المقاطعة الاقتصادية في ميزان الإسلام

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث


المقاطعة الاقتصادية في ميزان الإسلام

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

سلاح المقاطعة

فالمسلم مأمور بمجاهدة أعداء دينه ووطنه، بكل ما يستطيع من ألوان الجهاد ، الجهاد باليد، والجهاد باللسان، والجهاد بالقلب، والجهاد بالمقاطعة. كل ما يضعف العدو، ويخضد شوكته يجب على المسلم أن يفعله، كل إنسان بقدر استطاعته، وفي حدود إمكاناته، ولا يجوز لمسلم بحال أن يكون رداءً أو عونًا لعدو دينه وعدو بلاده، سواء كان هذا العدو يهوديًا أم وثنيًا أو غير ذلك.

فالمسلم يقف ضد أعدائه الذين يريدون أن ينتقصوا حقوقه، وينتهكوا حرماته بكل ما يستطيع، وكل مَن والَى أعداء الله وأعداء الدين وأعداء الوطن فهو منهم، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ (المائدة:51) أي من كان مواليًا لهم بقلبه أو بلسانه أو بمعاملته أو بماله، أو بأي طريقة من الطرق أو أسلوب من الأساليب فهو منهم، ويصبح في زمرتهم، وهذا ما حذّر القرآن منه في أكثر من سورة، وفي أكثر من آية، جعل الذين يتولون الكفار جزءًا منهم وبعضًا منهم: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (الأنفال:73).

ولابد في الحديث عن أي أمر من تحديد المصطلحات وتحريرها حتى ننطلق من خلال هذا التحديد انطلاقًا صحيحًا، فما بُني على الصواب فهو صواب، وما نحن بصدده لا يحتاج إلى كبير عناء في تعريفه وتحريره.

تعريف المقاطعة لغةً واصطلاحًا

كلمة المقاطعة أو التَّقَاطُعُ في المعاجم القديمة تدور حول: الإبانة والهجران وعدم التواصل. (مختار الصحاح: 226. لسان العرب: 8/276. وأساس البلاغة للزمخشري: 2/262-263).

والمقاطعة بالمعنى المعاصر- كما سبق- لم ترد في المعاجم القديمة تفصيلاً؛ ولهذا جاء في المعجم الوسيط: "قاطع فلانًا: هجره. وـ القومَ: امتنع عن التعاون معهم. وـ حرَّم الاتصال بهم اقتصاديًا أو اجتماعيًا وفق نظام جماعي مرسوم، ويقال: قاطع بضائعهم ومنتجاتهم. (محدثة). (انظر: المحجم الوسيط: 2/774).

والاصطلاح الشرعي لا يُخرج الكلمة عن هذه المعاني اللغوية؛ إذ هي- شرعًا- إبانةً أي صلة بين المسلمين عدوهم، وعدم التعاون معهم- بصورة جماعية- في أي مجال من المجالات؛ بغية زجرهم وردعهم عمَّا يقومون به من إجرام.

مشروعية المقاطعة في الشريعة والقانون

والمقاطعة- باعتبارها وسيلة من وسائل الجهاد- أمر مشروع في الإسلام يستمد مشروعيته من مشروعية الجهاد في الإسلام ، فضلاً عن أن للمقاطعة بالذات ما يؤيدها من الأدلة في سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- العملية، فقد خرج يوم بدر يبغي ضرب قريش في فقار اقتصادها، وهو السلاح الذي استخدمته مكة ضد المسلمين حين حاصروهم اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا في شِعب أبي طالب، فالمشركون حينما أرادوا في مكة أن يحاربوا النبي- صلى الله عليه وسلم- أول ما حاربوه، لم تكن حرب السلاح، وإنما كانت حربًا اقتصادية بالمقاطعة قاطعوه وأصحابه، وأهله ممن انتصروا من بني المطلب وبني هاشم، حاصروهم وقاطعوهم ولم يبيعوا لهم ولم يشتروا منهم ولم يزوجوهم، ولم يتزوجوا منهم، وذلك معناه: الحرب الاقتصادية، وهؤلاء مشركون، فالمسلمون أولى بأن يعرفوا ذلك وأن يقاطعوا كل عدو لله، وكل عدو للمسلمين.

ومن أدلة الأصول عندنا المصلحة المرسلة، فالهدف هو ردع وزجر العدو عما يرتكبه من جرائم بشعة في حق المسلمين، وأي وسيلة مشروعة تحقق هذه الغاية فهي من باب المصلحة المرسلة التي تقوم على درء المفسدة وجلب المصلحة.

والمقاطعة أمر مشروع دوليًّا، فقد أنشأت جامعة الدول العربية جهاز المقاطعة الاقتصادية للكيان الصهيوني في عام 1951 م وهو الجهاز العربي الذي عمل بكفاءة وفاعلية منذ بدايته، وقد بدأ تاريخ المقاطعة العربية للكيان الصهيوني رسميًّا عام 1945 م عندما اتخذت جامعة الدول العربية قرارات وتوصيات بضرورة المقاطعة الاقتصادية للكيان الصهيوني.

كما نص ميثاق الأمم المتحدة في المادة رقم 51 على الآتي:

"ليس في هذا الميثاق ما يُضعف أو يُنقص من الحق الطبيعي للدول- فرادى وجماعات- في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة".

وأشار الميثاق إلى حق الدول في وقف المواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية ووقف كل العلاقات الاقتصادية.. وهو ما يؤكد أن المقاطعة العربية ضد الكيان الصهيوني أمر مشروع في السياسة الدولية.

آراء العلماء في المقاطعة

اتفق الفقهاء المعاصرون على وجوب الأخذ بسلاح المقتطعة باعتبارها وسيلة من وسائل الجهاد والمقاومة، لكنهم اختلفوا في كيفية هذه المقاطعة والصورة التي ينبغي أن تكون عليها.

فذهب فريق إلى تأييدها بإطلاق وبأي صورة سواء كان أثرها صغيرًا أو كبيرًا؛ لما لها من عوائد نفسية وتربوية على الأفراد والشعوب، فضلاً عن العوائد المادية، وذهب الفريق الآخر إلى تقييد المقاطعة بالدول والحكومات لتكون فعالة، أو وقفها على عدم حدوث ضرر للمسلمين بسببها، وإليك التفصيل:

الفريق الأول

يتصدر الفريق الأول الشيخ "يوسف القرضاوي"، والشيخ "فيصل مولوي"، والدكتور "حسين شحاتة". يقول فضيلة الشيخ الدكتور "يوسف القرضاوي":

فمما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أن الجهاد لتحرير أرض الإسلام ممن يغزوها ويحتلها من أعداء الإسلام واجب محتم وفريضة مقدسة، على أهل البلاد المغزوة أولاً، ثم على المسلمين من حولهم إذا عجزوا عن مقاومتهم، حتى يشمل المسلمين كافةً.

فكيف إذا كانت هذه الأرض الإسلامية المغزوة هي القبلة الأولى للمسلمين، وأرض الإسراء والمعراج، وبلد المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله؟ وكيف إذا كان غزاتها هم أشد الناس عداوةً للذين آمنوا؟! وكيف إذا كانت تُساندها أقوى دول الأرض اليوم، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، كما يساندها اليهود في أنحاء العالم؟! هذا الجهاد هو فريضة الفرائض، وأول الواجبات على الأمة المسلمة في المشرق والمغرب، فأمريكا اليوم هي "إسرائيل" الثانية، ولولا التأييد المطلق، والانحياز الكامل للكيان الصهيوني الغاصب ما استمرت "إسرائيل" تمارس عدوانها على أهل المنطقة، ولكنها تصول وتعربد ما شاءت بالمال الأمريكي، والسلاح الأمريكي، والفيتو الأمريكي.

وأمريكا تفعل ذلك منذ عقود من السنين، ولم ترَ أيَّ أثر لموقفها هذا، ولا أي عقوبة من العالم الإسلامي. وقد آن الأوان لأمتنا الإسلامية أن تقول: لا لأمريكا. ولبضائعها التي غزت أسواقنا، حتى أصبحنا نأكل ونشرب ونلبس ونركب مما تصنع أمريكا.

إن الأمة الإسلامية التي تبلغ اليوم مليارًا وثلث المليار من المسلمين في أنحاء العالم يستطيعون أن يوجعوا أمريكا وشركائها بمقاطعتها. وهذا ما يفرضه عليهم دينهم وشرع ربهم، فكل من اشترى البضائع الصهيونية والأمريكية من المسلمين، فقد ارتكب حرامًا، واقترف إثمًا مبينًا، وباء بالوزر عند الله، والخزي عند الناس.

إن المقاطعة سلاح فعال من أسلحة الحرب قديمًا وحديثًا، وقد استخدمه المشركون في محاربة النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فآذاهم إيذاءً بليغًا.. وهو سلاح في أيدي الشعوب والجماهير وحدها، لا تستطيع الحكومات أن تفرض على الناس أن يشتروا بضاعةً من مصدر معين. فلنستخدم هذا السلاح لمقاومة أعداء ديننا وأمتنا، حتى يشعروا بأننا أحياء، وأن هذه الأمة لم تمت، ولن تموت بإذن الله.

على أن في المقاطعة معاني أخرى غير المعنى الاقتصادي: أنها تربية للأمة من جديد على التحرر من العبودية لأدوات الآخرين الذين علموها الإدمان لأشياء لا تنفعها، بل كثيرًا ما تضرها… وهي إعلان عن أخوة الإسلام، ووحدة أمته، وأننا لن نخون إخواننا الذين يقدمون الضحايا كل يوم، بالإسهام في إرباح أعدائهم. وهي لون من المقاومة السلبية، يضاف إلى رصيد المقاومة الإيجابية، التي يقوم بها الإخوة في أرض النبوات، أرض الرباط والجهاد.

وإذا كان كل يهودي يعتبر نفسه مجندًا لنصرة الكيان الصهيوني بكل ما يقدر عليه، فإن كل مسلم في أنحاء الأرض مجند لتحرير الأقصى ، ومساعدة أهله بكل ما يمكنه من نفس ومال. وأدناه مقاطعة بضائع الأعداء. وقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ (الأنفال:73).

ويقول الشيخ "فيصل مولوي":

إنّ مقاطعة البضائع الأمريكية تحتاج إلى دراسة تفصيلية من أهل الاختصاص حتىّ تحقّق الغاية منها. وممّا لا شكّ فيه أنّ مقاطعة البضائع المصنوعة في أمريكا كالسيارات والآلات وغيرها أهمّ بكثير من مقاطعة البضائع المصنوعة في بلادنا برخصة أمريكية، لأنّ الأرباح المتحصّلة للاقتصاد الأمريكي في النوع الأول أكبر منها في النوع الثاني.

ولا يُقال أيّهما أولى بالمقاطعة؟ بضائع منتجة بالكامل في دولة غير مسلمة كفرنسا أو ألمانيا أو غيرها، أو بضائع منتجة في بلاد عربية أو إسلامية برخصة أمريكية، لأنّ الأصل الإباحة لجميع أنواع البضائع الأجنبية، وفتوى مقاطعة البضائع الأمريكية بُنيت على أمر عارض وهو المساعدة الهائلة من الولايات المتحدة للكيان الصهيوني، فأيّ دولة تقدّم مثل هذه المساعدة، فإنّ الواجب الشرعي يقتضينا مقاطعة بضائعها، فالأولوية لا تكون بين حرام ومباح، وإنّما هي بين حرام أشدّ وحرام أخفّ، فيمكننا أن نقول مثلاً: إنّ شراء البضائع المصنوعة في الولايات المتحدة أشدّ حرمة من البضائع المصنوعة في بلاد أجنبية برخصة أمريكية، وهذه أشدّ حرمة من نفس البضائع المصنوعة في بلاد إسلامية برخصة أمريكية لأنّ استفادة الاقتصاد الأمريكي من النوع الأول أكبر من استفادته من النوع الثاني، وهذه أكبر من النوع الثالث، وبالتالي فإنّ استفادة العدوّ الصهيوني من شرائنا البضائع الأمريكية ناتجة عن مدى استفادة الاقتصاد الأمريكي من هذه البضائع، وهذا أمر يحتاج إلى دراسة علمية من قِبل أهل الاختصاص وليس هناك أيّ مبرّر للموازنة بين البضائع الأمريكية – بكلّ أنواعها – إذ يحرم التعامل بها بناءً على هذه الفتوى، وبين البضائع الأخرى سواء كانت فرنسية أو ألمانية أو يابانية أو غيرها لأنّ التعامل بها يبقى على أصل الإباحة، إلاّ إذا تبيّن أنّ هذه الدول تقدّم أيضًا مساعدات للعدوّ الصهيوني، فينتقل أمر بضائعها من الإباحة إلى التحريم، وعند ذلك يُبحث في مدى شدّة هذا التحريم في ضوء مدى استفادة العدوّ من مساعدات هذه الدولة أو تلك.

ويقول الأستاذ الدكتور "حسين شحاتة" أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر:

المقاطعة الاقتصادية للبضائع الأمريكية والصهيونية واجبة على الجميع؛ لأنها من الجهاد بالمال، فهي مسؤولية الفرد، ومسؤولية الشعوب، ومسؤولية الحكومة، ومسؤولية الأمة الإسلامية، وهي فرض عين على كل مسلم ومسلمة، فإذا تخاذلت الحكومات العربية والإسلامية في المقاطعة، فلا يجوز للشعوب أن تتهاون فيها، فلهذه المقاطعة جدواها في تكبيد العدو خسائر مادية جسيمة، ولنهضة الاقتصاد الوطني ولو على المدى البعيد، و لا يُنظر إليها بما تحققه من خسائر مادية للعدو، ولكن يُنظر إليها على أنها موقف مع النفس، وموقف مع الله، وموقف لمؤازرة إخواننا، فقيمتها المعنوية لا تُقوّم بمال.

الفريق الثاني

ويضع الفريق الثاني ضوابط وشروطًا للقول بالمقاطعة حتى تكون فعالة، وإلا فلا قيمة لها ولا داعي للقول بها، مثل أن تقوم بها الدول والحكومات، وألا تعود بضرر على المسلمين، وغير ذلك، وممن يتقدم هذا الرأي دكتور "علي جمعة" أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر، والسيد "محمد حسين فضل الله" من فقهاء الشيعة.

يقول فضيلة الشيخ الدكتور "علي جمعة":

المقاطعة لا تُؤثر إلا إذا كانت من قِبَل الدول؛ حيث تضع قائمة بالشركات المتعاونة، وتمنع التعامل معها، فتمثل ضغطًا واقعيًا على هذه الشركات، أما البضاعة التي اشتراها المسلمون بأموالهم ودخلت بلادهم وأصبحت في ملكهم، فإن مقاطعتها يضر المسلمين، ولا يضر غيرهم، وإن كان في تلك المقاطعة إظهار لكراهية الظلم والظالمين، وإعلان للاستعداد للمفاصلة وعدم التعاون، ولكنها لا تؤثر بصورة مباشرة مع هؤلاء. فينبغي المناداة بعودة المقاطعة من الدول عن طريق الجامعة العربية، أو عن طريق منظمة المؤتمر الإسلامي، ونحوها من المنظمات الدولية الإسلامية.

وبالنسبة لوضع أموال المسلمين في بنوك الغرب وعدم استثمارها في بلاد المسلمين، فهي بلية عظيمة ومصيبة كبيرة، ينبغي على المسلمين أن يتدبروا أمرهم فيها، وأن يعودوا إلى الله، وأن يعلنوا توبتهم من هذا الخذلان الذي أصابهم، ومكَّن عدوهم منهم، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ويُنصح بعدم السياحة إلى بلاد مَنْ أعلن الحرب على المسلمين، وعدم الذهاب لشراء بضائعهم وتقوية اقتصادهم.

ويقول السيد "محمد حسين فضل الله":

علينا أن نقاطع البضائع الأمريكية بما لا يؤدي إلى ضرر المسلمين وذلك باستبدالها ببضائع وطنية أو أوروبية أو آسيوية أو ما إلى ذلك من الدول التي لا تتخذ الموقف العدواني ضد أهلنا في فلسطين وضد العالم الإسلامي، أما إذا كانت هناك بضائع لا بديل لها بحيث يتضرر العالم الإسلامي من مقاطعتها فإن الفتوى بوجوب المقاطعة لا تشملها.

إننا ندعو إلى المقاطعة من حيث المبدأ ولا بد من دراسة التفاصيل من خلال دراسة المصلحة الإسلامية العُليا للعالم الإسلامي كله؛ لأننا نلاحظ أننا لا نزال شعوبًا مستهلكة، فلذلك لابد لنا من دراسة الأمور بحسب مصالحنا ومواقفنا في إيجاد حالة من التوازن بين الموقف المعارض للسياسة الأمريكية وبين المصالح الإسلامية.

إذا أردنا مقاطعة موجعة ورادعة

وجمعًا بين الرأيين يمكننا أن نقول: إنه من الضروري أن تقوم الدول بهذه المقاطعة تجاه أعدائها، وهذا لا يعفي الأفراد والشعوب من القيام بدورهم، لما لذلك من آثار معنوية وتربوية للأفراد والشعوب والحكومات معا؛ فضلاً عن الآثار المادية والله تعالى لا يكلف نفسا إلا ما آتاها، والمسلم مطالب أن يعذر إلى الله- عز وجل-: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ (التغابن:16).

وإذا أردنا مقاطعةً مؤثرةً وموجعةً لا بدَّ من معرفة أبعاد متنوعة ومتشابكة تحتاج الكثير من المتخصصين في مجالات مختلفة يقولون كلمتهم، كلٌّ في مجاله، ثُمَّ يأتي بعد ذلك دور الفقيه الذي ينزِّل الحكم الشرعي على أساس ما توافر عنده من علم بالواقع من خلال أهل الذكر.

والذي يظهر في بلاد العرب هي المقاطعة الاقتصادية لأمريكا وإسرائيل، وهنا نثير سلسلة من التساؤلات الغائبة البالغة الأهمية: هل أحطنا خُبْرًا بحجم الاقتصاد الصهيوني حتى نُدرك مدى الزجر الذي سنحققه؟ هل أدركنا حجم الاقتصاد الأمريكي، ما دامت العلة في هذه الفتوى تقوم على تحقيق الزجر وإلحاق الردع؟ هل علمنا حجم الخسائر التي ستحققها المقاطعة؟ وماذا تساوي هذه الخسائر إذا قورنت بالاقتصاد الصهيوني فضلاً عن الاقتصاد الأمريكي؟ بل ماذا يساوي الاقتصاد العربي مجتمعًا في ركاب الاقتصاد الأمريكي؟ هل المقاطعة الاقتصادية تنحصر في "إريال" و"الكولا" و"المطاعم الأمريكية"، أم أنها تتعدى إلى مستوى اقتصادي شامل وأعلى مثل شراء السيارات والطائرات وغيرها؟ وهل هذه الشركات والهيئات ملك خالص لأمريكا أم أن لها شركاء آخرين من العرب وغير العرب؟ وهل أسواق الاقتصاد الصهيوني والأمريكي قاصرة على بلاد العرب وحسب لا سيما في ظل عولمة الاقتصاد؟ أم أن لها أسواقًا أخرى واقتصادًا آخر في بلاد مختلفة؟ وهل هناك انفتاح اقتصادي للدول العربية على العالم، وتزايد درجة اندماجها في الاقتصاد العالمي، وهو ما يعني أن تأثر المصالح العربية بتنشيط المقاطعة الاقتصادية للكيان الصهيوني وللشركات التي تتعامل معها سيكون أكثر اتساعًا، مما كانت عليه في الماضي؟ وهل المقاطعة يوم أو يومان ثم نرجع إلى ما قاطعناه بمجرد هدوء مشاعرنا؟ وهل المقاطعة تكون شعوبًا وحكومات أم شعوبًا فقط وتقوم الحكومات بمعارضة مَنْ يدعو إلى المقاطعة، فتهدم ما تبنيه الشعوب؟

ولك أن تتخيل هذا التشابك والتنوع في فقه الواقع الذي يجب أن يُعلم تمام العلم حتى لا نَهْرِفْ بمالا نَعْرِفْ، مع ملاحظة أن كل هذه التساؤلات وغيرها في جانب واحد فقط هو جانب الاقتصاد، والذي حجمناه بدوره في دائرة الـ"إريال" و"الكولا" و"المطاعم الأمريكية".

وهل يكفي في المقاطعة الجانب الاقتصادي وحده؟ هذا أيضًا يحتاج إلى تساؤلات ودراسات عميقة وشاملة لأوضاع من نريد مقاطعتهم، وإذا ثبت فشل الجانب الاقتصادي في المقاطعة، فإن أي جانب آخر يحتاج إلى تساؤلات لا تقل عن التساؤلات السابقة إن لم تزد.

وإذا فشل جانب أو جانبان أو أكثر في تحقيق الردع والزجر للعدو، فهل المقاطعة في كل الجوانب تحقق ما نريد؟ وهل نحن قادرون على ذلك؟. المقاطعة ليست بالسهولة التي يتخيلها البسطاء من الناس، لا سيما في هذا العصر الذي يتميز بتشابك العلاقات والاقتصاد والمعاملات المختلفة، والرسول- صلى الله عليه وسلم- والمسلمون لم يكن لهم مورد آخر غير مكة حين حُوصروا في شعب أبي طالب، ولذلك حققت قريش درجةً عاليةً من الردع والتجويع في المسلمين، وكذلك في غزوة بدر، كان اقتصاد قريش يتمثل فوق هذه العير التي عادت من الشام إلى مكة؛ ولهذا صاح صائحهم في مكة بعد أن ذبح ناقته ليحقق الانتباه والترويع: "أدركوا أموالكم وعيركم فإن محمدًا تعرض لها وأصحابه"، فهل أمريكا وإسرائيل تنحصر أموالهما و"عِيرُهما" في بلاد العرب وحسب؟؟.

ومن الأمور البالغة الأهمية - كما أشار الدكتور "علي جمعة"- أموال البنوك العربية والإسلامية، وكذلك أموال رجال الأعمال الأثرياء التي تقدر بمئات المليارات، والتي تصدر إلى بلاد الغرب لاستثمارها هناك وحرمان بلاد العرب والمسلمين منها، هذه الأموال التي تقوي ظهر الغرب لماذا لا تستثمر بشكل أو بآخر في بلادنا؟ إن هذا الشكل من المقاطعة لهو أهم الأشكال على الإطلاق، بالإضافة إلى ما تستورده الحكومات من طائرات وأسلحة وسيارات وغير ذلك.

كل ذلك يحتاج إلى المتخصصين والخبراء لا سيما في المجال الاقتصادي الذي تنحصر مقاطعتنا فيه، وذلك إذا أردنا للمقاطعة أن تكون سلاحًا رادعًا يحقق ما لا تحققه الطائرات والصواريخ، وقد قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43).

المصدر: إخوان أون لاين