الموازنات بين المصالح والمفاسد

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
الموازنات بين المصالح والمفاسد


مقدمة

Ikhwan-logo1.jpg

لا نلوم أحدا استهان بنا كمسلمين أو ساء ظنه فينا لأننا لم نستطع استبانة الطريق الصحيح، أو اكتشاف الوسائل الفاعلة لنهضتنا وتقدمنا، ولقد نهض كثيرون لمعالجة انحدار الأمة وضياعها وإزالة العوائق التي تمنع تقدمها، فكان منهم البصير، ومنهم الأعور، ومنهم الأعمى الذي ضل الطريق وتنكب الهداية، وظن أنه يحسن صنعا، ولقد عانى الإسلام من الصنفين الأخيرين أشد مما عانى من أعدائه لسببين اثنين:

أ - لتصور مشوش يخلط بين الأصول والفروع، وبين التعاليم المعصومة والتطبيقات التي تحتمل الخطأ والصواب، وقد يتبنى أحكاما وهمية ويدافع عنها دفاعه عن الوحي ذاته.

2 - لعجز في العلم والفهم والعمل، وقصور في الوسائل والأساليب والعزائم، فقد رأينا جماعات تقف بعيدا دون عمل، تنتظر أن ينزل الله بأعدائهم الويل والثبور، وعظائم الأمور، وهي في ميدان العلم ضحلة التفكير، وفي ميدان الدعوة بطالة مقنعة، والمسلم سواء ملك سلطة رسمية أم لم يملك، إنسان ناشط دؤوب لا ينقطع له عمل في الشارع، أو البيت، أو المسجد، أو المصنع، أو الدكان، أو المكتب، أو المدرسة، باللسان والقلم والإذاعة والتلفاز، بالجريدة أو الكتاب، وليس العمل المطلوب مضغ كلمات فارغة، أو مجادلات فقهية، أو خصومات تاريخية، ولكن العمل المطلوب أسمى من ذلك وأجدى وهو أن نكمل نقصنا، ونجبر كسرنا في ميادين كثيرة، حضارية، وعلمية، وصناعية، وثقافية هزمنا فيها هزائم منكرة.

والجهاد المطلوب اليوم هو كدح مضن في ميادين وعرة، ودروب شاقة، في أمة مهددة فعلا بالضياع، أمة لا تستطيع إنتاج طعامها، أو صنع ملابسها، أو سلاحها، وتعرف أن الرغيف الذي تأكل، والثوب الذي تلبس، والسيارة التي تركب، والمرافق التي تستخدم، والكهرباء التي تضيء، والكتاب الذي تكتب، والمطبعة التي تطبع.. كلها في يد المستعمر الماهر، فهل اشتبك دعاة الإسلام مع هذا التخلف، وعالجوا كوامن العلة، وبذروا بذور الإسلام الحق، وجاهدوا في ميادينه الفسيحة الفاعلة المنتجة؟ ! أم اشتبكوا مع الناس في جدال عقيم، ومراء رجيم، يحلون فيه صغائر الأمور ويحرمون ؟ -

أصحيح أن الأكل على المائدة حرام ؟ ويجب أن نأكل على الأرض إقامة للسنة؟ قلت: إن الله أنزل مائدة على أصحاب عيسى، وما أظنه حظر على أصحاب محمد أن يأكلوا على مثلها.

-أصحيح أن ارتداء البدلة الإفرنجية ممنوعة لأنها تشبه بالكفار يلحقنا بهم ؟ قلت: التشبه المنكور يكون في العقائد والخلال، لا في الملابس والنعال.

ثم يقولون: يجب الاعتناء بالمخبر لا بالمظهر.

وهكذا تدور خلافات عقيمة حولت الأمة إلي قطاعات متناحرة، وحدث أن خطيبا على مغبره قال لرجل دخل ليصلي الجمعة، قم فصل تحية المسجد! فقال الرجل: أنا مالكي تبطل عندنا هذه الصلاة! فقال الخطيب المفهوه: أتترك محمدا وتتبع مالكا؟ وكانت فتنة مائجة قرت لها أعين أعداء الدين.

والحقيقة أن أئمة الفقه لا يقدمون بين يدي الله ورسوله، والاختلاف يكون في تفسير ما ورد أو في قيمة ثبوته، وما يفكر أحدهم أبدا في مخالفة رسول الله (صلي الله علية وسلم ).

ولكن جهل الخطيب وتعصبه وعدم فهمه للواقع، جعلها فتنة تشغل المسلمين عن عظائم الأمور، هذا في وسط العامة، أما ما بين العامة وسلطاتهم، وما بين المسلمين المخلصين وحكامهم، فشيء مهول، ومفجع ودموي، قد تعطل له القوانين، وتحكم الأمة بالطوارئ، وتمتلئ السجون لأوهن الأسباب، ولا يلتفت مسؤول إلي مصالح الأمة، وعلى العكس من ذلك ما حدث في أمريكا من بضع سنين، حيث أعلنت حالة الطوارئ في الولايات المتحدة، وسيطر ا لانتباه على أعصاب الناس وأفكارهم ! ماذا حدث ؟ أ إنذار بهجوم ذري ؟ أم إعصار بحري من تلك الأعاصير التي تخلف وراءها الدمار؟ لا هذا ولا ذاك. الذي حدث أن أولي الأمر كانوا مسترسلين في الإيمان بعظمة أمريكا وسبقها البعيد، ثم اكتشفوا بغتة أن الاتحاد السوفييتي قد سبقهم، وخلفهم وراءه في ميادين علمية كثيرة!.

وصدر الأمر بإنعام النظر في برامج التعليم كلها، ومراجعة كل شيء من المرحلة الأولي إلي درجا ت التخصص، وانشغلت الحكومة والشعب بهذه الكارثة، وضرورة السعي الحثيث لطي مسافة التخلف وإعادة التفوق القديم. ولم يمكث القوم غير بعيد حتى حققوا ما أرادوا، وهم الآن في إتمام تجاربهم لما يسمي بحرب الكواكب، سيقول الناس: عبقرية علمية جديرة بالإعجاب، وهذا صحيح ! والأجدر بالإعجاب عندي هو الشعور بحدة المنافسة ووجوب السبق.

إذا كانت القدرة العلمية تستدعي الثناء، فإن الأحوال النفسية المصاحبة من اعتراف بالقصور وشحذ للهمة واعتداد بالنفس وحرص على النجاح كل ذلك لا يجوز إهماله !


دعاة النهضات

إن الإنسان الذي يدعو إلي نهضة وإلي قيام منهج وإصلاح أمة يجب أن يكون ذا عقل وبصيرة، وذا علم محيط بالمنهج وبنيرات أمته وقواعد الاجتهاد وأقوال الأئمة العظام، ثم يكون على دراية بأمراض أمته وعللها وأدوائها، وعلى علم مكين بأحوال زمانه وعصره وما يدور من حوله، من معرفة بالعدو والصديق وبمداخل الأمور ومخارجها، حالها ومالها، كبيرها وصغيرها، مصالحها ومفاسدها، كما ينبغي له أن يكون على دراية كاملة بالأساليب والوسائل، بأفضلها وأجداها، وأنفعها وأقواها بما يقدم أو يؤخر، وبما يكون سريا أو علنيا، وعلى معرفة وإدراك بالمراحل والمواقع، وبما ينبغي معه التدرج، وبما يكون فيه الحسم، وبما يقوم به الفرد وبما تؤديه الجماعة، وبما يلزمه العدة والتخطيط المرحلي أو الأساسي، والقريب والبعيد، مع دراسة للأهداف والمواقع وقياسات للأفعال وردودها، والأعمال ونتائجها، نجاحا وفشلا، صعودا وهبوطا، وكل ذلك يلزمه بصيرة وعبقرية لا تتوافر إلا في المبدعين المخلصين العالمين.. كما يحتاج إلي عقل لامع مدرك فاقه متقد، وإلي عزم لا يكل ولا يفل، والي أعوان وأنصار وجمهور يكافح به ويسانده، ويعمل معه، وإذا لم يوجد كان عليه أن يوجده، وإذا لم يكن فاعلا كان عليه أن يفعله، وإذا كان متفرقا كان عليه أن يوحده.

هذا ما كان عليه المصلحون والأنبياء والمرسلون، كانوا أصحاب حجج ومنطق وبيان وعزيمة وصبر وجلد، وكفاح وجهاد مع اتباع للأسباب، وتقدير للأحوال، وإعداد لكل أمر، وصدق الله: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " (الأنفال: 60)، " ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة " (التوبة: 46 )، نظر ثاقب، وفكر لامع، وعزم متقد، ومعرفة ودراية بالمآلات والأحوال، وإدراك بالطبائع والعقول، والعادت والأمراض: "والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضيف ".


أقوال العلماء

قال الإمام الشاطبي - رحمه الله - في الموافقات: (النظر في مآلات الأفعال مقصود شرعا سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة للشرع، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلي ما يؤول إلي ذلك الفعل، فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو مفسدة تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدي استجلاب المصلحة أو درء المفسدة به، إلي مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدي استدفاع المفسدة واستجلاب المصلحة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول على ذلك بعدم المشروعية). ثم قال - رحمه الله -: (وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق، محمود العواقب، جار على مقاصد الشريعة). ولهذا يجب أن يكون الأمر بالمعروف ذا بصيرة في أمور الدين والدنيا، عالما بأحوال الناس وطباعهم، وأحوال الأم والشعوب، ومداخل ا لأمر ومخارجه، ذا فقه وفهم بأمور السياسة الداخلية والخارجية حتى يستطيع أن يعرف ما يفسد وما يصلح، وما يكون فيه كل الخير، وما يكون فيه بعضه، وما يؤدي إلى فتنة، وما يؤدي إلى صلاح.

ولهدا يقول الإمام ابن تيمية -رحمه الله -في هذا الأمر: (ذلك ثابت في العقل، كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، وينشد:

إن اللبيب إذا بدى من جسمه مرضان مختلفان داوي الأخطر وهذا ثابت في سائر الأمور، فإن الطبيب مثلا يحتاج إلى تقوية القوة ودفع المرض، والفساد أداة تزيدهما معا، فإنه يرجح عند وفور القوة تركه إضعافاً للمرض، وعند ضعف القوة فعله، لأن منفعة إبقاء القوة والمرض أولي من إذهابهما جميعا، فإن ذهاب القوة مستلزمة للهلاك، ولهذا استقر في عقول الناس أنه عند الجدب يكون نزول

المطر لهم رحمة، و إن كان يتوفى بما ينبته أقوام على ظلمهم، لكن عدمه أشد ضررا عليهم، ويرجحون وجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان، كما قال بعض العقلاء: ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان.

ثم السلطان يؤاخذ على ما يفعله من العدوان ويفرط فيه من الحقوق مع التمكن، لكن أقول هنا: إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض فروعه كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك، إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته، ولكنه يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصدا وقدرة: جازت له الولاية، وربما وجبت، وذلك لأن الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها، من جهاد العدو، وقسم الفيء، و إقامة الحدود، وأحمت السبيل: ى ن فعلها واجبا، فإذا كان ذلك مستلزما لقولة بعض من لا يستحق، وأخذ بعض ما لا يحل، و إعطاء بعض من لا ينبغي، ولا يمكنه ترك ذلك: صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به، فيكون واجبا أو مستحبا إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب، بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم، ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك خفيف الظلم فيها، ودفع أكثره باحتمال أيسره: كان ذلك حسنا مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيدا.

وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد، فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه ما الا، فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الحلم، وأخذ منه وأعطي الظالم مع اختياره ألا يظلم، ودفعه ذلك لو أمكن: كان محسنا، ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئا.

وإنما الغالب في هذه الأشياء فساد النية والعمل، وأما النية فبقصده السلطان والمال، وأما العمل فبفعل المحرمات، ويترك الواجبات، لا لأجل التعارض و لا لقصد الأنفع و الأصلح. ففقه الموازنات بين المنافع والمضار ليس هو المطلوب فقط، وإنما فقه أكثر المنافع، وأكثر المضار، والتمييز بينهما، وفعل الأصلح منها للمسلمين أو الأخف ضررا عليهم بقدر ا لاستطاعة، ولو كان في ذلك تفويت بعض المصالح، إذن فلابد من ملاحظة المآل في الجملة، وقد كان هذا هو فعل رسول الله !و حين أشير عليه بر! بقتل من ظهر نفاقه، فقال: "أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه". فموجب القتل حاصل، وهو الكفر بعد النطق بالشهادتين، والسعي في إفساد حال المسلمين كافة بما كان يصنع المنافقون، بل كانوا أضر على الإسلام من المشركين، فقتلهم درءا لمفسدة حياتهم، ولكن المآل الآخر- وهو هذه التهمة التي تبعد الطمأنينة عن مريدي الإسلام -أشد ضررا على الإسلام من بقائهم.

وعلى هذا قول الرسول (صلي الله علية وسلم ) لعائشة: "لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم".

وبمقتضى هذا أفتي مالك الأمير حين أراد رد البيت على قواعد إبراهيم، فقال له: "لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله "، فالأصل في إقامة البيت على قواعد إبراهيم، ولكن الامتناع مع كون الرد مصلحة، خشية المفسدة، ولا يخفي أن المصلحة المتروكة فيهما محققة، والمفسدة المتروكة من أجلها مظنونة ومع ذلك رجحت.

وعلى هذا فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أكدهما، لم يكن الأخر في هذه الحال واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة.

وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة، وإن سمي ذلك ترك واجب، وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في هذا مثل ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة، أو للضرورة، أو لدفع ما هو أشد حرمة، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها: إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء.

هذا.. وقد قال النبي (صلي الله علية وسلم ): "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إن ذكرها، فإن ذلك وقتها، ولا كفارة لها إلا ذلك".

وهذا باب التعارض باب واسع جدا، لاسيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب، وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلن السيئات فيرجحون الجانب ا لآخر، وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون ا لأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات، لكن الأهواء قد قارنت الآراء، ولهذا جاء في الحديث: "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات ".

فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها -كما بينته فيما تقدم -: العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء، لا التحليل والإسقاط، مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلا لمعصية أكبر منها، فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية، مثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركا لمعروف هو أعظم منفعة من تلك المنكرات، فيسكت عن النهي خوفا من أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك المنكر.

فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهي، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن ا لأمر أو النهي أو الإباحة، كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح - كما تقدم – فبحسب الإمكان، فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: إما لجهله، وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء، حتى علا الإسلام وظهر. فالعالم في البيان والبلاغ، كذلك قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله (صلي الله علية وسلم ) تسليما إلي بيانها.


إحياء فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد

وذلك لكي يدرك القائمون على أمر هذه الدعوة الإسلامية وكافة من انتسب إليها من القادة وصناع القرار، أو من العامة أن الشريعة قد جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وتبعد شر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين، باحتمال أدناهما، وأنه إذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تاركا لواجب في الحقيقة، وإذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما على الحقيقة، وإن كانت المنازعة في مجرد التسمية فهو خلاف يسير لا يضر ولكن المقصود هو نفي الإثم عن هذا وذاك.

وقد فصل الإمام عز الدين بن عبدالسلام "فيما تعرف به المصالح والمفاسد وفي تفاوتهما"، وما أبلغ ما قاله في كتابه الفريد: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام ": " ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل، وذلك معظم الشرائع، إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس إنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن.

واتفق الحكماء على ذلك، وكذلك الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال.

وإن اختلف في بعض ذلك فالغالب أن ذلك لأجل الاختلاف في التساوي والرجحان، فيتخير العباد عند التساوي ويتوقفون إذا تحيروا في التفاوت والتساوي. وكذلك الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما، ويجلبون أعلى السلامتين والصحتين ولا يبالون بفوات أدناهما، ويتوقفون عند الحيرة في التساوي والتفاوت، فإن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك، ولجلب ما أمكن جلبه من ذلك، فإن تعذر درء الجميع أو جلب الجميع، فإن تساوت الرتب تخير، وإن تفاوتت استعمل الترجيح عند عرفانه، والتوقف عند الجهل به، والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب، فإن كل واحد منهما موضوع لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم.

وكما لا يحل الإقدام للتوقف في الرجحان في المصالح الدينية حتى يظهر له الراجح، فكذلك لا يحل للطبيب الإقدام مع التوقف في الرجحان إلى أن يظهر له الراجح، وما يحيد عن ذلك في الغالب إلا جاهل بالصالح و الأصلح، والفاسد والأفسد، فإن الطباع مجبولة على ذلك بحيث لا يخرج عنه إلا جاهل غلبت عليه الشقاوة أو أحمق زادت عليه الغباوة، فمن حرم ذبح الحيوان من الكفرة، رام ذلك مصلحة للحيوان فحاد عن الصواب، لأنه قدم مصلحة حيوان خسيس على مصلحة حيوان نفيس، ولو خلوا عن الجهل والهوى لقدموا الأحسن على الأخس، ولدفعوا الأقبح بالتزام القبيح: " فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين " (الروم: 29)، فمن وفقه الله وعصمه أطلعه على دق ذلك وجله، ووفقه للعمل بمقتضى ما أطلعه عليه، فقد فاز، وقليل ما هم، قال الشاعر:

وقد كنا نعدهمو قليلا
فقد صاروا أقل من القليل !

وكذلك المجتهدون في الأحكام، من وفقه الله وعصمه من الزلل أطلعه الله على الأدلة الراجحة فأصاب الصواب، فأجره على قصده وصوابه، بخلاف من أخطأ الرجحان فإن أجره على قصده واجتهاده، ويعفي عن خطئه وزلله، وأعظم من ذلك الخطأ فيما يتعلق بالأصول.

واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح، ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد، نظرا لهم من رب الأرباب، كما ذكرنا في هذا الكتاب، فلو خيرت الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لاختار الألذ، ولو خير بين الحسن والأحسن لاختار الأحسن، ولو خير بين فلس ودرهم لاختار الدرهم، ولو خير بين درهم ودينار لاختار الدينار، ولا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح، أو شقي متجاهل لا ينظر إلي ما بين المرتبتين من التفاوت". وأما مصالح الآخرة ومفاسدها فلا تعرف إلا بالنقل. ومصالح الدارين ومفاسدهما في رتب متفاوتة، فمنها ما هو في أعلاها ومنها ما هو في أدناها، ومنها ما يتوسط بينهما، وهو منقسم إلي متفق عليه ومختلف فيه.

فكل مأمور به ففيه مصلحة الدارين أو إحداهما، وكل منهي عنه ففيه مفسدة فيهما أو في إحداهما، فما كان من الاكتساب محصلا لأحسن المصالح فهو أفضل الأعمال، وما كان منها محصلا لأقبح المفاسد فهو أرذل الأعمال، فلا سعادة أصلح من العرفان والإيمان وطاعة الرحمن، ولا شقاوة أقبح من الجهل بالديان والكفر والفسوق والعصيان.

ويتفاوت ثواب الآخرة بتفاوت المصالح في الأغلب، ويتفاوت عقابها بتفاوت المفاسد في الأغلب، ومعظم مقاصد القرآن الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها، فلا نسبة بمصالح الدنيا ومفاسدها إلى مصالح الآخرة ومفاسدها، لأن مصالح الآخرة خلود الجنان ورضا الرحمن، مع النظر إلي وجهه الكريم، فيا له من نعيم مقيم ! ومفاسدها خلود النيران وسخط الديان مع الحجب عن النظر إلى وجهه الكريم، فيا له من عذاب أليم.

والمصالح ثلاثة أنواع: أحدها مصالح المباحات، والثاني مصالح المندوبات، والثالث مصالح الواجبات.

والمفاسد نوعان: أحدهما مفاسد المكروهات، والثاني مفاسد المحرمات.


ما تعرف به مصالح الدارين ومفاسدهما

أما مصالح الدارين وأسبابهما ومفاسدهما فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر،والاستدلال الصحيح، وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته، ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله، بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك، إلا ما تعبد الله به عباه، ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته، وبذلك تعرف حسن الأعمال وقبحها، مع أن الله عز وجل لا يجب عليه جلب مصالح الحسن، ولا درء مفاسد القبح،كما لا يجب عليه خلق ولا رزق ولا تكليف ولا إثابة ولا عقوبة، وإنما يجلب مصالح الحسن ويدرأ مفاسد القبيح طولا منه على عباده وتفضلا.


المقصد من كتاب قواعد الأحكام

قال الإمام ابن عبدالسلام في بيان المقصد من كتابه:

"الغرض بوضع هذا الكتاب: بيان مصالح الطاعات والمعاملات وسائر التصرفات ليسعى العباد في تحصيلها، وبيان مقاصد المخالفات ليسعى العباد في درئها، وبيان مصالح العبادات ليكون العباد على خبر منها، وبيان ما يقدم من بعض المصالح على بعض، وما يؤخر من بعض المفاسد على بعض، وما يدخل تحت اكتساب العبيد دون ما لا قدرة لهم عليه ولا سبيل لهم إليه.

والشريعة كلها مصالح: إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: " يا أيها الذين آمنوا " فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرا يحثك عليه أو شرا يزجرك عنه، أو جمعا بين الحث والزجر، وقد أبان في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد حثا على اجتناب المفاسد، وما في بعض الأحكام من المصالح حثا على إتيان المصالح".


الشيخ البنا - رحمه الله - والموازنة بين المصالح والمفاسد

كان الشيخ حسن البنا - رحمه الله - ذا علم وبصيرة، ظهر في فترة عصيبة صال الاستعمار فيها وجال، واستغل عواطف الناس واستعداداتهم لإصلاح بلادهم وأوطانهم، وأدخل عليهم مصطلحات غريبة على أذهانهم ليلفتوهم عن الإسلام وعن الانتساب إلى الأمة المسلمة، كما أراد أن يقر في أذهانهم الأنانية والانفصال بدعاوى مختلفة مثل القومية والوطنية للغرض ذاته، فكان لابد من توجيه هذه المصطلحات الوجهة السليمة، وتطويعها إلى نفع الأمة وصلاحها، مع بيان الصالح منها والطالح، دون مصادمات غير محسوبة، أو مواجهات غير مجدية.


إقرأ أيضاً