تنظم مزايدات على "قُبل" الكواكب المعروفات، وقد دفع أحد الأثرياء في انجلترا خلال الحرب العالمية الأولى في حفل خيري 12,000 جنيه مقابل تقبيل إحدى الممثلات المعروفات حينذاك، ودفع آخر منذ بضعة أشهر 1500 جنيه في مناسبة مشابهة، وقد أوصى ثري في "مانشستر" بـ 25,000 جنيه لفتاة "تقديراً لقبلة منحته إياها أثناء احدى حفلات عيد الميلاد (أي ميلاد السيد المسيح نبي الطهر والعفة والحياء)!.

الحنين الى العهد الماضي

نشرت مجلة الاسبوع العربي اللبنانية في العدد 153 بتاريخ 14 أيار (مايو) المقال التالي بقلم "نازك باسيلان":

كانت كلمة "حريم" تعني منذ الأزمان البعيدة الحرم المقدس أو المعبد المحرم الدخول اليه، وقد أطلق هذا الاسم على القسم الخاص بالعائلة أي بالنساء والأطفال، والذي كان محرماً على الغرباء ولوجه، بينما سمح لهم بالدخول الى باقي أقسام المنزل، ويرجع هذا التقليد الى ما قبل ظهور الاسلام شأن الحجاب تماماً، إذ لم ينفرد به المسلمون بل انتشر في أكثر الأقطار الشرقية قبل ظهور الاسلام بزمان بعيد، وقد كان هذا التقليد ترفا خاصاً بالأثرياء، إذ لم يكن في متناول يد أي رجل عادي أن يقيم في منزله حريماً خاصاً بالنساء، ومن جهة أخرى فقد كانت نساء الطبقة العاملة كثيرات التجوال والخروج في الطرقات سعياً وراء أعمالهن. أما هندسة "الحريم" فكانت أنيقة تدعو الى البهجة والمرح، إذ اتسعت للجنائن الغناء تلونها الأزهار الجميلة وتجري بين خمائلها المياة غزيرة منعشة. وقد كان عالم المرأة ذاك جميلاً نعمت فيه بأيام سعيدة قد نستغربها اليوم، ونحن نسعى الى العمل مع الرجل وأحياناً كثيرة لاستباقه الى ما كان ينفرد به من كد وإرهاق. وكثيراً ما كانت النساء يستقبلن المنجمين والأطباء والتجار الذين كانوا يحملون اليهن الأقمشة الجميلة والجواهر الثمينة، فيسرعن عندئذ الى ارتداء الحجاب كما لو كان عليهن أن يسرن في الطريق العام. ولم يكن ليبرجن "الحريم" إلا لزيارة صديقاتهن أو لحضور بعض الحفلات العائلية أو الاحتفالات الدينية أو إذا أردن الذهاب الى الحمام، فقد كان للنساء إذن عالمهن الخاص المقتصر عليهن فقط، إذ حرم عليهن تماما الاختلاط بالرجال او استقبالهم والتحدث اليهم، إلا أن ذلك عكس ما يتبادر الى الأذهان لم يكن ليجعل من عالمهن عالماً رتيباً متشابهاً مملاً، إذ كن يقضين أوقاتهن في أعياد دائمة، نزهات في الحدائق الضاحكة حيث كانت المياه ترقص من الفرح وتعكس صورة حوريات جميلات محصنات، وأمسيات معطرة على الشرفات المنفتحة للنسيم ولضوء القمر، واستقبال الصديقات بنشر الورود والرياحين عند وصولهن وحرق بخور وعطور نادرة، وكانت تهل على أعيادهن المغنيات والراقصات ترافقهن جوقة من الموسيقيين. إلا أن المرأة لم تكتف دائماً بتلك الحياة على ما كان فيها من الراحة والطمأنينة، بل اقتحمت في الجيلين الحادي والثاني عشر حقل المهن الحرة فكانت محامية وشاعرة وطبيبة فيما كانت نساء الشعب ينصرفن لشؤون منازلهن والى بعض الأعمال التي كانت من دخل الأسرة الضئيل كحياكة الثياب أو الصياغة أو رتي الثياب القديمة.

الحمام:

أما الحمام فكان يقوم مقام صالون التجميل الحديثة إذ كانت النساء يقصدنه مرة كل خمسة عشر يوماً، فيقضين فيه سحابة نهارهن كي يتسنى لهن الاستفادة من عمليات التجميل المختلفة. كانت تصله المرأة منذ الصباح يتبعها خادم من الخصيان يحمل لها في علبة من الخشب المنقوش المشط والمرآة ومختلف العطور، فتغتسل متمهلة تساعدها عاملتان من الحمام، ثم تتناول طعام الغداء وتبدأ بعد ذلك عملية "الحنة" التي كانت منتشرة بين جميع النساء، وكان يأخذ شعرها اللون الذي تريد، كانت كل سيدة تسلم نفسها لأيدي المدلكة الماهرتين. ويحين موعد الاعتناء بالوجه في ساعات النهار الأخيرة، فمن تدليك الوجنتين الى تكحيل العينين بكحل اصفهان الى ما هنالك من فنون تلك الأيام في تجميل المرأة وإبراز محاسنها. وما ان تقترب الشمس من المغيب ويحين موعد عودتها للبيت حتى تنظر كل سيدة لنفسها في المرآة فترتاح لما تحلت به من حسن وانوثة، وهكذا كان يتسنى للمرأة أن تعيش أنوثتها وأن تتحسسها كامرأة جميلة محصنة مكرمة. رحم الله يوماً كانت فيه انسانة مرهفة مرفهة بعيدة عن ارتداء البنطلون وزئير الموسيقى المجنونة وهز الوسط في أماكن غلفها الظلام وضاقت بأنفاس المعربدين!..

سقوط الحضارة الغربية

ذكرنا في الكتاب ولواحقه كثيراً من أقوال المفكرين الغربيين، مما يدل على شعورهم بقرب سقوط حضارتهم. ونحيل القارئ الآن الى كتاب "سقوط الحضارة" للكاتب الانجليزي "كولن ولسن" صاحب كتاب اللامنتمي". ونحيل القارئ أيضاً الى كتاب "الساعة الخامسة والعشرون" تأليف "كونستنتان جيورجو" وهو يعلن في كتابه هذا قرب انتهاء الحضارة الغربية والأمل في نشوء حضارة روحية جديدة تنبعث من الشرق. وقد نشرت مجلة حضارة الاسلام في عددها الثاني للسنة الثالثة مقالة عن هذا الكتاب بقلم الاستاذ محمد سعيد رمضان البوطي يوضح فيها ملامح الافكار الرئيسية لهذا الكتاب القيم فنلفت اليه الأنظار.

المرأة الموظفة عندنا تتمنى العودة الى البيت

نشرت جريدة الأيام الدمشقية في عددها الصادر بتاريخ 15 من جمادى الآخرة 1382 الموافق 12 من تشرين الثاني 1962 في زاوية "ضيف المحرر" أسئلة متعددة وجهة الى السيدة "عفيفة شماس شمة" الموظفة حالياً في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، والتي عملت عشرين سنة في مدارس اعدادية خاصة في بيروت وحماة وبغداد، وكان من جملة الأسئلة والأجوبة ما يلي:

- هل تحبذين الوظيفة للمرأة؟ وما هي المشاكل والصعوبات التي تصادف المرأة المتزوجة؟

وهل أجمل من بيتك يا أختي المرأة. تلك المملكة الصغيرة، ذلك الينبوع المتدفق دوماً، عطفاً وحناناً وتضحية؟

ليت الظروف تسمح لي أن أترك الوظيفة، فأنا أعمل لأنني مسؤولة وحدي، وإذا عملت المرأة فأشرف ما تعمل من أجله خارج البيت، هو التعليم... أما الصعوبات التي تصادف المرأة المتزوجة فعديدة، منها: إهمال أولادها وزوجها، وبيتها تلك البقعة المقدسة التي لا تملك – حقاً – سوها.

- ما هي الصفات التي يجب أن تتوفر في المرأة المثالية؟

أن تبقى المرأة، موضوع وحي وإلهام لرفيقها الرجل، فتجعل حياته نغمة روحانية سامية، مهما كان اتجاهها المادي (كذا).

أن تربي أولادها تربية صالحة، وأن تتمسك بعاداتنا العربية الأصيلة، فتحافظ أولاً وآخراً على شرفها لتبقى في منزلتها التي خصها الله بها، وهيأتها لها الطبيعة لتتربع على عرش الأمومة، ذلك العرش الذي على المرأة وحدها أن تشيده وتثبت أركانه، لتؤدي لبلادها أجل الخدمات، تلك هي بنظري المرأة المثالية.

- هل توافقين على اشتغال المرأة في السياسة؟

إنني أرى بأن المرأة خلقت لا لتعمل في السياسة، بل لتصنع رجالاً يعملون في السياسة.

- ما هي مشاريعك للمستقبل؟

أن أعود الى مهنة التعليم لأخدم بلادي عن طريقها، ففيها التكوين والابداع والخلق.

أقول: هذا كلام المرأة العاقلة الحكيمة التي تجهر بالحق في قضية المرأة، برغم توظفها في إحدى مؤسسات الدولة، ولقد قالت ذلك بجرأة أدبية تشكر عليها... ودلت بنات جنسها على الطريق الصحيح الذي ينبغي عليهن سلوكه، ولو أن كل السيدات الفضيلات اللائي يرين مثل رأيها، يعربن بمثل ما أعربت به، لقامت في بلادنا حركة نسائية بناءة تخدم أمتنا أفضل خدمة، ولعل ذلك سيكون ان شاء الله. فلقد آن للجمعيات النسائية والقائمات على شؤونها – وهنّ من كرائم سيدات المجتمع – أن يعالجن مشكلات المرأة في بلادنا معالجة بعيدة عن العاطفة، مستفيدة من تجارب الحضارة الغربية، مستمدة أسس اصلاحها من تشريعنا العظيم وديننا الحكيم، وإنهن لفاعلات إن شاء الله...

وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

تنبيه: لم نر حاجة لاثبات المراجع في آخر الكتاب لأننا ذكرناها خلال الكتاب، أما المراجع فيما ذكرناه من قضايا الأحوال الشخصية، فقد ذكرناها في آخر الجزء الثالث من شرح قانون الأحوال الشخصية، فلمن شاء أن يرجع اليه.