ثورة يوليو الأمريكية علاقة عبد الناصر بالمخابرات الأمريكية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ثورة يوليو الأمريكية
علاقة عبد الناصر بالمخابرات الأمريكية
غلاف الكتاب

محمد جلال كشك

الزهراء للإعلام العربي

إلى القردة الذين دبروا اغتيالي ..

.. وقيل إن طائرا أبصر بعض القردة ، في ليلة باردة غاب قمرها يلتمسون نارا من يراعه ( وهى ذبابة مضيئة) فراح يصيح بهم: لا تطلبوا المستحيل، ولا تسألوا فاقد الشيء أن يعطيه .. وهم لا يصغون إليه.. ومر به ناسك فقال له: لا تبح صوتك في نصح من لا ينتصح ، بل من يكرهون ناصحهم ويتبعون مضليهم.

قال الطائر: بل أمرنا بإرشاد من ضل ولو كره..

قال الناسك : أخشى أن يصيبك منهم شر

رد الطائر : ضلالتهم وجهلهم هي الشر الأكبر..

فذهب الناسك في طريقه وضاق الطائر ذرعا بجهلهم فنزل إليهم ينبه إلى خطأ ما يرجون وعبث ما يستوقدون .. فأمسك كبيرهم به ودق رأسه.. واستمر القردة ينفخون

" .. وعرفت كم كانت جريمة الثورة حق الإنسان المصري بشعة.. وعرفت أي مستنقع ألقينا فيه الشعب المصري..

فقد حريته ..
فقد كرامته ..
فقد أرضه ..
وتضاعفت متاعبه..".
اللواء .ح.
محمد نجيب
رئيس مجلس الثورة

خطبة الكتاب

في سنة 1981 أصدر الأستاذ هيكل كتابه " قصة السويس" ، وكان كعادته يكتب للأميين ومن ثم تعامل مع التاريخ معاملة الدجوى وصلاح نصروحمزة البسيوني للقانون.. فلما فوجئ بأن جيلنا لم ينقرض وأن هناك من يستطيع التصدي له بالنقد والتفنيد.. اضطر إلى إعادة كتابة التاريخ مع التعديلات والتنقيحات اللازمة.. وذلك في كتابه الذي نشر في الأهرام بعنوان " ملفات السويس".

وهو الكتاب الذي صاحبته أكبر زفة من المتورطين والجاهلين ومارس فيه هيكل كل مواهبه في التزييف والتهويش..

ورغم ذلك لم يستطع أن يفند أو يرد على واقعة واحدة قدمناها في كتابي المشار إليه:" كلمتي للمغفلين" إلا أنه اضطر إلى تعديل الروايات التي كشفنا تزويره لها، كما اضطر إلى تغيير أسلوب الكتاب ومنهجه فاعترف – لأول مرة- بعلاقة انقلاب يوليو بالمخابرات الأمريكية .. كما اعترف أن هذا الانقلاب كان إفرازا للتناقض الأمريكي البريطاني.. الأمر الذي كان مستبعدا بل ومناقضا تماما للصورة الفاضحة التزوير التي قدمها في كتابه الأول " قصة السويس".. ومن ثم رأيت أنه لزاما على أن أتصدى مرة أخرى لكتابه الجديد أو محاولته الجديدة لإعادة تزوير التاريخ.. فكان كتابي هذا الذي يتضمن فصولا من كتابي السابق مع إضافات تتنازل تعديلات وتنقيحات واعتذارات ملفات السويس.. وكذلك إضافات مما كشفته الوثائق التي أعلنت أو المذكرات التي نشرت بعد صدور " كلمتي للمغفلين" في عام 1985، واخترت هذه المرة أن يكون العنوان أكثر وضوحا وأقل سخرية.. ألا هو :" ثورة يوليو الأمريكية ".

وكل أملنا هو دفع الجيل الجديد للتفكير .. هذا الجيل الذي يتعرض لأكبر عملية غسيل مخ وتجهيل، عاناها جيل في تاريخنا.. ويكفى أن يطالع القارئ بعض المقارنات التي عقدناها بين روايات هيكل المختلفة للواقعة الواحدة ليرى أننا لم نذهب بعيدا عندما لقبناه بمؤلف التاريخ وليس كاتبه، فضلا عن أن يسلك – حاشا لله- في قائمة المؤرخين ولا أننا قلنا شططا إذا اتهمناه بالتزوير .. إذ لا يمكن أن نصدق مع القارئ والحقيقة وشرف المهنة لو وصفنا فعله بالتاريخ بصفة أقل من التزوير المتعمد.

فهذا كتاب للمهمومين بمصير وطنهم وأمتهم العربية، أما إذا كنت تعتقد أن خطاب الرئيس عبد الناصر في مؤتمر باندونج ، أهم منم الانتصار الاسرائيلى في حرب 1956.. فلا تقرا هذا الكتاب، وإذا كنت تعتقد أن الانتصار على الإمام البدر أهم تاريخيا ومصريا وعربيا من انتصار إسرائيل في حرب 1967، وتحولها إلى الباب العالي في الشرق الأوسط، وتحول مصر إلى دولة من الدرجة الثالثة في الشرق الأوسط.. فلا تقرا هذا الكتاب.

فلا حاجة لك فيه ولا من أجلك قد كتب .

أما إذا كنت تعي وتعيش خطر المواجهة المصرية العربية- الإسرائيلية ، وتدرك خطورتها ومصيريتها بالنسبة لواقع ومستقبل الأمة العربية والوطن المصري خاصة، فلا يجوز أن يفوتك حرف مما فيه فمن أجلك كتب.. وعن هذه المواجهة كان العناء في تأليفه والمخاطرة بنشره.

أقول.. لو نجحت في أن أجعل هذا الجيل يهتم ببحث هذه القضية.. بأن تنذر حفنة منهم نفسها للبحث والاستقصاء وتجميع الأدلة وتمحيص الوقائع حول جذور الناصرية وتطورها وما تركته من آثار على تاريخنا.. لو حدث ذلك، فسأكون قد عوضت خيرا عما بذلته من جهد وما تحملته لإخراج هذا الكتاب ومن قبله كتابي " كلمتي للمغفلين" .. ويشهد الله أن ليس لي أية مصلحة شخصية أو مادية في هذا الحديث، ولكنها أمانة التاريخ وشرف الكلمة.. واستمرار الجذوة التي جعلتنا في أربعينيات هذا القرن، نهرب من المدرسة ودفء الأسرة وأمنها، لكي نعمل سرا وعلانية ضد النظام الملكي والاستعمار البريطاني.. في نفس الوقت الذي كان فيه مؤرخ وبياع الناصرية يتقلب ناعما ما بين صحافة الإنجليز والمخابرات الأمريكية ، ويحصل على جائزة الملك فاروق وثقة عبد الناصر وهو الصحفي أو الكاتب المصري الوحيد الذي اتهم خلال ثلاثة عهود بتهمة واحدة وهى العمل على إضعاف الروح المعنوية في مواجهة إسرائيل ..

أقول للشباب ، الذي يريد أن يعلم والذي يفزعه ما ينشر أحيانا من حقائق، أقول لهم ادرسوا .. وابحثوا ومحصوا .. فلا حرية ولا اختيار بغير معرفة، ولا معرفة بغير قراءة، بغير الحوار الحر..

بقى أن ننصح القارئ بالصبر، والمراجعة وقراءة الملاحق أثناء قراءة المتن فهي لا تقل أهمية وبعضها ضروري لفهم هذا المتن.

والله المستعان
القاهرة
فبراير 1988

مدخل

لم يكن في خاطري الكتابة عن عبد الناصر في هذا الوقت فهذا العمل الكبير حجما وتأثيرا يأتي على قائمة مدخل التسعينات بإذن الله ، لعدة أسباب اقتنعت بها عند ترتيب ما أتمنى إنجازه، وذلك في عيد ميلادي الخمسين ،عندما قررت أنه قد حان وقت التخلي عن الصحافة والتفرغ للعمل الفكري والتاريخي، في شكل كتب أو نشرة محددة التوزيع بعدية عن التعليق المباشر على الأحداث اليومية ، فقد كان على أن أفرغ من وضع تاريخ صحيح للحركات الإسلامية ، بعيدا عن تشويهات التاريخ الصليبية- الاستعماري وكان على أن أفرغ من سلسلة تاريخ مصر الحديث التي أصدرت منها كتابي عن الحملة الفرنسية، والحركة الوطنية في السودان، وكان على أن أطرح تصوري لفكر الحركة الإسلامية المنشودة.. وكان المقدر أن أفرغ من ذلك كله في نهاية الثمانينات.. ثم يأتي الدور على تقييم " حركة 23 يوليو" على ضوء منجزات الشعب المصري، بل والحكومات التي سيطرت على مصر سواء في عصور الاستقلال أو الاحتلال وما استطاعت تحقيقه بفضل إمكانات مصر ولزيادة حصتها من ثروة شعب مصر.

ذلك أن عنصرا أساسيا في تخبط جيل الناصرية وحيرته، أنه قد تعرض لعملية تجهيل مقصودة بما سبقها من قرون في تاريخ مصر بل وتاريخ العرب وربما كان هذا " التفريغ" ضروريا لكي تبرز " المنجزات" فلم يكن أمام أبطال ليلبوت من فرصة للحوار مع " غاليفار" إلا بتقييده بالحبال وطرحه أرضا..

كما كان التجهيل والتشويه ضروريا حتى يمكن سلب رجالات التاريخ المصري أفضالهم، وحتى يجلس "أحمد فؤاد" في مقعد " طلعت حرب" ويعتبر ذلك إنجازا ثوريا ومكسبا شعبيا و حتى يعتبر الجيل المبتور التاريخ أن بناء سد على النيل بقرض أجنبي وخبرة أجنبية بل وتنفيذ أجنبي ودون مساهمة مصرية تذكر من الناحية التكنولوجية، يعتبر عملا خالدا بطوليا عجائبيا يكفى لمحو كل ما حدث من أخطاء وخطايا .. لأنهم لا يعرفون أن " محمد على" مثلا بنى " القناطر الخيرية" التي كانت في ظروفها وظروف مصر منذ ما يقرب من مائتي سنة عملا خارقا" لم يتأت للملوك الكبار" وكانت نتائجها ولا تزال على جغرافية مصر واقتصاد مصر وإنسان مصر ما لا سبيل إلى مقارنته بأية أحلام معلقة على السد العالي.

بناها محمد على قبل أن يوجد في مصر مهندس مصري واحد، وبناها بدون أن يقترض مليما من الخارج يرهق به ميزانية عدة أجيال لا يعلم إلا الله عددها.

ولم يهتف مرة واحدة " حنبنى القناطر" ولا سجل التاريخ له خطبة واحدة حول بناء القناطر أو المؤامرة الدولية ضد بنائها.. كما لا يعرف هذا الجيل أنه في ظل الاستعمار البريطاني أمكن أن تقيم مصر خزان أسوان- 1903- ونتائجه المحققة حتى الآن تفوق التوقعات المحتملة للسد العالي.

ولقد ألمنى أن يقارن بعضهم بين محمد على وعبد الناصر بدعوى أن الاثنين هزما أمام العدو الأجنبي، وإذا كنت في كتاباتي قد قسوت في نقد محمد على إلا أن شرف الكلمة، وأمانة التاريخ بل وكل القيم التي تعارف عليها الشرفاء تأبى هذه المقارنة وترفضها .. فلا وجه للمقارنة إلا كما قلنا بين الأصل والمسخ.

لقد تسلم محمد على مصر وهى ولاية عثمانية خارج التاريخ، فمد حدودها إلى السودان ومنابع النيل.. ومات وهو يحكم مصر والسودان وأجزاء من جزيرة العرب.. وعبد الناصر فصل السودان ومات وسيناء محتلة وقناة السويس هي حدود مصر..

محمد على مات ومصر أقوى دولة في الشرق، أقوى من تركيا.. الإمبراطورية العثمانية صاحبة السيادة النظرية على مصر.. مات ومصر لديها أقوى أسطول آسيوي أفريقي( لم تكن اليابان قد ظهرت بعد كقوة عظمى) وعبد الناصر ترك مصر ووزنها صفر من الناحية العسكرية، وكرامة كل مصري جريحة والسخرية بقدراتنا العسكرية، وكفاءة جنودنا موضع تندر الصحافة في الكويت ودبي.

محمد على كان قائد جيوشه إبراهيم باشا الذي لم يهزم في حرب قط.. وعندما زار أوربا كانت أقواس النصر تستقبله على طول الطريق تحمل أسماء معاركه التي انتصر فيها.. وهى بالعشرات في أوربا وآسيا وأفريقيا.. وقائد عبد الناصر لم ينتصر في حرب قط، ولم يمت حتى كان الفتيات والفتيان في أ وربا يقلعون عيونهم( بوضع ضمادة سوداء) تشبها بموشى ديان الذي هزم عبد الناصر وقائد جيشه في كل معركة خاضوها ضده.

هل نقارن إبراهيم باشا بالحشاش المنحل الذي سلمه عبد الناصر جيش مصر وأمنها وسيادتها على أرضها فبدد ذلك كله غارقا في ملذاته متفرغا لحماية حكمه وسيده؟

أنقارن بين من وحد مصر وسوريا بالسيف وأوشك أن يدخل الأستانة لولا أن تجمعت أوربا ضده؟ وبريطانيا وحدها كانت تحكم ربع العالم وتستطيع تجنيد جيش أكبر عددا من تعداد ذكور مصر بما فيهم الأطفال.

نقارنه بمن أضاع سوريا وهزم في دمشق على يد مديري مكتبه.. حفنة عملاء لا مكان لهم في مزبلة التاريخ.. ولكنهم هزموا عبد الناصر.. وأخرجوا نائبه مدحورا كالأرملة المفضوحة ولم يجرؤ ولا استطاع أن يطلق طفلة واحدة دفاعا عن وحدة العرب ودولة الوحدة؟

محمد على هزمه " بالمستون" وأين..؟ في جبال طوروس ؟ وعبد الناصر هزمه موشى ديان في شرم الشيخ والعريش والقنطرة؟

محمد على تسلم مصر وليس بها مصنع ولا مدرسة ابتدائية.. فأنشأ الكليات وأقام المصانع وبعث البعوث.. وعبد الناصر تسلم مصر وبها أربع جامعات بل أرقى جامعات في الوطن العربي بل في أفريقيا ( ما عدا جنوب أفريقيا) وكل آسيا باستثناء اليابان.. ومات وقد رفضت جامعات العالم شهاداتنا .. عبد الناصر تسلم مصر وبها شركة الطيران الوحيدة في العالم العربي ومعظم آسيا وكل أفريقيا، وفيها دار للأوبرا والبنك الوطني.. وأفضل شبكة مواصلات .. الخ وتركها كما نعرف..

محمد على لما حاولت بريطانيا العظمى غزو مصر هزمهم هزيمة ساحقة،أو سمح للشعب بهزيمتهم وطاف جنده برءوس الغزاة في شوارع القاهرة.. وانسحب الأسد البريطاني جعل مصر كالمدينة المفتوحة، يدخلها اليهود ويخرجون كأنها أرض لا مالك لها..

في رسالة من محمد على إلى قنصله في باريس:" أبلغنا ولى العهد أنه أثناء زيارته لأوربا رأى نباتا لا يموت ولا يتكسر عندما تطأه الأقدام فأرسلوا لنا بذوره".

وهو الحشيش الأخضر أو النجيل..

هذه كانت اهتمامات إبراهيم باشا في أوربا.. فاسألوا على شفيق ومحمد كامل حسن ماذا كانت اهتمامات مشير عبد الناصر؟

لا تنكئوا الجراح بمقارنة الأصل بالمسخ..

وكان القصد أيضا أن تتاح وثائق أكثرن باعتبار أتن مصادر تاريخنا لا تزال في أرشيفات الدول الكبرى، وكان الظن أن يبدأ الإفراج عن الوثائق الأمريكية ابتداء من عام 1983 أي بعد مرور الثلاثين سنة القانونية، فإذا ما وصلنا إلى التسعينات كان متاحا لنا- على الأقل – الفترة بين 1952 إلى 1960 وهى كافية جدا، وليست حاجتنا للوثائق للاقتناع أو الاكتشاف ، فنحن نحتاج الوثائق للذين لا يؤمنون إلا بعد أن يدسوا أصابعهم في الجرح.. أو بالأحرى حتى ندس أصابعنا في جرحهم وعلى أية حال لم يعد الانتظار ضروريا، فالتطورات الجارية في الدولة الأمريكية منذ وصول الرئيس ريجان وسيطرة اليمين، قد فرضت من القيود على نشر الوثائق وخاصة المتعلقة بنشاط المخابرات الأمريكية ما يؤكد أنه لن يتاح للمعرفة وللمؤرخين إلا النذر اليسير بعد أن ألغى مفعول " قانون حرية المعلومات"،الذي صدر في فترة " الثورة الليبرالية" التي اجتاحت أمريكا عقب حرب فيتنام وفضيحة ووترجيت..

أما السبب الأهم في نظري لقراري السابق بتأجيل الكتابة، فهو أن يفعل عامل الزمن فعله في الكاتب والقارئ، فتبرد حدة الأحداث وتتحول إلى تاريخ، له سلبياته وإيجابياته..

ولا يمكن لكاتب مثلى أن يدعى الحياد في الكتابة عن " انقلاب 23 يوليو" وأنا كمواطن مصري ، عاش أحداثه كاملة وأثر في حياتي ومستقبلي الشخصي والمهني والوطني والقومي.. يستحيل أن يكون المرء محايدا في الحديث عن حركة، أعطته أحلى أيام عمره وأتعس نكسات وطنه..

كيف أدعى الحياد، إزاء تصفية الاستعمارين البريطاني والفرنسي وقد دام احتلالهما وامتهانهما لأمتنا العربية ما يقرب من قرن ونصف قرن..؟

كيف وقد ضحيت بأحلى سنوات عمري في سبيل تحقيق الجلاء عن مصر ، أكون محايدا إزاء هذا الجلاء وقد تحقق بل ومرتين.. وقد عشت حتى رأيت بريطانيا تهزم في غزو مصر كما لم تهزم في عام 1882 برغم كل إعجابنا وحبنا للبطل أحمد عرابي؟ وما أظن أن فرحة قد غمرت قلبا مثل فرحتي بقيام الثورة الجزائرية مع التسليم وقتها باستحالة انتصارها في عمر جيلنا.. فما بالك بتحقيق ذلك الاستقلال في أقل من عشر سنوات؟

هل أستطيع أن أنسى " الهزة" الوطنية والقومية التي غمرت القلب والروح والعقل بإعلان تأميم قناة السويس، وتصفية المصالح الأجنبية في الاقتصاد المصري وتخليص القطن من قرادحى ومزارحى، وإعلان الوحدة المصرية السورية، وسقوط حكم نورى السعيد وطرد غلوب باشا .. وكلها كانت أحلام المراهقة وعرائس الشباب ؟

وأيضا ..

كيف أكون محايدا إزاء خروجنا من دائرة النفوذ الأنجلو – فرنسي ودخولنا في عصر الهيمنة الإسرائيلية والنفوذ الأمريكي- الروسي؟

وكيف أكون محايدا وقد كان ثمن الجلاء فصل السودان ولو خيرت في مطلع الخمسينات بين بقاء الاحتلال ألف عام وقبول السودان لما اخترت أبدا فصل السودان..

وقد كان شعار مصر من رئيس الوزراء إلى أصغر مصري " تقطع يدي ولا يقطع السودان" قالها زعيم وادي النيل الخالد مصطفى النحاس ووفى بها.

هزمنا بريطانيا وفرنسا وتركنا جولدا مائير تقول عن حرب سيناء الأولى:" التقطنا خمسة آلاف أسير فقط،لكي نبادلهم جميعا بالأسير الاسرائيلى الوحيد الذي أسره المصريون".

أهذا جرح يشفى ؟ لا والله.. سيصحبنى إلى القبر، ولولا أنه غسل بالدم وببرقية "جولدا" في حرب رمضان " أيقظ كسينجر الآن ، لأننا نريد المساعدة اليوم، فغدا ربما يكون قد فات الأوان" لولا ذلك لبعث جيل بأكمله مجروح العرض يوم القيامة .

أيمكن أن أكون محايدا وأنا أكتب عن هزيمة 1967 التي لم تترك قيادتنا ثغرة واحدة يمكن أن ينفذ منها النصر العربي إلا سدتها، ولا غلطة يمكن أن يستفيد منها العدو ولم ترتكبها؟

رفضوا البدء بالهجوم.

قرروا تلقى الضربة الأولى ونشروا ذلك علنا في الأهرام لإخطار إسرائيل رسميا..

أصدروا أمرا إلى قوات الدفاع الجوى بعدم إطلاق النار على أية طائرة لأن طائرة المشير في الجو لحظة الهجوم الاسرائيلى.

غيروا الشفرة يوم الهجوم لكي لا يتلقوا إخطار محطة الإنذار المبكر التي أقيمت في الأردن لمهمة واحدة هي الأخطار عن تحرك الطيران الاسرائيلى، فلما أبلغت المحطة عجزت مصر عن تلقى الإشارة لأن الشفرة تغيرت.. وبعدها بالصدفة قتل عبد المنعم الخ.. الخ.. الخ..

وكل هذا حدث في أثناء المعركة.. ومن قبل كانوا قد دمروا الجيش في حرب اليمن وأفقدوه قدراته القتالية بالجاسوسية والإرهاب والفساد حتى انحصر دفاع هيكل عن القرار الاجرامى الخيانى بتلقي الضربة الأولى.. انحصر اعتذاره بأننا حتى لو ضربنا إسرائيل أولا كنا سنخسر الحرب.. أي أنهم ساقوا مصر عن سبق يقين وتصميم إلى حرب يعرفون أنها محتومة الخسارة.

ما بين فرحة تأميم القناة.. وبين الحسرة وعبد الرحمن البيضانى يعد رجاله بأنه اتفق مع مصر على تخصيص دخل القناة لدعم ثورة عبد الله السلال؟

ما بين الفرحة بالوحدة، ومرارة الانفصال وانتكاسة ثورة العراق.. وتمزق الوطن العربي وتحول ثورة الجزائر إلى قوة نشطة معادية لمصر وانهيار مكانة مصر ودور المصريين بل واحترامهم في سائر الدول العربية..

ما بين تمصير الاقتصاد المصري وتدمير هذا الاقتصاد والقضاء على فرصة مصر لبناء الوحدة الاقتصادية العربية حول مصر وبقيادة مصر، حتى لم يبق في السوق العربية إلا الخادمة المصرية وفول مدمس " قها" ونحن الذين أقمنا أول شركة طيران عربية، وأول بنك عربي، وأول مصنع سماد عربي، وأول صحيفة عربية وأول جامعة عربية وأول صناعة عربية.

بل نحن الذين نقود العالم العربي تسمى على اسمنا " المصارى " والمدهش أن ذلك كله حصل في الفترة من 24 على 1952 ودمر في فترة أقل من 1954 إلى 1981؟.

كيف أكون محايدا وقد تحولت مصر إلى سجن كبير، اختفت فيه كل مظاهر وشكليات الديمقراطية وضرب فيه رئيس مجلس الدولة " علقة" ونودي فيها على شيخ كلية دينية في سجن حمزة البسيوني لأول وآخر مرة في تاريخنا- بإذن الله- كتابا ومؤلفين وجهابذة في الفقه والأدب والتفسير.. وهو ما لم يجرؤ الاستعمار البريطاني الملقب بعدو الإنسانية، على ارتكابه وهو يحتل مصر بثمانين ألف جندي؟ كيف أكون أنا محايدا. والقانون في أجازة؟

ما بين ذكريات " أمجاد يا عرب أمجاد" وشكوى بريطانيا سيدة فن الإعلام، من ضراوة ونجاح الإعلام المصري، وبين تراجع صحافة مصر على المرتبة الثالثة في كل البلاد العربية حتى التحى تعلمت القراءة على يد المصريين ؟ وبين "توارى" مدير صوت العرب، وكأنه قد حمل كل خطايا الإعلام الناصري، بل أصبح رمزا لكل ما هو سيء إعلاميا ثم اكتشاف الحقيقة المرعبة، ألا وهى أن " صوت العرب" قام بالخبرة والمعدات الأمريكية . مستحيل أن يدعى المرء " الحياد" في الكتابة عن زعيم وصل إلى السلطة وكل شاء في مصر أكبر منه ومات وهو أكبر من مصر وكل ما فيها.

مستحيل.

ولذلك كنت أتهرب، وأحاول أن أكسب وقتا بتأجيل الكتابة إلى أن كانت عودتي لمصر بعد غيبة خمس سنوات متصلة، وهجرة قاربت على الخمسة عشر عاما.. ورأيت العبث الناصري في كل مكان.. فالحوار الخاطئ الذي يدور حول من هو الأسوأ " الرئيس الراحل أو الرئيس الأرحل" قد رجح كفة الرئيس الأرحل جمال عبد الناصر.. ونسى المتحاورون أن عبد الناصر هو الذي اختار السادات نائبا له، بل الأحرى أنه هو وحده الذي بقى إلى جانبه حتى الرمق الأخير، بعد أن تمت تصفية وإقصاء كل رجالات مصر وأعضاء مجلس الثورة..

وأن أنور السادات جزء لا يتجزأ من " حركة 23 يوليو " مفهوما وأسلوبا، وأنه المتمم لمرحلة عبد الناصر مع الفارق بين إنفاق الوارث والدنيا مقبلة واستجدائه وقد جدبت الموارد وأفلست الخزائن.

جمعت عددا من الكتب الناصرية التي تذخر بها المكتبات والأرصفة المصرية، وهالني ما قرأت فالتجهيل والتشويه مستمران ولكن بشكل أكثر سوقية وأكثر ابتذالا .

وسمعت عن محاولات إنشاء حزب ناصري يستأنف المسيرة ورأيت " الجامعة الأمريكية " بالقاهرة تتحول إلى أكبر مركز للناصرية؟

ولم أدهش ، بل لعلى رأيت ما توقعته بالحرف ولو كان ذلك لكان للدهشة ما يستوجبها وللحيرة ما يبررها.. " فالجامعة الأمريكية في بيروت هي مركز " اليسار هذا" ..

ومؤتمر " تحرير المرأة" تموله مؤسسة فورد ومن دراستنا هذه – إن شاء الله- سيجد القارئ ما يقتنع به أنه من الطبيعي جدا أن تكون " الجامعة الأمريكية " هي قلعة الناصرية، ومركز تفريخ الجيل الجديد من الناصريين ومعهد تنظير وتنميق وترويج الفكر الناصري.

وإذا كنت لا أستطيع أن أعد القارئ بأن أكون محايدا أو غير منفعل في كتاباتي- إذ لا يملك القلوب إلا الله – فأنى أعده بما يرضيه وينصفني معه..

1- ألا أقدم واقعة واحدة غير مثبتة المرجع.
2- أن أعتمد بالدرجة الأولى على شهادات الناصريين .. والمصادر الأجنبية التي لا تحتمل الشك.. على الأقل في الواقعة التي نستشهد بها، فعندما تقول جولدا مائير إن إيزنهاور أصر على الانسحاب بلا قيد ولا شرط ويؤكد نفس الحقيقة سلوين لويد، لا يمكن أن نتهمهما بالشيوعية وتشويه سمعة أمريكا؟ خاصة عندما تؤكد الوثائق هذه الحقيقة. عندما تتفق رواية مصطفى أمين ومايلز كوبلاند على دور كيرميت روزفلت في مصر، من حقنا أن نرفض إنكار هيكل المتهم الأول.
3- أن التزم بالموضوعية – وهى غير الحياد- في عرض سلبيات وإيجابيات العهد الناصري، مع التأكيد أن ما أقدمه من وقائع قد تحريت صدقه بكل ما في طاقة باحث أو مؤرخ، أما التحليل الذي وصلت إليه فهو بلا شك معرض للخطأ، قابل للرفض والنقض.. ومقارعة الحجة بالحجة.

ولا أزعم أنني أشيد بعبد الناصر أو أدينه، فذلك متروك للقارئ، ولا أزعم أنني سأهدى جيلا من الضلال، بل غاية ما اصبوا إليه هو أن أسجل خبرتي ومعايشتي وقراءاتي للجيل القارئ اليوم، فإذا كان مقدرا لمصر والعرب أن يخوضوا تجربة ناصرية جديدة، فعلى الأقل ندخلها عن وعى هذه المرة.

وقد علق " مؤرخ الناصرية" على هذه النقطة فراح يعظ عن حياد المؤرخين، مزيفا جاهلا كعادته، وحسبي أن أقول مرة أخرى، إنه لا يمكن الحياد في كتابة التاريخ المعاصر، ولا هو مطلوب والرافعي لم يكن محايدا كما زعم بل كان وطنيا بمفاهيم القرن التاسع عشر، الأمر الذي حمل كتاباته الكثير من الأخطاء في التفسير والتعليق وأحيانا في صياغة الواقعة ،وذلك في تأريخه لحرب محمد على، أو موقفه المعيب من الثورة العرابية والمضطرب من ثورة القاهرة ضد الاحتلال الفرنسي وأخيرا تحيزه غير المنصف ضد الوفد..

فالمؤرخ المعاصر الذي يكتب عن أحداث عاصرها، وساهم فيها أو كان طرفا في صراعاتها، أولى بأن يفقد حياده، ولا يضيره هذا ولا يضير تاريخه، ما لم يتبع هواه.. إذ لا يجوز تغيير واقعة ولا إخفاء حدث بسبب الاقتناع الذاتي أو الموقف السياسي هنا تصبح الكتابة أدبا سياسيا وليست تاريخا، بل تصبح تزويرا لا يليق.. فليس يعيب المؤرخ أن يكون مع أو ضد ثورة 1919 ما دام ما يصل إليه من حقائق ووقائع بأمانة.. أما أن " يهدد" هيكل بأن نشر مذكرات " سعد زغلول " يسيء إلى الزعيم، فهذا هو ابتزاز التاريخ أو محاولة تعديله على هوى الكاتب وتصوره.

ومن ثم فليس على من التزام أمام القارئ إلا " الصدق" وخاصة أنه ما من سبب شخصي يدفعني إلى عداء عبد الناصر أو التحامل عليه، فلم أكن ملكيا قبل 23 يوليو ولا حصلت على جائزة الملك فاروق في الصحافة ثلاث مرات، ولا حتى مرة واحدة، وما كان يمكن أن يكون مثلى مرشحا لمثلها، بالعكس كنت مقدما للمحاكمة بتهمة العيب في الذات الملكية، والدعوة إلى قلب نظام الحكم بالقوة المسلحة في عهد الملك فاروق في قضية حقق فيها " على نور الدين" ..

وجاءت حركة 23 يوليو وأنا في معتقل الملك فاروق ، وأيدنا الانقلاب كما توقع تقرير المخابرات الأمريكية أن يفعل " المثقفون المغفلون" وكنا منهم ولا فخر ثم عارضناه عندما بدأ يكشف عن وجهه، ودخلت المعتقل أو السجن في 9 يونيه 1954 وأفرج عنى في 11 يونيه 1956 ومن يومها لم يتخذ عبد الناصر قرارا واحدا ضدي، بل أقول لأول مرة إنه كان يثق في مقالاتي، فكما أخبرني الزعيم الكردي " جلال الطلبانى" إنه عندما قابل الرئيس عبد الناصر في عام 1963 واشتكى له من وجود قوة سورية تقاتلهم في العراق إلى جانب الجيش العراقي، رد الرئيس عبد الناصر:" غريبة.. جلال كشك كان هناك ولم يكتب عن القوات السورية في تحقيقاته الصحفية" وكنت قد قمت بأول زيارة صحفية لمعاقل الأكراد في شمال العراق واجتمعت بالمرحوم المللا البرازانى.

وكل مصادري تؤكد أن عبد الناصر شخصيا منع أو رفض اعتقالي أكثر من مرة.. بل أحسبني مضطرا إلى القول أن ليس بيني وبين الأستاذ"محمد حسنين هيكل" ذاته عداء شخصي، بل الأحرى أنني مدين له بإخراجي من السجن عندما اعتقلني المنحرف " أمين شاكر" .

وهيكل هو الذي عينني في " أخبار اليوم" عندما جبن وهرب وعارض الآخرون.. ولكن الأمر أكبر من أن يكون حسابات شخصية.. " فنقطة" الخلاف كبيرة جدا.. إنها ببساطة: مصر .. مصر الماضي.. مصر الحاضر .. مصر المستقبل..

وقد يتساءل القارئ لماذا أركز على هيكل ؟ والجواب ليس فقط للمكانة التي احتلها في العصر الناصري، تلك المكانة التي تشكل في حد ذاتها سؤالا ضخما بل عريضة اتهام حافلة للنظام الناصري، ولا لأنه هو المتصدي الأكبر للترويج للناصرية. بل لأنه إحدى الحلقات الرئيسية في العلاقة الأمريكية – الناصرية، لأن " هيكل " كما جاء في كتاب " حبال الرمال" ولم يتعرض هو ولا اتخذ أي إجراء ضد المؤلف والناشر- قد جندته المخابرات الأمريكية كعميل في أوائل الخمسينيات.. وأصبح بطريقة ما المتحدث الرسمي باسم الوطنية الناصرية والقومية العربية، ومن ثم فإنه يعرض قصة الناصرية من زاوية يهمنا التصدي لها.

كذلك استعنت بشهادات رجالات 23 يوليو .. ومن المؤيدين لها في إطارها العام حتى وإن اختلفوا في تفاصيل تدور حول أشخاصهم في الغالب أو حول كارثة وطنية لا مجال لقبولها إلا من مأجور.

وقد ركزت على قضية العلاقة مع الأمريكان والمواجهة مع إسرائيل ومعركة 1956 فلم أتعرض – إلا بحكم الضرورة- للأوضاع الداخلية والاستبداد السياسي باعتبار أن هذه قضية أشبعت بحثا، ويعترف بها الناصريون أنفسهم ويعتذرون عنها بما تحقق من انتصارات في ميادين محاربة الاستعمار والوحدة العربية، والتصدي لإسرائيل .. الخ.

وربما يرى البعض أن فصل في البدء جاء الأمريكان كان أجدر لو أخر إلى نهاية الكتاب على أساس أنه النتيجة التي تثبتها هذه الدراسة، ففيه نتحدث عن علاقة الأمريكان بحركة 23 يوليو، ومن ثم فلابد أن نمهد للقارئ، حتى يصل إلى الاقتناع بما ندعيه عبر الحقائق والتحليلات لتاريخ الناصرية ومواقفها والتي كشفنا فيها مدى التزوير الذي تعرض له هذا التاريخ.

ولكنني رأيت أن أبدأ به فصول الكتاب حتى وإن صدمت القارئ، وحجتي في ذلك أنني لم أستهدف أبدا إثبات تهمة التآمر بين الناصرية والأمريكان ، حتى يمكن أن يكون ذلك هو عبرة الكتاب ونتيجته المنطقية.

لا ليس هذا هدفي ولا هو بالهدف الذي يستحق أن يقتصر عليه الجهد، وأنا أكرر ما قلته في أكثر من موضع، إنه ليس من أهدافي أن أسيء إلى عبد الناصر أو أن أدينه بتهمة ما .

تماما كما لم يكن بيني وبين الشريف حسين تأثر شخصي ولا مصلحة ممكنة أو ممنوعة، والرجل قد مات قبل أن أولد، إنما أردت بتحليل العلاقة بين ما أسموه بالثورة العربية الكبرى، والمخابرات البريطانية إلقاء الضوء على ما تولد عن هذه العلاقة وترتب عليها من نتائج ما زالت أمتنا تعانى آثارها إلى اليوم، كذلك أردت بكشف العلاقة بين حركة 23 يوليو والمخابرات الأمريكية ،أن أكشف للشعب العربي التاريخ السري الذي أشار إليه رجل المخابرات ألأمريكية ومدير شئون ثورة 23 يوليو عندما قال :ط إن المؤرخين والدارسين الذين لا تتاح لهم معرفة التاريخ السري للأحداث، لا يمكنهم أن يفسروا مثلا لماذا تجنب عبد الناصر الحرب مع إسرائيل في ظروف كان النصر فيها محتملا بينما قاد بلاده إلى حرب محتومة الخسارة".

وهذا الجهل بالتاريخ السري، أوقع البعض في تفسيرات مجنونة مثل اتهام عبد الناصر بأنه عميل إسرائيل ، أو أمه يهودية"..

إن سلوك عبد الناصر والأحداث التي مرت، والمواقف التي تبدو كالألغاز، والتي تجعل بعض الناصريين " المخلصين" يرفعون أيديهم في حيرة العاجز، يطرحون السؤال ويعترفون باستحالة الإجابة عليه في إطار المنطق المفترض للناصرية. كل هذا لا يمكن فهمه بدون معرفة " مفتاح" شخصية عبد الناصر، بدون الاطلاع على التاريخ السري للناصرية، بدون اكتشاف المعامل"س" الذي به وحده يمكن حل المعادلات المجهولة في الحقبة الناصرية..

والمعامل"س" هو تلك العلاقة التي انعقدت بين مجموعة جمال عبد الناصر في تنظيم السادات من جهة، وبين المخابرات ألأمريكية من جهة أخرى، عشية الثورة وبعد نجاحها وربما إلى عام 1964- 1965.

وهكذا كان من الطبيعي والمنطقي أن نبدأ الفصل حتى ولو شكل ذلك صدمة للقارئ، بل ربما دفع البعض، ممن يخشون الحقيقة، فيبغضونها إلى التوقف عن متابعة بقية الفصول.. لأننا نبحث عن تفسير لا عن إدانة، ولا يمكن فهم مواقف الرئيس عبد الناصر من السودان والجلاء والعدوان الثلاثي وإسرائيل وصفقة السلاح إلا على ضوء هذه العلاقة..

لذا فضلنا أن نطرح التفسير أولا ثم نستخدمه في تحليل الأحداث، فتتأكد صحته مرتين مرة كحقيقة موضوعية، ومرة بتطابقه مع النظرية العامة.. تماما كما أمكن اكتشاف بعض الكواكب بالحساب، ثم تبثث صحة الاستنتاج بتقدم آلات الرصد، مع الفارق في حالتنا، هو أننا اتبعنا الأسلوب العكسي أي رأينا بالدليل الحسي علاقة الثورة بالأمريكان فلما استخدمنا هذه العلاقة في تفسير الأحداث، تأكدت صحتها.. لأنها قدمت التفسير المعقول.

ويجدر أن نؤكد هنا ما أكدناه في فصول الكتاب، من أن تنظيم السادات كان في مجموعه تنظيما مصريا وطنيا خالصا، نشأ من دوافع مصرية، وبنوايا وطنية صادقة وأن غالبيته العظمى لم تعرف لا وقتها ، وربما إلى الآن ، هذه الصفقة التي عقدت مع المخابرات الأمريكية ، بل إننا نذهب إلى أن عددا من أعضاء مجلس الثورة لم تكن لهم معرفة بذلك.

وقد أشرنا لذلك في غير هذا الموضع.. ولكننا نرجح هنا أنه لا يوسف صديق ولا البغدادي ولا حسين الشافعي، ولا رشاد مهنا ولا كمال الدين حسين ، كان لهم علم بذلك، كما نقطع أن خالد محيى الدين لم يشترك فيها.

أما أنه أحس بها أو لم يحس، فتلك قضية لا نجزم فيها كذلك تعتقد أن صلاح سالم اكتشفها مبكرا وفى خلال أزمته في السودان وحاول أن يوازنها بعلاقة مع الروس فاحترق.. وأن جمال عبد الناصر وعامر وزكريا وأنور كانوا على علم بها منذ البداية، وإن كان " أنور" قد بقى بعيدا، سواء عن ذكاء منه، أو خوفا منه أو إهمالا لشأنه.. يضاف إليهم في حدود ما وصلنا إليه- على صبري وحسن التهامي.. غير أن على صبري قصة أخرى تماما.. إذ نعتقد أن له دورا أخطر من ذلك.

كما نؤكد هنا أن جمال عبد الناصر لم يكن عميلا للأمريكان بل كما قال مايلز كوبلاند المسئول من قبل السى آى ايه عن مصر وعبد الناصر في الفترة من 1953- 1955 " ولو أن كرميت روزفلت والمستشارين الذين بعثهم إلى مصر ستيف مييد.. وجيمس ايكلبرجر، وبول ليبرجر، لم يكونوا يديرون عبد الناصر بأكثر مما يسيطر عليه الروس اليوم.. إلا أن تلاقى أفكارهم مع أفكاره، جعل فلسفته تلقى عطفهم وتأييدهم، ومن ثم فإن ما فعله عبد الناصر بصرف النظر عن موافقة الغربيين أو عدم موافقتهم، فهذا لا يهم إزاء حقيقة أن هذا الذي فعله قد نال تأييد فريق من الغربيين لا شك في إخلاصهم المطلق لمصالح بلادهم، وأن هؤلاء الذين أيدوا عبد الناصر كانت توجههم المبادئ المقبولة في الغرب".

إنها لعبة شديدة التعقيد، أراد عبد الناصر أن يوظف الولايات المتحدة لخدمة أهدافه، التي كانت بلا شك وطنية في جوهرها شريفة في مقصدها ولكنه أخطأ أهدافه وخسر لسبب بسيط هو عد التكافؤ بين اللاعبين.. وهذه هي العبرة التي نهدف إلى استخلاصها وتقديمها للمشتغلين بالسياسة والذين سيشتغلون بها يوما ما.. أنه لا يمكن أن تنجز ثورة " بمؤامرة " وأنه لا يمكن أن تتحقق مصالح الشعوب من خلال التعاون مع أعرق الاستعماريات المتعارضة المصالح والمواقف مع الأمة العربية وخاصة منذ سيطرة إسرائيل على القرار السياسي في الولايات المتحدة.

إن هذه الصلة التي بدت في البداية صحية وضرورية وحققت نتائج باهرة.. مثل النجاح المدهش في سهولتهن ومثل شل القوات البريطانية ومنعها من التدخل، ثم إجبار بريطانيا العظمى على قبول الانسحاب من السودان، ثم خلع محمد نجيب وتثبيت ناصر ثم إحباط الغزو البريطاني - الفرنسي ..

وطرح عبد الناصر زعيما للقومية العربية .. بل والمساعدة في تحرير الوطن العربي من الاستعمارين البريطاني والفرنسي.. إلا أن هذه العلاقة أو الحبل السري بين الناصرية والمخابرات الأمريكية ، كان يدمر في الجذور بقدر ما يبهج الوقتية، وخاصة فيما يتعلق بالصدام العربي – الاسرائيلى ، والوحدة العربية والبناء الحقيقي لقدرة مصر الذاتية. ففي هذه الميادين عملت هذه العلاقة على تدمير ما كان قائما، وقادتنا إلى الإفلاس المطلق في الحقول الثلاثة، فقد خرجت إسرائيل من المواجهة الإسرائيلية- الناصرية بأعظم نصر تحقق في أي صدام من نوعه، منذ انهيار الإمبراطورية البيزنطية أمام العرب.. ودمرت أسس الوحدة العربية، وتحولت من إمكانية قبل ظهور ناصر إلى مستحيل عند وفاته وإلى اليوم .. كذلك تدهور مصر من مكانة الدولة الأولى في الشرق الأوسط في كل شيء إلى .. ما نعرفه ..

وهذا السر الخفي هو الذي جعل بعض تصرفات النظام الناصري تبدو وكأنها تصدر من جهة إسرائيلية إذ لا شك في أنها كانت من حيث نتائجها لمصلحة إسرائيل مما جعل البعض كما قلنا يتخبط فيضع تفسيرا " بروتوكوليا" لها.

ولا ننكر أن المخابرات الإسرائيلية كان لها وجودها في بعض المراكز الحساسة في النظام الناصري، بدليل بعض ما حدث في 1967.

ولكن التفسير الذي وصلنا إليه عن هذه التأثيرات الإسرائيلية على القرار المصري، هو أنها تمت عبر المخابرات الأمريكية .

وما كانت تتمتع به هذه المخابرات من ثقة الزعيم.

فإذا أضفنا إلى ذلك الحقيقة المعروفة وهى أن المخابرات الأمريكية هي أكثر الأجهزة الأمريكية تعرضا لتأثير " الموساد" أو المخابرات الإسرائيلية، أمكننا أن نتوقع أن تكون بعض النصائح التي قدمتها المخابرات السى آى ايه ـ والتي أربكت القيادة الناصرية وأسقطتها في أخطاء أجادت إسرائيل، الاستفادة منها، يمكن أن نتوقع أنها موعز بها من عناصر الموساد داخل المخابرات الأمريكية ن ومن استرعى الذئب ظلم..

واعترف أن العنصر الاسرائيلى قد ألح على إلحاحا شديدا في هذه الدراسة عندما كنت أجد معظم الخيوط والأحداث والقرارات الناصرية تصب في قناة واحدة:" مصلحة إسرائيل " .

حتى فكرت أن أجعل عنوان الكتاب "كلمات على قاعدة التمثال" في إسرائيل ن انطلاقا من حقيقة أنه إذا روجعت خريطة المنطقة، على ضوء ما حققته من مكاسب في العهد الناصري، فستفوز إسرائيل بكل الجوائز من الميدالية الذهبية إلى الخشبية.

فخطر لي أن تكون فصول هذه الدراسة هي الحيثيات لإقامة التمثال أو الكلمات أو المنجزات التي تنقش على قاعدته.

ولكن عندما تعمقت في الدراسة تأكد لي صدق وطنية ومصرية عبد الناصر وأنه فعلا أحس بخطر إسرائيل ابتداء من عام 1954 ولكن علاقته بالمخابرات الأمريكية وما أثاروه في نفسه من خوف، وما ربطوه من تعهدات، وما أوهموه من وعود بتسويات .

كل هذا أفسد فكره وشل يده وأجبره على شن معارك واتخذا قرارات، كانت كلها- للأسف- في صالح إسرائيل ومعظمها لم يكن يهدف إلا إلى تجنب المواجهة الحقيقية، ومحاولة كسب الوقت حتى يأتي الحل الأمريكي.

أما كيف فسدت علاقة عبد الناصر بالأمريكان ولماذا انهارت إستراتيجيته في التعاون المصري – الأمريكي، والذي كان يحمل إمكانية- ولو نظريا- لتحجيم الدعم الأمريكي لإسرائيل ومن ثم ترجيح كفة القوى المحلية في المنطقة في الصراع العربي- الاسرائيلى .. فالسبب في اعتقادي هو أيضا تلك الصلة الخفية مع الأمريكان.

فلو كانت هذه الصلة إستراتيجية معلنة، ومتفقا عليها من جانب القوى الوطنية في مصر أو حتى بعض هذه القوى شبهتها تطارد الزعامة الناصرية حتى فيما بينها وبين نفسها، والتي كانت تحتاج باستمرار إلى " المهرجان" ضد أمريكا في العلن، لإخفاء ما يجرى في الخفاء، وللحصول على الشعبية المطلوبة كشرط استثمار والاستفادة من هذه العلاقة، وهو أمر لا يعرفه إلا عدد محدود من الأمريكان لا يمكنهم التحكم في الرأي العام الأمريكي بمؤسساته والدستورية والديمقراطية والصهيونية.

وإذا كان زكريا محيى الدين، قد اعترف أن " اللعبة" كانت محتومة الفشل وفسر ذلك بالمؤسسات الأمريكية وعصبية عبد الناصر فإننا نفسر قوله- وهو الذي اعتاد ألا يتكلم فإذا نطق لا يكلم الناس إلا رمزا – نقول إنه يقصد التأثير اليهودي على الأجهزة الأمريكية ن وبالتالي صعوبة أو استحالة تأييدها لمصر أو لبد عربي إلا في إطار ما يخدم إسرائيل .

وأيضا صراع هذه الأجهزة وعدم " انضباطها" من وجهة نظر أعتى وزير داخلية حكم مصر منذ قراقوش مع الفارق ومن ثم لا يمكن التحكم في تصريحات أعضاء الكونجرس ولا تصرفات المسئولين مما يثير " عصبية" عبد الناصر وبالتالي يقع في الاستفزاز، فيرد عليه باستفزاز أشد..

فهو يقول:" إن مصادقة الأمريكيين هو أمر قريب من المستحيل لأن البناء السياسي لها يؤثر على إستراتيجيتها ويدلل على ذلك بأنه خلال فترة الصداقة التي قامت بين مصر والولايات المتحدة في السنوات الأولى للثورة : خصوصا إذا كنا نستجيب بسرعة للأحداث وتكون انفعالاتنا هي أساس سياستنا في جميع أرجاء العالم والرد عليه بأكثر الصور علانية، على أساس أن هذا التطرف في " التصريحات " يخفى العلاقة ويساعد على القيام " بالدور الايجابي البناء".

ثم تطورت الأمور فأصبح هذا هو مورد مصر الأساسي، عندما كفت عن الإنتاج والتصدير ، ولم يبق أمامنا من مصدر للعملة الصعبة إلا " المهرجان" أو السيرك المفتوح لكسب متفرجين أو رأى عام عالمي، ومن ثم نبتز بهم الدول الكبرى لتدفع ثمن سكوتنا أو كما كتب هيكل في عام 1964:" إن سياسة مصر الخارجية هي استثمارات لأنها تعود بفوائد عملية وسياسية لمصر في شكل مساعدات اقتصادية من أمريكا وعسكرية من روسيا" ولم يكن أمام النظام الناصري من حل آخر، بعدما رفض طريق الثورة الحقيقية وبناء القوة الذاتية معتمدا على طاقات المصريين وفى ظل وحدة عربية حقيقية تجمع الإمكانات العربية في اتجاه واحد بناء..

ولأنه صدق ما قاله له الخبراء الأمريكان:" حتى لو حصلت على البليون دولار التي تحتاجها لخطتك الخمسية، وحتى لو نجحت هذه الخطة حرفيا، وحتى لو عمل كل مصري بأقصى طاقته، وتحت إشراف أفضل الخبراء الأجانب، فإن أفضل ما تتوقعه هو منع هذا البلد من التقهقر للوراء، لن تقدم لهم لقمة عيش أفضل ولا تعليما أفضل ولا رفاهية للشعب لا شيء أفضل لأن زيادة النسل تأكل الفرق".

ووصل عجز مصر التجاري إلى 400 مليون دولار سنويا وهبط الاحتياطي إلى 40 مليون دولار من الغطاء الذهبي و46 مليونا عملة صعبة في البيانات الرسمية – بينما لم يكن الموجود الحقيقي يزيد على ثلاثة ملايين دولار وفى 1966 جاء في تقرير أمريكي أن مصر لو باعت ذهبها كله لما كفى لدفع استيراد شهر واحد..

وقد أشار " مصطفى أمين" في رسالته لعبد الناصر إلى اقتناع الرئيس المصري بسياسة " المهرجان" أو لعب دور الدولة الكبرى لكي تدفع لنا الدول الكبرى بصحيح وذلك عندما قال : إن الأمريكي قال له" لو اهتم جمال عبد الناصر بشئون بلده الداخلية فقط وابتعد عن موضوعات التدخل في الكونغو والعراق واليمن فإن الحكومة الأمريكية مستعدة لأن تساعد مصر ماليا مساعدات ضخمة، فقلت له على لسان سيادتكم : إنكم مقتنعون بأنه لولا نفوذنا الخارجي لما اهتمت أمريكا بنا ولما أعطتنا دولارا واحدا.

ولو أننا بقينا على حالنا في الداخل ما استطعنا أن نتحول إلى دولة كبيرة ولا أن نحصل على برنامج واسع من المعونة وذلك بمواقفنا في الخارج.

وهكذا فحتى عام 1965 كانت أمريكا تقدم ثمانين بالمائة من الخبز الذي يأكله المصريون أو الرغيف المدعوم، ودخلت مصر في الحلقة المفرغة التي أشار إليها " مايلز كوبلاند" عندما قال:" وكان استمرار المهرجان ضروريا للحصول على الدعم كما أصبح الحصول على الدعم ضروريا لتمويل المهرجان، يعنى لابد أن تتدخل مصر في الكونغو لتحصل على دعم من أمريكا وروسيا ولكن جانبا مهما من الدعم يتفق على حملة الكونغو وهكذا من الكونغو للعراق لسوريا للجزائر .. للمغرب.. لغانا.. لليمن حتى جفت الاعتمادات وانفض المهرجان.. ولم يبق إلا الإفلاس.

إن رجال المخابرات الأمريكية الذين اتصلوا بتنظيم السادات وتعاونوا مع مجموعة عبد الناصر كانت تحركهم ثلاثة أهداف:

1- منع قيام ثورة راديكالية حقيقية في مصر.
2- حماية إسرائيل .
3- تصفية الإمبراطوريتين ، البريطانية والفرنسية في العالم العربي، وإحلال النفوذ الأمريكي وليس الروسي محلهما.

ولا جدال في أنهم حققوا الهدف الأول والثاني بتفوق ولكن الجدل حول الهدف الثالث، لما يبدو لبعض المؤرخين وكأن النفوذ الروسي قد دخل المنطقة بفضل الناصرية، وهذا صحيح جزئيا ولكن يجب ألا ننسى عنصر" الوفاق" بين الروس والأمريكان الذي ظهر في عنفوان الناصرية، وأن الصدام الحقيقي في المنطقة كان بين أمريكا من جهة وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى، وأن الأمريكان اكتفوا بتدمير كل القوى التي يمكن أن تحول المنطقة إلى دول شيوعية ترتبط إلى الأبد مع الاتحاد السوفيتي وقد صفى عبد الناصر الحركة الشيوعية في العالم العربي على نحو فاق أحلام أشد الأمريكيين عداوة للشيوعية فلم تقم للشيوعيين قائمة إلى يومنا هذا ..

وتكتيكات لعبة ألأمم، فرضت على الإنجليز أو الأمريكان ، الاستعانة بالدب الروسي نكاية في النسر الأمريكي أو الأسد البريطاني، مع اطمئنان كل من المتصارعين الاستعماريين، إلى أن التخلص من الدب الروسي سهل وممكن في اللحظة المناسبة، كما حدث في حالة مصر والصومال والعراق على سبيل المثال.. وسنرى خلال هذه الدراسة أن أهم خطوة في العلاقات المصرية- الروسية- صفقة السلاح – كانت بعلم الأمريكان، إن لم نقل تشجيعهم كما تعاون العملاقان إلى أقصى إلى أقصى حد ضد محاولة العودة البريطانية- عدوان 1956-.

ويجدر أن نشير هنا إلى تجربة حدثت في العالم العربي، وللأسف فإن نفس التزوير والرغبة في خداع النفس، لربما تجنب قادة حركة 23 يوليو الوقوع في نفس الخطأ .. ولربما تجنبوا أن يأتي مؤرخ فيطلق على حركة 23 يوليو اسم " ثورة كيرميت روزفلت" كما أطلقنا نحن على ثورة الشريف حسين أو " الثورة العربية الكبرى" لقب " ثورة لورنس" .

ففي الحرب العالمية الأولى كانت بريطانيا تحتل معظم العالم العربي، ومصر والسودان وتعتبر الجزيرة العربية في منطقة نفوذها، وكان العدو هو تركيا وهى أيضا الإمبراطورية الآفلة التي تستعد بريطانيا لوراثتها وكانت بريطانيا تخشى أن ينضم العرب للأتراك تحت تأثير الرابطة الدينية ، أو حتى بالحس السياسي الذي كشف لهم ما تدبره لهم بريطانيا وفرنسا.

ولذلك قامت المخابرات البريطانية بتدبير ما وصف بعد ذلك بالحدث الفريد من نوعه، وهو الاتفاق مع الشريف حسين على إعلان " الثورة العربية" ضد دولة الخلافة.. وبقية القصة معروفة، إذ كانت هذه "الثورة " أحد العوامل في تمكين الاستعمارين: البريطاني والفرنسي في المنطقة فتقاسما الوطن العربي كأنه فريسة بلا حول ولا طول.. وأعطيت فلسطين لليهود بلا اعتراض جدي من الثوار.

وسيجد المؤرخ تشابها غريبا في أحداث الثورتين الشريفية والناصرية، وبعض المؤرخين يسلكهما في خيط واحد في سجل تشريفات القومية العربية .. سيجد نفس اللامبالاة بالصهيونية في البداية، بل والأمل في التصالح معها.. وسيجد هذه العلاقة "العاتبة" و" المتوقعة" .. " الشاكية".. "المتوترة " .. والتي ستنتهي بهزيمة عسكرية فادحة هنا وهناك، وفى المرتين يتساءل المؤرخ.. لماذا اندفع الشريف حسين إلى محاربة عدو أقوى منه وأقدر على إنزال الهزيمة الساحقة به، وفق كل المعلومات المتاحة.

وذلك في عام 1926 ضد السعوديين ولماذا رفض عبد الناصر في 1956 تصديق جميع التحذيرات التي أكدت له نية العدوان، ثم انساق إلى هزيمة 1967 بعد نصف قرن من تورط الشريف حسين؟..

ويستحيل الوصول إلى جواب مقنع، إذا ما أصر المؤرخ على إغفال هذا العنصر في الحالتين، الارتباط مع المخابرات الأمريكية ، ومن ثم تصور استحالة تخلى الإنجليز عنه، وفى الحالة الثانية الارتباط مع المخابرات الأمريكية ن والظن بأن الولايات المتحدة ستتقدم بحل آخر لحظة ولن تسمح بقيام الحرب.

أوجه كثيرة للشبه يمكن أن يجدها المؤرخ أو حتى القارئ الذكي.. بين تدبير الإنجليز، إزاحة الترك " بثورة" عربية كبرى وبين تنصيب أمريكا لعبد الناصر زعيما للثورة العربية مرة أخرى لإزاحة الإنجليز.. بين أعمدة الحكمة السبعة للورنس وبين لعبة ألأمم لكوبلاند .. وقد أشرنا بالتفصيل لثورة لورنس في كتابنا " القومية والغزو الفكري " الصادر عام 1966 .. وكذلك في كتابنا " السعوديون والحل الاسلامى" الصادر عام 1980.. ويمكن لمن شاء الرجوع إليهما.

وبعد.. فقد كانت في مصر ثورة حقيقية وطنية تجمعت خلال الحرب العالمية الثانية، وتفجرت بقرار الوفد التاريخي بإلغاء المعاهدة.. وكان تنظيم السادات جزءا من هذه الثورة، وكان عبد الناصر وطنيا مصريا يتطلع لإنجاز هذه الثورة، ولكنه بطبيعته الانطوائية، فضل الانقلاب العسكري على الثورة، وبطبيعة الشك فئ نفسه والتقدير الزائد لأهمية سلامته الشخصية أراد أن يؤمن هذا الانقلاب بالاتفاق مع المخابرات الأمريكية وبتعطشه الزائد للسلطة واقتناعه بأن مصير مصر والأمة العربية رهين باستمراره في هذه السلطة مهما كان الثمن.. حدث ما حدث..

مما نتلو عليك بعضه.

الفصل الأول: التاريخ البلاستيك وهيكل..

عندما يكتب التاريخ بهدف إخفاء جريمة تزوير في أوراق وطنية..

مؤرخ الناصرية يشكو فقدان المصداقية – فهو كما يقال – يقتل القتيل ويمشى في جنازته ذلك أنه كمسئول عن الإعلام الناصري الذي وضع أسسه خبراء ألمان اختارتهم واستأجرتهم المخابرات الأمريكية لإنشاء وتطوير هذا الإعلام الناصري، كان من الطبيعي أن يتسلح نجم هذا الإعلام بشعار جوبلز:" اكذب ثم اكذب واكذب أكثر.. وأخيرا سيضطر الناس لتصديقك"..

وهذا طبعا يتطلب دعم الكذب بالإرهاب ومنع المعلومات عن الناس، وحظر أي تشكك فضلا عن مناقشة ما يقدمه العلام الرسمي من أكاذيب، تحت طائلة السجن والتعذيب وأحيانا الموت، عندئذ تصبح الأكذوبة هي وحدها المتاحة، ويصبح قبولها أو رفضها سيان، لأنه بدون المعرفة لا يوجد اختيار وبدون اختيار لا حرية وإذا انعدمت الحرية فلا حقيقة ولا تاريخ.

وهكذا كان الإعلام الناصري، وهيكل فارسه يكذب بلا حرج ولا حياء ويزيف الواقعة، كيفما شاء وعدة مرات، وفقا لتطورات مواقف السلطة، على نحو يتطابق حرفيا مع ما جاء في رواية" جورج أوريل" ( العالم سنة 1984) حيث تقوم الدولة أو " الأخ الأكبر" كما سمى الديكتاتور يقوم التاريخ مرة عدة سنوات، فينكر ما كان مفروضا كحقيقة ثابتة لعدة سنوات ، ويفرض من جديد ما كان مرفوضا كأكاذيب..

وإذا كنت- شخصيا- قد تعرضت لكثير من وقائع تزوير التاريخ التحى ارتكبها هيكل، وذلك في كتبي ومقالاتي خلال عشرين عاما منذ أن امتلكت حرية النشر بخروجي من مصر عام 1968 وإذا كان كتابي هذا ، يدور أساسا حول تزوير هيكل للتاريخ، إلا أنني أردت أن أفتح شهية القارئ أو قل له صورة من أكاذيب هيكل، في هذا الفصل باستعراض بعض الأمثلة للاستهتار الذي يتعامل به هيكل مع التاريخ والقراء، من خلال المقارنة بين وقائع محددة، ذكرها هو نفسه مرة في " ملفات السويس" الصادر باللغة العربية ثم عاد فأرودها بصورة مخالفة وذلك في " نفس الكتاب" – كما يؤكد هو- الذي صدر بالإنجليزية تحت عنوان " السويس : قطع ذيل الأسد" .. مع الإشارة – أحيانا- إلى الخلاف بين " ملفات السويس " العربية وأصلها الذي صدر منذ عشر سنوات باسم " قصة السويس" .

و" ملفات السويس " و" قطع ذيل الأسد" صدرا في وقت واحد، فلا مجال للحديث عن ضعف الذاكرة أو ظهور حقائق جديدة وسيرى القارئ أن الطبعة العربية صدرت في 928 صفحة من القطع الكبير أما الطبعة الإنجليزية فلم تتجاوز الـ 242 صفحة أي الربع تقريبا.. وقد اعتذر المؤلف بأنه اضطر للإطالة في الطبعة العربية لأن بعض التفاصيل لا تهم القارئ الأجنبي، ولأن انعدام المصداقية في العالم العربي، فرض عليه التوضيح بالتفاصيل، وإذا وقع حذف أو اختصار فسيكون من نصيب طبعة" التصدير" ولكننا سنثبت أو نكتشف معا العكس تماما فإن الطبعة العربية- على طولها- ها التي سقطت منها وقائع وحقائق في غاية الأهمية، وأنها طالت بشقشقة اللسان والتهريج ببطولات كاذبة استحى هو أن يعرضها للقارئ الأجنبي أو اضطر ناشره الإنجليزي إلى حذفها تمسكا بشرف الكلمة ، واحتراما لهذا القارئ الأجنبي.. الذي كان عند حسن ظنهما فاستقبل هذه الطبعة ببرود لم يجابه به أي كتاب لهيكل ذاته..

أما عن الخلاف الواضح بين الطبعتين، فلا مجال للاعتذار أو التبرير بخطأ المترجمين أو غشهم لسببين:

أن الاختلاف كما سنرى هو في وقائع وليس مجرد صيغ، وأن الخلاف دائما في خدمة الهدف أو التهمة التي نتهمه بها، وهى محاولة تضليل القارئ العربي بإخفاء حقائق العهد الناصري وخاصة فيما يثبت العلاقة بين عبد الناصر والمخابرات الأمريكية ن أو الترويج للولايات المتحدة والفكر الصهيوني.. ومن ثم فالمصلحة واضحة في الاختلاف مما يؤكد تعمد التزوير.

أما السبب الثاني فهو اعترافه بأنه هو الذي ترجم:

" ترجمت الكتاب الأصلي بنفسي إلى اللغة العربية إلا أنى توسعت في التفصيل فهناك كثير مما يهتم له القارئ العرب بدرجة أكبر بالقطع من القارئ الإنجليزي أو الأمريكي أو الفر نسى أو الألماني أو الياباني .. إلى آخره".

ومن ثم فمن حقنا إزاء ما تعمد إخفاءه الطبعة العربية أن نقول عن هذه الطبعة إنها كتبت للمغفلين للرعايا المتخلفين، المحظور عليهم المعرفة.. أو النقد، أما الطبعة الإفرنجية فكتبت للمتقدمين الذين يعرفون والذين يحترمهم الناشر فلا يسمح بإدخال الغفلة عليهم بالقصص التافهة المفضوحة التلفيق.

لقد ظن أن أحدا لن يتهم بمراجعة النسختين وكشف ما بهما من تناقض ، فقراؤه إما جاهل يكتفي بترديد : الله الله وهو يغنى له : اضرب .. اضرب.. أو مهاتر يهاجمه بلا سند أو دراسة .. أو لعله اطمأن إلى حالة الكسل العقلي التي تسيطر على المثقفين مما جعل مثله يتصدر.. ونسى أننا من المدرسة القديمة جدا في احترام شرف الكلمة، لا نتصيد ولا نتصدر لأمر دون دراسته، ومهما كانت كتاباته كريهة على نفوسنا، فلا يجوز أن نتقدمها قبل قراءة واعية مدققة لها.. وهكذا شاء حظه أن نقرأ الكتابين بل الثلاثة..

ومنذ البداية نلاحظ الخلاف بين أسباب إقدامه على التأليف ، ففي طبعة المتخلفين نجد حديثا مما يطرب له هؤلاء المنبهرون، وتتغنى به جوقة الناصريين ، فهو يحدثنا عن حشد من الناشرين من شتى الأجناس- يذكرنا " بصدى عالمي لخطاب الرئيس" – يحدثنا عن تجمع ناشريه من الإنجليز والفرنسيين والأمريكيين والألمان واليابانيين يطالبونه بأن يخرج للناس كتابا عن السويس " لا يضلون بعده" والمضحك أن ناشريه يكررون نفس الحكاية مرة كل عشر سنوات، فقد روى نفس القصة في مقدمة كتابه عن " قصة السويس" ونفس الحشد من الناشرين يعاتبونه لأن الذكرى العشرين للسويس ستمر وهو لا يكتب عنها..

وتمر عشر سنوات أخرى لا هو يتذكر ولا الناشرون ينسون بل يأتون بجمعهم مرة أخرى ويصرخون: " كيف تأتى الذكرى الثلاثون.. وأنت .. الخ".

أما في الكتاب المنشور بلغة هؤلاء الناشرين، فقد رأى أنه لا يستحسن الكذب عليهم بمثل ما يقال للعرب، وهكذا اختفت تماما حكاية مظاهرة الناشرين الذين نبهوه إلى العيد الثلاثين للسويس، الذي كان قد نسيه فعل الزوج غير الأوفى..

في الطبعة الإنجليزية نجد حكاية أخرى تماما، فهو الذي تذكر وهو يسأل نفسه ويجيب : " لماذا يكتب كتابا عن السويس بعد مرور كل هذا الوقت؟ ويجيب: لأن كل ما كتب كان من وجهة النظر الغربية.. ولكن الجانب المصري من الحكاية لم يوثق".

هنا في بلاد العرب لماذا لا يكتب وهناك لماذا يكتب ؟ وحتى هذه كذبة .. لأننا نعرف أنه سبق ونشر كتابا – منذ عشر سنوات- باسم " قصة السويس" راج وذاع على حد قوله – حتى طبع في سبع لغات.. ولما كنا قد ناقشنا ذلك الكتاب وفندناه في كتابنا " كلمتي للمغفلين" فقد بدأنا نشك- ونحن من الموسوسين حول دقة ما نكتب- فشككنا .. هل ناقشنا كتابا مزورا لم يؤلفه المذكور.. ثم تذكرنا كذبه وتعوده أن يفعل الشيء أكثر من مرة ويفتخر كل مرة أو يعتذر بأنها أول مرة وقلنا: إنه ربما بعد ما فندنا كتابه هذا وعريناه تبرأ منه فعل والد السوء.

ولكن دعنا من هذا ولننتقل إلى ما هو وأخطر بل إلى ما نعتبره فصل الخطاب، وفعلته التي قطعت قول كل خطيب ولولا أن بني إسرائيل لا يؤمنون بآية واحدة، لكان في تلك ما يكفينا ويغنينا عن تأليف كتاب..

ذلك أن الناشر الافرنجى أو المؤلف أو هما معا، لخصا مغزى وأهمية رواية هيكل لحرب السويس أو بمعنى أصح لقصة الناصرية من 1952 إلى 1956 في هذه السطور:" إن إتاحة أوراق عبد الناصر الخاصة لهيكل وكذا الأرشيف المصري الرسمي، مكنه من دعم ذكرياته بالعديد من الوثائق.

ولكن الأهمية الحقيقية لهذا الكتاب تكمن في أنه لأول مرة يمكننا من رصد أحداث معروفة في ضوء جديد تماما، فهي ليست مجرد كارثة نهاية إمبراطورية .

ولكن كفصل من العملية التي حاولت بها الولايات المتحدة استبدال الاستعمار القديم بنوع جديد من الهيمنة، وهى ليست مجرد حدث تطويه كتب التاريخ بل فصل في دراما ما زالت تجرى أحداثها".

ولأن المصداقية انعدمت، بكتابات أمثاله، فإننا نثبت النص الإنجليزي حرفيا كما جاء على غلاف الكتاب أو " القميص كما يسميه الناشرون العرب: "...................................................."

الناصرية ليست إلا فصل من قصة إحلال أمريكا سيطرتها أو هيمنتها محل الاستعمار القديم..

بربكم .. هل قلنا أكثر من هذا .. ؟

ألم يكن قراء هيكل من الناصريين يتوقعون أن يكون هدف كتابه هو العكس تماما،أي : " إثبات أن الناصرية لم تكن فصلا من ملحمة الدخول الأمريكي بل الرفض الوطني للاستعمارين من أجل الاستقلال والكيان الذاتي.. إلى آخر ما تعودنا سماعه وقراءته في نشرات الناصريين؟
إذا كان قد جاء أخيرا ليثبت ما أجهدنا أنفسنا في إثباته، وما جلب علينا المتاعب والتهديدات.. فلا أقل من أن يشير إلى جهدنا في تنويره.. أما إذا كان الناشر الإنجليزي قد وضع هذه العبارة من وراء ظهر هيكل معبرا عما فهمه من وقائع وسرد هيكلن فقد أحسن الفهم وحتى لو كان لنا فضل السبق، فإن الفرنجى برنجى..

واحتمال ثالث هو أن يكون هيكل قد عرف حقيقة أن الناصرية مجرد إفراز للتناقض الأمريكي البريطاني، وأداة أمريكا في الحلول محل بريطانيا ، عرف هذه الحقيقة طول الوقت وأخفاها على المصريين والعرب بينما لم يستطع كتمانها على القراء من الفرنجة ، ومن ثم فهذا هو التدليس بل وتفرقة عنصرية لا نرضاها، ودعنا من رضا التاريخ وثقة المؤرخين.. أو شرف التأليف .. ولا ندرى كيف استنتج بعض الدجاج في بلادنا أن ملفات هيكل أثبتت براءة ثورة يوليو من الدم والمصالح الأمريكية بينما استنتج الناشر الإنجليزي أن ناصر وناصريته وأحداثه وبطولاته وانتصاراته وحروبه وشغبه- كما رواها هيكل- ليست إلا مجرد فصل في مسرحية :" مات الملك البريطاني.. عاش الرئيس الأمريكي" أو بتعبير شكسبيري .. كانت الناصرية هي العبد الذي اغتال به الابن الأمريكي الأب البريطاني العجوز وورث قطيعه ومماليكه.

وأيضا اختار الناشر أو المؤلف أو هما معا، كاريكاتيرا من صحيفة ......وكتب تحتها تعليقا يقول:" أمريكا المنتصر الأوحد في المرحلة".

سبحان الله

نحن لن نذهب إلى هذا الحد في الغلو .. بل قلنا إن مصر كسبت أيضا ولو جزئيا.. فيما يتعلق بتأميم القناة على الأقل، ولكن هيكل عندما يتحدث بالإنجليزية عن حرب السويس فهو يقرر أن أمريكا- يالفرحته- هي وحدها التي خرجت منتصرة..
وإذا كان الاعتراف هو سيد الأدلة.. فإن ما جاء على غلاف كتاب هيكل بالإنجليزية هو أوضح وأصرح اعتراف بأمريكية الناصرية من ناحية المنطلق والتحرك والأهداف، وإن كان هذا التخليص لا يثبت أو يشير إلى علاقتها مع المخابرات الأمريكية، ومن ثم يبقى الكثير من القول..
ومرة أخرى فإن حصر الاختلاف المقصود بين النسختين جهد يفوق طاقتنا ويتخطى حاجتنا، حتى لو اقتصرنا على التحوير السياسي وتزييف الوقائع أو تهذيبها أو تلوينها.. فحسبنا إذن استعراض بعض هذه الاختلافات لا بترتيب أهميتها وإنما بترتيب ورودها، حتى يتبين القارئ أي أسلوب في التاريخ يعتمده ذلك الشخص، وإلى أي مدى يمكن الاعتماد على روايته..
وبالتالي حقنا بل واجبنا في الشك في دوافعه ومعتنقاته إذ لا يقدم على تزوير التاريخ إلا متهم صاحب مصلحة، هارب من التاريخ مدان من التاريخ.
وقد تعرضنا في بقية فصول الكتاب لنماذج أخرى من تحويره وتبديله لرواياته هو ذاته..

ومن ثم فهذا الفصل ليس إلا فاتحة شهية:

خذ مثلا واقعة لقاء الملك عبد العزيز مع الرئيس روزفلت، وهو اللقاء الذي تجمع المصادر الأمريكية على أنه ترك اكبر الأثر في نفسية الرئيس الأمريكي واقتناعاته أو كما قال روزفلت نفسه: إنه خرج من ساعة قضاها مع عبد العزيز بتأثير ووضح فاق كل ما سأستمع إليه من قبل حول قضية فلسطين ، ونذهب نحن وغيرنا إلى أنه لو عاش روزفلت لربهما اختلف موقف الولايات المتحدة بعض الشيء، هذا إذا كان لاقتناع رئيس البيت الأبيض من دور في السياسة الأمريكية ..
هذا اللقاء يقدمه هيكل في صورتين.. مرة في الطبعة العربية بما يكفل عدم مصادرة الكتاب في المملكة ، وما قد يغرى السعوديين باستخدام مواهبه في تحلية التاريخ.. فالملك في هذه الطبعة منطقي ومفحم في رده على روزفلت :" لماذا لا يعود اليهود إلى بلادهم التي هاجروا منها خوفا من النازي"..
نعم ما دمنا هزمنا النازية فلماذا نحقق هدفها باستبعاد اليهود من أوربا؟ لماذا يستمر طرد أو فرار اليهود؟ لماذا لا يعوضون على حساب دول المحور ؟ ما ذنب فلسطين لتدفع ثمن خطايا الآخرين؟
منطق قوى ومعقول.. وهو بالصدفة ما حدث فعلا وما قاله الملك وما نشرناه نحن وغيرنا عدة مرات بالعربية والأمريكية ..

ثم تأتى المفاجأة ..

ففي النسخة العربية نجد الملك يقول لروزفلت:" إن اليهود والعرب لن يتعاونوا أبدا في فلسطين . والعرب يشعرون بالتهديد المتزايد".

وهذا مشروع وعدل فاليهود والعرب لا يمكن أن يتعاونوا في فلسطين " لأن اليهود يريدون طرد العرب من فلسطين وهناك خطة لشراء الأراضي".

ولكن في الطبعة الأجنبية التي كان أحرى به أن يحسن فيها تقديم الموقف العربي، نجده على العكس من ذلك يشوه الموقف ويسيء إليه عند الألماني والياباني .. إلى آخر قارئيه كما استعرضهم هناك نجده يعرض موقف الملك على هذا النحو" قابل الملك عبد العزيز ظهر اليوم التالي، فتدارسا مشكلة اليهود المشردين في أوربا فأصر الملك على استحالة التعاون بين العرب واليهود في فلسطين أو في أي مكان آخر".

في الطبعة العربية وقف عند فلسطين ، أما في الطبعة الإفرنجية فأضاف " أو في أي مكان آخر".

هنا تشويه مقصود لموقف الملك بل للموقف العربي كله.. فالموقف هنا لا ينبعث من مشكلة فلسطين، ولا هو صراع مشروع لقومية أو شعب يقيم أرضه يراد منه التعاون مع غاز يطمع ويسلب فعلا.. هذه الأرض .. لا.. إنه موقف عنصري عام شامل في كل مكان لأنهم عرب وهم يهود.

هنا تسقط جريمة الغزو الصهيوني فلسطين باعتباره المثير لعداوة العرب ومبرر هذه العداوة.. وتسقط مشروعية الرفض العربي.. باعتباره ينطلق من حقهم في بلادهم..

وهذه هي عبقرية الدعاية السوداء والرمادية التي يحدثنا عنها.. أي فن إضافة نصف سطر ينسف الموقف ويشوه القضية.

في الطبعة الأجنبية يحذف منطق الملك المقنع الذي يطالب فيه بمنع الصهيونية من تنفيذ المخطط المعادى للسامية الذي بدأته النازية، مخطط إخراج اليهود من أوربا.. ومنطق الملك هو المنطق السليم الذي يتهم الصهيونية بأنها مخطط النازية هذا باستمرار فرز اليهود وترحيلهم..

من الذي عدل الرواية ؟ من الذي حور النص؟ .. وأيهما النص؟ وكيف لا يتساءل المثقفون في بلادي : كيف يؤتمن هذا على النصوص والتاريخ؟

وبالمناسبة في الطبعة العربية وبهدف مغازلة السعوديين وتنشيط البيع جاء لقاء عبد العزيز مع روزفلت على مدى خمس صفحات، أما في الطبعة الإفرنجية فقد اختصر إلى نصف صفحة.

ونمضى في المقارنة بين ما قيل للغربيين المتنورين وما أعدته مؤسسة تزييف التاريخ لقرائها بالعربية.. فنقارن بين صفحتي 49 ع و8 خ فنفاجأ بأن الأستاذ قد أتحفنا بنص رسالة الوزير الأمريكي المفوض في مصر عن اللقاء بين فاروق وروزفلت وترجمها مشكورا هو أو مكتب سكرتيرته السابقة المتآمرة على الزعيم بواقع التسجيلات..

ومنح الخطاب رقم 11 في قائمة الوثائق التي ازدان بها الكتاب العربي وطرب لها الأميون.. ومن أجل استرداد المصداقية التي ضاعت إلا أننا نكتشف أنه حتى في الوثائق فإن الأخ الأكبر لا يتورع عن تنقيح التاريخ، بما لا يخدش حياء قرائه القاصرين .. ففي الوثيقة العربية سقط عمدا أهم ما قاله الرئيس الأمريكي للملك فاروق.

الأمر الذي لم يكن بوسعه حذفه من الطبعة الإنجليزية .. أو من يدرى لعله فعل وأضافه الناشر الإنجليزي لتعزيز المصداقية إياها ..

والنص المخفي هو:

" واقترح الرئيس الأمريكي على ملك غير متجاوب، اقترح روزفلت تقسيم الملكيات الكبيرة (مصر) وتسليمها للفلاحين لزراعتها" ( وقد بلغ الحرص على دقة النص أن كلمة فلاحين كتبت هكذا ..لتحديد الطبقة المقصودة بالتوزيع )..
لماذا ضن هيكل على البؤساء من قرائه العرب بهذا النص البالغ الخطورة؟.. رغم التطويل المتعمد في الطبعة العربية والاختصار في الإنجليزية ..لماذا ؟

الجواب معروف: لأنه يعزز حجة القائلين بأن الإصلاح الزراعي هو أصلا ، مطلب أمريكي قديم منذ 13 فبراير 1945 أنى قبل الثورة بسبع سنين .

وهنا نحن في أول لقاء بين أمريكي وملك مصر ، لا يجد الرئيس الأمريكي ما يقترحه على ملك غير متجاوب بل مهتم أكثر بالشكوى من معاملة الإنجليز، لا يجد الأمريكي ما يطلبه إلا الإصلاح الزراعي.. ولكن لأن هذه الحقيقة تعزز حجج خصوم الناصرية فقد استحقت أن تنسخ وفى أول ملزمة.. ولكن هيهات فقد بقى حكمها بل ونصها الافرنجى.

وعندما يكتب التاريخ بهدف إخفاء تهمة فهو لا يكون تاريخا بل شعوذة وتزويرا في مستندات رسمية..

آه ولكن القانون في أجازة

ونفس الهدف ومن نفس المنطلق الذي دفعه لتزوير حجج ومنطق الملك عبد العزيز نجده يزور أيضا حقائق لمواجهة العربية الإسرائيلية الأولى.. وتفصيل ذلك أنه إذا كان التحليل السليم لحرب فلسطين الأولى، لا يغفل أنها كانت – في أحد جوانبها- مظهرا للصراع الأنجلو- أمريكي إلا أن هذا لا ينكر جوهرها، وهو الصدام بين القومية العربية والامبريالية الصهيونية – الأمريكية ، بين الشعب الفلسطيني والغزو الاستيطاني اليهودي.
أما هذا الصنف من مزوري التاريخ فيغفل- عن عمد- جوهر الصدام ويتشبث بجزئية الصراع الأنجلو –أمريكي، فيصور الحرب وكأن إسرائيل الوطنية خاضتها ضد بريطانيا وعملاء بريطانيا من الحكام العرب ومن ثم فلا مبدئية ولا قضية ولا مشروعية للموقف العربي وهم بهذا يلتقطون أو يتقممون أكذوبة إسرائيل عن حرب الاستقلال .

فهو يقول لقرائه الأجانب: إن الإنجليز أرادوا الدخول المصري في حرب فلسطين " لحرف أنظار المصريين عن النزاع معهم، وكان في وسع الإنجليز الاعتماد على الملك فاروق الذي كان واعيا بنقص شعبيته وأن البلاد كانت تعانى من كساد اقتصادي ، ومن ثم فإن نصرا عسكريا هو بالضبط ما يحتاجه الملك الذي كان الآن كولونيلا فخريا في الجيش البريطاني و" فيلد مارشال" مصريا.

وهناك أدلة على بريطانيا كانت مستعدة لتسليح مصر بطريقة غير عادية.. السماح بالسرقة.

وهذا العرض المشوه المزور لطبيعة الحرب الوطنية الفلسطينية وفى كتاب مصري بالإنجليزية لا يمكن إلا أن يضاف إلى ترسانة الإعلام الصهيوني وسنعود لهذا بالتفصيل في الفصل القادم.

ونفس الأسلوب في تبنى المنطق الاستعماري الذي شوه المطالب الوطنية، نجده في حديثه عن المطلب المصري- السوداني ، التاريخي والأصيل وهو " وحدة وادي النيل" والذي كان التخلي عنه بل تحطيمه هو أبرز منجزات الناصرية لصالح الاستعمار وضد المصالح الحقيقية ، ولحقائق التاريخية للشعب في مصر السودان بل مصالح الاستعمار وضد المصالح الحقيقية ، والحقائق التاريخية للشعب في مصر والسودان بل مالح الأمة العربية والشعوب الإفريقية وكما كانت حرب فلسطين في التفسير الصهيوني- الهيكلي، حربا استعمارية أرادها الملك فاروق لحل الأزمة الاقتصادية .. كذلك يطرح هذا التفسير قضية وحدة وادي النيل كخرافة يتمسك بها الملك وحده.

" مسألة السودان أو ما يسمى بوحدة وادي النيل لعبت دورا هاما في مفاوضات مال بعد الحرب، فقد كان مفهوما أنها قضية عزيزة على قلب الملم فاروق، الأمر الذي يستطيع أحد من وزرائه تجاهله.

ولكن عندما اختفت الملكية أصبح الطريق سالكا للسودان لكي يستقل عن كل من مصر وبريطانيا " .

غير صحيح.

وحدة وادي النيل كانت مطلبا أو هدفا.. عزيزا على قلب كل مصري وسوداني، إلا أيتام الاستعمار وصبيته فمنذ الاحتلال وقبل أن يولد فاروق وهذا المطلب على رأس الأهداف القومية، وإحدى رصاصات الوردانى الشهيد كانت ضد اتفاقية 1899 التي سلم فيها بطرس غالى بسيدة بريطانيا مع مصر على السودان وصيحة البرلمان المصري الأول الخالدة ثم ثورة 1924 وتعثر جميع المفاوضات حول السودان، الخ، ولا يقلل من أصلة ومشروعية هذا الهدف عجزنا عن تحقيقه.. وإلا فلماذا يبقى لنا إن حكمنا بنفس المنطق على أهدافنا التي ضيعها انقلابيو يوليو .. وغيرهم من قادة العرب؟

مصر كلها كانت تطالب ويستشهد بنوها من أجل الجلاء ووحدة وادي النيل .

والسودانيون صوتوا بأغلبية كاسحة مع الوحدة أول انتخابات حرة تشهدها بلادهم، بل وهل أقول وآخر ؟ .. أول خطاب أذاعه محمد نجيب بصوته كان موجها إلى " إخواني أبناء وادي النيل".

والسودان لم يستقل عن كل من مصر وبريطانيا.

فمصر لم تكن تستعمر السودان مثل بريطانيا .. ولا حتى تحكمه..

السودان استقل عن بريطانيا .. وانفصل عن مصر .. هكذا يجب أن يكتب التاريخ..

ومهما يكن موقف الملك، فلم يكن هو سر تمسك مصر بالسودان، بل لعلنا لا نذهب بعيدا إذا قلنا إن الارتباط بالسودان كان عند البعض مبررا للتاج..

وبالطبع الصيغة العربية مخففة ومنقحة، وهى لا تجعل انفصال السودان نصرا تحرريا كما هو الحال في النص الإنجليزي بل ظاهرة عجز..

على أية حال.. لقد اضطر المنظر إلى الاعتراف بما ذهبنا إليه في كتابنا من أن إلغاء الملكية كان بهدف التخلص من مشكلة اللقب "ملك مصر والسودان" .. وإذا كان هو في الطبعة العربية يحاول أن يغرر بالقارئ المصري- السوداني، فيزعم أن مساوئ الملك انعكست على التاج، وبالتالي على فكرة الوحدة، مرددا بذلك كلام الاستعماريين الإنجليز في السودان الذين هاجموا شعار الوحدة " التاج المشترك" بإطلاق شعار " المهرج المشترك" لعبا على التشابه بين لفظي ....و.......فيقول " في تلك الأحوال والظروف لم يكن التاج رمزا لوطن، وإنما تحول ليصبح مهانة له".

لا .. هذا نصب.. الوطن فوق النظام.. ومهما بلغ ضيق الصعيد أو الإسكندرية بحاكم مصر فهذا لا يعنى الانفصال، على أية حال الانفصال لم يتم في عهد فاروق، بل بعدما ذهب الملك الفاسد وجاء الحكم الصالح.. لو كان انقلابيو يوليو وطنيين أو يريدون حقا وحدة وادي النيل ، فلماذا عندما ألغوا الملكية لم يعلنوا جمهورية مصر والسودان- وقتها- " رئيس جمهورية وادي النيل " ؟ لسبب بسيط أنهم ألغوا الملكية بأمر من الأمريكان بعد مساومات وتسوية بين الإنجليز والأمريكان اتفق على خروج الإنجليز من السودان ومنع وحدته مع مصر .. وأمر عبد الناصر فاستجاب..

وفى الطبعة العربية عرضت قصة أم الرشراش (إيلات) بصيغة موفقة، ترضى الملك حسين والرقابة في الأردن، وتخفى دور الأمريكيين ورغم أنه أشار لقرائه العرب إلى نص " أبو الهدى" رئيس وزراء الأردن إلا أتنه حذف الفقرة الخاصة بدور الأمريكيين في تسليم هذا الموقع لليهود كما حذف دور عبد الناصر والأمريكان في حرب 1956 في تطويره إلى أهم ميناء إسرائيلي وأخطر ميناء على البحر الأحمر بفتح خليج العقبة للملاحة الإسرائيلية ..

في صفحة 19 من الطبعة الأوربية نقل عن توفيق أو بالهدى رئيس وزراء الأردن في اجتماع رؤساء الحكومات العربية في يناير 1955 أن السفارة البريطانية أبلغته بوصول رسالة من بيفن ( وزير خارجية بريطانيا ) تقول :" إنه كان يتمنى من كل قلبه أن يمنع اليهود من احتلال أم الرشراش ولكن الحكومة الأمريكية ضغطت علينا".

هذه الفقرة حذفت من النص العربي سترا لعورة الحكومة الأمريكية عن أعين المتعصبين العرب.

ومن يقرأ قصة السويس آخر المعارك في عصر العمالقة الصادر في 19676 في الذكرى العشرين ثم يقارنه بملفات السويس الصادر في 1986 يظن أن السنوات العشر قد أصقلت مؤلف الكتابين ونمت ضميره فأصبح أكثر ميلا للاعتراف بالحقائق، فهو في قصة السويس يبدأ متربعا على عرش المجد، يتحدث عن أعظم نصر في التاريخ الحديث ثم يفرد المقدمة كلها في الحديث عن أسباب ونتائج ومؤثرات السويس فلا ذكر للأمريكان ودورهم، بل لن نقابل التطلع الأمريكي لوراثة بريطانيا ، ولم نلتقي بالمخابرات الأمريكية أو دور الأمريكيين قبل صفحة 67 وفى صيغة نفى حازم قاطع فهي " خرافة" يروجها شخص تافه عميل للمخابرات الأمريكية اسمه " مايلز كوبلاند" لديهم أوراق تدينه.. الخ..

أما في الملفات فالأمور تغيرت.. ووقفت الحقائق على قدميها بعض الوقت ، وإن استمر فمها مليئا بالأكاذيب..

ولكن شتان.. نحن هنا نبدأ " بصراع إمبراطوريات" .. هذا هو المدخل الشرعة للحديث عن الناصرية ..

فهي ليست صراع وطنية مصرية ضد الاستعمار، ولا صراع قومية عربية ضد إسرائيل،ولا صراع شعب صد حكم إقطاعي ملكي.

لا.. إنما مجرد فصل في صراع إمبراطوريات .. صراع أمريكا ضد بريطانيا..

هذه هي المقابلة والحاضنة بل ووالدة طفل الأنابيب الأمريكية .. المشهور باسم " ثورة يوليو" ..

كيف يكون " انتظار الولايات المتحدة لميراث الإمبراطورية البريطانية " المدخل للحديث عن ثورة يوليو .. إلا تسليما بمفهومنا ، وهو أن الصراع الأنجلو- أمريكي على الشرق الأوسط دفع الولايات المتحدة للإطاحة بالنظم المرتبطة ببريطانيا بواسطة الانقلابات العسكرية كما حدث في سوريا ومصر ثم العراق وليبيا السودان.. الخ.. الخ..

إذا كنا قد ساهمنا في رد مؤرخ الناصرية إلى الصواب فهذا عزاء عما تكبدناه وإذا كنا لا نطمع في صحوة ضمير كاملة إلى حد الاعتراف بالعلاقة كلها.. إلا أننا تقدمنا على الطريق خطوات حاسمة، فبعد الحديث عن هذه الصلة " كخرافة " وصلنا في ا لطبعة العربية إلى التقاء المصالح والأهداف بين ثوار يوليو ورجال المخابرات الأمريكية وتعاونهما .. بعد الثورة وليس قبلها.. أما في الطبعة الأوربية فقطعنا خطوات أبعد في عبارة شيطانية الصياغة تقول: " كان ناصر وصحبه يتطلعون بأمل للأمريكيين لم يكن لهم اتصال مباشر سابق مع الأمريكية ".

أنت ترى أننا أوشكنا أن نتفق.. انحصر الخلاف في اتصال مباشر أو غير مباشر.. والاتصالات غير المباشرة هي ما يكون قبل الزواج مما يبيحه بعض الفقهاء المتحررين.. بينما الجمهور على تحريمه.. فما أسكر كثيره قليله حرام.. ومن حام حول الحمى سقط فيه..

ولكن عملا بمبدأ بورقيبة:" خذ وطالب.." نقبل الانتقال من مرحلة النفي القاطع التحى وردت عام 1976 وهى :" لم يكن هناك اتصال بين الثورة والولايات المتحدة قبل ليلة 23 يوليو" ( محمد حسنين هيكل: قصة السويس ص 68) إلى التاريخ المعدل طبعة المزيدة والمنقحة حيث أفرج عن النص التالي:" لم يكن لهم اتصال مباشر سابق مع الأمريكيين "( محمد حسنين هيكل أيضا: قطع ذيل الأسد ص 33..) وربما في كتاب قادم يقطع عضوا آخر للسد أو الكلب يعترف بالاتصال المباشر وما أنجبه هذا الاتصال..

كذلك تحقق الاعتراف بتردد كيرميت روزفلت على مصر قبل الثورة، وهو ما لم يرد له ذكر في قصة السويس موديل 1976.. أما في ملفات السويس المعدلة 1986 فقد قيل " في أكتوبر جاء كيرميت روزفلت في أول زيارة له بعد الثورة ولن تكون الأخيرة".

قول إن شاء الله .

وقد فات الجوقة أن تشيد بمهارة هيكل ككاتب سيناريو متفهم لروح العصر مع انتشار الإذاعات التي تتنافس على المسلسلات.. ومن ثم فهو يكتب لكل محطة ما يناسب جمهورها.
ففي إذاعة القاهرة ركن الأهرام لتسلية الأولاد ورفع معنوية الناصريين نرى حكيم زمانه الرئيس الخالد جمال عبد الناصر يبدى رأيه بالرمز في سياسة أمريكا حين اختار هدية يحملها الدكتور أحمد حسين للرئيس إيزنهاور ليسلمها له يوم تقديم أوراق اعتماده له سفيرا جديدا لمصر في واشنطن، وكانت الهدية نسخة من

تمثال الإله ايبسن وهو رمز الحكمة والتعقل عند قدماء المصريين.

وقبل أن نصيح إعجابا:: يا معلم.. تسلبنا الطبعة المتحضرة سعادتنا وفخرنا.. فقد وردت بها التعديلات الآتية:

1- محمد نجيب هو الذي أرسل التمثال وليس جمال عبد الناصر . والرد جاء لنجيب فلا حكمة ولا تعبير عن رأى عبد الناصر في السياسة الأمريكية ..
2- بينما القصة في الطبعة العربية تحوى أن النغرة جاءت من مصر أو عبد الناصر بإهداء تمثال يرمز إلى التعقل.. نجد أن الطبعة الإفرنجية تفيد أن هذه الخصائص للإله أبيس جاءت على لسان الأمريكي إيزنهاور.. " كما قيل لي أنه يمثل الحكمة والعلم في مصر القديمة".
3- في النسخة الإنجليزي واضح تماما أن التمثال أصيل، ولكن لما كان المؤلف قد هاجم أنور السادات بتهمة إهداء آثار مصر، ولما كان جمهور الشباك يريد أن ينسب الواقعة لعبد الناصر فقد اقتضى الموقف إضافة كلمة نسخة وتركت لمروءتك وفهمك، فإما أن تفهمها على أنها نسخة بالكربون أو واحدة من عدة تماثيل متشابهة وأصيلة.. المهم ما تمشيش زعلان من الريس.

وهنا نقدم قطعة بل تحفة في فن التزوير ودعوة : اكذبوا على الناس على قدر عقولهم ومعلوماتهم .. نموذج لفن تنقيح التاريخ، وإخفاء ما يسوء الأولاد. .

في صفحة 190 من النسخة الميسرة أي العربية .. قال المؤرخ:

" حدث أن جاء مصر في أجازة عيد الميلاد سنة 1952 ( ديسمبر 1952) النائب والوزير البريطاني السابق واللاحق المستر " ريتشارد كروسمان" والتقى جمال عبد الناصر ضمن من كان يلتقي بهم في تلك الأيام بـ " كروسمان" وأحس أنه أمام فكر ذكى وعقل خلاق ودخل معه في محاورات طويلة.. وغادر كروسمان القاهرة وإذ به يعود إليها بعد اقل من أسبوع ويطلب مقابلة جمال عبد الناصر فعلا، وإذا به كروسمان يقول له: " إن بن جوريون سألني عن نواياك تجاه إسرائيل ن قلت له: إنني فهمت منك أن إسرائيل ليست ضمن أولوياتك الملحة الآن ، وأنك تركز جهدك في الوقت الحالي على الخلاص منا وعلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مصر.. وعندما سمع منى ذلك قال لي " هذه أسوا معلومات سمعتها في الشهور الأخيرة". .

نقرأ نفس الحكاية في طبعة فوق 16 سنة الإفرنجية:

" ومما يعطى فكرة عن طبيعة الأمور في هذا الوقت، أن ريتشارد كروسمان وزير عمالي بريطاني فشل في الحصول على مقابلة مع عبد الناصر من خلال السفير البريطاني، ولذا لجأ إلى السفير الأمريكي فأحال الأمر إلى " وليم ليكلاند" الذي رتب اللقاء الذي تم في ديسمبر 1953".

هل لاحظت خلافا؟

لا.. لا نقصد أن النسخة العربي قالت في ديسمبر 1952 والنسخة الافرنجى حددت ذلك بعد عام .. لا .. نحن لا نقفش .. هذه غلطة مطبعية .. بل نقصد إخفاء تلك الواقعة المذهلة.

السفير البريطاني فشل في ترتيب مقابلة بين وزير بريطاني وجمال عبد الناصر مما اضطره _ أي السفير البريطاني- إلى اللجوء لولى الأمر وهو السفير الأمريكي الذي بدوره لم يتصل خلال القنوات الدبلوماسية المتعارف عليها ، بل أحال الأمر إلى مدير مكتب عبد الناصر.. وليم ليكلاند .. ولى النعم الذي قال : " يتم لقاء" فتم.. هل تذكر من هو وليم ليكلاند؟ سنسمع الكثير عنه فهو من أساطين المخابرات الأمريكية في مصر وأحد المسئولين والمديرين لحركة يوليو وقيادة الثورة.. ويكفى أن ترجع مؤقتا إلى وصف مؤرخ الناصرية له في صفحة 41 من الطبعة الإفرنجية فهو اللهلوبة رجل المخابرات الأمريكية بشهادته..

وهكذا .. فإن أبطال 23 يوليو .. حملوا رءوسهم على اكفهم وسلموها إلى ليكلاند.. حلوا الأحزاب " العميلة " ووضعوا في السجن زهرة شباب مصر وكل وطني مشتغل بالسياسة.. وبحوا أصواتهم وصموا آذان الشعب بالخطابة ضد العملااء .. في نفس الوقت الذي ترتب لهم المخابرات الأمريكية اجتماعاتهم وتحدد لهم من يرون ومن لا يقابلون.. هل حكم مصر في تاريخها .. زعيم يرتب له مقابلاته مندوب المخابرات البريطاني أو الفرنسي أو الأمريكي أو حتى العثماني.. قبل ثورة العرب الكبرى؟

هل نذهب بعيدا عندما نقول إن وصول عبد الناصر للسلطة كان يعنى خروج مصر من سيطرة بريطانيا ووقوعها في هيمنة أمريكا؟ وهل من واقعة تلخص هذا التحول أبلغ دلالة من أن يفشل سفير بريطانيا في ترتيب اجتماع بين وزير بريطاني ورئيس مصر، فيلجأ السفير إلى من .. لا إلى السفارة السعودية ولا إلى والد عبد الناصر بل للسفارة الأمريكية .. هل من استعراض عضلات أكبر من هذا .. لإقناع الإنجليز بالاعتراف وقبول انتقال المراكز وتبدل الأيام؟ وهل من دلالة أبلغ من لواء السفير إلى رجل المخابرات ليدبر الأمر؟..

أليس هذا ما يردي هيكل أن يقوله للقارئ الأجنبي عندما بدأ حكايته أو طرفته بقوله:" ومما له دلالته على طبيعة الأمور في ذلك الوقت.. الخ" .

لماذا حرمت القارئ المصري من هذه الدلالة؟ لماذا لم تترك له حتى فرصة استنتاجها.. بل محوت الواقعة محوا في كتاب مطول، قصد بإطالته- على حد قولك- إقناع الذين فقدوا المصداقية والتصديق.. لماذا وجدت هذه الواقعة مكانا في كتابك المختصر. المفيد؟ لماذا؟..

حقا أنت أدرى بقارئيك وما يحق لهم أن يقرءوا وما لا يحق..

أما نحن فنكرر القول: عندما يكتب التاريخ بهدف إخفاء جريمة ينحط إلى مجرد تزوير في أوراق وطنية.

وفى الحديث عن إعدام اليهود الذين أدينوا في عملية " لافون" ( زرع القنابل في مؤسسات أمريكية – بريطانية) قال لقرائه العرب: إن إيزنهاور طلب منه وقف تنفيذ الإعدام واعتذر جمال عبد الناصر عن قبول شفاعة داويت إيزنهاور.

موسيقى تصويرية : حليم يغنى: اضرب.. اضرب.. اضرب.. والأمريكان يا ريس؟..

إيزنهاور يتشفع ورئيسنا يرفض، ويرفض مين؟ دلويت إيزنهاور ؟ ولولا صغر حجم الكتاب لجاء بالاسم الثلاثي.. المهم اسم المرفوضة شفاعته ورد مرتين في سطرين وينتحب أيتام الناصرية : كانت أيام ، كنا نقول فيها: لا .. لايزنهاور ..

الأمر أبسط من ذلك وقد ورد تفسيره في قراءة هرش عن فاسق في الطبعة الإنجليزية التي أوردت الاعتذار الحقيقي الذي قيل وقتها وأقنع إيزنهاور أنه لا غبن في الصفقة.. قال هيكل:" ولكن لما كان ستة قد شنقوا قبل شهور في محاولة اغتيال ناصر، فقد كان مفهوما أ، المناسبة لا تسمح بالشفقة ومن ثم أعدموا ( الإسرائيليون) في 31 يناير 1955".

وتفسير ذلك بالبلدي:

أن عبد الناصر قال لدوايت إيزنهاور : ما أقدرش يا ريس ما تودنيش في داهية .. دا أنا لسة شانق إخوان مسلمين .. ما أقدرش أفرج عن اليهود.. الناس تاكل وشى.. أنا معاك إنما كلك نظر..
وفهم الأمريكان وسكتوا عن إعدام اليهود في سبيل القضاء الوحشى على " الإخوان" فإن الرابح في النهاية هم الاستعمار الامريكى واليهود..

لماذا لا يقال هذا للقارئ العربي، ومن أقامك وصيا على فهمه ومعلوماته؟ .. ربما لأن الكثير من هؤلاء يريدون الغفلة ويفزعون من المعرفة، يريدون من كاتبهم أن يتلو عليهم ما يحبون سماعه لا الحقيقة.

وواقعة أخرى نتعلم منها درسا في فن الكتابة على مستويين: ففي مصر لا مصلحة في إبراز كراهية الإنجليز للنظام السابق وبسبب تبنى هذا النظام لشعارات ومطالب الجماهير ومن ثم يختصر الموضوع في هذه العبارة المشبوهة:" ورد إيدن بحديث طويل عن مزايا اللورد " كيلرن" وعن ذكرياته هو شخصيا مع الملك فاروق وباشاوات مصر القدامى".

وعندما يتحدث إيدن وزير خارجية بريطانيا الاستعماري الكريه عن ذكرياته مع الملك وباشاوات مصر، فالمعنى الذي يراد إيصاله للقارئ العربي واضح السوء حول هؤلاء الباشاوات أصحاب الذكريات مع إيدن.

أما في السوق الإنجليزية حيث تباع مذكرات إيدن وحيث لا يوجد نصابون ومهرجون يدعون أن الحصول على مذكرات إيزنهاور أعجوبة أو عملية سحرية مثل الحصول على أوراق عبد الناصر الخاصة.. هناك يضطر هيكل إلى نشر نص كلام إيدن الذي نفث فيه كراهيته وشماتته في الملك والنحاس لأنهما- على حد قوله- لم يسمعا نصيحته عن خطر اللعب على مشاعر الجماهير وتبنى الشعارات الشعبية المتطرفة..

" قال – إيدن – إنه بحكم معرفته بحكام مصر السابقين من طراز فاروق والنحاس، فإن الثورة لم تفاجئه وأنه طالما حذر السياسيين القدامى من اللعب بالنار بإثارة مشاعر الجماهير بالدعاية وكان واضحا ... يقول هيكل- أن هذا تحذير موجه للجدد أيضا".

لماذا أخفيته عن القارئ العربي؟ إلا لأنك تعرف أن الجدد تعلموا فعلا من رأس الوفد الطائر وقال محمد نجيب زعيم الثورة للسفير التركي في مصر :" لست مجنونا مثل الوفد حتى أحار الإنجليز" ( رسالة السفير ألأمريكي في أنقرة – 24/10/52) .

كذلك حذف إشارة إيدن إلى أعداء بريطانيا في السفارة الأمريكية .. إلا أنه عوضنا عن هذا الحذف بإضافة فقرة في الطبعة العربية عن 4 فبراير واتهام ناصر لإيدن بأنهم كانوا يتدخلون في السياسة المصرية ..الخ..

مما يروج في السوق العربية ويسر العامة في مصر ويسد حاجتهم للأوهام والبطولات الكلامية.

وما دمنا بصدد أكاذيبه عن باشاوات مصر نتوقف لحظة عند محاولته البائسة ستر السبب الحقيقي لعزل عبد الرحمن باشا عزام من منصب أمين الجامعة العربية، ففي تعداد كوارث الإنجليز على يد الثورة قال:" أوعزت القيادة الجديدة في مصر إلى عبد الرحمن عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية بأن يقدم استقالته لأن الظروف الجديدة في العالم العربي تقتضى أمينا عاما للجامعة لا علاقة له بأوضاعها السابقة.

وكان عبد الرحمن عزام وهو- من رواد الفكر العربي في مصر وواحد من ألمع ساستها- شخصية معروفة للانجليز رغم سوابق خلافاته معهم". (ص 156 ملفات).

لا لا شك صياغة تثبت أن الحاوي الطروب ما زال يتمتع بمواهبه التي أشار إليها كوبلاند وهى فن تحلية السموم.. وكان يمكن أن نتشبث بهذا التفسير الذي يطرحه، فمن الطبيعي أن يعزل انقلاب امريكى كل الوجوه المعروف للانجليز ليضع مكانها شخصيات موثوق بها من السادة الجدد..

ولكن الأمر أعقد من ذلك وليس ما نقوله دفاعا عن وطنية عبد الرحمن عزام، فلا الرجل يحتاج دفاعنا، ولا تاريخه يستطيع هيكل أن يمسه بحرف مهما أوتى من قدرة على الدجل والتزوير ، ولقد مرت فترة كان عبد الرحمن عزام هو الصوت الداوي وحده في البرية ضد الاستعمار الأوربي بشتى جنسياته، ومرت فترة أخرى كان هو أبو العروبة..

وصراع الرجل ضد الإنجليز في قضية البوريمى معروف.. على أية حال إن ضرب الجامعة العربية وإزاحة عبد الرحمن عزام كان مطلبا أمريكيا في إطار عمل بناء فيما يتعلق بالمشكلة الإسرائيلية لأن عزام باشا هو الذي نظم وقاد دخول الجامعة العربية حرب فلسطين وهو الذي نظم وقنن المقاطعة ورفض الصلح أو الاعتراف..

وكان من المنطقي والطبيعي أن يعتبر الأمريكان وجوده عقبة في طريق مخططهم لإنهاء الحرب بين إسرائيل والعرب.. واعتقدوا أن إزاحته تتيح الفرصة لمواقف أكثر إيجابية بدءا بإزاحة رموز التصلب العربي والحرب .. والرفض ..

وعلى أية حال لم يكن عبد الناصر وحده الذي ضاق ذرعا بالجامعة العربية وعبد الرحمن عزام، بل إن أسلافه الأمريكيين قد أحسوا بنفس الشيء وقبل ظهور عبد الناصر على المسرح..

وإليك بعض الوثائق..

مستشار السفارة الأمريكية في جدة " غلين آبى" قال في أول أكتوبر 1951- " إن الجامعة العربية لم تكن أداة بناء في الشرق ألأوسط، بما أن لجنتها السياسية، وهى الجهاز الوحيد الفعال تحولت في الغالب، إلى منبر للسياسة المصرية والخطب التي هى للاستهلاك الداخلي".

وفى تقرير صادر عن مؤتمر رؤساء البعثات الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط المنعقد في اسطنبول في الفترة من 14 إلى 21 فبراير 1952 جاء الآتي:

" من الواضح أن ميل الجامعة العربية لخلق المشاكل وليس حلها، يتزايد في المنطقة إن اجتماع اللجنة السياسية في دمشق في ربيع 1951، فشل في اتخاذ خطوات بناءة بل دعم موقف العرب العدائي في نزاع الحولة وهناك دلائل على أن الجامعة العربية ليست أكثر من أداة تستخدمها مصر وشتى الدول العربية لأهدافهم.

مصر تجد الجامعة مفيدة لفرض هيمنتها على العالم العربي وكسب التأييد لسياستها وفى هذا الشأن يذكر أن مصر طلبت عقد جلسة خاصة في صيف 1950 للجامعة لدعم الموقف الذي اتخذته مصر في الأمم المتحدة فيما يخص كوريا.

مصر تجد أنه من المريح الحصول على تأييد الجامعة للقيود التي فرضتها على قناة السويس والتي اتخذ مجلس الأمن قرار إدانة فيها.

وهذا الدعم سيجعل مصر أكثر تصلبا في رفض رفع هذه القيود.

وفى حالة سوريا استخدمت الجامعة لتأييد الوضع السابق في منطقة الحولة ( كانت إسرائيل قد استولت على هذه المنطقة خلافا لقرارات الهدنة).

ويتابع التقرير الامريكى:

" وأمام السياسة الأمريكية هذه الخيارات للتعامل مع الجامعة العربية:

1- أن تأمل في رؤيتها تذوى وفى هذه الحالة يمكن للحكومة الأمريكية أن تعامل الجامعة بما فيها عزام باشا ببرود على الصعيدين الرسمي وغير الرسمي، وتشجع الدول الأخرى على استخدام نفس الأسلوب.
2- محاولة إقناع مصر بأن الجامعة العربية ذات أهمية قليلة أو لا أهمية بالنسبة لمصر، بل هى عبء على تطورها كقوة دولية أساسية ويعزز هذا المسعى بعرض مساعدات اقتصادية وعسكرية بخلاف دول المنطقة، والتأكيد للحكومة المصرية، أن مصر دولة متقدمة عن البلاد العربية الأخرى، وهذا سيؤدى إلى حرمان الجامعة من مصدر دعمها الرئيسي ويثير النزاع داخل المنظمة .
3- الاعتراف بفائدة تنظيم اقليمى حيث توجد مصالح مشتركة ثم تبذل الجهود لتشجيع الجامعة على التركيز على النشاط العلمي والثقافي والفني.."

فالضيق الامريكى بالجامعة والكيد لها ولعبد الرحمن عزام سابق عل ظهور ثوار يوليو على المسرح.. وع الإدراك الكامل للأسباب الحقيقية لضعف الجامعة العربية في عهد حسونة ورياض، إلا أن الذين يؤمنون بمكان ما، في التاريخ للفرد يرون أن مصر خسرت كثيرا بإخراج عزام.. المصري الوحيد الذي كان الملوك العرب يرفضون أن يجلسوا قبل أن يجلس.

ومن الغريب أن ثوار يوليو لم يغيبوا عن منصة الحكم في مصر حتى كانت مقررات مؤتمر الدبلوماسيين الأمريكيين قد تحققت بالكامل .. فذوت الجامعة العربية.. وانسحبت مصر منها وتحت نفس الشعارات التي اقترحها الأمريكان للتغرير بنا بنص كلامهم: مصر أكثر تقدما من أن يضمها تنظيم عربي.

وهو يعترف في الطبعة الإفرنجية بما خصصنا له فصلا كاملا في " كلمتي للمغفلين " من أن الغارات التي بدا بن غوريون يشنها على القوات المصرية إنما كانت لتأزيم مشكلة الحصول على السلاح في مصر .

وإن كان الأمر يحتاج لعشر سنوات أخرى حتى يعترف بما وصلنا إليه وهو المصلحة الإسرائيلية المباشرة التي مثلتها الصفقة، حتى يمكن القول إنها أعظم نصر تحقق لإسرائيل في الفترة ما بين 1948 و 1967..

ومع ذلك فقد زيف هذا الهدف في الطبعة العربية ولا باس من المقارنة:

النص الافرنجى:

" كانت الغارة مقصودة كرسالة موجهة من بن غريون إلى ناصر، وقد فهم عبد الناصر الرسالة، ألا وهى إن بناء المستشفيات والمدارس ومصانع الصلب لن يحمى مصر من جار غدار.. السلاح وحده هو الذي سيحقق الرخاء لمصر".
وبالطبع بن جوريون ليس عضوا في مجلس الثورة أو قيادة البعث ليرسل هذا التحذير أو الرسالة لعبد الناصر، ومن ثم فلا معنى ولا منطق لتجشيم بن غوريون توعية عبد الناصر إلا بتفسيرنا : لابد من السلاح يا عبد الناصر.. ولا سبيل إلى السلاح إلا بالإلحاح على أمريكا، وأمريكا لن تقدم لأن بن غوريون يرسل رسائل إلى إخوانه هناك.. لا تعطوه السلاح.. ومن ثم تتأزم علاقة ناصر وأمريكا ويبحث عن مصرف آخر يسحب منه السلاح.. الخ..
المهم أنه في الطبعة العربية أبعد القارئ عن إدراك هذا الهدف الذي يكشف البعد الصهيوني في صفقة السلاح..

أبعد القارئ العربي بالإسهاب في أهداف الغارة:

كان القصد من الغارة عدة أهداف في وقت واحد: أولها إحراج القاهرة وإظهار عجزها.. ثم ما يترتب على ذلك من هزة تؤثر على وضع النظام في مصرن وأخيرا فإن الغارة كانت إنذارا لمصر بأن خطوطها مع إسرائيل مكشوفة وأنه كان أولى بها أن تترك الإنجليز في منطقة قناة السويس ولا تلح عليهم بالجلاء عن أراضيها، ثم يقول إن عبد الناصر ضبط أعصابه ورد بإطلاق جنود الصاعقة ضد إسرائيل .

لا إشارة إلى السلاح.. وهو في اعتقادنا كما في الطبعة الإنجليزية جوهر القضية واقرأ فصل صفقة السلاح في كتبانا هذا أو راجع إليه في كتابنا الآخر..

في الطبعات العربية نجد الولايات المتحدة هى المتبنية لحلف بغداد، مصممة على ضم مصر إليه ولكن بسبب مقاومة مصر قررت عزلها فترة حتى تستبعد مصر وتأثيرها عن الموضوع كله حتى يستقر رأيها على ما سوف تفعله، وسوف تجد نفها أى مصر في النهاية مرغمة على اللحاق بالآخرين وإلا وجدت نفسها معزولة".

أما في الطبعة الإفرنجية فقد وضعت الحقيقة على بلاطة:" أكد الأمريكيون لعبد الناصر أنه لا نية لديهم في الانضمام لحلف بغداد".

أرأيت الأقنعة السبعة للتاريخ الهيكلي؟ ولدينا مزيد في هذه النقطة.

بعد أزمة صفقة السلاح التي كانت باقتراح أو موافقة السى آى أيه تحرك صقور وزارة الخارجية الأمريكية ، وحاولا فرض وجودهم في الساحة المصرية مستقلين بل وضد سيطرة رجال السى آى أيه وقد فهم المعنيون ذلك وكان قرار إرسال موظف رسمي "جورج آلن" للقاهرة ضربة لشخص ودور كيرميت روزفلت المسئول عن مصر .

انظر كيف يختلف تسجيل هذا التطور الذي تعبر عنه الواقعة، ما بين النسخة العربية والإنجليزية .

في العربية يقول هيكل :" ومن المحتمل أن دلاس أحس أن موقف كيرميت روزفلت في القاهرة ضعيف".

أما النص الإنجليزى فيقول: " وربما اعتبروا أن روزفلت صديق جدا لناصر ورقيق معه أكثر من اللازم " أو " صديق لعبد الناصر وحنين عليه أكثر من اللازم".

لو تأملت ما يوحيه النص العربي بالحديث عن ضعف روزفلت وما تؤكده العبارة الإنجليزية من علاقة خاصة جدا بين المخابراتى الامريكى والزعيم المصري، فستكتشف عبقرية لغتنا الجميلة إذا أحسن استخدامها مزور متخصص في التغرير بقرائه العرب.

وهنا واقعة تستحق التأمل في النصين..

ففي النص العربي قال لنا إن جورج آلن تلقى عن طرق برج المراقبة في المطار سلمها قائد الطائرة موجهة إليه من كيرميت روزفلت.

وفى النص الإنجليزى استخدم روزفلت اتصالاته المخابراتية لإرسال رسالة من برج المراقبة في المطار إلى الطائرة".

وبالطبع وفر هيكل بحنانه المعروف على القارئ المصري مشقة السؤال.. ما دخل اتصالات كيرميت المخابراتية في برج المراقبة بمطار القاهرة إلى حد إرسال رسائل بواسطته إلى طائرة أمريكية ؟.. أراح قارئه بحذفها وأتعبنا بتقصيها.

وبينما حاول تشويه موقف نظام الادريسى ومصطفى بن حليم لزوم القذافى في الطبعة العربية إلا أن الناشر أو المحرر الذي صاغ الطبعة الإنجليزية أو لعله هو الذي أضافها لحسابات لم تكتشف بعد، قال إن مصطفى بن حليم وجه إنذارا إلى بريطانيا إذا لم تسلم ليبيا السلاح الذي تحتاجه فسيطلب السلاح من عبد الناصر".

في الطبعة العربي حيث لا أحد يحاسب أحدا اتهم أحمد حسين بعلاقة قديمة مع المخابرات الأمريكية أما في بلاد بره حيث الكلام بفلوس فقد ألزمه الناشر أو ألزم نفسه بالاكتفاء بقوله: إن أحمد حسين كان يشعر بأنه في وطنه في الولايات المتحدة لأنه تعلم هناك.

ونسى أن يضيف المثل العربي. . من علمني حرفا صرت له عميلا.

ومن خلال ترجمة رسالة أحمد حسين للعربية ثم من العربية للانجليزية سقطت بعض العبارات وجرى بعض التبديل لعلنا نساعد جامعي أعقاب تاريخ هيكل في إصلاح مجموعاتهم .

1ع : " إن ممثلي إسرائيل صرحوا بأنه " لا يمكن أن تنتظر إسرائيل حتى يكمل العرب استعدادهم للقضاء عليها".

خ: قال دلاس: " إنه لا يظن أن الإسرائيليين سينتظرون حتى يكمل العرب استعداداتهم قبل أن يثبتوا".

2-ع: إن مسألة شراء مصر للأسلحة من الكتلة الشرقية قد أزعجته كثيرا ص 366ع.. وقد أثبتها المؤرخ الوثائقي باللغتين العربية والإنجليزية ليفقأ عين جلال كشك الذي يقول إن الصفقة كانت بعلم وموافقة السلطات الأمريكية .

خ: ولكن المؤرخ الوثائقي قال في الطبعة الإفرنجية بالحرف الواحد وبدون الاستعانة بمؤسسة الأهرام للترجمة نقول إن هذا النص ترجمته أمر مزعج للغاية".
والفرق بين النصين أوضح من أن يحتاج لتعليق، ولا مجال للاعتذار بالترجمة فإن براعة النصاب توقعه أحيانا في عين ما حاول تفاديه، فهو قد روع الأميين من قرائه والمعجبين به بإيراد نص العبارة على لسان دلاس بالأمريكاني وبالحروف الأمريكانية في قلب النص العرب.. فلا مجال للخطأ في الترجمة بل المجال ينفتح على التزوير .. وصياغة النصوص على هواه، فإنه يسعد الناصريين والشعوب المتخلفة عقليا ، أن يسبب زعيمها انزعاجا شخصيا لوزير خارجية أجدع دولة، أما في الطبعة الإنجليزية فيرد النص الصحيح .. هذا أمر مزعج لنا كلنا وهو كذلك بالطبع.. لما سنشرحه.

3-ع- استهل المستر دلاس حديثه بأن عبر عن شكره لرسالة الرئيس عبد الناصر وقد وردت هذه الفقرة بحروف سوداء وبنط مميز) للفت الانتباه فالتفت انتباهنا .. ولم يكن ذلك في صالحه أبدا..

خ: : شكر دلاس حسين على إيضاحاته" لا إشارة لرسالة للرئيس ولا شكر للرئيس.

4- ع: جرى اختصار شديد جدا لما ذكره دلاس عن مساعدات الولايات المتحدة للنظام الناصري فقد قيل:" وذكر لي المستر دلاس في هذه المناسبة الدور الذي لعبته أمريكا لمساعدة مصر في اتفاقية السويس".

- خ:ورد كلام دلاس بالتفصيل ( رغم اختصار الطبعة الإنجليزية ) قال هيكل الإنجليزى:
- المساعدات التي قدمناها لكم لإنجاز الاتفاقية مع بريطانيا .
- عدم الانحياز بين العرب وإسرائيل .
- الحد من مبيعات القطن الامريكى لعدم الإضرار بالصادرات المصرية.
- محاولة التدخل مع السودانيين لصالح مصر في موضوع مياه المصرية .
- إبراز أهمية مصر كقلب الوطن العربي بإصدار التعليمات لـ" إيريك جونستون" بأن يبدأ مهمته من القاهرة ولو أن مصر ليست طرفا مباشرا في توزيع مياه الأردن.
- تجميد المساعدات لإسرائيل عندما تخطت قرار مجلس الأمن وبدأت العمليات في المنطقة المنزوعة السلاح في بحيرة طبرية.

" وهذه المواقف كلها قد أفقدت الجمهوريين أصواتا في الانتخابات التجديدية للكونجرس".

كل هذا حذفه هيكل في الطبعة العربية المطولة.

5-ع: " إنه جمال عبد الناصر أكبر شخصية في الشرق ألوسط يمكن الثقة بها والاعتماد عليها".

خ:" إنه أهم رجل في الشرق ألأوسط، وإنما يمكننا الاعتماد عليه والثقة به".
5- الذين كانوا يعارضون في جلاء الإنجليز عن قاعدة قناة السويس مدعين أن في ذلك تقوية لمصر.. وأن مصر القوية ستكون مصدرا للمتاعب.

خ: لم ترد لا عبارة تقوية مصر ولا مصر القوية بل:

" إن المصريين لا يمكن الثقة بهم.. وإن مصر ستكون مصدرا للمتاعب".
ولكن حكاية أمريكا تخاف من مصر القوية .. حلوة وتفرح الأولاد.. فلا بأس من إضافتها في النسخة العربي من ديوان السويس والشعر أعذبه أكذبه.. وهيكل أمير شعراء الناصرية بلا منازع.
7-ع:لا شيء.

خ:" أنا أثق في نوايا ناصر الطيبة وأعلم أنه لا يريد أن يعطى الشيوعيين فرصة للتدخل في بلاده، ولكن مع كل احترامي لن تكونوا أذكى منهم"(الروس).

8-ع:" الصفقة ستسبب حرجا للحكومة الأمريكية في شأن استمرار مساعدتها الاقتصادية لمصر، لأن كرامة أمريكا أصبحت الآن في الميزان".

خ- سيصبح الآن من المستحيل طلب مليم واحد من الكونجرس، مساعدة لمصر لأنه ليس فقط نفوذ أمريكا بل ومكانتها في الميزان لأن الكل سيقولون إن الطريق للحصول على مساعدة الأمريكان هو ابتزازهم".

هذا كله في رسالة واحد بعث بها أحمد حسين لعبد الناصر باللغة العربية بالطبع التي يتقنها الثلاثة.. وحصل عليها هيكل وفقا للقرار العجيب الذي سمح فيه عبد الناصر بتسليم وثائق الدولة المصرية لصحفي بلا أية صفة رسمية لمجرد أنه لاحظ شهوة هذا الصحفي في التلصص على الأوراق .. أو كما قال:" وأعترف بأنني مدين بالكثير مما لدى من وثائق التاريخ المصري المعاصر إلى جمال عبد الناصر، فقد أذن لا دائما أن أطلع على أرواقه، وسمح لى في كثير من الظروف بصور منها، وكان قد لاحظ مبكرا غرامي بالحرص على كل ورقة تضعها الظروف أمامي".

حرصك مفهوم.

ولكن قرار عبد الناصر ظاهرة فريدة من نوعها لم يسبق لها مثيل ولا في بلاد واق الواق..وهى تكشف للجيل المخدوع نوعية السلطة وعقيلة الرجل الذي يوصف عادة بأنه كان ينشىء مصر الحديثة، أو يدخل مصر عصر العلم.. فإذا به يفوق أي طاغية عرفه التاريخ، فهو لم يقل فقط أنا الدولة.. بل وأنا التاريخ.. أنا أملك مصر ووثائقها وأملك أن أسلم ذلك لصحفي مغرم بالأوراق..
هذا الذي سود صفحات الغضب على السادات ، لأنه تصرف في جزء من تماثيل أو تاريخ مصر المدفون أربعة آلاف سنة، عندما اقتدى السادات بما استنه عبد الناصر قبله وأهدى بعضا من التمثيل الفرعونية ، لا يجد ما يغضب بل يفتخر بأن عبد الناصر حطم كل القوانين والأعراف، كل مقومات الدول وأمنها ووثائقها، إذ أمر بتسليم أسرار مصر كاملة لمحمد حسنين هيكل.. وأن يحتفظ بصورة منها أحيانا وهو استهتار بمصر لم يسبق له مثيل ولا أيام عشق وثقة كليوباترة بأنطونيو..

على أية حال نحن لا نثق في رواية هذه ، مرة لأن عبد الناصر دهش واستراب لما رآه يجمع الأوراق كما هى عادة أمثاله فسأله دهشا:" وماذا ستفعل بكل هذه الأوراق التي تحرص على جمعها" (ص 13 قطع ذيل ..الخ).

ومرة أخرى أن عبد الناصر لم يكن يثق فيه كل هذه الثقة بدليل أنه زرع له أجهزة تجسس في مكتبه وفى بيته وفى بيت معاونيه. .

وقديما دخلت التاريخ عبارة تقول: " آسف للإطالة فلم يكن لدى متسع من الوقت للاختصار".

ومن حق هيكل أن يدخل التاريخ بعبارة مماثلة تقول :آسف لإغفال العديد من النصوص في الطبعة العربية لأن حجمها أكبر.. فقد سقط نص بالغ الأهمية في شرح " طبيعة الأوضاع في ذلك العصر" ونعنى شكوى روزفلت صانع ناصر ومتبنيه والمدافع عنه في واشنطن، مما يعانيه مع تطور العلاقات بين مصر وأمريكا.. فقد بدأت النتائج السلبية للفكرة الجهنمية في الظهور بل وحتى في التغلب على النتائج الايجابية .

ونعنى خطة أو مؤامرة إقامة حكم ثوري معاد لأمريكا في أجهزة الإعلام ملتزم ومرتبط بالإستراتيجية الأمريكية في الواقع ومن خلال علاقة سرية خافية على الرأي العام والمؤسسات الدستورية في البلدين..

فعقب صفقة السلاح هاج أصدقاء إسرائيل عن خبث أو عن جهل واتهموا ناصر ومصر بكل التهم الممكنة من صلاح الدين إلى كاستروا، مرورا بجنكيز خان وهتلر.. وكان من الطبيعي أن ترد صحافة مصر أو أن تستثمر لصفقة في خلق شعبية للزعيم بمهاجمة أمريكا فيزداد جنون وصخب أنصار إسرائيل .. الخ.

واقرأ عتاب أو شكوى أو آلام فوتر روزفلت:

" إن أصدقاء مصر الآن في وضع شديد الإحراج، وخاصة في ضوء الهجوم على أمريكا والغرب في الصحافة والإذاعة المصرية.
هذا يجعل الأمريكيين يشعرون أن المصريين يعبئون قصدا ضدهم.. وقال إنه تحدث في اليوم السابق مع هوفر القائم بأعمال وزير الخارجية الذي قال له إن وزارة الخارجية توشك أن تعتقد أن مصر تنظر للولايات المتحدة كعدو.

وقال هوفر ضاحكا: " إن الرجل الوحيد الذي لا يقر ذلك هو شخص ما يدعى روزفلت" وقال روزفلت إن ذلك كان محرجا له.. أما عنه هو، فبصرف النظر عن الاعتبارات الشخصية – قال كيرميت – إذا ما استمرت الأمور على ما هى عليه فإن الولايات المتحدة ستصل إلى قرار بأن مصر دولة معادية، وستضع سياستها على هذا الأساس .

وتوسل إلى حسين ( سفير مصر في أمريكا) أن يرسل نداء شخصيا منه هو إلى القاهرة لوقف حملة الدعاية ضد أمريكا لأن هذه إذا لم تتوقف فإن ضحيتها الأولى هم أصدقاء مصر في أمريكا صم مصالح مصر هناك وأخيرا العلاقات من أي نوع بين البلدين".

ليس من الإنصاف ، بعد كل ما قدمه روزفلت لجيل الثورة، أن تحرم ملفات السويس العربية من هذا النص وينعم به كفار أوربا.

ولعل قراء " قصة السويس" و" كلمتي للمغفلين" يذكرون حكاية الكوبري الذي اقترحه الصديق الشخصي للرئيس إيزنهاور ومبعوثه السري إلى عبد الناصر ، وهو الكوبري الذي يربط بين الأردن ومصر فوق صحراء النقب، والذي رد عليه عبد الناصر بحكاية " الشخة" وقد انتقدنا ذلك في كتابنا وقلنا إنه يسيء إلى الزعيم بل ويسيء إلى العرب عموما أن يقال إن زعيمهم " شخ" على اقتراح إيزنهاور.. وقد أخذ مؤلف تاريخ الناصرية بوجهة نظرنا فحذف القصة من الطبعة العربية ولكنه للأسف تركها في الأصل الإنجليزى حيث ضررها أكثر ونأمل في الطبعة القادمة للتاريخ أن يحذفها الأخ الأكبر في سائر الألسن فهي هرطقة.

كذلك لاحظنا أنه أخفى عن قراء النسخة العربية أن هذا الأندرسون الذي جاء إلى مصر، سبقته توصية من " كيرميت روزفلت" باش ريس مصر إلى الريس بحسن استقبالهن بل وحضر المعلم كيرميت المقابلة بين المبعوث الامريكى والصديق الشخصي لايزنهاور وزير المالية الأسبق.

كذلك جرى تعديل فيما قاله عبد الناصر دفاعا عن قضية فلسطين، وهو تعديل فاضح حتى في زمت التاريخ المزور أو التزوير المؤرخ.

في الطبعة العربية قال جمال عبد الناصر هيكل وهو يخرج لسانه لبتوع الصلح المنفرد:

" إن إسرائيل ليست قضية مصرية، وإنما هى قضية تهم العالم العربي بأسره ويصعب على مصر أن تنفرد فيها برأي ".

وهكذا يدين الزعيم الخالد من قبره كامب ديفيد

أما في قصة السويس فنجد عبد الناصر يحدد موقفه فعلا في نقطتين يقدمهما نفس المؤلف مسبوقتين بكرتين سوداوين تماما كما في كتاب ملفات السويس بعد عشر سنوات ولكن عبد الناصر طبعة 1976 لا يتحدث عن عروبة القضية بل يطلب تقسيم فلسطين : " وطن للشعب الفسلطينى على أرضه، ولكي يسهل الموضوع فإنه يرى أن تكون حدود هذا الوطن هى نفسها خطوط التقسيم سنة 1947".

فإذا قطع هيكل تذكرة طائرة لعبد الناصر وجاء به إلى لندن ليتحدث إلى الإنجليز وجدنا نفس المنظر.

ونفس الأشخاص: أندرسون المندوب الامريكى وجمال عبد الناصر زعيم الأمة العربية ونفس القضية ونفس الإجابة عن النقطتين المميزتين للقضية الفلسطينية ولكن جرت بعض التعديلات تناسب جمهور لندن.

أضيفت هنا معلومات بأن كيرميت روزفلت أوصى بحسن استقبال روبرت أندرسون.

أضيف هنا حضور كيرميت شخصيا الاجتماع الثنائي بين الرئيس المصري وصديق الرئيس الامريكى وأصبح معهما ثالث هو الشيطان بعينه.

بل وسنرى ناصر يطلب من روزفلت أن يشرح له لهجة الزائر القادم من تكساس .. كيف اختفى روزفلت من الطبعتين العربيتين وظهر في الطبعة الإنجليزية .. سؤال تجيب عنه تكنولوجيا المسرح.. أو دراسات الحبر السري الذي اعتاد الجواسيس الكتابة به في العصور الوسطى.

سنجد ناصر الإنجليزى لا يرى مشكلة فلسطين إلا مشكلة لاجئين، لا حديث عن عروبة القضية ولا حديث عن التقسيم أو وطن فلسطيني.

هنا المخرج غير الحوار في النقطة الأولى فأصبحت:

المشكلة ألأولى- قال ناصر- هى حقوق شعب فلسطين، ومعظمهم من اللاجئين النازحين من بلدهم، يعيش معظمهم في أحوال بائسة، ويجب أن يكون بوسعهم العود إلى بيوتهم وهذا ما ستطالب به الأغلبية أو تعويضهم إن استحالت هذه العودة. كما يجب تخطيط حدود واضحة بين الدولة الإسرائيلية والدولة الفلسطينية .
واقعة واحدة..
في لقاء واحد..

وثلاثة نصوص .. كلها وضعت بحروف وبعلامات تؤكد أنها النص الحرفي المنقول عن الزعيم.. وكلها مختلفة.. كل واحد منها يشكل موقفا سياسيا مختلفا مائة وثمانين درجة.. فأيهما نصدق، وأي تاريخ هذا وأي أفاق أحمق يمكنه أن يثق به.. وهل تصبح الوثائق عند هذا المزور إلا أداة من أدوات التضليل".

وتتحدث – أنت – عن المصداقية.

ولو أن مؤرخ الناصرية قد أشار على دور أمريكا في خلع جلوب بالطبعة العربية ، أي أنه لدواعي الأمن العام والصالح الوطني لم يشأ أن يكشفها بوضوح وصراحة كإحدى عمليات السى آى ايه أو واحدة من ضربات سانت كيرميت روزفلت التي كان يكيلها للانجليز في المنطقة في كل اتجاه، مع تسجيل فوائدها لزعيم الأمة العربية..
أقول رغم إشاراته للدور الامريكى إلا أنه نصح القارئ العربي بانتظار فتح ملفات أخرى قبل القطع نهائيا بالأسباب التي أدت إلى طرد جلوب".
إلا أنه لم يجد القارئ الإنجليزى بحاجة إلى هذا الانتظار فهو عاقل ورشيد ولذلك فتح له ملفا مخصوصا يفيد أن كيرميت وروزفلت هو الذي دبر إخراج جلوب من الأردن.

كراماتك يا شيخ كيرميت .. جعلت التاريخ يسير بالمقلوب فتكشف حقائق في الطبعة الإنجليزية المؤلفة أولا وتحتجب في الزمن إلى الوراء في الطبعة التالية.

كذلك جرى تنقيح حدوتة إبلاغه عبد الناصر بطرد جلوب، بعدما تناولناها بالنقد الساخر في كتابنا منذ سنوات.. فأضاف إليها تعديلا يفسر – في ظنه- لماذا لم يعرف عبد الناصر بالخبر قبل هيكل.. وقارن الروايات في ص 59 قصة السويس و415 ملفات السويس و97 الطبعة الإفرنجية .

في النص المخصص للمسرح المصري جعل منزيس يهرول ليتحسس تمثال إسماعيل قائلا: لقد أردت أن أقدم احترامي للرجل الذي أتاح لـ "دلسيبس " أن يشق قناة السويس" ص 499.

ولكن لما ترجم النص للمسرح البريطاني صححها المنتج الإنجليزى الذي أوتى حظا من التعليم فوق مستوى دبلوم تجارة، ومن ثم يعرف أن إسماعيل لم يمنح امتياز حفر قناة لدليسبس بل سعيد على أية حال فإن الملقن الإنجليزى كان جلفا غبيا فجاء تصحيحه مضحكا غير معقول :" اسمح لي أن أحيى الرجل العظيم الذي باع أسهمه لبريطانيا . ص 149خ.

تخيل عبد الناصر لا تسعه الدنيا لأنه أمم أسهم القناة وهذا يحيى الذي باعها.

اسمحوا لي أن أشمئز من قدرة " عزتلو" على تغيير النصوص، ووضع الكلام على لسان الشخصيات التاريخية وكأننا في مسرح البالون وليس تأريخ فترة حاسمة من تاريخ مصر ..

وبمقارنة بين صفحتي 164و 165 في النسخة الإنجليزية وصفحات 515، 516و 517 نجد أنفسنا مرة أخرى أمام إعجاز الاختصار الذي يأتي بمعلومات أكثر وأخطر.. والتطويل الذي يحذف ما لا يجوز أن يطلع عليه الأولاد.

الأصل الإنجليزى:

قال دلاس إنه عندما أعلن رفض حكومته تمويل السد العالي لم يكن يقصد أبدا إهانة مصر أو إثارة الشكوك حول اقتصادها، بل لأنه اقتنع أن هذه عملية مكلفة قد تنهك الاقتصاد المصري لفترة طويلة، وهذا يسبب الكراهية للأمريكان إذا ما ارتبطوا بالمشروع وأصبح على المصريين المعاناة بشد الحزام وقال دلاس إنه لا يبالى إذا كان الروس يريدون المساهمة فيه (وهو ما كان غريبا لأنه ما من أحد قد ذكر الروس وقتها بل كانت الفكرة السائدة، هى ببساطة أن مصر تمول المشروع من دخول القناة).

ووافق دلاس على أنه سيكون أفضل لمصر أن تبنى السد بنفسها حتى إذا حدث اعتراض شعبي فسيكون الأمر كله مصريا خالصا".

1- في النسخة العربية: اعترف دلاس بأنه هو الذي اقترح على إيزنهاور سحب العرض الامريكى ولكن لم يرد التعليق باستغراب الإشارة إلى روسيا.
2- في النسخة الإنجليزية : " نصح دلاس فوزي أن يجتمع هو وعبد الحميد بدوى بالمستشارين القانونيين في وزارة الخارجية الأمريكية ".

في النسخة العربي: حذفت

:في النص الإنجليزى : وختم محمود فوزيبرقيته بأنه يحب أن يلفت الانتباه إلى ما سيقوله دلاس عن مشكلتي فلسطين والجزائر.
لأنه يشعر أنه بعدما تنتهي أزمة القناة، فإن الأمريكيين سيكونون مستعدين لمناقشة المشكلتين مع مصر وقد أشار دلاس إلى إمكانية عقد اجتماعات لهذا الغرض في واشنطن".
ومعنى ذلك بصريح العبارة أن دلاس لا يعمل على إسقاط ناصر ولا حتى يتوقع سقوطه، بل مطمئن تماما إلى استمراره وتخطيه أزمة القناة، بل واستمراره في مركز الصدارة في صنع القرار العربي فيما يتعلق لا بفلسطين وحدها بل والجزائر أيضا.

ولهذا .. فقد حذف النص من الطبعة العربية ولكن عوض عنه قراء العربية بسخاء كالآتي:

" واقترح كيرميت روزفلت على " صبري" أن يسافر إلى واشنطن لمقابلة " آلن دلاس" مدير الـ سى آى ايه ورد على صبري بأنه لا يستطيع أن يتحرك إلا إذا حصل على إذن من القاهرة وبعث على صبري إلى الرئيس عبد الناصر باقتراح كيرميت روزفلت وفى ظرف ساعتين تلقى تعليمات بالرفض".

يا حمش بنى مر

وبما أن حمش لا يمكن ترجمتها إلى الإنجليزية فقد كفى على الخبر " ماجور " إذ جاء النص كالآتي" اقترح أن يذهب على صبري إلى واشنطن بعد اجتماع مجلس الأمن ليتصل بشخصيات مثل آلن دلاس".
نقطة .. قف.. ولا كلمة.. فليس للانجليز والأمريكان يكتب هذا الهراء.. ولكل مقام مقال .. ولكل مزور تاريخه.
وقد أرسل السيد مصطفى بن حليم رئيس ليبيا السابق ردا كذب فيه الرئيس عبد الناصر فوجئ بتوقيعي على معاهدتين من شانهما انضمام ليبيا إلى دول الأحلاف".
وقال رئيس الوزراء الليبي السابق ببساطة إنه لا هو ولا أي رئيس وزراء ليبي وقع مثل هذه المعاهدة .

فماذا كان رد المؤرخ الوثائقي؟

فضيحة فاجر لا يستحى إذ قال:

" إن قصة الحلف التركي الليبي التي نشرها الأهرام على صدر صفحته الأولى في عدد 26 يونيه 1954 ولم يكن هو رئيس التحرير وقتذاك وأن مصدر القصة هو وكالة اسوشيتدبرس الأمريكية التي نقلتها من أنقره.. وبعثت بها إلى الأهرام في إطار اتفاق للخدمة الخاصة بين الوكالة والجريدة.
وطبقا لما ذكرته الوكالة الأمريكية فإن السيد مصطفى بن حليم زار تركيا مع اثنين من الوزراء الليبيين في ذلك التاريخ لعقد حلف بين ليبيا وتركيا شبيه بالحلف التركي الباكستاني وكان مقررا أن يوقع الملك السنوسي بنفسه اتفاقية الحلف، وقد اتفق على زيارته لأنقرة بالفعل، ولكن لم يعلن عن موعد الزيارة بسبب حالة الملك الصحية طبقا لما نشره الأهرام".
صحيح الأعمال بالنيات .. لكن هل التاريخ أيضا؟.. إذا كنت تعرف أن الاتفاقية لم توقع والصورة الزنكوغرافية في الأهرام لا تشير إلى توقيع ولا إلى اسوشيتدبرس حتى.. بل إنها صريحة في قولها " ويبدو أن حكومة القاهرة لم تعر النقطة ما تستحق من اهتمام".
فأنت تعرف أن اتفاقية ما لم توقع فكيف تبيح لنفسك أن تكتب بعد ثلاثين عاما تأكد خلالها ثلاثين مرة في 360 أنها لم توقع، كيف تبيح لنفسك أن تقولك فوجئ عبد الناصر معاهدتين من شانهما انضمام ليبيا إلى دول الأحلاف".. بل وتحدد اسم من وقع. .
وبعد أن جاءك التصحيح تصر على أن تنشر في الكتاب " فوجئ جمال عبد الناصر بخطوتين في نفس الوقت غربي الحدود المصرية، وقع السيد مصطفى بن حليم اتفاقية دفاع مشترك بين ليبيا وتركيا ثم بحروف سوداء وكان معنى ذلك أن الخطوة الأولى في محاولة تطويق مصر قد بدأت على حدودها الغربية.. ثم إن تركيا بمعاهدتها العسكرية مع ليبيا.. ربطتها على نحو أو آخر بالحلف التركي- الباكستاني".

أي تاريخ هذا ؟

"وهل يكتب تاريخ التطويق والمعاهدات نقلا عن الأهرام.. وكمان وأنت مش رئيس تحريرها؟ حتى هذه أنت كاذب، فليس في الأهرام الذي نشرت صورته خبر توقيع.. وأنت جزمت وما زلت مصرا على أن معاهدة وقعت رغم اعترافك في الرد بأنها لم توقع لأسباب صحية تتعلق بالملك.. وما دخل الملك وأنت أكدت أن مصطفى بن حليم وقع؟..
هل يجوز لمثقف يحترم نفسه أن يعتبر هيكل مؤرخا وأن يهتم بما يكتبه كمصدر للتاريخ.. هذا الذي لا يؤتمن على خبر معاهدة دولية .. نأتمنه على ما ينسبه من أحاديث هو وحده الشاهد عليها؟..

احترموا عقولكم..

أما حكاية مفاجأة عبد الناصر بمحاولة تطويقه بتأجير قاعدة أمريكية في ليبيا فإن رد مصطفى بن حليم يصعب جدا رفضه فقد قال :" لعل ما لا يعرفه السيد هيكل أنني أطلعت الرئيس جمال على تفاصيل الاتفاقية المذكورة أولا بأول سواء عند اجتماعي به في يونيو 1954 بالقاهرة وبحضور السيد حسن إبراهيم عضو مجلس قيادة الثورة ، أو عند زيارة الأخير لليبيا في أغسطس سنة 1954 حيث أطلعته على مسودة الاتفاقية قبل توقيعها ولم يجد الرئيس جمال في الاتفاقية ما يمس أمن وسلامة مصر.
لذلك لم تهاجم الاتفاقية لا من صوت لعرب ولا من بقية أجهزة الإعلام المصرية".
ولم يجد مؤلف التاريخ ما يرد به على هذا " المطب" إلا أن " ما ذكره السيد بن حليم ليس هناك ما يثبته فضلا على أنه ليس هناك ما يعزز صحته".

لأ..

أولا- الرجل استشهد بشاهد من الأحياء هو حسن إبراهيم والذي كان مسئولا عن ليبيا في تلك الفترة والذي لم يكذبه حتى الآن ( مايو 1987).
ثانيا- يعزز قوله نقطتان.. الأولى في غاية الأهمية وهى أن صوت العرب الذي كان يهاجم الأحلاف الموجودة والتي ستوجد والقواعد في الكونغو لم يذكر القاعدة الأمريكية بحرف ولا تعرضت لها صحيفة واحدة ولا جاء ذكر هذه الاتفاقية في حملات الإعلام المصري وقتها. .


لماذا ؟.. أجب يا هذا ..

بن حليم كان مهذبا أو في فمه ماء.. سيان ففسر ذلك بأن عبد الناصر استشير فلم يجد ضيرا ..ولكن إذا لاحظنا أنه حتى عام 1956 لم تهاجم أية قاعدة أمريكية في المنطقة عرفنا أن السر أعمق منذ ذلك.
الإثبات الثاني أنه قد ثبت كذبك في النقطة الولي الثابتة قطعا ، ومن ثم فلا مصداقية لك وتعززت مصداقية معارضك بن حليم .
ولو كان لديك أي شك في صحة ما قاله لرجعت لملفاتك وجئت بنص واحد نشر في صحيفة مصرية أو في إذاعة صوت العرب في تلك الفترة ضد هذه الاتفاقيات.. ولكنك لم تفعل ولن تفعل.

وهكذا فقد الناصريون مصداقيتهم وأنت على رأسهم وها هو هويدى يكذبك في واقعة حدثت بينك وبينه شخصيا ومحمد نجيب ألزمك بالاعتذار وبن حليم يتحداك أن تكون هناك معاهدة بين تركيا وليبيان وقد قدمنا للقارئ بعض النماذج على تزويرك وتعديلك وتغييرك للواقعة الوحدة وما تدعى أنه نص كلام عبد الناصر.. فأنت الذي فقد المصداقية .. أما نحن فنكتب من 36 سنة لم يكذب لنا أحد حرفا وقد تناولنا ونقدنا وهاجما شتى الاتجاهات والعديد من الشخصيات، بعنف وحدة بعضها من خلقنا وبعضها من انفعالنا الشرعي إزاء ما يدبر لوطننا وما يفترى على التاريخ والحقيقة، ومع ذلك لم يجرؤ واحد ممن تناولناهم أن يفند فقرة ولا سطرا مما كتبناه عنهم.. بل إن الكثير مما قلناه أصبح من المبادئ والحقائق المقبولة سلفا، والتي فرضت نفسها على كتاباتكم كما سيرى القارئ من مقارنة ما كتبتموه في قصة السويس وما تداركتموه في ملفات السويس.

ولئن صح ما رواه عن سؤاله للملك فيصل لماذا لا يحتفظ بمحاضر ولا أوراق، فرد عليه حكيم العرب:" لا أحد يدرى في يد من تقع تلك الأوراق" .. فقد أصابه في مقتل.. واى هول وسوء يصيب أوراق التاريخ إن وقعت في يد هيكل..؟

وما دمنا في سيرة التاريخ البلاستيك فإننا نتعرض لإحدى القضايا التي يحيطها غموض غريب غير مفهوم إلا في ضوء تفسيرنا، ونعنى هنا علاقة هيكل بعبد الناصر فكلما تفضل هيكل وأفرج عن إحدى وثائق هذه العلاقة زادتنا غموضا وحيرة وزادتها تعقيدا... وقلنا أفرج عن عمد ذلك أن وثائق هيكل مثل كل الوثائق الرسمية لها شروط أو أجل لابد أن تستكمله قبل الإفراج عنها، فالوثائق البريطانية كان يشترك لها مرور 75 سنة حتى يكون الأحفاد قد ماتوا فلا يضاروا بما يكشف عن مسلكية الأجداد، أما الأمريكان فيشترطون ثلاثين عاما فقط فإن عدنا لهيكل فسنجد أن أجله هو الكتاب .. أعنى لكل أجل كتاب .. شرط هيكل للإفراج عن وثائقه هو وفاة من يستشهد بهم.. فهناك دائما في كل رواية عن نفسه شاهد أو حتى شهود، شرط أن يكونوا جميعا ممن توفاهم الله وتدل تجربة الجنس البشرى خلال البليون سنة الماضية، أنه مهما يكن حجم الكذب الذي يفتريه هيكل ومهما تصورنا المتوفى الذي يستشهد به فما من سبب يجعلنا نعتقد أن سيأتي من العالم الآخر ليفند رواية هيكل.. ويبدو أن مؤرخ الناصرية على يقين من ذلك ومن ثم يتبحبح هو بقى على حد قول أبو لمعة. .

وقد تفضل علينا هيكل في كتابه "ملفات السويس" و"بين الصحافة والسياسة" ببعض الوثائق على علاقته بعبد الناصر، ففي هامش ص 197 يعرفنا:

" سنة 1950 زارني جمال عبد الناصر في مكتبي في " آخر ساعة" وكنت رئيسا لتحريرها وراح يناقش معا ما يجرى في سوريا وكان قد قرأ تحقيقات صحيفة قمت بها في دمشق مع توالى تلك الانقلابات .
وكنت قد التقيت به قبل ذلك لقاء واحدا عابرا حينما مررت بمنطقة عراق المنشية قرب الفالوجة. وكانت المرة الثانية التي زارني فيها جمال عبد الناصر في مكتبة قبل الثورة في أواخر عام 1951 لكي يطلب منى نسخة من كتابي " إيران فوق بركان" ولم يكن جمال عبد الناصر معجبا بكل هذه السلسلة من الانقلابات السورية ولعله على ضوء ظروف تجربة مصر في الحركة العرابية كان شديد التشاؤم من نتائج إمكانية نجاح العسكريين.

هل يعنى ذلك أن عبد الناصر كان متشائما إلى أواخر عام 1951 .. فأين حديث بداية التنظيم سنة 1949 ولماذا أقامه وتحمل مخاطره..

متشائم من إمكانية نجاح العسكريين في أواخر عام 1951.. ويشكل ويقود تنظيما عسكريا .. ليه؟

هذه واحدة ولكن الأخرى أعجب، فقد تفضل المؤرخ فتنازل عن تواضعه وإنكار الذات الذي اشتهر به شهرة اللحمة في السوق.. فأخبرنا أنه هو الذي قال لجمال عبد الناصر إن الإنجليز لن يتخلوا لحماية الملك.

" وكان هذا أول دور أديته بالقرب من جمال عبد الناصر"

أو كما قال في " بين الصحافة والسياسة " ص 145 ع.

وبالرجوع إلى بين السياسة والصحافة نجد رواية تقول إ مؤلف الناصرية قابل زعيمها صدفة يوم 18 يوليو 1952 وصدفة أو نتيجة استفزاز من جانب هيكل انفتحت سيرة الانقلاب ونترك له الكلام:

" يوم 18 يوليو التقيت بالبكباشي جمال عبد الناصر والصاغ عبد الحكيم عامر ( لاحظ أنهما متوفيان المنزل كان يعج بالناس ولكنه استفرد بهما وهما وحدهما الشاهدان) ودار بيننا نقاش ساخن حول ما يجرى في البلاد ودور الجيش فيه، وتحمست أثناء المناقشة وقبلت لجمال عبد الناصر ما معناه: إن الجيش عاجز عن رد كرامته إزاء عدوان الملك عليه" ورد جمال عبد الناصر بالتساؤل عما يمكن أن يفعله الجيش.. أو ليست أي حركة عسكرية من جانبه يمكن أن تؤدى إلى تدخل بريطاني.. وتطوعت وقلت إن الإنجليز لن يتدخلوا .. لأنهم لا يملكون وسائل التدخل وأحسست أن عبارتي قد رنت جرسا في رأس جمال عبد الناصر.. لأنه التفت إلى وسألني عن الأسباب".

من الغريب – على حد تعبيره- أننا نصدق ادعاءه ونكذب أدلته أو روايته.. فنحن نميل إلى الاعتقاد من زمن طويل إلى أن هيكل هو الذي حمل إلى عبد الناصر التأكيد بأن الإنجليز لن يتدخلوا .. ولكن لغير ما أورده من أسباب وأهم من ذلك، لم يكن هذا التأكيد يوم 18 يوليو وليس صدفة ولا في مناقشة عابرة وبطريقة يفهم منها الطفل- وليس زعيما – ومدبر انقلاب – أنها تهدف لاستفزازه أو استدراجه لإفشاء ما يكون لديه من أسرار أو نوايا..

أولا .. لا يمكن أن يكون ذلك قد حدث يوم 18 يوليو لأن جميع المصادر وكل الأدلة توحي بأنه في هذا التاريخ كان الانقلاب قد تقرر فعلا ودارت ماكينته وأصبح أمرا مفروغا منه مهما تكن النتائج فلا يعقل أن عبد الناصر الذي يشغله مثل هذا الأمر الخطير.. هو تدخل الإنجليز وتكرار تجربة عرابي.. أو الكابوس الذي كان يشل أي ضابط مصري عن التفكير في الثورة ضد السراي، يتركه بلا حل إلى 18 يوليو.

إننا ننتقص كثيرا من جدية عبد الناصر إذا اتهمناه بأنه ترك هذا الاحتمال ( التدخل البريطاني) بلا مواجهة ولا حتى مناقشة ولو مع هيكل إلى يوم 18 يوليو، إذ يهبط عليه الوحي مصادفة وبمناقشة مع صحفي لم يقابله إلا مرتين.. مرة لقاء عابرا في فلسطين ، ومرة في مكتبه يطلب نسخة عليها إهداء كطالبات السنية مع إحسان عبد القدوس.. مع صحفي في دار أخبار اليوم الناطقة باسم السراي بشهادة هيكل نفسه.. ومع ابن أخبار اليوم البكر والحائز على جائزة الملك فاروق ثلاث مرات.. أم كانت هناك علاقات قديمة لم يحن وقت كشفها.. إلا أنه يفهم م رواية هيكل هذه .. أنها " كان أول عمل أؤديه بجانبه" تعبير غريب.. فمجرد إبداء الرأي ليس عملا وبجانبه.. فماذا يقصد خبير الصياغات المريبة.. هل دبرا معا منع التدخل البريطاني..؟ .. المهم حسب هذا النص أنه لم تكن بينهما علاقة عمل قبلها.

ويستفاد أيضا أن هيكل لم يكن يعلم – عن طريق عبد الناصر على الأقل- بعمل عبد الناصر للثورة، وإلا لما احتاج لاستفزازه أو استدراجه بتعبيره بقلة الثورية والعجز عن رد الاهانة .. وهذه نقطة مهمة نحتاط بها مستقبلا ضد أي ادعاء عن وجود علاقة ثورية أو حتى فكرية بين هيكل وعبد الناصر قبل الثامن عشر من يوليو 1952.. ولو كنا نملك تسجيل ذلك في الشهر العقاري لفعلنا.

ويفهم من عرض هيكل- كما قلنا- أنه لم يكن هناك سابق معرفة بين ناصر وهيكل تسمح بأن يثق به في هذه اللحظات، وهو يعرف أن كل القوى المعادية تتسقط الأخبار عن تحركاته.. ومن ثم فمن حقنا إسقاط هذه الرواية بالكامل.. وخاصة إذا أضفنا شهادة ناصر بالأمريكان كان في مارس .. والاتصال بالأمريكان كان أهم بنوده وفوائده هو تأمين عدم تدخل الإنجليز.. وأخيرا لأن شاهدي هيكل على هذه الواقعة لا يمكن أن تذكر إحداهما الأخرى فقد توفاهما الله .. وسبحانه يتوفى حتى الشيطان.

وأخيرا .. ففي كتاب الصحافة والسياسة نفسه نجد أستاذه" مصطفى أمين" يذكر سيدهما بأن مندوب المخابرات الأمريكية في السفارة الأمريكية هو الذي أجرى الاتصالات التي ضمنت منع التدخل البريطاني.

وهذا الذي تقابل مع عبد الناصر ثلاث مرات بالصدفة خلال 34 سنة من عمر عبد الناصر، سنجده بعد أربعة أيام من هذا اللقاء المصادفة، ثالث الاثنين يدير الحركة صباح 23 يوليو ن كما جاء في روايته الأكثر من فكهة، حيث وضع مصطفى أمين في معسكر الرجعية مع الهلالي على طرف التليفون وهو .. على الطرف الآخر ينطق باسم الثورة بشهادة اثنين من دون جميع الضباط الذين كانت تعج بهم قيادة الأركان.. ضابطان فقط حول هيكل. .ويشهدان بصحة روايته، لولا عائق بسيط للأسف وهو أنهما ماتا: عبد الناصر وعبد الحكيم عامر..

وكنا قد امسكنا بخناقه في واقعة من هذا اللون، عندما ادعى في كتاب " قصة السويس " أن عبد الناصر دعه وهو ذاهب إلى أمريكا في أكتوبر 1952 قائلا:" إن الكثيرين يعرفون علاقتك الوثيقة بى" .. فحاول أن يفلت في " ملفات السويس" وذلك بإجراء عملية تجميل للتاريخ البلاستيك رغم أنه في كتاب " قصة السويس" لصادر عام 1976 والذي ما زال في الأسواق، أورد كلام عبد الناصر بين مزدوجين هكذا:"....." دلي على أنه نص منقول حرفيا من كلام الزعيم الخالد، إما من الأرشيف الهيكلي أو الكمبيوتر إياه الذي فتن ضابط الإيقاع، أو أرشيف منشية البكري محطة سراي القبة.. إلا أنه اضطر مرغما إلى حذف هذا النص المتصل المصدر، فاعترف بأنه حديث موضوع مكذوب منكور واستعاض عنه بإيضاح ورد في الطبعة العربية 1987 يقول" وكانت السفارة الأمريكية بالقاهرة قد أخطرت واشنطن عن سفري وأضافت إليه أنني وثيق الصلة بـ " جمال عبد الناصر" ..

ظبطت ..؟ ولا نقص منها حته؟

ويبدو أنه توقع أن يكون القارئ الإنجليزى في مستوى ذكائنا ومن ثم سيسأله : " وعرفت منين السفارة الأمريكية. . هى العصفورة بتروح السفارة الأمريكية ؟ . .فكان أن قصر الشر ، وحذف الحديث والتفسير من الطبعة الإفرنجية، واكتفى بطلب عبد الناصر منه أن يقيم له الموقف في أمريكا.
وهذا يثبت فائدة النقد في تطوير التاريخ وتقدم فن تزويره، وتعلم الحذر من عثرات اللسان.
وقد أعفى مؤلف التاريخ قراءه العرب من حكاية اتصال عبد الناصر بهيكل عقب وصول أنباء الاجتياح الاسرائيلى لسيناء وحسنا فعل وإلا فإن مستشفيات مصر كلها لم تكن كافية لعلاج حالات الضغط والسكر ولكنه للأسف نشر هذه الفضيحة في الطبعة الإنجليزية ولعلها نوع من التشفي في الزعيم الذي كان على وشك أن يفتك بع لولا حظ هيكل..
قال : " حولت لي مكالمة ناصر على الفندق.. " الإسرائيليون في سيناء ويبدو أنهم يحاربون الرمال، لأنهم يحتلون موقعا خاليا بعد موقع.. إننا نراقب ما يجرى عن كثب، ويبدو لنا كما لو أن كل ما يريدونه هو إثارة عاصفة رمال في الصحراء لا نستطيع أن ندرك ما يجرى .. أقترح أنك تأتى".

يأتي أولا يأتي.

والله لولا أننا لا نشك –بعد- في وطنية عبد الناصر ، ولا نثق إطلاقا في رواية هيكل لظننا أنها مكالمة بين جاسوسين إسرائيليين يتبادلان التهاني:" اليهود في سيناء.. ولا أحد يقف في طريقهم ، المواقع تقع في أيديهم واحدا بعد الآخر بلا نقطة دم.. خالية. إنهم يحاربون الرمال بعد أن سحبنا لهم الرجال.. تعال بسرعة"..
ألا يعرفون زعيم مصر والذي كان عسكريا ماذا يريد الإسرائيليون في سيناء.. ولا يفهم لماذا يستولون على المواقع الخالية؟ وما ذنب اليهود إذا كانت المواقع قد تركت بلا مدافعين .. هل هم من المسلمين الأتقياء لا يدخلون موقعا حتى يستأذنوا ولا يدخلون موقعا ليس مسكونا؟ ..

هذا هو هيكل

مؤرخ القحط .

فتعالوا نرى ماذا أرخ.. قتل كيف أرخ.

الفصل الثاني : ثورتنا التي أجهضت..

" .. مهما تكن سياسة الحكومة الجديدة فالمهم أننا تخلصنا من الوفد.."
السفير البريطاني
27/1/1952

الجيل الذي لم يعش سنوات ما قبل انقلاب يوليو ، من حقه علينا أن نعرفه حقائق تلك الفترة ومن واجبه أن يعرف.. وأن يعي بداية أن تاريخ تلك الحقبة، قد تعرض لعملية تشويه شاملة وهو وضع طبيعي ومتوقع، لأن مصدر الشرعية أو المبرر لأية ثورة أو انقلاب أنها تثور أو تنقلب لتخليص الشعب من " نظام سيء" وعندما تنجح في قلب هذا النظام وإلى أن تتحقق لها إنجازات مباشرة ملموسة ، يكون إنجازها الأكبر هو إزاحة النظام السيئ ومبرر استمرارها في السلطة هو حماية الوطن والشعب من خطر عودة هذا النظام البغيض ومن ثم يغدو الإعلام الثوري، هو الذي يبرز مساوئ العهد البائد وتصبح أية إشادة ولو جزئية بذاك النظام أو رجاله عملا غير ثوري وطعنا في الانقلاب وتشكيكا في مشروعيته ومبرراته ومن ثم محظورة ، ولا رحم الله ستالين الذي قال:" في الحرب لا مكان للموضوعية".

فإذا ما كان التغيير ثوريا حقا، واستقرت الأمور، وتحققت المنجزات، فإن الثورات الصادقة تعيد احترام التاريخ، وتعتز بماضي الوطن وتفخر بأنها المكملة له، لأن من ليس له ماض يعتز به لن يكون له مستقبل.. فإذا اتفقنا على أنه حتى الثورات الحقيقية تضطر إلى مجافاة الحقيقة فترة، فما بالك بالمكانس؟.

وصحيح أننا عرفنا بحدة العبارة، وعنف التعبير ولكننا نعترف- للأسف- لأنه ما خطر ببالنا وصف انقلاب يوليو "بالمكنسة" مقشة.. إنما جاء التعبير من وزارة الخارجية الأمريكية .. وأم الصبي أدرى باسمه..

فلا غرابة في من قبل أن يكون مكنسة نكنس نظامنا – حتى ولو كان ذلك على هوى وبإرادة الأجنبي- لا غرابة أن يحرص على نفى أي صفة طيبة فيما جاء ليكنسه..

وهكذا تعرض تاريخنا للتزوير والتشويه والتجهيل، ولا حاجة للشباب للبحث والتقصي، فكل جيل الثورة كما يسمونه، لم يكن يعرف حتى عام 1973 بوجود شخص اسمه محمد نجيب والذين سمعوا عنه من آبائهم بدورهم ما كانوا يعرفون لا هم ولا آباؤهم- على وجه اليقين- إن كان محمد نجيب حيا أو ميتا، أما كتب المدارس الرسمية التي تلقن التاريخ ويفترض فيها أنتعلم الحقائق، فقد حذفت من التاريخ تماما أن محمد نجيب هذا كان رئيسا للجمهورية حتى ابن محمد نجيب شك في كلام أبيه وجاء إليه يقول: كيف تكذب على يا أبى وتقول إنك كنت أول رئيس لجمهورية مصر وكتب المدرسة والمدرس يقولان إن عبد الناصر هو ألأول.. ولعل محمد نجيب تمثل وقتها بحكمة : " البغل في الإبريق" .. وتذكر بعض ما افتراه على التاريخ يوم كان في السلطة وقليلا ما يعتبرون..

وقديما قال شوقي: أمن سرق الخليفة وهى حي.. يعف الملوك مكفنينا أو مسجينا.. لا أدرى ولا أعرف وزن الشعر ولا أحفظه.. وهكذا أفمن أخفى رئيس الجمهورية ومحا ذكره محوا وهو حي يرزق.. يتوقع منه أن يعف عن زعماء مصر وأحداث مصر التي انقضت قبل أن يولد؟

من هنا كان عليكم أن تقرئوا كثيرا وتنقبوا وتمحصوا أكثر.. ولا تقبلوا ادعاء بغير دليل ، ولا وثيقة دون مراجعة.. فإن ثبت لكم كذب كاتب أو تحريفه فانبذوه ولا تقبلوا شهادته أبدا.. هكذا كان السلف الصالح يتعامل مع التاريخ فلابد من المصدر ولا تقبل أحاديث الآحاد إلا بأن يكون مصدرها فوق الشك وأن تعزز بدلائل وقرائن وأن تتفق مع التصور العام ويستبعد حديث أو رواية من له مصلحة تعززها الرواية أو الحديث.. ثم هى في النهاية أضعف الحجج.. أما من ثبت عليه وضع أي تزييف حديث واحد فقد سقطت الثقة في كل أحاديثه.

نعم من حقكم أن تعرفوا ، ومن واجبنا أن نعرفكم أن انقلاب يوليو لم يكن ثورة بل الثورة المضادة التي دبرت لإجهاض الثورة الحقيقية.. فقد كانت مصر حبلى بنذر ثورية( كان الحزب الشيوعي يتحدث عن ثورتنا المقبلة التي باعها بعد ذلك بكرسي الوزارة في خدمة العسكر) بل نحن نعتقد أنه لو بقى الوفد في الحكم أسبوعا واحدا بعد معركة البوليس في الإسماعيلية، وصدرت المراسيم التي كانت قد أعدت فعلا بقطع العلاقات الدبلوماسية وإقالة حاكم عام السودان وإلغاء شرعية الوجود البريطاني في السودان، وإصدار الأمر للجيش المصري هناك بالمقاومة إذا ما تعرض له الإنجليز لو تم ذلك لتفجرت في وادي النيل ثورة وطنية شاملة تحمل إمكانات تغيير وجه وتاريخ المنطقة.. على الأقل هذا ما توقعه الأمريكيون وتؤكده وثائقهم كما سنرى بعضا منها.

ولم يكن وجود القصر يشكل عائقا مستحيل التجاوز.. فثورة 19 في ظل مل أسوأ وأكثر فجورا وقدرة من فاروق .. وثورة المغرب قامت وحققت استقلال الوطن في القصر المغربي أحيانا وبالقصر ..وأحيانا رغم القصر..

على أية حال كان القصر الملكي في مصر قد شل تماما بإلغاء المعاهدة، كما بدأ يفقد شرعيته وتأثيره بسرعة هائلة، فمن ناحية كان لقب ملك مصر والسودان الذي صدر مع مراسيم إلغاء المعاهدة، قد قيد حركة الملك والمتعاونين معه، وفرض نفسه عليهم بحيث استحال التنازل عنه لو أرادوا ، وإن كان الإنصاف يقتضينا القول أن أسرة محمد على كانت أكثر وعيا بحيوية وأهمية ومصيرية وحدة وادي النيل من كل الحكومات التي تعقبت بعدها، وإن كان السادات قد حاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكن القوى المعادية كانت قد نفذت بين اللحم والعظم ..

وقد أشرنا إلى الوثائق الأمريكية والبريطانية التي تتحدث عن عقدة اللقب والعجز عن التغلب عليها،لإصرار مصر كلها ملكا وحكومة ومعارضة وشعبا على الالتزام بوحدة وادي النيل تحت التاج المشترك، أو ملك مصر والسودان..

وهذه وثيقة عن لقاء تم بين السفير الامريكى " جيفرسون كافري" والملك فاروق وسجله السفير – وكعادتهم- وبعث به في مذكرة للخارجية الأمريكية بتاريخ 8 مايو 1952 أي قبل الانقلاب بشهرين، وربما كان موقف الملك في هذا اللقاء من حيثيات التعجيل بالانقلاب. وهذه الوثيقة من الوثائق التي لا يراها مؤرخ الناصرية، لأنها من نوع خاص ومكتوبة بحبر سرى لا يرى إلا بالعين المجردة .. وأنى له ذلك؟..

" تحدثت هذا المساء مع صاحب الجلالة حول رغبته في نصيحتي ، فقال إنه لن يقبل تحت أي ظرف من الظروف الاستشارات مع السودانيين قبل اعتراف بريطانيا باللقب وأصر على أنه إن كان عليه أن يبقى في منصبه فإنه لا يمكنه الموافقة على ذلك وقال: لا هذه الحكومة ولا أي حكومة أخرى ستبقى في مركزها ، لو وافقت على هذه الشروط وقال الملك: لأول مرة منذ أن توليت منصبي، لا أدرى ماذا أفعل لو استقال الهلالي.. ففي كل مرة كان لدى وزارة جديدة، في أحد أدراج مكتبي، إلا هذه المرة.

وفى آخر مرة قابلتك قلت لك: هذه هى الفرصة الأخيرة .

وأقولها لك مرة أخرى الآن، وأنا لا أعتقد أن بريطانيا تصدق هذا ولا أظن جماعتكم يعتقدون ذلك ولكنى مضطر لأن أقول لك إنكم ستندمون إذا ما سقطت أنا".

ثم بدأ يسرد شكواه ضد البريطانيين التي أرادني أن أبلغها لستيفنسون ( السفير البريطاني) فقال إن البريطانيين قد أخلفوا 65 وعدا لمصر بالجلاء، وأنه لا يستطيع الوثوق في كلمتهم وليس لديهم النية في الوصول إلى اتفاق" واستعرض تاريخ السودان مؤكدا المنطلق الذي ركزت عليه من قبل فقال: " في مصر كان التغيير من لقب خديوي إلى سلطان إلى ملك أما في السودان فقد كان اللقب دائما هو " صاحب" ( كان اللقب: ملك مصر وصاحب السودان.. الخ) وهو لقب أشمل من ملك لأنها تعنى " سيادة الملكية" بكسر الميم فنحن لا نطلب جديدا بل نطالبهم باتباع نفس المنطق ولكن إذا استمرت الأمور على النحو الذي تسير به الآن، فقد أراني مضطرا لحماية وضعي أو لحماية البلاد، بأن أهاجم الإنجليز علنا وأدينهم إدانة شاملة".

وهكذا فإن القرار الوفدي بإعلان فاروق ملكا على مصر والسودان، قد شل يد السراي، وبالتالي فقدت أهميتها بالنسبة للاستعمار، فلم تعد أداة الضغط على الحكومات والأحزاب للتنازل في القضية الوطنية، بل أصبحت هى ذاتها أسيرة الموقف وعقبة وعنصرا من عناصر التشدد، ولذا فعندما تأكد الأمريكيون استحالة قبول بريطانيا لوحدة مصر والسودان، اتخذوا قرارهم بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، وقد وصلنا لهذا الرأي بالتحليل وذلك في مقالات أكتوبر وكتاب " كلمتي للمغفلين" وإذا بشهادة ناصرية تؤكد ما وصلنا إليه، وهى شهادة الأستاذ فتحي رضوان الذي ظل وزيرا في حكومة عبد الناصر ست سنوات، فقد شهد أو اعترف بأن إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية كان قرارا أمريكيا.. ولمن شاء الرجوع إليه في كتابه( 72 شهرا مع عبد الناصر وفى ملاحق هذا الكتاب) ..

ورغم هذه الشهادة القاطعة يحاول فاتح الملفات أن يوارى هذا السبب فيقول إن الملكية ألغيت خوفا من تآمر الطفل احمد فؤاد أو امرأة تدعى " نسل شاه" مع الإنجليز.. وهو على أية حال لا يناقض شهادة فتحي رضوان الذي قال إن الإنجليز كانوا يريدون استمرار الملكية بدون فاروق والأمريكان يريدون إلغاءها.. " ثم انتصرت وجهة نظر الأمريكان" بنص حروفه.. أما ما يعزز تفسيرنا فهو أنهم عندما ألغوا الملكية لم ينادوا " بمحمد نجيب" رئيسا لجمهورية مصر والسودان.. وقد أكد اللقب كان هدفا.. وأن رجال 23 يوليو جاءوا باستعداد للتخلي عن السودان.. وقد أكد ذلك أو اضطر للاعتراف به محمد حسنين هيكل بعدما طرحناه بثلاث سنوات، فقال " إن إلغاء الملكية وزوال اللقب ( ملك مصر والسودان* جعل مشكلة السودان أقل حساسية .."

_ وجاء في تقرير للخارجية الأمريكية بتاريخ 8 أغسطس 1958: " أبلغت الرئيس إيزنهاور أن الموقف في مصر يتحسن كل يوم.. وهناك مؤشرات بأن المجموعة التي في السلطة يرغبون في فصل لقب ملك السودان عن قضية قاعدة السويس" وفى 5 يناير 1953 قال وزير الخارجية الأمريكي للسفير الاسرائيلى:" نحن نريد تقوية نجيب وقد قطع شوطا طيبا في حل مشكلة السودان".

ومن ناحية أخرى فإن المواجهة التي طرحها الوفد ضد الاحتلال البريطاني ، وضعت السراي في موقف المشبوه، وخاصة عندما عين الملك حافظ عفيفي باشا رئيسا للديوان الملكي ، وكان معروفا بموالاته للانجليز وعدائه للوفد وعندما خرجت المظاهرات الصاخبة محتجة، وفى الجامعة هتفوا :" يسقط عفيفي وحافظ عفيفي" " يسقط عفيفي وحامى عفيفي" والتقط ممثل " الحزب الشيوعي المصري" في الجامعة وكان طالبا في كلية التجارة التقط الخيط أو المبادرة من الجماهير وهتف" بسقوط الملك وحياة الجمهورية" وزلزلت الأرض وانتشر الهتاف للجمهورية لأول مرة في مصر منذ ثورة 1919 عندما أعلن النائب الوفدي جمهورية زفتى..

وهكذا اكتملت الثورة، ضد الاستعمار " الأنجلو- أمريكي" كما كانت الجماهير قد حددت عدوها.. وضد السراي وفلول الرجعية، وفى نفس الوقت كان الفلاحون في الريف يخوضون فعلا المناوشات التحضيرية للثورة الفلاحية الكبرى.

وحتى إذا قلنا إن الوفد- وقتها- كان بتشكيله، وحقيقة وجوده في السلطة، غير مهيأ لقيادة الثورة الوطنية، فقد كان بكل تأكيد، يفتح لها الأبواب وهذه هى الثورة التي بدأت ضد الاحتلال الفرنسي أو ما يعرف بحملة نابليون، واستهدفت قيام مجتمع مستقل – ديمقراطي- صناعي.. وقد كللت تلك المرحلة بتحقيق الجلاء الفرنسي، ثم بتنصيب " محمد على" واليا على مصر بإرادة الشعب.

وإذا كان من العار أن نقارن بين العملاق محمد على، وعبد الناصر ، فالأول انتصر في جميع معاركه وأصبح القوة الأولى أو الوحيدة في المنطقة من اسطنبول إلى السودان.. ولم يهزم إلا أمام بريطانيا العظمى التي كانت – وقتها- في تفوقها وجبروتها تشبه القدر، إلا أن خطيئة أو جريمة محمد على تشبه إلى حد ما جريمة عبد الناصر، وهى تدمير الرأسمالية المصرية بشقيها الاقتصادي والفكري، وهى قيادة الأمة التي كان بوسعها أن تمتص الهزيمة العسكرية وتحد من نتائجها.

وقد هزمت فرنسا في حرب السبعين واحتلت باريس ولكن فرنسا لم تنهار، واستأنفت مسيرتها وكذلك الحال مع ألمانيا في الحربين العالميتين ، الأولى والثانية ، ونفس الشيء يمكن أن يقال عن اليابان وإيطاليا.. لماذا ؟ لأن الرأسمالية في تلك البلاد لم تدمر كطبقة ومن ثم استأنفت عملية البناء واحتالت لذلك ما وسعها.. ولكن محمد على دمر الرأسمالية المصرية، من ناحية بالاشتراكية أو ما سمى بنظام الاحتكار، وهو اشتراكية بالثلث إذا سمحنا لأنفسنا بتسمية تأميمات عبد الناصر بالاشتراكية، بل إن اشتراكية محمد على كانت أشمل وأنجح، فقد كانت الدولة هى الزراع والتاجر والصانع وكان الثمن هو دمار التجار والصناع والحرفيين ، أو أسلاف البرجوازية الصناعية.

كذلك دمر محمد على القيادة الفكرية والسياسة للبرجوازية أو الرأسمالية الوطنية بديكتاتوريته وإذا كان المثقفون المدافعون عن ديكتاتورية عبد الناصر بحجة انجازاته قد سقطوا في مزبلة التاريخ، فإن قباحة موقفهم تبدو أشد بمقارنتها بموقف عبد الرحمن الجبرتي شيخ المثقفين وأبو التاريخ المصري الحديث.. الذي لم يغفر لمحمد على ديكتاتوريته قط، وقال عبارته المشهورة : لو أوتى شيئا من العدل لكان من ملوك التاريخ الكبار بل من أكبرهم" .. لم يكن الجبرتي في هذا الموقف من رفض ديكتاتورية محمد على يمثل شرف الفكر فحسب، بل أيضا يمثل عبقرية المؤرخ الذي قرأ سطور ما لم يقع بعد.. ذلك أن كل منجزات محمد على قد انهارت بسبب هذه الديكتاتورية لأن الديكتاتورية قتلت قيادة الأمة، وأخرجت الأمة ذاتها من الصراع.. فلما انهزم الحاكم مدافعا، أو لم يجد طبقة لها مصلحة في مقاومته، وتحولت مصر إلى سوق للإنتاج الأوربي ، وسقطت أول محاربة لانجاز الثورة الوطنية التي لبها ومغزاها هو بناء مجتمع صناعي..

أو كما يقال كل ديكتاتور يذهب وتذهب معه منجزاته ولا تبقى إلا سيئات ما ارتكب. وخلال الحرب العالمية الأولى، وبسبب الحصار الذي منع تدفق الإنتاج الأوربي انتعشت الرأسمالية المصرية( إلى جانب عامل عديدة بالطبع لا مجال لذكرها) وتطلعت إلى الاستقلال بسوقها المصرية فكانت ثورة 1919 بقيادة الوفد، وقد نجحت هذه الثورة جزئيا وقام بنك مصر والعديد من المؤسسات والصناعات المصرية.. ودخلت البرجوازية المصرية في صراع مرير معقد بل وبدا في معظم الوقت كئيبا يائسا في ظل تفوق بريطانيا الساحق في الفترة ما بين الحربين ، ونجاحها في إرباك الوفد وشله معظم الوقت بمؤامرات السراي ووضاعة أحزاب الأقلية، وما دبرته من انشقاقات في صفوفه.. وأيضا لرفض قيادته أو عجزها عن تبنى أسلوب المقاومة المسلحة أي الانتقال من الصراع الدستوري العلني إلى الكفاح السري.. وخاصة بعد أن انهار التنظيم السري المسلح بعد حادثة السردار، وإن كانت نهايته قد تقررت قبل ذلك عندما عجز عن ممارسة الحرب الشعبية فلجأ إلى الإرهاب.

ولكن قوى التاريخ، لا تتوقف وقد استمرت الرأسمالية الوطنية في النمو، سواء ثقافيا أو اقتصادي وقد شهدت مصر في الفترة 1924- 1951 أروع فترات تاريخها من ناحية الازدهار الفكري، وظهر فيها شوامخ الثقافة العربية والفن العربي.. شوقي – حافظ- الرافعي- طه حسين- العقاد- المازني- بدوى- مشرفة- تيمور- عبد الوهاب.. أم كلثوم.. مختار.. الخ الخ.. وظهر عمالقة الاقتصاد وأشهرهم طلعت حرب في بنك مصر ومجموعة معجزة من الشركات المصرية بالكامل، كلها دمرتها ثورة يوليو أو أصابتها بالشيخوخة فلم يقم لها مثيل إلى الآن.. ( 21 شركة من الطيران إلى السينما والنسيج الخ) كان طلعت حرب مثقفا مصريا واعيا، بدأ كفاحه بكتاب وليس بدبابة .. وقد وضع كتابا اسمه " علاج مصر الاقتصادي أو مشروع بنك مصر للمصريين أو بك الأمة".

ولكن الوعي وحده لا يكفى، فقد كان لابد من ثورة 1919 ليتمكن طلعت حرب من انتزاع حق المصريين في إنشاء بنك من فم الأسد البريطاني.. وغنى له شوفي واستثمر طلعت حرب وطنية المصريين وهو إجراء مشروع ومرغوب فيه، ويرى الدكتور على عبد العزيز سليمان أن من أهم الحقائق التي طمستها الأيام " أن البنك الصناعي الأول في مصر أنشأته طبقة كبار الملاك الزراعيين". .

ونحن لا نرى ما يثير الدهشة والغرابة في تلك الحقيقة، إنما يندهش من يتمسك بالتفسير الأوربي للتاريخ، حيث كان الإقطاعيون ضد الصناعة، وكان لابد أن تظهر الطبقة الصناعية خارج أبراجهم وقلاعهم.. ومن ثم استحال أن يكون كبار الملاك مع الصناعة.. أما في بلادنا فالصورة مختلفة تماما، فحضارتنا لم تعرف هذا الإقطاع الأوربي فقد احترم الإسلام الملكية الفردية، واحتفظ للإنسان الفرد بمستوى من الكرامة والحرية في أحلك العصور..

وثانيا : منذ أن دخلت بلادنا تحت السيطرة الأوربية، سقطت هذه التقاسيم أو استحال قيام سور صيني بين الطبقات المصرية، فكبار الملاك كانوا طليعة المقاومة ضد الهيمنة الأجنبية، واحتفاظهم بالملكية الزراعية، كان وضعا طبيعيا لأن الأرض كانت هى المصرف الوحيد المتاح للثروات.. فلا عجب أن يتطلع كبار الملاك للصناعة، وإن كان هذا لا يمنع تفاوت المقاومة والصلابة بتفاوت المراكز الاجتماعية.

وكان كفاح الوفد لصالح الرأسمالية الوطنية يتمثل في تدعيم السلطة الوطنية وأبرز المنجزات إلغاء الامتيازات الأجنبية في معاهدة 1936.. وأيضا محاصرة النفوذ البريطاني، بالتمسك بالدستور والإصرار على أن تكون كل السلطة للمجلس النيابي المنتخب حيث ينعدم تأثير هذا النفوذ.

وجاءت الحرب العالمية الثانية، بدفعة للرأسمالية المصرية نقلتها إلى مرحلة جديدة، مرحلة ما يسمى بالانطلاقة أو "......." .. ولكن هذه الانطلاقة كانت تتطلب إنهاء السيطرة الاستعمارية على النظام المصري.. وبدأت كل القوى تستعد للمعركة الفاصلة، وإذا كان المجال لا يتسع للتفصيل، فلا باس من الإشارة إلى الجانب العربي الذي برز في نمو ونشاط الرأسمالية الوطنية المصرية، التي

كانت قد مصرت الفكر والفن العربي، وبدأت خطوات ناجحة واضحة في تمصير الاقتصاد العربي، أو ربطه بالقلب الطبيعي والتاريخي، فكان بنك مصر هو أول بنك للعرب وبنى طلعت حرب أول فندق في السعودية وشق له الطريق من جده إلى مكة وبنى سينما في بيروت لعرض أفلام ستوديو مصر.. الخ..

وعلى الجبهة السياسية كان إنشاء الوفد للجامعة العربية وقبول العرب بلا جدال أن تكون مصر هى المقر الدائم، وأن يكون أمين الجامعة مصريا، وهرع زعماء حركات التحرير العربية إلى مصر طلبا للجوء أو الدعم لنشاطهم ضد الإنجليز والفرنسيين .. كانت الثورة الوطنية المقبلة تبشر ليس فقط باستكمال تحرر مصر وتصنيعها .. بل وأن يكون هذا التحرر والتصنيع في إطار وحدة عربية بصيغة ما.

وقد أسهبنا في حديث الثورة الوطنية لنكشف لماذا كان انقلاب يوليو تعبيرا عن إرادة القهر الاستعماري لسحق هذه الثورة. سحق الرأسمالية الوطنية في مصر والوطن العربي كله.. تسليم مصر والوطن العربي، مرة أخرى للإنتاج الأجنبي سوقا مفتوحة بلا مقاومة أو قوة قادرة وصاحبة مصلحة في المقاومة.. وقد حقق عبد الناصر ذلك بالتأميم والمصادرات التي كانت صريحة في استهدافها القضاء المبرم على الرأسمالية المصرية ووأد محاولتها إقامة اقتصاد عربي موحد ..

كما دمر عبد الناصر القيادة الفكرية والسياسة بالاستبداد والإرهاب وإفساد التعليم على نحو لم ينجح استعمار بربري في إلحاقه بعدو لدود تمكن منه، فلما هزم عسكريا وجاء نائبه وخليفته ورفيق كفاحه وشريك هيكل في انقلابه.

أكمل السادات المهمة بفتح الباب للإنتاج ورأس المال الأجنبي.. وخسرنا جولة أخرى في حرب الاستقلال التي توشك أن تدخل قرنها الثالث.. ولكن لا يأس .. بل يحق لنا أن نستشهد بكلمة " ماو" فنقول نحن أيضا : هذا مجرد فشلنا الرابع على طريق النجاح.

كانت القوى الوطنية تتجمع للمعركة الفاصلة، وفى تلك الفترة أو خلال الحرب بالذات، ظهر ما يمكن تسميته ببذور حركة الجيش من بعض العسكريين الذين لم يؤمنوا بالشعب ولا بالعمل السياسي ، ومن ثم بدئوا مبكرا جدا محاولة ضرب الاستعمار البريطاني باستعمار آخر.. وهى المحاولات التي بدأت مع الألمان بواسطة عزيز المصري وأنور السادات وحسن إبراهيم وذو الفقار صبري وبغدادي .. وانتهت مع الأمريكان بزعامة عبد الناصر.. ومعروفة محاولة " عزيز المصري" الهرب بطائرة إلى الألمان في الصحراء الغربية ولكن الطائرة سقطت.

المهم أن هذا التيار العسكري المتآمر سيظل كامنا في الجيش حتى ينفذ مؤامرة 23 يوليو.. ولكن مع عدو الإنجليز المنتصر. الولايات المتحدة الأمريكية .

وكان الوفد قد قرن قبوله للحكم في 1942 باستكمال استقلال مصر بعد انتهاء الحرب، لذلك تعجل الإنجليز طرده من الحكم فور تحسن الوضع العسكري للحلفاء في عام 1944 .. بل حتى خلال فترة حكمه التي اضطروا لقبولها لتهدئة المصريين، دبرت المخابرات البريطانية مع رجال القصر إحداث انشقاق قبطي في الوفد بقيادة مكرم عبيد فيما عرف بحزب الكتلة الوفدية ولكن المؤامرة لم تنجح، إذ استمرت جماهير الأقباط ملتفة حول حزب الوحدة الوطنية، وتألق إبراهيم فرج بينما خبا نجم مكرم عبيد الذي لم يكن طائفيا، وما كان يمكن أن يكون.. بل أحس بالندم وأنه استخدم .. فظل حائرا يدور حول نفسه وحول الوفد الذي شهد أحلى وأمجد وأشرف سنوات عمره.. وانكمش الشقاق إلى ما سمى بالكتاب الأسود الذي كانت تروجه السراي والإنجليز للشوشرة على الوفد، وإضعافه في مواجهة الملك والاحتلال.. والدليل على ذلك أن ها الكتاب لم يجد أي اهتمام بعد خروج الوفد من الحكم ، ولا كان له أي تأثير على شعبية الوفد بل اختفى تماما من المكتبات .

عاد الوفد إلى المعارضة وانتصر الحلفاء الإنجليز والأمريكان والفرنسيون وأيضا الروس.. أما الفترة من نهاية الحرب إلى عودة الوفد للحكم 1950 فكانت أعنف خمس سنوات في التاريخ المصري، كأنما جرى ضغط التاريخ وتكثيفه لينفجر كله في هذه السنوات الخمس .. اغتيل رئيسان للحكومة : أحمد ماهر والنقراشي .. واغتيل زعيم الإخوان، وجرت عدة محاولات لاغتيال رئيس الوفد، واصطدم المصريون بالإنجليز في الشوارع فيما يشبه أيام ثورة 1919 الأمر الذي اضطر الإنجليز للانسحاب إلى مدن القنال وهذه هى الحقيقة التي ينساها الجميع وهى أن مقاومة الطلبة في 1946 حققت الجلاء عن العاصمة ومصر كلها، وجعلت أي تدخل بريطاني مسلح يتطلب إعادة احتلال مصر.

ومع المد الثوري ظهرت تنظيمات حاولت أن تتخطى الأحزاب القائمة، فإلى جانب حركة الإخوان وإلى حد ما مصر الفتاة التي كانت من خارج مجرى حزب الوفد أو أحزاب 1919 ظهرت الحركات الخاضعة لنفوذ الماركسيين.

والمعروف أن الحركة الماركسية ظهرت في مصر خلال الحرب على يد اليهود وبتشجيع من المخابرات البريطانية لمواجهة العطف الذي انتشر نحو ألمانيا..

ورغم أن الحركات انحصرت في قطاعات شديدة الخصوصية من المثقفين وبعض الطلبة وحلقات محدودة من العمال ولم يكن لها أي وجود في الريف ولا عامة المدن إلا أن المد الوطني الذي تعالى في عام 1946 بالذات مكن الشيوعيين من الظهور في حجم أكبر بكثير من حقيقتهم إذ تسلقوا فوق أكتاف الجماهير والتاريخ معا.. كانت الحركة الشيوعية تضع قدما فوق رفض الجماهير للنظام الاستعماري بأكمله والقدم الأخرى فوق السمعة الأسطورية التي خرج بها الاتحاد السوفيتي من الحرب، فبدا القزم عملاقا وأخفت ملامحه المشوهة عن عين قطاع من المثقفين.

وفى الداخل كان الشيوعيون مثل الإخوان يستثمرون يأس الجماهير من قدرة الأحزاب على تغيير الواقع الذي دام ربع قرن منذ ثورة 19 التي أنبتت هذه الأحزاب.. التي بدت – بدورها- بموجب دستور 1924 كجزء من النظام، مع تفاوت في المعارضة أو الشعبية أو احترام حقوق الشعب ولكن في إطار النظام والشرعية والدستور.. وكلها مصطلحات أصبحت مرفوضة من الجيل المتعطش لصدام ثوري غير قانوني.. وخاصة أن العربدة السياسية التي مارستها السراي وأحزاب الأقليات في الفترة من 1944 إلى عودة الوفد 1950.. أفقدت الطلائع الشابة الثقة في النظام الدستوري، وكشفت عجز الوفد عن مواجهة عبث السراي بالدستور وإرادة الناخبين.. وقد امتد هذا الشعور حتى إلى الوفديين .

وتشكلت لجنة الطلبة والعمال في 1946 من الشيوعيين والإخوان والوفديين ، ودخلت بإضراب 21 فبراير 1946 الذي أصبح عيدا عالميا للطلبة تخليدا للموقف المصري، وتتابعت إضرابات الطوائف من العمال والفلاحين والمعلمين حتى رجال البوليس لأول مرة منذ عام 1919 , وبدا وكأن الثورة الوطنية أو البرجوازية ستستأنف مسيرتها وأن قيادة ما ستجمع أو تستخلص أفضل ما في القوى السياسية الثلاث ستقود هذه الثورة نحو مصر المستقلة الديمقراطية الصناعية قاعدة ومركز وقطب الوحدة العربية.. ولكن كارثة قومية كانت تتجمع في الأفق لتنفض لا على فلسطين وجيش مصر فحسب، بل على تاريخ ومستقبل وتطور ووجود الوطن العربي كله.. وبالتالي كان لابد أن تضاف على قائمة مسئوليات الثورة الوطنية المصرية.. ألا وهى كارثة إسرائيل ..

ويبدو أنه لابد من وقفة هنا مع هذه الحرب الأولى لأن كل العوامل الأخرى التي نناقشها أصبحت ظواهر تاريخية وبقيت حقيقة إسرائيل التي يبدو أنه ستصاحبنا طويلا، وفيها تركزت كل معوقات الثورة الوطنية العربية، فهي الفيتو على أهداف هذه الثورة.. إذ لا استقلال ولا ديمقراطية ولا تصنيع ما دامت إسرائيل مصممة على أن تكون هى الدولة العظمى في المنطقة ، والعرب مادة إمبراطوريتها ومجالها" الحيوي" .. ومن هنا خطورة المحاولات التي جرت وتجرى لإخفاء أهمية العامل الاسرائيلى، وهو ما ممارسه ويمارسه الناصريون وفى مقدمتهم هيكل.

ولقد تنبهت القوى الوطنية لهذا الخطر، وبنسب متفاوتة، بحكم تكوينها وجذورها وأيدلوجيتها فكان الإخوان ومصر الفتاة والوفد ضد إسرائيل ومع حرب فلسطين، وقد اشترط زعيم المعارضة في مجلس الشيوخ وقتها للموافقة على ميزانية الحرب أن تتعهد الحكومة:" بعدم التصرف في قضية فلسطين إلا بموافقة الشعب الفلسطيني، وإنصافا للتاريخ كان الملك والقوى السياسية الحاكمة على وعى بالخطر الاسرائيلى لا يقل كثيرا عن الوعي الحاضر دون التقليل من حقيقة تغلغل النفوذ اليهودي في الطبقة الحاكمة- وإن كانت النتائج تؤكد أنه كان أكثر تغلغلا في مصر الناصرية- وقد أشرنا إل وعى الملك بهذا الخطر، وجلسة البرلمان التي أقرت فيها الحرب حافلة بأحاديث وتعليقات النواب والشيوخ حول الخطر الاسرائيلى، ومن ثم فلا أساس لادعائه.

" وحتى عندما بدأت الخطوط الصهيونية تتضح بما لا يقبل مجالا للشك بعد صدور قرار التقسيم فإن الحكومة المصرية لم تكن على وعى بحدود الخطر الاسرائيلى"

ليس صحيحا .. وقد كان من أهم أهداف إنشاء الجامعة العربية هو مواجهة الخطر الصهيوني واتخذت الجامعة والحكومة المصرية قرار رفض التقسيم أو قيام إسرائيل ، ولكنها – أي الحكومة المصرية- كانت عاجزة.

أما الشيوعيون ، فقد سقطوا سقطتهم التاريخية التي لم يفيقوا من آثارها حتى اليوم ولم يكن هذا الموقف منهم بفعل تبعيتهم الببغائية للاتحاد السوفيتي فحسب، بل وأيضا – وربما وأولا- لتغلغل العناصر الصهيونية في قياداتهم.. ولم يقتصر هذا الموقف المؤيد للصهيونية على عملاء موسكو، بل امتد ليشمل بالحتمية عملاء الولايات المتحدة، الظهير الأكبر لإسرائيل ، وإن كنا لا ننسى أن قيام إسرائيل كان أو نقطة اتفق فيها العملاقان بعد الحرب العالمية الثانية .. ولعل بعض المؤرخين يجد بذور سياسة الوفاق في اتفاق العملاقين الأمريكي والروسي على إزاحة بريطانيا من فلسطين بواسطة اليهود.

وكما حاول عملاء روسيا، إخفاء عارهم وفضيحة الموقف السوفيتي- وقتها- بادعاء أنه انبثق من تحليل خاطئ بتقدمية المجتمع الاسرائيلى، ورجعية الموقف العربي، فإن عملاء أمريكا والصهيونية مازالوا يرددون إلى اليوم أكاذيب إسرائيل عن طبيعة المواجهة العربية- الإسرائيلية بصفة عامة ودوافع العرب في حرب 1948.

فالبعض خرج علينا بأن حرب 1948 كانت فخا أعد بعناية وساقنا إليه الإنجليز، وكان الحذر – وربما الوطنية- يفرضان علينا رفض الانسياق للخدعة البريطانية.. وإن مصر لم تكن تريد هذه الحرب على الأقل في هذا التوقيت فضلا عن أنها لم تكن مستعدة لها.

ويقول هيكل إن ضابطا مصريا شابا هو البكباشي جمال عبد الناصر لاحظ أنه كان غريبا أن يكون الإنجليز على قاعدة قناة السويس هم الذين يفتحون لنا الطريق ونحن نتقدم عبر سيناء إلى فلسطين ، ولقد أثار دهشتي أننا كنا نتقدم لنحتل مواقع الثانية البريطانية حول غزة في نفس الوقت الذي كانت فيه هذه الفرقة تخلى مواقعها عائدة إلى مصر ( لاحظنا أن هذا التعجب المنسوب لبكباشى هيكل (ناصر) منقول من تعجب اللواء محمد نجيب ورد في مذكراته صفحة 338 فعسى أن يراجعها القارئ ليتعرف أكثر على هذا الملفق).

وإذا كان للبكباشي عذره في هذا الوقت بسبب نقص معلوماته السياسية ، ولأنه لم يكن قد اجتمع بعد بالمخابراتى اليهودي كوهين وتثقف على يديه، كما يخبرنا هيكل، إلا أن ترديد هذا القول بعد أربعين سنة إنما يصدر من منطلق آخر أخطر من الجهل وهو إخفاء الدور الأمريكي فلا شك أن حرب 1948 كانت في أحد جوانبه صورة للصراع الأمريكي- البريطاني.

ذلك أن اليهود كانوا قد عرفوا تطور ميزان القوى في الحرب العالمية الثانية ، وربطوا شراع دولتهم المنتظرة بالريح الأقوى.. أي الولايات ا لمتحدة، التي كانت بدورها تعرف أهمية موقع فلسطين في السيطرة على شرق البحر الأبيض، ومن ثم فقد نزلت بكل قواها لطرد الإنجليز من فلسطين مستخدمة في ذلك اليهود، الذين – كما قلنا- اتفقت مصالحهم مع التطلع الأمريكي، ومن ثم جرى جلد الإنجليز وإعدامهم وفشلت كل محاولات الإنجليز في تأجيل خروجهم من فلسطين، فأعلنوا الانسحاب مع محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه وكانت أداة بريطانيا الأولى في الاحتفاظ بقطعة من فلسطين هى الفيلق العربي بقيادة الإنجليزي جلوب.. ومن المثير حقا ألا يندهش عبد الناصر لكون قائد الجيوش العربية هو الملك عبد الله والذي كان ينوب عنه في القيادة الفعلية جنرال انجليزي لحما ودما؟..

وبالطبع كانت بريطانيا تعرف أنه وإن يكن شرق الأردن هو محل ثقتها إلا أن هذا الجيش وحده غير قادر على التصدي للقوات اليهودية ومنع استيلائهم على كل فلسطين، ومن هنا كانت الحاجة إلى الجيش المصري، وتسهيل حصوله على السلاح فلا غرابة ولا عجب إلا لمن يريد الاندهاش على روحه فلما تمت التسوية البريطانية – الأمريكية التخلي عن الجيش المصري سواء من جانب الجيشين الأردني والعراقي، أو بمنع السلاح من جانب البريطانيين .

بل وطلب تشرشل المخرف من إيدن أن يبلغ حكومة الوفد أنها " إذا لم تكف عن إزعاجنا فسنطلق عليهم اليهود، يلقون بهم إلى الحضيض حيث لن يخرجوا من هناك أبدا". فإظهار الدهشة الآن من موقف بريطانيا هو في الحقيقة لإخفاء العار في موقف أمريكا، وبنفس القدر فإن التشبث بزاوية الصراع الأمريكي- البريطاني، لإنكار البعد العربي، هو محاولة لإخفاء الطابع الاستعماري العنصري في الغزو الاستيطاني اليهودي لفلسطين .ومن هنا جريمة أن يقول هيكل لقرائه الأجانب إن الإنجليز أرادوا الدخول المصري في حرب فلسطين " لحرف أنظار المصريين عن النزاع معهم، وكان في وسع الإنجليز الاعتماد على الملك فاروق الذي كان واعيا بنقص شعبيته، وأن البلاد كانت تعانى من كساد اقتصادي ( قال يعنى زى حروب أوربا لتشغيل المصانع والعاطلين) ومن ثم فإن نصرا عسكريا هو بالضبط ما يحتاجه الملك الذي كان الآن كولونيلا فخريا في الجيش البريطاني وفيلد مارشال مصريا ، وهناك أدلة على أن بريطانيا كانت مستعدة لتسليح مصر بطريقة غير عادية .. السماح بالسرقة".

وقد ناقشنا ذلك في موضعه، أما أننا انسقنا إلى الفخ ، فلم يكن غباء وإنما حتمية تاريخية فرضتها عدة عوامل أهمها أن الصدام بين الأمة العربية والصهيونية كان صداما حقيقيا ومصيريا ومشروعا من الجانب العربي المعتدى عليه، والضحية لاستعمار عنصري وليس العكس كما يحاول هيكل أن يروج في الإعلام العالمي وها هو كتابه " ملفات السويس" يتهم الملك عبد العزيز بأنه قال للرئيس روزفلت باستحالة " التعاون بين العرب واليهود في فلسطين أو في أي مكان لأنهم يهود ودون إشارة لاغتصابهم فلسطين، بينما يعرف هيكل أنه كاذب وأن النص الأصلي لكلام الملك هو الذي نشره- هو نفسه- في الطبعة العربية وهو "أن اليهود والعرب لن يتعاونوا أبدا في فلسطين والعرب يشعرون بالتهديد المتزايد"..

المصلحة من وبأي هدف يقال هذا الكلام في الخارج؟.. لتبرير العدوان الاسرائيلى واتهام الموقف العربي في 1948 بالعنصرية.. وكذلك القول بأن الملك فاروق هو الذي أراد الحرب لإلهاء الشعب عن الأزمة الاقتصادية وكسب شعبية، نفس الكلام الذي كان يردده راديو " تل أبيب" في 1948.

ومهما تكن دوافع الملك ، وكل حرب في التاريخ كانت لها دوافع وقتية أو حتى عارضة انتهازية، ولكن ذلك لا يؤثر على جوهرها، ودخول الجيوش العربية حرب فلسطين في 1948 كان ضرورة وطنية وقومية وعسكرية في مواجهة حرب الإبادة التي كانت تشنها قوات اليهود بهدف طرد العرب من كل فلسطين ، وباستثناء حرب 1956 كانت هذه الحرب تحمل أكبر فرصة لفرض الحق العربي، نظرا للضعف النسبي- وقتها- للقوات الإسرائيلية ، عما أصبحت عليه فيما بعد، ونظرا لأن جانبا مهما من الرأي العام العالمي لم يكن مقتنعا فضلا عن أن يكون متحمسا لفكرة تقسيم فلسطين وإعطاء جزء منها لمهاجرين يهود أجانب عن البلاد، وكان وزير خارجية بريطانيا متهما بعداء السامية، وكان المطلب العربي الواقعي يومها هو إعلان دولة مستقلة ديمقراطية يعيش فيها العرب واليهود متساوين في المواطنة والحقوق .. ولكن الصهيونية لم تكن أبدا لتقبل بأقل من قاعدة لإمبراطورية..

وما زالت .. وقد مرت فترة ترددت الولايات المتحدة ذاتها، أو مؤسسات فيها وشكت في إمكانية تنفيذ المطلب الصهيوني بإقامة الدولة في وجه الرفض العربي ويومها قال بن جوريون قولته المشهورة:" أعطونا فرصة أو حتى نصف فرصة وسنثبت لكم أن كل ما يقال عن تضامن العرب وتصميم العرب هو أكذوبة" ولم تكن هناك حكومة عربية تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي.. وإخبار المذابح الإسرائيلية التي تبيد الأطفال والنساء العرب تناقلها وكالات الأنباء ووطن عربي يحتل ويمزق وتأتى أنباء احتلال اليهود لمساجد يافا وعكا.. الخ.. ولم يكن لدى الدول العربية من وسيلة للاعتراض على ذلك إلا الجيوش ودخول الحرب ضد الوحش الاسرائيلى..

ولكن البعض يجلس في كرسى الاستاذية، ويلقى نظرة متعالية على التاريخ ويقول: كان الفضل أنتسلح الدول العربية المقاومة الفلسطينية وتترك مهمة الدفاع أو تساعدها من خلال وحدات فدائية غير نظامية تشن حرب عصابات.

والحق أن المرء يحار في فهم هؤلاء.. هل عن عجز أو مكر يتحدثون..؟ ما الذي منع عبد الناصر خلال 18 سنة من تشكيل مقاومة حقيقية لا في فلسطين ولا في مصر .. بل كان تشكيل المقاومة الشعبية في مصر يبدأ بعد وقف إطلاق النار وبهدف تليهة الشعب، وقد كنت في بور سعيد بعد الاحتلال الثاني لسيناء في ظل عبد الناصر عندما جاءت البنادق وبذخيرة من نوع مخالف، ويمكن قراءة ما فعلته أجهزة عبد الناصر بالمقاومة الشعبية في بور سعيد خلال حرب 1956 في موضع آخر من هذا الكتاب، وفى العديد من المصادر .

كذلك لم يؤرخ بعد السجل الدموي الخيانى لما ارتكبته هذه الأجهزة في حق شباب غزة، كلما حاول أن ينظم مقاومة لتحرير بلاده.. وكيف ظل هذا الشباب في سجون ومعتقلات عبد الناصر إلى حرب 1956 .. حيث سلمت هذه الملفات إلى قوات الاحتلال الاسرائيلى.. من الذي وضع شاعر غزة في سجن القناطر.. معين بسيسو؟ ورفاقه .. وما جريمتهم إلا أنهم أرادوا قتال اليهود؟

هل يذكر هؤلاء أنه عندما تحرك الفلسطينيون من قطاع غزة في أبريل 1954 أكد محمود رياض للحكومة الأمريكية " أن حوادث الحدود في غزة هى من فعل الفلسطينيين وأن السلطات المصرية سحبت السلاح من المدنيين في القطاع" ثم سحبت جيش التحرير الفلسطيني من الحدود وأخيرا فرضت حظر تجول في القطاع ..

الذين ارتكبوا هذا رعبا من إسرائيل أو ربما حرصا على استقرار أمنها، يعتبون على فاروق وعبد الله ونورى السعيد أنهم لم ينظموا الفلسطينيين في حرب عصابات.

وهل يذكر هؤلاء أنه لما ظهرت حركة فتح في 1964 جن جنون أجهزة عبد الناصر ووصفتها بأنها منظمة عملية تابعة لحلف "السانتو" .. وأن أول شهيد لفتح قتل برصاص الشرطة العربية؟

هذه النظم السلطوية الفوقية، تخاف الشعب المسلح أكثر مما تخاف العدو الأجنبي ، ولا يمكن أن تفك في تسليح الشعب أو تنظيم قوات مقاومة شعبية.. وها هى النظم التي تدعى الثورية من حولنا .. من منها شكل مقاومة مسلحة أو ترك الفلسطينيين ينظمون أنفسهم في حركات مقاومة؟ فهل كنا نتوقع من أنظمة أصحاب الجلالة والرؤساء العرب في 1948 أن يشكلوا ويدعوا ويسلحوا حركة مقاومة فلسطينية ؟ يا سبحان الله.. وما الذي كان سيمنع المصريين والأردنيين والعراقيين أن يقولوا:" عايزين من ده" لكي يحاربوا الاحتلال البريطاني ..

وحتى إذا كان هذا " التكتيك" يبدو ممتازا من وجهة النظر العربية، فما من اتفاقية عالمية ولا سوابق تاريخية توحي أن الطرف الآخر كان سيلتزم بقواعد اللعبة أي أن يترك الدول والجيوش العربية آمنة داخل حدودها، بينما تصدر هذه الحرب إلى داخل إسرائيل بواسطة هؤلاء المتطوعين..

وقد حاول عبد الناصر قبل 1956 هذا ألأسلوب تفاديا للحرب ولحفظ ماء الوجه إزاء مطالبة الجيش والشعب والفلسطينيين بوجوب الرد على غارات جيش إسرائيل ولم يكن البادئ أبدا ولا فكر في عمل منظم طويل الأجل كما تقضى أصول حرب العصابات ومع ذلك انتهت هذه المحاولات باحتلال إسرائيل لسيناء وما جرى على لبنان بعد ذلك وما حدث في حمام الشط، وما تتعرض له الدول الإفريقية من عدوان جيش النظام العنصري في جنوب أفريقيا، بل صيحة عبد الناصر ذاته عن ضرب قواعد العدوان في السعودية، رغم أن الجيش السعودي لم يدخل قط اليمن.

كل هذا يؤكد أن إستراتيجية إرسال المتطوعين وتجنيب الجيوش العربية الحرب، هى إستراتيجية تنبع من أحلام الجبناء ولابد أن تفضي إما إلى غزو البلاد العربية وهى غير مستعدة للدفاع فضلا عن الهجوم أو اضطرار هذه الدول إلى التحول لشرطة لحساب إسرائيل ، مسئولة عن أمن إسرائيل من خلال الحجر على الفلسطينيين والوطنيين الراغبين في مقاتلة إسرائيل ، والبطش بهم كما تفعل النظم العربية الآن.. وكما فعل عبد الناصر طوال وجود سلطاته في قطاع غزة.

على أية حال .. هذه المناقشة الآن، هى لون من سفسطة المهزومين، فلم تكن الدول العربية قادرة قبل 1948 على تنظيم الفلسطينيين في حرب عصابات، والإنجليز يمارسون سلطات الانتداب هناك، ويحكمون الدول العربية المؤهلة لهذا العمل. فلما انسحبت بريطانيا ، لا كان الوقت يسمح ولا كان الفلسطينيون في وضع يمكنهم من مواجهة الجيش الاسرائيلى، وللأمانة التاريخية فإن الصوت المصري الوحيد الذي ارتفع وقتها ضد الحرب النظامية وليس بعد الهنا- بسنة، وبعد ما أصبحت الحكمة هى قراءة مستترة للتاريخ، الصوت الوحيد الذي طالب بحرب عصابات قبل دخول الجيش المصري المعركة هو صوت المرحوم وحيد رأفت ، الذي كان وقتها يعمل مستشارا لوزارة الخارجية إذ قال في مذكرة رسمية :"إلا أن التدخل كما يكون سافرا بواسطة القوات النظامية للدولة يصح كذلك أن يكون مستتراـ مقنعا في شكل تطوع منظم وذلك بعد أن أقر مشروعية التدخل العربي استنادا للعامل الانسانى وعامل الدفاع عن النفس والكيان فضلا عن الكرامة والعزة القومية يدفعان الدول العربية دفعا إلى التدخل في القتال" ( حرب فلسطين 1948- لواء أ.ح د. إبراهيم شكيب).

وباختصار كانت المشاركة العربية المسلحة في الدفاع عن شعب فلسطين أمام الهجمة التترية اليهودية، مشاركة مشروعة ومحتومة .. وكانت الجيوش أو الحرب النظامية هى الصيغة الوحيدة الممكنة وقتها وإلى اليوم.. حتى بعد ما خرج الفلسطينيون في نابلس فنحن كذلك في تل أبيب .. نقول نحن : إن التشكيك في شرعية حرب 1948 تشكيك في شرعي كل ما بعدها من حروب، تشكيك في الحق العربي والموقف العربي خلال الأربعين عاما الماضية، تشكيك في جدية الصراع العربي – اليهودي، إنكار له ، محاولة لطمسه، وهو عين ما جاءت الناصرية من أجله، وما نفذته باقتدار- جهد قدرتها- خلال سنوات حكمها.. لولا إلحاح التوسع الصهيوني .. " أعرب رالف بانش للسفير الامريكى في تل أبيب عن دهشته البالغة لأن " محمد نجيب " لم يذكر فلسطين بحرف في حديثه معه" ( أنظر فصل المواجهة مع إسرائيل ).

وباختصار فإن الثورة الوطنية المصرية وجدت نفسها تضيف إلى مهامها- عن وعى وعن حق- مهمة التصدي للغزو الصهيونية ، ولكن كما هو الحال دائما، فإن أعداء أقل أهمية فرضوا أنفسهم بثقل أكبر لأنهم كانوا الأقرب، وهو الإنجليز وأعوانهم في مصر والوطن العربي، ولم يكن خطأ، التصدي لهذا العدو فهو المباشر وقتها، والمقيم على أرض مصر والذي يشل حركتها في المواجهة الأساسية مع إسرائيل ، ومن ثم لم يكن هناك بد من التصدي للاستعمار البريطاني وتصفيته، ولكن الأهم هو أرضية التصدي ومنطلقاته فإن الوعي بأهداف وأبعاد الثورة الوطنية ، كان لابد سينبه إلى أن المعركة مع الإنجليز والرجعية المصرية تأتى في إطار المواجهة الشاملة مع إسرائيل والولايات ا لمتحدة، ومن ثم لا تجوز أبدا محالفة أمريكا أو إنكار الصدام المصري- الاسرائيلى، أو الزعم بأنه فرض علينا مرة بخدعة الإنجليز ومرة مجاملة للعرب.. إن من يتطلع جادا للصدام مع الامبريالية العالمية وليس مجرد مساومتها، لابد أن يصطدم وبأعنف الصور مع طليعة هذه الامبريالية وكتيبة صدامها: " التوسعيون الإسرائيليون". .

باختصار لم يكن دخول الجيوش العربية حرب فلسطين في 1948 هو الخطأ، وإنما كان الخطأ أنها لم تدخل أكثر وأحكم.. وأننا لم نضع إسرائيل في رأس قائمة اهتماماتنا.. وتركنا قيادتنا للضباط الذين انهزموا في مواجهة إسرائيل بل نفس الضابط الذي استطاع أن ينسى كل ظروف الحرب، ليدخل في علاقة مع العدو الاسرائيلى تسمح بطلب تلقينه خبرة اليهود في محاربة الإنجليز.. أحسب أنه نصحه بالتحالف مع الأمريكان كما فعل اليهود..

وقبلنا "ثورة" تعلن أنها لم تكن منشغلة بالخطر الاسرائيلى، ولا في خاطرها محاربة إسرائيل وتحذف فلسطين من برنامجها وشعاراتها .. وها نحن ندفع الثمن فلا فيتو على مستقبلنا وطموحاتنا المشروعة كأمة إلا .. إسرائيل ..

نعود لحديثنا فنقول إن الهزيمة المصرية والعجز العربي والقهر الصهيوني، أضافت كلها عنصرا جديدا لتأزم الجماهير وأزمة النظام، كما أضافت بعدا جديدا وأساسيا للحركة الوطنية المصرية، وبات واضحا أن الصيغة التي قام عليها النظام تتمزق تحت ضغط قوى جديدة، وبتأثير المتغيرات الداخلية والعالمية..

وكان أكثر وضوحا، عجز السراي وأحزاب الأقليات عن السيطرة على الوضع، وحاول الإنجليز- مرة أخرى كما فعلوا قبل ثماني سنوات- فتح مرجل البخار برشوة الشعب وسحب الوفد من المعارضة، فأمروا الملك بإجراء انتخابات حرة، وكانت هذه غلطتهم التاريخية التي طوت أعلام الإمبراطورية من مصر والسودان..ثم الشرق الأوسط.

ولابد من كلمة ولو موجزة هنا عن الوفد والدور الذي لعبه في إنضاج الظرف الثوري عام 1951.. فالوفد، مهما قيل أو نسب من أقوال لبعض شخصياته، كان مقتنعا بأنه يدين للشعب وحده باستمرار وبمكانة زعمائه ووصولهم للسلطة أو الزعامة ابتداء من سعد زغلول الذي كان مجرد موظف ممتاز في الجهاز أو إن شئت في النظام الحاكم، رافضا للثورة محتقرا للجماهير ، متشائما من أية إمكانية للتخلص من الاحتلال.. فإذا بالشعب يتوجه زعيما تاريخا، بل ويحله مكانة تفوق مكانة السلاطين والملوك، بل تفوق ما ناله الأبطال الوطنيون الذين نجحوا في تحرير بلادهم فعلا.. مكانة لم تتحقق لمصري من قبله، ولا دامت لزعيم من بعده، وزعامته لم تنحصر في دائرة المثقفين، بل تخطتها بالسياسة علامة لا تخطيء على نضج الثورة واكتمال مقوماتها في انتظار المفجر والقيادة.. اندفعت هذه الجماهير مضحية بلقمة العيش تضامنا وحبا وثقة وولاء بسعد مصر، سعد الذي كان بدوره أول المندهشين.. ولكنه قبل البيعة التي ما كان يتصورها ووفى الشعب ولم يفقد الثقة فيه .

بصرف النظر عن المذكرات أو بصرف النظر حول تقييم دوره الحقيقي ومفاهيمه وما فرضته هذه المفاهيم سلبا وإيجابا على الحركة الوطنية بل مسار التطور السياسي والفكري في مصر والعالم العربي.. المهم أن إرادة الشعب فرضته زعيما وطنا.. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن مصطفى النحاس، القاضي المجهول أو المنسي بكل احترام في ثلاجة الحزب الوطني.. فإذا به في الوفد يتربع على عرش الزعامة الشعبية التي رفعته إلى مصاف أولياء الله في بلد اعتاد أن يحول أبطاله الوطنيين إلى قدسيين وأولياء..

لقد احتل الرئيس الجليل- كما كان لقبه- مكانة خالدة يتطلع إليها العديد من زعماء العالم الثالث، وأصبحت حلما يسعى الطامحون لتكراره، وغصة في حلق من تحكموا في حريات الناس وأرزاقهم، وجندت لهم كل وسائل الإعلام، ورغم ذلك لم يستطيعوا ولا اطمأنوا ولا صدقوا أنهم وصلوا إلى سفح الزعامة أو القبول الشعبي الذي تربع عليه مصطفى النحاس أربعين سنة بلا دبابات ولا إذاعات بل في وجه مقاومة شرسة من أعتى استعمار وأخبث الأجهزة.. ومطاردة السلطة التي لم يصل إليها إلا لماما ومحاولات اغتيال من القصر وأجهزته وأحزاب الأقليات وفئات عديدة من المخلصين البلهاء من الذين كانوا يأخذون عليه أنه يتمتع بهذه الزعامة ولا يقوم بحقها في ظنهم.. أو الأشد بلاهة الذين كانوا يعتقدون أن هذه الزعامة هى العقبة التي تحول دون تحرك الشعب أو الرصد الذي يمنع وعى الشعب..

وكان زعماء الوفد يعرفون أن ثقة الشعب هى كل رأس مالهم، ومصدر قوتهم ومبرر وجودهم، والدرع التي يحتمون بها كلما اشتدت عواصف الاستعمار والرجعية.. وقد روى فاتح الملفات أن النحاس باشا في أول لقاء مع محمد نجيب بعد انقلاب يوليو.. فاجأه بقوله:" أنت قائد مائة ألف وأنا زعيم عشرين مليونا" وبصرف النظر عن كل ما قيل عن تهادن الوفد أو تخوفه من الانقلابيين الأمر الذي تكذبه هذه الواقعة التي تؤكد مدى الثقة بالشعب والتقدير الحقيقي لمركز قوة الانقلاب، ومدى اقتناع زعيم الوفد بمصدر قوته، وحجم هذه القوة، ورفضه أو استحالة تصور تنازله عنها.. وأيضا مواجهتهم علنا ورغم دباباتهم أنهم لا يمثلون الشعب.. ولا يعطيهم الانقلاب حق ادعاء قيادته..

هذا الاقتناع بأن الوفد يمثل الشعب، بل الممثل الوحيد للشعب، انعكس في مفهوم خاص، تحول إلى حقيقة تاريخية هى استحالة وقوع مواجهة بين الوفد والشعب، استحالة أن يحكم الوفد بالقمع فليس في تاريخ الوفد واقعة تزوير انتخابات أو حل أحزاب أو تعذيب معتقلين أو سجناء سياسيين .

كان الوفد في الجانب المقهور وهو خارج السلطة ، وكان أغلب عمره خارج السلطة تهتف له الجماهير: " يحيا الوفد ولو فيها رافد" أي أن الانتماء للوفد يعنى اضطهاد السلطة للمنتمى والمؤيد.. والوفد لا يأتي إلى لسلطة إلا بإرادة الشعب أو رضاه على الأقل.. لم يكن الوفد الذي يقبل أو يستطيع الاصطدام بالشعب.

ومن هنا كان لابد أن يحدث ما حدث في حكومته الأخيرة.. من ممارسة للحريات لم يسبق لها مثيل من تحصيل الحاصل ، إذ يذهب البعض إلى أن مصر في عهد صدقي أو الحماية .. قد تمتعت بحريات أكبر مما منحنا خلال الثلاثين عاما إياها.. كان لابد أن يسمح الوفد وهو في السلطة لمشاعر واتجاهات هذه الثورة المتجمعة بالتعبير عن نفسها وهى التي كانت تسعى إلى جولة جديدة وأخيرة للتاريخ والواقع، مخالفة لحقائق العصر سواء بتدهور مركز بريطانيا العالمي، أو نمو قدرات المصريين ، لم يكن من المعقول أن يخرج الاستعمار البريطاني من الهند وفلسطين ويبقى في مصر التي كانت رأسماليتها أقوى وأعرق من أي رأسمالية أخرى في العالم الثالث ، وكانت مكانتها وثقافتها، وجامعتها وصحافتها ومسارحها وصناعتها وحركتها الوطنية وقيادتها السياسية في مركز الصدارة في آسيا وأفريقيا.. بل وأكثر تقدما من بعض الدول المحسوبة على أوربا ، ولا تنظروا إلى حالنا الآن.. وكيف سبقتنا اليونان أو حتى بلغاريا .. فنحن نعيش ذيول هزيمة تاريخية انزلها بنا الاستعمار الامريكى والصهيوني من خلال 23 يوليو..

بقدر ما كان الوجود البريطاني ظاهرة متخلفة محتومة الزوال، بقدر ما كان يفرض التخلف على المجتمع المصري ويشل حركته ويجعله يدور حول نفسه ويبدد طاقته، وتؤكد وثائق هذه الفترة أن عقلاء الإنجليز كانوا مقتنعين بحتمية التسليم باستقلال مصر والجلاء عنها بشرطين: ألا يتم ذلك لحساب انتقال مصر إلى دائرة النفوذ الامريكى الذي كان قد بدأ غزو الشرق الأوسط عبر إسرائيل والتابلاين.

والشرط الثاني .. هو السودان، فهم لم يكونوا على استعداد للتنازل عن السودان ، فهو العمود الفقري في مشاريعهم الأفريقية التي كانوا يسمونها الإمبراطورية الثالثة .

والتي خططوا وتوقعوا أن تلعب في التاريخ البريطاني، ما لعبته أمريكا ثم الهند.. وكان من المستحيل التفكير في إمبراطورية افريقية بدون السودان.. ومن ثم كان الإصرار على احتلال مصر هو بهدف المساومة على السودان.. الأمر الذي رفضته جميع حكومات مصر وأحزاب مصر عن اقتناع مضاد بأنه لا استقلال حقيقي لمصر إذ ما استمر الإنجليز يتحكمون في السودان والنيل، وعن اقتناع بأن السودان جزء لا يتجزأ من التراب الوطني، حتى اقترح البعض تسمية الوطن المستقل "مصردان" .

فالسودان كان باتفاق جميع المصادر، العقبة الأساسية بين مصر وبريطانيا وكان بالتالي جوهر الصدام بين الحركة الوطنية المصرية والاستعمار البريطاني، الذي وصل ذروته في حكومة الوفد الأخيرة، كما ستصبح فلسطين جوهر الصدام مع الاستعمار الامريكى. ولم تكن أمريكا تريد بريطانيا في السودان، إلا أنها لم تكن مستعدة للإصرار على هذه الشرعية، ولأن حركة 23 يوليو لم تكن تنبع من الحركة الوطنية المصرية، فقد قبلت بسهولة بل وعملت على فصل السودان..

لم يكن الوفد يريد ولا يستطيع ضرب الحركة الوطنية الساعية للصدام مع الإنجليز ولا كان يطيق أن ينعزل ويتركها تتخطاه خلف قيادة أخرى ، ومن ثم كان قدرا محتوما أن يصطدم الوفد بالاستعمار البريطاني، وهو في السلطة.. ولكنى أحب أن أتوقف هنا عند عنصر خاص، هو وجود فؤاد سراج الدين في الوفد.

فهذا الشاب لم يشترك في ثورة 19 وإن كان قد وعى أحداثها فهو من مواليد 1910 ولا كانت أسرته من عائلات الوفد، ولكنه بكفاءاته النادرة حتى بين ساسة مصر قبل عصر الرجال الجوف، استطاع أن يصعد بين صفوف الوفد حتى أصبح معروفا ومقبولا أنه هو الوريث الشرعي والأوحد لمصطفى النحاس ولكنه كان لديه من الذكاء، ما عرف به أن زعامة الوفد لا تورث ولا تكتسب بالأقدمية أو بالدور، بل هى زعامة تصدر براءتها من جهة واحدة هى الشعب وبموجب مستند واحد- وقتها- " شهادة الجهاد ضد الإنجليز" .. كان سراج الدين باشا يريد عودة روح وظروف ثورة 1919 ليشترك مع باشاوات الوفد في محاربة الإنجليز، ويحصل مثلهم على التفويض والمستند الشرعي بزعامته.. ولذا يقف المؤرخ الماركسي حائرا مذهولا وهو يرى باشا في منصب وزير الداخلية يتحرش بالإنجليز ويخاطر بكل شيء، بل ويشترك في عمليات في مستوى الشباب المتطرف من الطلبة والعمال.. مثل المشاركة في خطة لتلغيم أو نسف قناة السويس، أو تحريض العمال على الإضراب والانسحاب من خدمة قوات الحليفة أو خوض معركة مسلحة بقوات البوليس ضد الجيش البريطاني. وتقول تقارير الحكومة البريطانية عن هذر الفترة:

" هناك معلومات حتى عن وزراء في الحكومة حرضوا الشعب على القتل"

" إن لدينا معلومات بأن وزير الداخلية نفسه لديه ارتباطات وثيقة مع المنظمات الإرهابية"

ووثائق الحكومة البريطانية تثبت أيضا، أن بريطانيا قررت أنه لا سبيل للمساومة مع الوفد وأنها كانت تطلب رأس الوفد ورأس سراج الدين ففي تقرير بريطاني بتاريخ27/10/1951:

" ليس هناك أي أمل في التوصل إلى اتفاق مع الحكومة الحالية، كما أن أية محاولة للتصالح معها ستفسر على أنها ضعف" " يجب أن نعمل من أجل إحداث انهيار كامل لحكومة الوفد".

نجح سراج الدين في نسف كل الجسور مع بريطانيا ، كما ألغى كل شرعية للوجود البريطاني وأعاد الموقف إلى نقطة البدء أو المربع رقم واحد عشية ثورة 19 وأصبح من إبطالها ولو بعد 32 سنة.. ووضعت بريطانيا بدورها خطة لإعادة احتلال مصر هى الخطة " روديو" التي وضعت ضد حكومة الوفد في خريف عام 1951 ومطلع 1952، ولا معنى للتمسح بها وادعاء أنها كانت ضد عبد الناصر.. بريطانيا لم تفكر في محاربة عبد الناصر إلى عام 1955.. بل كانت تفاوض عنه أمريكا وتضغط بها عليه.. أما خطة " روديو" فوضعت في عهد سراج الدين وحكومة الوفد ولمواجهة ثورة حقيقية كانت تتطور بسرعة هائلة إلى ما يشبه ثورة 19 مع فارق تقدم نوعيا كل يوم والاشتباك مع الاستعمار يدخل مرحلة ما قبل حرب العصابات المنظمة، واستشهد الشباب من كل حزب وأيدلوجية.. وبالطبع كان يتحرك القواعد أسرع من القيادات، والوفد يعانى من مشكلته الأزلية، وهى انعدام التنظيم أو حتى كراهيته، وفقدان التقاليد القتالية ، واستمرار اقتناع قياداته بأنه جزء من النظام الدستوري.. يضاعف من سوء الموقف، أنه في السلطة فعلا وتصور أنه يستطيع انجاز التحرر بالتشريعات ، يذكى هذا الاتجاه انتصارات "مصدق" في إيران- والسهولة والحماسة التي تمت واستقبلت بها تشريعات إلغاء المعاهدة واستعادة السيادة على السودان.. ولكن الشراع يغلى ويفور، وتعلن الجمهورية أو تنطلق المطالبة بها في الجامعة، ثم طرح المطلب في مؤتمر للقيادات اليسارية ، ثم محاولة احتلال قم عابدين صباح 26 يناير وأخيرا ظهور تنظيمات مسلحة في منطقة القناة، تمارس سلطات شعبية ذاتية..

كانت ثورة تتجمع وتستعد من خلال ممارسة ثورية فعلية، وكان لابد- من وجهة نظر الاستعمار العالمي- أن تجهض، أن تضرب هذه الثورة، قبل أن تلد تنظيمها، وترسخ جذورها، ويستحيل تطويقها وجاء " حريق القاهرة" الذي ربما كان آخر ضربة لأخبث جهاز مخابرات أو أول عملية كبيرة للـ سى آى ايه أو من فعلهما معا، لا أحد يجزم ولا ندرى عن كنا سنعرف أم لا .. لأنها أقذر من أن يعترفوا بها، ولأن المخابرات البريطانية لا ملفات لها، وعملياتها لا تنشر ولو بعد ألف سنة.. فقبحهم في الصندوق، بعكس الأمريكيين ففى السوق.. ولكننا عثرنا على هامش صغير ورد في وثائق الخارجية الأمريكية يفيد أن الإنجليز كانوا يتوقعون ويسعون لما حدث في القاهرة صباح 26 يناير 1952..

فقد أشارت هذه الوثائق إلى برقية ( لم تنشر) بعث بها الوزير المفوض الامريكى هولمز إلى وزارة الخارجية قال فيها: إن أنطونى إيدن وزير خارجية بريطانيا أبلغه ( 24/1/1952) أن القوات البريطانية ستجرى نزع سلاح قوات البوليس في الإسماعيلية غدا، ويعتقد إيدن أن الحكومة المصرية سترى نفسها مضطرة للرد بطريقة ستعرض حياة الأجانب للخطر ولذا فإن البريطانيين يجرون تحريك قطع الأسطول إلى مواقع تمكنهم من إجلاء الأجانب عند الحاجة.. بالإضافة إلى أن إيدن أصدر تعليماته للسفير البريطاني في مصر، سيررالف ستيفنسون لتحذير الملك من اتخذا إجراءات تعرض الأجانب للخطر.

وقد طلب " إيدن " من وزير خارجية أمريكا :" تأييد بريطانيا في الإجراءات التي ستضطر لاتخاذها لمواجهة الموقف نتيجة لما ستقوم به في الإسماعيلية غدا" كما جرى تخفيض الوقت اللازم لتنفيذ الخطة من 72 ساعة إلى 48 ساعة وهى الخطة التي وضعت لاحتلال الإسكندرية والقاهرة".

على أية حال إن لم تثبت هذه الوثيقة إدانة بريطانيا في تدبير وتنفيذ حرق القاهرة، وقتل من قتل بمن فيهم رعايا بريطانيا ، فتى على الأقل توقعت ذلك وأرادته وسعت إليه بوعي كامل مضيفة بذلك صفحة جديدة في تاريخ أعداء الشعوب.. كما سماهم أستاذ إبادة الشعوب .. معترفا بتفوقهم.

ومما يذكر أن وزير خارجية أمريكا احتج أو عتب على زميله الإنجليزى لأن عملية الإسماعيلية " لم تتم على النحو الذي صوره له إيدن .

إن الأمر كله يبدو سيئا".. ولم يكن الأمريكان أقل كراهية للوفد، ولا أقل تشوقا للقضاء عليه وقد رفض مشاريع الدفاع المشترك ورفض الدخول في حرب كوريا وانفردت مصر بذلك الموقف التاريخي الذي استمرت مرارته في حلق الأمريكان إلى اليوم ، وأطلق الوفد الحريات، حتى أصبح النشاط الشيوعي شبه علني وسب أمريكا مادة أساسية في الصحف، وقد شهدت حكومة الوفد أول وآخر مظاهرة شيوعية كاملة وهى جنازة صلاح بشرى التي نظمها تنظيم الطلبة في الحزب الشيوعي، ووزعت لأول مرة منشورات باسم الحزب ولف صلاح بشرى في علم أحمر وهتف بحياة الحزب الشيوعي ..

وفى اجتماع وزيري الخارجية الامريكى والبريطاني 9 يناير 1952 ( وهو الاجتماع الذي نعتقد أنه تم فيه الاتفاق على حرق القاهرة) قال الوزير الامريكى: " إن المطلوب هو إعطاء املك سندا يدعمه في اتخذا إجراء ضد الوفد" وقال السفير البريطاني في لندن " مهما تكن سياسة الحكومة الجديدة فالمهم أنها تخلصنا من الوفد " ( تقرير 27/1/1952).

وسجل كافري شماتته بعد نجاح المؤامرة فقال :" إن حكومة الوفد أثبتت استعدادها لتدمير مصر اقتصاديا واجتماعيا إن كل ذلك يعجل بتحقيق أهداف مصر".

( تقرير إلى حكومته بتاريخ 1/2م1952)

وأكدت الخارجية الأمريكية أن الهدف الأكبر هو القضاء النهائي على الوفد بقولها:" إذا كان الهلالي المدعوم من الملك سيتمكن من السيطرة على الأمن الداخلي بيد قوية إلا أنه من المتوقع إذا فشل في تحقيق الأهداف الوطنية المصرية أن ينهض الوفد من جديد حتى ولو كان ذلك بعد فترة من الوقت".

( من وكيل الوزارة إلى الوزير 3/3/1952).

اتفق الإنجليز والأمريكان على " حرق " الثورة .. وإسقاط حكومة الوفد , وكانت ضربة قاسية عنيفة بل متوحشة ولكنها غير قاضية , وليس في التاريخ ثورة قمعت بالإرهاب وحده , بل حتى الإرهاب لم يكن متوفرا , وقد يحلو لنا الآن أن ننتقد قبول حكومة الوفد مرسوم الإقالة , ولكن لا مجال لذلك عند المؤرخ الأمين , فالعاصمة تحترق والأسطول البريطاني يتحرش , والجيش في الشوارع وهو لا مع الحركة الوطنية ولا مع الوفد , وهذه تقارير الحكومة البريطانية تثبت ذلك : " إن القوات المسلحة المصرية لا تعتبر فقط غير مساندة للحكومة بل إنها قد أوضحت رغبتها في اجتناب أي صدام مع البريطانيين , وتقبل وحدات الجيش في منطقة القناة إشرافنا على تحركاتها . كذلك وعد الجيش خارج منطقة القناة بالابتعاد عن طريقنا " .

وصحيح أن عددا من الضباط اشترك مع الحركة الوطنية المسلحة , إلا أن الجيش كمؤسسة لم يكن مع الثورة , وسرعان ما استعاد دوره في خدمة النظام فور صدور الأمر إليه بالنزول لوقف الحريق , وإقالة الوفد.. وقد شهد "هيكل " أنه قابل " عبد الناصر " بعد حرق القاهرة ينفذ قرار حظر التجول على الشعب .

إلا أن الوفد أخطأ بلا شك بإعلان الأحكام العرفية , وتوهم أنه سيحكم بها لمواجهة المؤامرة , وهكذا رفعوه في الهواء وتمكنوا منه ....

ولكن سرعان ما زالت الصدمة , وتبين أن النظام قد تهرأ وأصبح أعجز من أن يبطش أو يرهب , وبأت قوى الثورة تسترد أنفاسها , وجرت حركة مراجعة للمواقف , وتعددت الانشقاقات والخلافات مع القيادات التي عجزت عن أن ترتفع إلى مستوى الموقف , ونشطت التنظيمات السرية ..

وجربت كل الأسلحة في ترسانة النظام من " الحكيم " على ماهر إلى مرتضى المراغي أو حيلة الشب كما سماه السفير الأمريكي في تقرير رسمي وثبت عجزهم بل تكشفت لأول مرة حقيقية أنهم أقزام عجزة وعلى نحو فاق أي تصور , وهكذا يبدو رجال النظام لحظة الانهيار , ونشط المغامرون من كل حدب وصوب , وانتشر نشاط المخابرات الأمريكية وتدفق عليها المرتزقة والعملاء والمتطلعون , حتى أصبح لا ينقصها إلا نشر عنوانها في الإعلانات المبوبة , واستعاد الوفد أرضيته إلى حد كبير , وبأ عقلاء النظام يتقربون إليه لكسب الشرعية ودرء انهيار النظام الذي يهدد الجميع , حتى الملك أحس بأنه حفر يده بيده , وتشبث الإنجليز بالمحال , ثم هرعوا إلى الأمريكان يطلبون التفاهم ..

بدأ الإنجليز بمحاولة إقناع الأمريكان بما يشبه برنامج انقلاب يوليو ولكن من داخل النظام وبرجال من أمثال الهلالي , أي توزيع الأرض ومكافحة الفساد وضرب الوفد .. ولكن الأمريكيين , الأكثر قدرة على الحكم الموضوعي بحكم عدم تمسكهم بالنظام وأيضا لاتفاق مصالحهم وخططهم مع إسقاط هذا النظام , رفضوا كل الحجج .. فلما قال الإنجليز إن الهلالي قادر على مواجهة الوضع رد السفير الأمريكي بوقاحة في رسالة إلى وزارة الخارجية 8 / 3 / 1952 قال فيها : " إنني مهموم لسوء الفهم البريطاني للوضع في مصر .

" آه يا زمن ؟ ج " فهذا الحديث عن إزالة الفساد والتحرك ضد الوفد عظيم جدا , ولكن هذا كله لا يجيب على السؤال حول ما إذا كانت الحكومة الحالية ستعيش أم لا ؟ لأن هذا يتوقف على نتائج المحادثات المصرية ـ البريطانية فإذا لم تثمر شيئا ـ وهو الأرجح ما دامت بريطانيا متمسكة بموقفها الحالي ـ فإن علينا أن ننسى أي أمل في استقرار مصر أو تحولها إلى موالاة الغرب , بل إن احتمال الثورة والفوضى الشاملة في مصر لا يمكن استبعاده , نحن نقترب بسرعة من نقطة اللاعودة وإذا مضت مصر في هذا الطريق فالشك كبير جدا في قدرة بقية الشرق الأوسط على الصمود ".

وتشبث الأمريكيون بحلهم وهو ضرب الثورة باسم الثورة , إسقاط النظام العاجز وإقامة نظام شاب قادر على ضرب قوى الثورة إعادة مصر إلى حظيرة الاستعمار العالمي , على أن تكون هذه المرة في المدار الأمريكي , واستمرت بريطانيا تناور ما بين دعوة الأمريكان للمشاركة والتهديد بجعلها " ضلمة " .

واشنطون 2 يوليو 1952

1ـ قدمت السفارة البريطانية نسخة من رسالة وزارة الخارجية البريطانية للقائم بالأعمال " البريطاني ج " في الإسكندرية تأمره بالتشاور معك " أي السفير الأمريكي ج " في احتمال التصرف المشترك لإنقاذ الوضع المترتب على استقالة الهلالي والاضطراب الناجم عن عجز سري وبركات عن تأليف الوزارة أما التصرفات المقترحة فهي :
أ ـ تحذير لسري وبركات بأن لا شأن لهما بتشكيل حكومة .
ب ـ دعم رفض المراغي الانضمام للحكومة .
ج ـ الاتصال بعفيفي لحثه على إقناع الملك بأن استقالة عفيفي المحتومة في الظروف الحالية بالإضافة إلى الحكومة الجديدة بصيغتها المقترحة , ستقلل فرص التفاوض مع بريطانيا إلى درجة العدم .
2 ـ بالإضافة إلى ما ورد أعلاه , أمر القائم بالأعمال البريطاني بأن يستشيرك في إمكانية الاتصال بالملك وبدون كلمات تهديد تخبر الملك ببعض الحقائق الخاصة وبالذات الوضع الميئوس منه إذا استمر أندراوس وثابت في القصر .
3 ـ السفارة البريطانية في واشنطون قالت إن وزارة الخارجية البريطانية جد حريصة أن ترسل لك التعليمات المناسبة لكي ترى الملك وقالت وزارة الخارجية حرفيا : " إنه من الضروري أو الحيوي أن نعمل معا في هذا الظرف الحرج لبذل كل ما نستطيع لمنع إبعاد العناصر الرزينة في السياسة المصرية بهذا التغيير في الحكومة وبصفة خاصة إزاحة حافظ عفيفي من القصر .
وأبلغتنا السفارة أن إيدن أرسل سترانج لرؤية جيفورد " السفير الأمريكي " حيث عبر له عن الاهتمام العميق لإيدن بالوضع الذي يمكن أن يتطور إلى رجوع عناصر القصر الفاسدة والوفد إلى الحكم ويأمل إيدن في أن نتمكن من المساعدة .
4 ـ إن وزارة الخارجية الأمريكية مهتمة باتجاه الأحداث واحتمال عودة العناصر الفاسدة والمنتفعين ونحن نعتقد أن الملك قد تصرف بانعدام حكمة كامل , عندما رضخ لرشوة الثلاثي عبود ـ ثابت ـ أندراوس ولطالما يتمتع هؤلاء بسلطاتهم الحالية فلا أمل في تحقيق تقدم في مصر إذا كان صحيحا أن الهلالي ما كان لينجز الإصلاح ولا التطهير , فنحن نعتقد أن الملك كان يجب أن يعطيه التشجيع والمساعدة وبالذات ضد مؤامرات القصر .
5 ـ وفي نفس الوقت نعتقد لو أ، البريطانيين أعطوا الهلالي خلال أربعة شهور ما يمكنه قبوله , لتعزز مركزه ولقاوم ضغط عبود وأمثاله .
6 ـ لا نستطيع التورط في الشئون الداخلية المصرية وخصوصا أن الإنجليز لا يقبلون وجهة نظرنا في مسألة لقب ملك مصر والسودان .
ثم نختم الرسالة بهذه الصفعة برفض التعاون لإنقاذ مركز بريطانيا .
" 7 ـ نحن نعرف أنك أنقذت مركز البريطانيين أكثر من مرة ولكن كل شيء له حدود " .

وبالطبع تقول المذكرة ـ الوثيقة : " وقد أيد كافري وجهة نظر الخارجية بالكامل " .

كان الوقت قد أزف للعمل الأمريكي المنفرد .. و" شمت " بريطانيا رائحة ما يطبخ .. فأرسلت شبه إنذار لواشنطن بأنها قد تقوم بعمل عسكري منفرد , وردت أمريكا بما يمكن اختصاره في " طظ " أو اشربوا من البحر .. " فنحن لا نهتم حتى بخروجكم نهائيا من القاعدة , ولن نشترك معكم في عمل ضد مصر ..في 7 يوليو 1952..

سلمت السفارة البريطانية لوزارة الخارجية الأمريكية رسالة توضح قلق إيدن العميق للوضع في مصر وتطلب من الولايات المتحدة أن تخبر الملك أن إصراره الحالي على مسألة اللقب لا يمكن أن يفضى إلا إلى كارثة له ولمصر.

كما طلبت المملكة المتحدة أيضا منا، أن نسعى للإتيان بحكومة راغبة في قبول التسوية التي يريد الإنجليز تقديمها .

وهذه الورقة تؤكد أن البديل الوحيد لهذه الحكومة هو " احتفاظ بريطانيا بمركزها مهما كان الثمن وبالقوة إذا لزم الأمر" ( بالطبع هذا إنذار للأمريكان وهذا ما جعلهم يسبقون ويقدمون ميعاد الثورة لسبق أي تحرك بريطاني) وعلقت السفارة البريطانية على هذه الورقة بقولها إن الخارجية البريطانية قلقة للغاية لما تعتقد أنه صدع في الجبهة الأنجلو- أمريكية فيما يتعلق بمصر وقال السفارة البريطانية إن الخارجية البريطانية تعتقد أن تدهور الأوضاع في مصر يمكن أن يفضى إلى كارثة إذا لم تتساند بريطانيا وأمريكا بحزم أو بقوة.. وقالت الورقة البريطانية إن الحكومة تدرس تنظيم علاقة مصر بالسودان على ضوء ما أبلغ للوزير الامريكى في اجتماعات لندن.

ولكن مستر كافري يعتقد أن هذه المقترحات سترفض على الفور" .

السفارة الأمريكية في لندن في تعليقها على هذه الورقة قالت إن قلق البريطانيين حقيقي ولكن لا أمل في تغيير موقفهم الحالي بالنسبة للقب وتوصى السفارة أن نقول للمصرين بصراحة وحزم أن عليهم أن يتخلوا عن موقفهم المتطرف الحالي ويتحركوا إلى حل وسط.

أما مستر كافري فيعتقد أن تبنينا المشروع أو الخطة البريطانية سيكون مأساة بلهاء إلا أنه وعد بحث سرى باشا على الوصول إلى اتفاق مع المهدي.

" تبقى حقيقة أنه ما لم مشكلة اللقب أي السودان فلن نستطيع التقدم لمشكلة الدفاع.

" الحقيقة أن المصريين يستندون إلى أسس قانونية قوية لموقفهم الحالي ونحن نعتبر أنه من غير المنتظر أن تتراجع أي حكومة عن هذا الوضع.

ونحن نعتبر أن استمرار وضع التجمد الحالي وعدم محاولة التقدم بحل يمكن أن يؤدى إلى زيادة استياء الجماهير وإمكانية عودة الأوضاع إلى الأوضاع إلى ما كانت عليه من أكتوبر إلى يناير وفى هذه الحالة سيواجه البريطانيون الخيار بين الجلاء أو استخدام القوة وربما كان ألفضل لمصالحنا هو جلاء بريطانيا ولو خسرنا القاعدة لأن الأصل في دعوة مصر للاشتراك في نظام دفاعي عن الشرق الأوسط هو اشتراكها الاختياري وليس من خلال إرغامها بقوات أجنبية كبيرة.

أما عن استخدام القوة للحفاظ على مركز بريطانيا فإن نتائج هذا الفعل أجنبية كبيرة.

أما عن استخدام القوة للحفاظ على مركز بريطانيا فإن نتائج هذا الفعل بالنسبة للبريطانيين بل وضع الغرب كله، من الخطورة بحيث يلزم ألا نترك لدى الإنجليز أي شك في استحالة قبولنا لاستخدام القوة كبديل للفشل في الوصل إلى تسوية، وصحيح أنه من الضروري أحيانا استخدام القوة ولكن طرحها بداية كأحد الحلول هو أمر يتنافى مع مبادئ وأهداف ومصالح الولايات المتحدة".

من وكيل الخارجية بايرود إلى وزير الخارجية.
واشنطون 14 يوليو 1952.

وهكذا تتبين أنه من الخطأ القول بأن العنصر الامريكى دخل المعادلة البريطانية- المصرية بانقلاب 23 يوليو .. فالصحيح أنه كان موجودا من قبل، داخل السراي..

وكان الملك يحاول استخدامه في مواجهة الإنجليز الذين أدركوا هذه الحقيقة، واشتكت حكومتهم بصريح العبارة:" لا يمكن إقناع الملك بتغيير موقفه طالما يعتقد بأن هناك فرقا بين موقفنا وموقف الأمريكيين".

وها هو السفير الامريكى يختم رسالته التي أشرنا إليها عن مقابلته مع فاروق والتي سجل فيها تمسك الملك بوحدة وادي النيل وهدد بمهاجمة الإنجليز علنا.

يقول السفير:" وانتهينا بتكراره الحديث عن أن أمريكا هى وحدها التي يمكنها منع الكارثة وأنه يثق فينا.. الخ.. الخ.. الخ".

ويبدو أن الملك يئس من إقناع السفير الامريكى فحاول أن يتخطاه إذ انتهز ابن عمه الأمير عبد المنعم فرصة التقائه بوزير الخارجية الامريكى في جنازة الملك جورج السادس ( فبراير 1952) فدعاه إلى الدخول في النزاع البريطانى المصري.. ولم يكن الأمريكيون بحاجة إلى دعوة فقد كانوا غارقين في مهمة إنقاذ مصر إلى أذقانهم.. ولو على جثة الملك.

ولكنها كانت محاولات محتومة الفشل فالملك كان مترددا وبلا شعبية، بلا مؤسسات خاصة تمكنه من إدخال مصر في الفلك الامريكى، كما لم يكن مستعدا للمغامرة بكل شيء مع " الجايين" فهو لا يطمئن إلى استعدادهم للوقوف معه إلى النهاية ، وهو لا ينسى " علقة" 4 فبراير .. كذلك كانت هناك مشكلة لقب" ملك مصر والسودان" واعتذاره للسفير الامريكى عن اتخذا الخطوة الأولى في مصالحة إسرائيل ، ويمكن لمن يشاء أن يضيف كراهية الأمريكان التقليدية للملوك ومعرفتهم بصعوبة تغييرهم كلما وقعت أزمة بعكس العسكر..

كذلك حاول الوفد أن يعلب ورقة الأمريكان ، فعين في حكومته، وزراء معروفين بعلاقاتهم الحميمة مع الأمريكيين، وخاصة أحمد حسين، الذي كان تعيينه في حكومة الوفد عام 1950 يشبه تعيين أمين عثمان في حكومة الحرب العالمية الثانية ومؤشرا بدوران الفلك وتداول الدول وكان الأمريكيون بدورهم يحاولون غزو الوفد، وكانت لهم صلات طيبة مع محمد صلاح الدين جعلتهم يرشحونه لنسف الوفد وعمل انشقاق فيه بالتعاون مع هيئة التحرير لولا أن نصحهم السفير كافري، بأن قبضة النحاس وسراج الدين أقوى من أن تسمح بذلك.

ولا شك أن الوفد وضع الورقة الأمريكية في حساباته وهو يخاطر متحديا الإنجليز، متعرضا لعقوباتهم وكانوا يملكون الكثير منها، من الأرصدة إلى السلاح إلى النفط.. ولابد أن ما كان يجرى في إيران كانت له انعكاساته في تقديرات الوفد والعكس صحيح..

ولكنها أيضا كانت محاولات محتومة الفشل، فالوفدقد نسف جسوره مع الأمريكيين بموقفه الفذ في حرب كوريا ورفضه التصريح الثلاثي، وكافة أشكال الدفاع المشترك.. ثم بإطلاقه الحريات..

وأخيرا تفجيره الوضع إلى حد القيام بأعمال مسلحة ضد الإنجليز.. ( اشترك فيها وزير الداخلية) .. ثم إن عملية الإزاحة، حتى إذا تطلبت بعض المهرجانات الشعبية، إلا أنها يجب أن تتم في إطار محدود وتحت السيطرة الكاملة حتى لا ينفجر الموقف وتتحول إلى إزاحة شاملة لكلا الاستعمارين المتنافسين..

وكان واضحا أن الوفد لم يعد يسيطر على الشرع، بل أصبح الشارع يسيطر عليه ويحمله سياسيا مكشوفا في ظل مؤسسات سياسية ودستورية علنية وملتزمة أو محكومة بقواعد النظام الديمقراطي الموجود وقتها، الأمر الذي يعنى شل يد أي حكومة عن عقد صفقة حتى ولو كانت أفضل الممكن ، فلا شك أن النصوص الأولى التي عرضها صدقي باشا كانت أفضل من – عدة نواح- من اتفاقية عبد الناصر ولكن الشعب رفضها، وأسقطتها الأحزاب..

ولا يمكن في ظل نظام حزبي وبرلمان ومعارضة وصحافة حرة إعطاء تعليمات وحدة وادي النيل أو الهمس بفيتو على رئيس الوزراء المرشح.كان لابد لكي تتم عملية الإزاحة من ضري الحركة الوطنية وتشتيت القوى الشعبية، وتعطيل الحياة السياسية، وحل الأحزاب والنقابات، ووضع السلطة في يد ديكتاتور لا يؤمن بالفصل بين السلطات.. حتى يمكن إتمام الإزاحة بدون خسائر، وهذا لا يتحقق إلا بانقلاب عسكري.. " بمكنسة " وهذا ما جعل الـ سى آى ايه تلجأ للجيش ولتنظيم ناصر.

وهكذا نرى أن أكثر من طرف كان يحاول كسب الأمريكان، ولكن لا يجوز وضعهم جميعا في سلة واحدة، فهناك فارق بين محاولة تشرشل اقتسام الشرق الأوسط أو إغراء الأمريكان بقبول قسمته هو، وبين محاولة ملك تأمين عرشه والاحتياط ضد 4 فبراير آخر، وبين محاولة مشروعة ومطلوبة لحكومة دستورية باستغلال التناقضات الدولية لتحقيق أهداف مصر..

فذلك كله يختلف عن سعى صحفي أو سياسي أو ضابط بالقوات المسلحة إلى المخابرات الأمريكية..

على أية حال كانت القوى الوطنية في المعارضة قد اتخذت موقفا مخالفا، فقد وحدت رفضها لكلا الاستعمارين ، وتجلى ذلك في اللفظ الذي انتشر في أدبيات تلك المرحلة وهو " الاستعمار الأنجلو امريكى".. بل لا نذهب بعيدا، إذا قلنا إن الحركة الوطنية كانت تركز في شعاراتها أكثر ضد الاستعمار الامريكى وإن كانت الاصطدامات الفعلية ، تقع مع الاستعماريات القديمة( بريطانيا وفرنسا) ذلك أن يسار المعارضة كان يعادى أمريكا إما تضامنا مع الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة المستعرة في تلك السنوات،أو عن وعى سليم بأن الولايات المتحدة هى قائدة المعسكر الاستعماري ووريثته، وأنها تحاول إحلال صيغة أكثر قدرة على القمع محل الاستعماريات الشائخة ومن ثم فالاستعمار الامريكى أخطر وأجدر بالتنبيه والمقاومة أما يمين المعارضة ، فكان يعاد أمريكا لذلك ولموقفها من إنشاء إسرائيل وما نزل بالشعب الفلسطيني والدول العربية من إبادة وطرد وهزيمة.

وقد انعكس تفكير المعارضة بشقيها على التنظيمات السياسية في الجيش بما فيها تنظيم السادات الذي استمر فترة يصدر منشوراته ضد " الاستعمار الأنجلو- امريكى" إلى أن اتفقت قيادته مع المخابرات الأمريكية سى آى ايه فتقرر إعفاء الشق ألأمريكي والتركيز على مهاجمة الاستعمار البريطانى وحده ويجدر بنا أن نتوقف هنا عند نقطتين:

- هز هيكل لأعطافه ذكاء وشماتة في غباء الملك الذي لم يفهم قوة الأمريكيين وأنهم هم المستقبل لمن أراد أن " يتشعلق" بقطار التاريخ فيقول:" لم تكن النظم الحاكمة في العالم العربي قادرة على فهم ما يجرى في العالم من حولها وعلى استيعاب دلالاته، وليست مصادفة أن الملك فاروق على سبيل المثال ضمن الحكام العرب، اختار هذا الوقت لكي يعرض على بريطانيا تحالفا استراتيجيا طويل المدى".
ولا نجد مبررا للشماتة أو التعالي على الذين لم يستطيعوا التحالف مع " الرايحين" ولا ربط عجلتهم " بالجايين" .. فصحيح أن اختيارات هيكل تبدو- الآن- بمنطق الشيطان، أذكى وأربح.. ولكن المواقف السياسية والتحالفات والرايحين والجايين، أحداث لا يحكمها الذكاء ولا حتى الاختيار الحر.. وربما كانت دعوة فاروق للتحالف الاستراتيجي مع بريطانيا هى أذكى مواجهة للخطر الامريكى- الاسرائيلى الزاحف.
وأذكى يد مدت مع لإنقاذ بريطانيا من المصير الذي كتبته تطورات اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية خلال نصف قرن سابق على الانسحاب من اليونان ولكن التناقضات التاريخية بين المصالح العربية والبريطانية كانت تجعل هذا التحالف مستحيلا ما لم يتمتع الطرفان ببعد نظر يفوق الممكن واقعيا ، فقد كان هذا التحالف يقضى التسليم بمطالب الحركة الوطنية في مصر، أي تصفية الإمبراطورية لصالح القوى الوطنية العربية، وليس لصالح الامبريالية الأمريكية ، كانت بريطانيا – تشرشل، أعجز من أن تفهم أو تقبل هذا الحل، وكانت مصالحها الأخرى وخضوعها لأمريكا، وتشبثها بالنهج الامبريالي تملى عليها قبول تسوية لصوص مع أمريكا على المقامرة بتسوية شريفة مع أصحاب المصالح الحقيقية. فلأن يد بريطانيا كانت مثقلة بالأطماع وخطايا التاريخ بقيت يد الملك فاروق معلقة في الهواء حتى قطعها الأمريكان بسيف عبد الناصر.
- النقطة الثانية التي نعتقد أنها تحتاج لبعض التوضيح قبل أن ندخل في متاهات الناصرية، هى عملية مصدق في إيران، فهناك أكثر من علاقة وسبب للمقارنة بين ما جرى في طهران وما جرى في القاهرة.. وإذا كان دور أمريكا أو الـ سى آى ايه في إسقاط مصدق قد أصبح أكثر من معروف.
- بل حقيقة شائعة ذائعة، على نحو جعل البعض يصنفها ضمن أسباب الثورة الإيرانية، لمتا شكلته من إهانة للكرامة الإيرانية أن يتباهى الأمريكيون بأن فردا أمريكيا هزم ثورتهم ونصب شاههم على عرشه.. إلا أن أسباب إسقاط أمريكا لمصدق تحتاج إلى كلمات.. فالمعروف أن الولايات المتحدة أيدت مصدق في البداية.

وأيدت حق إيران في تأميم النفط ومساعدته على مقاومة الضغوط البريطانية ( رفعت أمريكا مساعدتها المالية لإيران من أقل من مليون دولار قبل التأميم إلى ثلاثة وعشرين مليونا وأربعمائة ألف دولار بعده.. وذلك لتخفيف آثار انقطاع مدفوعات الشركة الإنجليزية..) ومنعت بريطانيا من حسم الموقف بالبوارج ( حذر اتشيسون وزير الخارجية الامريكى بريطانيا بأن الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة اليدين أمام غزو بريطاني لإيران.

وقال مؤلف " نهاية إمبراطورية":" كان رأى ترومان واتشيسون أن إرسال البوارج لفرض عقد تجارى هو عمل متخلف عن الواقع مائة سنة" ، وهددهم بايرود في نوفمبر 52 بأنهم إذا لم يتفقوا مع إيران فإن الحكومة الأمريكية قد تشترى النفط الإيرانى بل وحثت الحكومة الشركات الأمريكية على شراء النفط الإيرانى وأغرتهم باستخدام سلطات رئيس الجمهورية لإلغاء قضية كانت أمام المحاكم الأمريكية ضد هذه الشركات بتهمة الاحتكار، ومعروف أن الأزمة انتهت بحصول أمريكا على حصة الأسد في النفط الإيرانى، واستسلام بريطانيا وتسلميها بانتقال إيران إلى الدائرة الأمريكية مع الاعتراف لها بالمركز الثاني..

ولكن تبقى – كما قلنا كلمة عن الأسباب التي أدت إلى انقلاب الأمريكان على مصدق وسقوطه ويمكن تلخيص ذلك في الآتي:

1- إن أية تسوية تفرضها الولايات ا لمتحدة تتطلب قدرا من المساومة مع بريطانيا .. ولكن مصدق الذي لم يأت للحكم بمؤامرة دبرتها المخابرات الأمريكية بل كمرحلة في الصراع الطويل جدا بين القومية الإيرانية والاستعمار البريطانى.
ومن ثم لم يكن بوسعه قبول أو فرض تسوية مع بريطانيا .. أو كما يقول مؤرخ نهاية إمبراطورية :" لو قبل مصدق ما عرضه عليه البنك الدولي أو الأمريكان لتلقى دعما أمريكيا ولواجه الضغط البريطانى.. ولكنه كان قد ارتبط أمام شعبه بأن أي حل أقل من السيطرة الكاملة على النفط يعنى الخيانة"..
2- وما كان بوسع مصدق المساومة ولو أراد.. لأن ذلك كان مستحيلا في ظل مجتمع ديمقراطي في ظروف الالتهاب الوطني، تماما كما فشلت كل حكومات ما قبل ناصر في قبول تسوية بريطانيا ، ولم ينجح ناصر في فرض اتفاقية الجلاء وفصل السودان إلا بعد حل الأحزاب وألغى الدستور وحول الصحافة إلى نشرات حكومية ووضع المعارضة في السجن.. أما في غيران فقد استمرت الأحزاب والصحافة والمعارضة وحرية التظاهر..
ولما حاول مصدق أن يحد من حرية الحركة للمعارضين في البرلمان استجار من الرمضاء بالنار، إذ ضرب البرلمان بالشراع ومن ثم أصبح الشارع أعلى صوتا من النظام كله، وأبعد من قدرة الدكتور على السيطرة وبالتالي كان يستحيل عليه عقد صفقة ومرة أخرى، حتى لو أراد.
3- وبعكس ناصر الذي قدم من وقت مبكر جدا رأس الشيوعيين والإسلاميين صدقة بين يدي الطاغوت الامريكى، فإن مصدق رأى الاعتماد على حزب "توده" وآيات الله في مواجهة الإنجليز ومساومة الأمريكيين ، الأمر الذي أفزع الولايات المتحدة وكانت تعيش حمى المكارثية.. وقد استخدمت بريطانيا وأمريكا عملاءهما في حزب " توده" لاستفزاز الجماهير المسلمة.
فقد علق هؤلاء صورة لينين وكتبوا تحتها:" هذا هو إمام البشرية الحق" وكتب آخرون شعارات يسقط الإسلام وتحيا الشيوعية..

وأخيرا .. موقف شركات البترول الأمريكية التي رفضت إغراء الحكومة الأمريكية لها بشراء النفط الإيرانى وقد يقال إن السوق كانت تواجه فائضا في الإنتاج وقتها. وأن النفط الامريكى وخاصة السعودي كان في أسعد أوقاته بغياب النفط الإيرانى من الساحة، ولكن في اعتقادي أن الشركات خافت من انتصار دعوى تأميم النفط وانتشارها..

وفى نفس الوقت كانت ترى أن وقف إنتاج الشركة البريطانية كاف جدا للضغط عليها لقبول التسوية بالصيغة الأمريكية التي تعطيها- أي الشركات الأمريكية – حصة الأسد دون حاجة للوصول بالصدام إلى الحد الذي يشمت الأعداء ويفسد أخلاق الأولاد.. ولذلك لم تجد حاجة إلى التسرع بنهب البراميل وقد ضمنت حصة في الآبار .

ويقول مؤرخ امريكى :" إن الشركات لم تثق في استعداد مصدق لقبول تسوية أقل من التأميم الكامل الحقيقي".

وهكذا فشل مصدق في تصفية الشركة البريطانية وعجز عن قبول تسوية معها بعكس ناصر الذي نجح في قبول وفرض كل ما طلبه السفير الامريكى مراعاة" لخاطره" بنص عبارة هيكل..

وهكذا تحتمت تصفية مصدق، وإقامة شاه ناصري يضرب الشعب ويقبل الصفقة ويفرض الإصلاح الزراعي.. والغريب أن الفاعل واحد.

نعود لحديثنا عن عشية انقلاب يوليو فنقول:

زاد نفوذ الأمريكان وقدرتهم على التأثير في الفترة من يناير 1952 إلى يوليو 1952 بسبب ضرب الحركة الثورية، وانفراد الملك بالسلطة، وكان نفوذهم عليه يزداد، مع ازدياد غيظه من الإنجليز ورعبه منهم ومن تدهور الوضع الداخلي وأيضا لما قدموه له من وعود..وما أدخلوه عليه من الغفلة بأنهم يدبرون له انقلابا يطلق يده..
وتعزز مركز الأمريكيين في مواجهة الإنجليز بسبب الفشل الواضح للآخرين، الذين لم ينقذهم إلا حرق القاهرة، ولكن إلى حين.. لم يكن بوسع الإنجليز الاستمرار في التعالي بأنهم أصحاب الدار، يعرفون المصريين أفضل وأكثر قدرة على التعامل معهم.. بل وجد سفير امريكى يتحسر على " عدم فهم الإنجليز للوضع في مصر".. واتجه الإنجليز مرغمين إلى طلب النصيحة والمساعي الحسنة من الصديق اللدود، أو العدو الذي ما من صداقته بد..
والمتأمل في وثائق هذه الفترة سيلاحظ على الفور أن الأمريكيين يلحون في اتجاه واحد هو خطر الثورة، أو الفوضى كما يسمونها، وأن سيطرة الملك وهمية ولا يمكن الركون إليها، والأمر الثاني أن النظام غير قادر على المساومة أو قبول ما يعرضه الإنجليز.. وبالطبع يمكن استنتاج ما الذي يرمى إليه الأمريكيون ، وهو حتمية إسقاط النظام، ونفهم من حوارهم أن الإنجليز لم يكونوا مرتاحين لهذا الحل ولا يريدونه فهو على أية حال نظامهم، صنعوه على أيديهم وتعايشوا معه ولهم معه علاقات ومعاملات ولا أحد يحب المجهول، خاصة إذا كان المطالب به والمتعهد تنفيذه هو هذا اللحوح المزاحم، المعلومة أهدافه في كل مكان تقدم فيه" متطوعا" للإنقاذ.

وها هو وزير خارجية أمريكا دين تشيسون يلخص الاجتماع الرابع بينه وبين أنطونى إيدن وزير خارجية بريطانيا 28/6/19522الآتى:

" هل أنا على صواب إذا قلت أننا جميعا متفقون على أنه إذا كان الوضع هادئا الآن في مصر فربما لن يكون كذلك في الخريف وأيضا إن قضية اللقب ( ملك مصر والسودان) هى أصعب مشكلة من وجهة نظر المصريين وأن العراق وباكستان واليونان اعترفوا حديثا باللقب وربما تعترف إيطاليا وبلجيكا وتركيا".
وقد يبدو غريبا أن يحرص وزير خارجية أمريكا على " تحليف" غيدن أنه وافق على احتمال تدهور الوضع في مصر أو عودة الثورة.. ولكن لا غرابة .. فإن الإنجليز ظلوا متشبثين إلى آخر لحظة بأن الوضع غير ميئوس منه، وأنه لا داعي لهذا القلق الامريكى غير المشكور ففي الاجتماع السابق ، سأل " اتشيسون" "إيدن " ألا يتوقع تدهور الوضع في مصر في الخريف؟ فرد سير " رالف ستيفنسون" السفير البريطانى في القاهرة إنه لا يتوقع ذلك فالبوليس تم تعزيزه بمعدات مكافحة الشغب التي قدمتها الولايات المتحدة. ربما إذا وقعت اضطرابات في جميع أنحاء البلاد فقد تكون فوق طاقة سيطرة الحكومة المصرية.
ولكن هذا غير محتمل فهو يعتقد أن أية حكومة انتقالية ستحل محل حكومة الهلالي، ربما ستركز على مشكلة إعادة توزيع الأرض وبذلك تحرف الأنظار عن النزاع الأنجلو- مصري".
ولكن صاحب الحاجة ملحاح، واتشيسون يريد الوصول إلى اعتراف بخطورة الوضع واستحالة معالجته في إطار النظام القائم ولا حتى بمساعدة من البريطانيين فيقول:" إنه يفضل أن يتعامل المصريون مع الاضطرابات بدلا من البريطانيين " ويوافق السفير البريطانى متحفظا بأنه " مجرد معرفة أن الإنجليز على استعداد للتدخل ( احتلال مصر) عند الضرورة هو رادع للاضطرابات" فيصر اتشيسون :" أن استخدام القوات البريطانية في الدلتا سيكون له نتائج خطيرة في الشرق ألوسط لا يمكن حسبانها..
ويرد ستيفنسون إنه لا مجال لاستخدام القوة العسكرية البريطانية إلا إذا فقدت السيطرة على الوضع أو جاء طلب تدخلها رسميا من الملك أو الحكومة المصرية ولو أنه لا يعتقد في إمكانية صدور هذا الطلب.. فقد أخبره الملك بعد اضطرابات 26 يناير أنه لن يطلب أبدا تدخل القوات البريطانية لأن مثل هذا الطلب سيصمه بأنه "كويسلنج" ولكن إذا أصبح الوضع خارج سيطرته فسيعلم ستيفنسون بذلك. وهنا قال المستر إيدن أنه لا يتوقع إفلات الزمام وافقه ستيفنسون قائلا: إن 26 يناير قد علم المصريين درسا".

واستمر الدق الامريكى.

" في اجتماع وزير الخارجية بتاريخ 24/6/1952 سأل وزير الخارجية الامريكى: " أليست نهاية الطريق الحالي هو أن تخسر مصر السودان وتخسر بريطانيا القاعدة" وقال : " إن معلوماتنا تؤكد أن الملك ورئيس الوزراء الحالي لا يتمتعان بقدرة مطلقة لحفظ النظام والقانون".

من نائب وزير الخارجية الامريكى للوزير 14/5/52 :" إن آخر ورقة بريطانية في مصر لعبت والنتيجة هى الجمود ونحن نرى الوضع على النحو التالي: إن قضية القناة والدفاع لا يمكن حلهما بدون حل ما لقضية السودان أي اللقب وكافري وستيفنسون لا يشكان في ذلك. والنتيجة هى عدم اتفاق يمكن أن يجدد التطرف في مصر وانهيار الحكومة وإضعاف ولاء الجيش وسلطة الملك أي إطلاق إنذار الحريق في العالم العربي".

وترتفع نغمة التهديد:" بانهيار عام في مصر سيجعل الأمور أصعب ليس للبريطانيين بل ولنا أيضا، كما حدث في الهند الصينية ، وكما حدث في إيران وتونس ومراكش.. الخ.. أي إضعاف القوة المشتركة التي نحاول جميعا خلقها".

من السفير الامريكى في مصر (كافري ) إلى وزارة الخارجية الأمريكية سرى

القاهرة
8 مارس 1952
" إنني مهتم بسوء الفهم البريطانى للوضع في مصر ، فهذا الحديث عن إزالة الفساد والتحرك ضد الوفد عظيم جدا، ولكن هذا كله لا يجيب على سؤال : هل ستعيش حكومة الهلالي أو لا .. فهذا يتوقف على نتائج المحادثات المصرية – البريطانية.

فإن لم تثمر شيئا-وهو الأرجح – ما دامت بريطانيا متمسكة بموقفها الحالي، فإن علينا أن ننسى أي أمل في ا لاستقرار في مصر، أو تحول مصر إلى موالاة الغرب بل إن احتمال الثورة والفوضى الشاملة في مصر، أمر لا يمكن استبعاده ، نحن نقترب بسرعة من نقطة اللاعودة وإذا مضت مصر في هذا الطريق ، فالشك كبير جدا في قدرة بقية الشرق الأوسط على الصمود" .

من هذه المذكرة نتبين بوضوح أن الهدف المتفق عليه بين الإنجليز والأمريكان هو " التحرك ضد الوفد" أما الخلاف فهو: هل تستطيع حكومة الهلالي ضرب الوفد إذا ما رفض الإنجليز تدعيمها ببعض التنازلات؟ الأمريكان يشكون في ذلك بل يقطعون بعجز حكومة الهلالي عن تحقيق الهدف المشترك وهو ضرب الوفد.

مصر من وجهة نظر السفير الامريكى حبلى بثورة ضد المصالح الغربية.. ثورة شاملة ثورة حقيقية .. ولابد من إجراء ما يحول دون هذه الثورة..

وفى نفس الرسالة وضع السفير الامريكى الذي يوصف بـأنه خبير في إجهاض الثورات تدبير الانقلابات، وضع تقديرا للموقف في مصر بعد تولى الهلالي جاء فيه:

1- إن حكومة الهلالي من وجهة نظرنا هى حكومة ممتازة، ومع ذلك فإنها لم تأت للحكم بإرادة شعبية بل بفعل مؤامرة سياسية ، وخاصة أن مطاردة الوفد هى هدف جانبي لهذه الحكومة وتبنته أساسا على اقتناع بأن الإنجليز يطلبون ذلك.
2- برنامج الهلالي عن الحكومة الصالحة أكثر جاذبية للغرب منه للمصريين الذين يعرفون أن الإصلاح والحكومة الصالحة هى مجرد شعارات سياسية وليست حقائق.
3- أن كل الأهداف النبيلة لحكومة الهلالي عن مقاتلتها للوفد يجب أن ينظر إليها في ضوء الحقائق التالية:
أ‌- الوفد والإخوان وحدهما يمتلكان تنظيمات قوية ، أما الهلالي فليس معه إلا تنظيمات جد ضعيفة للسعديين والأحرار الدستوريين.
ب‌- الإصلاحات الحكومية التي ينادى بها الهلالي تنتج آثارا يمكن للمشاغبين استغلالها في المدى القصير لأن نتائجها لا تظهر إلا على المدى البعيد، والهلالي ليس لديه الوقت الكافي لجني ثمارها.
ت‌- هناك كميات كبيرة من الأسلحة غير المرخصة في يد الأفراد.
ث‌- الطلبة المعبئون بالكراهية والسخط على استعداد لاتباع أي ناعق مضلل يعدهم بالخلاص.
ج‌- الفلاحون وأحوالهم المعيشية معروفة إلى درجة تغنى عن التذكير ، يتطلعون إلى القاهرة بعين الترقب.
ح‌- طالما الجيش على استعداد لإطلاق النار فإن النظام يمكن حمايته في القاهرة، ولكن إذا قرر الوفد إثارة الاضطرابات في الأقاليم فإن الحكومة لا تملك القوات الكافية لإطفاء النار في كل أنحاء البلاد، ورغم تعزيز البوليس أخيرا فلا يمكن الاعتماد عليه، وإذا كان موقف الجيش ايجابيا حتى ألان، إلا أن هناك شكوكا حول ما إذا كان صغار الضباط سينفذون بفعالية أية أوامر إليهم باستخدام القوة ضد الوفد.
خ‌- هناك خطر جد حقيقي بأن يقيم الوفد حلفا غير مقدس مع الإخوان المسلمين أو الشيوعيين أو هما معا لا تستطيع حكومة الهلالي مواجهته.
د‌- يعمل الوفد الآن على تشجيع النشاط ضد القصر وصبغ الهلالي بلون العميل للقصر والإنجليز، وهذا النشاط الوفدي قد يسبب تدهورا في نفوذ الملك الذي كان أحد المصادر الأساسية لاستقرار مصر بعد حوادث 26 يناير .
ذ‌- ولو أن الشرط الأول الذي وضعته بريطانيا لاستئناف المفاوضات قد نفذ ، واختفى الاهاربيون من منطقة القنال، وإن كان ذلك ميراث كفاءة حكومة على ماهر، إلا أن عناصر التخريب هادئة فقط لاعتبارات ستنهار إذا ما عجزت حكومة الهلالي عن تقديمها.
4- وعلى ضوء هذه العوامل فقد اقتنع الهلالي بأنه لا يستطيع ضرب الوفد إلا إذا أحرز نجاحا في تحقيق الأهداف الوطنية التي تجسدت في الجلاء ووحدة وادي النيل".
جيفرسون كافري
سفير الولايات المتحدة
مارس 1952

وينذر السفير الامريكى فيما يبدو الآن، وكأنه هستيريا ولكن وقتها، وفى ظل الإمكانية الحقيقية لانفجار ثورة مصر الكبرى.. الثورة الصادقة ، فإن إنذارات السفير الامريكى لا يسهل وصفها بالمبالغة الشديدة.

" إذا استمر اتجاه التفكير البريطانى الحالي، فيتوجب علينا أن نواجه حقائق الموقف، ونحدد إلى أي مدى يمكننا في ظل التزاماتنا في شتى أنحاء العالم، إبلاغ البريطانيين أننا مضطرون إلى فك ارتباطنا بهم في الشرق الأوسط، لأننا نعتقد أنهم مخطئون فيما يفعلون .

فإذا لم نكن مستعدين لتوجيه هذا التهديد بكل وضوح فمن الأفضل ألا نحاوله إذ لن يفيدنا التهويش.

" وربما كان الاعتراف المنفرد من جانب الولايات المتحدة بلقب ملك السودان يمكننا وحدنا من الاحتفاظ بمصر على هذا الجانب من الستار الحديدي أما الخيار الثالث، فهو الانضمام إلى البريطانيين في الاحتلال العسكري لمصر، هذا الاحتلال الذي يقول البريطانيون إنهم لا يستطيعونه بمفردهم.

ويبقى الخيار الرابع ، وهو تهيئة أنفسنا لقبول حتمية الخروج من مصر والشرق الأوسط.. وإذا كان هذا هو ما سيحدثن فأعتقد أنه قد آن الأوان لبحث تصفية استثماراتنا وتقصير خطوطنا.. وكلما أسرعنا في ذلك كان أفضل"

السفير الامريكى يحذر من ثورة لا تبقى ولا تذر ، يقودها تحالف من الوفد والإخوان والشيوعيين .. والغريب أنه بعد 35 سنة ما زال هذا هو عين الخطر الذي يخشونه.. وقد يكون بعض الحل الذي ما زلنا – أيضا- نريده.. فالتاريخ يكرر نفسه في بلادي.

وأظن أن ألأمر لا يحتاج لتحاليل ولا لكبير ذكاء لمعرفة ما الذي يقترحه السفير الامريكى، إنه يحاول إقناع حكومته لتقنع الإنجليز، أن الحلول البريطانية الترقيعية غير مجدية وفات أوانها، وأنه لابد من قوة جديدة لها من الشعبية ومن الفجور ما يمكنها من ضرب الوفد والإخوان والشيوعيين وإجهاض الثورة المتجمعة في الأفق وفرض التسوية التي تقبلها جميع الأطراف المعنية بإبقاء وحماية المصالح الاستعمارية في الشرق الأوسط..

وأخيرا إطلاق يد الولايات المتحدة لتجربة أساليبها ووضع هذه القوة الجديدة في السلطة، وهذا ما حدث بانقلاب 23 يوليو 1952..

فإلى هناك..

الفصل الثالث: .. في البدء جاء الأمريكان

" .. الصلة بين السادات (...) وأمريكا بدأت في مارس 1952.."
خالد محيى الدين

إذا كانت جوقة الناصريين والخاضعين لابتزاز هيكل قد استطاعت مستغلة جهل قارئيها، أن تصورني وكأني أنا الذي اكتشفت البارود، أعنى علاقة انقلاب يوليو بالأمريكان، فتلك كما قيل: شرف لا أدعيه وتهمة لا أنكرها.. فلست من الغرور بحيث أسكت عن هذا الادعاء مغتبطا به، ولست أيضا شديد التواضع إلى الحد الذي يدفعني لإنكار ما ساهمت به في نشره وتطويره.. فالحق أنه لا تكاد توجد وثيقة أو حكاية تتعرض لتاريخ انقلاب يوليو إلا وأشارت إلى علاقة هذا الانقلاب بالمخابرات الأمريكية، كأمر مفروغ منه لا يحتاج لنقاش أو إثبات، وبعض الدراسات عن تلك الفترة أو عن نشاط المخابرات الأمريكية بصفة عامة تورد هذه الحقيقة في الهامش .. تماما كما يتعرض أي مصدر – محترم- لما يسمى بالثورة العربية أو حركة الشريف حسين في الحرب العالمية ألأولى، فإن هذا المصدر أو الدراسة لا تجد نفسها مطالبة بتسويد الصفحات لإثبات علاقة تلك الثورة بالمخابرات البريطانية، وخاصة أن لورنس وعلاقته بتلك الثورة أشهر من الشريف حسين.

وأنا أكتب هذه السطور اتصل بى طالب من مدينة " سالت ليك سيتي" في ولاية يوتاه الأمريكية، ولاية طائفة المورمون المنشقة عن الكاثوليكية وألد المعادين لها، اتصل بى قائلا: لقد فتحت التليفزيون فجأة ( مساء الخميس الثاني من يوليو 1987) فإذا به يعرض برنامجا عن ثورة يوليو .. -هكذا قال- ووجدت المذيع يقول حرفيا:" ولما كانت الـ سى آى ايه ( المخابرات الأمريكية ) قد تغلغلت في تنظيم السادات فقد تخلت الولايات المتحدة عن الملك فاروق "

وسألني بدهشة .. هل هذا صحيح؟ ويقال بهذه البساطة ؟ فقلت له: ماذا تعرف يا بنى عن لورنس ؟ قال: لورنس أوف آرابيا؟ .. قلت: نعم بعد خمسين سنة سيقول أولادك: " روزفلت أوف إيجيبت" أو " روزفلت أوف 23 يوليو ومن أجل ألا يقال إن المصريين لم يكونوا أفضل من بدر " عوده أبو تايه" وعرب 1916 .. أو على الأقل من أجل أن نبرىء ذمتنا إذا قيل ذلك، نكتب هذا الحديث..

ومنذ عامين دخلت مكتبة في مطار لندن أبحث عن كتاب أتسلى به في الجو، فوجدت رواية انجليزية بعنوان " امرأة من القاهرة" فاشتريته..

فإذا به من تأليف " نوبل باربر" الذي كان رئيسا للقسم الخارجي بجريدة " الديلى ميل" البريطانية والذي عاش في القاهرة فترة وفي مركز سمح له بأن يلتقي بالملك فاروق وعبد الناصر والسادات، وأصيب بطلقة في الرأس خلال الانتفاضة المجرية.

أما الرواية فهي رواية تاريخية عن القاهرة من 1919 إلى ما بعد " ثورة يوليو" ..

وقد لفت انتباهي ادعاءان جاءا عرضا في سياق فصول الرواية:

الأول: أن طائرة عزيز المصري لم تسقط بسبب خطأ الميكانيكي الذي أعدها والذي يقال إنه نسى وأغلق مفتاح الزيت بدلا من فتحه وهو التفسير الذي نشأنا عليه، بل يقول " باربر" إن المخابرات البريطانية هى التي دبرت عن طريق عميل لها كان معهم، إسقاط الطائرة التي كان يسوقها ذو الفقار صبري شقيق على صبري الذي تحيط به ألف علامة استفهام.
الثاني: قوله إن ناصر كان على اتصال بضابط المخابرات الأمريكية ستيفسون خلال الحرب العالمية الثانية ".

وعلى الفور أغلقت الرواية وسبحت مع الأفكار ..

فالادعاء الأول مقبول ، بل إنه يزيح عبئا ثقيلا كان يرهق تفكيري، فقد استحال على أن أبلع هذا التفسير لسقوط طائرة عزيز المصري، هذا التفسير الذي يجعل من تاريخنا سوء حظ مزعج بل أبله..

كذلك لم أفهم أبدا كيف يخطى ميكانيكي الطائرة ، هذا الخطأ وفى هذه اللحظة " يقفل مفتاح الزيت" بدلا من أن يفتحه ورغم جهلي بالطائرات، فأنا أعتقد أنه خطأ غير ممكن عمليا بل أشبه بالنكتة،مثل قولك: أراد أن يسرق سيارة فنسى وقفل مفتاح البنزين بدلا من فتحه لأن مفتاح الزيت في الطائرة الرابضة يكون مغلقا فإما أن يفتحه من يعدها أو يتركه كما هو وإنما لا يستطيع أن يغلقه مرتين..

ومن الأرجح أن المخابرات البريطانية ما كانت لتترك عزيز المصري بدون مراقبة من الداخل، رغم كل ما تعرفه عن تاريخه وميوله، ولابد أنه كان لها عين قادرة بجانبه، فالمخابرات لا تكتفي بالعلم بل توجه العمل وتشارك فيه لتخريبه، ولابد أن هذا الصحفي الإنجليزى المتصل قد علم شيئا استند عليه في هذا الادعاء. وإن كان وفقا للتقاليد البريطانية ، المرعية وقتها على الأقل ، جعلها في شكل رواية خيالية..

أما الادعاء الثاني فنحن لا نأخذ به كدليل، فليس هناك ما يعززه وقد وقفت في كتابي السابق عند إثبات اتصال تنظيم عبد الناصر وعبد الناصر بالمخابرات الأمريكية عشية الثورة، وعلى الأرجح في مارس 1952، وما زلت لا أملك دليلا مقنعا على وجود اتصالات مع عبد الناصر سابقة على هذا التاريخ ، ولكنى اعترف أن الشك يتزايد عندي حول حقيقة علاقة عبد الناصر بالمخابرات الأمريكية، إذ سيرى القارئ من استعراض الوقائع والوثائق استحالة أن يقبل ضابط وطني مجيء الأمريكيين عشية الثورة لمجرد تأمينها ضد الإنجليز، أقول يستحيل أن يقبل هذا الضابط من الأمريكيين مثل هذه المعاملة التي سنقدم بعض نماذج منها..

فيضع السفارة الأمريكية من قيادة الثورة في منزلة السفارة البريطانية من حزب السعديين أو حتى الأحرار. فهناك مواقف تكاد تنطبق حرفيا على مسلكية زيور باشا ،وليس المفترض في أو من ضابط ثار ضد امتهان كرامة الوطن المتمثل في خضوع الملك والوزراء للانجليز.

الحق أن الأمر يبدو أكبر مما نحاول إثباته.. ومع ذلك فأنا لا آخذ ما جاء في الرواية كدليل بل مجرد قرينة، ففي الروايات التاريخية يسمح بالخيال، ولكن في حدود الممكن بالنسبة للشخصية التاريخية ، " جورجي زيدان" أن ينسج من الخيال ما شاء عن قصة حب بين العباسة وجعفر البرمكى، ولكنه لا يستطيع أن يقول إن جعفر كان كاثوليكيا وأقنعها بالتنصر وهربا إلى الدير.. أو أن جعفر البرمكى كان عميلا لإمبراطور بيزنطة.. الخ ولا يستطيع كاتب روائي أن يؤلف قصة عن الصين فيدعى أن " ماو" كان عميلا لليابانيين لأن ذلك يستحيل تاريخيا وعقليا.

وكما قال الأقدمون:" التمثيل الناجح هو الذي ينعدم فيه التمثيل" كذلك فإن الرواية التاريخية تغدو بلا معنى إذا ما قامت على فرضية لا أساس لها على الإطلاق.. لابد أن علاقة عبد الناصر بالمخابرات الأمريكية كانت حقيقة معروفة، ومقبولة في أوساط الصحفيين البريطانيين – على الأقل- في سنوات الثورة، ولابد أنها كانت كذلك – ولا تزال- في ا لأوساط التي ألف لها " نويل باربر" روايته حتى سمح لنفسه – وهو من هو- بأن يجعلها عنصرا أساسيا في حبكة روايته..

وهذه كلها مجرد دردشة أو حتى ثرثرة، ولا تدين أحدا.. وإنما أريد أن أقول إنني لست الوحيد الذي أثار هذه القضية، ولا حتى الأول، بل إنها خرجت من كتب التاريخ لتأخذ مكانها في الفن والقصص والفلكلور كبديهة مسلم بها.. وقد أوردت في كتابي السابق العديد من المصادر الرسمية والأخرى الموثوق بمعلوماتها التي أشارت إلى دور المخابرات الأمريكية في انقلاب يوليو. وخلال الفترة ما بين صدور كتابي الأول وهذا الكتاب تجمعت عندي بعض المصادر الجديدة، بعضها كان قد نشر ولم أطلع عليه، وبعضها نشر بعد كتابي السابق:

خذ هذا المصدر نقلا عن حوار منشور:

  • س: يقال إنه كانت هناك صلة بين السادات وبين الأمريكان..؟
ج: الصلة بين السادات وبين أمريكا بدأت في مارس 1952.. وقد شعرت أنا بذلك قبل أن أقرأ كتاب" كوبلاند" من موقف عبد الناصر من الاتجاه اليساري.. فقد بدأ في ذلك الوقت يطالبنا بالتخفيف في المنشورات، كما بدأ ينتقد التفسير العلمي للتاريخ، مع أنه كان يتقبله قبل ذلك، وحتى بدأ يكتب المنشورات بنفسه بعد أن كنا نحن نكتبها، فعل ذلك مرة أو مرتين، وكنت أتصور أنا أن هذا من تأثير جمال سالم عليه، فجمال سالم دخل اللجنة القيادية من يناير 1952.
ومن يومها بدأنا نسمع كلاما عن الحكم الديكتاتوري وكلاما عن التفاهم مع أمريكا وعن خطر الشيوعية من جمال سالم، ولاحظت أن جمال عبد الناصر بدأ يسكت.
من هذا يتضح أن السادات لم تكن لهم أي علاقة بالأمريكان في الفترة التي حدث فيها الحريق. وإنما بدأت هذه العلاقة من مارس 1952.
ترى من هو معلن هذا الاتهام الخطير، الواضح التاريخ( مارس، المتفق عليه في شتى الروايات) الواضح التفسير، وهو التخلي وفجأة عن الاتجاهات الوطنية – اليسارية والتركيز على الشيوعية لا الاستعمار.. ( وهناك نص آخر لنفس المصدر نسب فيه لعبد الناصر بعد مارس 1952 طلب حذف الهجوم على الاستعمار الامريكى).
صاحب هذا التصريح ليس ليفي اشكول ولا ساداتي موتور.. بل " خالد محيى الدين" شخصيا، عضو مجلس قيادة الثورة لرئاسة الوزارة في مارس 1954 وزعيم حزب التجمع، أكبر مستودع ناصري في مصر.. وهو لم يقل هذا تحت التعذيب في سجون الإخوان بعد استيلائهم على الحكم، ولا في حديث خاص يمكن إنكاره، ولا في مذكراته التي ستنشر بعد وفاته.. بل في كتاب يباع على الأرصفة منذ سنوات".
هل أستحق اللوم إن فار دمى واحتدت عباراتي في الرد على بغايا الفكر عملاء الاستعمار ومن هم أحط من الاستعمار.. وهم يتطاولون على صحيفة " خالد محيى الدين" لأنني قلت نفس الشيء الذي قاله بل افتخر زعيمهم بكشفه قبل أن يقرا " مايلز كوبلاند"؟

كيف تقبل ضمائرهم إن لم تكن قد استؤصلت بالكامل، أن يغضوا الطرف كأنهم من " نمير" ، على تصريح " خالد محيى الدين"، ثم يلطمون الخدود ويشقون ثيابهم من دبر ويدعون الغيرة على شرف الثورة الذي دفنوه "سوا" مع خالد محيى الدين؟

وإليك شهادة من نوع آخر:

الأستاذ " محسن محمد" ببراعته في البقاء فوق سطح الصحافة المصرية المحترق، يدلى بدلوه في الجدل الذي أثرته أنا حول علاقة انقلاب يوليو بالأمريكان، فيأتي باستعراض لكل ما يعزز هذه الصلة بل ويضيف جديدا مثيرا يثبت هذه العلاقة ولكنه لضرورات هو أدرى بها، يبدأ بمقدمة تتناقض مع ما يقدمه هو نفسه من حقائق فيقول: إن معرفة أمريكا بالثورة لا تزيد عن أن شيئا ما يجرى داخل الجيش".

وإذا كنا نعرف ظروف الأستاذ " محسن محمد" وظروف نشر هذا القول في "أخبار اليوم" ونقدر له جهده وأمانته الأدبية التي جعلته يثبت النصوص كما هى، بل ونقدر حتى فهمه وتفسيره لما أورده من نصوص، فإننا بالمقابل نطالب ونمارس حريتنا في التفسير.. محتكمين إلى المنطق والعقل .. وحرفية نصوصه لنرى هل ما أورده هو نفسه من وقائع يتفق مع ما ذهب إليه من أن " معرفة أمريكا بالثورة لا تزيد عن أن شيئا ما يجرى داخل الجيش وهذه هى الحقيقة بالوثائق على لسان كيرميت روزفلت، الرجل الذي ادعى كثيرون أنه شريك في صنع الثورة.." .

قبلنا شهادتك أنت ..
ماذا قال لك كيرميت روزفلت؟ ..
وماذا نقلت أنت عنه؟..

قلت لنا بالحرف الواحد على لسان روزفلت هذا وأنت السامع والناقل وأنت مصدر ثقة.. نقلت عنه قوله:" طلب إليه أصدقاؤه أن يحضر إلى القاهرة ليلتقي- كما أكدوا له- بالرجل الذي سيزيح الملك فاروق عن عرشه ويجلس مكانه.

قال لهم إنه لا يستطيع كموظف في الحكومة الأمريكية ، أن يلتقي ويتحدث ويحاور رجلا يتآمر ضد رئيس دولة صديقة حتى ولو كان الرئيس يستحق التوبيخ..

وعلى هذا الأساس فقد أرجأ اللقاء إلى ما بعد قيام الثورة. وأضاف: وقمت بالزيارة في يناير عام 1953".

ماذا نفهم من هذا النص؟.. مع مراعاة أن الرجل ما زال ملتزما ومحظورا عليه كشف الأسرار، بل وحذفت الرقابة كل كلامه عن مصر وناصر في وثائق الخارجية الأمريكية المفرج عنها بموجب القانون بعد مضى الثلاثين سنة المفترضة لعمر الأسرار..

ماذا قال الشاهد النفي الجديد؟

قال نائب مدير المخابرات الأمريكية لشون الشرق الأوسط وصاحب القرار الأول في كل ما يتعلق بنشاط الـ سى آى ايه في هذا الشرق الأوسط.
والرجل المشهور جدا بإعادة الشاه إلى عرشه وقلب مصدق وإجهاض ثورة الشعب الإيرانى ربع قرن..

قال:

إن له أصدقاء في مصر..
هل نسى الظن إن افترضنا أنهم من عناصر المخابرات الأمريكية؟

وهؤلاء الأصدقاء يعرفون خالع الملك المقبل، وهم واثقون من نجاحه في خلع الملك، وعلى علاقة متينة معه، تسمح لهم بالفرجة عليه، ودعوة من يرغب ليشاهد من وما يسره..

ولكن المسئول الكبير في واحدة من أهم المؤسسات الأمريكية ، يعرف ما في ذلك من توريط، إذا لا قدر الله وفشلت الخطة، واعترف هذا الرجل عند التحقيق بأنه اجتمع بالخواجا روزفلت..

ولذا رد بكل بساطة.. : لأ .. نؤجل هذا الاجتماع إلى ما بعد الانقلاب ( أو الثورة لكي لا ننتقص من إسهام الزعيم الخالد).

ولله عباد لو أقسموا عليه أبرهم.. تحقق كل شيء كما تمنى الأخ روزفلت ودبر الأصدقاء وخلع الرجل العجيب، الملك، وجلس مكانه وجاء روزفلت يطلب البشارة وحق الطريق.

كل هذا يا "عثمان" محمد وتقول لنا" شيئا ما ، يجرى داخل الجيش"..

لا.. اسمح لنا .. إنهم يعرفون الشيء ولزوم الشيء والشيء الذي سيخلع الشيء.. واللي ما يشترى يتفرج.

على أية حال شكرا..

فهذا أول نص صريح من كيرميت روزفلت عن صلة أصدقائه بخالع ملك مصر، وعن عمله بذلك موافقته على الخلع، واحتياطه بعدم الاجتماع معه مباشرة قبل الثورة، وهو تقدم كبير ففي كتابنا السابق، عرضنا شهادة شاهد النفي الأول" ولبركراين" الذي نقل عن روزفلت نفيه أية صلة بخلع الملك، إذ قال " هل لو كنت خلعت الملك فاروق.. كنت أتمتع اليوم بثقة الملوك"؟

عدل المتهم عن الإنكار التام وبدا خطوة نحو الاعتراف بالحقيقة، بدون تعذيب ولا إكراه.. وإنما لأن خلع المخابرات الأمريكية للملك فاروق أصبح حقيقة أشهر من أن ينكرها عاقل .

وإذا رجع القارئ إلى ما كتبناه في الفصول التالية والتي سبق نشرها قبل نشر حديث روزفلت هذا بثلاث سنوات، سيجد أننا لم نرفض تماما " الدفع" بأنه لم يتم لقاء مباشر بين روزفلت وعبد الناصر على أن نضع في الاعتبار، الخبث الذي طرح به روزفلت العجوز الأريب، الصيغة ، فهو كما يقول العامة في مصر ينوه على شيء ويقسم على شيء آخر فهو يتحدث عن محمد نجيب وهذا يعنى احتمال اجتماعه مع جمال عبد الناصر وتجنب اللقاء مع نجيب الواجهة والذي كانت كل الأضواء والتجسسات والمراقبة مركزة عليه. وقد ناقشنا هذا بما فيه الكفاية في موضعه من الكتاب.

كذلك استعرض لنا الأستاذ محسن، المصادر التي تحدثت عن أمريكية ثورة يوليو فقال: في كتابه " فاروق ملك مصر" قال المؤلف بارى سان كلير " إن الأمريكيين استغلوا كراهية المصريين للانجليز فشجعوا حركة السادات أو تسامحوا معها وقال الكاتب إن إحدى السيدات المقيمات في القاهرة شاهدت أحد المسئولين في السفارة الأمريكية يجلس بجوار جمال عبد الناصر في سينما ريفولى بالإسكندرية في ديسمبر عام 1951 ، ومن الواضح أن هذه أكذوبة فإن جمال عبد الناصر لم يظهر علانية في ديسمبر 1951 مثل السادات، وبذلك لا يمكن أن يكون أحد قد تعرف عليه..الخ".

وهو دفع غريب ليس في مستوى ذكاء الأستاذ محسن.. فلا أحد قال إن السيدة عندما رأته صاحت:" الله مش ده عبد الناص زعيم السادات".

لا .. الرواية خلاف ذلك..

عندما أصبح عبد الناصر زعيما ومشهورا وصورته في كل مكان تذكرت السيدة التي كانت تعرف موظف السفارة الأمريكية أن هذا الزعيم رأته مع الموظف في السينما في ديسمبر..الخ
ولا أظن أن سيدة على صلة بالسفارات تخطيء ملامح عبد الناصر.. واللقاء في السينما أسلوب معروف في الاجتماعات التي من هذا الطراز، وعبد الناصر – بالمناسبة- بل وكل أعضاء مجلس الثورة كانوا مفتونين بالسينما فتنة أولادنا بالتليفزيون، ونصف الأحداث الكبرى في تاريخهم وقعت وهم في السينما أو يشاهدون فيلما في عرض خاص بمنزلهم.. وعفوا لهذا الاستطراد الذي ليس له علاقة بالموضوع.

نعود لاستعراض أقوال شاهد النفي الثاني:

قال :" وفى كتاب وكالة المخابرات المركزية قال الكاتب تاللى:" ساعدت الوكالة في طرد فاروق فقد كانت تعرف عبد الناصر ومناوراته الخلفية".

:وقال المؤلف: " إن عملاء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية سى آى ايه والبريطانية كانوا قريبين من السادات ودعموا قوتهم وأعطوا .. الخ".

وفى كتاب بارى روبين: أمريكا والثورة المصرية 1950- 1957 " في أواخر مارس أصبح روزفلت على علم بالثورة المتوقعة وبدور ناصر كزعيم للضباط الأحرار، وهى مجموعة اعتبرتها السفارة الأمريكية منظمة تصحيحية خالصة يقتصر اهتمامها على الشئون العسكرية".

وفى كتاب جون رافيلانج: ارتفاع وسقوط وكالة المخابرات المركزية، قال : " إن الوكالة ساعدت جمال عبد الناصر في الوصول إلى السلطة .

وقد نصح كيرميت روزفلت قادة الانقلاب ومولهم ضد السياسة البريطانية ".

" وفى كتاب " جبال من رمال" ( صحته حبال بالحاء المهملة) اعترف رجل المخابرات الأمريكية ويلبور كرين ايفلاند باشتراك الوكالة في الانقلاب"..

صدق الله العظيم .. سلفهم الطالح كانوا كلما تنزلت آية قالوا.. أيكم زادته هذه إيمانا؟

كل هذا ولم تصدق؟.. ما الذي يدفع كل هؤلاء المؤلفين الوثائقيين إلى افتراء أكذوبة لا أساس لها من الصحة؟ ولماذا لم يقولوا مخابرات الصين أو روسيا أو حتى إسرائيل ؟

لماذا ؟.. مؤامرة على عبد الناصر بعد 51 سنة من موته؟

بل ويضيف لخبطة جديدة للرواية الهزلية عن إبلاغ على صبري للملحق الجوى الامريكى " دافيد إيفانز" الذي قابله الأستاذ محسن أيضا في واشنطون وهو من تعريفه لنا رجل مخابرات أساسا وصل إلى مصر في أكتوبر 1951 " وظل في مصر حتى يوليو عام 1954 واستطاع أن يوثق صلته بضابط الجيش وسمعهم كثيرا ( قبل الثورة) وهم يقولون: إن حكومتنا عميلة للاستعمارقال إيفانز: كنت أشجع الضباط على أن يمارسوا استقلالهم وأن يكونوا مصريين وكنت أثير معهم قضية القومية العربية، وكنت أقول لهم: مهما شق الفرنسيون القنال فإنها ستبقى جزءا من أرض مصر. وقد شجع ذلك الضباط على الثورة".

معذرة للقارئ من جيلي إذا أحس بالمهانة والغثيان.. وهذا المخابراتى الامريكى الحقير يفتخر وينشر ادعاءه في كبرى الصحف المصرية أنه هو الذي علم ثورانا أن يكونوا مصريين ، وعلمهم العروبة وحرضهم على استرداد قناة السويس .. هو الذي شجعهم على الثورة..

والعقاد قاطع " الثورة" واعتكف مضطهدا نفسه لأن عبد الناصر أهان شعب مصر وأهانه شخصيا عندما وقف يقول :" أنا علمتكم الكرامة" ..

ومات العقاد العملاق وخلف الكرامة هو ضابط مخابرات أمريكي..وينشر ذلك دليل براءة هذه العصابة ووطنيتها.

يا للعار.

أصبحنا مثل عوده أبو تايه الذي شجعه " لورنس" على الثورة، وعرفه بعروبته..
معذرة يا بقايا جيلي.. إذا أدهشكم أن القراء الآن لا يستثيرهم هذا الكلام، ففي جيلنا وفى عام 1951 لم يكن هناك وطني شريف يسمح لنفسه بمجالسة عسكري مخابراتي امريكى يعمل في السفارة الأمريكية ، فضلا عن تلقى دروس الوطنية منه، ولكن للأسف هم هؤلاء الذين نفذوا ثورة يوليو، هم من تولوا خلال ثلاثين سنة تعليم الوطنية وتحديد مفاهيمها وعزل مخالفيهم فنشأ جيل لا يرى غضاضة في تعلم الدين من أحبار إسرائيل والوطنية في كامب ديفيد.. أما العمالة لأمريكا فتلك حلم يتشوقون إليه تشوق المؤمن للوصول إلى سدرة المنتهى..

دعونا من هذا الوحل الذي لطخوا به وجه تاريخنا، وأغرقوا فيه أحلام شبابنا.. المهم أن إيفانز أبلغ الأستاذ " محسن" أنه عرف بخبر الثورة قبل على صبرا وأبلغه للسفارة الأمريكية قبل قيامها بعشرة أيام..

اعفونا إذن من حكاية من أبلغ من ؟ أستاذ الثورة أبلغ قيادته وهى الـ سى آى ايه موعد امتحان طلبته النجباء وقبل الامتحان بعشرة أيام وتسع ليال..

لا يحق لهيكل إذن أن يهز رأسه وينحت لنا نصا بلاغيا عن الخرافة التي تقول " إن الولايات المتحدة كانت على اتصال بقيادة ثورة 23 يوليو قبل قيامها وأنها كانت في سرها قبل إذاعته".

آه كانت على اتصال وتدريب وتلقين وتهييج للثورة.
آه. كانت في سرها قبل إذاعته بشهور.. وكانت تعرف موعد إذاعته قبل عشرة أيام..

وهذا هو ما جاء به رئيس مجلس إدارة جريدة الجمهورية من أدلة على طهارة الثورة..

وليس تجاوزا للاختصاصات أن نفترض كون " إيفانز" هذا موظف المخابرات الأمريكية بشهادة الجميع، وهو من أصدقاء " روزفلت" رئيس كل من يعمل للمخابرات في مصر وأنه كان أحد الذين طلبوا من روزفلت مشاهدة الرجل المدهش الذي سيخلع فاروق..

ورغم كل ما كشفت عنه الوثائق عن قبول محمد نجيب – الخضوع والتبعية للأمريكان فلم يكن هو فتى الأمريكان، وإنما تسابق على أعتابهم ليعزز مركزه وسط " جوقة" الأمريكيين التي كانت تحيط به، وعندما أزفت لحظة الحسم، لم يجد معه إلا الإنجليز فخسر كما خسر على ماهر من قبله.. ومن ثم فكل ههذ القصص هن " إيفانز" تؤكد أو ترجح الفرضية الأولى بأن الاتصال ، والإعداد كان مع ولعبد الناصر..

وإذا كان كيرميت روزفلت يقول: إنه طلب تأجيل اجتماعه بقائد [بثورة 23 يوليو|الثورة]] إلى ما بعد نجاحه في خلع الملك، والمدرب إيفانز يعترف بأنه عرف بالثورة قبل أن يعلم بها على صبري، وأنه أبلغ عنها السفارة الأمريكية قبل عشرة أيام من الليلة التي حمل فيها الفتية الذين آمنوا بشيطانهم إيفانز، أرواحهم على كف العفريت..

فهل نصدق هؤلاء أن نصدق الديك الرومي الذي ما زال يبعبع إلى اليوم بأن " الثورة" كانت مفاجأة تامة للغرب؟ لقد كتبوا التقارير بل والمقالات الصحفية قبل وقوعها وهو يصر:" فاجأت ثورة يوليو العالم كله وكانت المفاجأة تامة ومؤلمة، كانت آخر ما توقعه الغرب من مصر".

هل فيما قدمته "أخبار اليوم " من أدلة لا أمريكية الثورة ما يعزز هذا الزعيم عن مفاجأة الثورة للغرب أم الأحرى أن يقال إنها كانت مفاجأة من زعيمة الغرب لمصر والمصريين؟

بقى أن نقول إن على صبري الذي لم يكن من السادات والذي يقال لنا إنه استدعى ليلة الثورة لتوصيل خبرها لصديقه إيفانز هو نفسه على صبري ضابط مخابرات الطيران الذي أرسل إلى واشنطون قبل الثورة من قبل النظام الملكي الرجعى وبناء على نصيحة من كيرميت روزفلت لأخذ كورس في المخابرات الأمريكية، ويشاء العليم أن يصبح فورا أقرب الضباط إلى عبد الناصر حتى كاد أن يكون وريثه في ثورة كيرميت – إيفانز المعروفة باسم ثورة يوليو.. لولا تطورات لم ترصد بعد حول ذعر عبد الناصر في أواخر حياته من كل الوثيقى الصلة بالأمريكان.. وهذه قصة أخرى.

ونتابع تقديم الشهادات التي جدت منذ صدور كتابنا السابق .

وها هو شاهد غريب الشهادة، هو الضابط السابق " حسين حمودة" وهو من السادات وقد جاء في كتابه " صفحات من تاريخ مصر" : " بعد أن يئس الأمريكان من الملك فاروق حاولوا الاتصال بالجيش عن طريق الملحق العسكري الامريكى بالسفارة الأمريكية بالقاهرة والذي كان بحكم وظيفته على اتصال بوزارة الدفاع، وقد حضر كاتب هذه السطور شخصيا عدة اجتماعات في منزل الملحق العسكري الامريكى بالزمالك مع " جمال عبد الناصر" وكان الكلام يدور في مسائل خاصة بالتسليح والتدريب والموقف الدولي والخطر الشيوعي على العامل بعامة والشرق الأوسط خاصة، وأن الولايات المتحدة ستساند أي نهضة تقوم في مصر، لأن بقاء الحال على ما هو عليه في مصر ينذر بانتشار الشيوعية.

وهذه الاتصالات بالسفارة الأمريكية كانت في الفترة من عام 1950- 1952 ميلادية".

والغريب أننا وحدنا علقنا على هذه الشهادة، التي لم تثر أي اهتمام أو رد من الناصريين والمتناصرين..

وما دامت نفسنا قد انفتحت إلى حد الاستشهاد بسى حمودة، فلا بأس من الاستشهاد حتى بجمال سليم شبيلوف التنظيم النصارى، أو مدير صحيفة الحزب الناصري كما وصف نفسه وهو ناصري معتز بناصريته إلى اليوم وقد شهد بالتالي:

" على انه من الضرورة أن نعرض لمقولة أساسية راجت بعد الثورة ولها نصيب كبير من الصحة وتقوم على أساس توازن القوى، فالمد الشعبي الذي تزايد في مصر بعد الحرب العالمية الثانية ، وحركات التحرير التي ولدت في خضم المطالبة بالاستقلال والحكم الذاتي للمستعمرات ، والنقابات العمالية التي تنامت قوتها، كل هذا كان يجد له نصيرا في الاتحاد السوفيتي، وأدركت الولايات المتحدة الأمريكية أنه لابد من كسر فرص نجاح السوفييت، وذلك بتغيير القيادات التقليدية الفاسدة وإحلال قيادات جديدة تأتى في أثر انقلاب أو ثورة ترفع شعارات الجماهير ذاتها وتحتضنها، بل ويمكن أن تتمادى بتحقيق بعضها وذلك بغرض إجهاض هذا المد الشعبي.

وأدرك الغرب أنه لا سبيل لإنقاذ مصر إلا بطرد قيادتها التقليدية وتغيير النظام كله، وبحث الغرب عن البديل.. ووجد الغرب أو الولايات المتحدة هذه الوجوه المطلوبة بين صفوف ضباط الجيش في شكل تنظيم " السادات " وعلى هذا أطلقت واشنطون الضوء الأخضر ليقوم الجيش بحركته في 23 يوليو" ص 21.

ثم يعزز دعواه بالاستشهاد بأقوال الخالد محيى الدين وإبراهيم بغدادي وإبراهيم سعد الدين وأحمد حمروش.. وكلهم كما ترى من خيار الناصريين .. ويستنتج " وإذن فمقولة الاتصال بالولايات المتحدة قبل الثورة وبعدها واردة، ولابد أن يكون هذا هو سر رفع شعار التطهير قبل طرد الاستعمار".

ما غلطناش..

ما بلبلناش كما يكتب لنا بعض البؤساء . ها هم كلهم ناصريون اشتراكيون ثوريون يشهدون أن ثورة يوليو عملها الأمريكيون فأنى تؤفكون أو تكذبون ؟
ويعزز أهمية شهادته، أنها لا تشككه في الثورة، فهو يستمر يحدثنا عن ثورة 23 يوليو وعن الردة وعن مؤامرات اقتلاع ثورة يوليو ومحاولات العودة إلى الوراء .

وأي وراء أسوا من الأمريكان؟

وأي ردة أسوا من تلقى الدروس على يد المخابرات المركزية ( كما اعترف إبراهيم بغدادي محافظ العاصمة السابق أنه وحسن التهامي وحسن بلبل وفريد طولان وعبد المجيد فريد إياه كانوا يتلقون محاضرات من رجال المخابرات الأمريكية الـ سى آى ايه في مدرسة المخابرات التي أقيمت بقصر الأميرية فايزة بمدينة الزهرية).

وموقف هذا الشخص مفهوم فهو من الجيل الذي ربى في ظل ثورة المخابرات الأمريكية، الثورة التي دبرت لإجهاض المد الشعبي هذا الجيل تعرض لعملية تجهيل أفقدت الكلمات معناها في مفهومه، فهو يمكن أن يحدثك عن كاتب اشتراكي تقدمي ثوري متصل بالمخابرات الأمريكية " أو يقدم لك أدلة الاتصال بين شخص والمخابرات الأمريكية ثم يعلق ولكن ذلك لا ينقص من ثوريته فقد علموه أن العدو هو الوفد أو الإخوان والعرب.. والإمام البدر، وتعلم أن الرجعى هو من يتصل بهؤلاء والعميل وهو من يعترض على محاربة هؤلاء وترك إسرائيل تستعد أو تمارس إبادة العرب.. ومن ثم غلا تناقض في ذهنه ولا ضميره بين التآمر مع أمريكا لإجهاض المد الشعبي ، وبين أن يكون المتآمرون اشتراكيين ثوريين.

وقد أشار محمد نجيب 4 مرات في مذكراته إلى علاقة عبد الناصر بالمخابرات الأمريكية .

فمن ناحية لسنا ندعى شرف أن نكون أول ولا آخر من تحدث عن علاقة المخابرات الأمريكية بانقلاب يوليو وعبد الناصر، ومن ناحية أخرى، فقد كان لنا فضل طرح هذه القضية في صيغة جديدة، ليس كاتهام ولا إفشاء سر.. بل في إطار دراسة متكاملة بالوقائع والمستندات والتحليل العلمي.

مرة كفرضية، وأعتقد أنني نجحت في إثباتها إلى درجة منعت أي كاره من أن يتعرض لها بحرف ، بصرف النظر عن مهاترات ووقاحة الرعاع الذين لا يملكون لا العلم ولا المنطق..

وها هو الكتاب يدخل عامه الثالث وصدرت منه طبعتان ولم يجرؤ ناصري على أن ينقد- ولا أقل ينقض – حرفا فيه..

ومن ناحية عرضنا هذه العلاقة كنظرية تفسر مسلكية عبد الناصر في فترة بالغة التأثير – للأسف – من تاريخنا، بل وما زالت – أي هذه النظرية- صالحة لتفسير الكثير من الأحداث..

على أية حال لم تذهب جهودنا عبثا في الكتاب الأول فقد اضطر مؤرخ الناصرية- كما سنرى – إلى التراجع تراجعا معيبا مفضوحا، فبعد التعالي على خرافة اتصال الثورة بالأمريكيين ووصف ذلك بأنه خرافة، وجعل أمريكا شريكا رابعا في العدوان الثلاثي. سقط ذلك كله بعد ما فندناه وفضحنا زيفه وتهافته..

واضطر مؤرخ أو مزيف تاريخ الناصرية إلى البدء في حديثه عن ثورة يوليو بالبداية الصحيحة التي – كما أشرنا- وضعها هو والناشر الإنجليزى على غلاف الكتاب ألا وهى أن الناصرية ليست إلا فصلا في ملحمة تصفية أمريكا للإمبراطورية البريطانية والحلول محلها..

كذلك بدأ حديثه عن ثورة يوليو بالتعريف بآل روزفلت المخابراتى:" أرشيبالد روزفلت الذي هو آرشى.. وابن عمه كيرميت الذي أعاد الشاه إلى عرش الطاووس بعملية أجاكس التي نفذتها الـ سى آى ايه " .

نعم تأمل كيف عدلت كتاباتنا تاريخ الناصرية وأوقفته على قدميه، تأمل لو فتح قارئ كتاب ملفات السويس على صفحة 57 لابد أنه سيذهل ويظن أنه يقرأ صفحة منقولة من كتابنا، نقلها مؤرخ الناصرية ليفندها،فالصفحة تلخص الموقف في العالم العربي عشية انقلاب يوليو كالآتي:

1- هناك مصالح ومطالب أمريكية هائلة.
2- هذه المصالح والمطالب في بلدان ضعيفة ومفككة وفى حالة تكيف.
3- وسيلة تحقيق المصالح والمطالب لا يمكن أن تكون بالقوة العسكرية فيما هو خارج عن توازنات الأمن العالمي.
4- وإذن فلابد من وسائل جديدة لتحقيق وحماية المصالح والمطالب.

" في هذا النطاق يمكن البحث عن دافع الولايات المتحدة إلى إقامة وحماية وتقوية إسرائيل وفى هذا النطاق يمكن البحث عن دافع الولايات المتحدة إلى إقامة وحماية نظم موالية لها.

وفى هذا المجال أخيرا يمكن البحث عن الدور الخاص والمسئولية المتميزة التي ألقيت على عاتق وكالة المخابرات المركزية الأمريكية".

بحروفه

ما الذي يمكن أن يستنتجه طالب يدرس التاريخ أو المنطق وليس مؤلفا ينتحل صفة مؤرخ..

المخابرات ألأمريكية أو وكالة المخابرات المركزية ، كما يجب أن يثبت اسمها الثلاثي، توليت أو حاولت إقامة نظام موال للولايات المتحدة في مصر لتحقيق المصالح الأمريكية ، والمطالب الأمريكية في العالم العربي على حساب مصالح بريطانيا دون حاجة لاستخدام القوة العسكرية ضد بريطانيا العظمى.. أم أن سوريا وليبيا أهم من مصر.. ؟ ولماذا كان الكلام بره وبعيد عن مصر فلماذا تبدأ به حديث الثورة الناصرية؟

أو لست أنت الذي رسمت خريطة العالم العربي عشية ثورتكم على هذا النحو:

السعودية : نفوذ امريكى بنسبة 100% .
مصر: نفوذ امريكى بنسبة 50% مؤقتا حتى يتم تمهيد الأرض لما هو أكبر .

أمريكا تريد رفع نسبة نفوذها في مصر من خمسين إلى مائة بالمائة.. ووسيلتها في ذلك المخابرات الأمريكية .. ثم يأتي " بولدوزر" – كما سماه النحاس باشا – يصفى الخمسين بالمائة البريطانية، ويفتح للأمريكان عهدا في مصر وصفته أنت :" الولايات المتحدة الأمريكية – حليف بريطانيا الأكبر- دخلت المنطقة بقوة اندفاع شجع عليها وصول عناصر جديدة إلى السلطة في مصر، يستخفون ببريطانيا ، تحيط بهم شبهة الاتصالات والمتصلين بالمخابرات الأمريكية من فوقهم ومن تحتهم، ثم لا تفسير لهذه المصادفة السعيدة..

دراويش الناصرية قالوا: إن هذا القصد السىء كان فعلا في نية أمريكا، ولكن مقاومة وصلابة الشعب المصري منعت حدوثه، بل أصابت الأمريكان بقارعة هى ثورة يوليو.. أما هيكل فهو يقفز ويتشقلب ويلبس شتى الأقنعة لكي يتهرب من الإجابة .

أما من بقيت في ضمائرهم بقية حياء، فهم يضطربون أما حقائق الانفتاح بل الالتحام بين الناصرية والمخابرات الأمريكية، فهم من ناحية لا يستطيعون التمسك بادعاء "الثورة المعادية للاستعمار العالمي، البريئة من النفوذ، الطاهرة من آثار هذا الصراع الامبريالي.. " لأن الوقائع والحقائق ومذكرات أو اعترافات رجال هذه الثورة التي تتوالى تنكر هذا الزعم وتنسقه نسفا، ومن ثم فهم يسلمون بوقوع الاتصال والتطابق بين المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وانقلاب يوليو، وبمفهوم وتكتيكات المخابرات الأمريكية مع تشبثهم بآخر موقع لحفظ الشرف ، وهو : هل كان هذا الاتصال قبل الزواج أو بعده؟ .. أي قبل 23 يوليو أو بعد وصولهم للحكم..؟

وقد تبدو أنها نقطة لا أهمية لها..- وهى بالتأكيد ليت كذلك- ما دام الجميع قد اتفقوا على تلاقى المصالح الاستعمارية للولايات المتحدة في العالم العربي مع قيام نظام يوليو واستقراره وهيمنته على السياسة العربية.. وما دمنا قد سلمنا أن انقلاب يوليو ثم نظام يوليو كان لفترة سنوات أدوات تحقيق المصالح الأمريكية بمنطق الإزاحة؟ أن يكون ذلك قد حدث عن إرادة ووعى وسبق من جانب المخابرات الأمريكية ، أو أن هذه المخابرات كانت في مثل غفلة ووعى وسبق تصميم من جانب المخابرات الأمريكية ، أو أن هذه المخابرات كانت في مثل غفلة عبد الحليم حافظ..

ففي يوم فتحت عينها وجدت" ثورة" يوليو فتعرفت عليها لتوها وقالت هذا هو النظام الموالى الذي كنت أحلم بإقامته، وعلى الفور طرحت قلبها عند قدمي الثوار فكان قران بالرفاء والبنين؟ ..

أو كما يقول مفبرك الناصرية بصورة هزلية: " في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة- ضمن أطراف متعددين- تبحث عن الرجل القوى في القيادة الجديدة.

كان الرجل القوى في القيادة الجديدة، بدوره يبحث عن دور الولايات المتحدة".

توارد خواطر فلما التقيا هتفا في صوت واحد: حبيبي .. عمال أدور عليك وأنت هنا جنبي..

هل من المعقول أن يؤجل الرجل القوى البحث عن الدولة القوية، إلى أن يغامر بالانقلاب معرضا كل جهوده وطموحاته بل ومستقبل الوطن لمقامرة البحث عن أمريكا ودورها وقبولها أن يكون هو لاعب هذا الدور؟

من أين حصل على ضمانة بالقبول؟ وهل من المعقول أن تغفل الولايات المتحدة عما يجرى في الجيش، وما يثور في البلد وتنتظر حتى ينجح انقلاب لا تعلم عنه شيئا ثم تبدأ في البحث عن الرجل القوى لكي تحقق به مصالحها في الحلول محل بريطانيا ، من أين ضمنت أنه سيقبل أن يكون مكنسة؟ أليس المعقول وقد عرفت " أن النتيجة التي يمكن أن يستخلصها المرء هى أن الولايات المتحدة رأت منطقة الشرق الوسط غير مستقرة وبالتالي منطقة خطرة وأن بريطانيا التي سادت المنطقة غارقة في أمواجها ومن ثم فكان الدور على أمريكا أن تحل محلها".

هل نستكثر عليها أن تبحث عن الرجل القوى الذي " يحلها – أي أمريكا- محلها" .. ما دمنا قد اتفقنا على أن الغزو العسكري غير ممكن، والملك فاروق وتشكيلته كاملة غير قادرة؟..

ألم يأت الرجل القوى فعلا محققا لآمال الحلول هذه ، حتى اعتقدت الولايات المتحدة – عن حق- أنه " قد أصبح لها في المنطقة مع الظروف المستجدة، ما ليس متاحا لغيرها".

وبصرف النظر عن أعجوبة أن تجد زعيمة الامبريالية في زعيم الثورة العربية إمكانية غير متاحة لغيرها.. ألا يوحى ذلك بتلاق سابق في الإرادات..

يتشبث هيكل- في الطبعة العربية- بخرافة أن اللقاء أو شهر العسل بين الثوار والاستعمار حدث بعد وصولهم للسلطة كآخر خط دفاع، ولكنه في طبعة الخواجات لا يصر كثيرا على هذه النقطة وإنما يقول:

" قرر ناصر أن يستفيد إلى الحد الأقصى من الأمريكيين ، كان دائما يرمز إليهم والبريطانيين بالقادمين والذاهبين " الجايين والرايحين" ( كتبها هكذا....وطن أن القادمين يمكن أن يضغطوا على الذاهبين" .و" هكذا قام شهر العسل في التعاون بين مصر والولايات المتحدة وجرى تدعيم الجهاز بالفعل في مصر وهو دبلوماسي بحضور قوى للمخابرات سى آى ايه .

وليم ليكلاند كان موجودا بالفعل في مصر وهو دبلوماسي شاب " لهلوبة" ولعله كان يعمل للمخابرات من وقتها، إذ أنه بالتأكيد كان كذلك فيما بعد وإن لم يثر وقتها حول ذلك.

" وجاء روزفلت بـ " جيمس ايكلبرغر" و" مايلو ليكلاند" " وكان واضحا أن المخابرات ألأمريكية تدير عملية منفصلة عن السفارة وأكثر فعالية".

تدير من يا حاج؟

بصرف النظر هل حدث هذا الالتقاء قبل أن بعد [بثورة 23 يوليو|الثورة]]، فهو يعترف بالتقاء المصالح، مصالح الانقلابيين وإستراتيجية أمريكا في وراثة الإمبراطورية البريطانية ، وتصور لنا زعيم الثورة مجرد منادى سيارات يقف على باب الجراج، يخرج الرايحين ويهتف بالجايين: هات .. هات.. خش .. طمعا في البقشيش.
يقول لنا إن عبد الناصر قرر الاستفادة من " الجايين" فهو يرى مصير الشرق الأوسط بين " رايحين" وجايين..

ولو كان مناضلا أو مقاوما أو وطنيا لقال الغابرين" والطامعين لو كان يمثل قوى وطنية أصيلة لأبغض " القادمين" أكثر ولحاول أن يضربهما معا أو ببعض لا أن يتحول إلى أداة في يد القادمين ومن خلال أسوأ أجهزتهم.

على أية حال هذا الاعتراف بالأرضية والتعاون مع المخابرات ألأمريكية يقال لأول مرة سواء اعترافا بأن ما قدمناه من أدلة يصعب أو يستحيل نقده، وأخذا بما اقترحناه أن يعدلوا دفاعهم من " غير مذنب" إلى " مذنب ولكن.." فيعترفون بالحقيقة التي يعرفها العالم المتمدين وهى التقاء المصالح والتعاون مع المخابرات ألأمريكية .

أقول مهما تكن الأسباب والدوافع، فإن هذا الاعتراف يشكل نقطة تحول هامة في التأريخ لانقلاب يوليو، وإن استمر الخلاف: هل كان هذا التعاون بعد نجاح الانقلاب أو قبله، وإذا كنا سنناقش أكثر فإننا نعتقد أنه يستحيل تصور " أكبر فترة تعاون بين حكومة مصرية والمخابرات الأمريكية يتم في ظل حكومة [ثورة 23 يوليو|الثورة]].. إن الألفاظ تفقد معناها ويغدو التاريخ بل والسياسة نوعا من السريالية الهازلة..

كذلك نعتقد أنه لو كان التعاون مع الولايات المتحدة بدأ بعد الثورة وكتعاون سياسي بين حكومتين، لما اتخذ شكل التعاون التآمري مع المخابرات الأمريكية ومن خلف ظهر السفارة الأمريكية، الأمر الذي تسبب في جميع الكوارث التي نزلت بمصر ثم بعبد الناصر وانقلابه.

وإذا كنا قد فسرنا هذه العلاقة الشاذة ، التي لم يكن لها مثيل إلا في إيران بعد انقلاب كيرميت، أو سوريا فترة حسنى الزعيم، وأعنى تلزيم عملية مصر وسياسة مصر.. بل مصر كلها في عهد ناصر تلزيمها للمخابرات الأمريكية.

فسرنا ذلك بأن هذه المخابرات هى التي جاءت بهم إلى السلطة ، فكان الوضع الطبيعي أن تتولى مسئولية إدارتهم إل أن انهارت العملية كلها.

فإن هيكل يعترف بأن الطرف الامريكى في التعامل مع الناصرية كان المخابرات الأمريكية ويسلم معنا أنه وضع شاذ، ولكنه يضيع الوقت في البحث عن بارد العذر لتفسير هذا الشذوذ في التعامل مع أم الدنيا، ويخرج علينا بنسبته إلى مزاج الرئيس الامريكى.. مع أن هذا الفعل الشاذ، بدأ واستمر خلال حكم رئيسين مختلفي المزاج تماما، الأول ديمقراطي أفاق بياع كرافتات صهيوني الدرجة العمالة، والثاني جنرال جمهوري بطل الحرب العالمية الثانية ومتحرر إلى حد كبير من نفوذ الصهيونية..

وفى عهديهما استمر الفعل الشاذ في التعامل مع نظام ناصر.. ومن ثم تستمر " مارتا" في تعداد الأسباب ، ومطلوبها واحد هو إخفاء السبب الحقيقي، أعنى العلاقة السابقة على وصول الناصريين للسلطة..

فيقول هيكل:" وإن العمل السري لا يلفت نظر القوتين العظميين المهتمتين به مباشرة: بريطانيا وروسيا" .

وهذا صحيح جدا بالنسبة لمرحلة التآمر لقلب نظام الحكم الملكي، أما بعد أن أصبح الناصريون في السلطة وعرف الإنجليز ناصر" بتاع مين" إلى حد أن يصرخ وكيل وزارة الخارجية البريطانية في وجه المندوب الامريكى" تريد أن نسلم سوريا لعبد الناصر بتاع السى آى ايه ؟ .. وبعد أن يحدد " إيدن" من المسئول في السفارة الأمريكية عن دعم الناصريين :" أما" ليكلاند" فهو مع المصريين ثلاثمائة في المائة".

بعد الانقلاب لم يكن هناك من مبرر لاستمرار التعامل من خلال الـ سى آى ايه إلا دور هذه الـ سى آى ايه في إقامة النظام.

وفى كل بلدان العالم تعمل شتى أجهزة المخابرات، فهذا نظام عالمي قديم الجذور، ولكن الظاهرة المصرية اتسمت بالشذوذ والغرابة وتجاوزت الحد المتعارف عليه، سواء في حجم ومجالات تداخل هذه المخابرات الأمريكية أو مستوى تعاملها مع الطرف المصري.. مما أذهل حتى المراقبين الأمريكيين أنفسهم كما سنرى في شهادة الامريكى " ليفلاند" هذا النشاط الغريب اليومي بل وعلى شتى المستويات ابتداء من رئاسة الدولة.. وهو ما يؤكده مؤرخ الناصرية في ملفاته:

" مجموعة كيرميت روزفلت وكانت مختصة بالعمل والاتصال في الميدان ومن يوم إلى يوم وكان " كيرميت " بالطبع أبرز نجومها واختار اثنين من الدبلوماسيين هما" مايلز كوبلاند" و" جيمس ايكلبرغر" ..

" وأكثر من ذلك رغبة في الطمأنة فإن كيرميت روزفلت رجا جمال عبد الناصر بتكليف مصدر واحد تجرى الاتصالات من خلاله، وكلف عبد الناصر مدير مكتبه على صبري بهذه المهمة _ ووضعت " مارتا" هاشا آخر هنا يعتذر بأن" كان تصور جمال عبد الناصر أنه من خلال كيرميت روزفلت يتعامل مع البيت الأبيض مباشرة فجوازه يؤكد أنه مستشار للرئيس وحتى مع بعض الشكوك الواردة فقد بدا أن ذلك أسلوب إيزنهاور في العمل، وساعد على تقبله وجود > دلاس" وزيرا للخارجية في الوقت الذي يرأس شققيه " الليثى دلاس" ( عفوا آلن دلاس) إدارة المخابرات المركزية الأمريكية"..

وتأمل كيف يتعثر أستاذ الفبركة ويضطرب في محاولة تغطية موقف عبد الناصر من كيرميت روزفلت وقبوله أن يكون منه في موضع الشريف حسين أو حتى فيصل من لورنس..

خذ هذه : في قصة السويس الصادرة في عام 1981 يقول:

" وكان بين هؤلاء المندوبين، كيرميت روزفلت المسئول الأول في إدارة المخابرات الأمريكية عن الشرق ألوسط وقد وصل إلى القاهرة تحت ستار أنه مستشار خاص للبيت الأبيض.
وقد عرف جمال عبد الناصر شخصيته الحقيقية قبل أن يقابله".

ولكن في ملفات السويس التي نشرت بعد قصة السويس بحوالي خمس سنوات، نجد عبد الناصر بعكس الإنسان الطبيعي تقل معرفته بمرور الزمن فيخبرنا الراوي:" في أواخر شهر أكتوبر وصل إلى مصر المستر كيرميت روزفلت ، فقد وصل كيرميت يحمل جواز سفر دبلوماسيا يصفه بأنه مستشار خاص لرئيس الولايات المتحدة، واتصل الوزير المفوض في السفارة الأمريكية بالقائمقام عبد المنعم أمين ليبلغه بوصول أحد مستشاري الرئيس ترومان فإلى القاهرة".

وهكذا ترى أن التاريخ طوع بنانه، أو من إنتاج الشريف للبلاستيك يشكله كما يشاء.

مرة في قصة السويس عبد الناصر عرف كيرميت وحقيقته قبل أن يقابله بصرف النظر عن تاريخ المقابلة أكتوبر 1952 أو بعد ذلك..

ومرة ظل يجهل ذلك طوال 1952 إلى أن تولى إيزنهاور في يناير 1953 وجاء روزفلت يحمل جواز سفر جديدا.. وأيضا في صفحة 237 من "ملفات السويس " يعتذر بأن عبد الناصر تعامل مع روزفلت هذا .. لأن " جوازه يؤكد أنه مستشار للرئيس وحتى مع بعض الشكوك الواردة فقد بدا أن ذلك هو أسلوب إيزنهاور"..

وقبل ذلك بمائة صفحة يقول لنا إن عبد الناصر اكتشف حقيقة روزفلت هذا فور تولى إيزنهاور وعودته بجواز سفر فيه أنه مستشار الرئيس" ص 178 ع، أي أنه جاءه مرة بجواز يثبت أنه مستشار الرئيس الديمقراطي ترومان.. وغاب وسقط الحزب الديمقراطي ونجح الجمهوري ورجع أيضا بجواز فيه أنه مستشار الرئيس الجمهوري.. ولم تكن هذه اللعبة تنطلي على فتى بنى مر الذي فقيس اللعبة على الفور فلا يحمل مثل هذه الصفة بشكل دائم إلا بتوع المخابرات.

مرة عبد الناصر عرف قبل أكتوبر 1952.
ومرة عرف في يناير 1953.
ومرة " بعض الشكوك"

أي تاريخ هذا .. الذي لا يرتقى لمستوى الأساطير؟..

كذلك صيغ وصف لقاء عبد الناصر بروزفلت بعبارة تتفق مع ما جد من تطورات وما ظهر من مشاغبين من أمثال كاتبه.. ففي قصة السويس كانت " مارتا" تظن أن أحدا لا يعلم.. ولذلك نفث بشكل قاطع:" لم يكن هناك اتصال بين الثورة والولايات المتحدة قبل 23يوليو"..

أما في الملفات فقد اضطر " المتهوم" بعد أن استجوب وفق العرف الجاري في البلاد إلى تعديل أقولاه فأصبحت العبارة كالآتي في وصف لقاء روزفلت مع عبد الناصر وعامر وصلاح سالم:" وكان هذا أول لقاء على هذا المستوى بين قادة ثورة 23 يوليو وممثلين عن الولايات المتحدة".

على أية حال بهذه الإضافة " على هذا المستوى" لم يعد هناك كبير خلاف بيننا.. فنحن لم نحدد المستوى، وإنما أثبتنا وجزمنا بأن لقاء روزفلت هذا لم يكن أول لقاء ولا أول اتصال بين ثورتهم والولايات المتحدة الأمريكية. .

ولكن ما من أحد قال أو يقول إنه كان سيتم على هذا المستوى.. ويبقى السؤال .. إن كنت لا زلت مؤلف قصة السويس ومربوطا من لسانك بأنه لم يكن هناك اتصال. فلماذا أضفت " على هذا المستوى"؟

وفى رسالة مصطفى أمين إلى عبد الناصر ، يقرر أنعبد الناصر كان يعرف مهمة روزفلت، وأن الاتصال لم يقتصر أبدا على " على صبري" بل كان هيكل بالذات ومصطفى أمين، على اتصال دائم به وبمعاونيه. ومايلز كوبلاند كان يرى متأبطا ذراع "حسن التهامي" في مدرسة الكادر للمخابرات المصرية التي أقامها المدربون الأمريكيون.. وإذا كنت تزعم أن ناصر أمر بقصر الاتصال مع روزفلت على " على صبري" .. فأنت متهم بالاتصال بالمخابرات الأمريكية من وراء ظهر عبد الناصر بنص اعترافك فيما سنتعرض له من اجتماعاتك التي تفوق الحصر مع روزفلت ومساعديه..

وننتقل من الكذب إلى المجون عندما ينسى كل ما قاله عن أهداف الولايات المتحدة فيقول:" أثبت الدور الامريكى فعلا قدرته على الضغط على لندن ولكن السؤال المعلق كان هو : ما الذي تريده الولايات المتحدة بالضبط؟"

بعد كل هذا ولا تعرف يا عثمان؟

من حقنا أن نعتب على معلم الناصرية أنه لم يعلم تلميذه عبد الناصر كما يجب، بل تركه في حيرته مع الزير المعلق أقصد السؤال المعلق.. لماذا لم يخبره بنظرية الإزاحة وأن هذا الضغط والدعم هو لإخراج الرايحين وإدخال الجايين.. وإذا كانت بريطانيا ذاتها- كما تفضلت وعرفتنا- تفهم وتعرف لماذا تؤيد أمريكا عبد الناصر " لأغراض تشعر الحكومة البريطانية بمقاصدها" فكيف لا يعرف عبد الناصر نفسه؟

ويل هلترى ظل عبد الناصر في حيرته وكيرميت يقدم له معلومات " عن نشاط الإخوان واجتماعاتهم في الخارج".

أما اجتماع المستوى هذا فقد حضره أيضا وليم ليكلاند " وظهر أنه بدلا من هذا الاستعباط نعرف القارئ من هو ليكلاند هذا ، من إحدى روايات هيكل كريستى..

ففي رسالة مصطفى أمين المنشورة في كتاب هيكل: بين الصحافة والسياسة جاء الآتي: " وعرفني كافري بمستر ليكلاند وهو شاب أعور يعمل ملحقا في السفارة واكتشفت أنه أقوى موظف له نفوذ على كافري برغم أنه ملحق صغير بالسفارة كان يجيد العربية إجادة تامة، وكان يزورنى في مكتبي وفى بيتي باستمرار، وأعتقد أنه له فضل كبير في التأثير على كافري وعلى سياسة أمريكا في مصر".

" وعندما قامت الثورة أبلغني ليكلاند أنه في ليلة قيامها أيقظ السفير البريطانى في واشنطون مستر دين اتشيسون.. ووزير الخارجية من النوم وأبلغه أن ثورة شيوعية قامت في مصر وأن الحكومة البريطانية قررت التدخل العسكري فورا وتحرك الجيش البريطانى من فايد لقمع الثورة، وقال لي ليكلاند: إن دين اتشيسون طلب مهلة للتشاور وأنه أبرق إلى كافري يسأله رأيه وان ليكلاند هو الذي أعد البرقية العنيفة التي على أثرها أبدت أمريكا اعتراضها على التدخل العسكري البريطانى في مصر، وشعرت بحكم اتصالي المستمر بأهمية ليكلاند وقوته رغم صغر سنه.

وأبلغت المرحوم صلاح سالم برأيي أن ليكلاند هو السفير الحقيقي، وعقب ذلك حدث اتصال مستمر بين ليكلاند وبين الرئيس جمال عبد الناصر وصلاح سالم..

وكان ليكلاند هو الواسطة بين الثورة وبين السفير الامريكى" " وكان يبدو متحمسا للثورة ومؤيدا لها وأعتقد أنه قام بخدمات جليلة جدا في شأن علاقات أمريكا مع الثورة في بدء قيامها".

أعرفت الآن لماذا يتشبث هيكل بورقة التوت لستر عورتهم، بالزعم أن ليكلاند هذا انضم للمخابرات الأمريكية بعد الثورة وليس قبلها.

وإلى أن نتناول الأمر بالتفصيل في الفصول القادمة، نقول إن أهمية تحديد توقيت اتصال عبد الناصر بالمخابرات الأمريكية ، هو أن هذا التحديد يساعد في فهم طبيعة الظاهرة الناصرية، ويعزز تفسيرنا بأنها مجرد إفراز للصراع الأنجلو- امريكى ومن ثم فهي محكومة بقوانين هذا الصراع.

بقصور ومحدودية إرادة وحركة أدوات هذا الصراع، وقابلية أو حتمية خضوع هذه الأدوات لضغوط طرفي الصراع.فلو كانت الناصرية إفرازا للصراع العربي- الاسرائيلى، لاتخذت مسارا آخر يختلف جذريا عما ارتكبته وادي إلى تحول إسرائيل من دولة مزعومة إلى أقوى قدرة عدوانية في المنطقة، لو كانت الناصرية رد فعل التحدي الاسرائيلى لما بدأت عهدها بكل هذه الآمال في مصالحة إسرائيل والتعايش معها، ولا خاضت المعارك في كل الجبهات هروبا من مواجهة إسرائيل، ولا كان عبد الناصر يتصلب مع جميع الأطراف في حرب 1956 ويتنازل لإسرائيل وحدها.. الخ الخ .

ولو كانت الناصرية هى التعبير عن الحركة الوطنية الضاربة بجذورها إلى مطلع القرن التاسع عشر، ما قبلت فصل السودان ولا تحطيم الرأسمالية المصرية وسحق الديمقراطية، ولكان مفهومها وممارستها للوحدة العربية بصورة مخالفة تماما..

تأمل على سبيل المثال الحركة الوطنية في فيتنام، لأنها لم تكن مجرد ظاهرة من ظواهر التناقض الامريكى- الروسي- أو التناقض الروسي- الصيني ولا التناقض الامريكى- الفرنسي في الأصل .. بل التعبير الصحيح عن الوطنية الفيتنامية ومن ثم فقد استفادت من كل هذه التناقضات ، إلا أنها لم تقبل أن توظف لحساب أي طرف، ولا قبلت باستقلالهم في الشمال، لينعموا بالسلام والسلطة مقابل تنازلهم عن هدف تحرير وتوحيد كل الوطن.. ولكنهم لم يقبلوا واستمروا في الحرب عشرين سنة أخرى تم تحرير وتوحيد الجنوب رغم أنف أكبر قوة في العالم وهى الولايات المتحدة.. بل وهل أقول رغم أنف الصين حليفة الأمس وعدوة اليوم. .

ورغم أنه لا يمكن إنكار الدور الذي لعبته أمريكا في هزيمة فرنسا والدور الذي لعبته الصين في هزيمة أمريكا..

وقد استفاد ثوار فيتنام من ذلك دون أن يكلفوا الوطن أو المبادئ تنازلا لأنهم كانوا الممثلين الشرعيين لثورة ووطنية القومية الفيتنامية .. ومن هنا أهمية تحديد الرحم الذي استقبل ثورة يوليو وغذاها ثم ولدها..

فإذا كان تعاون المخابرات الأمريكية مع حكومة الثورة، مريبا ويشكل وثيقة اتهام فإن احتضان واختيار هذه المخابرات لتنظيم ناصر وتمكينه من الاستيلاء على السلطة هو الوثيقة الكبرى والدليل القاطع على نفى نسب هذا الانقلاب وبراءة الحركة الوطنية منه التي لم تلده ولا ولد على فراشها.. فله ولأمه الحجر.

ولنبدأ الحديث من بدايته..

رأى هيكل بمناسبة الحديث عن دور أمريكا أو الشريك الرابع في حرب السويس فرصة لكي يتعرض الخرافة تقول بأن الولايات المتحدة كانت على اتصال بقيادة ثورة 23 يوليو قبل قياما .

وأنها كانت في سرها قبل إذاعته.

وقد بدأ تعرضه لهذه الخرافة التي هى – للأسف- أقوى من الحقيقة- بقوله:" إن بعض الضين يروجون لهذه الخرافة يعتمدون لسوء الحظ على رواية أوردها المستر مايلز كوبلاند في كتابه لعبة ألأمم، دون أن يسألوا أنفسهم سؤالا بسيطا، هو : من هو " مايلز كوبلاند؟".

ولا أظن أن القارئ لكتاب لعبة ألأمم، وما كتب عنه في الصحف الأمريكية والعالمية، كان بحاجة إلى طرح هذا السؤال البسيط فالرجل قد عرف بنفسه وبوظائفه والمهمات التي عهد له بها، واتصالاته في مصر مع هيكل نفسه والرئيس عبد الناصر والعديد من المسئولين المصريين ، وكلها أسماء رسمية وذات صفة عليا في الجهازين الامريكى والمصري، وكان الأحرى بهيكل أن يرد أولا على تعريف الكاتب والناشر بمايلز كوبلاند، قبل أن يقرعنا على عدم السؤال ، وقبل أن يعرفنا هو بمن هو مايلز كوبلاند ..

فإن فضح الرجل كان أسهل ألف مرة ،،لو قال هيكل بصراحة: يقول كوبلاند إنه كان يعمل في السفارة الأمريكية في الفترة من كذا إلى كذا.. ولكن هذا غير صحيح .. والدليل كذا وكذا.. أو أنه عضوا في لجنة تخطيط سياسة الشرق ألوسط بوزارة الخارجية الأمريكية تثبت أنه لم يعمل بها.. أو أنه يدعى أنه سلم حسن التهامي، مبلغ الثلاثة ملايين دولار هدية المخابرات الأمريكية لعبد الناصر، وهذا تكذيب من حسن التهامي يؤكد أنه لا يعرف الرجل، ولم يحدث أن استقبله في شقته بالمعادى.. الخ..

لو فعل هيكل ذلك لحق أن يقرعنا بسؤال : من هو مايلز كوبلاند، ولكنه لا يملك أن يكذب معلومة واحدة مما قاله الرجل عن نفسه، فلجأ إلى أساليب "الردح" المعتادة في البلدان المتخلفة. " دا كان عايز يشتغل ولم نقبل تعيينه وعندنا جوابات منه .. الخ". .

يقول هيكل:" مايلز كوبلاند – وهو يعترف بذلك في كتابه- أحد موظفي إدارة المخابرات المركزية الأمريكية الذين عملوا في مصر فترة من الزمن"..

صحيح وهذا ما قاله الرجل

وافتخر به، بل قدمه كوثيقة ودليل على صدق معلوماته ولكن هيكل يقفز فوق هذه الحقيقة ليستنتج أنه لا يمكن أن يؤلف وينشر إلا بموافقة المخابرات الأمريكية ، وبالتالي " فالهدف هو تلطيخ سمعة جمال عبد الناصر كجزء من حملة الدعاية السوداء كما يسمونها ضد الثورة وقائدها".
ثم يؤكد أن للرجل ملفات كاملة في الحكومة المصرية تضم خطابات بإمضائه يطلب فيها أموالا من الحكومة المصرية لينشئ لحسابها إدارة مخابرات".
وهناك تأشيرات على هذه الخطابات بالرفض ، وبينها خطابات بتوقيع مايلز كوبلاند يشكو فيها من أن جميع المصريين المسئولين لا يقابلونه ولا يردون عليه، بينما هو يريد أن يخدم ، ولا يطلب من مصر إلا ما يستطيع أن يعيش به ويحافظ على مستواه.
وتأشيرات على هذه الخطابات بمنع دخوله إلى مصر وبعدم حاجتها إلى خدماته، وبأنها ليست مسئولة لا عن معيشته ولا عن مستوى معيشته".
" وبينها خطابات بتوقيع مايلز كوبلاند يبدى فيها استعداده لحذف وتغيير كل ما لا ترضى عنه مصر في كتابه" لعبة ألأمم" وتأشيرات عليها بعدم الرد عليه".
ويتساءل هيكل في النهاية:" ولست أعرف لماذا لا تنشر كلها أو ينشر بعضها؟ في مواجهة ما يكتبه وينشره كوبلاند؟

سؤال مهم جدا..

وهو – بالمناسبة- ليس موجها ضد نظام السادات أو غيره، حتى لا نقول بمؤامرة لتشويه سمعة الزعيم، وأن السلطة المصرية تخفى هذه الأدلة التي تبرىء ساحته وساحة ثورته، فالخطابات موجودة من أيام عبد الناصر على رواية هيكل – والكتاب عرض على حكومة عبد الناصر للتنقيح والحذف وصدر والزعيم حي يحكم، فكان الأحرى أن تبادر السلطات الناصرية بنشر تلك الخطابات، إن كانت تكشف زيف كوبلاند ، ولا تعزز روايته؟ وهو ما لم تفعله الزعامة الناصرية ولا حكومة السادات..

مما يجعل سؤال هيكل يثير أكثر من سؤال . على أن الأدلة التي أوردها السيد هيكلن وهو طرف مباشر في الموضوع ، تؤكد صحة المعلومات التي أوردها مايلز كوبلاند، ولا تضعفها فضلا عن أن تنفيها ..

لهذه الأسباب:

1- الرجل كان موظفا في المخابرات الأمريكية ، وليس موظفا عاديا كما سنرى ومن ثم فهو ليس بالصحفي الذي يستنتج أو ينقل من مصدر آخر مثلنا، بل هو شاهد عيان، عاشر الأحداث وساهم فيها ، وهو يروى ما عاشه بدقة تفصيلية مثل أين كان الاجتماع.. ومع من ..
وماذا حدث عندما دق الباب وعرف أنه السفير البريطانى فخرج له عبد الناصر.. الخ وهو لا يروى فقط عن المصريين الذين قد لا يملكون الرد ولا ندرى لماذا ، ولا عن الأموات كما يفعل هيكل، بل عن مسئولين أمريكيين أحياء، ولهم أجهزة مهمتها الرد على كل حرف خاطئ يتعلق بهم.. ولا يعقل أن يصدر موظف كبير في وزارة الخارجية والمخابرات مثل مايلز كوبلاند كتابا في أمريكا ينسب فيه لقاءات وأحاديث واجتماعات لكبار المسئولين الأمريكيين ، كلها من نسج الخيال أو يزيف ما جرى فيها ولا يصدر تعليق في هذه الوقائع الأساسية، وإن كان أكثر من مصدر قد صحح له وقائع تفصيلية..
ولولا أنه كان موظفا في المخابرات الأمريكية – وليس عميلا- لما كان لكتابه أو شهادته هذه الأهمية ، التي تنبع فقط من أنه موظف في المخابرات الأمريكية .
ولولا أنه كان موظفا في المخابرات الأمريكية – وليس عميلا- لما كان لكتابه أو شهادته هذه الأهمية، التي تنبع فقط من أنه موظف في المخابرات الأمريكية .
2- الرجل على صلة وثيقة بالحكومة المصرية، ويعتبرها مسئولة – ولو أدبيا- عن الحفاظ على مستوى معيشته- إذا قبلنا رواية هيكل ولا دليل عليها إلا شهادته وهى أكثر من مجروحة – ولا يعقل أن يأتي أفاق من فرنسا مثلا، ليس له أية صلة بالحكومة المصرية ، ويشكو أنها لا تعطيه ما يحفظ له مستوى معيشته الذي اعتاد عليه.

هذا كلام صاحب عشم وصاحب أفضال سابقة، وصاحب أسرار يحذر من أن الجوع كافر وأن ذلك قد يضطره إلى ما لا يحب ويضرك يا بيه.

ولا أحد يأتي بكتاب كله أكاذيب ، ثم يساومك على حذف بعض الأكاذيب؟ لا ليس هكذا فن البلاك ميل.. والأستاذ هيكل خير من يعرف أساليب الابتزاز الاعلامى، والدعاية السوداء والرمادي والكروهات .

الابتزاز لا يكون إلا على فضائح والفضيحة لابد لها من أصل حقيقي. ومن ثم لا يمكن إلا أن يكون مايلز كوبلاند شاهدا مهما، ولديه وقائع تمس سمعة النظام المصري، وباذلات بعض الأشخاص. وأنه وثيق الصلة بالحكومة المصرية إلى حد كتابة الخطابات واقتراح إنشاء جهاز مخابرات خاص لهم على ضوء ما شاهدوه وعرفوه من خبرته ويشكو من إهمالهم ويساوم على حذف بعض ما لديه من معلومات.. هذا كله يؤكد أن لعبة ألأمم لم يكن قصة خيالية ، وهذا ما نصل إليه من أدلة نفى هيكل.. أما ألأدلة الحقيقية فصبرا علينا..

يبقى سؤال لماذا سمحت المخابرات الأمريكية بنشر هذا الكتاب؟ ويبادر هيكل فيسد علينا الطريق بطرح إجابة: إنها مؤامرة لتشويه سمعة الزعيم.. ونحن لا نرفض هذا التفسير أبدا، بل بالعكس نجد أنه محتمل جدا، فالعلاقات منذ 1964 أو 1965 كانت قد تدهورت تماما بين واشنطون والقاهرة، والأجهزة الأمريكية المؤيدة لناصر كانت قد هزمت أمام الأجهزة النفطية والإسرائيلية والبيروقراطية والمعادية لنظام حكمه.. وكانت الولايات المتحدة اتخذت قرار تحجيمه إن لم يكن إسقاطه.. فلا عجب ولا غرابة أن تحاول الأجهزة الأمريكية تشويه سمعته..

ولكن الأستاذ هيكل وهو خبير يعرف أن أجهزة المخابرات عندما تقرر تشويه سمعة زعيم فهي تلجأ إلى أحد أسلوبين أو هما معا: الشائعات.. وهذه لا يعرف مصدرها، ولا يمكن الدفاع عنها، ولكنها تخلق التشويش المطلوب، وهذه قد تكون كاذبة وملفقة . لا يهم.. فلا أحد يتحمل مسئوليتها.. وهذا ما استخدم ضد محمد نجيب والنحاس وصلاح سالم .. الخ..

الأسلوب الثاني .. هو نشر وثائق تدين هذا الزعيم وتسيء إلى سمعته ، وأحيانا – نادرة – تكون الوثائق مزورة بإتقان بالغ، ولكنها في هذه الحالة لا تنسب أو لا تصدر بشكل واضح من الجبهة التي تريد ترويجها، لسبب بسيط هو أن الزعيم أو المسئول، يستطيع بما يملك من سلطات، إثبات تزويرها، وبالتالي تفقد هذه الجهة التي أصدرتها مصداقيتها عند الناس، وهو عنصر مهم جدا لنجاح حملاتها بل حتى أكاذيبها في الظروف الحرجة... لا يمكن أن تصدر وثيقة علنية على لسان المخابرات الأمريكية ضد رئيس دولة تتحدث عن اجتماعه وتنسيقه برجالها، دون أن يكون لذلك أصل .. لأن الناس لن تصدق المخابرات الأمريكية بعد ذلك..

وجانب مهم من نجاح هذه الأجهزة وقدرتها في السيطرة على العملاء والمتعاونين ، هو هذه الوثائق التي تملك نشرها والتي تفقد قيمتها، إذا طعن فيها بالكذب، أو إذا قبلنا منطق هيكل بأنه يستحيل نشرها، وهو المنطق الذي يغررون به العملاء عند بداية تجنيدهم للعمل بأن خطيئتهم في الحفظ والصون.

نعود للسؤال .. لماذا نشر هذا الكتاب؟..

والسؤال لابد أن يشمل العديد من الكتب والأخبار والقوائم التقارير التي نشرت ابتداء من هذه الفترة، وكلها تتضمن معلومات حقيقية عن نشاط المخابرات الأمريكية ، وأجهزتها وعملائها.. ثبتت صحتها أو على الأقل لم يقم – حتى الآن- دليل ينفيها.. وفى حالات قليلة جدا قام المعنيون برفع قضايا ضد الناشرين..
ولسنا ندعى أننا نملك القدرة على تحديد كل الأسباب التي تدفع المخابرات الأمريكية ، إلى نشر بعض وثائقها في فترة من الوقت.. فهذه الأجهزة وصلت إلى مستوى من التكنيك والتعقيد، يفوق الفهم العادي ، وأحيانا يخرج عن دائرة حسابات منظميه.

ولكن عجزنا عن الفهم، لا يدفعنا إلى نفى وجود هذه المخططات، فليس كل الناس بوسعهم فهم نوعية العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة، ولا كيف تكون أنجولا شيوعية ، ومع السوفييت ، وحكومتها تعيش على حماية الكوبيين ، ومصدر دخلها الوحيد الذي تدفع منه مرتبات الكوبيين ، هو النفط الذي يملكه الأمريكيون.

ومرة قال إن السياسة هى الآن رياضة عليان أو ما يسمى في المدارس بالرياضة الحديثة، والذين يحاولون فهمها بمبادئ الحساب أو الرياضيات القديمة ، يفشلون فشلا ذريعا.. ولكنها علم موجود وضروري، وهو وحده يفسر الكثير من غرائب العلم . فنحن نواجه قضايا كالفيروسات ، قد لا نستطيع رؤيتها بل ولا نملك تحصين أنفسنا ضدها.. ولكن تجاهلها هو انتحار..

فلنسلم أولا أن جانبا من الإجابة على سؤال : لماذا تنشر المخابرات ألأمريكية أو موظف سابق في المخابرات ألأمريكية .. هذه الأسرار؟ هو سؤال ، فوق مستوى فهمنها.

وإذا كنا نفتح أفواهنا في بلاهة أو دهشة، عندما نقرأ أن ثورة 23 يوليو بكل شعاراتها ومغامراتها وأمجادها، بدأت بعلاقة خفية مع المخابرات الأمريكية .. فلا يجوز أن نرفض هذه الحقيقة، لمجرد أن جانب من الإجابة على سؤال : لماذا يخبروننا ؟ صعب الفهم..

ثم نضيف هذه الحقائق:

1- قانون حرية المعلومات.. وقد صدر عام 1966 وهو لا يمنح الشعب فقط حرية نشر المعلومات، بل يجبر الأجهزة الحكومية على تقديم المعلومات لمن يطلبها .. وهو النص المكمل لحرية الإعلام إذ أنه طالما ظلت المعلومات محظورة، فلا سبيل لمعرفة الحقيقة، ومن ثم لا ممارسة حقيقية لحرية الاختيار.. وصدور هذا القانون ليس كما وصفه " وليم شوكروس" الكاتب البريطانى ومؤلف كتاب:" نيكسون – كسينغر وتدمير كمبوديا" وهو الكتاب الذي نشر أكبر مجموعة من الوثائق السرية الأمريكية عن تآمر الحكومة الأمريكية على تدمير كمبوديا رغم حيادها.. فقد وصف الكاتب البريطانى قانون حرية المعلومات بأنه " تحية لثقة المجتمع الامريكى بنفسه".
نحن لا نرى ذلك.. بل نعتقد أنه كان تعبيرا عن ثورة، وفى نفس الوقت محاولة لإجهاض هذه الثورة، التي تنامت في الستينات ضد الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها" المؤسسة " الأمريكية وتوجت بكارثة فيتنام، والتي لولا هذا الانفراج، ولولا الانفتاح الليبرالي الذي خفف الضغط عن المثقفين الأمريكيين، لربما أدى إلى تغييرات أكثر عمقا في التركيبة الأمريكية.
ولكن هذه الحريات التي تتابعت، من حرية المعلومات إلى حرية الفاحشة، وما أدت إليه من مبالغات، لعل بعضها كان مقصودا ومدبرا، مثل نشر قائمة بأسماء موظفي المخابرات الأمريكية (الأمريكان) في الخارج مما أدى إلى تعرضهم لحوادث اغتيال، ومثل نشر أو إحباط بالنشر، لكثير من عمليات أمريكا.. مما أدى إلى ردة فعل سنتعرض لها..
المهم أنه في هذه الفترة من 1966 إلى وصول ريجان للحكم وبداية الهجمة اليمينية ، لإعادة الهيبة والجدية والسرية لأجهزة الدولة، تسربت ونشرت حقائق كثيرة جدا.. كان الشرق الأوسط هو أقلها- للأسف- كما شهد هيكل نفسه بأن ما نشر عن الشرق الأوسط لا يكاد يذكر إلى جانب ما نشر من أسرار ونشاط المخابرات الأمريكية في مناطق أخرى من العالم، والمعروف أن هذه الأجهزة تتقن فن مقاومة الانفجارات السياسية، أو التغييرات المفاجئة والمؤقتة وإذا كانت بريطانيا العظمى أم الديمقراطية تمكنت من حرق (خطأ) مسودة الاتفاق البريطانى- الفرنسي- الاسرائيلى، فلم يعد لها وجود، واستحال عثور أي محقق أو مؤرخ عليها، فإن الموظفين المخلصين في المخابرات الأمريكية، يستطيعون في تلك الفترة الشاذة إخفاء بعض الملفات، أو التعلل بعدم وجودها، أو البحث عن ثغرة في القانون .. الخ..
وهناك أيضا تفسيرات أخرى، فالمخابرات الأمريكية تهتم بحفظ الوثائق من عملائها في الشرق الأوسط، لأن العملاء يعمرون في السلطة وفى الخدمة أكثر، ولأن – وهو السبب الأهم في اعتقادي- الحريصين على الاستفادة منه في الشرق الأوسط، أو من العالم العربي بالذات، فأنشط العناصر وأقدرها وأبرزها على الساحة العربية هى صاحبة المصلحة في عدم نشر هذه الوثائق. وإلا فأين هى المؤسسة التي توجهت فورا إلى واشنطون وطلبت هذه المعلومات؟ العجز والكسل واللامبالاة والجهل كلها حجمت الخسائر، فلم ينشر إلا النذر اليسير ولأسباب عديدة، قد تكون منها الأسباب الشخصية التي نسبها هيكل لمؤلف " لعبة ألأمم" الذي أكد ما جاء في كتابه أكثر من وثيقة. منها على سبيل المثال كتاب " حبال الرمال" لمؤلف لا يمكن أن تعلق ذرة من الغبار على سمعته، ومدافع مخلص عن الحق العربي، والذى شهد أن كوبلاند كان يقابل عبد الناصر كلما شاء كوبلاند..
وكذلك ما جاء في رسالة " مصطفى أمين" الصحفي المعروف ورئيس هيكل، إلى الرئيس جمال عبد الناصر .. وعندما يقول مصطفى أمين لعبد الناصر في خطاب لم يتصور أنه سينشر يوما ما .
" كلفني أن أذهب أنا وهيكل وأقول لمايلز كوبلاند كذا وكذا.. " فإن من حقنا لا أن نصدق رواية كوبلاند عن نفسه فقط، بل وأن نطرح أكثر من علامة استفهام حول تجاهل هيكل لمايلز كوبلاند ، ومحاولة نفى أية علامة به أو حتى أنه قابله، أو أنه كان يشغل مكانة مهمة، وعلى اتصال وثيق بالسلطة المصرية على أعلى مستوياتها.
لماذا هذا الإنكار؟ إلا إن كان هيكل يعرف أن فيه شبهة؟ وما الشبهة في الاتصال بمسئول امريكى؟ .. إلا إن كان مسئولا من نوع خاص..
وقد ثبت أن ما نشر في هذه الفترة عن عملاء أمريكا في أوربا صحيح وأن ما نشر عن دور المخابرات الأمريكية وباذلات كيرميت روزفلت في خلع حكومة مصدق بإيران وإعادة الشاه، حقيقي مائة بالمائة، ومن الحقائق المسلم بها كذلك ما نشر عن دور هذه المخابرات في انقلاب حسنى الزعيم، وما نشر عن الصحف التي كانت تصدرها أو تمولها المخابرات الأمريكية مثل مجلة " حوار" كان حقيقة مؤكدة أدت إلى إغلاق هذه الصحف وانتحار بعض العاملين فيها وهروب البعض الآخر خارج مصر وانتهاء مستقبلهم الفكري والسياسي رغم محاولات بعثهم بواسطة عملاء السى آى ايه.
وإذا كان من الممكن أن يتسرب من المخابرات الأمريكية نبأ عمالة رئيس وزراء الهند، بل ومرتبه الذي يتقاضاه من المخابرات الأمريكية ، وهو لا يزال يعمل في السياسة الهندية؟ بل ويعرف المبلغ الذي يصرف من المخابرات الأمريكية لأحد رؤساء الدول العربية الأحياء- وقت كتابة هذه السطور- لماذا نستغرب نشر عمالة أحد الصحفيين وخاصة أن اتصالاته بالأمريكيين وتقديمه المعلومات لهم سابقة على الثورة، وواردة في وثائق رسمية تحمل طابع وزارة الخارجية الأمريكية ؟..
2- يجب أن نضع في الاعتبار أيضا، أن المخابرات ألأمريكية مثل المجتمع الامريكى، غريبة التكوين غريبة الفلسفة، قد تكون على درجة عالية في التكنيك والتكنولوجيا ولكنها تفتقر إلى التقاليد ، إلى شرف المهنة، إلى الالتزام من قبل العاملين فيها، وذلك لافتقار المجتمع كله لروح وطنية..
فلا مجال لمقارنتها بالمخابرات البريطانية أو الروسية حيث يسودهما نظام أشبه بالرهبنة والتبتل.. في المخابرات ألأمريكية، عدد كبير من العاملين بها ينشقون ، ويفضحون أسرارها ،ربما عن نزعات ليبرالية، وهى صفة أصيلة في الإنسان الامريكى إلى جانب العنصرية والغرور والإجرام والعنف.. الخ..
وبعضهم لمجرد الكسب فهم يستغلون مراكزهم للعب في البورصة أو عقد صداقات لتكوين شركات بعد تقاعدهم مع عملائهم في البلدان الأخرى،ولذلك لا نستبعد أن يكون مايلز كوبلاند قد تحرك بدافع انتهازي، وأنه حاول فعلا مساومة السلطات المصرية التي لم تصدق أنه يستطيع نشر هذه الأسرار، أو أنه أراد أن ينشر كتابا ناجحا فاستغل ما لديه من معلومات وحقائق..
3- يجب أن نضع في الاعتبار أيضا أن إعلان دور المخابرات الأمريكية في تدبير ثورة العصر، وخلق أكبر زعيم في العالم الثالث، هو نوع من الترويج والدعاية للمخابرات الأمريكية ، في وقت كانت تتعرض فيه لحملات نقد قاسية، وفقدان ثقة.. فقد كان يهمها أن تروج عن عملياتها الناجحة، والأجدر أن يتساءل هيكل لماذا نشر كيرميت روزفلت عراب الثورة المصرية، وهو ليس مجرد موظف في المخابرات الأمريكية، بل نائب مدير المخابرات ، ورئيس العمليات في الشرق الأوسط كله.. لماذا نشر دوره في الانقلاب على مصدق؟.. هل كان ذلك جزءا من الدعاية السوداء لتشويه سمعة الشاه.. لا .. بل دعاية للمخابرات الأمريكية وجذب للحكام والراغبين في العمالة .. وأيضا من قصور وعجز النظام الامريكى، وقد احتج الإنجليز الأعرق في فن الإفساد والتآمر على زهو الأمريكيين علنا بدورهم في خلع مصدق.
4- القانون الامريكى حتى قبل صدور قانون حرية المعلومات، كان يحدد فترة زمنية معينة، يتحتم بعدها نشر الوثائق وبالطبع تستطيع هذه الأجهزة أنتخفى إلى حد ما وثيقة ترى أن نشرها يشكل ضررا فادحا للمصالح الأمريكية ، أما العملاء الذين انتهى دورهم، فلا أهمية لهم، ومن ثم يقذف بهم إلى مزبلة التاريخ كالليمونة بعد عصرها..
5- كما سنرى عرض كتاب مايلز كوبلاند أن عملية الثورة المصرية كانت من تدبير جانب معين في الإدارة الأمريكية ، وأن العملية في النهاية من وجهة نظر دافع الضرائب الامريكى، والسياسي العادي، كانت عملية فاشلة خاطئة أضرت بأمريكا ولم تفدها ومن عهنا كان من مصلحة المخابرات الأمريكية أن تدافع عن نفسها ، والكتاب كله يدور حول هذه النقطة – ولا تنس أنه مكتوب للأمريكيين، فلا يزيد عدد من قرأه من المصريين على بضع مئات- فالكتاب يقول: إن خطة المخابرات الأمريكية في إنجاح ودعم ثورة 23 يوليو كانت صائبة ، ولكن الأجهزة الأمريكية الأخرى أفسدت المخطط.. وتسببت فيما حدث من تناقض ثم صدام بين القاهرة وواشنطون.
فهو دفاع المجموعة التي بدأت لعبة الانقلابات العسكرية في المنطقة من سوريا ومصر وإيران ثم ثلاث دول عربية أخرى- على الأقل- لا نستطيع ذكرها بسبب الجبن ولكي لا يتسع الخرق على الراتق، وإن كان يستحيل على متوسط الذكاء إلا أن يخمنها..
إنه جزء من حوار ساخن علني وسرى يدور في المجتمع الامريكى حول الدور الأمثل للمخابرات الأمريكية، وهل كان تدخلها بقلب النظم وإقامة نظم هو لصالح الولايات المتحدة في النهاية؟ بل إن كتابات هيكل هى جزء من هذا الحوار.
6- ثم لا يخفى التعقيد الذي تمت به عملية 23 يوليو فهي كما سنشرح ليست انقلابا أمريكيا من طراز انقلابات أمريكا الجنوبية أو الانقلابات السورية، وقد غضب عبد الناصر جدا، عندما ظن أن وزارة الخارجية الأمريكية تريد معاملته على هذا الأساس..
وقد حدث انشقاق كبير في السنوات الأخيرة بين مصر والولايات المتحدة، كما لعبت التناقضات الشخصية دورها بين العناصر المشتركة في اللعبة، وربما كان نشر بعض الحقائق عن شخص ما هو قرصة أذن لصحفي كبير خرج عن أصول اللعبة بدافع الحقد الشخصي فغدر بعميل أكبر منه- تاريخيا وأقدم منه- فكان أن سربت المخابرات الأمريكية، معلومات جديدة لحقيقة قديمة كانت قد نسيت تماما.
7- وأخيرا فإن السؤال الذي يمر بالخاطر، هو أن نشر معلومات مايلز كوبلاند، وكراين وغيرهما.. هل أدى إلى أي تغيير أو حتى تساؤل أو إضعاف لمركز ومناصب ودور الأشخاص الذين تناولتهم هذه المعلومات وأكدت دورهم في التعامل مع المخابرات الأمريكية ؟

إن هذه الأجهزة تتعامل مع البلدان المتخلفة، كما يتعامل الإنسان مع الحيوانات لا يهمه أن يتحدث بأسراره، أو أن يتعرى أمامها، فهي غير قادرة على الاستفادة من ذلك، ونحن نعرف مقدما أن الكثير سيلقون بهذا الكلام جانبا ويستعيذون بالله من تشويه سمعة الزعيم الخالد..

وقبل أن نتقل لقصة الثورة والمخابرات الأمريكية ودفاع هيكل المتهافت ، نشير إلى أن الموجة الليبرالية قد انحسرت في الولايات المتحدة، بزوال ذكريات فيتنام، ومع الأزمة الاقتصادية وارتفاع معدل البطالة، والردة المحافظة بعد موجة الانحلال، مما أدى كله إلى انتشار موجة وطنية دينية محافظة، دفعت بالجناح اليميني في الحزب اليميني الجمهوري إلى السلطة، وبدأت حكومة ريجان تعيد تنظيم الأجهزة وتفرض احترام المؤسسات وأسرارها.

قدم ريجان مشروعا للكونجرس باستثناء المخابرات الأمريكية من قانون حرية المعلومات، كما كسبت المخابرات الأمريكية- في عهد ريجان- كل القضايا التي رفعتها ضد موظفين سابقين فيها أو ناشرين حاولوا نشر معلومات عن نشاطها دون موافقتها.

وفى 1980 حكمت المحكمة الدستورية العليا الأمريكية بـ 6 أصوات ضد 3 في قضية " ستيب ضد الولايات المتحدة" قضت بحق المخابرات الأمريكية في مراقبة ما ينشره موظفوها السابقون مدى الحياة، للتأكد من أنهم لم يذيعوا معلومات سرية.

وحكمت أن أي شخص وقع هذا العقد عند التحاقه بالخدمة، ولم يعرض مؤلفاته على المخابرات قبل نشرها حتى ولو كانت تتضمن معلومات غير سرية، يكون قد خرق أو أخل بتعهده. وعلى هذا أجبر " فرانك سنيب" وهو محلل سابق لشئون فيتنام في المخابرات ألأمريكية ، أجبر على أن يعيد للحكومة كل ما حصل عليه من عائدات كتابه "........." وجاء في حكم المحكمة مبادئ عامة تجعل من الممكن تطبيق شروط الرقابة المسبقة على النشر على عشرات الألوف من الموظفين حتى خارج الـ سى آى ايه الذين لهم اتصال بالمعلومات المحظورة".

وكان " كارتر" آخر الليبراليين ، أو آخر مرحلة الانقلاب والتسيب أو إن شئت تطويق الثورة بالانفراج.. قد اصدر قانونا عام 1978 بترجيح حق الجمهور في المعرفة عند تصنيف الوثائق إلى محظور ومباح، فيقتصر الحظر على ما لا مجال للشك في خطورته على الأمن الوطني، أما ما يحتمل الشك فيفرج عنه للجمهور.

وقد ألغى ريجان هذا القرار في 2 ابريل ، فأعفى الموظفون من أي اعتبار لحق الجمهور في المعرفة، وألزموا في حالة الشك بترجيح الحظر، وألغي شرط " خطر على الأمن الوطني".

وفى 11 مارس 1983 صدر قانون رئاسي أي لا يعرض على الكونجرس، يحظر على طائفة كبيرة من الموظفين العاملين والسابقين " نشر أي معلومات قد تكون سرية" وقد لاحظ الرئيس نيكسون أن قائمة الطعام في البيت ألأبيض يكتب عليها سرى.

وقال ريتشارد ويللر نائب المدعى العام إن هدف تشريعات الرقابة المسبقة على النشر، هو تقديم أسلوب معقول لمنع الموظفين الذين على اتصال بالمعلومات السرية من نشرها".

كما أصدر الرئيس ريجان قانون " حماية الأشخاص العاملين في المخابرات" وهو يمنع نشر أسماء الأشخاص المتعاونين بطريقة ما مع المخابرات ألأمريكية حتى ولو كانوا قد ارتكبوا جرائم معاقب عليها بموجب القوانين الأمريكية " وقد وصفه فيليب كيرلاند أستاذ القانون في جامعة شيكاغو بأنه أوضح عدوان قام به الكونجرس على الحرية الأولى في وثيقة الحقوق".

وفى أكتوبر 1983 حكمت المحكمة العليا بحق المخابرات في رقابة أي مادة تنشر عنها وحذف ما تراه مخلا بالأمن.

وتقرر إعادة تسجيل تاريخ المخابرات على شرط إلا يتاح لأحد خارج المؤسسة على الإطلاق وإلى الأبد.. أو كما صرح المتحدث باسم الـ سى آى ايه " دال بترسو" سيبقى هذا سريا إلى الأبد" واشنطون بوست 19/10/83).

ويوصف " ستانسفيلد" رئيس المخابرات ألأمريكية الأسبق بالهمجي لأنه كان من أنصار الانفتاح ونشر المعلومات. ووصف التشريع الجديد، بأنه سيحرر الـ سى آى ايه من العبء الثقيل والفريد من نوعه المتأتي من قانون حرية المعلومات فإن الوكالة ستحتفظ بجميع ملفاتها عن العمليات تحت الحظر على مدى المستقبل المنظور".

لعل هذا يوضح أن الولايات المتحدة مرت بفترة انفلات ولا أقول ثورة ولا راديكالية ، وأن كان طلبة أمريكا في الستينات شكلوا أكبر قوة ثورية في العالم وقتها.

أدت إلى رغبة في معرفة ما يجرى في أحشاء المجتمع الامريكى ، ثورة الفرد الامريكى، أو المؤسسات الليبرالية ضد النمو السرطاني لأجهزة الأمن، وهؤلاء هم الذين آمنوا- عن حق- بتصفية المؤسسات السلطوية الأمريكية ، لأنها إذا كانت تبنى الإمبراطورية الأمريكية في الخارج بهذه الأساليب ، وتسلب المواطن حريته وأمنه واستقلاليته أو خصوصياته..

وهذا ما أكدته فضائح المباحث الفيدرالية، وفضيحة ووترجيت، وتغلغل المخابرات ألأمريكية في الصحافة والجامعات، وإجراء تجارب بشعة على مواطنين أمريكيين .. فرأى هؤلاء أن نشر فضائحها وسيلة من وسائل تصفيتها أو تطهيرها، أو تطوير أعمالها إلى مستوى أكثر أخلاقية..

وكان هناك – كما ذكرنا- الذين نشروا هذه الأسرار، كوسيلة من وسائل الكسب بنشر كتب أو مقالات مثيرة، وهناك من استخدموها كنوع من البلاك ميل، أو لحساب صراعات مراكز القوى، وهو ما حدث بالنسبة للشرق الأوسط، فالخلاف بين وكلاء السلاح أدى إلى استعانتهم بموظفين سابقين في المخابرات الأمريكية نشروا معلومات عن عمالة وعمولات الوكلاء المنافسين..

في تلك الفترة الشاذة في تاريخ أمريكا وتاريخ الإمبراطوريات عموما نشر الكثير من حقائق الممارسات الأمريكية المخالفة للشعارات المعلنة عن المبادئ والقيم الأمريكية، مثل مذبحة " ماى لاى" في فيتنام ومثل كتاب " لعبة ألأمم" ومثل دور أمريكا في الانقلاب الإيرانى والانقلاب اليوناني والسوري..

ولكن القوى المضادة استطاعت أن تنظم حملة ضخمة لم تقتصر على الولايات المتحدة ، بل اتخذت طابعا عالميا، من قبل الحكومات والمؤسسات والعملاء الذين ثاروا ضد هذا الانقلاب وهددوا بمنع التعاون مع أمريكا التي لا تستطيع أن تحفظ سرا.. مما ساعد على تقوية التيار الداخلي، فأعيد الانضباط وانتهى المهرجان.

فهل نستفيد من القليل الذي تسرب في لحظة الفوضى؟

هيهات فقد استولى الثوار في طهران على وثائق السفارة الأمريكية كاملة، وأعادوا لصقها بعدما قطعت وبها أسماء الكثير من العملاء والمثير من المعلومات.. فأين هى؟ ومن استفاد منها؟

ألم يشاهد قوم إبراهيم أصنامهم محطمة وملقاة على الأرض مجرد نفايات، فهل شكوا فيها، أو كفروا بها، فضلا عن الإيمان بإبراهيم؟ بالعكس راحوا يجمعون الحطام ويلصقونه لإعادة تركيب الآلهة وكان همهم الأول وشغلهم الشاغل هو البحث " عمن فعل ذلك بآلهتنا" لا لمكافأة على كشف الحقيقة لهم، بل لحرقه في النار تأكيدا لإيمانهم بالنفايات الملقاة على الأرض بالأصنام المحطمة.. وتأكيدا لإبراهيم أن كل ما بذله لإثبات زيف هذه الآلهة لم يزدهم إلا يقينا بالأصنام الخالدة التي تآمر إبراهيم على تشويه سمعتها.

وتأمل كل الأسماء التي وردت في كتاب" لعبة ألأمم" كمتصلين بالمخابرات الأمريكية ، تجدها ما زالت بعد 1969 في مكانها على القمة، أو عادت للتألق بعد فترة خفوت.. وكأن ساحرا ما يجدد حيويتها ويدفع بها إلى قمة الأحداث.

خذ مثلا " حسن التهامي" الذي يعد من الحلقة الضيقة التي كانت تعرف كل شيء، والتي تعاونت تعاونا مطلقا مع المخابرات الأمريكية وبالذات مع مايلز كوبلاند حتى أنه هو الذي عد وتسلم الثلاثة ملايين دولار التى قدمت رشوة أو هدية للزعيم الخالد. هذا الحسن تهامي ، يتساءل رجل طيب من الذين نكتب لهم هذا الحديث، يتساءل في حيرة ما الذي جعله يظهر من جديد ، ويأتي به عبد الناصر وزيرا في حكومته بعد هزيمة 1967؟ والحاج " أمين هويدى" كان مديرا للمخابرات، ويعرف أنه ما من سبب منطقي أو معقول يجعل عبد الناصر يتخطى الأربعين مليونا ويختار هذا الذي يتظاهر بالجنون المطلق، وزيرا، والذي لا يملك أية مؤهلات – ظاهرة- تصلح لتوليه ناظر مدرسة فضلا عن وزير ، والذي سقط في منطقة الظل، وهى المنطقة التي يسميها المصريون- وراء الشمس- ولا أحد يعود منها.. ولكنه عاد، وأصبح وزيرا في عهد عبد الناصر بل ولعب دورا حاسما في تحديد خليفة عبد الناصر؟

الحاج أمين هويدى ، يحكى لنا بعض الطرائف عن سلوك التهامي هذا في مجلس الوزراء، منها أنه كان ينصحهم ألا يتعبوا أنفسهم في بحث إزالة آثار العدوان، لأنه رأى سيدنا الخضر الذي أكد له أن اليهود سينهزمون وسيخرجون من مصر.. ويضرب الحاج هويدى كفا بكف ويقول:" ولا تسألوني.. لم استوزره عبد الناصر ؟ فهذا سؤال يضاف إلى عشرات الأسئلة التي تحيرني ولا أجد لها جوابا؟ وعزائي أنني لست وحدي في حيرتي ( ص 80 من كتاب: مع عبد الناصر لأمين هويدى)..

بئس العزاء هذا .. وما تشفع لك كل علامات التعجب هذه ، وإذا لم يسألك القراء التفسير فسيسألك ضميرك والتاريخ.. وليتك توقفت عند هذه الحيرة التي تشير إلى الشكوك التي تفترسك مما تخشى أن تهمس به لنفسك.. ولكنك حاولت أن تلتمس بارد العذر، أو تافه التفسير لتعيين هذا الدجال الذي لا يستحى في اجتماع مجلس الوزراء من السخرية من جهود المجلس في " إجلاء العدو عن أراضينا" فيبتسم قائلا:" لم تجهدون أنفسكم هكذا.. إنني موقن من انسحابهم، وسيرسل الله عليهم طيرا أبابيل" وترتسم على شفتيه الابتسامة الهازئة".

يقول هويدى، وهو يستعيذ بالله من محاولة كشف النوايا:" ربما جاء به عبد الناصر وفاء للزمالة القديمة وربما بجمع الشمل"

وكان عبد الناصر في تلك الفترة ، قد مزق آخر بقايا الزمالة القديمة، ويقوم بأكبر عملية تمزيق للشمل عرفتها مصر منذ مذبحة القلعة، ما بين منتحر ومسجون، حتى داخل أسرته لم يحترم زمالة ولا مصاهرة ولا عشرة العمر والشقة إياها ومن ثم فلا مجال للحديث عن عاطفة نبيلة تجعله يقبل ويصبر على هذا الرجل في ظروف ما بعد النكسة..

و هويدى قرأ مايلز كوبلاند، وقرأ حديثه عن السلوك غير المنطقي في سياسات الشرق الأوسط، وأنه لا يمكن فهمه إلا بإضافة المعامل "س" أي عنصر المخابرات الأمريكية .

ويعرف أن التهامي هو أحد أعمدة المعامل "س" هذا ، ولكنه يرفض أن يواجه هذا التفسير فيغمض عينيه ويصرخ كالعذراء التي يحدثونها عن خيانة حبيبتها :" مش عاوزه أعرف" .

لقد جاء حسن التهامي بعد النكسة لكي يعيد ترميم الجسور مع القوى الخفية التي ساندت النظام أطول مدة ممكنة، إلى أن استحال عليها الدفاع عنه، وها هو عبد الناصر يثبت أنه مستعد للحوار، رغم ما فعلوه بحرب 1967.. وها هو صديقكم في مجلس وزرائي يمارس الشيطنة على الاستهبال ، ويتحدث عن تأكيدات "الخضر" بانسحاب اليهود، والذي معاه" الاس" يعرف من هو سيدنا الخضر المقصود، ومن أين تأتى أحلام التهامي على الفانتوم أبابيل.

أما الرئيس السادات الذي كانت إستراتيجيته تقوم أساسا ، على إقناع الأمريكان بأن النظام المصري على استعداد لأن يكون الممثل رقم واحد لأمريكا في المنطقة، ولا داعي للبحث عن أصدقاء آخرين.. وأن مصر تابت وأنابت بعد علقة 1967 .

ولن تشكو ولن تتذمر ، ولن تساوم أو تتدلل، كما فعل المرحوم، بل لأ أمريكيون كنا، وأمريكيون نبقى أبدا.. السادات أبرز التهامي وصوره في كل مكان ومناسبة، وأطلقه يساوم ويدبر ويفاوض حتى قاده إلى كامب ديفيد وجلس يصلى.. وقد تحقق الهدف الذي اتفق عليه قبل 25 سنة حافلة بالآلام والخداع..

وبنفس التفسير يمكن أن نفعهم إخراج مصطفى أمين من السجن وإحضار على أمين من البدو وتسليمهما الأهرام وأخبار اليوم معا.. وعجلت إليك ربى لترضى..

فهل أضر نشر كتاب "مايلز كوبلاند" أحدا؟..

يقرر هيكل: " لم يكن هناك اتصال بين الثورة والولايات المتحدة قبل 23 يوليو" وقد صاغها بحذر- تحوطا للمستقبل- فلم يقل " المخابرات الأمريكية " وهى موضوع الحديث، ونحن نستبعد أن تقوم " الولايات المتحدة " بهذا الاتصال قبل الثورة والاتصال الذي يحمل هذه الصفة "الولايات المتحدة" هو الذي يتم عن طريق السفير الامريكى أو مبعوث من وزارة الخارجية..

لا.. مصر ليست اليمن، حيث يدير القائم بالأعمال المصري الانقلاب اليمنى بالتليفون، ويعطى المال والحبوب المنشطة لقائد الانقلاب بشكل شبه علني.. لا.. في حالة مصر، لا يمكن تصور قيام اتصال مع الولايات المتحدة لأن الولايات المتحدة لا تخاطر بمثل هذا الاتصال، لما بترتيب على اكتشافه من مشاكل مع السلطة المصرية،بل مع الكونجرس والرأي العام الامريكى..

ولكن المخابرات الأمريكية اتصلت .. وهذا ما سنثبته من الوقائع والمعلومات.. ومنها تعمد هيكل إخفاء حقائق لإحساسه بما فيها من إدانة مثل تاريخ أول زيارة لكيرميت روزفلت.

ويبرر هيكل انفتاح الثورة- المدهش والمخالف لكل الشعارات والافتراضات إذا ما كانت حقا ثورة – يبرره في كتابه الأول بأن الولايات المتحدة الأمريكية لها وضع مختلف عن بقية القوى الكبرى وقتها، وكانت صورة الولايات المتحدة في ذلك الوقت من سنة 1952 ما زالت صورة مقبولة ، خصوصا إذا قورنت بغيرها.

لم يكن لها دور استعماري في المنطقة، بينما كانت بريطانيا وفرنسا غارقتين في تاريخ استعماري طويل وقديم..

وفوق ذلك فإن الولايات المتحدة كانت خارجة من الحرب العالمية ضد هتلر ( كان قد مضى على ذلك سبع سنوات تخللتها فلسطين وحرب كوريا والتهديد النووي..الخ) والعالم كله يلتفت بالإعجاب لطاقاتها الهائلة التي كسبت الحرب ضد النازية ولأسلوب حياتها الذي كانت السينما الأمريكية ترسم صورة جذابة له".

وستلاحظ أنه قد حذف أية إشارة إلى دور أمريكا في خلق إسرائيل ، وما أثاره ذلك من كراهية عامة ضدها في العالم العربي، وهو مضطر لذلك حتى يستقيم دفاعه بأن الصورة كانت أكثر من وردية في العالم العربي عن أمريكا، ومن ثم اندفع الشبان الأغرار من أعضاء مجلس الثورة إلى أحضان أمريكا.. وهذا كذب بالطبع، وإن يكن حذف إسرائيل من تحديد الموقف مع أمريكا ، ظاهرة فسرها مايلز كوبلاند بأن هذه المجموعة من الناصريين لم تكن تعير قضية فلسطين اهتماما كبيرا..

وقد رد حمروش على هيكل في هذه النقطة فأغفل إسرائيل أيضا عندما قال:" لم تكن صورة الولايات المتحدة عند المصريين كما حاول أن يرسمها محمد حسنين هيكل، في كتاب " عبد الناصر والعالم" بقوله كانت الولايات لمتحدة تحيط بها كل معاني النجاح والفتنة براقة متسامية على الفشل الذريع الذي منى به الاستعماريون القدامى، وكان الناس متجاوبين مع فكرة قيام الأمريكيين بدور رئيسي في الشرق الأوسط، ومستعدين لقبولها، لم يكن هذا التصور صحيحا، فإن كافة القوى الوطنية كانت ضد السماح للأمريكيين بأداء سياسي بديل لدور انجلترا، ظهر ذلك في سياسة الوفد، وأحزاب مصر الفتاة والوطني الجديد، والتنظيمات الشيوعية والجماهيرية ن فقد كشفت أمريكا الستار عن موقفها أثناء عرض النقراشي لقضية مصر على مجلس الأمن".

وإذا كنا سننقد رأى هيكل فإننا لا نعرضه كما سنشرح ، بل نركز على أهمية تفسيره هذا ..

الولايات المتحدة كانت قد خرجت بهزيمة فادحة في كوريا.. وكانت سمعتها في الحضيض في العالم العربي بتحيزها لإسرائيل وللدور الذي لعبته في إقامة إسرائيل .. حتى إن تنظيم السادات كان يصدر منشوراته بالشعار الذي ساد الجماهير المصرية وقتها، وهو " يسقط الاستعمار الأنجلو –أمريكي" .. إلى أن تم الاتصال بالأمريكان وطلب جمال عبد الناصر من خالد محيى الدين حذف كلمة امريكى.. وقد أدلى خالد محيى الدين بهذه الشهادة، وهو على أتم الوفاق والولاء والإشادة بالزعيم الخالد، فلا مجال للشك في روايته، خاصة وقد أيدها كبار " الحدتاويين" الذين ساهموا في تلك الفترة في طبع المنشورات ، ولاحظوا التغيير .. فالحق مع حمروش عندما قال إن " أحدا من المثقفين أو السياسيين المصريين الوطنيين لم ينظر إلى أمريكا والمتعاونين والمراهنين على دور للولايات المتحدة في مصر والعالم العربي، لأن المثقفين اكتشفوا منذ أواخر الأربعينات الدور الذي لعبته أمريكا في دعم الصهيونية وتأييد الاستعمار القديم، ومعاداة حركات التحرر، ثم كان احتلال اليونان وحرب كوريا التي مزقت الاستعمار القديم، ومعاداة حركات التحرر، ثم ثبت أنه نمر من ورق أمام جحافل الصينيين ، وقد زادت شعبية الوفد عندما رفض دخول حرب كوريا إلى جانب الأمريكيين المكروهين.

ولقد رفضت الحكومة السعودية، تجديد اتفاقية قاعدة الظهران:" لأن ذلك يستفز مشاعر المواطنين العرب لموقف " أمريكا من فلسطين"..

ولكن قيادة الأمة العربية المقبلة، لم تكن مشاعرها مستفزة والحمد لله، بل كانت متأثرة بأفلام أمريكا.. هكذا يقول محمد حسنين هيكل.

وإليك رأى الأمريكان في الأمريكان فقد جاء في تقرير مجلس الأمن القومي الامريكى، الصادر في واشنطن بتاريخ 27 ديسمبر 1951 ( أي قبل سبعة شهور من الثورة) وتحت عبارة سرى جدا:" أصبحت الدول العربية تنظر بعدم ثقة إلى الولايات المتحدة في السنين القليلة الأخيرة بسبب مسئوليتها في إقامة إسرائيل ".

وفى اجتماع سفراء الولايات المتحدة باسطنبول في الفترة من 14 – 21 فبراير 1951 جاء الآتي في تقرير وزارة الخارجية الأمريكية عن الاجتماع.

" إن نفوذ الولايات المتحدة في البلاد العربية ربما لا يكون في مثل سوئه في عام 1947 و1948، ولكنه على أية حال ليس قويا كما كان في 1945 أما بالنسبة لإسرائيل وليبيا فإن نفوذنا لا يزال عاليا".

بل إن عام 1951 بالذات شهد المزيد من التدهور في موقف أمريكا، وتصاعد الموجة المعادية لها في العالم العربة كله، ومصر باذلات لأسباب عديدة منها موقفها من إلغاء المعاهدة، ومشاريع الدفاع المشترك ورفض تسليح مصر، وأيضا للدعم الذي قدمته لإسرائيل وقد ورد في مذكرة " هنري فيلارد" من إدارة التخطيط السياسي إلى مدير الهيئة الآتي:

سرى واشنطون
1 يونيه 1951
التلغرافات الواردة من الشرق الأدنى تشير إلى ردود الفعل الأولية لسياستنا الجديدة الجريئة للمساعدات الاقتصادية والعسكرية للدول العربية وإسرائيل كما أقرها الرئيس ترومان في 17 مارس 1951.

وردود الفعل هذه يمكن وصفها بأي شيء إلا أنها مقبولة.. فالمسئولون العرب ينتقدون بشدة حصول إسرائيل على نفس القدر من المساندة التي يحصل عليها كل العرب مجتمعين.. ( 25 مليون دولار) بالإضافة إلى أن العرب ينظرون إلى الخمسين مليون دولار التي اعتمدت لتوطين اللاجئين كوسيلة لتحرير إسرائيل من مشكلتهم.

وعلى سبيل المثال قال وزير الخارجية المصري( محمد صلاح الدين) لكافر ( السفير الامريكى في مصر) أنه صعق لاقتراح 25 مليونا دولار لإسرائيل و25 مليونا للعرب.. رئيس وزراء الأردن ووزير خارجيتها عبرا عن " دهشتهما وخيبة أملها" وزير خارجية العراق ، ركز كثيرا على التوازن وانتقد بشدة غير عادية سياستنا في مساعدة إسرائيل .. والصحافة السورية نظرت للبرنامج بالشك في أنه خطط لمحاباة إسرائيل .إن المرارة الأساسية والأصيلة بالنسبة لسياستنا نحو إسرائيل ، ما زالت كما هى ، وتلون كل تفكير العرب".

.. إلا هيكل وصحبه من رجال ثورة 23 يوليو، لم تكن في قلوبهم أية مرارة، تحول دون فتح قلوبهم والتعاون مع الولايات المتحدة في تحرير مصر .. والحق مع هيكل ، فإن أحد المفاتيح الرئيسية لفهم تاريخ الناصرية، هو أنها لم تنبعث أبدا من التناقض المصري- الاسرائيلى ولم يكن في أهدافها الجادة ، محاربة إسرائيل حتى يونيه 1967..

وهيكل حريص على تأكيد أن الاتصال بين الأمريكان والريس تم بعد الثورة، ولكن الصورة التي يقدمها لهذا الاتصال تثير أكثر من شبهة، فهو يقول:" كلف أحد أعضاء مجلس [بثورة 23 يوليو|الثورة]]، عبد المنعم أمين بتولي عملية فتح الباب مع الأمريكان،فدبر لقاء في منزله على النيل بين جمال عبد الناصر والسفير الامريكى جيفرسون كافري".

ولا يفسر لنا سر هذا اللقاء الغريب، فالثورة في الحكم وجمال عبد الناصر حاكم مصر والسفير الامريكى هو ممثل الحكومة الأمريكية الرسمي أمام مجلس الثورة أو في بلاط جمال عبد الناصر.. فلماذا لا يستقبل عبد الناصر السفير الامريكى بصفة رسمية أو حتى غير رسمية في مكتبه، ويبحث معه السياسة المصرية- الأمريكية ؟ إذا كان الاجتماع باسم مجلس الثورة، وسمعة الأمريكان ممتازة كما شهد هيكل، لماذا يتم الاجتماع في شقة ؟ .. وعن طريق شخص يقول المؤرخون الناصريون الآن إنه كان وثيق الصلة بالسفارة الأمريكية .. ؟ لماذا هذا الغريب والمريب؟ ..

ويقول هيكل:" إنه في هذا اللقاء قال عبد الناصر للسفير الامريكى إنه يريد مساعدة الولايات المتحدة في إقناع بريطانيا بالجلاء" " كما طلبت مساعدة اقتصادية وسلاحا أما عن إسرائيل فقال: " إن إسرائيل ليست شاغله الآن، ونظرته إليها- على أية حال – أنها ليست خطرا يهدد مصر".

وقد قال " مايلز كوبلاند" إن نجم هيكل تألق لأنه كان بارعا في تحلية آراء الأمريكان، وآراء عبد الناصر.. ومن ثم لا يجوز أن نتوقف كثيرا عند التحلية والصنعة في العرض، وإنما يكفينا الاتفاق والجوهر بين ما قرره كوبلاند، وما أثبتته الأحداث، من أن السودان لم يكن في برنامج عبد الناصر فهو يطلب المساعدة في الجلاء فقط، وأهم من ذلك أن نقطة اللقاء بين الريس والأمريكان، هى استبعاد الخطر الاسرائيلى ، قبول عبد الناصر أو تطوعه بإعلان أنه لا يشغل باله.. وهذا ما قاله كوبلاند بالضبط عندما نسب إلى هذه اللامبالاة بفلسطين انفتاح قلب المسئولين واشنطون لاقتراح الـ سى آى ايه" تأييد الانقلاب المنتظر.

وإذا كان هيكل يؤيد رواية كوبلاند وغيره عن حضور كيرميت روزفلت إلى مصر بعد الثورة وفى تحيد صفته بأنه المسئول الأول في إدارة المخابرات المركزية الأمريكية عن " الشرق الأوسط" إلا أنه يحاول إيهامنا- دون أن يتورط صراحة- بأن هذه هى الزيارة الأولى لكيرميت روزفلت، وهو غير صحصح، بل مثير للريبة، فكرميت كما تؤكد كل الوقائع والوثائق جاء إلى القاهرة منذ 1943 على الأقل، وكان في مصر من يناير إلى مارس أو مايو 1952 حيث أجرى اللقاء التاريخي مع فاروق، ثم مجموعة عبد الناصر في تنظيم السادات وقرر دعم انقلاب هذه المجموعة ، والتخلي عن فاروق كما سنرى تفصيله..

ونحن لا نجادل في هذه لأننا لا نملك قاطعا على وقوع لقاء قبله، فقد حرص كتاب "مايلز كوبلاند" على تعمية هذه النقطة، ولو أنه أكد وقوع أكثر من لقاء بين كيرميت روزفلت والمخابرات الأمريكية من جهة، ورجال ثورة 23 يوليو ، أو أعوان عبد الناصر.

إلا أنه لم يشر صراحة لوقوع لقاء مباشر بين الرجلين، ولا يمكننا الاعتماد على ما جاء في تقرير كيرميت روزفلت الشفوي لرؤسائه من أنه وجد في مصر الرجل المناسب الذي تتوافر فيه كل الصفات المطلوبة لجعل السلطة في مصر مستقرة، ومتجاوبة مع المصالح الأمريكية .. وربما لم يصل علم ذلك اللقاء بين الرأسين، إلى مايلز كوبلاند.. فهو من ألأسرار العليا جدا، ونحن نستبعد أن يقدم رجل في خبرة ومكانة كيرميت روزفلت ،على المخاطرة بدعم انقلاب في مصر من مجرد المعلومات التي قدمها عملاء المخابرات الأمريكية ، ولقاءات مع أعوان زعيم هذا الانقلاب.. إلا أننا التزمنا ألا نأخذ بالشبهات والتصورات، بل بالحقائق أو الأقوال المنسوبة صراحة لأشخاص محل ثقة.. ومن ثم سنسقط أدلتنا واقعة اجتماع مباشر بين ناصر وروزفلت قبل 23يوليو 1952..

ويشير هيكل في هذا الموضوع إلى واقعة غريبة تثير أكثر من سؤال ، فهو يقول إن الرئيس عبد الناصر كلفه بمهمة خاصة في الولايات المتحدة في نوفمبر 1952 وقال له" إن كثيرين سوف يحاولون الاتصال بك بحكم معرفتهم بالصداقة بيننا" (ص 71).

وكل المصادر التي كتبت عن ليلة الثورة، أكدت هذا اللقاء الغريب الشديد البرود بين عبد الناصر وهيكل في منزل محمد نجيب وأن هيكل تظاهر بأنه لا يعرف عبد الناصر وطلب تعريفه به، وأن عبد الناصر سأل من هذا ؟.. الخ.

فهل يتفق ذلك مع وصول الثقة بين الاثنين في أقل من شهرين إلى حد تكليفه بمهمة سرية في أمريكا؟ .. وهذه العبارة الغربية" الكثيرون سيحاولون الاتصال بك بحكم معرفتهم بالصداقة بيننا؟.

" من هم الكثيرون في الولايات المتحدة ، الذين كانوا يعرفون الصداقة بين عبد الناصر وهيكل في نوفمبر 1952 والكثيرون في مصر لم يكونوا يعرفون عبد الناصر ولا أهميته في الثورة في هذا التاريخ المبكر جدا فضلا عن معرفة أهمية هيكل، بحكم صداقته مع عبد الناصر؟..

لابد أن نفترض لكي يستقيم هذا الادعاء أو لتفسير هذا القول أحد الفروض التالية:

1- إن رواية المؤرخين عن لقاء بيت محمد نجيب صحيحة ، ومن ثم فرواية هيكل أكذوبة كاملة، اختلقها، وهكذا يمكن القول إن هيكل لديه الجرأة على أن ينسب لجمال عبد الناصر حوارا بين أقواس للتدليل على أنه نص حرفي، وهو بلا أساسا لا حدث ولا يمكن حدوثه . وهذا ينسف كل رواياته..
2- أن يكون هيكل صادقا، وهذه زلة لسان، وتكون مقابلة محمد نجيب تمثيلية بارعة من الاثنين ، هيكل الجيد التدريب وناصر المشهور بقدرته على الكتمان والحذر الشديد فيما يتعلق بسلامته الشخصية وسمعته السياسية .
ومن ثم فالصلة بينهما قديمة، ومن أيام حصار الفالوجا كما كان الشائع، قبل نشر تلك الرواية السخيفة عن لقاء الغرباء في منزل محمد نجيب.. وعبد الناصر كان يتحدث عن الكثيرين الذين يعملون كل شيء. مثل كون عبد الناصر هو الزعيم الحقيقي للثورة، وأن هيكل هو صديقه الحميم .. فمن هم ؟.. لا يعقل أنهم رجال الكونجرس آخر من يعلم ولا الصحفيون .. بل فئة خاصة..
3- أن تكون رواية هيكل صحيحة ، واستنتاجات شهود لقاء منزل محمد نجيب صحيحة، ولكن الذين سيقابلون هيكل في أمريكا ، هم الذين قدموا هيكل لعبد الناصر بعد الانقلاب، وعملوا على سرعة قيام الصداقة بيننا.

ونحن نميل للتفسير رقم 2 .. والصورة في ذهننا أن المخابرات ألأمريكية عرفت من هيكل ومصطفى أمين بوجود تنظيم السادات ونظم هؤلاء اللقاء بين هذا التنظيم وكيرميت روزفلت.. وأن هيكل كان الأوثق صلة بعبد الناصر بحكم سنه، وبراعته في تنفيذ دور التابع الذي ربط نفسه بمصير سيده، في نفس الوقت الذي يقدم فيه المعلومات والأفكار لهذا السيد، بينما كان مصطفى أمين يتمتع باحترام أكثر عند الجانب الامريكى، وشك وتوتر من جانب عبد الناصر.. وأخيرا فلا أدل على تناقض مشاعر رجال الثورة مع الموجة الشعبية العامة في مصر، أنه فور قيام الثورة، كان التصرف الطبيعي من رجالها الذين لم يؤتوا من العلم إلا قليلا.. أنهم قاموا باعتقال مصطفى وعلى أمين ، ليتدخل أولو العلم ويفرجوا عنهم مع الاعتذار- في الراديو- بعد ست ساعات..

أما آن الأوان أن نترك ثرثرة هيكل ونعود إلى الجذور ، وحديث المعلمين لا الصبيان لقد شاعت رائحة الدور الامريكى منذ اللحظات الأولى للانقلاب، عندما رأى الناس السفير الامريكى " جيفرسون كافري" خبير الانقلابات كما عرف منذ تعيينه في القاهرة وكتبت عنه الصحف التقدمية، رأوه يتصرف كعراب النظام الجديد، ويشرف على ترحيل الملك فاروق ويتعهد بسلامته، ثم ربطوا ذلك بما كتبه الصحفي الامريكى الوثيق الصلة بالمخابرات الأمريكية " جوزف السوب" في صحف الولايات المتحدة قبل 23 يوليو عن انقلاب عسكري قادم في مصر، وقد بعث مصري مقيم في الولايات المتحدة – وقتها- بالمقال إلى مصر كدليل على ما تدبره المخابرات ألأمريكية ن ليصبح هو بعد سنوات من المفتين بثورية الناصرية ، تماما كالكاتب الذي استقبل كافري بعرض تاريخه في تدبير الانقلابات وإجهاض الثورات.. ثم أفتى بأن هذا الخبير تدبيره في مصر.

ورأى الناس الثورة تبعد الصحفيين وتعتقلهم، وتقرب رجال " أخبار اليوم" المؤسسة الرجعية الموالية للاستعمار بإجماع الحركة الوطنية في هذا الوقت حتى أصبح تلميذها البكر محمد حسنين هيكل هو الذي يحدد الوطنية من المحيط للخليج ، ورأوا قبول النقطة الرابعة وتجميد قضية فلسطين وضرب المؤسسات والأحزاب والحركات الوطنية.. ثم ساد الإرهاب وانعدمت الرؤية ، وتعقدت الرواية.. وكانت فترة التيه..

فلما ظهر كتاب " لعبة ألأمم" هربوا منه لأنهم لا يريدون أن يتذكروا.. إلى أن مات المارد، وحطمت الأقفال، فبدأت تتسرب بعض الأقوال، ولكن يسيطر على الجميع الرعب من هول الحقيقة، خاصة أنه ما من أحد إلا وقد تورط في 23 يوليو بموقف ما أو تأييد أو مساهمة.. نعم كلنا للسف " أشباه المثقفين" أو المثقفين المزيفين الذين توقع تقرير المخابرات أن يهبوا لتأييد الثورة بغباء أو انتهازية. .

قيل على لسان خالد محيى الدين إن عبد الناصر طلب منه حذف عبارة الاستعمار الأنجلو- امريكى واستخدام عبارة الاستعمار فقد أو الاستعمار البريطانى، وذلك في منشورات السادات قبل الثورة ..

وكتب في حادثة الثلاثة ملايين دولار التي دفعتها المخابرات الأمريكية للرئيس جمال عبد الناصر، وكان هيكل قد حاول أن يلبسها لمحمد نجيب ففشل وإليك ما كتبه أحمد حمروش:

" على قدر ما طالت مفاوضات التسليح، على قدر ما انتهت في سرعة عملية تقديم ثلاثة ملايين دولار كمنحة شخصية من المخابرات المركزية "الأمريكية" إلى رئيس الدولة، وهى قصة أثارت اهتمام الكثيرين لما أحاط بها من جدل.

بدأت القصة باقتراح من عميل المخابرات الأمريكية مايلز كوبلاند.

المخابرات الأمريكية مايلز كوبلاند .

التي كشف أسرارها في كتابه " لعبة ألأمم" عندما قال أنه لولا نشره لها لظلت خمسة آلاف سنة تحير علما الآثار ، ذلك أنها انتهت إلى بناء برج القاهرة.

ويحدد مايلز كوبلاند تاريخ إعطاء المبلغ لضابط المخابرات " أيتهما؟) حسن التهامي الذي أخذه وأحصاه في منزله بالمعادى ووجده ناقصا عشرة دولارات في شهر نوفمبر 1954 أي نفس الشهر الذي حصلت مصر فيه على الأربعين مليونا كمعونة اقتصادية وينفى هذا التحديد ما نشره " محمد حسنين هيكل" في كتابه " عبد الناصر والعالم" من القول بأن المبلغ قد سلم إلى اللواء محمد نجيب وأن جمال عبد الناصر لما علم بذلك استشاط غضبا وطلب تفسيرا من محمد نجيب الذي كان آنذاك رئيسا للوزراء.

وأصر نجيب على أنه فهم أنه ليس للمخابرات ألأمريكية علاقة بذلك المبلغ، وأنه أرسل من الرئيس إيزنهاور الذي خصص اعتمادات مالية لبعض رؤساء الدول ليتمكنوا من تجاوز مخصصاتهم المقيدة بالميزانية من أجل الدفاع عن أنفسهم وعن بلادهم ضد الشيوعية، وهنا طلب عبد الناصر على حد قول هيكل إيداع المال في خزينة إدارة المخابرات وأمر بعدم صرف أي شيء إلا بإذن مجلس قيادة الثورة.

ينفى تحديد تاريخ تسليم ذلك لسبب بسيط هو أن محمد نجيب لم يكن رئيسا للوزارة في هذه الفترة، بل كان رئيسا للجمهورية بلا عمل حتى 14 نوفمبر ثم معتقلا في المرج بعد ذلك، وكان حسن إبراهيم وزير الدولة لشئون رئاسة الجمهورية يحضر كافة مقابلاته ويراقب كل تصرفاته.. مما يبعد تماما فكرة عدم معرفة جمال عبد الناصر بوقوع مثل هذا الحادث.

هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى فإن الأمريكيين ما كانوا ليعطوا مثل هذا المبلغ لمحمد نجيب وهو رجل معزول عن الحياة العامة، تدفقت عليه الهجمات عقب إطلاق الرصاص على جمال عبد الناصر وربطت بينه وبين الإخوان المسلمين وكان على وشك أن يحاكم معهم، هذا إذا أردنا استبعاد رأى مايلز كوبلاند كما ورد في كتابه.

وعندما قرأ محمد نجيب ما نشره هيكل في كتابه، رفع عليه قضية أمام محكمة الجيزة واضطر هيكل للاعتذار على صفحات الأهرام، وأثبت محمد نجيب أمام المحكمة قوله بأن الواقعة موضوع الادعاء غير صحيحة على الإطلاق.. وصمت هيكل مؤثرا الانسحاب من خطأ أساء به إلى سمعة الرجل ( تأمل قدرة هيكل على تزييف عشرات الوقائع في حادثة واحدة ثابت بطلانها بالتواريخ).

والواقعة كما رواها مايلز كوبلاند حافلة بالتفاصيل وهى كالآتي على لسانه في كتابه المنشور بالولايات المتحدة، والذي لولاه لما عرفت قصة الملايين الثلاثة، ولا تعرض لها هيكل أبدا.. قال : إنه شخصيا عاد إلى نيويورك في أواخر صيف 1953 " حيث قدمت اقتراحا بإعطاء ناصر مبلغا بصفة شخصية لتطوير حراسته وحل بعش المشاكل الداخلية الصعبة، وأن ترسل الحكومة الأمريكية لبعد الناصر سيارة كاديلاك مصفحة، وأحد رجال البوليس لتنظيم حرسه الخاص، وجهاز إنذار على بيته، ومعدات تحطيم المظاهرات..

كما اقترح إعطاء مصر أربعين مليون جنيه وعبد الناصر ثلاثة ملايين، وقد تمت الموافقة ولما جاء الخبر إلى القاهرة باعتماد المبلغين، اعتبر السفير الامريكى فكرة الهدية الشخصية ، فكرة سخيفة وقال لي إنه لن يسلم هذا المبلغ لعبد الناصر إلا أنت ، وقام كافري بزيارة محمود فوزي، في اليوم التالي وحدثه عن الأربعين مليونا ولم يشر بحرف إلى الثلاثة ملايين، أبحث معه مسالة الثلاثة ملايين، وقلت له إن الحكومة الأمريكية لا تلح عليكم، وإنما أريد أن أخبرك أنها تحت تصرفكم إذا شئتم.

وحسن التهامي الذي كان يشغل ضمن مناصب أخرى مركز رئيس الحرس الخاص لعبد الناصر ( وهو بالمناسبة الذي أشار إليه عبد الناصر في حادثة محاولة الاغتيال في فلسفة الثورة) قال لي:" مش حنغلب في الاستفادة بثلاثة ملايين دولار خلينا نشوفهم"، وبعد الحصول على تأكيد شخصي من عبد الناصر بأن الثلاثة ملايين مقبولة فعلا.

أبلغت كافري الذي قال لي بلهجة حانقة إن المبلغ قد وصل هذا الصباح مع رسول من بيروت، وبعد مشاورة المختصين بالسفارة، اتفقنا على أن تحركي تحت الحراسة مسافة خمسة أميال إلى منزل حسن التهامي في المعادى سيثير الشبهات، ولذلك اتجهت في سيارة أحمل حقيبتين فيهما ثلاثة ملايين دولار نقدا واستقبلني حسن التهامي في منزله بالمعادى يحيط به حارسان مصريا، دون اهتمام أو حماسة، وبدأنا نعد النقود، عددناها مرتين لنكتشف أنها 2,999,990 دولارا وعلق حسن أخيرا : لن نتعارك على عشرة دولارات .. وركب ومساعداه سيارة مرسيدس إلى بيت عبد الناصر".

ثم حكي قصة برج القاهرة الذي بنى من المبلغ وقال إن حسن التهامي كان يسميه " وقف روزفلت" وقد كتب العبارة بالعربية بالحروف الإنجليزية، ولكنه عندما ترجمها للانجليزية – وهو يتقن العربية ولكن بالطبع كمستشرق- ترجمها " انتصاب روزفلت" وهذا دليل أنه لم يخترع العبارة ولكن أخطأ ترجمة كلمة "وقف" .. أو ترجمها له مساعد لا يعرف ما" الوقف" و" الأوقاف".

ماذا ثبت هذه القصة؟

ثبت أولا الروحية التي يتعامل بها هيكل مع وقائع تلك الفترة وهى استعداده للكذب الكامل، وتزوير التاريخ وتبديل الأشخاص.
وهى ليست مسلكية خلقية، بل شعور بالإثم، شعور بخطورة ما تنطوي عليه الحادثة ولذلك لا يتورع عن الكذب ونقل التهمة إلى محمد نجيب، وكان ظنه أن الرجل شاخ، أو أن ذاكرته أو شجاعته ستخونه..

ولكن عندما جره إلى القضاء وهو يعرف أنه كاذب مزور ، وأن أمره سيفضح في المحكمة، وأخطر من ذلك أن المحكمة قد تقلب الدفاتر، وتفتح الملفات وخاصة أن محمد نجيب قد اتهمه علنا وفى كلام مكتوب ومنشور بأن المخابرات المصرية قدمت له ولعبد الناصر تقريرا بأن محمد حسنين هيكل عميل للسفارة الأمريكية فلم يستطع أن يلجأ للقضاء كما فعل الطاهر الذيل محمد نجيب ( في هذه الواقعة على الأقل) لذلك آثر محمد حسنين هيكل أن ينسحب مرة أخرى وذيله بين رجليه، الأولى نصحه محمود فوزيألا يلجأ للقضاء ومحمود فوزيرجل أرقم يعرف السر، وصدقه النصح، والمرة الثانية عندما اعتذر لمحمد نجيب وتراجع..

فهذه الواقعة لا تثبت فقط تزوير كذب محمد حسنين هيكل وإنما تشير إلى وجود سر خطير يحرص هيكل على إخفائه ولو بالتزوير .

كذلك تبثث الرواية، وهى أن المخابرات الأمريكية قدمت ثلاثة ملايين دولار لرئيس ثورة 23 يوليو، ولسنا نتحدث هنا عن رشوة أو فساد.. فالكل متفق ونحن في مقدمتهم على سخافة العمل، وعلى أن عبد الناصر رفض أن يمس المبلغ أو أن يحتفظ منه بدولار واحد، ولو فعل لما استحق أن يوجد اسمه في التاريخ، ولا شغل بالنا دقيقة واحدة.. فلا أحد يتحدث عن رشوة ولا فساد، وإنما مغزى الواقعة هو طبيعة العلاقة بين المخابرات الأمريكية وثورة 23 يوليو ، وإن استطعت أن تصدق وقوع هذه القصة بين المخابرات ألأمريكية وهى شيء منه أو حتى فيدل كاسترو.. فهي ثورة ووجب قطع لساننا..فالسؤال هو لماذا تهتم المخابرات ألأمريكية والحكومة الأمريكية بحماية قائد ثورة يوليو؟.. والمفروض والمشاع أن كل المؤامرات على حياته هى من تدبير هذه المخابرات؟ لماذا كانت الحقيقة مخالفة تماما للشائع والذائع في أجهزة الإعلام الناصرية؟

لماذا؟..

كذلك أورد حمروش، نقلا عن خالد محيى الدين.. رواية تعزز القول بأن المخابرات الأمريكية لعبت دورا حاسما في تصفية نجيب..

إذ قال خالد محيى الدين:" إن ممثل صحيفة " نوفيل أوبزر فاتور" قال له( خلال فترة الصراع يوم لم يكن الكثيرون في الشارع السياسي المصري يراهنون على انتصار جمال عبد الناصر واحد ضد عشرة) إن جمال سيكسب المعركة ضد نجيب، وإن مجلس القيادة قد أعطى إشارة للأمريكيين بأنهم سيوافقون على المعاهدة وإدخال تركيا في بند السما بعودة قوات الإنجليز للقناة" وسنجد في رواية كوبلاند وايفيلاند، ومصطفى أمين ما يؤكد أن المخابرات الأمريكية رجحت كفة ناصر على نجيب.

بل إن أحد أساطين الأجهزة السرية الأمريكية يشك في تآمر هذه المخابرات مع ناصر في حادثة المنشيةللقضاء على نجيب.

وينقل حمروش سرا خطيرا همس له به زكريا محيى الدين وهو:" إن هذه السرعة في توقيع الاتفاق كانت نتيجة وساطة أمريكية، كما ذكر لي زكريا محيى الدين، استهدفت حل المشكلة بين البريطانيين والمصريين لخلق جو مناسب لربط مصر بسياسة جديدة في المنطقة".

أما مايلز كوبلاند فلا يهمس بل يقدم لنا قصة الوساطة كاملة واسم الوسيط.. ترى من يكون إلا عراب الثورة نفسه؟

وتخيل هذا المشهد في " هافانا" وقد اجتمع مجلس الثورة الكوبي في الأيام الأولى للثورة، وبعدما استقرت أقدامها، وأعلن " فيدل كاسترو" أنه قرر تعيين رئيس المحكمة العليا رئيسا للوزراء، فيهمس جيفارا في أذن راؤول كاسترو.. فإذا براؤول يقول:" آسف لا نستطيع تعيين المرشح لأن السفارة الأمريكية تعترض عليه فهو من أنصار السلام.

أو إذا شئت مزيدا من الفكاهة فتخيل حدوث ذلك في هانوى في مجلس قيادة الثورة الذي يرأسه هوشي منه..

المنظر طبيعي في سايجون أو "سيول" عاصمة كوريا الجنوبية، أو القاهرة للأسف، فهذا ما يرويه حمروش عن رفض تعيين السنهورى..

قال:

" بعد قرار عزل على ماهر بدأ البحث عن اسم رئيس وزراء جديد، ويبدو أن السنهورى كان المرشد الأول" ولكن على صبري همس في أذن جمال سالم، وكان حاضرا لهذا الاجتماع باعتباره سكرتيرا لمجموعة الطيران.

وقال جمال سالم إنه يجل السنهورى ويعرف قدرته، ويعترف بجدارته، ويثق في إخلاصه للحركة، كما بدا واضحا في تأييده لقانون الإصلاح الزراعي، ولكنه لا يستسيغ إلا الصراحة والإخلاص في عرض السبب الذي يجعله مرغما على العدول عن ترشيحه.

وكان السبب كما قال جمال سالم ، هو أن الأمريكان سوف يعترضون على هذا الترشيح لأن بعض الصحف العربية نسبت إليه في أواخر عهد الملك السابق أثناء حكم الوفد أن له ميولا يسارية" وفسر السنهورى ذلك بأنه وقع نداء ستوكلهم للسلام" .

والرواية إلى هنا توحي بأنه اجتهاد من " على صبري" مسئول الاتصال بالأمريكان في ذلك الوقت، ولكن خالد محيى الدينيكمل القصة: " إن الأمريكيين كانوا قد ابلغوا على صبري بذلك عندما شعروا باقتراب السنهورى من مجلس القيادة ورجوع الأعضاء إليه في كافة مشاكلهم الدستورية".

فنحن أمام"فيتو" امريكى صريح على مجرد الاقتراب من موقع "نداء ستوكهلم" للسلام.. وكراهية الأمريكان لمن يوقع نداء السلام في ذلك الوقت مفهومة، ولكن رضاهم وثقتهم عن مجلس الثورة غير مفهومة أما انصياع مجلس الثورة لهم فهو المحير العجيب .. إذا أم نعترف بالمعامل"س".

وتأبى الوثائق التي عمى عنه هيكل إلا أن تؤكد صدق رواية خالد محيى الدين فبعد صدور كتابنا نشرت في عام 1986 وثائق الخارجية الأمريكية عن الفترة من 1952 إلى 1954 وجاء فيها الآتي حرفيا:

" من كافري ( السفير الامريكى بالقاهرة) إلى وزارة الخارجية 8 سبتمبر 1952 .
" أبديت اعتراضا شخصيا ؟ على أن تضم الوزارة السنهورى موقع نداء ستوكهلم للسلام أو الشيوعي براوي ، وقد احترم العسكريون اعتراضي وأبعدوا الاثنين ، وقد أخبرنا العسكر اليوم أن برنامجهم سينشر بالكامل خلال أيام".
بريطانيا العظمى وهى تحتل مصر بما يقرب من نصف مليون جندي وخلال حرب عالمية احتاجت لمحاصرة فاروق بالدبابات ووضع المسدس في رأسه لتفرض وجهة نظرها في رئيس وزراء مصر وبعد عشر سنوات أصبحت همسة من السفير ألأمريكي تكفى لفرض وجهة نظره بلا حاجة لدبابات أمريكية فقد تولت عنها المهمة الدبابات المصرية للأسف.

لا أظن أن مصر كانت يوما من الأيام أكثر تبعية منها في تلك الفترة، ولا أظن أن السفير الامريكى تمتع بمثل هذا الانصياع من حكومة شبه مستقلة.

وأيضا قصة يوسف صديق الذي يعد تاريخيا وباعتراف الجميع الآن، أنه هو الذي نفذ الانقلاب ووضعهم في السلطة، ولولاه لما قامت الثورة، كان عمره في هذه الثورة قصيرا جدا.. والسبب هو الأمريكان يا ريس.

يوسف صديق،هو من المجموعة التي لم تكن لها علاقة بالأمريكان ولا علم بما جرى معهم من اتفاق، وما كان له أن يكون ، فهو يساري، أو حتى عضو في تنظيم ماركسي، إذا صدقنا رواية حمروش، أو إذا أخذنا عضوية "حدتو" على محمل الجد، ولكن لا جدال في وطنيته ويساريته، ومعاداته للاستعمار الامريكى..

وهكذا توج يوسف صديق إلى بنى سويف وخطب كما كان يخطب الوطنيون المصريون في عام 1952 ، وقال " إن الحركة لا شرقية ولا غربية" فلم تذع الإذاعة تسجيل خطابه واحتج أولو العلم من أعضاء مجلس قيادة الثورة، على إعلان هذا الموقف الذي أثار رجال السفارة الأمريكية ، وبعث الضيق في نفوسهم- على حد قولهم- وكان الحياد مرفوضا في هذه الفترة من الغرب.

وتعرض يوسف صديق بعد ذلك لمضايقات من زملائه أعضاء المجلس وسرعان ما خرج يوسف صدق من المجلس يناير 1953 واضطهد.

حمروش ومن قبله محمد عودة، لديهم المعلومات، ولكنهما يخشيان الاعتراف بالحقيقة التي تؤيدها المعلومات التي يقدمونها هم .

الثاني وصف جيفرسون كافري":

" من أشهر مدبري الانقلابات في وزارة الخارجية الأمريكية ، ويضم سلسلة طويلة من الانقلابات تقارب الثلاثين في أمريكا الجنوبية والوسطى، وكان كافري أول سفير امريكى في فرنسا بعد التحرير ، في فترة أزيح فيها ديجول عن الحكم وطرد الشيوعيون من الائتلاف الوزاري وجذب الاشتراكيون للولايات المتحدة، وأصبحت فرنسا قاعدة لمشروع مارشال ثم لحلف الأطلنطي".

هذا الذي قهر ديجول، وطرد الحزب الشيوعي الفرنسي، وجذب الاشتراكيين الفرنسيين لأمريكا وحول فرنسا- فرنسا ذاتها- لقاعدة، ونظم ثلاثين انقلابا في أمريكا الجنوبية والوسطى.. عينته أمريكا في مصر ليجرب حظه، فخاب فأله وذهب سحره، وبطل مكره.

ولا ندرى أيضحك علينا حمروش أم يضحك على نفسه وهو يقول:" ولكن كافري جوبه في مصر بحركة شعبية متصاعدة أضعفت من فرص القدرة على إحداث انقلاب مشابه لما حدث في سوريا".

انقلاب سوريا أمريكاني.. وانقلاب فرنسا أمريكاني.. أما مصر فهي أم الدنيا.

ولكن المعلومات تحرق أصابع حمروش، فهو يعرضها ولو من باب إعطاء كتابه مسحة منطقية، ولكن يستعيذ بالله بعد كل فقرة، فهو يؤكد لنا اتصال المخابرات ألأمريكية بالسادات، ولكنه يقسم على أن جمال عبد الناصر شخصيا.. وهو يؤكد حدوث التقاء الأهداف، ولكن ينفى أنهم سيطروا علينا.. حيرة المتورط والنادم والمشدوه لغفلته التي تبينها متأخرا جدا، أو بالأحرى لانتهازيته التي جعلته يخفى ما يعلم، ويخدع نفسه.. يقول: " إن الولايات المتحدة كانت ترقب انتفاضات الفلاحين في حذر شديد، لأنها رأت فيها إرهاصات ثورة شعبية جامحة يمكن أن تنتهي إلى تغييرات اجتماعية جذرية تتناقض فتتعارض في داخلها مع أهداف الاستعمار والامبريالية العالمية.

ولذا كانت فكرة الإصلاح الزراعي واردة في أحاديث المسئولين الأمريكيين الذين تدفقوا على مصر بعد حريق القاهرة، كانوا يطلبون إصلاحات اجتماعية تمنع اشتعال ثورة شعبية.

وانبرى الدكتور أحمد حسين أحد المقتنعين بهذه السياسة والشديد القرب من الأمريكيين يدعو إلى الإصلاحات الاجتماعية ويشكل جمعية لفلاح ويطلب من على ماهر أن يدعو الملك إلى التنازل عن نصف أرضه للشعب وكون جمعية الفلاح و" قد اكتشف اليساريون أن مثل هذه الجمعية إنما تستهدف إطلاق البخار من المرجل الشعبي حتى لا يتفجر في وجه الاستعمار، فأطلقوا عليها اسم " جمعية الفلاح الأمريكاني" ، وذلك لما أحاط بالدكتور أحمد حسين من سمعة تربط بينه وبين المسئولين الأمريكيين المتدفقين على مصر.

ووضح من اتصالات الأمريكيين برجال السياسة المصرية أن الإصلاح الزراعي كان أحد العروض التي يقترحونها، كما روى مصطفى مرعى، عندما اتصلوا به قبل 23يوليو ورفض الموافقة على فكرتهم في تحديد الملكية عن أي طريق يتعارض مع الدستور".

الأعمى يستطيع أن يستنتج من هذا أن قانون الإصلاح الزراعي الذي أصدرته الثورة كان مطلبا أمريكيا.. ولكن صاحبنا أعمى القلب ولذلك فهو يتبع هذا التحليل الذي ارضي بعض الأذكياء بشهادة ترضى المغفلين، ولكن لما تحركت قوات الجيش ليلة 23 يوليو لم تكن فكرة القضاء على الإقطاع نابعة من فكر امريكى".

ليه؟

لنراجع ما لدينا من حقائق طبقا لشهادته:

1- مصر تغلي بنذر ثورة فلاحيه تحمل شتى الاحتمالات، ليس فقط تصفية الإقطاع أو كبار الملاك التصفية الثورة الجذرية، بل- أيضا- إطلاق تلك القوة الأسطورية التي لم تتحرك إلا بضعة شهور في ثورة 19 وعلى نطاق جزئي. ولو ثار الفلاح المصري ثورة شاملة ذات أبعاد وطنية وطبقية لتغير وجه المنطقة.
2- كان الأمريكيون ، أو أجهزتهم تتدفق على مصر وتراقب هذا بحذر شديد، وتصميم على منع هذه الثورة التي تتناقض مع أهداف الاستعمار والامبريالية.
3- ولذلك فكروا في حل يجهض هذه الثورة، ويحمى أي لا يتناقض مع الأهداف الاستعمارية والامبريالية، فطرحوا حل الإصلاح الزراعي ولا جديد في ذلك فقد طبقوه في كل بلد نجحوا في تنفيذ انقلاب فيه، وآخرها إيران.. فالانقلاب الامريكى يقترن غالبا بالإصلاح الزراعي، حتى يمكن اعتبار إعلانه قرينة على أمريكية الانقلاب..
4- تحدث المسئولون الأمريكيون الذين تدفقوا على مصر بعد حرق القاهرة عن الإصلاح الزراعي لمنع الثورة، وتبنى مطلبهم السياسي الشديد القرب منهم بل اتصلوا بمصطفى مرعى واقترحوا عليه تطبيق الإصلاح الزراعي أو تحديد الملكية بغير الطريق الدستوري يعنى بإجراء ثوري.. فرفض.. واكتشف اليساريون ما يجرى وعرفوا أنها لعبة أمريكية، وأنه ضد الثورة وليست ثورة.
ثم جاءت 23 يوليو ولم تكن قد أعدت للقضاء على الإقطاع مشروعا أو خطة كاملة وفجأة تبنى مجلس الثورة المشروع وقاتل عليه .

ثم يقسم لنا أنه لا صلة بين ذلك وبين الجهد الامريكى لفرض الإصلاح الزراعي . عظيم .. وموافقون .. ولكن ألا يسمح لنا أن نستنتج الآتي على الأقل:

1- الإصلاح الزراعي لم يكن يتعارض مع الأهداف الاستعمارية والامبريالية بل على العكس كان على هوى الامبريالية الأمريكية على الأقل فهي اقترحته قبل الثورة.
2- الإصلاح الزراعي كان عملا مضادا للثورة الفلاحية وليس عملا ثوريا.. ويجدر أن نشرح قليلا للمغفلين من خريجي مدرسة التجهيل السياسي فهم لا يعرفون الفرق بين الثورية والإصلاحية، وبين الاستعمار القديم، والاستعمار الجديد..

الاستعمار الامريكى بحكم تكوينه ومصالحه يعادى أية ثورة طبقية، ثورة تحرر قوى الشعب وتحقق تغييرا جذريا في النظام الاجتماعي والسياسي بما يكفل تعبئة وإطلاق طاقة الأمة في بناء الدولة والمجتمع، تصفية المصالح الاستعمارية، واقتطاع حصة من السوق العالمية التي تستثمرها هذه المصالح. وهذا هو جوهر الصراع بين الدول الاستعمارية والدول المستعمرة، ويمكن أن تضاف عوامل محلية لكل بلد، منها في حالتنا النفط وإسرائيل..

ولذا فإن أي إجراء يحول دون الثورة هو ضررا ولا شك أن الإصلاح الزراعي بالأسلوب الامريكى يحقق هذا الهدف، لما يخلقه من تعقيدات في العلاقات الاجتماعية والطبقية في الريف، تشغل الجماهير عن الثورة الحقيقية.. فالعلاقة القديمة.. كانت بسيطة ومفهومة.. طبقة كبار الملاك تملك الأرض والسلطة..

وفى مواجهتها الفلاحون بلا أرض ولا سلطة .. ومطلبهم واضح: الحصول على الاثنين معا: الأرض والسلطة.. والعدو واضح.. والصدام معه سيجر إلى الصدام مع الاستعمار الذي يسنده.. ومن ثم تصبح الثورة الطبقية وطنية في نفس الوقت.

أما بعد قانون الإصلاح الزراعي، فقد ارتبكت الصورة – رغم ضآلة ما تم توزيعه- فقد ظهر طابور من الملاك ولا أحد يعرف موقعه من السلطة ولا أحد يساهم أو يشارك في السلطة، وأيضا لا أحد يستطيع اتهام السلطة بوضوح بأنها مع العدو.. والكل في حرب ضد بعضهم البعض.. وقبل الإصلاح الزراعي، كان الفلاح الصغير هو قائد الثورة مرتبطا ومتحالفا مع فقراء الفلاحين ضد الملك الكبير ، أما الآن بعد الإصلاح الزراعي، فإن العداء الذي يمزق الريف والحقد الطبقي هو بين المالك الصغير والمستأجر ، حيث أصبح المستأجر هو الذي يستغل المالك الصغير المغبون.. وبذلك يستحيل اتفاق الطبقتين على موقف من السلطة وهذا سر خروج الريف من خريطة الثورة في المستقبل القريب على الأقل..

ويمكن أن نضيف أن طبقة كبار الملاك كانت قد ارتبطت تاريخيا واقتصاديا بالاستعمار القديم، ومن ثم فإن الاستعمار الجديد يهمه تحطيمها لاقتلاع جذور الاستعمار القديم ومراكز نفوذه، وإمكانات تحركه..

كذلك فإن تفتيت الأرض الزراعية وجعلها كأرض الأوقاف لا مالك حقيقي لها، كان في مخطط بعض الأطراف الأمريكية لتدمير منافسة القطن المصري طويل التيلة، للقطن الامريكى وقد عرفنا أن هذا الهدف أو الخشية من المنافسة كان خلف معارضة نواب الجنوب الامريكى للسد العالي.

على أية حال إن كنا قد كتبنا ذلك في عام 1985 اعتمادا على التحليل السياسي والمصادر المصرية ، فقد أتيح لنا الآن وثيقتان في منتهى الأهمية تؤكدان أن الإصلاح الزراعي هو قرار امريكى عريق ، وثيقة جاد بها هيكل على قرائه الإنجليز وهى أن روزفلت الح على فاروق في تنفيذ الإصلاح الزراعي، ولم يهتم الملك وقد وردنا ذلك في فصل هيكل الكذاب، أما الوثيقة الثانية التي لم يعلمها هيكل وما ينبغي له .

فإليك نصها:

من السفير الامريكى 20 أغسطس 1952 (سرى جدا):

" بدعوة منهم تعيشت الليلة الماضية مع نجيب وتسعة من ضباطه الأساسيين:

1- أكدوا مرة أخرى رغبتهم في صداقة الولايات المتحدة.
2- ناقشت معهم الإصلاح الزراعي . فقالوا إنه من ناحية لابد من عمل شيء وفى الحال نظرا للفوران الشعبي بين الفلاحين، ولكن من الناحية الأخرى فإنهم يرون إمكانية إفساد اقتصاد مصر كله لو تطرفوا في هذا الأمر أو بعبارة أخرى: لا يمكن إعطاء حوالي 17 أو 18 مليون فلاح شرائح من ألأرض ثم ينتظرون أن ينتجوا شيئا له قيمة وهم يشعرون بالحرج لأنهم تحدثوا كثيرا عن الإصلاح الزراعي علنا.
ورغم ذلك قبلوا أو اضطروا لإفساد اقتصاد مصر والمضطر يركب الصعب .

ثم إليك ما نقله حمروش من كوبلاند وما أضافه، وما اعتذر.. قال : اتصالات خارجية:" ولم يقتصر اتصال السادات بالقوى والتنظيمات السياسية المصرية فقط، ولكنه امتد ليشمل أيضا مندوبي وزارة الخارجية والمخابرات المركزية الأمريكية الذين استثارهم منشورات السادات، وانتصارهم في انتخابات نادي الضباط فبذلوا غاية جهدهم للتعرف عليهم، واكتشاف آرائهم ومحاولة اجتذابهم.

وكانت حلقة الاتصال مع ضابط في المخابرات المصرية طبيعة عمله تسمح له بالاتصال بالملحقين العسكريين الأجانب، بينما هو مرتبط بالسادات وبجمال عبد الناصر شخصيا.

ولم تتسع حلقة الاتصال بين المسئولين الأمريكيين وبين السادات رغم اعتمادهم على الصحفي المقرب منهم محمد حسنين هيكل رئيس تحرير آخر ساعة في ذلك الوقت ورئيس تحرير الأهرام فيما بعد، لأنه لم يكن قد تعرف بجمال عبد الناصر أو غيره من قادة تشكيل السادات حتى ذلك الوقت أو اكتسب ثقتهم.

وكان حريق القاهرة حافزا لنشاط الأمريكيين في المنطقة فقد أرسل دين اتشيسون وزير الخارجية مندوبا عنه استعاره من وكالة المخابرات المركزية هو كيرميت روزفلت لدراسة الأحوال في مصر.

ونشرت مجلة التايم في أكتوبر 1951 مقالا جاء فيه" أن الموقف في مصر أشبه ما يكون بالموقف في اليونان سنة 1947 ، حين اضطرت انجلترا نظرا لضعفها إلى سحب قواتها من اليونان، فحلت أمريكا محلها، واستأنف القيام بدورها حتى لا تترك فراغا يتسرب منه النفوذ السوفيتي ..وأمريكا أعدت للموقف منذ زمن بعيد حتى لا تفاجأ كما فوجئت في إيران ووضعت مشروع الشرق الأوسط".

" وركزت الولايات المتحدة اهتمامها بعد ذلك على مصر، فعينت جيفرسون كافري سفيرا بالقاهرة، وهو من أشهر مدبري الانقلابات في وزارة الخارجية الأمريكية ن ويضم سجله سلسلة طويلة منها تقارب الثلاثين في أمريكا الجنوبية والوسطى( كما ذكر محمد عوده في كتابه "ميلاد ثورة").

" ولكن كافري جوبه في مصر بحركة شعبية متصاعدة، أضعفت من فرص القدرة على إحداث انقلاب مشابه لما حدث في سوريا، وقد أسرع هو وسفراء انجلترا وفرنسا وتركيا لتقديم مذكرتهم المشتركة إلى محمد صلاح الدين وزير الخارجية المصري التي تدعو إلى إقامة دفاع مشترك فور إلغاء المعاهدة.

وهى المذكرة التي أعلن مجلس الوزراء المصري رفضها أمام البرلمان..

" ولذا كان حريق القاهرة فرصة مواتية أنعشت آمال الامبريالية الأمريكية في التسرب إلى مصر ، ووضع قبضتها على مركز الحركة السياسية فيها".

" ولم يكن رجل المخابرات المركزية كيرميت روزفلت مندوب وزارة الخارجية الأمريكية ورئيس بعثتها إلى مصر بعد حريق القاهرة غريبا على المجتمع المصري، فقد عمل في مصر خلال الحرب، وتوطدت صلته بالملك فاروق، ووقف إلى جانبه خلال أزمة 4 فبراير 1942 وأعد له مقابلة مع الرئيس فاروق، ووقف على جانبه خلال أزمة 4 فبراير 1942، واعد له مقابلة مع الرئيس فرانكلين روزفلت خلال زيارته لمصر عام 1945:

ولم يبدأ كيرميت روزفلت مهمته الجديدة من فراغ.. فإن السياسة الأمريكية كانت لها نقط ارتكاز أقامتها خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية". " وكان جيفرسون كافري نشيطا في مقابلاته وعلاقاته.. فقد نشرت الصحف- مجلة الجمهور المصري عدد 22 يناير 1951- أن هناك مشروعا لإنشاء مكتب امريكى انجليزي مصري لمقاومة الشيوعية، ردا على المظاهرات المعادية التي تهتف بسقوط الاستعمار الأنجلو – امريكى، وأن مكتب الصحافة يعمل على كسب بعض كبار الصحفيين ويطالب بمبالغ كبيرة لزيادة نشاطه".

وكان مصطفى أمين صاحب دار أخبار اليوم قد أصدر كتاب باسم( أمريكا الضاحكة) فيه دعاية للمجتمع الامريكى، يمكن مقارنته بكتاب ( الإنجليز في بلادهم) الذي أصدره حافظ عفيفي.

وكانت السفارة الأمريكية قد نشطت في الاتصال بعدد كبير من السياسيين المصريين في محاولة لاجتذابهم إلى صفها.. كان حافظ رمضان لا يخفى صلته بالأمريكيين ، ويقول فتحي رضوان إن حافظ رمضان كان يتصل بمستر ايرلاند مستشار السفارة الأمريكية بأمل الضغط على البريطانيين كما صرح عبد الرحمن عزام أمين الجامعة العربية بقوله:" إننا على استعداد للتحالف مع أمريكا" .

" ويقول مصطفى مرعى إن الأمريكيين قد اتصلوا به ثلاث مرات للتعاون معهم على أسس رفضها، قال لهم إنه ضد الملك وليس ضد النظام.. وأنه مع الديمقراطية وضد الحكم الفردي.. ورفض اقتراحا خاصا بتطبيق قانون الإصلاح الزراعي، وأبلغهم أنه يفضل تطوير قانون عضو الشيوخ محمد خطاب بحيث يضطر كل من يملك أكثر من 300 فدان إلى بيعها.

" ويدل اتصال الأمريكيين بمصطفى مرعى على أنهم كانوا يمهدون لنوع جديد من الحكم كان يرفضه، ولتشجيعه للإصلاح الزراعي بطرق غير دستورية.. وهذا يفسر سياستهم التمهيدية لقبول انقلاب يتفادى أخطار الانتفاضات الشعبية بتحقيق بعض انجازات اجتماعية شكلية مع تثبيت قبضة السلطة الخاضعة للامبريالية الأمريكية، المهددة للديمقراطية الشعبية.

" وكان أحمد حسين وزير الشئون الاجتماعية في وزارة الوفد والذي استقال منها في صيف 1951 هو أحد أصفياء السياسة الأمريكية .

يدعو لسياسة إصلاح اجتماعي تتفادى خطر الثورة. وقد اقترح على ( على ماهر) أن يطلب إلى الملك- مكافحة للشيوعية وتصفية للسخط الشعبي- إعلان تنازله عن أملاكه أو عن نصفها للشعب مثلما فعل شاه إيران فيما بعد أثناء معركة البترول كمقدمة لضرب الحركة الشعبية هناك.. كما انه اعتذر عن عدم الاشتراك في وزارة على ماهر عندما عارض في رفع شعار ( التطهير قبل التحرير ).

" كان أحمد حسين يؤدى دورا نشطا بين الساسة المستقلين بدعوى محاربة الفساد، وقد اتصل بعد خروجه من الوزارة الوفدية بنجيب الهلاليواتفقا على أسس التخطيط والعمل بعد التخلص من الوفد.

" ويحاول مايلز كوبلاند في كتابه" لعبة ألأمم" الإيحاء بأن جمال عبد الناصر كان على اتصال بكيرميت روزفلت عندما ذكر "وقد اخبرنا عبد الناصر كيرميت روزفلت صراحة أنه مع ضباطه لن ينسوا ذلك الإذلال الذي لاقوه على أيدي الإسرائيليين عام 1948، إلا أن نقمتهم ستنصب بالدرجة الأولى على كبار ضباط الجيش المصري ثم بقية حكام العرب والبريطانيين ، وأخيرا على الإسرائيليين ".

" ولكنه لا يوجد دليل واحد على أن جمال عبد الناصر قد اتصل شخصيا بكيرميت روزفلت قبل الحركة.

ولو أن اتصالات بعض زملائه بالأمريكيين قد جعلته يطلب من خالد محيى الدين عدم استخدام عبارة ( الاستعمار الأنجلو- امريكى) في منشورات السادات ، والاكتفاء بذكر الاستعمار البريطانى ، وكان ذلك في شهر مارس 1952 وذلك للتأييد الذي لمسه هؤلاء الزملاء، من المسئولين الأمريكيين في المنطقة.

" والمقطوع به أن الأمريكيين قد وجدوا في النشاط السري لحركة السادات بعض ما يحقق لهم أهدافهم في المنطقة، ولكنهم لم يستطيعوا أبدا أن يكونوا مسيطرين عليه:

وبعد أن نقل حمروش ما ذكره كوبلاند عن تقرير روزفلت علق:

" وإذا صح أن كيرميت روزفلت قد وصل على هذه النتائج فإن هذا لا يعنى ارتباط تنظيم السادات بالمسئولين الأمريكيين ارتباطا عضويا، ولا يدل على أن حركتهم تتم بتوافق وتنسيق مع الاتجاهات الأمريكية ، وإنما يدل على اتساع دائرة معرفتهم، وخبرتهم السياسية في دول تتعرض لأزمات وطنية وحركة جيوشها في مواجهة هذه الأزمات.

" نشر الكاتب الامريكى ستيورات السوب مقالا في صحيفة ( شيكاغو صن تايمز) يقول فيه " إذا كانت بريطانيا قد استطاعت فيما مضى أن تحافظ على سيادتها على مصر بخلق الباشاوات وجعلهم أصحاب النفوذ، وبرشوتهم بعد ذلك ليكونوا أداة تسهيل مصالح بريطانيا الاستعمارية فإن هذه الطريقة لم تعد عملية ولا مجدية اليوم، إن الشعب الفقير قد أخذ يستيقظ ويشعر بالضيق الفاحش اللاحق به" ثم أنهى مقاله بقوله:" إن الحديث عن إنعاش الديمقراطية في بلد كمصر يعيش فيه أغلبية الشعب عيشة أحط من عيشة الحيوانات، هو لغو فارغ، إن مصر لا تحتاج إلى ديمقراطية بل تحتاج إلى رجل فرد، إلى رجل ككمال أتاتورك ليقوم بالإصلاحات الضرورية اللازمة للبلاد، لكن مشكلة مصر في كيفية العثور على الديكتاتور ، فليس بين رجال المؤهلات اللازمة للديكتاتور".

" وكتب إحسان عبد القدوس مقالا بعنوان ( إن مصر في حاجة إلى ديكتاتور .. فهل هو على ماهر؟) تحمس فيه للدفاع عنه وقال إنه معروف عنه أنه يعتد برأيه إلى حد لا يسمح معه للوزراء بالتفكير ثم قال: ومصر تقبل معه أن يعتد برأيه إلى حد أن يصبح ديكتاتور للشعب لا على الشعب، ديكتاتورا للحرية لا على الحرية، ديكتاتورا يدفعها إلى الأمام ولا يشدها إلى الوراء".

" وفى نفس الوقت تقريبا ظهرت عدة مقالات كتبها جوزيف السوب( من نادي الجزيرة بالقاهرة) قال فيها إن فاروق قد فقد أهليته، وأن الوفد حزب لا يمكن الاعتماد عليه، وأن الأمل الوحيد في الجيش.. وقد أثارت هذه المقالات التي نشرت في أمريكا، اهتمام المبعوثين المصريين هناك، ودفعت الدكتور إبراهيم سعد الدين عضو الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكي ومسئول معهد الدراسات الاشتراكية فيما بعد إلى كتابة مقال لمجلة ( الكاتب) دون توقيع، تحدث فيه عن احتمال وقوع انقلاب عسكري.

" وكانت صحف دار أخبار اليوم هى المنبر الذي تنطلق منه الدعاية للسياسة الأمريكية ، فهي تمدح السراي والملك، وتهاجم الوفد وتحاول التشهير به، ثم تنقلب إلى غمز السراي عندما تتبلور السياسة الأمريكية وتفقد الثقة في قدرة الملك على الإصلاح.

وفى غمرة البحث الامريكى وراء خفايا الحياة السياسية في مصر، ومحاولة معرفة البطل الذي تحدثت عنه صحف أخبار اليوم وقف جهاز اكتشافهم الحساس عند ظاهرة، لم تكن ذات أثر كبير في حياة الجماهير اليومية، ولكنها أظهرت بادرة مثيرة في أخطر جهاز منظم في مصر.. وهى انتخابات نادي ضباط الجيش التي دفعت اسم محمد نجيب إلى الضوء".

نلخص ما جاء في نقل وتعليق حمروش على كلام مايلز كوبلاند:

1- حمروش يعترف، وهو لا يملك أمام الأدلة الدامغة على وقوع اتصال بين السادات " ومندوبي وزارة الخارجية والمخابرات المركزية الأمريكية " قبل 23 يوليو وينسى أن التنظيمات الثورية، لا تتصل بالمخابرات الأمريكية ، بل تحاول المخابرات الأمريكية الوصول إليها، لتدميرها وتسليمها للسلطة.
ولكننا أمام تنظيم ثوري في القوات المسلحة. يسعى للاتصال بالمخابرات الأمريكية ومن الظلم البين إشاعة الاتهام هكذا بين السادات فمعلوماتنا والوقائع والأدلة تؤكد أن حلقة محدودة جدا هى التي اتصلت، وهى التي كانت تعرف بهذا الاتصال، بينما كان التنظيم في أغلبيته الساحقة وطنيا، لا يدور بخيال أحد من أفراده أن يتم اتصال مع المخابرات الأمريكية.
2- المخابرات الأمريكية اتصلت بتنظيم السادات ، ولم تش به لا إلى الإنجليز ولا إلى السراي.
3- تطوع حمروش فيضرب عصفورين بحجر، يتهم هيكل بأنه كان أداة أو وسيلة الأمريكان " الصحفي المقرب منهم محمد حسنين هيكل" ولكنه يؤكد أن حلقة الاتصال بين المسئولين الأمريكيين وبين السادات لم تتسع، وحجته على ذلك أن هيكل " لم يكن قد تعرف بجمال عبد الناصر أو غيره من قادة تشكيل السادات حتى ذلك الوقت أو اكتسب ثقتهم" . قد أوضحنا وجهة نظرنا في علاقة هيكل وعبد الناصر، ونضيف إن الأمريكان لم يكونوا تحت رحمة معرفة هيكل بالسادات، لأن هؤلاء باعتراف حمروش هم الذين سعوا للاتصال بالمخابرات ألأمريكية وفى رأينا أن أكثر من ضابط في المجموعة الملتصقة بعبد الناصر كانت له اتصالات مع الأمريكان، بينما كان دور هيكل هو حلقة الوصل بين المخابرات الأمريكية وعبد الناصر.
4- اعترف بوصول كيرميت روزفلت إلى مصر في ا لفترة بين حريق القاهرة و23 يوليو 1952 وتبنى معلومات مايلز كوبلاند كاملة في أن :
5- قرار الحكومة الأمريكية بتولي الأمور في مصر بدلا من الإنجليز.
6- المخابرات الأمريكية نظمت انقلاب حسنى الزعيم في سوريا. " وهو أول محاولة لنقل أسلوب الحكم المفضل لدى الامبريالية الأمريكية والذي مارسته لزمن طويل في أمريكا اللاتينية .
وهو حكم العسكريين الذين يقمعون الثورات والقلاقل الداخلية، ويعملون مباشرة لحساب الشركات والاحتكارات الأمريكية ".
ولم يقل لنا لماذا تضن علينا أمريكا بهذا النظام المفضل لها؟ وهل فعل عسكر مصر إلا هذا؟
7- تبادلت بريطانيا وأمريكا الانقلابات في سوريا. فلماذا ليس في مصر؟ لأ.. عيب.
8- ركزت أمريكا على مصر فعينت فيها كافري وهو خبير انقلابات كما رأينا.
9- الحركة الشعبية في مصر أضعفت قدرة كافري على إحداث انقلاب مماثل لما جرى في سوريا، ولكن آماله وآمال جماعته انتعشت بحرق القاهرة.
10- اتصالات الأمريكان مع مصطفى مرعى تدل على أنهم كانوا يمهدون لنوع جديد من الحكم يتنافر مع الديمقراطية، وتطبيق الإصلاح الزراعي بطرق غير دستورية.
وهذا يفسر سياستهم التمهيدية لقبول انقلاب يتفادى أخطار الانتفاضات الشعبية".
11- حاول الأمريكان القيام بثورة سلمية في إطار النظام الملكي وهنا غير كيرميت روزفلت رأيه ، وحمروش ما زال يتبنى كل معلومات مايلز كوبلاند إلا الحرام وقرر روزفلت أن الملك حالة ميئوس منها وأنه لا سبيل لمنع الجيش من الاستيلاء على السلطة.
12- يصر حمروش على نفى الاتصال الشخصي بين روزفلت وعبد الناصر قبل الحركة – نحن بدورنا لا نصر عليها- ولكنه يؤكد وقوع اتصال بين بعض زملاء عبد الناصر والأمريكان أدت غل طلب عبد الناصر( بناء على طلب الأمريكان أو لتسهيل المفاوضات لا ندرى) " من خالد محيى الدين عدم استخدام عبارة الاستعمار الأنجلو- امريكى في منشورات السادات، والاكتفاء بذكر الاستعمار البريطانى. وكان ذلك في شهر مارس 1952 وهو كما قلنا ينطبق مع تاريخ الاتفاق.
13- " يقطع بأن النشاط السري لحركة السادات يحقق بعض أهداف الأمريكان في المنطقة ولكنه يبادر فيقسم بأنهم " لم يستطيعوا أبدا أن يكونوا مسيطرين عليه" ما علينا.. المهم اتفقت أهداف الامبريالية الأمريكية ونشاط السادات كما عرضته عليهم مجموعة عبد الناصر قبيل الثورة. أما حكاية السيطرة فهذه حديثها يطول جدا.
14- يقول إن صح أن كيرميت وصل إلى هذه النتائج ( تقريره إلى واشنطون المنقول من "لعبة ألأمم" فإن هذا لا يعنى ارتباط تنظيم الضابط الأحرار بالمسئولين الأمريكيين ارتباطا عضويا، ولا يدل على أن حركتهم تتم بتوافق وتنسيق مع الاتجاهات الأمريكية".

دفاعه أسوأ من الاتهام .

من قال إن السادات ارتبطوا عضويا بالمخابرات الأمريكية ..؟
حمروش لا يؤمن إلا بالارتباط العضوي؟
وأين في العالم ارتبط نظام حكم ارتباطا عضويا بمخابرات أجنبية إلا إذا تصورنا حكومة من مايلز كوبلاند ومييد" وايكلبرغر" وهيكل ومصطفى أمين وبرئاسة التهامي؟. .
15- بدأ الحديث علنا في الصحف الأمريكية عن انقلاب عسكري، وخطأ ممارسة الديمقراطية في مصر، ولابد أن يسبقها إعداد ورفع مستوى الشعب في ظل حكم قوى.. وهو نفس ما قاله مايلز كوبلاند نفسه للشهادة، من خلال كتابه لعبة ألأمم؟

" لعبة ألأمم" كتاب صدر في عام 1969 لمؤلفه" مايلز كوبلاند" ورغم الشهرة الذائعة التي نالها الكتاب، والإشارة إليه والنقل منه في سائر المؤلفات العربية التي صدرت بعده، وتعرضت بشكل أو آخر لنظام عبد الناصر، أو للفترة التي تحدث عنها المؤلف ، إلا أنه ما من ترجمة كاملة أمينة قد جرت للكتاب، ولا هو متاح للقارئ في مصر.

ولا نال حقه من الدراسة والتحليل أو حتى الرد والتفنيد ، وإنما اكتفت السلطات الناصرية بحظر دخوله إلى مصر.

ولم يتغير القرار بعد وفاة ناصر. واكتفى الأستاذ محمد حسنين هيكل بإصدار بلاغ من طائفة البيانات التي تعود أن يصدرها في الأهرام، فأعلن أن الكتاب مرفوض لأن مؤلفه – باعترافه- في المخابرات الأمريكية.

و" لعبة ألأمم" هو اسم أطلق على جهاز أقيم في واشنطون في فترة من الوقت، تابع للمخابرات الأمريكية كانت تجرى فيه لعبة أو مسرحية سياسية، أو قل فكرة شيطانية من ألاعيب المخابرات العالمية، إذ يتقمص موظف شخصية زعيم من زعماء الدول التي تهم سياستها الولايات المتحدة، وتجمع له الأجهزة كل المعلومات عنها الزعيم ، يوما بيوم ، فضلا عن تاريخ حياته منذ طفولته وعقده ومكونات نفسيته وثقافته وقراءاته وأبطاله ومستشاريه.. ومن ثم تصبح مهمة هذا الرجل أن يتنبأ بردة فعل هذا الزعيم إزاء فعل من قبل الولايات المتحدة أو غيرها..

وإذا كانت الإثارة هى في هذه الفكرة، أعنى قدرة هذه الشخصية على التنبؤ مقدما بتصرف الزعيم الذي يمثله، فإن الأهمية أو العائد في نظري هو في اهتمام وقدرة الأجهزة من خلال هذه اللعبة على تجميع المعلومات عن الزعيم موضوع الاهتمام.. وربما تكون هذه اللعبة قد لعبت دورا في دفع الأحداث في عالمنا في اتجاه معين، من خلال دراسة شخصية الزعيم.

ومعرفة مفتاح هذه الشخصية مثل حب المال أو النساء أو التمسك بالسلطة مهما كان الثمن، أو كراهية مزاحم على الزعامة سواء أكان هذا المزاحم من الداخل أو الخارج. أو معرفة نوعية العلاقة داخل المجموعة الحاكمة..الخ.

المهم والذي يعنينا هنا، أن مايلز كوبلاند مؤلف الكتاب كان الشخص المكلف بتمثيل أو تقمص شخصية الرئيس جمال عبد الناصر ومن ثم فهو ليس الغريب المتطفل الذي صوره لنا هيكل لغرض أكثر من واضح..

وهو كما عرفه الناشر الامريكى أحد الذين ساهموا في تنظيم المخابرات الأمريكية كلها.. وهو رئيس المخابرات ألأمريكية في مصر.. إذ المعروف أن المخابرات ألأمريكية لها وحدات إقليمية تسمى محطة ومصر في تلك الفترة كانت من أهم مراكز الشرق الأوسط كله، وقيادة العالم العربي.

وإليك كلمة الناشر على غلاف كتاب لعبة ألأمم وقد تكون فيها مبالغة، وإنما لا تصل إلى درجة الكذب أو الانتحال لأنها موجهة للقارئ الامريكى أولا..

" مايلز كوبلاند الذي كان موظفا في وزارة الخارجية، والرجل الذي ساعد في تنظيم المخابرات الأمريكية، دبلوماسي سابق ورجل أعمال، وخبير في شئون الشرق الأوسط. وأحيانا لاعب في لعبة ألأمم كتب كتابا مثيرا طريفا عن الدبلوماسية الدولية السرية.

ولكي يبرز فكرته عن لعبة ألأمم اختار مستر كوبلاند واقعة تاريخية هى وصول عبد الناصر إلى السلطة، حيث كان مستر كوبلاند لاعبا في هذه الدراما.. ويشرح كيف تعمل الأجهزة والاغتيالات والرشاوى، ويسمى الأشياء بأسمائها.. ويشرح كيف تعمل الأجهزة الأمريكية مع وضد بعضها، ويشرح بالتفصيل الجانب التآمري والمخادع الذي تمارسه الأجهزة الحكومية غير الرسمية مثل نشاط السى آ ايه وأن هذا الجانب هو دائما الأكثر فعالية وإن يكن مجهولا من الرأى العام .

كما يوضح كيف استطاع قائد مصر (عبد الناصر) أن يطور فرعه الخاص بلعبة ألأمم.

" لكل الذين يريدون معرفة كيف تدار السياسة الخارجية فعلا يقدم مايلز كوبلاند كتاب وثائقيا لا خيالات فيه، أكثر إثارة من قصص الجواسيس الخيالية.

كتاب لعبة ألأمم يكشف المناورات والألاعيب التي تميز سياسة الدول الكبرى، ويكشف الأفعال السرية التي لا علاقة لها بما يقوله السياسيون والرسميون للشعب".

وفى المقدمة يقول المؤلف إن المؤرخين يعجزون مثلا عن تفسير " لماذا أحجم عبد الناصر عن شن الحرب على إسرائيل في ظروف كان النصر فيها محتملا، بينما قاد بلاده إلى هزيمة محققة في 1967.." ويرد على تساؤله بأن المؤرخين لا يعرفون القصة خلف القصة أو ما وراء الستار، لأن هذه القصة السرية تحجب عنهم"..

ويقول إنه عندما عرض مسودات الكتاب على أحد الدبلوماسيين نصحه بعدم النشر، لأنه لا يجوز أن نسيء إلى صورة حكومتنا في أعين الجمهور" ولكنه لم يوافقه .

لعدة أسباب منها أن من حق المواطنين الأمريكان أن يعرفوا الحقيقة عن حكومتهم. وأن رجال هذه الحكومة هم مجرد بشر .

وأنه إذا كان المواطن الامريكى يشعر بالفخر لأن حكومته ذات مسلكية أخلاقية عالية، إلا أن هذا المواطن سيكون نومه أهدأ إذا ما عرف أن خلف الستار يوجد له رجال قادرون على مواجهة خسة السوفييت بخسة مماثلة".

" لقد ركزت على الشرق الأوسط ومصر بالذات، أساسا لأنني كنت هناك كثيرا كضيف لم يدعه أحد ولأنني ساهمت في كثي من الدبلوماسية السرية، التي حكمت السلوك اللامنطقى في تعامل زعماء الشرق الأوسط مع الغرب، ودبلوماسي اغرب مع حكومات الشرق الأوسط".

وأنه أراد أن يوضح أنه إذا كانت سياستنا الخارجية قد تعثرت بعض الوقت، فإن السبب لم يكن بسبب قرارات غير حكيمة اتخذها المسئولون، بقدر ما كانت بسبب خطأ الفهم وسوء استخدام أجهزتهم في التعامل مع مشاكل لا يمكن أن تحل بالوسائل العادية، إن الأخطاء التي ارتكبتها حكومتنا في التعامل مع الرئيس ناصر هى نموذج شديد الوضوح هنا".

" أردت أن أقدم للقراء والمؤرخين في المستقبل صورة لمعالجة حكومتنا لسياستها الخارجية بالوسيلة- التي هى دائما- الأكثر حسما ولو كانت غير معروفة للجمهور.

وقد حذفت كل الأسرار المحظورة بموجب نظم الأمن الحكومية، إلا التي أصبحت فعلا في علم قوى أجنبية بسبب تسربها من قبل أو بفعل الجاسوسية أو بسبب نشرها. على أية حال لم أكتم شيئا لمجرد الوفاء للجماعة"

" لأسباب عديدة فإنني أعتبر عمليتنا التي تشمل الرئيس ناصر، هى أفضل حادثة تاريخية لعرض كيف تعمل إستراتيجيتنا المزدوجة القيم الأخلاقية".

" عندما كنا نجلس حول الطاولة في الفترة التي كنت فيها العب دور عبد الناصر، كان يبدو لنا جميعا أنه لا يمكن أن تستمر اللعبة بدون عبد الناصر".

" إن دراسة كيف أدرنا اللعبة مع ناصر تقدم لنا دروسا قيمة حول إستراتيجيتنا في التعامل مع أمثاله".

وهو يعتقد – وأثبتت الأحداث منذ تاريخ نشر الكتاب صدق توقعه أن " نموذج ناصر من القادة الأفروآسيون سيأتون باستمرار للعب الدور الذي سنحدد معالمه في ما يلي من الصفحات".

" لأنه في هذه البلدان التي تبدو حالتها ميئوسا منها من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، ليس أمام القائد المحلى إلا أحد حلين: إما أن يصرخ يسقط الاستعمار وتهتف له الغوغاء بينما بلدهم يسير إلى الدمار ، أو أن يقبل المعونة ويرضى بمركز العميل للاستعمار أو لموسكو".

وقال إن النموذج الناصري هو الأقدر على البقاء بين زعماء الدول المفلسة هذه ، وان عبد الناصر كان تسعين بالمائة ناصري ولذلك كان أطولهم عمرا، بينما نكرو ما كان سبعين بالمائة.. فقط..

ودعنا من فلسفته وزهوه كالطاووس لأنه جعل منطقة مثل الوطن العربي، وبلدا ولد فيها التاريخ وقامت أول حكومة جعله حقل تجارب من شعبه على هذا النحو الفاضح والمؤلم إل حد البكاء.

دعنا من هذا، الفكرة ببساطة هى أن الدول المتخلفة لا أمل لها من وجهة نظر المخابرات أو الإدارة الأمريكية في الخروج من التخلف وتلبية احتياجات شعبها، أو كما قالوا لعبد الناصر بصريح العبارة:" إنه لا أمل لمصر في الخروج من الفقر".

ولذا فإن زعماء هذه الدول يريدون الاستمرار في السلطة ليس أمامهم إلا استجداء الدول الغنية أو ابتزازها، وهذا الكتاب هو دليل التعامل مع هذه النماذج، أو خلق بعضها فعلا عندما تقتضى الضرورة ، وفى الأماكن الإستراتيجية والظرف التاريخي المعين.

وإليك المزيد من تعريف الرجل بنفسه، ولاحظ أن هذا نشر في كتاب صدر في الولايات المتحدة، فلا يمكن أن يكذب فيه ويدعى مناصب ووظائف ومهمات لم يقم بها، ونحن ملزمون بتصديق ما يقوله عن وظائفه، واتصالاته بناصر:

" في فبراير 1947 عندما أعلنت بريطانيا استعفاءها من مهمة الدفاع عن تركيا واليونان ودعت أمريكا للحلول محلها " كنت من المجموعة الإدارية الاستشارية المكلفة بدراسة الفوضى التنظيمية الموجودة وقتها في دائرة الاستخبارات، ولتقديم توصيات لإصلاحها".

" وصلت إلى مصر في يوليو 1953"

" نكتي عن الانقلابات في سوريا هى التي جعلتني الشخص المفضل في منزل عبد الناصر".
" في يوليو 1954 قال ناصر  : لكي تشكل نفوذا معتدلا في العالم العربي فيجب أن تكون صاحب نفوذ"
" وأنا وحسن التهامي كنا نتحدث مع عبد الناصر في حديقته"
" زرت نيويورك في أواخر صيف 1953 واقترحت إعطاء ناصر مبلغا بصفة شخصية لتطوير حراسته، وتزويده بسيارة كاديلاك مصفحة، وخبير لتنظيم حرسه الخاص، وجهاز إنذار على بيتهن ومعدات لتفريق المظاهرات".
" في أغسطس 1953 وكنت ذاهبا للغداء مع عبد الناصر، طلب منى السفير كافري أن استمزج رأيه في المفاوضات مع بريطانيا وقال لي: اعرف لنا أقصى مطالبه، وأدنى ما يمكن أن يقبل به، وقل له إننا سنحتفظ بهذا سرا فيما بيننا. وكانت هذه هى أول مرة يطلب منى أن أناقش سياسة أو بالأحرى سياسة دولية مع عبد الناصر".

ويقول إنه في هذا الاجتماع اقترح على عبد الناصر الاستعانة بوسيط امريكى.." وورد اسم كيرميت روزفلت الذي اعتبره عبد الناصر اختيارا ممتازا، فلما تشككت في أن علاقته بالمخابرات قد تشكل عقبة، قال عبد الناصر بالعكس.. إن هذه الصلة ميزة، فهو يستطيع أن يكون رسميا بالقدر الذي نريده.

وكان رأيه أن موظفا في المخابرات ألأمريكية، يمتاز بأنه لا يمثل الحكومة الأمريكية، وبالتالي فهو غير ملزم بتوضيح موقفه أو دوره الحقيقي للانجليز، إلا أنه في نفس الوقت يتمتع بثقة الحكومة الأمريكية، ومن ثم فهو يعرف ما يقول ، ثم إن علاقة روزفلت الوثيقة بالأخوين دلاس كانت مهمة أيضا عبد الناصر، كذلك كان ناصر يعرف أن كافري سيوافق على هذا الاختيار، وكانت خبرة عبد الناصر السابقة مع روزفلت قد أقنعته أن روزفلت هو من النوع الذي يجيد تدبير الأمور".

" وقد قام روزفلت فعلا بدور الوساطة في عقد اتفاقية الجلاء.."

هل عرفت الآن من هو الوسيط الامريكى الذي تحدث عنه زكريا محيى الدين..؟ .. إنه عراب 23يوليو كما سنرى.
" وقد أخبرت كافري، على الفور، بعد الغداء مع عبد الناصر بمحادثتي مع عبد الناصر، فأبرق بالفكرة إلى واشنطون بعد ظهر نفس اليوم ووصل روزفلت في نهاية الأسبوع، بعد أن توقف في لندن للحصول على ملخص من وزارة الخارجية لمعرفة ما هى النقاط المهمة في المفاوضات وما هى غير المهمة".
" وفى اجتماع بين ناصر وروزفلت راجعا الأولى والثانية ( انظر الصفحات من 120 إلى 131 من الكتاب عن الخطة التي وضعت لمسيرة الثورة بين الأمريكان وممثلي مجلس الثورة التي تتضمن تحقيق بين مصر وبريطانيا وأمريكا ومن هنا أصبح عمله هو تحديد ما الذي يريده فعلا البريطانيون والمصريون بصرف النظر يقولون .. ثم صياغة ذلك.

" لعبت دور عبد الناصر في مركز الأمم من صيف 1955 إلى ربيع 1957 وفى نفس الوقت كنت أعمل مستشارا لمجموعة تسمى " لجنة تخطيط سياسة الشرق ألوسط" وفى وزارة الخارجية الأمريكية.

وهى وظيفة أعطتني الفرصة لزيارة القاهرة وعواصم أخرى في الشرق الأوسط، حيث تمكنت من مناقشة حركات ناصر مع ناصر نفسه وغيره من القادة في الشرق الأوسط الذين تأثروا بأفعاله. وإلى جانب ذلك كنت قد عرفت ناصر نفسه منذ عدة سنوات، وفى أفضل الظروف الممكنة، وكنت على علاقة جيدة مع قادة الشرق الأوسط المهمين سواء الذين ضد أو مع ناصر".

" نقلت أنا و" جيم ايكلبرغر" خبر انضمام العراق لحلف بغداد إلى عبد الناصر مساء اليوم الذي وقعت فيه الاتفاقية، وكان السفير الامريكى بايرود قد وصل، ولكنه لم يقدم بعد، أوراق اعتماده.

وعبد الناصر يريد أن يبحث معه حلف بغداد الذي أعلن وهو لا يستطيع استقباله بصفة رسمية فاتفق على أن يأتي إلى بيتي ناصر وبايرود وعبد الحكيم عامر وحسن التهامي للعشاء، ثم أعقب العشاء اجتماع آخر حضره تهامي وأنا وعبد الناصر وبايرود نوقشت فيه كل جوانب علاقات بلدينا".

لعلنا ساهمنا في تخفيف بعض حيرة الحاج هويدى في البحث عن سر أهمية الدرويش حسن التهامي.. وزدنا من حيرة الناصريين في تفسير محاولة هيكل التقليل من شأن الرجل الذي يسعى ناصر إلى بيته لمقابلة سفير أمريكا..

" في فبراير كنت أعيش في القاهرة وأتردد على دمشق".

" وقع المصريون والإنجليز و" يلبور ( بيل) ايفلاند، إلى القاهرة لبحث ما هى الأسس التي يمكن بموجبها لحكومتنا إعطاء المصريين الأسلحة التي يطلبونها لأغرض الأمن الداخلي، على أن يعقد الاجتماع مع ناصر نفسه بحضور كبار مساعديه، وعلى أن يكون سريا وبدون محاضر.وطلب منى السفير كافري، أن أنظم الاجتماع وأشترك فيه، وأنقل إليه ما يحدث .

ولذا فقد كان واضحا ، أن دوري هو دور مراقب بدون صفة رسمية. وقد تم الاجتماع في الساعة الثامنة من مساء يوم ما، في منزل حسن التهامي كبير مساعدي ناصر، واشترك فيه عبد الناصر، ورئيس الأركان عبد الحكيم عامر، والكولونيلا الأمريكيان ،والتهامي وأنا.. وكان الجو وديا وغير رسمي.

خلعت فيه الجاكتات وعلقت على ظهر المقاعد، وجرى استخدام الاسم الأول: آل .. بيل.. بل حتى جمال. وتناولنا وجبة بيتي رائعة، وبعد ذلك بدأنا ما عرف بعد ذلك بمحاولة صريحة مما اعتدنا عليه".

وروايته تتفق تماما مع رواية ايفيلاند في كتابه حبال الرمال والذي سنعرضه بعد هذا الكتاب لعبة ألأمم.

المحادثات التي يحضرها تهامي، ولا يسمع بها فضلا عن أن يشترك فيها بغدادي وكمال الدين حسين.. فضلا عن هويدى.

لا تعطيه الحق في أن يتساءل لماذا استوزر عبد الناصر هذا الوزير .ز إنه حقا لم الشمل ولكن أي شمل؟ ..

وهذا يفسر لنا الدور غير المبرر الحجم الذي لعبه تهامي في المفاوضات مع إسرائيل التي انتهت بكامب ديفيد..

ويقول إن المناقشة في هذا الاجتماع كانت صريحة لدرجة أن الأمريكان لم يستخدموا ولو مرة واحدة تعبير :" العالم الحر" كما لم يستخدم المصريون كلمة الاستعمار.

يعنى لا احنا عالم حر ولا أنتم ضد الاستعمار.. فلا داعي للتهريج بالألفاظ " وفى منتصف سبتمبر تسلم كيرميت روزفلت رسالة شخصية من ناصر بأنه سيوقع اتفاقية مع الروس، وأنه إذا كان روزفلت يريد أن يجرب إقناعه بالعدول عنها فمرحبا به، وفى اليوم التالي سافر كيرميت وأنا إلى القاهرة، وقد قابلنا في المطار معاونو عبد الناصر وأخذونا رأسا إلى شقة عبد الناصر في أعلى مبنى مجلس الثورة".

في 16 يوليو 1955 أنهيت سنتي خدمتي في مصر واتجهت مبطئا إلى وطني، واستغرقت رحلة العودة شهرا.

وعندما وصلت أخيرا في آخر أغسطس، وجدت في انتظاري خطابات من كل ما بايرود وناصر، إلى جانب مراسلات من رؤسائي تخبرني بأنني سأعار لوزارة الخارجية لفترة غير محدودة لتشكيل وحدة عمل تسمى " لجنة تخطيط سياسة الشرق الأوسط".

" قضيت وقتا طويلا في أواخر 1956 وبداية 1957 أعطى محاضرات لمجموعات من الموظفين الأمريكان، أقوم فيها بدور عبد الناصر، وأشرح لهم مواقفه، وكثيرا ما كنت استدعى إلى مكتب وزير الخارجية دلاس أو نائبه هوبرت هوفر الابن، لكي أساعدهم على التنبؤ بردود فعل عبد الناصر لبعض القرارات التي ستتخذها حكومتنا.

وكنت أجعل مواقف عبد الناصر مفهومة بل ومقبولة ، حتى أن أحد الموظفين قال: أنا لا أثق في هذا الشخص، إنه ناصري أكثر من ناصر نفسه".. ومرة التفت إلى آلن دلاس وقال : إذا كان هذا البكباشي بتاعك( أو بتاعكم ) سيزعجنا أكثر من ذلك فسنشطره إلى نصفين".

" عندما سألنا " فرانك ويزنر" نائب مدير المخابرات ألأمريكية، قبل أسبوع من أزمة السويس، إذا ما كنت أتوقع أن يؤمم عبد الناصر القناة ردا على رفض تمويل السد العالي، أجبته إنني في تمثيل دوره في لعبة ألأمم، أممت القناة فعلا منذ عدة شهور.. ولكن ناصر لم يفعل ولذا لا أدرى ما الذي سيفعله الآن.. وعندما ناقشت مشكلة السويس مع عبد الناصر بعد ذلك كان واضحا أنه توقع ردة فعل أشد من جانب الأنجلو- أمريكان.. الخ".

" في أوائل عام 1956 قضى الرئيس عبد الناصر والسفير فوق العادة إيريك جونسون، وأنا ، مساء طويلا في حديقة عبد الناصر نناقش ما الذي يمكن لعبد الناصر أن يقوم به، وماذا لا يمكنه لمساعدة جونسون على وضع خطة حول مياه نهر الأردن".

" مايو 1957 استقلت من وزارة الخارجية، وأسست مكتب استشارات للعلاقات الحكومية لشركة نفط وشرطة طيران وبنك، في بيروت في يوليو 1957".

" في 1957 كنت في واشنطون أعمل في لجنة، يفترض أنها المسئولة عن كل ما لع علاقة بعبد الناصر.. وأذكر أنني حضرت يوما إلى المكتب صباح يوم من أيام شهر يناير لأعرف أن مشروع إيزنهاور .و الخ".

" عبر السنين رأين ناصر أكثر من أي غربي آخر، وغلى الآن بعدما لم يصبح من المستطاع مفاجأته بزيارة بدون دعوة والبقاء لتناول الغداء ما زلت أجرى معه مناقشة طويلة مرة كل شهر أو شهرين يسترخى فيها تماما ، ويكون طبيعيا جدا.

وقد قمت بهذه الزيارات مرات عديدة، كمجرد علاقة شخصية أو مرات لحساب بعض الشركات التي أعمل لها، ومرات بعد تلقين عنيف من أطباء المخابرات الأمريكية لكي أسجل لهم أية ظاهرة من ظواهر المرض الجسمي أو العقلي على عبد الناصر".

" ناصر أخبرني في 1964 أنه كف عن محاولة فهم تصرفات الأمريكان". ويقول إنه أهدى لبعد الناصر مرة، بدلة على الطراز الامريكى فلم يعجبه ذوقها".

والآن ماذا عن الكتاب؟

لقد وضع في بدايته قائمة بالأحداث التاريخية التي يعتقد أنها تحدد خريطة التطورات السياسية في موضوعه وهى كالآتي:
21 فبراير 1947 سلمت السفارة البريطانية في واشنطون رسالة لوزارة الخارجية حول اليونان وتركيا تعلن انتهاء مرحلة السلام البريطانى أي مرحلة السلام في المنطقة بقوة بريطانيا .
12 مارس 1947 إعلان مبدأ ترومان.
14 مايو 1948 إعلان دولة إسرائيل.
30 مارس 1949 انقلاب حسنى الزعيم.
26 يناير 1952 حريق القاهرة وتوجه كيرميت روزفلت إلى القاهرة لتنظيم ثورة سلمية تحت قيادة فاروق.
مارس 1952 كيرميت روزفلت يتخلى عن فكرة الثورة السلمية ويجتمع بالسادات المصريين وهو التاريخ الذي اتفق خالد محيى الدين وحمروش على طلب عبد الناصر فيه وقف الهجوم على الأمريكان في منشوراتهم..).
22 [[يوليو] 1952 انقلاب ناصر في مصر.

وفى شرح هذه النقاط وتسلسله، تقول الوثائق "إنه في عام 1947 أبلغت بريطانيا الحكومة الأمريكية أنها لا تستطيع الاستمرار في تحمل مبلغ الخمسين مليون دولار اللازمة لدعم اليونان وتركيا ضد الشيوعية، فإما أن تتولى أمريكا المهمة، أو تترك للفراغ".

وكان هذا التطور ضد الشيوعية ، فإما أن تتولى أمريكا المهمة، أو طبيعيا ومنتظرا بلهفة من الولايات المتحدة، التي خرجت من الحرب العالمية الثانية أكبر قوة في العالم غير الشيوعي، وكانت ترى نفسها الوريث الشرعي والطبيعي والكفء للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، اللتين بعجزهما تسيطران على مساحات شاسعة وثروات هائلة ، بدون مبرر بموجب قانون الغابة الاستعمارية، وبدون قدره على ضبط هذه المناطق وإخضاعها كما كان الحال قبل الحرب العالمية الأولى، أو حتى فيما بين الحربين، وكان نفط الشرق الأوسط وإسرائيل يمثلان أهمية حيوية، وجائزة مطلوبة من قبل الإدارة الأمريكية، وأصحاب المصالح الحقيقية، كما كان موقع الشرق الأوسط يمثل أهمية بالغة لإستراتيجية السيطرة على العالم، أو احتواء الشيوعية العالمية، والدفاع عن غرب أوربا وأفريقيا..

وربما خطر ببال الإنجليز رشوة الأمريكان بتركيا واليونان، مقابل ترك بريطانيا تتمتع بالجزء الأقل سخونة وأكثر ليونة وأغرز نفطا في شرق وجنوب البحر الأبيض.. ولكن أمريكا- كما رأينا- كانت عينها على ذات هذه المناطق التي تريد بريطانيا، الاحتفاظ بها، ولا أحد يدافع عن تركيا واليونان من أجل الأتراك واليونانيين فهما من أفقر الشعوب وزيت الزيتون لا يغنى عن زيت النفط، وإنما أهمية اليونان وتركيا في أنهما الخط الأمامي في الدفاع عن الكنز أو الشرق الأوسط العربي وإيران.. كما أن الدفاع عنهما يصبح مستحيلا بدون عمق في الوطن العربي وإيران..

وهكذا قررت أمريكا أن تأخذ الجمل بما حمل.. فتكونت المخابرات الأمريكية سى آى اسه سنة 1947، وتشكل مركز لعبة ألأمم سنة 1948، يقول كوبلاند :" كان برنامجنا هو ملء الفراغ الذي تركه رحيل البريطانيين من اليونان وتركيان الفراغ الذي لا يقتصر على تركيا واليونان بل الشرق الأوسط كله. وتنفيذ ذلك بأسلوب يتفق مع وسائلنا وطرقنا.. كنا ندخل في لعبة جديدة، اللاعبون فيها هم حكومات منطقة الفراغ، وليس الاتحاد السوفيتي.. وكما قال موظف كبير بوزارة الخارجية، لم تكن لدينا أهداف بل مشاكل ، مشاكل من عزم الصهيونية على خلق دولة يهودية في فلسطين، وتصميم العرب على منعهم، مشاكل خلافاتنا مع حلفائنا .

وفى داخل البنتاجون نفسه( وزارة الدفاع الأمريكية) حول الدور الذي سيلعبه الشرق الأوسط في مشاريع الدفاع..

ومن القضايا التي أثيرت هى إلى أي مدى ندعم رسميا شركات النفط الأمريكية التي زاد نشاطها في المنطقة وأخيرا تحددت أهدافنا في الآتي:

1- منع الصراعات الإقليمية من جرنا إلى مواجهة مع السوفييت، أي منع تحول الحرب الباردة إلى ساخنة.
- تمكن حكومات المنطقة من المساهمة في العالم الحر..
3- خلق ظروف محلية مناسبة للاستثمارات الأمريكية..".

"وكان الصراع الاقليمى الوحيد الذي يلوح في الأفق، هو الصراع العربي- الاسرائيلى، كما كنا نعتقد أن مصالحنا التجارية تلقى الترحيب من أهل المنطقة فالنفط سيجعلهم أغنياء".

" وكان الموقف في نظرنا، أنه لو وجدت قيادات غير فاسدة وذكية بما يكفى لإدراكها ما العمل الذي يحقق مصلحة بلادهم، ولديهم عزم لإنجازه، فإننا سنحقق أهدافنا مهما تكن..

ولكن هذه البلاد باستثناء بلد أو اثنين كانت تفتقر إلى مثل هؤلاء القادة، ولذا فحتى يحين الوقت لإرساء أهداف راسخة بعيدة المدى، فقد كان علينا تركيز اهتمامنا لإيجاد الوسائل التي تضمن تولى" النوع المطلوب من القادة" كما كنا نسميهم في هذا الوقت، وتؤكد الوثائق الحكومية الأمريكية السرية في مطلع 1947 على أجهزتنا الدبلوماسية و المخابراتية، العمل على إجراء تغييرات في قيادات عدد معين من بلدان الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي يتجاهله المؤرخون اليوم عندما يقيمون أعمالنا في العشرين عاما الماضية".

كان بودي أن أعلق على هذه الفقرة، بأنها تغنى عن التعليق.

1- أمريكا قررت ملء الفراغ في تركيا واليونان والشرق الأوسط كله.. " بوسائل تتفق مع وسائلنا وأساليبنا".
2- اللاعبون أو المحاورون أو الطرف الآخر، ليس الاتحاد السوفيتي، غير الموجود وقتها في المنطقة، بل حكومات المنطقة، وهذا يعنى بوضوح بريطانيا وفرنسا.. فمها الحكومة وما تحتهما مجرد أدوات تتفاوت نسبة تبعيتها وانصياعها وكفاءتها ، وهى بالتأكيد موجودة على مائدة اللعب، ولكن من يريد أن يلعب في مصر أو العراق، يخطئ خطأ فادحا إذا لم يعرف أنه يلعب أساسا مع بريطانيا، ونفس الشيء عن فرنسا بالنسبة لمراكش والجزائر وتونس.. الخ.
وهذه النقطة مهمة جدا، ولو أنها طمست في تاريخ المنطقة عن وعى لأنها مفتاح فهم "ثورية" بعض الثوريين، بل حتى ماركسية بعضهم، فالإنجليز مثلا لم يترددوا في إطلاق الشيوعيين في العراق، وتسليمهم الحكم في عدن لمنع وقوع البلدين في يد الأمريكان.. وهذا سيساعد على فهم بعض التصرفات التي تبدو غريبة في ظل المفهوم الساذج الذي يتصور أن الصراع الأول في المنطقة، كان في تلك الفترة، بين الغرب والاتحاد السوفيتي أو بين أمريكا والاتحاد السوفيتي.
وأهمية هذا الاعتراف أيضا، هو تحديد طبيعة الوسائل ، فإذا كانت الولايات المتحدة تسعى إلى احتلال بلد أو منطقة في دائرة نفوذ حليف مثل بريطانيا وفرنسا، فإن الموقف يختلف عنه في حالة ما إذا كان البلد في دائرة نفوذ الروس، لأن أسلوب الاستيلاء يختلف بالطبع ، ففي الحالي الأولى يستحيل الضرب المباشر، يستحيل غزو البلد أو مقاتلة بريطانيا، أو حتى الهجوم الرسمي عليها إلا في ظروف نادرة عندما يخرج أحد الأطراف عن قواعد اللعبة.. كما حدث في حرب القناة 1956 .
إذ جاءت بريطانيا بالأسطول لقلب حكومة عبد الناصر وإعادة غزو المنطقة، وهنا اختل ميزان القوى في اللعبة، وكان لابد من تدخل أمريكا.. أما فيما دون ذلك فإن وسائلنا وطرقنا هى قلب الحكومات العميلة لبريطانيا العظمى، وإقامة حكومات صديقة للولايات المتحدة، ومن ثم تصدر قرارات شرعية بتصفية بريطانيا وتعزيز مصالح أمريكا، ولا تملك بريطانيا أن ترد إلا بانقلاب مضاد كما حدث في سوريا ، أو بمحاولة " لخبطة" اللعبة بإحداث انقسام داخلي ، أو الرضوخ وطلب إعادة تقسيم المنطقة مع الاعتراف بحق أمريكا في نصيب أكبر مما خرجت به بعد الحرب العالمية ، كما حدث في إيران.
3- نقفز على حكاية ليس لنا أهداف لأن ما ذكره كمشاكل هو أهداف.. مثل إفشال تصميم العرب على منع قيام إسرائيل .
على أية حال، لقد اعترف بأنهم وضعوا أهدافهم في ثلاثة مطالب تغطى كل شيء: منع تحول الشرق الأوسط إلى منطقة مجابهة ساخنة مع الاتحاد السوفيتي، وفى إطار هذا الهدف المحدد بدقة كأول الأهداف ، يمكن أيضا تفسير موقف أمريكا من أحداث أكتوبر 1956.. والهدف الثاني يغطى مشاريع الدفاع المشترك وغيرها..
أما الهدف الثالث فصارخ : خلق الظروف الملائمة للاستثمارات الأمريكية..
4- الصراع الاقليمى المقبل هو الصراع العربي- الاسرائيلى.. الاستثمارات الأمريكية كل ما تحتاجه هو قيادة ذكية، تفهم مصلحتها في الارتباط بالاستثمارات الأمريكية، غير فاسدة برشوات الإنجليز والارتباطات بهم، ومن ثم سترى المصلحة العامة التي ستغمر الجميع..
وبالطبع هذا كلام استعماري مخابراتي يعمل لحساب مصاصي دماء الشعوب وفى أكثر الأجهزة دموية وإجراما.. فلا يجوز أن نتوقف عند إصلاحاته وشعار التطهير الذي سيطرح في بلادنا وسيسجن وينكل، تحت شعاره، بكل الوطنيين.. ولا أدل على كذبه، من أن البلدين اللذين نالا بركة التغيير كانا أكثر بلدين العربي ديمقراطيي وتقدما ،واقلهما فسادا.. مصر وسوريا..
وأهم من ذلك أقدر بلدين على تحقيق الطفرة أو التغيير المنشود شعبيا ووطنيا، ومن أجل هذا كان التركيز عليهما..
5- حتى يتوافر الوقت للاستعمار الامريكى لخلق قواعد راسخة وطبقات متعاونة، ومصالح إستراتيجية متشابكة كتلك التي خلقها الإنجليز والفرنسيون في أكثر من قرن، فلم يكن أمامهم إلا أن يدفعوا بالأسلوب التآمري " قيادات من النوع المطلوب" للسلطة ويحدثون بهم التغيير المطلوب، سواء تصفية الحركة الوطنية، وتصفية القواعد والمصالح الأنجلو – فرنسية ، أو إرساء المصالح الأمريكية، وخلق قاعدة واسعة تتقبل هذه المصالح.. بينما لم يكن مسئول أمريكي يجرؤ على زيارة مصر أيام القيادات الفاسدة وضرب رئيس الولايات المتحدة " تيودور روزفلت" بالطماطم عندما زار مصر قبيل الحرب العالمية الأولى..

ويخرج المؤلف لسانه للمتطهرين الأمريكيين في الستينات الذين أبدوا ارتياعهم من تدخل الأجهزة الأمريكية في الشئون الداخلية للبلدان الأخرى، بعدما كشف أسرار الانقلابات التي دبرتها أمريكا، ومنها انقلاب سوريا وغيران ومصر .. يخرج لسانه، ويقول لهم:" طالعوا الوثائق الرسمية" فهي تثبت أن الحكومة هى التي طلبت منا ( أجهزتنا الدبلوماسية و المخابراتية) بالعمل على تغيير قيادات عدد معين من بلدان الشرق الأوسط.. فلماذا يتجاهل ذلك المؤرخون عندما يدينون أو يقيمون أعمالنا.. ؟ لقد نفذنا التعليمات.. وكيف كنا سنغير القيادة في بلد لا يخضع لحكمنا ولا سبيل لغزوه بالأسطول.. إلا بالتآمر السري والانقلاب أو الثورة؟..

وفى اجتماع مشترك لوزارة الخارجية ورئاسة الأركان الأمريكية بتاريخ 2 مايو 1951 جرى هذا الحوار الذي ننقله من الوثائق المنشورة لوزارة الخارجية الأمريكية.

جنرال كولينز ممثل وزارة الخارجية:" كل ما قلته اليوم يوحى إلى أنك تقترح علينا أن نستولي على الشرق الأوسط أو نتولى الأمر فيه.

مستر ماكجى: هذا يتوقف على ما تريد تحقيقه في المنطقة. إذا كانت لدينا القوى اللازمة، فقد يكون من المرغوب فيه أن نتولى الأمر، ولكنى فهمت أنه ليس لدينا القوى اللازمة.

جنرال فاندنبرج: إن هؤلاء الناس في الشرق الأوسط يفهمون منطق القوة أكثر منا، لقد كنا دائما نرفض استخدام سياسة القوة في علاقاتنا الخارجية، بينما هذه الدول معتادة على القوة. نحن نحاول أن ننفذ أغراضنا في الشرق الأوسط عن طريق الرشوة، وهذا سيؤدى إلى إفلاسنا وأكثر من هذا يحرمنا من استخدام القوة.

ربما يجب أن نستخدم العصا الغليظة ، ونستخدم قوتنا، وربما يجب أن نملى على هذه الدول ما يجب أن تفعله على الطراز العتيق أكثر مما نحققه باستخدام برامج المساعدات، بإرسال أسطولنا وتحليق قاذفاتنا سنحصل على تعاون أكبر وتكلفة أقل..".

جنرال برادلى: يجب أن نعترف أن الزمن تغير ولم يعد من الممكن استخدام القوة بالطريقة القديمة.

مستر ماثيو: نحن في عصر جديد لا يجعل استخدام القوة بالأسلوب القديم مجديا.

وهكذا أمكن إلجام الجنرالات ذوى الأدمغة الحديدية، وإفهامهم أن الاستيلاء سيتم، وباستخدام القوة ولكن بالأسلوب الحديث.. أسلوب " الكاراتيه" وهو فن استخدام قوة الخصم في قهره.. فلا حاجة لإرسال الجيش الامريكى لضرب الحكومة في شيلي، الجيش الشيلي بقليل من التآمر والرشوة والدعم، يقوم بالمهمة، بل وهو أجرأ على إراقة الدم، والفتك بالمعارضين ، وتحمى سلامة الأولاد الأمريكان، وتبقى أمريكا يدها بيضاء من دم الشعب الشيلي، بلا لا بأس من إظهار غضبها على الحكم الديكتاتوري في شيلي.. هذا هو الاستعمار الجديد..

ثمانون ألف عسكري بريطاني في مصر لم يستطيعوا إجبار الشعب المصري على قبول الدفاع المشترك عن تركيا ولا فصل السودان، ولا كان بوسعهم حل حزب الوفد، ومحاكمة وزير الداخلية الذي تآمر وهو في السلطة على نسف قناة السويس لإخراج الإنجليز من مصر.. ولكن ذلك كله تحقق على يد الجيش المصري ووسط هتاف الجماهير وباسم الثورة الخالدة؟ فمن خدم أمريكا أكثر.. الجنرالات المهروسون الذين كانوا يطالبون باستخدام الأسطول والطيران؟ أم رجال المخابرات الأمريكية الذين وضعوا النوع المطلوب في قمة السلطة المصرية؟

جاء في تقرير لنائب وزير خارجية الولايات المتحدة بعد جولة قام بها في الشرق الأوسط عام 1951 :" باستثناء إسرائيل فإن جميع الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط، هى أنظمة رجعية أو يمينية بالمقارنة بنظامنا".

فلا تملئوا الدنيا صياحا بكلمات رجعى ويميني وكأنكم اكتشفتم البارود أو اخترعتموه.. فهي من ملفات الاستعمار الامريكى، وكل غزوة استعمارية ، وصفت القوى الوطنية الحاكمة بالرجعية والتخلف والفساد لتبرر غزوها، والقضاء عليها.. وكل عملاء الاستعمار، كانوا يتحركون تحت شعارات التقدم واليسارية..

ويقول كوبلاند:" في محاضرة خلال برنامج مشترك لوزارة الخارجية والمخابرات جاء فيها " إن السياسيين في سوريا ولبنان والعراق ومصر، يبدو كأنهم انتخبوا للسلطة.. ولكن أية انتخابات ؟ الفائزون جميعا هم من مرشحي القوى الأجنبية وكبار ملاك الأرض الذين يحددون لمزارعيهم وفلاحيهم كيف يصوتون.

أو الأغنياء الأوغاد الذين يستطيعون شراء الأصوات _ حزب تابع للشرق.. الخ الاستعمار والإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم.. يخيل لك أنك في المعهد الاشتراكي وليس في دهاليز أكبر قوة امبريالية عرفها التاريخ). ولكن شعوب هذه البلاد أذكياء ولهم ميل طبيعي للسياسة. وإذا كان هناك جزء من العالم يصرخ طالبا الإجراءات الديمقراطية فهو العالم العربي".

ولكن مايلز كوبلاند ومجموعته، كما سنرى ، كان رأيهم أنه مع ضرورة التأكيد على رغبتهم في منح الديمقراطية للبلاد العربية إلا أن الشعوب العربية غير ناضجة لها.. ولابد من إجراءات جذرية تمهد لها، وسنرى ذلك يطبق حرفيا في برنامج وشعارات وممارسة كل الثورات الأمريكية النكهة في المنطقة.

" عندما تتعارض الأخلاق مع مصالحنا الحيوية، فإن الخسارة ستكون بالتأكيد من نصيب الأخلاق. بمعنى أننا لا نتردد في إزاحة القائد الذي نعتقد أننا سنخسر معه، وأن هذه الخسارة ستضر مصالحنا الوطنية، لنضع مكانه قائدا، تكون لدينا معه فرصة أكبر للتعاون.

وكانت وجهة نظر الأمريكيين – وإلى حد ما البريطانيين – أنه من بين كل نماذج القيادات التي يمكن أن تظهر في أفريقيا وآسيا، فإن النموذج الناصري هو الطراز الذي يتيح لنا أكبر فرصة لكسب لعبتنا، أو على الأقل، تقليل الخسائر.

فإحراز مكسب ضد احد من زعماء سوريا الدجالين، هو نصر أجوف، لأنه سرعان ما سيقلب، ويحل محله شخص أسوأ .

أما ناصر فهو الذي بوسعه أن يتحمل الخسارة، ويستطيع إلى حد ما أن يتلاءم مع نصرنا بحيث لا يصبح من الضرورة هزيمة له".

تماما كما حدث في هزيمتي سيناء 1956و 1967، وانتكاسة ثورة العراق، والانفصال ، وحرب اليمن " إنه يستطيع أن يتخذ قرارا غير شعبي نكسب منه نحن الاثنين ، بينما جماهيره تراه بمنظار آخر.. مثل عقد صلح مع إسرائيل ".

أو فتح خليج العقبة، أو تجميد الحدود عشر سنوات، أو قبول الدفاع المشترك أو فصل السودان.

وهكذا تحددت خريطة العمل السياسي الامريكى المطلوب في الشرق الأوسط: قبل الحكومات القائمة، وفرض حكومات جديدة تتفق والمواصفات المطلوبة..

وهى: زعيم يحكم حكما مطلقا وله من الشعبية ما يمكنه من فرض القرارات والإجراءات أو بمعنى أصح قبول طلبات الأمريكان التي يرفضها شعبه، والتي يعجز أي سياسي آخر في ظروف عادية عن طرحها على الشعب.

وهذا الزعيم على ضوء المعلومات والحقائق والتحاليل الواردة في كتال لعبة ألأمم صفاته هى:

1- " كنا بحاجة إلى زعيم عربي، يتمتع بسلطة في يديه أكبر مما أتيح لأي حاكم عربي قبله.. " سلطة اتخاذ قرار غير شرعي" ، كما اعتدنا أن نكرر، والقائد الوحيد الذي يمكن أن يستحوذ على هذه السلطة، هو قائد متعطش للسلطة، متطلع للسلطة من أجل السلطة.
لقد ذهب بعض موظفي الإدارة ( المخابرات الأمريكية) إلى ان نقطة الخطأ في حسنى الزعيم أنه كان مجنون سلطة، ولكن الدراسة العميقة أثبتت أنه على عكس ذلك لم يكن راغبا في السلطة كما يجب، أو كان راغبا فيها لأسباب خاطئة .
فقد كان يكفيه أننهب له واقفين إذا دخل ونناديه يا صاحب السعادة، لكي يقبل دور الدمية الأمريكية، نريد شخصا تعطشه للسلطة، أقل تفاهة، وكنا على قناعة أننا ما إن نساعد هذا الشخص على تولى المنصب، فيجب أن نتخلى عن أي حق أخلاقي في الجدل حول عقدة السلطة عنده، ولو أننا بالطبع يمكن أن نثير هذا الموضوع يوما ما لأسباب تكتيكية .
2- نحتاج لشخص ليس مثل حسنى الزعيم، بل على استعداد لاقتسام انتصاراته مع أتباعه، ولذلك كان علينا إلى جانب دراسة الزعيم المقترح، أن ندرس أيضا معاونيه، النخبة التي يرتكز عليها، بل والصف الثاني تحت النخبة والقاعدة في الصف الثالث، على أساس أن يبقوا جميعا حزمة واحدة مرتبطة بالمصالح المشتركة والأهداف".

وبدأوا يستعرضون الشرق الأوسط لاختيار المكان الذي يبدءون فيه لعبتهم، أي الانقلاب العسكري.

" قررنا أن نمشى قبل أن نجرى وان يكون تدخلنا في الشئون الداخلية لدولة مستقلة هو تدخل متواضع، وبتوافر أكبر مبرر، وبدون مساعدة أو حتى معرفة البريطانيين .. ولكن أين نحاول ذلك؟..

" مع الأتراك واليونانيين ؟ . لم يكن لنا معهم أي خلاف، كانوا يريدون ما نريد ولديهم قيادات مناسبة، على حد أن لعبتنا معهم كانت لعبة تعاون.

" مع الإيرانيين؟ كنا نؤيد قيادتهم أيضا.. كانت لعبتنا معهم 90% منها تعاون، في البداية على الأقل".

لاحظ أنه في تركيا واليونان كانت بريطانيا قد انسحبت من هناك وسلمتهما بيضة مقشرة، فلم تكن هناك معركة نفوذ ، بالإضافة إلى أنه لم تقم في البلدان حركة وطنية لعدم وجود استعمار، وإنما كان الخطر الماثل هو الخطر الشيوعي، أو السوفيتي.. وبالتالي كانت الطبقات الحاكمة في البلدين متجاوبة للغاية مع الدور الامريكى.

وإيران 1949 كانت مشكلتها مع الروس الذين كانوا يثيرون الشغب على الحدود وفي كردستان.. ولم تكن الحركة الوطنية قد بلورت بعد وحول مطلب محدد ضد شركة النفط البريطانية.

يكمل مايلز كوبلاند:

" إنها الدول العربية التي كنا معها على خلاف كامل، والسبب – في اعتقادنا- هو سوء قيادتهم، واعتقدنا أنهم تحت قيادة أكثر استنارة، وليس منا ، وكان الواجب عليهم أن يرحبوا بجهودنا في حمايتهم، وشركاتنا النفطية ستجعلهم أغنياء.
وسيكونون المستفيد الأول من تسوية سلمية للقضية الفلسطينية .

ومن ثم فإن رفض قيادتهم النظر للأمور بهذه النظرة، كان مبررا كافيا لدى مخططينا لكي نطيح بهم، أو بالأحرى تمكين شعوبهم من الإطاحة بهم. فإذا كانت القيادات الوطنية في أي جزء من العامل تشكل مبررا لتدخلنا في شئونها ، فإننا رأينا أنها هى هذه القيادات العربية".

قلنا إن الكتاب موجه للأمريكيين، رغم كل البراعة في التآمر، يمثل أكثر أجزاء الامبريالية الأمريكية تخلفا ورجعية ووحشية وعنصرية.. ولذا لا تعنينا مبرراته ، ونظرته الذئبية للمصالح التي ستعود على الدجاجة من وحدة المصير مع الثعلب.. المهم هو الواقع الذي سجله، وهو وجود خلاف بين القيادات في العالم العربي من ناحية ( 49- 1952) والولايات المتحدة والغرب عموما من الناحية الأخرى.

والأسباب التي يطرحها صحيحة تماما:

1- رفض هذه القيادات أن تتعامى عن العدوان الجاثم على أرضها وسيادتها ومصيرها منذ عشرات السنين ، وهو عدوان الاستعمار الغربي، والعدوان الوليد المتمثل في إسرائيل ، للجري وراء المشاريع الأمريكية الموجهة ضد الخطر السوفيتي المزعوم، ولذلك كانت هذه القيادات تنادى بالحياد، وفضت كل مشاريع الدفاع المشترك الموجهة ضد السوفييت، وارتفعت الأصوات تنادى بمعاهدة عدم اعتداء مع الاتحاد السوفيتي.
2- هذه القيادات لم تكن مستعدة لتقبل نتيجة حرب 1948 التي انتهت باغتيال وطن عربي، وتشريد شعب عربي وهزيمة مذلة لسبع دول عربية، أو إن شئنا لم تكن تستطيع أن تقنع شعوبها بقبول هذا الواقع الذي ساهم الغرب وبالذات الولايات المتحدة في تقريره.
والسياسة الأمريكية قد ارتبطت بوجود إسرائيل وحماية هذا الوجود ومن ثم فلا حل إلا ضرب العرب، ضرب قياداتهم الغبية التي لا ترى مزايا الحل السلمي.
3- العرب لديهم نظرة خاصة للنفط لا ترتاح إليها الشركات الأمريكية، السوريون يعارضون مد خط التابلاين في أرضهم، والمصريون والعراقيون والسعوديون، يتحدثون عن استغلال الشركات ويطالبون بوظائف أكثر للعرب، ويطلبون نصيبا أكبر في العائدات، وشروطا أفضل وطنيا لعقود الامتياز، فهناك تناقض أساسي وجذري لا يجبر بين مصالح الشعوب العربية ، ومصالح ومشروعات الأمريكيين في العامل العربي.

والعرب لديهم نوعان من القيادات:

- قيادات وطنية ثورية، واعية بذلك، رافضة له، راغبة في التغيير الحقيقي بإزالة الاستعمار وإسرائيل وامتلاك الثروة العربية.. وهذه القيادات من الطبيعي أن تستهدف السياسة الأمريكية قمعها واستئصالها. ومنع أية فرصة لاستمرارها في العمل السياسي، فضلا عن وصولها للسلطة.
- والنوع الثاني ، هو القيادة التقليدية الحاكمة فعلا، وهى قيادات محبة للأمريكان، مخلصة لهم، تمنحهم ثقتها الكاملة، معادية للسوفييت، شاكره جهود الشركات الأمريكية..

وهى حتى وإن كانت تكره اليهود، وتخاف من قيام وطن قومي لليهود، ورغم تعودها قبول الظلم الامبريالي، فهي تستفظع ما نزل بشعب فلسطين وتتحسب لما يمكن أن يحدث في بلادها، إلا أنها مستعدة للسكوت، كما سكتت وتسكت على استعمار وطنها هى.. ولكنها قيادات عاجزة عن فرض السكوت على شعبها، عاجزة أكثر عن القبول الرسمي لهذا الوضع، بل أحيانا تضطر للمزايدة على منافسيها، لترضية حقيقية، وإخفاء المشاكل الداخلية..

ومن ثم فالأوضاع في بلادها خطرة، تهدد إما بثورة حقيقية، تتسلم فيها القيادة قيادات النوع الأول كما حدث في الصين وفيتنام.. الخ أو ينهار الوضع وتظهر حالة فراغ محسوب العواقب والاحتمالات، أو على الأقل فإن هذه الأوضاع غير المنضبطة تشل القوى الراغبة في التعاون مع الأمريكيين، وتعطل المشاريع الأمريكية.

فهذه القوى ، وإن كانت تحكم المظلة الأمريكية، أو الغربية عموما إلا أنها بعجزها ، تخلق مناخا يهدد مصالح الولايات المتحدة، وتشكل عبئا على الولايات المتحدة بعجزها وتملقها للجماهير.. أو كما قال إيدن شامتا. . لقد سقطت القيادات السياسية التقليدية في مصر لأنها تنبت شعارات الجماهير.

وقد قال مايلز كوبلاند إنه عندما تتعارض المصالح والأخلاق، يلقى بالأخلاق في أول بالوعة، وإنهم لا يترددون في الإطاحة بالقائد الذي لا يسمح لهم أو لا يتحمل انتصارهم عليه.. وهكذا أطاحوا بشكري القوتلى والملك فاروق رغم صداقتهما للأمريكيين، بل استغلوا هذه الصداقة وهذه الثقة البلهاء من جانب الرئيس السوري والملك المصري في إحكام خطة الإطاحة بهما..

وكان الحل، هو الذي طبق في أمريكا اللاتينية عشرات المرات: ( كافري وحده بشهادة الناصري المجهول اشترك ودبر ثلاثين انقلابا) انقلاب عسكري يطيح بهذه القيادات العاجزة، ويأتي بقيادة لا تتعفف عن التعامل مع لأمريكان، ولا تتردد في ضرب وسحق القوى الوطنية المعارضة.

وهذا الأسلوب كان يتم في بعض البلدان في شكل حكومة عسكرية يمينية مفضوحة لا يهمها حتى ستر عمالتها، وآخر نماذجها هو حكومة " زاهدي" في إيران ثم حكومة العسكر في شيلي.

وهذا اللون مهما كانت استبداديته وبطشه، قصير العمر وأيضا محدود النفوذ ، ففي خارج دائرة بطشه البوليسية يكون مفضوحا منبوذا.

أما الصيغة الأكثر قدرة على الاستمرار والتي أتقن الأمريكيون صناعتها بعد تجربة سوريا فهي الصيغة الثورية، الانقلاب المدعوم، الذي يركب موجة ثورية موجودة فعلا لتصفية الثورة الحقيقية، يتبنى شعارات الجماهير ليستأصل المنادين المخلصين بها.. ويسب أمريكا كلما سنحت مناسبة، بينما يصفى كل الاتجاهات والتشكيلات والمؤسسات التي تشكل خطرا حقيقيا على المصالح الأمريكية والإستراتيجية الأمريكية.

وكما أن هذا الطراز أكثر نفعا وأطول عمرا، فهو أيضا أكثر تعقيدا وأفدح ثمنا، وغالبا ما ينقلب في النهاية على مبدعيه، كما حدث في قصة فرانكشتين، أو قصص ألف ليلة.. لأنه كما سنرى في تحديد مايلز كوبلاند، لابد أن يحكم مستندا إلى قوة قمع لها شعبية وبالتالي فهو يحتاج إلى تقديم وجبة يومية للجماهير، ليست مادية فحسب، وهو ما تتكفل به المعونات الاقتصادية، (منذ أزمة لبنان عام 1958 إلى 1966 قدمت أمريكا لمصر نصف مليار دولار _ دولارات الستينات) وهذه المساعدات تبرر للجماهير على أنها الجزية تدفعها أمريكا عن يد وهى صاغرة، خوفا من غضب الزعيم) وإنما يحتاج أيضا إلى وجبة روحية أو معنوية، إلى استمرار تغذية الالتهاب الثوري الديماجوجى للجماهير، استمرار اقتناع الجماهير بأنه المكافح الثوري- الوحيد- ضد الأعداء، حتى يقطع الطريق على ظهور قائد حقيقي، أو متعاون آخر منافس، وتنحصر الوكالة فيه..

ولأن من شروط قيامه واستمراره تجنب مقاتلة العدو الحقيقي، فلابد أن تركب أو يصنع هو طواحين الهواء التي ينتصر عليها باستمرار وسط تهليل الجماهير.. ويتساءل السذج المخلصون، لماذا يبعثر الجهد في المعارك الجانبية؟ لماذا لا تركز الجهود على العدو الواضح المعروف؟ .. لماذا هذا الخلاف وعدم الاتفاق؟ ولا يدرون أن هذا هو عين المطلوب.

ونظرة إلى تاريخ النظم الثورية في العالم العربي تجدها جميعا قد اتفقت على حقيقة واحدة، هى الإصرار على أن الطريق إلى فلسطين يمر عبر الرجاء الصالح أو طريق اللبانة في السموات، أو الثورة الاجتماعية أو الاشتراكية أو هزيمة الامبريالية العالمية وانتصار الثورة التحررية في كوستاريكا، أو قصور الرجعية.. الخ ،المهم أن الطريق إلى القدس لا يمكن أن يكون عند ثوار مايلز كوبلاند، عبر حدود إسرائيل .. أي الصدام المباشر مع إسرائيل .. هم باستمرار يحضرون للمعركة ولا يسمحون لإسرائيل بجرهم إليها..الخ..

فالشعار لا يتغير، وهو إزالة إسرائيل ، ولكن الدليل الماكر المتآمر يطوف بالجماهير في مجاهل الصحراء حتى يموتوا جوعا وعطشا ومللا وجنونا فيندفعون لأول كامب..

المهم أن الزعيم بحاجة إلى البقاء على أكتاف الجماهير، ومن ثم لابد أن يستمر في الصراخ ضد العدو، وهذا يدخل علاقته مع العدو- الصديق في دوامة، سرعان ما تفقد اللاعبة السيطرة عليها.. وعندها يتحتم التخلص منه..

والصورة – كما لخصها مايلز كوبلاند – أوضح قال:" كان المهرجان ضروريا لدفع الدول الكبرى لتقديم المساعدات، ولكن المساعدات مطلوبة أكثر لاستمرار المهرجان..

وأخيرا لم يكن استمرار المهرجان ممكنا" ..

وفى " أواخر 1966 قال صحفي امريكى كبير لدبلوماسي مصري.. نحن لم نعد نعتبر ناصرا ولا حتى ظاهرة مزعجة على الإطلاق".

فهو على المسرح ليحصل على المساعدات، وهو ينفق المساعدات لكي يبقى على المسرح حتى يصل إلى نقطة ترى الدولة الكبرى المعينة أن نفقاته اكبر من عائده.. فتعطيه علقة كما قال الرئيس جونسون للسفراء العرب وهو يخاطب كلبه بعد هزيمة 1967.

الفصل الرابع: حكاية أول زعيم..

" وأصبح ليكلاند ( مندوب المخابرات الأمريكية) صديقا للضباط ألأحرار من جماعة ناصر من خلال محمد حسنين هيكل.."
مايلز كوبلاند
مدير محطة الـ سى آى ايه بالقاهرة

نعود لقصة مايلز كوبلاند عن البحث عن بلد ينفذون فيها انقلابهم قال:" كانت العراق هى الاحتمال الأول.

لكونها دولة بوليسية ، تحكمها حكومة مكروهة من الشعب، وحيث من الممكن أن نرضى ضمائرنا بأننا لا نفعل أكثر من فتح الطريق أمام حكومة " شعبية" ( الأقواس من المؤلف الامريكى وواضح السخرية من أخلاقيات المنافقين الأمريكيين الذين يريدون استغلال الشعوب بأساليب شريفة أو نظيفة) ولكن العراق كان البلد الذي يستحيل فيه على فريق سياسي مدرب، فضلا عن جهاز ناشئ مثلنا، أن يهمس بدون علم البريطانيين.

" أما السعودية فلن تكن ناضجة بعد للديمقراطية (لقد حاولنا أن نجد صيغة أفضل للتعبير عند ذلك فلم نجد) .. لبنانالأردن- مصر – استبعدت كلها لأسباب أخرى وهكذا لم يبق أمامنا إلا سوريا".

ثم قصة طويلة مملة عن كيف حاولوا إقامة حكم شعبي ديمقراطي هناك عن طريق التدخل في الانتخابات اعتمادا على كافة الوسائل المتاحة من الإرساليات إلى رشوة سائقي التاكسي.. ومن شاء الرجوع إلى ذلك فهي في صفحة 45 وما بعدها وهى لا تعنينا لأنها خارج موضوعنا.

ويقول إنهم اقتنعوا بعبق محاولة الطريق الديمقراطي في التعبير ،وعكفوا على تدريب أنفسهم للعمل الحاسم.. أي الانقلاب العسكري واستغرق ذلك من 1947- 1948..

ويقول إنه " يقدم تجربة سوريا لأنها أصبحت نموذجا- يذكر دائما- للدعوة إلى الامتناع عن التدخل في شئون الدول المستقلة، وأيضا نموذجا يدرس لكيفية التدخل، وما الأخطاء التي يجب تجنبها في العمليات الأخرى.

وأخيرا لأنها توضح أهمية اختيار الشخص المرشح للعملية".

" في هذا الوقت كانت الإدارة الأمريكية تعتقد أن الفراغ الذي يتركه الانسحاب البريطانى، واتهامنا بتأييد الصهيونية يجعلان أقصى أمانينا هو تقليل الخسائر".

" كان الوزير المفوض في السفارة هو " جيمس مايكل كيلى" والمسئول السياسي " دين هينتون" وعمره 24 سنة، ورجل العملية في السفارة هو الماجور ستيفن مييد الذي سيعرف بعد ذلك باسم الكولونيل مييد.. أما مدير العمليات السرية فهو أنا".

" أرسلت إلى دمشق في سبتمبر 1947 بتعليمات لتنظيم الاتصالات غير رسمية مع الرئيس القوتلى والشخصيات البارزة في الحكومة السورية، لإقناعهم " بتحرير " النظام .

وقد نجحت في الجزء الأول من المهمة، وهو خلق علاقات شخصية مع الرئيس ومعظم المسئولين، وأنهم سيستمرون على " عماهم" في مواجهة الانفجار السياسي الخطير الذي كان يخيم على الأفق.

وقال " كيلى" ليس أمامنا إلا أحد خيارين، كلاهما غير مرغوب فيه، إما أن يقوم سياسيون انتهازيون بانقلاب دموي مدعوم من السوفييتـ أو يستولى الجيش السوري على الحكم بدعم منا، ويحفظ النظام إلى أن نتمكن من تنفيذ ثورة بيضاء .

وكان " كيلى" كارها للحل الثاني، ولكنه قال عنه على الأقل سيحقن الدماء.

ويقدم العناصر الواعية في المجتمع فرصة عادلة، ضد العناصر المشاغبة، وكانت العملية هى انقلاب حسنى الزعيم في 30 مارس 1949.

إذ قام " فريق عمل" بقيادة الماجور مييد بتنمية علاقة صداقة مع حسنى الزعيم الذي كان وقتها رئيس أركان الجيش السوري، واقترح عليه فكرة الانقلاب، ونصحوه بطريقة التنفيذ وأرشدوه خلال الترتيبات والإعداد للانقلاب.. كانت المساهمة في الحدود التي أثارت شك القيادات السياسية السورية وحدها، والتي استبعدت بعد ذلك( أي الشكوك) باعتبارها من الوسوسة السورية التقليدية.. كما جاء في تقارير الصحفيين الغربيين والطلبة الذين استجوبوا الأطراف المعنية، وفحصوا الوثائق فبالنسبة للعالم الخارجي كان الانقلاب عملية سورية كاملة، ولو أن المعنيين استنتجوا فيما بعد- وعن حق – أن "الزعيم" هو غلام أمريكا.."

" إن تفاصيل تنفيذ الانقلاب لاتهم موضوعنا ولكن هذه بعض الملاحظات:

" أبلغت وزارة الخارجية الأمريكية بالانقلاب القادم عندما أصبح احتمالا جديا.
وإذا كانت التفاصيل لم تبلغ لها، فلأن وزارة الخارجية هى التي قالت إنها تفضل أي تحاط بالتفاصيل .
كذلك تم " تجاهل تدخلات " جماعة الماجور مييد" الممهدة للانقلاب.

وكان رد وزارة الخارجية: إذا كان " الزعيم" يميل لتغيير الحكومة، فإن وزارة الخارجية لا ترى سببا لتثبيط همته، طالما تعتقد أنه سيعود للحياة البرلمانية متى أصبح ذلك ممكنا من الناحية العملية".

" ولكن الزعيم لم يكن ينوى ذلك، فقد أوضح لنا أن أهدافه هى:
1- وضع السياسيين الفاسدين في السجن.
2- إعادة تنظيم الحكومة على نحو أكثر فعالية.
3- إجراء الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية المطلوبة.
4- القيام بعمل بناء حول المشكلة العربية الإسرائيلية."

وكانت هذه النقطة ( إسرائيل) هى الكفيلة بإذابة أية معارضة ممكنة من وزارة الخارجية ( ألأمريكية).

وما دام الرجل قد اعترف لنا بأنهم يمارسون الخسة والكذب ويذبحون الأخلاق، فلا حاجة لإضاعة وقتنا في عرض مبرراته الديمقراطية، وتأكيداته بأن نيتهم كانت متجهة لإقامتها ولنحاول استيعاب ما قاله حتى الآن:

1- انقلاب حسنى الزعيم، أو أول انقلاب عسكري في العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية كان من تدبير وإعداد وتنفيذ المخابرات الأمريكية، أو مجموعة العمل الأمريكية في دمشق..
2- الانقلاب ولو أنه حصل مسبقا على مباركة وزارة الخارجية الأمريكية، إلا أن الوزارة رغبت في أن تبقى بعيدة عن التفاصيل، ومن ثم فعندما تصيح بعض الدجاجات عندنا فرحة، لأنها وجدت برقية صباح الانقلاب تخطر فيها السفارة وزارة الخارجية بالانقلاب،فتهتف: إن هذا دليل جهل الأمريكان بالموضوع فمن حقنا أن نبتسم في رثاء.
ذلك أن السلك الدبلوماسي الرسمي يحرص على تجنب التورط في عمل من هذا الشأن، من ناحية حفاظا على " شرف" الجهاز السياسي ولأن عددا من العاملين فيه، من الهواة، أصحاب القيم والمثل والمبادئ، مثل الفتى" دين هنتون" .
ومنعا لوجع الدماغ يبقى هؤلاء خارج اللعبة، ومن ناحية أخرى، أكثر عملية، هى تجنب الفضيحة والأزمة الدبلوماسية في حالة فشل الانقلاب.، وكشف الاتصالات.. ومن ثم لا نستبعد أن يكون السفير الامريكى في بلد معين هو الأقل علما بما يدبر ضد هذه الحكومة من مواطنيه وبعض موظفي سفارته.
وإن كنا في حالة مصر نعرف أن السفير كافري كان على علم ، ولعب دورا أساسيا، إلا أننا نستبعد اشتراكه مباشرة في الاجتماعات التحضيرية مع السادات.
3- وإن تكن أهم نقطة في عقد استخدام زعيم الانقلاب، هى وعده باتخاذ موقف " إيجابي" – من وجهة النظر الأمريكية- في الصراع العربي- الاسرائيلى.. إلا أننا سنجد جوهر البرنامج الأول الذي وضعته مجموعة شبه الهواة في أول تجربة انقلابية لها في العامل العربي، سنجده في كل البرامج القادمة في الحركات الأكثر إتقانا وحبكة .. محاربة الفساد.. اعتقال السياسيين بتهمة الإفساد.. الإصلاح الاجتماعي.. تنشيط أو زيادة كفاءة الجهاز الحكومي ..تأجيل الديمقراطية..

هذه هى القصة.

إلا أن رجل المخابرات الذي أقسم كاذبا في مقدمة الكتاب أنه لم يحجب سرا بسبب شرف المهنة.. يخفى هنا عدة عناصر أخرى شديدة الأهمية في الموضوع، فلم تكن رغبة أمريكا في قلب نظام الحكم السوري، ووضع رجلها في السلطة، لمجرد ضمان تهدئة أكثر الجبهات خطورة مع إسرائيل بحكم قربها وتحكمها في الأماكن الآهلة من إسرائيل ، وأيضا بحكم أن سوريا كانت البلد العربي الوحيد في دول المواجهة- ولم يكن التعبير قد ظهر بعد- التي لا تخضع مباشرة لقوات احتلال غربية تضمن سلوكها عند الضرورة القصوى، إلا أن الانقلاب كان مرغوبا فيه لسببين آخرين على الأقل:

1- خط التابلاين.. كانت بريطانيا تتمتع بامتياز خاص على شركات النفط الأمريكية العاملة في الشرق الأوسط، وهو تحكمها في طرق النفط إلى أوربا الغربية، السوق الوحيدة وقتها لهذا النفط ، لأن أمريكا لم تكن تستورده، واليابان لم تكن قد أصبحت عملاقا صناعيا بعد، وكانت تعتمد على نفط الشرق الأقصى والنفط الامريكى.. كانت بريطانيا تسيطر على قناة السويس، طريق ناقلات النفط القادمة من الكويت والسعودية والخليج..

كما كانت تسيطر على خط النفط الوحيد الذي يصب على البحر الأبيض.. أو خط آى بى سى.. وكان من الطبيعي أن تفكر شركات النفط الأمريكية ( أرامكو) في مد خط ينقل النفط السعودي إلى البحر الأبيض،دون المرور في قناة السويس، وذلك عبر سوريا.. واستمات الإنجليز في منع ذلك ،مستغلين عداء الجماهير للولايات المتحدة لموقفها من إسرائيل والحساسية التاريخية لدى الشعوب العربية إزاء الامتيازات الأجنبية وخاصة المرتبطة بدولة كبرى، وأيضا استفادوا من استمتاع السياسيين السوريين بابتزاز السعودية والعراق..بالإقرار " المبدئي" للاتفاق، ثم إلغاء الإقرار والقبض من هنا وهناك..

ولتنشيط ذاكرة المخابراتى كوبلاند، المدربة على نسيان " القبائح" ننقل له هذا النص الناطق من تقرير " العلاقات الدولية للولايات المتحدة" من عام 1949 والصادرة من وزارة الخارجية الأمريكية صفحة 109 حرفيا:

" أبلغت دمشق في 14 فبراير أن الاتفاقية الخاصة بامتياز شركة التابلاين قد أقرتها الوزارة السورية في الأسبوع الماضي، وقيل إن الرئيس شكري القوتلى أبلغ الوزير المفوض ( الامريكى) كيلي أنه مطمئن لإقرار البرلمان للاتفاقية، وأن هذا الإجراء ضروري كخطوة أولى نحو التعاون الاقتصادي والسياسي المطلوب مع الغرب ( برقية 69، 890 د 6363/ 1449) ولكن اعتراضات شتى ثارت بعد ذلك بين الحكومة السورية والتابلاين وقامت مظاهرات معادية للتابلاين من الطلبة، وعلى ذلك قررت الحكومة السورية تأجيل طلب موافقة البرلمان على الاتفاقية ( برقية 4/11 مارس 8 الساعة 2 بعد الظهر من دمشق- 890د / 3- 849) تم قلب الحكومة السورية في 30 مارس بانقلاب قاده الكولونيل حسنى الزعيم وللمعلومات الإضافية انظر هامش صفحة 1630 .

حكومة حسنى الزعيم أقرت اتفاقية التابلاين وصدقت عليها بمرسوم تشريعي رقم 74 في 16 مايو( برقية رقم 284/17 مايو الساعة 8 مساء من دمشق 890 د – 6363/ 5-1749( . وفى مذكرة داخلية لوزارة الخارجية الأمريكية بعنوان التطورات الاقتصادية الجارية. جاء فيها : إن تصديق سوريا على اتفاقية التابلاين، أزال آخر عقبة كبرى في طريق تشييد الخط المتعاقد عليه من زمن طويل.. والمشروع الآن ينتظر أن يكمل في عام 1950 متأخرا سنة عن الوقت الذي كان محددا له، وقد تأخر إقرار الاتفاقية من جانب السوريين عدة شهور من ناحية لعدم رضاهم عن موقف الولايات المتحدة من فلسطين.

" وعندما يتم الخط فستكون طاقته ما بين 300 ألف – 450 ألف ب/ ى وسيمتد مسافة 1100 ميل من السعودية إلى البحر الأبيض في ميناء صيدا بلبنان" ويشير التقرير أيضا إلى شركة أخرى " شركة خطوط الشرق الأوسط" " مبيكو" تقدمت بمشروع خط أنابيب ينقل نفط إيران والكويت إلى البحر الأبيض عند طرسوس ليباع لشركة ستاندرد أويل وشركة نيوجرسى وسوكونى فاكوم.. " وقد تعثرت المفاوضات تماما كما حدث مع التابلاين مع الحكومات السورية، إلى أن جاء إلى الحكم الكولونيل حسنى، فوقع الاتفاقية في يونيه مع ميبكو".. ( الزعيم يوقع على كله ولكن المشروع قتلته العراق.. انصر ص 110).

خط التابلاين معطل، والحكومة السورية تساوم، والبرلمان لا يصدق، والمظاهرات المعادية في الشوارع.. والحل بسيط جدا.

وضع الحكومة في السجن جزاء وفاقا على معاكستها ، وحل البرلمان وتحريم الاشتغال بالسياسة على أعضائه بقانون العزل السياسي على الذين " أفسدوا.. " وتمنع المظاهرات ويسجن الطلبة.. ويوقع " الزعيم" الاتفاقية، أو بمعنى أصح يبصم على القرار الذي كتبه له المدربون الأمريكان، وبما ،ه هو السلطة التشريعية والتنفيذية معا بلا فصل سلطات، بلا وجع دماغ ، فهو يصدق على نفسه.

العنصر الثاني الذي أغفله المخابراتى ، هو الخوف من اتحاد سوريا والعراق لأن ذلك لو تم فسيضع من هذا الموضوع ، وهو المعارضة التامة، ومن يتتبع تاريخ الانقلابات السورية الأولى، يمكن أن يحدد أمريكية الانقلاب أو بريطانيته من معارضته أو تأييده للوحدة مع العراق( انظر الصفحات من 1630 وما بعدها في التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية عن عام 1949).

أما عن إسرائيل .. فقد بدأ الأمريكان بتنفيذ البند الخاص بها في العقد الذي أبرموه مع " حسنى الزعيم " .

وجاء في تقرير لمندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة بتاريخ مبكر جدا 12 مايو 1949"إن المفاوضات جارية بنجاح مع السوريين وبانش ( رالف بانش) مقتنع بإمكانية موافقتهم على الخطة كل المشكلة هى رغبة الزعيم في إجراء ما، يحفظ ماء وجهه.. مثل انسحاب اسرائيلى أو تخفيض واضح للقوات".

وفيما يلي بعض الوثائق التي تلقى الضوء على موقف " الزعيم" من المشكلة الفلسطينية:

" من وزير الخارجية الأمريكية إلى المفوضية في سوريا.

واشنطن 13 مايو 1949.
سرى

212 برقيتكم 256 في 28 أبريل و 261 في 2 مايو.

لاحظنا باهتمام التقدم الذي أبلغت عنه حول موقف " الزعيم" من توطين اللاجئين العرب.

وهذا أول دليل واضح على رغبة السوريين في قبول عدد كبير من اللاجئين وخاصة أن سوريا هى البلد العربي الوحيد باستثناء الأردن التي يمكنها أن تتمثل مثل هذا العدد في وقت معقول.

وإذا أمكن استثمار هذه الفرصة فسيمكننا كسر ظهر مشكلة اللاجئين.

يجب أن تنتهز أول فرصة لبحث الأمر مع الزعيم مع التأكيد اللازم على أن رغبته في قبول ربع مليون لاجئ تعتبرها الوزارة مساهمة إنسانية، وسلوك رجل دولة لحل تلك المشكلة.

وعبر عن ألأمل في أن يستخدم الزعيم نفوذه لدى الدول العربية الأخرى لاتخاذ مواقف بناءه مماثلة في حدود قدراتهم للمساعدة على تصفية المشكلة تصفية نهائية".

" من الوزير المفوض في سوريا " كيلي" إلى وزير الخارجية

دمشق 19 1949
سرى

..." مع اقتناعي برغبة الزعيم في إعطاء تنازلات سخية، في القضايا الأخرى مثل اللاجئين وتدويل القدس والحدود إلا أن الزعيم لا يمكن أن يسلم كل شيء بلا مقابل ، وهو الموقف الذي تطلبه إسرائيل فيما يبدو.. لأنه لو فعل ذلك فقد يكلفه هذا منصبه ويزيل أفضل أمل حتى الآن في قبول سوريا إجراء تنازلات لتحقيق تسوية للمشكلة الفلسطينية".

" وبخصوص مشكلة اللاجئين يجب أن يكون مفهوما أن تعبير الزعيم عن رغبته في قبول ربع مليون لاجئ كان مشروطا بتسوية عامة للسلام.

وكل الذين ناقشوا مع الزعيم تأثروا بإخلاصه وجديته وسعة أفقه بالنسبة لإسرائيل.

( وفرق شاسع من الموقف العنيد الحرون للحكومات السورية السابقة) ولكن حماسه يبرد في وجه الأدلة المتزايدة على شراهة إسرائيل. وهكذا إذا كان الزعيم يحاول على الأقل أن يرتقى إلى مصاف كمال أتاتورك ويستجيب للنفوذ المعتدل، فإنه لسوء الحظ تتزايد الأدلة على أن بن جوريون ليس " فينزيلوس" .

على أية حال يجب أن تفهم إسرائيل أنها لا تستطيع أن ـاخذ الكعكة كلها ( حدود التقسيم والمناطق التي استولت عليها بخرق الهدنة، القدس ، توطين اللاجئين العرب) ربما ستجد نفسها قد كسبت فلسطين وخسرت السلام.( لقد تطوع حسنى الزعيم بإبداء استعداده للاجتماع مع بن جوريون".

" وإذا ما تأكد للعرب أن إسرائيل مستمرة في سياسة رطل اللحم كاملا وزيادة، فإن هذه سيدفعهم ببطء ولكن بتصميم إلى صلب عودهم وتجميع جهدهم سياسيا واقتصاديا على الأقل إن لم يكن عسكريا الآن- من أجل صراع كويل المدى ، وإذا ما استفادوا من أخطاء الماضي، فإن وشع إسرائيل سيغدو أصعب بكثير، مما لو اغتنم ساسة إسرائيل من بعاد النظر، الفرصة السانحة الآن للتفاوض على تسوية بشروط معقولة، إسرائيل ومؤيدوها في الأمم المتحدة سيعاونون أكثر من الدول العربية إذا ما استمر الموقف الجامد حاليا".

مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة ( أوستين) إلى وزير الخارجية ( الأمريكية) .

نيويورك 23مايو 1949
سرى

" قال بانش إنه يريد عقد اجتماع بين بن جوريون والزعيم، فهو يعتقد أنه لم تعد هناك أهمية تذكر لاجتماعات الممثلين الإسرائيليين والسوريين الحاليين.

" ولكن بانش كرر أن حسنى الزعيم يجب أن يحصل على مقابل من إسرائيل بسبب وضعه الداخلي، كما أبلغ بانش شاريت، أن الإسرائيليين يجب ألا يتوقعوا انسحابا سوريا إلا إذا كانوا مستعدين لعمل بعض التنازلات " أوستين".

جاء في برقية الوزير المفوض من دمشق أن حسنى الزعيم أمر الوفد السوري في مفاوضات الهدنة بإبداء المزيد من التساهل حيث أنه جد قلق للوصول إلى حالة تعايش سلمى مع إسرائيل في اقرب وقت ممكن.

وقد حذر مستر كيلى الوزير المفوض أن حالة الجمود الحالية يمكن أن تستمر ما لم توجد وسائل يمكن بها استعادة ثقة السوريين في قدرة الأمم المتحدة على ضبط إسرائيل ، وبدون ذلك فإن الحكومة السورية ستكون نافرة- وهذا مفهوم- من إعطاء تنازلات يكون لها ردود فعل سيئة في الداخل عليها. إلا أنها ضرورية للوصل لاتفاق مع إسرائيل " .

( برقية 327- 16 يونيه من دمشق 767ن. 90د/ 6/ 1649).

نشطت الجهود الأمريكية، ونمت أحلام عقد سلام بين سوريا وإسرائيل وكان للموظفين الصغار في وزارة الخارجية الأمريكية عذرهم في هذه الأحلام، فلأول مرة يتوافر لهم " حاكم عربي" هم وضعوه في السلطة ومن ثم مستجيب إل أقصى حد مكن لأوامرهم بشأن هذا السلام، وكان هؤلاء الموظفون يعرفون أو يظنون أنهم يعرفون سيطرة أمريكا على الإسرائيليين. ومن ثم حاولوا الإسراع في عقد السلام، وهو ما لا تريده إسرائيل التي حاولت أن تثبط جهودهم بالتعنت فلما أصروا قامت باحتلال المناطق المنزوعة السلاح في القدس. وسيذكرنا هذا باعتداءات 1954 و1955 التي تمت في ظروف مشابهة تماما، ولا العرب يتعلمون ولا الأمريكان يكفون عن خداع العرب، وخداع شعبهم.

وكتب كيلى المسكين : ( ولاحظ الفرق بين لهجة الدبلوماسيين الأمريكان وقتها، وتحيزهم الفاضح لإسرائيل الآن).

" وكما هى العادة في غطرستهم الغبية، فإن العدوان الاسرائيلى الأخير لم يدمر مفاوضات الهدنة السورية- الإسرائيلية فحسب، بل نفخ في كل الأبواق العربية، ولما كان هذا رأى الزعيم فأنا لا أرى معنى لتسليمه رسالة وزارة الخارجية ن ولا في حثه على قبول مقترحات بانش، حتى توجد الوسائل التي تجبر إسرائيل على احترام تعهداتها وسلطات الأمم المتحدة . إن الضغط على سوريا في مواجهة احتلال إسرائيل لدار الحكومة في القدس سيبدو للسوريين كدليل جديد على تهمة تحيزنا لإسرائيل ، ويضعف النفوذ الذي ما زال لنا".

وقد تدخلت الحكومة الأمريكية وسحبت إسرائيل قواتها من دار الحكومة، وعادت وزارة الخارجية تأمر كيلي بإجبار حسنى الزعيم على قبول مقترحات بانش . وقد كان.

وبقية الوثائق تكشف تهالك الزعيم على عقد تسوية مع إسرائيل ، وصراخ الدبلوماسيين الأمريكيين في دمشق، مطالبين حكومتهم ببذل جهد لإقناع الإسرائيليين بقول بعض التنازلات الشكلية ليمكن عقد هذه التسوية.. ورفض إسرائيل القاطع لأي تناول، بل لاى تنازل شكلي يمكن فعلا من عقد هذه التسوية، ويستطيع القارئ إذا راجع الوثائق المنشورة في فصول " إسرائيل " و" سوريا" في التقرير المذكور ( يقع في 1852 صفحة مطبعة) أن يستنتج رغبة إسرائيل في منع التسوية أو الصلح مع سوريا وليس فقط رغبتها في الاحتفاظ بما لديها، وهو أمر قد يبدو غير مفهوم في عام 1949 ولكنه مفهوم الآن. فإسرائيل لها أهداف في صميم الأرض السورية، وعقد صلح وقيام سلام عام 1949 يعطل تحقيق هذه الأهداف.

وهذا أيضا يفسر لماذا فشلت النوايا السلامية لنظام يوليو فليس عن صلابته بل تصلب إسرائيل .

من الوزير المفوض بدمشق إلى وزير الخارجية

دمشق 14 يوليو 1949
سرى

" إن إخلاص الزعيم للسلام لا مجال للشك فيه، ولو لمجرد أنه يعرف أن مشاكل فلسطين تعترض طريق أحلامه.

وإذا كانت المفوضية هنا( دمشق) تشارك الاعتقاد بأنه لا يستطيع أن يتحدى مشاعر الشعب السوري فيما سيعتبر استسلاما بلا مبرر لأطماع إسرائيل ، إلا أنه حساس جدا من فكرة أنه يقاد بمبادرة ودية من الولايات المتحدة، ليس فقط لتوطين اللاجئين بل والتنازل في الخلافات الأخرى مع إسرائيل .

وفى رأى المفوضية أنه من مصلحة السلام في الشرق الأوسط الاستفادة من تعاون الزعيم..الخ".

رفضت إسرائيل بحث أي مشكلة أو تسوية، وألحت على الاجتماع المباشر بين الإسرائيليين وحسنى الزعيم وفى لوزان، وبالطبع لم يكن أمام الإدارة الأمريكية إلا الضغط على الجانب اللين .

فألحت على عقد اللقاء وحل الجيش السوري المشكل بإعدام حسنى الزعيم في 14 أغسطس 1949..

فيكون قد قضى في السلطة مائة وخمسة أيام، أنجز فيها للأمريكان اتفاقية التابلاين، قبول توطين اللاجئين ، الأمل في فرض تسوية سلمية إذا ما توافر حاكم مطيع مثله، شرط أن يكون في بلد أقوى تأثيران وأن يستمر في الحكم فترة أطول.ز وتعلم فيه الأمريكيون فن قلب النظم العربية..

نسمع الآن قصة الانقلاب السوري من أحد صناعة، مايلز كوبلاند..

سجل " هينتون" الضابط السياسي في السفارة، وأصغرهم سنا، وأكثرهم على ما يبدو اقتناعا بالشعارات الأمريكية المعلنة خلال الحرب العالمية، والتي لم تكن قد جفت بعد في ذاكرة الشباب المثالي، بل وربما أكثرهم حكمة، إذ سجل اعتراضه على الانقلاب قائلا بنص شهادة كوبلاند: " أريد أن أسجل للتاريخ، قولي بأن هذه هى أغبى وأقل الأفعال تقديرا للمسئولية يمكن أن تصدر ن بعثة دبلوماسية مثلنا، لقد بدأنا اليوم سلسلة من هذا النوع لن تنتهي أبدا .

وقد أرسل تقريرا بالطبع إلى وزارة الخارجية، يقبع الآن تحت أكوام من التراب وإن كانت نبؤته قد تحققت".

المهم أن وزارة الخارجية بنفاق الثعالب الذي تعودناه من الحضارة البيضاء تمنعت حوالي شهر عن الاعتراف بالانقلاب " لأن خبرتنا المريرة مع الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية.. الخ".

وإشفاقا على الديمقراطية، وأيضا لكي لا ينكشف الملعوب إذا ما اندفعت للاعتراف.. وبعد ثلاثين سنة ما زالت أوراق الخارجية ألأمريكية المنشورة بيضاء الساحة، ترفض الاعتراف بدورهم في الانقلاب.. وما جره على سوريا من دماء لم تجف ولن تجف أبا ما لم يقطع دابر التفكير السلطوي في الجيش والضباط المغامرين.

قال كوبلاند:

" اعتقدنا في المفوضية الأمريكية أننا فتحنا بابا للسلام والتقدم، فقد كانت استجابة الزعيم " لاقتراحاتنا الودية" ( أقوال المؤلف) قبل الانقلاب إيجابية إلى درجة لم يخطر معها ببالنا، أن الأشياء ستتغير فيما بعد ، وقد استمر الحال كذلك إلى أن وصل الاعتراف الرسمي من حكومتنا وقد يبدو مثيرا أن أقول إن المارجو مييد ، قضى اليوم الثاني للانقلاب في تعريف الزعيم: من يجب أن يكون سفيره في لندن ومن من الضباط يجب وضعه في مناصب دبلوماسية وما الغذاء الذي يجب أن يقدم للرئيس القوتلى في السجن لكي لا تتهيج قرحته.
ولكن فور الاعتراف انقلب الزعيم إلى رجل آخر وبدأ ذلك بأن أبلغني أنا ومييد بضرورة أن نهب واقفين إذا ما دخل علينا، وألا نخاطبه بلفظة أنت – وهو أي الزعيم لا يعرف إلا الفرنسية- بل بضمير أنتم أو نقتصر على " سعادتك" .
وباستثناء هذه الرسميات استمرت العلاقة ودية إلى نهاية عهده ولكن يوما بعد يوم كان يتضح أكثر وأكثر أننا أخطأنا في نقطة ما، وأنه لابد أن نفكر في البديل في حالة سقوط الزعيم، الأمر الذي أصبح مؤكدا".
تصرف المبتدئون الأمريكان مع حسنى الزعيم تصرف رجال المافيا مع " البرافان" الذي يضعونه في مواجهة شركاتهم، أو مع رئيس جمهورية الموز الذي تعينه الشركة الأمريكية من خلال انقلاب عسكري.
المدرب الامريكى يعطيه التعليمات ابتداء من ترشيح السفراء واعتقال الضباط إلى قائمة طعام سجن المزة.
وكنا رأينا لم يقتصر الحديث على الكبة النية وحدها، فليس بالخبز وحده يحيا الأمريكان، حدثوه عن إسرائيل واستجاب، وعن التابلاين ووقع وصدق، ونفهم من سياق القصة، أنهم كانوا يجلسون وقد مدوا أقدامهم على الطريقة الأمريكية ورئيس جمهورية سوريا وزعيم انقلابها وديكتاتورها ومعتقل زعمائها، وخالب لب الغوغاء والمغفلين من الشباب العربي، لأنه ثأر لهم من الخيانة، ورفع كرامة الجيش السوري ..الخ. .
هذا الزعيم يدخل فلا يتحرك المدرب الامريكى ولا يكلف نفسه الوقوف لرئيس جمهورية أو رئيس وزراء سوريا، بل لعله كان يضع حذاءه في وجهه، كما كان المندوب البريطانى يفعل مع فيصل الأول ملك العراق. ولكن كان على الأمريكان أن يتعلموا أن الكرسي له ثقله، وأن سويا في 1947 غير العراق في 1920- ولذلك ثارت كرامة " الزعيم" وطالبهم على الأقل بالوقوف عندما يدخل عليهم ليوقع اتفاقية التابلاين أو ضم لبنان ، أو اعتقال السياسيين الفاسدين مطايا الاستعمار.. وثارت حمية الضباط لكرامة الجيش والدولة مع قليل من المنشطات البريطانية، فقتلوا الزعيم وجاء الحناوى انجليزيا لينقلب عليه الشيشلكى..الخ..

ومن 1949 على 1952 سيتعلم الأمريكان الكثير وسيصبحون أكثر ذوقا في معاملة الرؤساء ولا شك أن مصر غير سوريا، وجمال عبد الناصر لا يمكن قياسه بحسنى الزعيم .. ولكن ستمر بنا لحظات ومشاهد في الرواية المصرية، تجعلنا نتساءل.. أين رأينا هذا المشهد من قبل؟ من يشبه هذا البطل. نعم سنرى ملامح تلك العلاقة بين المدرب الامريكى و" الزعيم" .. رفع التكليف .. إعطاء النصائح في صيغة المدرس أو المربى .. الشخط أحيانا.. بما لا يتفق والعلاقات الدبلوماسية العادية..

يكفى أن نتذكر أن ؟ زعيما" عربيا ثوريا جاء بهذه الطريقة وعوامل بهذه الطريقة.. ولكنه فشل في أن يستمر في الحكم لأسباب عديدة شديدة التعقيد ن أولها سوريا ذاتها، وآخرها أنه لم يكن له تنظيم في الجيش السوري..

بقية قصة الزعيم معروفة:" أحاط بمنزله عدد من الضباط يتقدمهم واحد اسمه الحناوى ولكن القائد الحقيقي كان أديب الشيشلكى ، وقتلوا حسنى الزعيم ودفنوه في المقبرة الفرنسية".

وأخبرني الشيشلكى فيما بعد: " لقد أسدينا لكم معروفا بدفنه كعميل فرنسي".

استمرت الجماهير السورية تهتف لسنوات طويلة:" بدنا نحكى ع المكشوف" وهم لا يدرون أن زعمائهم الثوريين يمارسون ذلك منذ وقت مبكر جدا ولكن .. مع الأمريكان.

الدروس التي استفادتها المخابرات الأمريكية من تجربة سوريا هى :

1- المشكلة ليست في تغيير الحكومة بل في ضمان استمرار هذا التغيير إلى نهاية الطريق. أصبح المطلوب سلطة قادرة على الاستمرار.
2- الوضع الأمثل هو الارتباط بتنظيم انقلابي موجود فعلا، له تشكيلاته وله عناصره المخلصة، وله قوة دفعه، وتصميمه على الاستيلاء على السلطة، لأن الصفقة مع قائد جيش بمفرده انتهت بمقتله وحيدا..
3- عدم التسرع في فرض تسوية للقضية الفلسطينية فقد عرفت الأجهزة الأمريكية حقيقتين :
ألأولى: هى أن حكومتها غير راغبة أو غير قادرة على الضغط على إسرائيل .
والثانية: هى أن إسرائيل لا تريد تسوية سلمية .. ومن ثم فلا داعي لحرق القيادة " الصالحة" بالإصرار على دفعها في طريق الاستسلام لإسرائيل أو الصلح مع إسرائيل ، يكفى منع الحرب مع إسرائيل ، وإزاحة القضية الفلسطينية من برنامج العمل، وإلى برنامج الشعارات.. ومع التبريد والحديث عن السلام ينفتح الطريق للتسوية.

وهنا يقول مايلز كوبلاند: " ولو أننا لم نحب ذلك كثيرا، غلا أنه كان لابد لنا من أن نعترف بأنه ما من قائد بوسعه أن يوقد شعبا عربيا إلا إذا كان هناك خوف عام يؤثر على هذا الشعب.

فالمصريون توالت عليهم قيادات خلال عدة قرون أجنبية وفاسدة.

ولذا فكل القيادات – في نظرهم- مريبة ومشبوهة.

وكان قادة العالم العربي يستخدمون الخوف من إسرائيل لتحقيق مستوى من الوحدة الوطنية، ورأينا أنه ما من سبيل لتجنيب استخدام نفس الوسائل في مصرن على أساس أن الخطر ضئيل في أن تتطور الأمور على نحو يخرجها من يدنا، نظرا للهزيمة الفادحة التي تلقاها الجيش المصري على يد الإسرائيليين في حرب 1948 فضلا عن أنه لم تكن هناك فرصة كبيرة للنجاح في إبراز قائد لا يستخدم القضية العربية – الإسرائيلية".

هذه نقطة على قدر بالغ من الأهمية ، بل هى مفتاح فهم كل ما جرى ويجرى حولنا في المنطقة.

للأسباب التي ذكرناها ، تخلى الأمريكيون عن محاولة فرض الصلح العرب- الاسرائيلى.. وهذا يعنى استمرار " القضية" ولذا قرروا استثمار ذلك، فلكي تستمر زعامة القائد الذي سيمنع المعركة مع إسرائيل ، لا بأس بل من الضروري أن يتحدث ليل نهار عن المعركة، ويسحق أية معارضة تحت شعار:" لا صوت يعلو على صوت المعركة.." وبهذا يتجنب المعركة ويبقى شعبه صابرا متحملا في سبيل المعركة .. " تخطيء إطلاقا فخلال المدة من 1952 إلى 1967 لم تتطور الأمور أبدا على نحو " يخرجها م أيديهم" فلم تقم مصر بأي هجوم على إسرائيل ، وإنما كانت الحروب كلها من ناحية إسرائيل .. وهذا ما لا سيطرة للأمريكان عليه، أو بالأحرى لا خطر فيه على الأمريكان..

يقول تحت عنوان" " البحث عن قائد حقيقي في مصر 1951- 1952"

وكتب تحتها: " ابحث عن لاعب حقيقي وليس مخلب قط"

هذا عنوان الفصل الذي يتحدث فيه عن عمليتهم في مصر هكذا بوضوح وصراحة.. ولكن البعض لا يؤمن حتى يدخل الأصبع في جرحهم هم.

يقول :

" الكثير من موظفي الخارجية الأمريكية، كانوا ما زالوا على اعتقادهم بأن الانتخابات الحرة يمكن أن تأتى بقيادات صالحة، حتى في العالم الأكثر فسادا في كل الشرق الأوسط، ولكن " دين اتشيسون" وزير الخارجية نفسه، لم يكن متأكدا من ذلك، فرغم أنه في العلن كان يتحدث بالأسلوب الدبلوماسي التقليدي، إلا أنه في السر كان يؤمن بأن استخدام وسائل غير تقليدية لمساعدة القوى الطبيعية، مسألة تستحق التجربة ، وعليه استعار من المخابرات المركزية الحديثة التشكيل وقتها، كيرميت روزفلت ، لرئاسة لجنة سرية عالية المستوى من المتخصصين بعضهم من وزارة الخارجية وبعضهم من وزارة الدفاع، والبعض جيء بهم كمستشاريه من رجال الأعمال المعنيين، ومن الجامعات، ولا أحد من المخابرات إلا " كيرميت روزفلت" ومهمة اللجنة دراسة العالم العربي، وبالذات الخلاف العربي- الاسرائيلى لتحديد المشاكل وتحديد الأولويات ووضع الحلول .. أي حلول، سواء اتفقت أو تعارضت مع قواعد السلوك المفترض للحكومات.
وخلال شهر أو أكثر طرحت عدة أفكار، كلها غير تقليدية ، البعض اقترح فكرة إبراز زعيم إسلامي لتعبئة حركة دينية ضد الشيوعية، ومضى إلى حد اختيار زعيم ديني عراقي لإرساله في رحلة في العالم العربي، والفكرة في حد ذاتها لم تسبب أضرارا، وتنفيذها علم اللجنة الكثير..".

" في مطلع 1952 أعدت لجنة الخبراء تقرير حال كاملا عن لعبة ألأمم في الشرق الأوسط، وأصبحنا مستعدين لعملية كبيرة.

وكان الضغط الدولي كبيرا بحيث رأينا أنه لا يمكن تأجيل العمل أكثر من ذلك".

" وفى النهاية استقر رأينا على أن مصر هى نقطة الانطلاق.

فقد كانت مصر بلدا تستحق الأولوية في حد ذاتها ولنفوذها على الدول العربية الأخرى مما يجعل أي تحول فيها للأحسن ( الأحسن من وجهة نظرهم هو عين السوء لنا) سيكون له صداه في العالم العربي.

" وكان في رأينا أن العملية ليست أكثر من زفة ليس فقط لطبيعة الأهالي وسياساتهم بل لأنه كان لنا بعض المدبرين الذين ثبتت خبرتهم، ولهم معرفة جيدة بالبلد بما فيهم كيرميت روزفلت نفسه."

نحب أن نشير هنا إلى نقطة أشار كوبلاند وهى قوله إن رئيس المخابرات الأمريكية في مصر كان يتمتع بعطاء عنصري وفسر ذلك بأنه يعنى أن الشكل وجواز السفر واللغة تمكن ضابط المخابرات من الاختلاط بالمحيط العام.

وهذا يعنى أنه كان مصريا أو على الأقل من جنسية شديدة التشابه مع المصريين.. ونحن نرجح الفرض الأول، ونعتقد أنه أحد السماء التي لمعت جدا في عهد عبد الناصر... وخاصة أنه قال في موضع آخر إن هذا الشخص كان أيضا رجل عبد الناصر مما يحصر شكوكنا في ثلاثة أشخاص.

" وكانت مهمة روزفلت بالتحديد عندما جاء للقاهرة يبحث عن الزعيم المنشود، هى أن يحاول أولا تنظيم ثورة بيضاء يكون فيها الملك فاروق نفسه مشرفا على تصفية النظام القديم واستبدال الجديد به، وبذلك تجهض القوى الثورية التي كان عملاء المخابرات الأمريكية قد اكتشفوها قبل سنتين والتي كانت التقارير تؤكد أنها على وشك الانفجار.

ثانيا : في حالة فشله في إجراء هذه الثورة السلمية، فعليه أن يبحث حوله عن احتمالات أخرى.. رجل واجهة نوجهه من خلف الستار، أو رجل قوى، أو خليط من الاثنين ".

نتحفظ هنا على المهمة فصحيح ظل كيرميت روزفلت يحرك ويفرك في ما سمى بالثورة السلمية، ولكن في اعتقادي أنها كانت مناورة على فاروق، لتخديره، وطمأنته من ناحية الأمريكان، وليسمح لهم بالتغلغل في أجهزته، حتى يمكنهم التجنيد بداخلها، وإبعاد العناصر التي لا أمل في تعاونها.. وتعود ههذ الأجهزة على تلقى الأوامر منهم، ومن ثم يمكن شلها في اللحظة الحاسمة ولحساب الانقلاب الحقيقي..

يقول:

" كيرميت روزفلت حفيد الرئيس تيودور روزفلت وابن عم آرش روزفلت وكان يتمتع بشهرة عن شجاعته البدنية، وهى تثير إعجاب سكان الشرق الأوسط إلى جانب صلاته الوثيقة مع كل القيادات الثورية والتقليدية في الدول العربية وإيران.. وقد انضم صراحة للسى آى ايه ( المخابرات الأمريكية وتكتب هكذا.) ليجد أن المغامرات فيها مقيدة ونادرة.
ولذلك عندما أصبح صديقه القديم الجنرال " بيدل سمث" مديرا للمخابرات فقد رتب انتدابه في الجهاز الخاص لوزير الخارجية دلاس، لتنفيذ مهام من طراز الروايات والأفلام كانت آخرها عملية آجاكس في أغسطس 1953، عندما نظم وحده تقريبا الإطاحة بمصدق، وإعادة الشاه الذي كان قد هرب إلى روما.
وكانت الثورة السلمية في مصر 1951- 1952 هى أول مهمة لروزفلت. وكان الملك فاروق قد ازداد إعجابه بروزفلت خلال الحرب العالمية الثانية في الفترة التي كان البريطانيون يضغطون فيها عليه تحت فوهة المسدس حقيقة لا مجازا ، لكي يبعد العناصر المؤيدة للمحور من حكومته ويستبدل بها عناصر من اختيار الإنجليز. وبينما كان فاروق يغلى في قصره عاجزا ، زاره روزفلت يوميا، تقريبا لتسليته، ووعده بأن تعقد مع مصر بعد انتهاء الحرب صفقة جديدة وتصبح مصر مستقلة فعلا ويصبح هو أول حاكم لمصر المستقلة خلال ألفى سنة". . ( قالوا نفس الكلام مع تغيير بسيط: " أول حاكم مصري من ألفى سنة" .. وكلا القولين فاسد كاذب لا أساس له من التاريخ).

" وكان فاروق يحب هذا النوع من الكلام. وأحب روزفلت إلى حد استقباله بحماسة عندما رجع كيرميت إلى مصر عام 1952..

ومن الناحية الأخرى لم يكن فاروق هو الشخص الذي يبحث عنه روزفلت، فصحيح أنه لم يكن غبيا، إلا أنه كان يفتقد التركيز، في اجتماع كان يبدى إدراكا واعيا لما يجرى في بلده.

وباذلات لما يؤثر على نظامه. ويوافق على علاجات روزفلت بكفاءة رجل أعمال في بتسبرج. وفى اليوم التالي يختفي في واحدة من مغامراته الجنسية .

وينسى أن ينفذ بعض الإجراءات التي وافق على ضرورتها لتحقيق خطة روزفلت ، وفى الأسبوع الثاني، وبفعل أي عامل وقتي، يتخذ قرارا يفسد الخطة".

" أقام روزفلت في مصر خلال شهري يناير وفبراير 1952 وخلالهما قام فاروق بالتالي:

1- تماشى مع مشروع روزفلت الذي يقضى بأن يدبر أقوى رجلين في الوزارة : مرتضى المراغي وزكى عبد المتعال أزمة تجبر رئيس الوزارة على الاستقالة. وفى نفس الوقت يكلف بوليسه السري بجمع أدلة تثبت أن الوزيرين عميلان للمخابرات الأمريكية .
2- وافق على تعيين نجيب الهلاليوهو رجل يتمتع باحترام لكفاءته ونزاهته كرئيس وزراء.
وقد دعاه إلى الوزارة بطريقة لا يمكن أن تسمح له بقبولها، وليس إلا بعد أن رجاه روزفلت على انفراد باسم الثورة السلمية مشيرا إلى أن الثورة لن تبقى بيضاء إذا ما استمر الملك في عناده.
3- وافق على أن يقوم الهلالي بتطهير الحكومة ويخرج كل الموظفين الفاسدين، ويحل محلهم موظفين من اختياره".

وطبعا نذك شعار " التطهير قبل التحرير " و" محاربة الفساد" وكلها كانت شعارات هزلية على لسان الهلالي باشا وفى نظام فاروق، ولكن نفس الشعارات ستستخدم في ظل 23 يوليو، وسينسى الناس أنها الاستمرار لخطة الثورة البيضاء..

" في مايو 1952 نفض روزفلت يديه يائسا ، ووافق مع السفير الامريكى في القاهرة " جيفر سون كافري" أن الجيش وحده هو الذي يستطيع وقف تدهور الوضع وإقامة حكومة يستطيع الغرب أن يتفاهم معها" .. ( أين الذين يثرثرون عن مفاجأة السفارة بالانقلاب والرجل ذكر علم السفير وبالاسم).

" كافري الذي كان أقدم سفير في الجهاز الدبلوماسي الامريكى، كان يعرف مصر جيدا، وكان يعتمد على اثنين ك الليوتنانت كولونيل: " دافيد ايفانز" مساعد الملحق العسكري ، ووليم ليكلاند الضابط السياسي".

" كان روزفلت نافرا من الانقلابات العسكرية، وبعدما شاهده من آثارها على سوريا، ولكنه وافق على اللقاء بالضباط الذين رصدتهم المخابرات الأمريكية على أنهم قادة التنظيم السري الذي عرف أنه يدبر انقلابا.. وهذا ما فعله روزفلت في مارس 1952.. أي أربعة شهور قبل انقلاب ناصر.. وناصر الذي كان قد عرف باستكشاف المخابرات الأمريكية لتنظيمه كان مستعدا للقاء.

ورتب وضع عدد من ضباطه في طريق روزفلت، هؤلاء الضباط الذين كانوا بعيدين عن مركز الحركة بما يتيح الاستغناء عنهم، ولكن في نفس الوقت يمكن الاعتماد على قدرتهم على الكلام المناسب، وحفظ الأسرار الأساسية لتنظيم السادات.. وقد تمت ثلاثة اجتماعات من هذا النوع ..

وفى الاجتماع الثالث حضر واحد من أقرب معاوني ناصر ,أكثرهم تمتعا بثقته :

" إن الاتفاق الكبير الذي تم بين روزفلت وهذا الضابط الذي كان يتحدث باسم عبد الناصر يستحق الذكر حقا.. ففي ثلاث قضايا عامة تم الاتفاق في الحال: الأولى هى أن الجماهير لا تثور بسبب سوء الحالة الاقتصادية، وكان روزفلت قد دخل في جدل طويل مع وزارة الخارجية الأمريكية حول هذه النقطة إلى حد أنه وزع عليهم نسخا من كتاب :" كران برينتون" الذي عنوانه: " تشريح ثورة " ليدعم رأيه بأنه ما من ثورة في التاريخ لها أسباب اقتصادية في جذورها.

وبالتالي فإن حكومتنا لا تستطيع التخلص من زعيم لا تحبه بمنع القمح عن شعبه.

ناصر كان يعرف في هذا الوقت ما ستثبته خبرته الشخصية فيما بعد، وهو انه مهما منعت الولايات المتحدة المساعدات الاقتصادية بهدف إضعاف مركزه، فإنه يخرج أقوى من قبل، وشعبه يحمل الحكومة الأمريكية مسئولية تجويعه وليس ناصر".

" النقطة الثانية هى أن الجماهير المصرية لا يحتمل أن تثور لأي سبب . كانت هناك حركتان ثوريتان: الإخوان والحزب الشيوعي، تعتقدان أن الشعب المصري بما فيه الفلاحون والعمال والأفندية في المدن وحتى المهنيين اقتربوا من درجة الغليان، ويمكن دفعهم تحت النداء المناسب للثورة، ناصر لم ير هذا الرأي وقد طرحت هذه النقطة بين روزفلت وممثلي عبد الناصر عندما قال لأحد هؤلاء الممثلين " إن من سيحكم مصر سيواجه مشكلة تلبية المطالب العديدة للشعب المصري".. وهنا قال رئيس المجموعة التي تنطق باسم ناصر، أول جملة كاملة في تلك الليلة:" بالعكس .. عن مشكلتنا هى أن الشعب لا يريد كفاية" ثم استمر :" إن معظم المصريين عاشوا آلاف السنين على الكفاف ، ويمكن أن يعيشوا ألف سنة أخرى على هذا الحال " إنهم غير مهيئين للثورة، ولا مهيئين للاستفادة القصوى من حياتهم بعد الثورة.

ولذا بعد الثورة سنحاول جهدنا دفعهم لذلك،ولكن ليس لدينا وقت لتحقيق ذلك قبل الثورة" وهكذا لم يكن هناك مجال للحديث عن ثورة ديمقراطية أو شعبية. وكان مفهوما من اللحظة الأولى أن الجيش المصري سيسيطر على البلاد، ويختار الوقت والظروف التي تضمن تأييدا سياسيا وشعبيا في المدن، أما بقية البلد فسيجرى كسبها فيما بعد..".

" وأخيرا تم الاتفاق على أنه في مستقبل العلاقات بين الحكومة المصرية الجديدة ، وحكومة الولايات المتحدة، فسيقتصر استخدام عبارات من طراز " إعادة المؤسسات الديمقراطية" أو " الحكومة القائمة على تمثيل حقيقي للشعب" ستقتصر على الوثائق المتاحة للعامة، أما فيما بيننا فيقوم تفاهم مشترك على أن شروط قيام حكومة ديمقراطية غير متوافرة في مص، ولن تتوافر لعدة سنوات طويلة..

وأن مهمة الحكومة الجديدة هى توفير هذه الشروط وهى:

1- شعب غير أمي.
2- طبقة وسطى كبيرة ومستقرة.
3- شعور من الشعب بان هذه هى حكومتنا، وليست مفروضة من الفرنسيين أو الترك أو الإنجليز أو الطبقة العليا المصرية.
4- إرساء قيم ومثل حقيقية، تضمن قيام ونمو مؤسسات ديمقراطية حقيقية وليس مجرد تقليد مستورد من الولايات المتحدة أو بريطانيا.

" وقد اتفق روزفلت وممثلو ناصر( الكلام ما يزال لمايلز كوبلاند) على أن الرأي العام الامريكى والكونجرس ، وبعض الصحفيين وبعض موظفي الخارجية الأمريكية ، وغالبا ما يكون وزير الخارجية نفسه من بينهم، سيبدءون على الفور في النباح بالشعارات القديمة، وفى نفس الوقت تأكدوا أن أية محاولة سابقة لأوانها لتطبيق الديمقراطية ستضع البلاد مرة أخرى في الفوضى السابقة، أي انتخابات بين مرشحين مدعومين من بريطانيا وأمريكا ضد مرشحين مدعومين من الروس (لعلنا نكتشف الأصل الفلسفي لحكاية حزب تابع للشرق وحزب تابع للغرب) و24 مليون فلاح من 28 مليونا، ينتخبون وفقا لتوجيهات الإقطاع بينما يتفجر سخط المدينة في شكل اضطرابات، وتصبح إثارة الشغب هى الوسيلة الوحيدة للحصول على نفوذ سياسي فينضم الشباب للإخوان أو الحزب الشيوعي كمخرج لنشاطهم المكبوت".

" وهناك نقاط كان من الصعب الاتفاق عليها، ولكنها شكلت- رغم ذلك- فهما مشتركا للدوافع التي ستكون خلف الانقلاب القادم".

" وهناك نقطة أخرى جديرة بالاهتمام هى موقف ناصر من إسرائيل فالسياسيون والكتاب والمواطنون العاديون في أي بلد عرى، وكذلك معظم الدبلوماسيين الغربيين الذين يزرون شتى البلاد العربية سيقولون لك إن استرداد فلسطين يأتي على قائمة الأولويات لألا بلد عربي، حتى أن صحفيا في مستوى محرر " الديلى تلجراف" ظل لعدة سوات يصر على أن هزيمة مصر ضد إسرائيل كانت عنصرا فعالا في تفكير الذين دبروا الثورة المصرية .

ولكن بعد خمس سنوات من حار المعسكرات، ومحادثات شخصية مع مئات الضباط قرر ناصر ومعاونوه العكس.

لقد تبينوا أنه قد يكون من المفيد لخدمة هدف آخر، الحديث عن تعبئة موارد مصر لتصحيح ما حدث في فلسطين ، ولكن مثل هذا الحديث في 1952 هو عمل طائش ومضر إذا ما استخدم لإثارة ثورة في مصر.

" وقد اعترف ناصر لروزفلت أنه هو وضابطه امتهنوا على يد الإسرائيليين، ولكنه أكد أن غضبهم كان ضد " ضباطنا الكبار" .. العرب .. الإنجليز ثم الإسرائيليين على هذا الترتيب".

أظن أن هذه جرعة كبيرة تحتاج لوقفة طويلة جدا.

1- في أواخر عام 1951 أو مطلع 1952 استقر رأى لجنة الخبراء على تجربة الانقلاب في مصر وكلفت " كيرميت روزفلت" بهذه المهمة للصفات العدية التي يتمتع بها.
ومنها صلاته ومعرفته بمصر وملك مصر .
2- كان للمخابرات الأمريكية شبكة واسعة في مصر يرأسها شخص مصري أو يسهل اندماجه بين المصريين وهو في نفس الوقت، رج عبد الناصر.
3- ظل كيرميت في مصر شهرين يدرس النظام القائم بحجة تدبير ثورة سلمية تحت رعاية الفاروق.
واستطاع التغلغل في أجهزة الأمن وشلها أو بلبلتها ليلة الانقلاب.
4- اكتشفت المخابرات الأمريكية تنظيم السادات، وهذا يعنى بوضوح أنها لم تنشئه بل كان تنظيما مصريا وطنيا في مجموعه، وإن ضم عناصر من شتى المخابرات المحلية والعالمية، كما هو الحال في كل التنظيمات السرية.. وهذه نقطة على جانب كبير من الأهمية، فالسادات غير إخوان الحرية، السادات وعلى كل المستويات ، تنظيم وطني مصري ، ضم عناصر وطنية، لو خطر ببالهم أ بعض رفاقهم يجتمع بالأمريكان، فضلا عن مخابرات الأمريكان لاتخذ التاريخ مسارا مخالفا.
5- شعر جمال عبد الناصر، أو أبلغ عن طريق وسطاء الخير، باهتمام الأمريكان، فوافق بذكائه السياسي النادر، وشبقه للسلطة الشد ندرة وتميزا، على مقابلتهم.. ومرة أخرى هذا يعنى أن عبد الناصر لم يخترعه الأمريكان ولا فرضوه على التنظيم، وإنما فرضوا انتصاره واستمرار في السنوات الأولى حتى استقر وانطلق معتمدا على تنظيماته.
6- تدرجت اللقاءات حتى وصلت إلى اجتماع على مستوى أكبر معاوني ناصر ، أو على الأقل الذي يتمتع بأكبر قدر من ثقته.
وهى اجتماعات كانت واضحة وصريحة بين السادات، أو مجموعة ناصر من جانب والمخابرات الأمريكية من الجانب الآخر للاتفاق على برنامج الانقلاب أو الثورة كما حلا لهم تسميته..
7- كل اتفاق .. كل مفاوضات.. إنما تدور حول: ماذا تعطيني وماذا تريد منى.. ولا نظن أن استنتاج بنود الصفقة عسير علينا .. السادات يريدون دعم المخابرات الأمريكية لنجاح الانقلاب.. أما كيف.. ؟ فهذه من النقاط التي حجبها المؤلف، والتي بن يكشف عنها الستار أبدا، لأنه سر المهنة الذي يستخدم في أكثر من بلد، ولأنه يكشف لأسماء لا يريدون لها أن تكشف.. كذلك طلب السادات تقديم تأمين امريكى ضد احتمال تدخل بريطانيا ودعم امريكى بعد نجاح الثورة.

في مقابل ماذا ؟

إما أن نخرج في مسيرة للسفارة الأمريكية نشكرها على اهتمامها بتحرير الشعب المصري، أو نتساءل بجدية: ما الذي تعهد الضباط الناصريون بدفعه مقابل وضعهم في السلطة؟
8- اتفق المتآمرون- يستحيل علينا من باب الذوق أن نصف كيرميت روزفلت بالثوري ، فهذا يسيء إليه طبعا ولذلك أم نستطع أن نقول " الثوريون " .. على أن مصر غير ناضجة للديمقراطية وأنهم لن يهتموا بثرثرة المسئولين الرسميين الأمريكان عن ديكتاتورية الحكم، فأمام الحكومة الثورية مهمة طويلة تستغرق الأجيال حتى تتوافر لقيام الديمقراطية، مثل محو الأمية ،وخلق طبقة وسطى.. ولعل هذا يفسر حرص الثورة على عدم محو الأمية، واهتمامها بضرب الطبقة الوسطى.

.. نكتة..

9- فلسطين لم تكن قضية الثورة، ولا شاغل الضباط رقم واحد، وهذه قضية معقدة وأعترف أنني لم أستوعبها تماما في الكتاب السابق، فجاء تعليقي ساذجا اعتذاريا ورغم اقتناعي أن الناصرية – كما قلت- ليست إفرازا للصراع المصري – الاسرائيلى غير أن ما نشر من وثائق عن تصريحات ومواقف ضباط الثورة من إسرائيل وعداوة لإسرائيل، بل لا نذهب بعيدا إذا قلنا إن الملك فاروق كان أكثر إحساسا بخطر إسرائيل وأكثر تصلبا في رفض التعايش معها من محمد نجيب وعبد الناصر وسنرى ذلك بالوثائق فيما يلي من صفحات هذا الكتاب.
10- هذا الجزء مكتوب بمكر شديد، فهناك حوار بين ناصر وكيرميت، ولكن هناك أيضا إيحاء ولو بالسالب أن عبد الناصر لم يقابل كيرميت روزفلت ، وعلى أية حال هذه نقطة لا نركز عليها كثيرا كما اشرنا فمن المؤكد أن اجتماعا واتفاقا قد تم بين ناصر وكيرميت روزفلت سواء مباشرة أو عن طريق رجل عبد الناصر وموضع ثقته.

يقول :

" وعندما رجع كيرميت روزفلت من القاهرة قبل الانقلاب بشهرين ( يعنى مايو) قدم تقريره إلى وزير الخارجية دين اتشيسون قال فيه:

1- إن الثورة الشعبية التي تحتسبها وزارة الخارجية، ويعمل لها الشيوعيون والإخوان، ليست في
2- لا توجد وسيلة لمنع الجيش من القيام بانقلاب ، أحببنا ذلك أم كرهناه.
3- إن الضباط الذين ينتظر قيادتهم للانقلاب ، لديهم دوافع عادية بعكس الطموحات التي ينسبها إليهم المراقبون الدبلوماسيون .
الأمر الذي يزيد من فرص انتصارهم ، بل ويجعلهم أيضا مفاوضين معقولين بعد استيلائهم على السلطة..
4- إن الحكومة الأمريكية ستقبل إبعاد فاروق وربما إنهاء الملكية كلها. وإن كان لا مانع طبعا من صدور احتجاج رقيق لإراحة الضمير.. وسيكون من المستحسن أن يبدى السفير كافري بعض الاهتمام بسلامة فاروق الشخصية.
( وهذا يوضح أن نبل كافري كان بالاتفاق أو بالتعليمات وليس كما استنتج مؤلف حبال الرمال).
5- بعد الانقلاب ستمتنع حكومتنا- ما عدا في الظاهر – عن حث القيادة على إجراء انتخابات أو إنشاء حكومة دستورية وما أشبه.
وستقيم علاقتها مع ا لحكومة الجديدة في ضوء الاقتناع بأن المؤسسات الديمقراطية يجب أن تبنى من الصفر.
6- لا يجوز أن يستنتج أحد في حكومتنا منكل هذه الاجتماعات التآمرية التي تمت قبل الانقلاب أنه انقلابنا.
7- بل ستكون عملية داخلية حرة تقريبا ( ألأقواس من عندنا) من نفوذنا ، ويمكننا مساعدتها فقط بعدم معارضتها، أما فيما يتعلق بالحاجة إلى عدو يوحد الجماهير فلن تكون إسرائيل هذا العدو، بل الطبقات العليا المصرية ، وشئنا أو أبينا الإنجليز أيضا".
" وكان لدى روزفلت الكثير ليقوله من نوعية القائد المنشود أو بالأحرى الذي سيبرز من الانقلاب، شئنا أو أبينا.
فقال إنه يوافق مبدئيا على ا لحاجة إلى زعيم محبوب .
ولكن ظروف مصر الخاصة في هذه اللحظة تفرض قائدا أقل جاذبية مما قدرنا، إلا أنه قادر على السيطرة، بل سحر مجموعة صغيرة من الرجال .
وهى المجموعة التي قابل روزفلت ممثليها.
ثانيا : سواء نجح هذا الشخص في أن يكون زعيما شعبيا، أو ظل مجرد قائد لحلقة تقود بدورها البلاد، فإن صفات هذا القائد لا يمكن أن تتفق والمقاييس الغربية لرجال الدولة .
وإذا لم نكن نعرف كيف نتعامل مع هذا الطراز، فيجب أن نتعلم .
وإذا لم ينتصر الشخص الذي تراهن عليه فسيكون هناك شخص آخر من نوعه، وآخرون في البلاد الأخرى التي تمر بنفس الظروف".
والتفاصيل الممكنة في تقاريره المكتوبة لوزارة الخارجية الأمريكية، لكي لا يرعب لجان التحقيق التي قد يشكلها الكونجرس في المستقبل".
وهذا ما اشرنا إليه في قدرتهم على إخفاء المستندات وإن تشدقوا فترة بحرية المعلومات، وحق الكونجرس في أن يعلم كل شيء.

ويضيف:

" ولذلك لم تكن هذه التقارير توضيحا صريحا لمحاولات العثور على قائد متعطش للسلطة ويتمتع بكفاءة قيادية بونابرتية، ولديه القدرة على توحيد شعبه حول الخوف. ولكن تقارير كيرميت الشفوية كانت أكثر صراحة.
فقد أخبر رؤساءه أن أي شخص متعطش للسلطة، لن ينتظر حتى يدعوه متآمر امريكى لهذه السلطة، أما عن الصفتين الأخريين المطلوبتين، فليستا من النوع الذي يظهر على السطح في اختبار كشف الهيئة.
ولكن المحصلة التي خرج بها من اجتماعاته في القاهرة هى أن : " شخصا ما في مصر ، مرتبطا بالضباط الذين قابلهم، لديه فكرة متقدمة جدا لما يتطلبه الاستيلاء على السلطة في مصر والاحتفاظ بها، وأن هذا الشخص سيفعل ذلك، وان كل ما نأمله هو أن ملاحظات روزفلت قد وصلت لهذا الشخص، وأن تفاهما مشتركا يمكن تنظيمه عندما يحين الوقت، ولا شك أن هذا الشخص سيفهم ماذا نريد ، وما الثمن الذي سندفعه في المقابل.. وبناء على ما تجمع لدى روزفلت من هؤلاء الضباط الذين قابلهم فإن عرضنا قد قبل عن طيب خاطر "..

وتم الانقلاب:

" كان كل شيء على ما يرام.. لم تصدر تصريحات عنيفة من الطراز الذي تعودناه من الانقلابات السورية، بل كان التركيز على القضايا التي تهم أية قيادة ناضجة: محاربة الفساد، بناء حكومة أكثر كفاءة.. إصلاح الأحزاب السياسية، ولا شيء عن إسرائيل:
وعندما نطابق ذلك مع ما حدث فعلا، فإن م حقنا أن نشك في النظريات التي طرحت بعد ذلك، عن أهمية التنمية قبل حرب التحرير ضد إسرائيل .. والتكنولوجيا قبل الحرب.. الخ.. الأمر أبسط من ذلك ، إنه اتفاق.ز عقد، وموقف.. اتخذ بناء على طلب المنتج الامريكى.. تجميع الشعب على كراهية الأغنياء المصريين بدلا من إسرائيل .. وإن كانت إسرائيل بعدوانها لن تتيح الفرصة أبدا لكي ينساها الشعب أو تتجاهلها الثورة.
يقول كوبلاند:" وقد تمادى محمد نجيب في حديثه فقال : إنه غير مهتم بفلسطين، ولكنه عاد فاتصل بالسفير كافري بعد بضع ساعات، وطلب سحب التصريح، واستبدل به آخر أقل رواجا في السوق الأمريكية، ولكنه أكثر التقاء مع ناصر وما كنا نعرف أنه ضروري لكسب الحكومة الجديدة القبول الشعبي".
" كان كل شيء يدل على أننا قد ضممنا إلى الفريق، لاعبا جديدا تنطبق عليه المواصفات التي نريدها" " كانت واشنطون الرسمية سعيدة".
وبعض الماعز عندنا لا تزال سعيدة، فخورة بالثورة التي فاجأت الاستعمار وقلبت خططه، وسودت ليله ونهاره؟ هل يمكن أن تشترك في السعادة من حدث تاريخي واحد كل من واشنطون الرسمية والقاهرة الشعبية في ذلك الوقت على الأقل..؟

ويقول :" ولو أن كيرميت أخذ عبد الناصر بقوله إنه ليس قائد الحركة الثورية، إلا أن أعضاء السفارة في القاهرة ، وبالذات " وليم ليكلاند" الضابط السياسي بالسفارة اكتشف على الفور أن نجيب ليس إلا الواجهة لعبد الناصر.

وقد أصبح ليكلاند صديقا للضباط الأحرار من جماعة ناصر من خلال محمد حسنين هيكل الذي أصبح فيما بعد أقرب أصدقاء ناصر ومحل ثقته ولكنه وقتها كان مجرد محرر يعمل في صحيفة يملكها صديق ناصر مصطفى أمين.

ومن خلال هيكل قابل " ليكلاند" عددا كبيرا من قيادات الضباط أحرار بما فيهم ناصر.

وخلال الشهور التي تلت الانقلاب كان يرحب بهم باستمرار في شقته المطلة على النيل. وبينما الشعب المصري في الخارج يهتف لنجيب، كانت السفارة عبر " ليكلاند" قد بدأت تتعامل مع ناصر باعتباره الرجل الوحيد الذي يملك إقرار" " واستمر السفير يقابل نجيب أحيانا في زيارات رسمية أو لتسليمه رسائل من واشنطون، وخاصة إذا كانت من النوع الذي لا يهتم السفير بضياعه.. أما العمل الحقيقي بين الحكومتين الأمريكية والمصرية فكان يتم بين ليكلاند وناصر، أو بالأحرى بين ليكلاند وهيكل وناصر".

" بعد الانقلاب تجنب روزفلت وأعضاء لجنته الخاصة، أي اتصال مباشر مع ناصر، وكانوا سعداء بمراقبة التطورات في مصر من بعيد، وكان هذا من ناحية لجنب شبهة المؤامرة معه.

ومن ناحية أخرى، لأن الأمور كانت تجرى في الاتجاه الذي خطط له.

وليس إلا بعد وصول إيزنهاور للسلطة 1952 حتى أننا قررنا أن نكرس اهتمامنا مباشرا لتقدم ثورة ناصر.

كانت رغبة شخصية من إيزنهاور، أن نقوم بدراسة هذا اللاعب الجديد بدقة.

أولا لنتأكد أنه يمضى كما توقعنا. وهكذا فعشية زيارة جون فوستر دلاس للشرق الأوسط قرر دلاس( .. أيهما؟) " لقد حان الوقت لنرى : " الأولاد دول حيطلع منهم إيه".

وهكذا أمر روزفلت بإرسال : " رجل عسكري للقاهرة ليقومهم ( من التقييم) واختار روزفلت " ستيف مييد" رجل الانقلاب السوري".

ويبدو أن مجموعة مايلز كوبلاند لم يسعدها التدخل في شئونهم. أو التفتيش على شغلهم، وربما دسوا للرجل عند عبد الناصر، على أية حال كوبلاند يدعى أن وصول مييد أثار عبد الناصر إذ اعتبره دليلا على أن وزير الخارجية دلاس يعتقد أن ثورته لا تختلف عن انقلابات أمريكا الجنوبية".

ومع ذلك فإن دراسات مييد مثيرة والحوار النظري في دوائر المخابرات الأمريكية يفوق في ثوريته مناقشات هيئة التحرير في ذلك الوقت، كما يبدو أثره واضحا في مناقشات التنظيم الطليعي فيما بعد.

" قال كيم روزفلت لدلاس: " لا يمكن أن تحقق ثورة بدون ثوريين"

ما نظرية مييد فهي "إن سوريا لا يستقر بها انقلاب بسبب كثرة الانقلابيين . أما مصر فلم تكن ثورة، ولا انبثقت من ثوريين، بل نتيجة تخطيط وتنظيم عبد الناصر ولذلك سيعيش انقلابها ، وهؤلاء الفتية (أعضاء مجلس الثورة)،يعتبرون أنفسهم عصابة " روبن هود" كتب مييد ذلك على روزفلت وأضاف إنه " يسعدهم أن يوصفوا بأبطال الثورة ولكن لم أجد فيهم واحدا يستطيع أن يصف لي ما هى الثورة، إنهم غير مهتمين بالسياسة لحسن حظ ناصر، وحسن حظنا جميعا.. فهم يطلبون ويحتاجون لشخص يخبرهم كيف يفكرون وماذا يفعلون .. ولن تكون هناك مشكلة في التخلص منهم".

وهذا صحيح تماما.. ويفسر كيف تلاعب أصحاب الحظ الحسن بالدراويش من طراز بغدادي وكمال الدين حسين وأمثالهما من الذين لم تكن للهم خلفية سياسية، وكيف " جن " صلاح سالم فور أن تعلم السياسة، وكيف قال ناصر بصريح العبارة لخالد:" لا مكان لك في مصر" لأنه كان يعرف " شوية" سياسة مع الكثير من السذاجة.

قال " مييد" في " فلسفة الثورة" غير المنشورة:

" إن انقلاب ناصر لم يسقط النظام بل أقامه فالعمل السري قبل الانقلاب لم يكن يستهدف بناء قوة ثورية تستولي على السلطة، بل إلى وضع رجاله في مراكز السلطة حتى يمكنهم أن يصدروا الأوامر عبر التسلسل الوظائفي المشروع. ولكن محمد نجيب حل هذه المشكلة ( برتبته العالية) وإن كان قد سبب نتائج عكسية".
" قال ناصر للجنرال كابل نائب مدير المخابرات الأمريكية إنه اختار الاعتماد على الضبط والربط في الجيش في تنفيذ الحركة".
" مييد الذي حاول إقناع حسنى الزعيم بخلق تركيبة مرتبطة بانقلابه اعتبر ما فعله عبد الناصر يجب أن يكون دليل عمل لاى محاولة أخرى.. وهو كيف تدبر انقلابا وكيف تدعمه بعد النجاح".

" إن ناصر كان يعلم أن الانقلاب سيعتمد على الجيش ، وعلى قبول البلاد للجيش ، وكان يعلم أن كل أشباه المثقفين، والسياسيين المتطرفين والمتعصبين من كل نوع سيصفقون للثورة، ويعتبرنها فرصة لفرض " إصلاحاتهم" وإذا سمح لهم فسيتظاهرون ويعطون انطباعا بحيوية زائدة، بل حتى ادعاء تمثيل قطاعات من الشعب.

إلا أن كبح إغراء ضمهم للثورة كان ضروريا، فكل مهمتهم هى في الشغب الذي يثيرونه.

إن العامل المشترك في رجال الثورة، أنهم لا ثوريون .. فقد كانوا ينظرون إلى أصر باعتباره الرجل القادر على بناء جيش قوى وإعادة الضبط والربط إلى صفوفه. أي تحقيق الصورة التي كانت في أذهانهم عندما انضموا للجيش".

" إن رجال تنظيم السادات يعادون المثقفين والفوضى والتسيب وضد التحرر الاجتماعي ، والانفتاح الجنسي وغيرها من مظاهر مصر الملكية".

" أهم عنصر – في رأى مييد- في مناعة النظام الناصري، هو اقتناع ناصر بأن تدعيم مركزه يجب أن تكون له الأولوية على أي هدف آخر.

وهذا التصميم جعل عبد الناصر يأخذ خطوات حيرت المراقبين الغربيين، على سبيل المثال، لقد سمح باستمرار وضع أدى إلى أضرار بالغة، بعلاقات مصر مع السودان ، لمجرد أن ذلك يمكنه من إدانة أحد معاونيه الذي كان قد أصبح ثويا لدرجة خطيرة( هذه نقطة مهمة جدا يجب أن نرجع إليها في فصل السودان وما اكتشفه صلاح سالم من أنهم يعملون على فصل السودان) ولكن " مييد" دافع عن ذلك بأنه سلوك ضروري ويجب ألا ننزعج من حدوثه".

" أما رأى ناصر عن القيادة أو النخبة الطبيعية فقد وصل على حكومتنا ليس عن طريق مييد بل عبر قناة هيكل – ليكلاند وقال عبد الناصر للسفير الامريكى:" إن إعطاء الشعب المصري الحرية قبل الأوان، يعادل إلقاء أولادك في الشارع".

" كان يعتقد أنه يحتاج إلى حرية مطلقة في التصرف دون مبالاة بالرأي العام" " وهذه الآراء لم تزعج " ستيف مييد" خبير استمرارية الانقلابات، ولكنها أزعجت كيرميت روزفلت، وعندما أبلغه " مييد" أن ناصر يعيد تنظيم القيادة لكي يقيم السياسة في وزارة الخارجية والذي كتب دراسات ممتازة عن النظم العسكرية في الدول المتخلفة .

وكان روزفلت قد اقترح مساعدات اقتصادية ضخمة لمصر، وعلى وشك أن يطلب مساعدات عسكرية.

وكان يعتقد أن الدراسة التي سيقدمها " ايكلبرجر" ستمكنه من إقناع الوزير دلاس بسياسات عبد الناصر، وإذا لم يكن بوسعه الدفاع عن هذه السياسة فيحاول إقناع عبد الناصر بتغييرها".

" وقد عين كافري ايكلبرجر للعمل معه مباشرة بعيدا عن جهاز السفارة، ونظم إمداده بمعلومات الخارجية والمخابرات.

وكان على ايكلبرجر أن يقدم تقرير موقف وتوصيات، أما القرار الأخير فكان لكافري, وقد أجرى ايكلبرجر مناقشات طويلة مع أعوان ناصر من العسكريين والمدنيين، وبالذات محمد حسنين هيكل المخبر الصحفي الذي كان خلف كتاب عبد الناصر" فلسفة الثورة" .. مع ناصر نفسه".

ومن محصلة ههذ الاتصالات والاستجوابات والفحوصات – يقول لنا مايلز كوبلاند – تم إعداد عدة دراسات ترجم بعضها للعربية، وأرسل إلى عبد الناصر كأهم المشاكل التي تواجه الحكومة الجديدة وأساليب معالجتها، وأهم هذه الدراسات، واحدة بعنوان " مشاكل السلطة لحكومة الثورة" ( وقد وضعها كوبلاند في ملاحق كتابه ومن شاء الرجوع إليها للاستفادة فليفعل) وقال :" وترجمت للعربية، وعلق عليها، عدد من معاوني ناصر، ثم ترجمت مرة أخرى للانجليزية ليضيف إليها ايكلبرجر وينقح، وهكذا من الإنجليزية للعربية وبالعكس حتى ظهرت النسخة الأخيرة منسوبة لزكريا محيى الدين، وتقبلها العالم بما في ذلك السى آى ايه على هذا الأساس".

وقال كوبلاند:

" ولنذكر أن جوهر القضية في دعمنا لناصر هو أن يصبح لنا في السلطة في واحدة من أهم الدول العربية، القائد الذي تتوافر له السلطة الكافية لفرض قرار غير محبوب مثل توقيع السلام مع إسرائيل ، ولذا فإن أول خطوة في برنامجنا وبرنامج ناصر هى فرض سلطته هذه، ولو بالقوة".
وعندما اعتذر ناصر لجونسون المبعوث الشخصي للرئيس الامريكى عن عدم استطاعته إقناع شعبه بقبول مشروعات جونسون كيف يكون قائدا صالحا إذا كان ينافق شعبه ؟ رد عبد الناصر: " إن أولى مهمات القائد هى أن يبقى قائدا، فإذا تمكن من ذلك يستطيع وقتها أن يدبر كيف يكون صالحا.. وأنا أعرف أن الغوغاء في بلادي إذا تركوا لغرائزهم فسيضرون أنفسهم .. ولكن هذا لا يعنى أنني أستطيع تجاهل عواطفهم دائما".

وفسر كوبلاند ذلك بأن سياسة عبد الناصر ، هى اللعب بشعارات الجماهير العاجلة التي لا تمثل مصالحها الحقيقية لكسب الوقت حتى ينمو فيهم الوعي بمصالحهم الحقيقية ، على أن يتم ذلك بالتناسق مع امتلاك الوسائل لتحقيق هذه المصالح".

وإذا كان التعاون التنفيذي بين المخابرات الأمريكية ورجال عبد الناصر، قبل الانقلاب ويوم الانقلاب لا يزال من الأسرار ، وربما يبقى كذلك، خاصة إذا لم نعرف من هذا الشخص العجيب الذي كان رئيسا لمحطة المخابرات الأمريكية في مصر والذي كان في نفس الوقت رجل عبد الناصر.

إلا أن المعلومات أكثر عن التعاون الوثيق بين ألأمريكان ونظام عبد الناصر بعد 23 يوليو ، وفى الميدان الذي يعتبر من اخص خصائص السيادة، والذي يستحيل تصور وقوع التعاون فيه بين استعمار وثورة .. بل حتى بين دولتين تحرص واحدة منهما على سيادتها وأمنها واستقلال قرارها.. وأعنى ميدان الأمن والمخابرات فضلا عن الإعلام والعلاقات الأمريكية –المصرية..

فإلى جانب الدراسات والمحاضرات والتعليمات التي يحفل كتاب كوبلاند بنماذج منها.. توجد اعترافات ناصرية تؤيد هذا التعاون فبالإضافة إلى رواية حمروش التي نقلها عن فريد طولان والتي تقتصر على تقديم الأمريكان، منذ اللحظة الأولى خبرتهم لتنظيم المخابرات، وإنشاء المعهد الاستراتيجي في برج الجزيرة الذي دفعت المخابرات المركزية ثمن إنشائه وكانت تدرس فيه محاضرات المخابرات الأمريكية عن طريق شركة بوز آلف هاملتون لضباط المخابرات والمباحث وذلك حسب رواية فريد طولان مدير المعهد بالإضافة إلى هذه الشهادة بالجذور الأمريكية للمخابرات الناصرية، ظهرت شهادات جديدة أكثر صراحة فقد اعترف بعض رجال المخابرات أنهم كانوا يدرسون في هذا المعهد على يد رجال المخابرات الأمريكية.

وإن " مايلز كوبلاند" كان يحضر للتفتيش وكان يرى دائما متأبطا ساعد " الألفة" حسن التهامي .

" كان النموذج الامريكى هو المثال الذي تهتدي به أجهزة المباحث والمخابرات في ذلك الوقت. وقد تسربت أجهزة المخابرات الأمريكية إلى بعض ضباط هذه الإدارات، كما حدث عندما ذهب البكباشي أحمد حلمي مدير قسم مكافحة الشيوعية بالمباحث العامة إلى أمريكا لعمل غير معروف دون استئذان أو إبلاغ الجهات المختصة، إذا كان قد ابلغ أنه يقضى أجازته السنوية في قبرص وشوهد هناك مصادفة، ولما علم زكريا محيى الدين بذلك أصدر قرارا بإحالته إلى الاستيداع، حيث بقى لمدة عام، وانتقل بعد ذلك إلى أجهزة البوليس العادية بغير محاكمة.

حدث التسرب الامريكى رغم أن وزارة الداخلية لم تحتفظ في المباحث العامة سوى بأربعة ضباط فقط من رجال البوليس السياسي السابقين ورغم أن العسكريين فرضوا إشرافهم على وزارة الداخلية منذ الأيام ألأولى".

إن إخراج السراي والإنجليز من المباحث العامة، وسيطرة العسكريين المتحالفين مع الأمريكان ، كان الشرط الضروري لتوافر المناخ الصالح للتسرب الامريكى.

وهذه غلطة قاتلة تسقط فيها هذه الانقلابات، إذ أن الانفتاح والتعاون الصريح مع أجهزة المخابرات الأمريكية أ, الأجنبية يعطيها شعورا كاذبا بالاطمئنان ، إن هذه الأجهزة تلعب من وراء ظهرها، ولن تحاول تجنيد عناصر داخل أجهزتها المحلية، وهذا وهم لأن المخابرات الأجنبية تنتهز هذا المناخ، وهذا الانفتاح لزرع عناصرها، وتدمير العناصر الوطنية المعارضة في أجهزة الأمن.. ولعل هذا يفسر لنا السهولة التي يتم بها الانقلاب الأكثر أمريكية فيما بعدن أو حتى اغتيال رئيس الدولة أو اعتقاله من أقرب المقربين له أو من يظن أنه أخلص أعوانه.. إن فترة التعاون مع المخابرات الأمريكية ، قد أدت إلى تسرب لا يعلم أحد مداه، من جانب ههذ المخابرات داخل مؤسساتنا، وخاصة أن الذي يقبض عليه متلبسا- إن صحت رواية حمروش- يعاقب بالاستيداع سنة ثم يعاد للخدمة معززا مكرما بلا محاكمة، في وقت كان العمال يشنقون فيه لأنهم يطالبون " ثورتهم" بتحسين أحوالهم، وكان من يضبط بتهمة إعطاء بعض الطعام لأسر المعتقلين من الإخوان يسجن ربع قرن.

ويقول حمروش : أرسلت الحكومة المصرية عدة بعثات تدريبية في أعمال البوليس والمخابرات مثل الصاغ حسين عرفه رئيس المباحث الجنائية العسكرية المعروفة بالبوليس الحربي الذي حصل على فرقة في معسكر كامب كوردون بولاية جورجيا . وهذا مثل وحيد لعشرات من الفرق".

وحمروش حزين أو عاتب لأن " الثورة المحبوبة" استعانت بأسوأ العناصر، من أعوان النظام المنهار بل النفايات التي كانت الحركة الوطنية قد عزلتهم تماما مثل نجوم دار أخبار اليوم.. ومثل " حسين عرفة" الذي كان يتولى حراسة الملك فاروق في الكباريهات، من خطر السادات .

تولى بعد الثورة حماية هؤلاء الضباط من الشيوعيين ولكن بعد التدريب في أمريكا ويقول حمروش:" وحاولت حركة الجيش أن تواصل لعبتها السياسية في التسرب داخل صفوف الشيوعيين، كما فعلت ذلك مع الإخوان المسلمين ، فكلفت بذلك " حسين عرفة" رئيس المباحث الجنائية العسكرية"، " لعبت المخابرات المركزية ( الأمريكية) دورا كبيرا في إفساد العلاقة بين التنظيمات الشيوعية المعبرة عن آمال الفلاحين والطبقة العاملة وبين حركة الجيش التي فرضت نفسها بقوة السلاح ممثلة للطبقة الوسطى".

الأمريكان وعبد الناصر يعدان بتكوين طبقة وسطى بعد عمر طويل، والسيد حمروش يفتى بأن حركة الجيش هى حكم الطبقة الوسطى.

ويستعرض حمروش نماذج شديدة النجاح في تغلغل رجال الثورة في الأحزاب السياسية وتمزيقها من الداخل، وهو لا يريد أن يقول صراحة، إن الفضل في ذلك لنفس القوى التي استطاعت استئصال التنظيمات الشيوعية، لأن رجال الثورة كانوا بلا خبرة تقريبا، فكيف يتمكنون من تمزيق أحزاب أعرق وأحفل بالخبرات؟ بل إن التنظيم السري للإخوان كان أقوى وأكثر انضباطا من تنظيم السادات، مع فارق الدبابات والنصيحة الأمريكية.. والشيوعيون كانوا أخبر بفن التسلل.. حمروش وأمثاله لا يريدون الإقرار بفضل المخابرات الأمريكية في التمكين لثورة يوليو.. وهذا من قلة الوفاء الذي انتقده " أمين هويدى" بحق- وإن كان هو لم يتسم بالوفاء على الوجه الأكمل، وإلا لأشاد بالمساعدة " الأخوية" النبيلة التي قدمتها المخابرات الأمريكية حامية الثورات وقائدة معسكر الشعوب الحشاشة..

وقد شهد محمد حسنين هيكل بواقعة مدرسة الكادر هذه التى أقيمت بإشراف وتدريس المخابرات الأمريكية، وكانت النواة لجهاز المخابرات المصري، تماما كما حدث مع جهاز " السافاك" الإيرانى إذ يقول " منصور رفيع زادة" رئيس مكتب السافاك في نيويورك وعضو الـ سى آى ايه في نفس الوقت: " في 1957 أنشئت السافاك باتفاق من الـ سى آي ايه والمخابرات البريطانية والموساد ( مخابرات إسرائيل ) وتولى الموساد التدريب على الأعمال المكتبية وكانوا يتظاهرون بأنهم أساتذة أوربيون أما الـ سى آى ايه فقد تولت كافة عمليات التدريب" وإن كان لا يفوته أن يقول إنه بعد التدريب لم تطأ قدم أجنبي مقر السافاك ( ولزمته إيه الأجنبي مادام قد تم تدريب القرد..).

ويحدثنا هيكل عن الأربعة الذين تم تدريبهم على يد الأمريكيين ليقودوا مخابرات الثورة.. فيقول إنهم:" كمال رفعت ولطفي وأكد ، وحسن التهامي، وصلاح دسوقي ، وأنهم ذهبوا إلى ا لولايات المتحدة لكي يحصلوا على تدريب مخابرات خاص بحيث يسهل عليهم التعامل مع أساليب الاتصال الجديدة". "وكان ذلك باقتراح من كيريمت روزفلت وترشيح عبد الناصر". ( ص 328 ع) .

هل حدث أسوا من ذلك أيام الحماية وملنر؟

ويبدى هيكل دهشته من أن " معظم هؤلاء بعد تجربتهم المباشرة مع النشاط الامريكى في مصر تحولوا إلى أقصى اليسار بل أصبح من بينهم أبرز أقطاب اليسار في مرحلة لاحقة".
سنترك هذه فهي ليست موضوع بحثنا، ويكفى أن نندهش بدورنا هل كان يتوقع من " كادر" تدربه المخابرات الأمريكية للعمل في مصر الناصرية أن يعلن إيمانه بأمريكا ويؤيد غزوها لجواتيمالا ويبيع لبان تشكلتس؟ هل هذه أصول الشغل يا كاتب الثورة العربية- الأمريكية؟..
ويبدو أن عصابة الأربعة هذه مثل حكاية العميان والفيل، ففي شتى الروايات يختلف الأربعة.. إبراهيم بغدادي أحصاهم..هو وحسن التهامي وحسن بلبل وفريد طولان وعبد المجيد فريد كانوا يتلقون محاضرات من رجال المخابرات الأمريكية الـ سى آى ايه في مدرسة المخابرات التي أقيمت بقصر الأميرة فايزة بمدينة الزهرية" وهناك رواية أخرى.

" وأثناء تطوير وإعادة التنظيم أمكن للزميل حسن التهامي عضو المخابرات والذي كان على علاقة بأحد رجال المخابرات الأمريكية واسمه مايلز كوبلاند أن يستدعى مجموعة خبراء أمريكا( كذا) في علم المخابرات.

فقامت المخابرات المصرية بتجهيز منزل أمين لهم بالقرب من شارع الهرم وتكونت المجموعة المصرية من أربعة ضباط مخابرات فقط لعقد ندوات مع طاقم المخابرات الأمريكية في جميع أوجه التخصصات لمدة ثمانية أشهر.

وكان المفروض أن يتلقى حسن التهامي المحاضرات معهم ولكنه كان يحضر من وقت لآخر بمصاحبة مايلز كوبلاند وهو المؤلف المشهور لكتاب " لعبة ألأمم".

وكانت هذه المجموعة التي تدربت على يد خبراء المخابرات الأمريكية التي اقترحت " تنظيما عرضوه على زكريا محيى الدين في 3/ 12/ 1953" وصدر القرار بإنشاء هذا التنظيم باسم المخابرات العام في مارس 1954".

- ويفهم من هذه الروايات أن الدراسة بدأت مبكرا جدا في أوائل عام 1953 على الأكثر.
- ورغم أن الصياغة توحي بأنها دروس خصوصية نظمها " الألفة" حسن التهامي، إلا أن رواية هيكل الأعلم تؤكد أن المشروع كان باقتراح من كيرميت وترشيح عبد الناصر ولا أظن أن التهامي كان يستطيع إحضار مدربين أمريكان من الـ سى آى ايه لتدريب رجال المخابرات الثورة بدون علم صاحب الثورة.
- أن مايلز كوبلاند كان موجودا مهما ومشرفا من وقت مبكر جدا.
- أن التهامي كان يتمتع بمركز خاص مثل أبطال الرياضة في المدارس مما يسمح له بالتزويغ من الحصص..
- أن أكثر من " أربعة" كانوا يدرسون على يد الأمريكان.. أربعة كمال رفعت وأربعة بغدادي وأربعة التهامي.. الخ.. وهذا هو المفروض والمتوقع في تشكيل مخابراتي أن لا يعلم العامل فيه إلا ما يتعلق به..
- يبدو أن التعاون مع ألأمريكان وتقبل التتلمذ على الـ سى آى ايه كان على نطاق أكبر مما تصورنا في البداية.. وهذا يتطلب إعادة النظر في تقييم تنظيم السادات.

وربما أحس " هيكل" بما وصلنا إليه فبادر يقول:" وبشكل ما ، فإن جمال عبد الناصر لم يكن مقتنعا بما يجرى".

لعن الله من جره إلى هذا ومن أجبره ومن أقنعه بقبول هذا الأسلوب وهذا السلوك الذي أدى إلى خراب مصر وضياع العرب ربما إلى خمسين عاما قادمة.

يقول كوبلاند:" يجب أن نتذكر دائما، في تعاملنا مع عبد الناصر أن قاعدة القمع هى كل شيء بالنسبة له، ولذا يجب ألا نندهش عندما نجده بعد كارثة أبشع هزيمة في التاريخ العسكري الحديث، قد جلس هو معاونوه يفكرون لا في إعادة بناء مصر، بل في كيفية استعادة الثقة في الجيش..".

هذه هى رواية " مايلز كوبلاند" عن بداية انقلاب 23 يوليو.. وعن الاتفاق الذي تم قبل 23 يوليو 1952 بين المخابرات الأمريكية ممثلة في " كيرميت روزفلت" منفذ الانقلاب على مصدق في إيران- فيما بعد- وبين رجال عبد الناصر.. ثم بعض الوقائع التي قدمها عن التعاون بقلب مفتوح بين عبد الناصر ورجاله والمخابرات الأمريكية بعد نجاح الانقلاب.. ولا شك أن هذا التعاون وعلى هذا المستوى هو دليل " المعرفة السابقة" إذ أن الثورات عندما تصل إلى السلطة بجهدها الذاتي ورغم أنف الاستعمار والرجعية، لا تنفتح من اليوم الأول على هذا النحو مع أخطر جهاز استعماري..

.. شاهد نفى.

ورغم كل ألأدلة التي قدمناها على صدق رواية" مايلز كوبلاند" .. إلا أننا أحببنا أن نعززها بمصادر أخرى، حتى لا يبقى في النفس شك، وقد عثرنا على كتاب مخابراتي آخر، من جهاز منافس للمخابرات الأمريكية، لم يقدر له شهرة مايلز كوبلاند، وربما كان السبب في اعتقادي، أنه أخذ جانب العرب في عرضه للصراع العربي- الاسرائيلى، وحمل إسرائيل المسئولية الكبرى في إفشال محاولات السلام في المنطقة وأثبت أن إسرائيل لم تفكر يوما تفكيرا جديا في السلام مع جيرانها، بل كانت تفضل مفاوضتهم بالسلاح دائما.. ولذا كان من المحتوم أن يدفن هذا الكتاب ويواريه النسيان..
والكتاب أيضا حملة قاسية ضد المخابرات الأمريكية ، فهو يتهمها بأنها كانت أحد الأسباب الرئيسية في إفشال السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، بل وفيما جرى من تدهور في هذا الشرق الأوسط .. لأنها – في رايه- تجاوزت مهمتها التقليدية، وهى: جمع المعلومات، وتورطت في الانقلابات ، وتغيير الحكومات، وتوجيه السياسة الداخلية للدول العربية، وتمثيل السياسة الأمريكية بدلا من المؤسسات الدستورية الأمريكية العلنية..

والكاتب مع " نبل مقاصده" ، أو على الأقل صدقه، يتميز بالسذاجة، فهو يتآمر مع السياسي السوري ميخائيل العليان، على قلب الحكومة السورية ويدفع له نصف مليون ليرة لرشوة ضباط الجيش السوري والصحفيين.. ثم يسأله في براءة:" وهل سندفع أيضا للسياسيين السوريين.. أم أن غيرتهم الوطنية وحرصهم على إنقاذ وطنهم فيه الكفاية"؟..

ويعلق هو نفسه بأن المتآمر السوري، " انظر إلى نظرة أمي عندما كنت أعملها على روحي".

ولذلك فرغم أنه كان داخل العملية، إلا أن المخابرات الأمريكية اعتبرته دائما من الغرباء أو " الظهورات" يقول: " من محادثاتي مع مندوب الـ سى آى ايه اقتنعت بأنهم يعتبروني متطفلا يستحسن أن ابتعد عنهم".

فهو أساسا من جهاز منافس هو " المخابرات العسكرية" التابعة لوزارة الدفاع.. وحتى في العملية الكبرى التي اشترك فيها وهى تدبير انقلاب في سوريا عام 1956 والذي فشل فيها فشلا مدويا، ودفع سوريا خطوات أبعد في الاتجاه المعادى للغرب والمصادق للاتحاد السوفيتي.. حتى في هذا الانقلاب، أخفيت عنه الكثير من الحقائق كما يعترف هو نفسه: " استنتجت أن هناك جوانب من العملية لم أحط بها علما، ولم أغضب إذ لم يعدني أحد باطلاعي على كل ما تفعله المخابرات سى آى ايه في عملية سوريا" مع أنه كان في قلب العملية، وكان يعمل بعقد- وقتها- أو منتدبا من وزارة الدفاع للمخابرات الأمريكية. .وهو الذي كان ينقل الأموال كل ليلة إلى القصر الجمهوري في عهد شمعون لتمويل تزييف الانتخابات التي كانت السبب في ثورة لبنان عام 1958.. وهو الذي فاوض ناصر على قبول الدفاع المشترك وهدده بأن حلف بغداد سيضم كل الدول العربية ويترك مصر وحيدة.. وعمل في سياسة الأحلاف من عام 1953.

وقد فشلت مؤامراته وثبت خطأ تحليلاته، وحطم ناصر و" أصدقاؤه" حلف بغداد وعزلوا العراق ولم تعزل مصر.. وهو يعتقد أن المخابرات الأمريكية أو رجال الـ سى آى ايه هم الذين أفشلوا جهوده، وهو يحملهم مع إسرائيل ، أو حتى قبل إسرائيل ، مسئولية فشل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.

وهكذا فإذا كان كتاب " لعبة ألأمم" هو دفاع المخابرات الأمريكية عن دورها في الشرق الأوسط، وبالذات عن مراهنتها على عبد الناصر، وثورة 23 يوليو واعتذارها بأن مخططا كان سلبيا وعبقريا ، وكان أحرى به أن ينجح لولا أخطاء ولخبطة الهواة من بيروقراطي وزارة الخارجية والبنتاجون، والسياسيين في الكونجرس والبيت الأبيض.. الذين أفسدوا اللعبة ودفعوا عبد الناصر إلى الصدام مع الولايات المتحدة .. فإن كتاب " حبال من رمال" الذي ألف " ولبر كراين ايفيلاند" الذي كان يمثل جهازا آخر منافسا هو المخابرات العسكرية، هو وجهة النظر الأخرى فقد شن – كما قلنا- هجوما صارخا على المخابرات الأمريكية لأنه يتبنى وجهة النظر التي كانت هامسة في أروقة وزارتي الخارجية والدفاع خلال الخمسينات والستينات، إلا أن النجاح الهائل للمخابرات الأمريكية في قلب حكومة جواتيمالا، وإعادة الشاه إلى عرشه، " وطرح عبد الناصر زعيما للقومية العربية"..

كان يخرس هذه الهمسات ويطلق يد المخابرات الأمريكية، ولكن في النصف الثاني من الستينات بدأت الانتقادات والاعتراضات تصبح مسموعة أكثر، حتى كانت السبعينات، وطرحت المخابرات سى آى ايه وعملياتها وأسلوبها للنقاش بل التجريح العلني، وفتحت ملفاتها ، وطالب السياسيون والرأي العام بمحاسبتها..

وارتفع صوت أصحاب الشعار القديم القائل بأن سياسة الولايات المتحدة الخارجية هى جمع لمعلومات فحسب. . ويرد رجال المخابرات بأن هذه بالطبع مبادئ نظرية، فإن إغراء تحريك الأحداث بضربة مخابراتية، مثل اغتيال زعيم مناوئ أو قلب حكومة لا أمل فيها، أو دعم زعيم متعاون.. ودفعه للسلطة.. يظل أقوى من أن يخضع للاعتبارات الدستورية والتقاليد التي لم تتجاوز الكتب والبيانات الرسمية..

وهذه الأزمة بين الواقعية والشرعية، تتفجر عادة، كلما قبض على الولايات المتحدة متلبسة بفعل قبيح يتنافى مع السياسة المعلنة فضلا عن المبادئ التي يدعيها النظام الامريكى.. مثل تشكيل وتسليح جهاز الإرهاب الليبي أو عملية إيران أو اغتيال السفير التشيلى.. الخ..

المؤلف" ولبر كراين ايفيرند" يعود مجددا فيطرح هذه الشعارات عندما يقول: " من المستحسن فهم استمرار فشل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، دون أن نأخذ في الحسبان، سوء استخدام الـ سى آى ايه ( من اختصار اسم المخابرات الأمريكية وسنكتبها أحيانا السى آى ايه فعسى ألا يشق ذلك على القارئ" لمسئولياتها واختصاصاتها في تلك المنطقة، وإلى أي مدى أهمل مديروها،تقدير المعلومات التي حصلت عليها، وإلى أي مدى اعتمدنا على قدرة المخابرات ألأمريكية في تنفيذ عمليات تآمرية واستغنينا بذلك عن ضرورة وضع سياسة خارجية راسخة، ودبلوماسية تقليدية ولذا فإن ما أكتبه عن نشاط المخابرات الأمريكية وفشلها لا يقصد به أن يكون مثيرا بل مجرد جزء من الحقيقة حول مشكلة وجودنا في الشرق ألوسط" .

ويقول : " وسرعان ما عرفت أن المخابرات الأمريكية تحت " آلن دلاس" .

كان لديها قابلية محدودة للاستفادة من المعلومات عن العلاقات العربية – الإسرائيلية .

لأنه تحت رئاسة " آلان دلاس" كان خبراء المخابرات الأمريكية مشغولين بالعمليات السياسية ، وأقل اهتماما من المخابرات العسكرية بالمهام الروتينية الخاصة بجمع المعلومات، عن الواقع القائم فعلا.. إن محللي الـ سى آى ايه لا شك في كفاءتهم، ولكنهم كانوا في المرتبة الثانية داخل الـ سى آى ايه بالنسبة لزملائهم العاملين في الخدمة السرية".

أي أن النجاح الذي حققته عمليات التآمر، ونتائجها السريعة والمثيرة، جعلت الجهاز كله يهتم بهذا اللون أكثر من جمع المعلومات وإصدار التحليلات.. فما دمت تملك تغيير الواقع بشراء حفنة من الضباط، أو بعشرة آلاف دولار كما تفتخر مجموعة كيرميت روزفلت التي اشتركت في قلب حكومة مصدق، وإقامة أقوى عميل لأمريكا لمدة ربع قرن.. أو حتى بمليون دولار كما جاء في كتاب روزفلت نفسه، ما دام يمكن تغيير الواقع بهذه السهولة، فلماذا إنفاق الجهد في دراسة المجتمع الإيرانى، على طريقة الإنجليز قبل مائتي سنة؟ وهكذا تراجع قسم التحليل والمعلومات، وأصبحت الشهرة والحظوة من نصيب العاملين في الميدان وفى قسم المؤامرات .. وهذا زعم المؤلف بالطبع.. ولا نملك نفيه أو إثباته وإن كنا نعتقد أن قسم المعلومات ربما لم يقصر ولكن "المتنفذ" يعلم ما يجب لا ما يدرس له.

يقول :" عندما أصبح " فوستر دلاس" وزيرا للخارجية و" آلن دلاس" شقيقه مديرا للمخابرات الأمريكية .

فإن رؤساء المخابرات العسكرية وأيضا ادجار هوفر( مدير المباحث الجنائية) تخوفوا من أن تأخذ العمليات السرية الـ سى آى ايه الأولوية على مهمة جمع المعلومات.

وقد تحققت المخاوف عندما قامت المخابرات الأمريكية بتوجيه من آلن دلاس، بتغيير الحكومة في إيران 1953 وقلب النظام في جواتيمالا 1954 بالإضافة إلى أن عمليات الـ سى آى ايه بدأت قبل أن يصبح آلن دلاس رئيسا وأصبح لها وجودها ، مما جعل من الصعب على الولايات الوحدة التخلي عنها".

وقد ختم كتابه بأمنية تقولك" آمل أن تتفرغ الـ سى آى ايه لمهمتها الأصلية وهى جمع المعلومات، وتجنب إغراء العلاج السريع، بتدبير انقلاب، وهو الأسلوب الذي كلف الولايات المتحدة غاليا في الشرق الأوسط.. لقد شبعنا من هذا الدواء".

وسنجد خلال استشهاداتنا من كتابه، عشرات الأمثلة على التناقض بين موقفه هو والجهة التي كان يمثلها ، وبين الـ سى آى ايه ورجالها وأساليبها.. وليس يعنينا تناقض الرجلين أو الكتابين، وإنما نهتم بما يظهر من حقائق على ضوء خلافهما.. وقد اخترنا هذا الكتاب بالذات لأنه ينفى " في هامش إحدى صفحاته" دور المخابرات الأمريكية في قلب النظام الملكي، ويبرئ ساحة السفير الامريكى كافري من هذا " الغدر" بل يشيد بأخلاقياته بعبارة، إن كان صادقا فيها فهو حقا شديد السذاجة، ويستحق ما ناله من فشل في كل مهماته، وإذا كان يخدعنا بها فهو يستحق حقا نظرة أخرى من نظرات أمه ، إلا أن إجابة " كيرميت روزفلت" التي رد بها على سؤاله الساذج، والتي استشهد بها هو على انعدام دور المخابرات ألأمريكية في انقلاب 23 يوليو.. إجابة تكشف مدى تقديرهم لتفكيره وروح الفكاهة عند كيم هذا، وقارن إجابته هنا بإجابته على سؤال محسن محمد بعد خمس سنوات غير أن الرجل بلا شك صادق في رواية " م رآه" وكان الأحرى به ألا يصدر أحكاما قاطعة فيما ليس له به علم، ففي عام 1952 كان هو لا يزال في المدرسة يدرس اللغة العربية، منتدبا من القوات المسلحة للعمل في المخابرات العسكرية، وقد رأينا أنهم في المخابرات الأمريكية لم يطلعوه على كافة أسرار العملية التي لعب فيها الدور الرئيسي، فكيف كانوا سيطلعونه على ما لم يشهده ولا دور له فيه؟

المهم قال في هامش صفحة 97- 98 التالي حرفيا:

" نسب كوبلاند في كتابه لعبة ألأمم، الفضل لكيرميت روزفلت في قصة الثورة السلمية التي مكنت فاروق من التنازل عن العرش دون أن يصاب بأذى، ونظم إحلال سياسيين محله، وأن روزفلت وافق على انقلاب عسكري مذعنا لرأى كافري بأن الجيش وحده يمكن أن يواجه تدهور الحالة. وهذا يتنافى فقط مع أخلاق كافري ولكنى أيضا عرفت أن انقلاب 23 يوليو فاجأ الـ سى آى ايه تماما، وأول معلومات جاءت عبر ليوتاننت كولونيل إيفانز مساعد الملحق الجوى بالسفارة الأمريكية، الذي كانت له اتصالات مع ضباط مجلس قيادة الثورة.
وعبر وليم ليكلاند السكرتير الثاني بالسفارة . كافري أصر على توديع فاروق حتى خرج من مصر وبذلك حظي باحترام مجلس الثورة الذي رأى هذا الدبلوماسي البارز لا يتعامل إلا مع الرئيس الشرعي للدولة.
ولولا أن المخابرات سى آى ايه قد وجدت في ناصر عميلا آخر ممكنا مثل الشاه. لاستمر كافري يتعامل مع نجيب ثم ناصر مقدما النصح الطيب، الذي ربما جنب الولايات المتحدة الكوارث التي حدثت فيما بعد..

وفى عام 1972 ناقشت مع كيم روزفلت الادعاء بأن الـ سى آى ايه رتبت سقوط فاروق.

وكان روزفلت وقتها يربح من شركة تمثل الشاه وبعض العرب في واشنطن، وكان كيم قد أصبح متواضعا فرد على سؤاله بأنه ما كان ليحصل على ثقة زبائنه من الملوك لو كان فعلا خلع الملك فاروق"..

هذا ما قاله.. وهو كما ترى لا يستند إلى دليل ، أكثر من عدم علمه، فهو لم يقدم دليلا واحدا على مفاجأة السى آى ايه بالانقلاب، بل بالعكس إن علم إيفانز وليكلاند وهما من رجال المخابرات يجعل علم رئاستهما أمرا مؤكدا.

بل إن إيفانز بشهادة محسن محمد كان يحرضهم على الثورة ولم يفسر كيف يكون الانقلاب مفاجأة أي عملية وطنية مصرية، وكيف تجد السى آى ايه بسرعة في ناصر إمكانية شاه آخر؟.. أما رد كيم روزفلت الذي كان يعمل في استثمار أموال الملوك وتقديم الاستشارات لهم، فهو رد طبيعي ومتوقع فما كان روزفلت باذلى يفخر في 1972 بأنه هو الذي أهدى المنطقة إعصار عبد الناصر" ولا كان هناك م سبب يدفعه للاعتراف بذلك لهذا الغريب الى قرر روزفلت – من قبل – عدم إعطائه المعلومات عن العمليات التي كان ايفيلاند نفسه يقوم بها والذي أفشل رجاله في الـ سى آى ايه .. مهمته في مصر على الأقل.

ورغم ذلك فنحن نقبل ايفيلاند كشاهد نفى، لأن روايته وشهادته بما شاهده وسمعه عن تلك الفترة تدعم رواية كوبلاند إلى أقصى حد، وبالذات شاهد نفى.. وهو الذي قال على أية حال الآتي:

" منذ أوائل الخمسينات جند كيرميت روزفلت ومحطة السى آى ى ايه في القاهرة ، ثلاثة من الصحفيين المصريين البارزين " كعملاء" للمخابرات الأمريكية هم: محمد حسنين هيكل والإخوان أمين.. مصطفى وعلى" .. وأن ناصر كان يعرف ذلك.

وهو الذي قال إن المخابرات الأمريكية هى التي أقامت " صوت العرب" من الناحية الفنية بتزويده بالمعدات الميكانيكية، ومن الناحية الدعائية بالخبراء في الدعاية.

وهذه أشياء رآه وسمعها بنفسه، وبمقارنتها بما جاء في كتاب مايلز كوبلاند ، ورسالة مصطفى أمين، وشهادات الناصريين والسادات يستطيع أبسط الناس أن يكون فكرة عن مدى سيطرة المخابرات الأمريكية على لأحداث التي جرت في مصر ابتداء من عام 1952 ومدى التعاون بين نظام 23 يوليو وهذا الجهاز.. وإنما محاولة لفهم التاريخ، والاستفادة من دروسه وعبره..

قال في شرح ارتباط المخابرات الأمريكية الإسرائيلية ونشاط كيم روزفلت في الشرق الأوسط.

" خلال عمل " جيمس انجلتون" في المخابرات في الحرب العالمية الثانية، كون علاقات مع مجموعات المقاومة اليهودية في لندن، وتم تبادل المعلومات بعد ذلك مع الموساد، وأصبحت الـ سى آى ايه تعتمد على الموساد ( المخابرات الإسرائيلية) اعتمادا كبيرا في معلوماتها عن الدول العربية.

وفى إيران كان كيرميت روزفلت خبير آلن دلاس في الشرق الأوسط منشغلا ببناء السافاك لضمان عدم خلع الشاه مرة ثانية. والآن عرفت أن إلحاح روزفلت على أن مصر- جمال عبد الناصر، يمكن استخدامها لخدمة أهداف أبعد للولايات المتحدة في الشرق ألوسط، ينظر إليه ) أي لهذا المطلب) بحذر من قبل معظم خبراء وزارة الخارجية.. ولكن الأخوين دلاس كانا موافقين على السماح لروزفلت بأن" يدبر رأسه" ( أو يجرب محاولته) مع ناصر في الوقت الحاضر.

وإذا وضعنا في اعتبارنا سيطرة فوستر دلاس على إستراتيجية الولايات المتحدة الخارجية، فقد كان ذلك يعنى إعطاء موافقة حكومية على خطط روزفلت بالنسبة لناصر".

بدون انفعال ماذا تعنى هذه الفقرة؟

1- كيرميت روزفلت نائب مدير المخابرات الأمريكية لشئون الشرق الأوسط ومنفذ الانقلاب الامبريالي في إيران وصديق مصطفى أمين من الحرب العالمية، والذي عن طريقه قدمت المخابرات الأمريكية خدمات لها مردود مالي" لأخبار اليوم" بنص رسالة مصطفى أمين..
2- هذا الكيرميت روزفلت يراهن على أنه سيستخدم مصر الناصرية لمصلحة أمريكا.
3- خبراء وزارة الخارجية يشكون في نجاح هذه العملية.
4- آلن دلاس مدير المخابرات وجون فوستر دلاس وزير الخارجية ، وهما بلا شك أكثر علما بحجج وإمكانات روزفلت، وافقا على إعطاء فرصة لروزفلت لامتحان " اختراعه " في مصر..؟

أليست هذه علاقة طيبة جدا مع المخابرات ألأمريكية؟

كيف قامت هذه الآمال إلى حد المراهنة عليها في خاطر نائب مدير المخابرات الأمريكية والرجل الذي يلعب في السياسة المصرية، وصديق الملك فاروق منذ الأربعينات ؟

كيف لم تساروه هذه الآمال لا هو ولا غيره عن هوشى منه أو ماوتسى تونج أو كاسترو وساورته – دون سابق معرفة- مع ثورة " فاجأته تماما" ؟ .. وبلغ من قوة أسبابه في هذه الآمال أن وافق وزير خارجية أمريكا والمدير العام لمخابراتها على إطلاق يده ليستخدم " مصر- عبد الناصر" في خدمة أهداف الولايات المتحدة؟..

بدأ اتصال المستر " ولبر كراين ايفلاند" بمصر بعد توقيع اتفاقية الجلاء، وله فيها ملاحظة في منتهى الدقة، إذ قال إن أول مشاريع الدفاع الغربية عن الشرق ألأوسط هى المعاهدة التي وقعها عبد الناصر مع بريطانيا في 24 أكتوبر 1954.. لأنها أعطت بريطانيا الحق في العودة إلى مصر إذ ما وقع عدوان على تركيا.. أو المنطقة العربية.. وهذه سنرجع لها في فصل الأحلاف..

المهم يقول:" أخبر " محمود فوزي" السفير الامريكى، إن مصر قررت بعد دراسة مكثفة ألا تطلب سلاحا من أمريكا ولكنها تطلب زيادة المعونة الاقتصادية. وقد أثار التقرير ثائرة ممثلي الـ سى آى ايه في مجلس تنسيق العمليات .......وقالوا إن السفير الامريكى ليس له مداخل مع رئيس الوزراء ناصر. وأن جميع المفاوضات الأمريكية الخاصة بالمساعدة العسكرية- على حد قولهم- كانت تدار بين ناصر وكيرميت روزفلت بتاع الـ سى آى ايه وأفراد محطة الـ سى آى ايه في القاهرة .

وبناء على ما ذكره " روزفلت" فإن ناصر يريد مناقشة صريحة لإمكانات تقديم مساعدة عسكرية لمصر.

وأنالـ سى آى ايه دبرت إعطاء ناصر 3 ملايين دولار من المصروفات السرية.

وكذلك اقترحت سى آى ايه تقديم معونة عسكرية لمصر في حدود أربعين مليون دولار، وبما أن هذه الترتيبات كلها سرية، فإن الأمر لا يتطلب إرسال بعثة عسكرية للعمل في الجيش المصري، كما يقضى قانون الأمن المشترك الامريكى. على أنه وفقا لخطة الـ سى آى ايه فإن مفاوضات باسم البنتاجون في ثياب مدنية، سيرسلون لمناقشة عقد اتفاقية رسمية مع مصر لتأمين مساعدة عسكرية بمبلغ 20,1 مليون دولار مقررة فعلا لمصر.." .

الشرح:

1- خبر " غريب" أرسله كافري يزعم فيه على لسان " محمود فوزي" أن مصر لا تريد (في أكتوبر 1954 ) معونة عسكرية. ولما عرض الأمر على اللجنة المشتركة للخارجية والدفاع والمخابرات الأمريكية، غضب مندوبو الـ سى آى ايه ورفضوا هذه المعلومات، وقالوا إن كافري لا يعلم شيا وليس له اتصال مفتوح مع ناصر الذي يعرف ويدبر كل شيء ( لم يكن نجيب قد خلع رسميا ولكنه كان قد فقد كل سلطاته حتى الشكلية من نهاية مارس 1954)
2- جميع المفاوضات الخاصة بالسلاح مع ناصر لا تدار عن طريق السفارة، بل عن طريق رجال المخابرات الأمريكية.
3- الـ سى آى ايه هى التي خططت إعطاء ناصر 3 ملايين دولار من المصاريف السرية وبذلك تتأكد قصة مايلز كوبلاند حرفيا.
وهذه هى الملايين الثلاثة الشهيرة التي بنى بها عبد الناصر برج القاهرة، وإن كانت هناك رواية تقول إن البرج تكلف مليونا فقط ، ولا يعرف أين ذهب المليونان.
4- المخابرات ألأمريكية كانت تعرف استحالة قبول عبد الناصر بعثة عسكرية للإشراف على إنفاق المعونة، فاقترحت إعطاءه أربعين مليونا بطريقة ما، لا تتطلب هذه الشروط .
5- تقرر إرسال مندوبين من وزارة الدفاع الأمريكية في ثياب مدنية للتباحث مع عبد الناصر.

قال :

" وعند إعداد توصياتي لوزير الدفاع حول اقتراحات الـ سى آى ايه أوصيت بمعارضتها باعتبارها معارضة للقانون،وقد وافقوا على عرضي ورفع إلى اجتماع مكتب التنسيق. وكان اعتراضي الرئيسي هو أن مصر أبلغت أن حاجتها ما بين خمسين ومائة مليون دولار أسلحة كمساعدة، ولذلك فإن الملايين المقترحة من الـ سى آى ايه كترضية أو تحلية لا أعتقد أنها ستؤثر على ناصر خاصة عندما يعلم أن 20,1 مليون فقط متاحة كمنحة عسكرية.
وأن من هذه الـ 20,1 تقترح وزارة الخارجية اقتطاع 8 ملايين وإعطاءها لأثيوبيا، وعلى ضوء ما رأيته من غضبة باكستانية، لأنهم نالوا أقل مما يجب. اقترحت أن نقبل رفض فوزي خلال القنوات الدبلوماسية العادية.
وإن هذه العمليات السرية قد ترتد علينا.. وفى اجتماع " مجلس تنسيق العمليات" رفضت توصياتي وانتصرت موجة الـ سى آى ايه السائدة، وأكثر من هذا أوصى مجلس وزارة الدفاع باختيار ضابطين للتوجه سرا إلى مصر لمقابلة ناصر بترتيب من الـ سى آى ايه أما الأدميرال ديفيز الذي كان يؤيدني، ولكنه يعرف متى يحسن الانحناء فقد قال لي:" إذا لم نقدر على هزيمتهم، فدعنا ننضم إليهم ونفتح أعيننا على أموالنا".
وتقرر أن أكون أنا أحد الضابطين اللذين يقابلان ناصر، وأن أرشح الضابط الآخر.
وقد وافق ديفيز على اقتراحي بتعيين الكولونيل " آلن جير هاردت" الذي كان صدقا لبايرود الذي كان قد نقلني إلى وزارة الدفاع.
ولأن رحلتي للقاهرة تعنى اشتراكي في عملية نظمتها الـ سى آى ايه فقد بدأت برؤية " بايرود" وكيل الخارجية المساعد، لأسأله هل الوزارة ( الخارجية) تؤيد فعلا، أن يدير رجال العمليات السرية في الـ سى آى ايه الدبلوماسية الأمريكية في مصر؟.. وعندما سألت بايرود إذا ما كان الإخوان دلاس يدبران فيما بينهما صنع وتنفيذ السياسة الأمريكية الخارجية؟ .أذكر أنه ضحك..".

الشرح:

1- أوضح أنه كان يقود المعارضة ضد المخابرات الأمريكية في مكتب تنسيق العمليات .. وزارة الدفاع تبنت توصيته بإلغاء خطة الـ سى آى ايه والدخول في مفاوضات رسمية علنية مع عبد الناصر.
ولكن مكتب التنسيق كان أعلم ، ولذلك رفضت توصيته، وتقرر إرساله مع ضابط آخر لمصر للمفوضة سرا مع ناصر بترتيب المخابرات الأمريكية وفى نطاق خططها ، وداخل إطار نفوذها.
2- كانت المعارضة منتشر لهذا الأسلوب، ولانفراد رجال السى آى ايه بتوجيه أو تنفيذ سياسة أمريكا في مصر فهو يقول صراحة لوكيل الخارجية المساعد والذي سيصبح سفيرا في مصر، إن الأخوين دلاس يعملان خارج المؤسسة الشرعية أو خرج القنوات لتقليدية للدبلوماسية الأمريكية . وبايرود يضحك.
وهو يقول " بايرود"كان معارضا لإسرائيل فطالب اليهود بإخراجه من الوزارة، ولكن دلاس مدير المخابرات وروزفلت اقترحا تعيينه في مصر، حيث حولته المخابرات الأمريكية إلى " طرطور" كما يفهم من عرض كوبلاند وايفيلاند ومصطفى أمين وبغدادي .. الخ..
قال ايفيلاند إنه سال لويس جونز الرجل الثاني في السفارة الأمريكية بالقاهرة عن" الأحوال في سفارتنا فقال إن وضع بايرود ، وأنه يتساءل .. من يمثل الولايات المتحدة في مصر، وفى التعامل مع عبد الناصر.. هو أي السفير.. أم المخابرات الأمريكية ؟ لأن مايلز كوبلاند كان يرى الرئيس المصري كلما حلا له، وكان يعده بما يفوق قدراته على التنفيذ والطاقم الضخم للمخابرات ألأمريكية في مصر يتعامل مع الحكومة المصرية على كافة المستويات تقريبا كما يتعامل مع الصحافة المصرية ذات النفوذ.
وقال " جونز" إنه كان من ألأفضل ترك مفاوضات السلاح لكافري ثم بايرود، لتفادى إعطاء ناصر انطباعا خاطئا بقدرة المخابرات سى آى ايه على اكتشاف حيلة لتفادى توقيع مصر لاتفاقية المعونة العسكرية.
وقد أورد " كوبلاند" أكث من قصة عن إهمال وتخطى المخابرات للسفير الامريكى بايرود، لأنه كان من خارج اللعبة، ولأنه كان من منتقدي سياسة الانحياز لإسرائيل ، وأشهر هذه القصص المتداولة في صحافتنا والكتب العربية عندما فوجئ السفير بوجود " كيرميت روزفلت" في القاهرة على مأدبة عشاء، عندما دخل متأبطا ذراع الرئيس عبد الناصر دون أن يكون لدى السفير الامريكى ( بايرود) ولا مجرد علم بوجوده في القاهرة، وقد انفعل وأثار حادثة ضرب موظف بالسفارة، والقصة موجودة في كتاب كوبلاند ( الصفحات من 161- 165) أما ايفيلاند فيضيف تعليقا صغيرا يوضح طبيعة العلاقات التي كانت سائدة بين الـ سى آى ايه والسفير .. قال " وعرفت من كوبلاند أن بعض صغار الموظفين المصريين اتهموا الملحق العمالي بالسفارة بالتجسس وضربوه علقة أمام البوليس المصري الذي وقف متفرجا، فسألت ايكلبرجر: هل هو من رجالك ؟ ( المخابرات) قال : لا لو كان من رجال ربما لم يكن بايرود يستاء.
3- كانت الجهة صاحبة الكلمة النافذة في شئون مصر هى المخابرات، ولذلك فإذا الأدميرال نفسه ممثل وزارة الدفاع لم يجد ما يقوله غير " إذا لم تقدر عليهم فانضم إليهم"..
وهنا نسأل بكل أدب.. ما السبب في إعطاء الـ سى آى ايه كل هذا النفوذ أو اليد المطلقة في مصر الناصرية.. ألا يعنى ذلك أن لهم رصيدا يخولهم التحدث بهذه الثقة ، ويعطيهم الحق في طلب إطلاق يدهم؟

قال :

" لبسنا ثيابا مدنية، لأن ناصر كان قد تخلص لتوه من 80 ألف عسكري ، ولم يكن يتحمل وجود عسكريين أجانب جدد.
وسافرت أنا وجير هاردت من نيويورك إلى لبنان حيث انتظرنا عدة أيام حتى تصل موافقة المخابرات الأمريكية على متابعة السفر للقاهرة.
وقد حاولت أن أثنى جير هاردت عن الحديث مع ناصر عن التحالف العسكري، مشيرا إلى المحاولات الفاشلة السابقة لبريطانيا لجر مصر إلى قيادة الشرق ألوسط ومنظمة الدفاع عن الشرق الأوسط.. وقلت ناصر سيرفض أي حديث عن مبادلة السلاح بمحالفة الغرب. . ويجب - فقط – أن نناقش الأحلاف الدفاعية إذا ما أثار ناصر الموضوع، وفى هذه الحالة يمكن أن نشير إلى المشاكل السياسية الموروثة في الجامعة العربية وميثاقها الدفاعي الذي من خلاله حاول العرب عبثا أن يتحدوا في مواجهة قيام إسرائيل.
والأفضل أن نناقش كيف تستخدم مصر الخمسة ملايين دولار المصروفة من المصروفات السرية لدعم مجلس الثورة وتحسين الأمن الداخلي، ثم تستكشف مع ناصر موضوع السرية لدعم مجل الثورة وتحسين الأمن الداخلي، ثم نستكشف مع ناص موضوع رغبته في الحصول على الـ 20,1 مليون دولار منحة سلاح التي قررتها وزارة الدفاع.

" وفى اليوم التالي عرفنا أن الرئيس نجيب اتهم في محاولة لاغتيال ناصر الذي أصبح من المتوقع- الآن – أن يتولى الرئاسة, وخمنت أن المخابرات سى آى ايه قد احتجزتنا في بيروت لأنها كانت تتوقع اضطرابات في مصر، ورغم امتناني لقيام المخابرات بوظيفتها في جمع المعلومات إلا أنني تساءلت: ترى هل تآمرت الـ سى آى ايه مع ناصر للتخلص من محمد نجيب؟".

الشرح:

1- كان الجو في مصر متوترا ضد أي مظهر عسكري امريكى أو قل ضد أي وجود عسكري غربي، وعلى أساس أن مدنيا أمريكيا لن يحس به الكثيرون فقد جاءا في ثياب مدنية.
2- وصلوا إلى بيروت فاحتجزوا هناك بأمر الـ سى آى ايه ومنعوا من التقدم إلى القاهرة .
3- في اليوم التالي كانت محاولة اغتيال عبد الناصر واتهام نجيب..الخ..
4- استنتج على الفور، لأنه يفكر برأسه وليس بعصا حمزة البسيونى، أن الـ سى آى ايه احتجزتهما لأنها كانت تتوقع اضطرابات في مصر، وأحس بالامتنان والشكر لأن المخابرات الأمريكية ، ما زالت تجمع المعلومات، ومن ثم عرفت بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر قبل وقوعها.. ما زالت تجمع المعلومات ، ومن ثم عرفت بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر قبل وقوعها.. وباعتبار " الانفتاح" الذي تحدث عنه " الإخوان في أمريكا" بين ناصر والمخابرات الأمريكية اشتم الرجل بحاسته المخابراتية أن شيئا ما قد " طبخ" فتساءل هل تآمرت الـ سى آى ايه مع ناصر للإطاحة بنجيب؟.. وهذا الظن ، أو هذا الذي طرحه الرجل وكأنه " تخمينة" من ذكائه، أكدته رواية خالد محيى الدين وحمروش، بل وتؤكده رواية مصطفى أمين في رسالته لعبد الناصر عن قرار خبراء المخابرات الأمريكية بأن نجيب لا يصلح..

على أية حال نطرح سؤالا أبسط من ذلك.. هل يعقل أن المخابرات التي كانت لها كل هذه الصلات مع ناصر والتي كانت تراهن عليه ضد شكوك وتشاؤم أو تربص الأجهزة الأمريكية الأخرى، هل يعقل أنتعلم بمؤامرة على حياته ولا تبلغه ليأخذ حذره؟ ومن ثم هل لنا أن نقول إن عبد الناصر لم يفاجأ تماما عندما أطلقت الرصاصات إياها وهو على المنصة في ميدان المنشية؟.

بل بعد ما نشر من وثائق حتى على لسان " هيكل" تبين أن "كيرميت" وبالطبع جهاز الـ سى آى ايه الذي كان يرأسه كان يعطى عبد الناصر معلومات عن نشاط الإخوان في خارج مصر فهل يضن عليه بمعلومات عن داخل مصر؟ وشهد التهامي أنه كان هناك اتفاق بين السفارة الأمريكية وعبد الناصر بإبلاغه عن أية محاولة لتنفيذ انقلاب ضده.

وأخبرنا هيكل أن مندوب الـ سى آى ايه خرج مهرولا من اجتماع مع ا لمخابرات البريطانية ليحذر عبد الناصر من مؤامرة يدبرها الإنجليز لاغتياله.. اعتقد بعد هذا كله لم يعد لتساؤلنا معنى. و

لكن السؤال الجديد، وقد عرفنا من مذكرات الإخوان أن عبد الرحمن السندى وجماعة المنشقين في الإخوان والجهاز السري التابع للسندى كان متصلا ومتعاطفا ومرتبطا بعبد الناصر ، فهل نستبعد أن تكون العملية قد نظمت بالاتفاق مع هذا الجهاز ليكون الفاعل فعلا من الإخوان ثم فتك عبد الناصر كما هو المنتظر بالإخوان جميعا: الذي انصاع والذي عصى..؟ سؤال .. خاصة وقد جاء في اعترافات مدير السافاك السابق أنهم كانوا ينظمون مثل هذه العمليات لنشر جو من الإرهاب يمكنهم من البطش بالحريات واعتقال أو حتى إعدام المعارضين.. ولا تنس أن المدرب واحد في الجهازين السافاك الإيرانى والسافاك المصري..

وقال:

" في مطار القاهرة قابلنا مايلز كوبلاند " بتاع" الـ سى آى ايه في مصر، وخلال تمريرنا في الجوازات والجمرك والحجز لنا في سميراميس كان كوبلاند يستخدم اسم عبد الناصر بلا حساب أو تكليف . ومن أجل السرية انتقلنا من سميراميس إلى منزل كوبلاند في المعادى.. تحدثنا مع مايلز وجيمس إيكلبرجر عن محطة الـ سى آى ايه في القاهرة ، وعلمت أن كوبلاند يعمل تحت غطاء تجارى بعكس إيكلبرجر الذي يتستر تحت غطاء العمل في السفارة، مايلز يمثل شركة استشارات بوز، آلن هاملتون الدولية. وهو الذي يتعامل باستمرار مع ناصر إلا عندما يكون كيم روزفلت في القاهرة.. ولمح كوبلاند إلى أن روزفلت هو الذي صنع رئيس مصر الجديد، وبحث معه سياسة الولايات المتحدة أكثر مما فعل مع الشاه الذي حرص كوبلاند على تذكيرنا بأنه أنقذ بواسطة روزفلت".

الشرح:

1- مايلز كوبلاند وجيمس ايكلبرجر ممثلا أو مديرا محطة الـ سى آى ايه في مصر وهذه معلومات أكدها كتاب كوبلاند ورسالة مصطفى أمين.
2- مايلز كوبلاند يتحدث باسم عبد الناصر في مطار القاهرة والجوازات ويرهب المصريين بصلته بالرئيس المصري..
3- كوبلاند هو المختص بالتعامل مع الرئيس ناصر، إلا عندما يحضر المعلم الكبير روزفلت، عندئذ يقابل روزفلت أو يتعامل هو مع ناصر، والناس مقامات.. وهذا يختلف تماما عن الصورة التي قدمها لنا محمد حسنين هيكل عن مايلز كوبلاند فالرجل كان – في تلك الفترة- أكثر اتصالا وأكثر قربا للزعيم المصري من هيكل..
4- في عنفوان مراهنة الـ سى آى ايه على الزعامة الناصرية، وفى عنفوان التعاون بين ناصر والـ سى آى ايه وفى غرفة مغلقة، ومع ممثلين لوزارة الدفاع ولمكتب تنسيق العمليات، أي أعلى سلطة أمريكية في العمل الثرى، يقول لهم مايلز كوبلاند إن روزفلت هو الذي صنع رئيس مصر الجديد..
هل يعقل أن تكون هذه مجرد كذبة لا أساس لها من اختراع كوبلاند؟ ربما.. ولكن ما الذي رآه ايفلاند فعلا؟..

قال:

" كنت أريد أن أعرف شيئا ع مقابلتنا مع ناصر ، فسألت كوبلاند، إذا كان كيم روزفلت سيحضر ليرافقنا في المقابلة، فرد على الفور: لا .. واستمر لكي يريني حجمي الحقيقي فقال:" إن وزير الخارجية روزفلت للمهام الكبيرة .
وسيحضر عندما تتم الموافقة على إبلاغ ناصر بالمعونة الكاملة" وعضضت على لساني لكي لا أصرخ: ولماذا يكون للمخابرات سى آى ايه دخل في المعونة، أليس هذا من عمل السفراء الأمريكان؟.. وكنت لا أزال أعض على لساني عندما استمر كوبلاند قائلا:" إن كيم- كما تعرف- هو الذي رتب خلع فاروق، وهو الآن قد رفع ناصر إلى مركز القيادة للبلد" / وبادرت بالقول بأنني لا أعرف.. ونحن هنا فقط لمناقشة كيف ستنفق الملايين الخمسة على معدات الأمن الداخلي.. فرد باستهزاء.. آه ،هذه؟ .. أحمد حسين السفير المصري في واشنطن سيستلم قائمة بهذه الأشياء للبنتاجون..
" سألت كوبلاند عن الثلاثة ملايين المخصصة من المخابرات سى آى ايه .. وإذا ما كان سيعتمد صرفها فعلا للهدف الذي خصصت له؟.. نظر إلى نظرة كأننى غر ساذج يحتاج لمن يعرفه حقائق الحياة وقال: بيل.. هذا المبلغ اعتمد فعلا.. وأنا في انتظار إشارة من المالية في بيروت لكي يبعثوا إلى المال لأسلمه لناصر في بيته.. قلت وكيف كان ذلك ومكتب تنسيق العمليات لم يوافق على المبلغ إلا منذ أسبوعين.
قال :" نعم ، ولكن كيم وآلن دلاس يعرفان أنها قادمة، وقد بعثت بالخبر لناصر لتقوية معنوياته بعد محاولة الانقلاب" .. وعندما سألت هل هانك بايرود يعرف ذلك، على أساس أنه كسفير جديد، ربما يود أن يكون هو الذي ينقل الخبر لناصر.. رد كوبلاند.. " إن بايرود يستطيع أن يستمر كوكيل وزارة فعلى للمنطقة بينما ناصر والمخابرات سى آى ايه يقومون بالعمل نيابة عنه".
ورغم أنني سمعت ما فيه الكفاية فقد سألته هل يتوقع ناصر أننا هنا لنناقش معه منحة الـ 20,1 دولار.
فرد كوبلاند إن ناصر سيعتبر هذا المبلغ البسيط إهانة. وسيسلم لكما قائمة أسلحة بخمسين أو مائة مليون دولار.. وعندئذ تساءلت- مع نفسي- هل شجع مايلز، ناصرا على أن يصدق أننا سنتنازل عن الرقم الذي حددناه وسنقبل التفاوض على زيادته؟
" مهما تكن الحقيقة، فقد أخبرت كوبلاند أن 5,5 مليون من هذه الـ 20,1 ستذهب لأثيوبيا، وربما تأخذ باكستان الباقي.
وقال كوبلاند هناك وسائل أخرى للوصل إلى ميزانية وزارة الدفاع ، وعليك أنت " وال" أن تكونا مستعدين للكلام في مبالغ أكبر عندما تقابلان ناصر مساء الغد"..

الشرح:

1- استمر كوبلاند يتباهى " بعملة" معلمه في مصر فهو الذي " رتب إقالة فاروق، وهو الذي رفع ناصر إلى مرتبة القيادة في مصر" .. وربما انفعل ايفيلاند لأنه لا يعرف هذا الخبر الذي لم يعد سرا بل يذكر عرضا وبدون اهتمام وتسبقه عبارة " زى ما أنت عارف" فصاح: " لأ مش عارف" .
2- مندوب البنتاجون أو المخابرات العسكرية غاضب لأن المخابرات سى آى ايه تتدخل في أمور المساعدات العسكرية وهى من اختصاص وزارة الخارجية والدفاع.
3- المخابرات الأمريكية كانت تعد عبد الناصر بمبالغ كبرى كمعونة لمصر وبطرق تعفيه من سخافات ومذلة الكونجرس والخارجية والبنتاجون، وخاصة أنه كما سيقول كان يستحيل عليه وقتها أن يوقع اتفاقية دفاع مع أمريكا، غير التي وقعها في الأيام الأولى للثورة، ويستحيل عليه أكثر أن يقبل وجود مشرفين عسكريين أمريكيين في الجيش المصري..

وموقف المخابرات سى آى ايه هنا لا يخرج عن أحد الاحتمالات الآتية:

أ‌- أن يكون عن اقتناع فعلا بقدرة آلن وأخيه فوستر دلاس على إقناع المؤسسة الأمريكية بأهمية مصر الناصرية وبالتالي إطلاق يد أمريكا في الدفاع والدعم.
ب‌- أن يكون هدف رجال المخابرات سى آى ايه هو كسب الوقت بتهدئة عبد الناصر بالوعود الكاذبة.
ت‌- أن يكون هناك مخطط أكبر، للصهيونية فيه حصة كبيرة، يهدف لاستفزاز الزعيم المصري، عندما يكتشف أنهم خدعوه، وأنه عومل معاملة غير شريفة، مما يدفعه إلى أحضان السوفييت..
4- الثلاثة ملايين لشهيرة لم تكن قد صرفت ولا وصلت أثناء وجود الرجل في مصر، واعتمدت قبل أسبوعين فقط. وهو وصل مصر بعد محاولة اغتيال جمال عبد الناصر والحديث عن تقديم محمد نجيب للمحاكمة بتهمة التآمر ضد الثورة، مما يبطل بل يفقأ عين رواية محمد حسنين هيكل التي حاول فيها أن ينكر تقديم المبلغ لعبد الناصر وهى الرواية التي تراجع هو عنها على أية حال..
5- عبد الناصر كان عنده خبر بالمبلغ قبل وصوله.. ولا نتشبث كثيرا بحكاية أنهم أبلغوه بذلك لتقوية معنوياته بعد محاولة الانقلاب.. الخ..
6- واضح تشبث المخابرات بسيطرتها في مصر وأنها لا تنوى أن تتيح فرصة للسفير الجديد بايرود لممارسة مهمته.. وواضح أثر أن " ناصر والسي آى ايه" يعملان" كتيم" أو فريق واحد يعمل نيابة عن السفير الامريكى وبكفاءة أكبر.

قال:

" عندما عدنا إلى الفندق تجنبت أن أحدث جير هاردت بأي شيء قاله كوبلاند خشية أن يبرق إلى واشنطن طالبا إعفاءنا من المهمة. كنت مقتنعا بقدرتنا على التعامل الجيد مع ناصر، ولم أكن راغبا في تضييع هذه الفرصة، فقط لو عرفت ماذا وعدته المخابرات سى آى ايه وما شعور ناصر الفعلي إزاء مهمة البعثة العسكرية الاستشارية.
" في مساء اليوم التالي وفى الساعة المحددة، أنا وجير هاردت قالبنا مايلز كوبلاند في مدخل الفندق .
وما زلنا غير متأكدين من مقابلة ناصر، فقد سألت كوبلاند عن الترتيب فقال:" سنقابله في بين واحمد من الصبيان". .

وتساءلت بدهشة : صبى؟ .. من هذا بحق الجحيم .. ربما عسكري مراسلة أو حتى خدام رئيس الجمهورية؟ .. قال كوبلاند : يستحسن أن أخبرك بعض الشيء عن هذا الصبي: هو ماجور (صاغ ) في الجيش وأحد الذين يتمتعون بأكبر قدر من ثقة عبد الناصر ، وهو مسئول كبير في البوليس السري، والرجل الذي ينظم اجتماعاتي مع ناصر في معقل المخابرات سى آى ايه ..

الذي سنذهب إليه. واسم هذا الصبي الحقيقي هو صاغ حسن التهامي.. وستحبه.

وأضاف مايلز" على ألا تأخذه على محمل الجد كثيرا..

" وعندما دخلنا الفيلا من الباب الخلفي حيانا الماجور تهامي.. ثم جاء ناصر وعامر " .

1- الرواية مطابقة لرواية كوبلاند.
2- دور التهامي وصلته بعبد الناصر تحمل بعض الراحة لنفس الحاج هويدى الحائرة. .
3- اللقاء كان في بيت التهامي الذي هو ............مقر الـ سى آى ايه مخبأ المخابرات .. الأمريكية؟

جلسنا على مائدة الطعام وخلع ناصر جاكتته وربطة عنقه قائلا: إننا يحسن أن نفعل نفس الشيء حتى نتحدث في راحة، وأخرج علبتي سجائر "كنت" وقدم لنا عامر قائمة السلاح".

وحكاية الجاكتات وردت في رواية كوبلاند.. وقد تحدث " الوفد ألأمريكي" عن ضرورة مصاحبة السلاح ألأمريكي لبعثة عسكرية ، وقال عبد الناصر:" إنه لا يمكنه الاستمرار سياسيا إذا سمح للضباط الأمريكان والجنود بأخذ مواقع على أرض مصر".. فقد تخلصنا لتونا من 80 ألف عسكري بعد 32 سنة من" الاستقلال الاحتلال" ، و" المحاولة الأخيرة للاعتداء على حياته ترجع إلى حد ما إلى الاتفاقية التي تتضمن عودة الإنجليز في ظل ظروف معينة".. " واقتنعا بكلامه اقترحت إرسال بعثة صغيرة في ثياب مدنية" ولكن ناصر ضحك من سخافة أو سذاجة الفكرة..

وأخطأ جير هاردت فبدأ مناقشة حول الأمن الاقليمى والدفاع عن الشرق الأوسط ضد السوفييت، ولدهشتي بدا أن ناصر يسحبه في الكلام ليسمع أكثر.. وخلال 25 دقيقة تحدث آى عن حلف الأطلنطي، وحلف جنوب شرق آسيا.. والحاجة إلى الدفاع عن الشرق الأوسط.. وقد قاطعه ناصر باقتراح التوجه إلى الطعام.. وبعد الوجبة الشهية التي اشتهر بها مطبخ حسن التهامي بإجماع كل مؤرخي تاريخ الناصرية مع السى آى ايه ..

قال ناصر وعامر الرأي المصري المعروف بأنه لا يمكن إقناع الشعب المصري أو الشعوب العربية بالخطر الروسي والتغافل عن الخطر الاسرائيلى الدائم الساخن يوميا..

وقال ناصر" إنه لم ير أي عداء روسي إلا لمنظمات الدفاع التي نقيمها حول الاتحاد السوفيتي، وجرت محاولة استفزازية من جانب ايفيلاند لعامر ، ولكن عبد الحكيم رد عليه ردا أسكته، وإن كان للأسف لم يلتزم بالحجة التي قام عليها هذا الرد..

إلا أننا نحب أن نضيف هنا نقطة توضيحية جاءت في كتاب " لعبة ألمم" عن هذه المقابلة : قال :" كان بيل ايفيلاند خلال زيارته للقاهرة من آل جير هاردت قد حذر عبد الناصر من أن مصر ستجد نفسها وحدها خارج حلف الشرق الأوسط.

ولكن لا أنا ولا ناصر ولا كافري صدقناه فلما وقعت العراق الحلف( حلف بغداد) طلب منى أن أتوجه مع ايكلبرجر لإبلاغ ذلك لعبد الناصر" .. ثم تفاصيل القصة في مكانها م هذا الكتاب.. المهم قال عبد الناصر بعد أن سمع الخبر:" إن جميع الأمريكيين الذين اتصلوا به بما فيهم كافري، أقنعوه بأنهم سيتركون له الوقت الكافي لبناء منظمة عربية إقليمية غير مرتبطة " علنا" بالغرب، ولكنها " بناءة" إلى درجة تمكنها من الانضمام سريعا لخطط الغرب، في حالة وقوع خطر مشترك .

أما حسن التهامي الذي كان حاضرا فقد بدأ يفقد أعصابه، ولكن ناصر هدأه، وظل الاثنان جالسين صامتين حتى انصرفت أنا وايكلبرجر".

وقال كوبلاند في نفس الصفحة" إنه هو وايكلبرجر كانا ضد حلف بغداد"

وقال:" مشاريع الدفاع والأحلاف والترتيبات العسكرية كانت نابعة من تفكير متخلف يمثله إيزنهاور وجهازه من الرسميين ، من بقايا الحرب العالمية الثانية، وهو توقع غزو عسكري كالذي شنته ألمانيا، ومن ثم فإن الدفاع ضده يقتضى مواجهته باستحكامات عسكرية".

وقال كوبلاند:" إن فكرة منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط كانت قد تحولت إلى خطأ تاريخي والسبب الوحيد الذي جعلها مطروحة للنقاش، هو أن الوزير دلاس- رغم ذكائه- لم يستطع التخلص من الفكرة".

وكما سنرى في فصل " ألأحلاف " فإن أمريكا كلها كانت ضد حلف بغداد، وليس فقط المخابرات الأمريكية التي كان لها- على أية حال- فضل الريادة، لأنها باعتبار طبيعة عملها هى التي تكتشف وتتوقع التغيرات العالمية المقبلة، بينما تغيير السياسة الرسمية، ومفاهيم الدبلوماسيين والمسئولين الرسميين التقليديين يأتي في مرحلة تالية، وعلى ضوء تحليلات المخابرات سى آى ايه.

وكانت المخابرات سى آى ايه قد توقعت "التعايش" أو الوفاق وأن المرحلة القامة ستكون مرحلة المزاحمة السياسية وليس الغزو على الطريقة الألمانية.. ومن ثم لم يكن يهمها في قليل ولا كثير مسألة الأحلاف بل كرهتها كرها شديدا وهاجمتها بذاءة.. وبذلن جهدا كبيرا في تحطيم حلف بغداد ، من ناحية لأنه كان يمثل نفوذا بريطانيا ومن ناحية أخرى لأنه كان يسبب لها مشاكل مع الأصدقاء المتعاونين. .

وعذرا عن هذا الاستطراد السابق لأوانه. .

يقول ايفيلاند:" استمع لنا ناصر بصبر، ولكنى أحسست ، إما أنه يتوقع معجزة من المخابرات سى آى ايه أو أنه وافق على مقابلتنا بحكم الكرم العربي ليس إلا..".

" غادرنا المنزل وأنا أتمنى أن لا تكون الـ سى آى ايه قد أقنعت الرئيس بقدرتها على تلبية مطالبه دون الحاجة للتوقيع.. لأنه إذا كان ذلك قد حدث فإننا سنجد في مواجهتنا عربيا شديد الغضب، عندما يكتشف أنه لا " كيم روزفلت" ولا " آلن دلاس" ولا حتى" فوستر دلاس" يمكنه أن يغير القوانين الأمريكية".

" وكما قلت إنني كنت أتمنى لو وضع حد لدور المخابرات سى آى ايه في مفاوضات المعونة العسكرية والعودة إلى الدبلوماسية التقليدية ولذا لم يكن من دواعي سروري أن أرى في اليوم التالي كوبلاند منتفخا كعادته متباهيا بما تفعله السى آى ايه لدعم ناصر ونظامه.

ففي شقة حديثة تطل على النيل عرفنا بـ " فرنك كيرنز، وه مقاتل من سى آى جى عمل مع " مايلز" وقدمه كمراسل لـ سى بى إس وطبقا لما قاله لنا كوبلاند فهو جزء من محطة المخابرات سى آى ايه في القاهرة ويعمل تحت غطاء صحفي وكان واضحا أنه لا يهتم بعمله الصحفي هذا..".

" ايكلبرجر أيضا كان حاضرا وقال لكوبلاند إنه انضم إلى سى آى ايه من وكالة والتر تومبسون للإعلان.

وايكلبرجر يعمل الآن " رجل الفكر" ومهمته هى اكتشاف الوسائل التي تزيد شعبية حكومة ناصر في مصر والعالم العربي.. وأضاف كوبلاند إن الـ سى آى ايه توجه المصريين في ميداني الصحافة والإذاعة..

وقد أحضرت عددا من الألمان لتدريب المصريين بما فيهم أوتوسكوروزنى الشهير الذي أنقذ موسولينى.

ولكن الألمان كانوا متجاهلين ولا يدفع لهم كفاية ولذلك كانوا مستاءين ويريدون الانصراف.

" ومتعطشا لأخبرنا بالمزيد، وصف لنا كوبلاند المعدات الإذاعية الجديدة التي تقيمها المخابرات سى آى ايه في مصر، والتي ستكون – كما قال- أقوى إذاعة في الشرق الأوسط، وكان يقصد صوت العرب، الذي عمل حقا بنجاح رائع، حتى أننا وجدنا أنفسنا في النهاية مضطرين، إلى تمويل محطات في بلاد أخرى لمواجهة هديتنا ( لمصر) التي انقلبت ضد مصالحنا.

كان واضحا أن المخابرات ألأمريكية قد بدأت عملية جبارة في مصر، وربما أكبر واحدة من نوعها منذ إنشاء المخابرات سى آى ايه وكنت على يقين أن الحكام المحافظين في العراق والأردن ولبنان والسعودية والسودان لن يسعدهم ذلك.

" ويبدو أنه لا نهاية للمفاجآت التي يمكن أن يقدمها كوبلاند، وما أزعجني حقا هو صغر سن وطيش الأشخاص الذي كان واضحا أن يدهم قد أطلقت في العمل.

لم يكن هناك وجه للشبه بين ما رأيته في مصر، ما تعلمته في واشنطن عن كيفية رسم وتنفيذ حكومتنا لسياستنا الخارجية .

كان ما رأيته في مصر مثيرا للرعب حقا. وتعجبت كيف يتماشى سفير من الجيل القديم مثل كافري مع هذا.." " وعندما تحدثت في تلك الليلة مع نائب كافري في السفارة وهو دبلوماسي ممتاز، أعرفه من واشنطن، سألني إذا كنت قد رأيت عملية ايكلبرجر – كوبلاند .. ؟ ومن لجهة سؤاله تأكدت أنه يرى مناورات المخابرات الأمريكية مغامرة خطرة كما رأيتها". .

نتوقف قليلا فالجرعة كبيرة حقا.

1- أظن أن الرجل قد رد على نفسه عندما نفى أن يقدم كافري على التآمر على فاروق فها هو يشهد بأن كافري يتعاون ويتماشى مع نشاط السى آى ايه وإن تعجب من فعله.
2- استمر المؤلف في نقد تدخل المخابرات سى آى ايه في تحديد وتنفيذ السياسة الأمريكية، وكرر خشيته من وعود الـ سى آى ايه التي أشرنا إليها والتي أدت فعلا لإغضاب عبد الناصر عندما لم تتحقق.
3- قال كوبلاند وتأكد هو أن المخابرات سى آى ايه توجه الصحافة والإذاعة المصرية، وهناك خبير مقيم ( أشار إليه مصطفى أمين وهيكل) هو ايكلبرجر مهمته اكتشاف وسائل تدعيم زعامة عبد الناصر. . وأن المخابرات سى آى ايه هى التي قدمت المعدات الفنية لإذاعة صوت العرب الذي سيصبح أكبر قوة مقاتلة في تصفية الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، وأمجاد يا عرب كوبلاند أمجاد.
4- وفقا لقانون اللعبة، كما حددها كوبلاند فقد كان من الطبيعي أن يهاجم " صوت العرب" أمريكا، وأن تقوم أمريكا بتزويد بعض البلاد العربية بإذاعات أخرى لمواجهة " صوت العرب" وبصرف النظر عن أية نتائج أخرى، فإن مجرد انشغال الدول العربية بحرب الإذاعات فيما بينها ، لا يضر أمريكا بأية حال.
5- اقتنع " ايفلاند" بما رأسي وسمع ولمس في مصر، أن المخابرات الأمريكية تقوم بأضخم عملية في تاريخها منذ إنشائها، وهى لا يمكن أن تكون عملية تجسس طبعا، وإلا لما تخوف من نتائجها ولا تخوف عليهم، وأي اطمئنان على جاسوس امريكى أكثر من رؤيته يخلع جاكتته أمام رئي الدولة، ويتعشى معه، ويناديه جمال وهو ما لم يحظ به أمين هويدى في حياته..

ما لاحظه وجزع منه مندوب البنتاجون هو " عملية إدارة مصر" التي كانت تقوم بها المخابرات الأمريكية ( تاريخ الزيارة هو أكتوبر 1954) وحق له أن يتخوف فقد كانت الأولى من نوعها في تاريخ أمريكا.. والثانية في التاريخ كله، منذ أن نظمت المخابرات البريطانية في 1916 ثورة الشريف حسين وسمتها الثورة العربية الكبرى.. وجاء الأمريكان بالثورة العربية الأكبر.. وقد شارك ايفلاند مخاوفه الرجل الثاني في السفارة بأنها" مغامرة خطرة" إنها عملية من نوع خاص خارج نطاق أعال المخابرات المعتادة.. كوبلاند ينظم ويسجل اجتماعات ناصر بالأمريكيين الرسميين والمخابرات تبنى " للثورة" محطة إذاعة تضمن وصول الوعي الثوري إلى أقصى أرجاء الوطن العربي، وطاقم المخابرات يوجه الصحافة المصرية.. والإخوان على المشانق والشيوعيون مضربون عن الطعام في سجن القناطر.. ومن المحيط الغادر الفاجر لبيك يا عبد الناصر..

ولكن ما يحز في النفس حقا، هو جزع الامريكى لصغر سن الأولاد الأمريكان الذين يديرون مصر الناصرية.

لعبوا بنا العيال الأمريكان، ومكنوا صبيتهم من الفرعنة والطغيان بشعب السبعة آلاف سنة حضارة.

قال ايفيلاند:

" في اليوم التالي أبلغنا كوبلاند أنه لا ضرورة لاجتماعات أخرى مع ناصر ( كوبلاند هو الذي أبلغهم) فالمطلوبات أرسلت للسفير أحمد حسين في واشنطن وسيتبعها طاقم من الضباط المصريين خلال أسبوع لمناقشة التفاصيل مع الفنيين، وسألته هل غير ناصر رايه في مسألة قبول المستشارين العسكريين؟ رد مايلز: لقد أخطأتم بمناقشة ذلك أمام عبد الحكيم عامر لأن " الفتى" ( حسنى التهامي) هو الرجل الذي سيبعثه ناصر إلى واشنطن للحديث عن البعثة العسكرية وكيف يمكن معالجة الموضوع بطريقة أهدأ سألت هل يعنى هذا أن ناصر لا يزال مهتما، رد كوبلاند .. بكل تأكيد.".
" لم يسألنا كافري، ولم نتطوع بإخباره عن مقابلتنا، مع ناصر ولو كنا نثرثر أو نتباهى لاعتبرنا مثل كوبلاند ورجال الـ سى آى ايه ..

واعتقد أن تقاعده القريب هو الى جعله يتغاضى عن أعمالهم".

1- الرجل كما هو واضح مفتون بكافري يتلمس براءته بالشبهات.. فلا يسعفه الحال.. وأخيرا وصل لتفسير " أنه ضاربها صارمة" باعتباره رايح أو تارك العمل الدبلوماسي قريبا.. ويا رايح كتر من المخابرات سى آى ايه.

2:- وواضح أنه حاقد على كوبلاند لأسباب عديدة، منها أن كوبلاند، أحبط مهمته في مصر، وألغي موعده مع عبد الناصر مع أن عبد الناصر قال له" بكرة نتكلم في اتفاقية الدفاع المشترك" ولكن ها هو " كوبلاند" يصفعه: لا داعي للاجتماع مرة أخرى مع ناصر.. وبالطبع وصلت التقارير إلى واشنطن بأن ناصر رفض أن يقابلهم مرة ثانية، وهذا دليل فشل أو سوء انطباع المقابلة الأولى.. وتأمل كيف يلغى كوبلاند اجتماعا أراده ناصر . ربما يكون كوبلاند ثرثارا.. وربما يكون متباهيا، أو حتى مستمتعا بإغاظة منافسيهم من الأجهزة الأمريكية الأخرى، ولكن هذا يجعله متهما بإفشاء " أسرار وحقائق" ولا يمكن أن يعطى معلومات بمثل هذه الخطورة لممثلين رسميين، لوزارة الدفاع وجهازين على الأقل من أجهزة المعلومات والتجسس لا يعقل أن يقول لهم – كذبا – نحن نوجه الصحافة المصرية، وهو يعرف أن هذا الكلام سيثبت في تقاريرهم الرسمية، وسيستخدم ضدهم عندما تدور المناقشات حول الدور الذي تلعبه الصحافة والإذاعة الناصرية.. لا يمكن أن يكون ذلك محض اختلاف وكذب.. ثم نسأل أنفسنا ما الصحافة ذات النفوذ وقتها ومن كان يسيطر عليها..؟ مصطفى أمين وهيكل وليس فيهما من يصل إلى مرتبة زوجة قيصر ولا حتى عشيقته وقد جاء في اعترافات مصطفى أمين، أن رجال المخابرات ألأمريكية كانوا شبه مقيمين في " أخبار اليوم" وفى مكتب هيكل أو مكتبه هو، معظم الوقت.

ويختم ايفيلاند ملاحظاته في القاهرة قائلا:" بالنسبة للأسلحة التي تطلبها مصر لمواجهة هجمات إسرائيل المتصاعدة ضد المدنيين المصريين، والمنشآت والتشكيلات العسكرية المصرية في غزة وسيناء ، فأنا واثق أن " الموساد" ( المخابرات الإسرائيلية) كانت على علم تام بمهمتنا في مصر، ونظمت عن طريق اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وقف المنحة.

على أية حال كنت واثقا أن الـ سى آى ايه أقل قدرة وأقل تأهيلا من وزارة الخارجية لتحديد احتياجات الجيوش الأجنبية للمعدات العسكرية".

هل يمكن أن نخترق قشرة الصراع الغبي للأجهزة الأمريكية ، لنتساءل بدورنا هل الموساد، اكتفت بتحريض اللوبي الصهيوني ، لإفشال أضخم محاولة ارتباط عربي- امريكى؟ أم أنها وهى التي اعترف المؤلف ايفيلاند نفسه بتداخلها مع المخابرات الأمريكية، دفعت الموقف من الجانب الآخر، باستفزاز عبد الناصر ضد الولايات المتحدة، وإغرائه بالاتجاه للاتحاد السوفيتي.. وما الدور الذي لعبه أصدقاء ناصر من موظفي محطة المخابرات سى آى ايه في القاهرة، وصداقة عبد الناصر مع المخابرات سى آى ايه في هذا الشأن؟

سؤال..

والرجل يشهد بوجود "تلاعب" في واشنطن أدى إلى قطع المعونة عن مصر .. قال إنه بعدما سافر من مصر نسى الأمر تماما إلى "أن مر على تقرير دوري في مكتب تنسيق العمليات يقول إن مصر كان مخصصا لها 35 مليون دولار منحة عسكرية، وليس 20,1 مليون فقد.. وأن هذا المبلغ قد ألغى لأن ناصر رفض توقيع اتفاقية المعونة العسكرية مع الولايات المتحدة...

وصحت دهشا: هل هذه إشارة إلى تقريري؟ وبغضب شديد رحت أبحث عبثا عن نسخة من التقرير الذي أعددته وقدمته ليوقع عليه جير هاردت ( زميله في رحلة مصر والأعلى منه رتبة) فلم أجد له أثرا ولا إشارة .. لا في ملفات الخارجية ولا الدفاع ولا مكتب التنسيق.. اختفى ، ثم يأتي مكتب الشئون المصرية في وزارة الخارجية- الذي تمنى لي الفشل في مهمتنا- وينسب رسميا لناصر رفضه عرض بعثتنا، بل ويجعله مبلغا أكبر مما كنا نعلم..

وقد حاولت في سنة 1978 بموجب قانون حرية المعلومات أن أحصل من وزارة الخارجية والدفاع على وثائق عن بعثتنا إلى القاهرة وعندها تأكدت أن تقريري لم يسجل قط في ملفات وزارة الدفاع وربما لن يعرف أبدا من الذي استخدم رحلتي للقاهرة لمنع المعونة العسكري عن مصر..لقد فسروا لي لماذا لم يأخذوا بنصيحتي عن إيران. ولكن بالنسبة لمصر أبقوني في ظلام دامس".

وأخيرا فقد طلبت بريطانيا في عام 1956 وضع حد للعبة ألأمم في الشرق الأوسط، وشكلت لجنة مشتركة من الأمريكيين والإنجليز للتهميد لاجتماع قمة بين إيزنهاور وإيدن، وكان المندوب البريطانى فيها هو وكيل وزارة الخارجية البريطانية لشئون الشرق الأوسط " ايفيلين شوكبرج" وحسب النظام البريطانى فإن هذا الوكيل يكون عادة أهم من الوزير وأكثر اطلاعا على أسرار السياسة من الوزير الذي يتغير بتغير الحكومة...

وكان الوكيل يطلب قلب نظام الحكم في سوريا وضمها تمهيدا لقلب عبد الناصر، وبالطبع كان الأمريكان يسخرون منه كما سنرى في مكان آخر.

ولكن نورد هنا هذه القصة.. قال ايفيلاند مؤلف كتاب حبال الرمال والذي كان يتولى التنسيق مع المندوب البريطانى إنه على الطائرة قال لوكيل الخارجية البريطانية " ايفيلين شوكوبرج" : " إنني قلق من محاول العراق الاستيلاء على سوريا عبر انقلاب أو بالقوة، فرد على شوكبرج غاضبا: " أظن أنك تفضل أن يستولى على سوريا ، ناصر بتاع السى آى ايه" وهذا النص الامريكى:

................................................

أظن أن وكيل وزارة الخارجية البريطانية لا يمكن أن يقول هذه الصفة عن رئيس أكبر دولة عربية، وفى حديث على الطائرة مع ممثل الولايات المتحدة الأمريكية بدون أي أساس؟ .. ولمجرد إغاظة الناصريين بعد ثلاثين سنة.

على أية حال لقد أسقط في يد المؤلف في النهاية، فقبل الحقيقة المسلم بها داخل جميع الأجهزة الأمريكية وقتها فقال بالحرف الواحد:

" وعندما اعتصر الكونجرس آلن دلاس في سؤاله حول أسباب فشل الـ سى آى ايه في التنبؤ بانقلاب العراق، وكيف استطاع ناصر الاستفادة من الثورة اللبنانية وإخصاء مشروع إيزنهاور.

ولأن دلاس لم يكن راغبا في نقده سياسة أخيه، كما لم يكن راغبا في الاعتراف بأن المخابرات الأمريكية ساعدت على فرض عبد الناصر كرمز للقومية العربية فإنه لم يتردد في نسبة مشاكل الشرق الأوسط لروسيا، وتعهد بأن تبذل الوكالة( المخابرات) كل جهد في طاقتها لحصر انتشار النفوذ الشيوعي".

.....................................................

وقال عن " ايكلبرجر" ولأن جيم ايكلبرجر كان أحد المجموعة التي تفتخر بأنها اخترعت ناصر المؤيد للغرب. فإنني لم أدهش عندما قال لي إنه ما من دليل على الإطلاق، على أن الرئيس المصري عميل للسوفييت إلا أنني لم أقدر لي معارضته عندما قال (ايكلبرجر) إننا نحتاج مع ذلك، لمعارضة سياسات ناصر علنا، ويجب علينا مواجهة أعماله بطريقة تترك مجالا للمناورة معه عندما يكتشف في النهاية أن الدب الروسي يمكن أن يعصره بين أحضانه".

وقال:

" كانت الصحافة البريطانية تتهمنا( الأمريكان) بأنا أدرنا ظهرنا لحلفائنا البريطانيين ونتضامن مع عملائنا المصريين والسعوديين الذين تعاهدوا على إخراج بريطانيا من الشرق الأوسط".

وقال : "

في مطار القاهرة قابلني شارلس كريمانز الذي علمت معه لما كان في المخابرات سى آى ايه في وظيفة كبير محللي الشرق الأوسط في المجلس الوطني للتقديرات.

قال كريمانز إن قرار فوستر دلاس غير المناسب بإرسال جورج آلن قد أغضب ناصر الذي خمن إنذارا .. وأن المخابرات سى أي ايه الآن عبثا تهدئته".

" ولما قال لي كريمانز إنه يتعامل مع وزير الداخلية المصري وأنه كثيرا ما يرى ناصر نفسه، سألته مازحا إذا ما كان يعلمهما كيف يسيطران على العامل العربي، فوجئت به يرد على بجدية تفوق ما كنت أتوقع، إذ قال .

إن هذه كانت فعلا خطة المخابرات سى آى ايه الأصلية، ولكن الوكالة سى آى ايه تحاول الآن توجيه مصر إلى ميادين مطابقة لأهداف الولايات المتحدة".

" وفكرت في نفسي: هذا هو واحد من أهم المحللين في المخابرات سى آى ايه وأستاذ جامعي سابق في القاهرة، والآن يشغل نفسه بالعمل السري السياسي بدلا من جمع المعلومات حول ما أهداف ناصر الحقيقية".

هذه أقوال شاهد النفي.. وأظن أن أية محكمة في العامل حتى ولو كانت محكمة الدجوى ستكتفي به كشاهد إثبات.

الفصل الخامس : الدبة والزعيم .. ورسالة مصطفى أمين

" .. وعرفت أن قادة الثورة يعلمون جيدا أن كل هؤلاء من المخابرات الأمريكية ولكنهم يرون المصلحة في الاتصال بهم..".
من مصطفى .. لجمال..

وأمامنا الآن شاهد من نوع خاص، ملء السمع والبصر.. يحتاج المرء إلى كل وطنيته وموضوعيته ليحاكمه ويدينه.. ولو كان هذا الحديث يكتب منذ ثلاثين سنة أو أكثر، لما تردد القلم لحظة واحدة، ولا أحسست إلا بالفرحة والنشوة وأنا أشرح جثة مصطفى أمين السياسية، ولكن السنوات لعبت بنا جميعا، وقامت بيننا علاقات يمكن بكثير من التجاوز وصفها بالإنسانية، أو الاجتماعية وأصبح يحز في القلب أن ت وجه إليه تهمة الخيانة والعمالة، وخاصة أن الرجل نسيج وحده، كفاءة نادرة، وجلد على العمل لا مثيل له في تاريخ الصحافة أو الكتابة.. ثم كانت حادثة سجنه بتهمة العمل للمخابرات الأمريكية، وهو ما يتفق الجميع على وصفه بالغدر لأنه كما قلنا يومها إن الثورة التي لم تعتقل مصطفى أمين في 23 يوليو 1052 لا يمكن تبرير موقفها منه في 1965 وبعدما كان في قلب تحركها السياسي لأكثر من عشر سنوات.

ثم إن الرجل قد بلغ من العمر عتيا، وهو متعدد المواقف والنشاطات واشتهر بالدفاع عن الديمقراطية حتى أصبح نجما شعبيا، وخاصة في تحدى السلطة منذ أواخر عصر السادات..

وإن كانت هذه أيضا محل تساؤل ، إلا أن الرجل أحد القلائل الذين أنزلوا بمصر ضررا فادحا منذ أن تألق في سماء الصحافة المصرية، ولو مات أو متنا قبل أن نعرف علاقته بالمخابرات الأمريكية لصار غصة في حلوقنا..

فقد كان نجاحه على الرغم من الإرادة الوطنية المصرية، وبدفع امريكى كما كنا نشك وكما جاء في اعترافاته .. وقبل يوليو 1952 كان الشارع السياسي مجمعا على خيانته وتآمره على الحركة الوطنية..

وكان كيده للوفد لحساب السراي، عملا يتفق ومصالح الإنجليز والرجعية المصرية وضد التطلع الشعبي، فلما مات قرر الأمريكان الإطاحة بالملك، أسف في التشنيع عليه وخاصة بفضيحة أمه وأخته في أمريكا، والتي يمكن أن نفهمها الآن، ولو متأخرا جدا، على ضوء ما عرفناه عن تآمر المخابرات الأمريكية ضد الملك فاروق، فأغلب الظن أنها دبرت هذه الفضيحة ، وأغوت أخت الملك وأمه، ثم أطلقت عليهما الصحافة، وقد لقيتا في النهاية المصير التعس الذي يلقاه كل من يقع في شراك تلك الأجهزة التي لا تعرف الوفاء ولا الضمير..

غير أن سخط الناس واحتقارهم فاق كل حد عندما انهالت" أخبار اليوم" على سيرة وسمعة وتاريخ الملك فاروق نفسه بعد الثورة، لا حبا في الملك بل لما في الموقف من خسة ونذالة، من كاتب هو أول من مجد الملك وأكثر من أكل على مائدته.. و" مصطفى أمين" هو الذي قاد المعركة الإعلامية ضد الأحزاب وضد الديمقراطية وضد الدستور، وهو الذي دس الأخبار الملفقة التي مكنت الديكتاتورية من البطش بالأحزاب ثم بمحمد نجيب، وهو الذي صنع أسطورة الزعيم وشن الحملات البذيئة ضد ملوك ورؤساء العرب.

ومصطفى أمين كما تكشف الوثائق اليوم، كتب وتعامل مع السفارة البريطانية، وتوجه إلى تلك السفارة يوم حرق القاهرة يدبر لهم مع القصر إقالة حكومة الوفد، وهو الذي كان حربا على الحركة الوطنية في فترة إلغاء المعاهدة حتى كادت الجماهير أن تحرق أخبار اليوم لولا استعانته ببعض العمال المأجورين، والذين كان يدفع لهم بسخاء من الموارد الخفية التي اعترف بها في رسالته لعبد الناصر والتي كانت تتدفق عليه بسبب علاقته بالمخابرات الأمريكية.

ومهما يكن رثاؤنا للرجل، فلا مجال للقسوة عليه، لأن ما جناه ضد وطنه يجعل أية عقوبة أقل مما يستحق.

اعتقل " مصطفى أمين" في 1965 عندما وصلت العلاقات الناصرية- الأمريكية إلى الصفر، ونال مصطفى أمين جزاء سنمار أو صدق فيه الحديث الشريف: من أعان ظالما على ظلمه سلطه الله عليه، فأممت الصحيفة وعزل من رئاسة تحريرها، بل ومنع من الكتابة فيها، وراجع مقالاته غلمان الحركة الشيوعية المنحلة..

وأحس أن الأرض ملغومة، وأنه قد يكون الكلب الذي يذبح لإرهاب القرد، فترامى على المندوب الامريكى للمخابرات يطلب مساعدته على الخروج وتهريب أمواله ويلح عليه في طلب المزيد من الضغط الامريكى لإرجاع ناصر إلى صوابه..

وكان عبد الناصر قد ضاق ذرعا باللعبة مع الأمريكان، وتدهورت أسهمه في بورصة الحرب الباردة وصراع النفوذ فقبض الأمريكان يدهم، واستبد به الروس.. وحز في نفسه تصرف مصطفى أمين، ونسى ما فعله مصطفى أمين من أجله ، وما فعله هو بمصطفى أمين فأم باعتقاله بتهمة التجسس، ولم يكن تنفيذ ذلك بالأمر الصعب..

وفى التحقيق أو السجن كتب مصطفى أمين رسالة مطولة لعبد الناصر، وإن كانت أجزاء منها يتحدث فيها عن عبد الناصر بضمير الغائب، مما يؤكد رأينا في أن الرسالة قد تعرضت لرقابة ما، وأنه تجميع بين اعترافات في محضر التحقيق ورسالة استعطاف لعبد الناصر..

وجهة ما قد تكون المخابرات العامة أو أقرباء عبد الناصر أعطوا الرسالة لصحفي ناصري الذي نشرها في جريدة العرب بالمقدمة التالية:

" وقد كتب مصطفى أمين اعترافا تفصيليا في مذكرة طويلة أرسلها إلى جمال عبد الناصر ولا يمكن أن يدعى أنه كتبها تحت ضغط، لأنها تحمل تاريخ حياته، وقصة ارتباطه بالمخابرات الأمريكية التي بدأت قبل الثورة بسنوات، وفيها يحكى كثيرا من التفاصيل حول الذين جندهم للعمل معه من المحررين بعلمهم أو بدون علمهم ويعدد المكاسب التي حصل عليها من المخابرات الأمريكية..".

ونحن نوافق حرفيا لأول مرة في حياتنا، على قول " هيكل" أو اعترافه بأن الأستاذ " مصطفى أمين" كان هو الصحفي المعبر عن السراي واتجاهاتها ، وقد ظل هذا الوضع قائما حتى سنة 1952".

بالضبط هذا ما قلناه قبل ثلاثين سنة فحرمنا من جائزة الملك فاروق مرتين ، وما قاله " أبو الخير نجيب" فنكلوا به تنكيلا.

فقط .. أين كنت أنت يا أستاذ هيكل في تلك السنوات التى كان فيها مصطفى أمين يعبر عن السراي؟.. ألم ت كن معه في " أخبار اليوم" بل نجمها الصاعد المتألق؟ ألم تكن شريكا في صحيفة السراي ورئيس تحرير مطبوعاتها مرة بالفرد ومرات بالجوز.. الآن فقط عرفت أن أخبار اليوم أسستها المخابرات الأمريكية ونحن كنا نتداول هذه الحقيقة على المقاهي في الأربعينات؟

هل يعقل وأنت الصحفي العالم الطائر من كوريا على إيران محلل السياسة الدولية والفائز بجائزة الملك فاروق مرتين.. بل أنت أنت لك المجد الذي حلل الموقف عشية 23 يوليو وفى سيارة،واستخلصت أن بريطانيا لن تهاجم الثورة إذا ما قامت، وأخذ عبد الناصر بتحليلك واتكل على الله وعليك وقام بانقلابه فغيرت مشورتك وجه التاريخ. أيعقل يا سيدي أنك لم تشم رائحة المخابرات الأمريكية في أخبار اليوم إلا في سنة 1984.. عيب

الآن جئ تقول:" الدار دى ريحتها مستكى".

وأحب أن أقول إن مؤسسة ضخمة مثل أخبار اليوم.

وبالهدف الذي قامت من أجله لم يكن من المعقول أن تقتصر على صحفيين عملاء، ولكن في الفترة من 1945 إلى 1952 على الأقل لم يكن من المعقول أن يتألق فيها ويلمع صحفي وطني فضلا عن ثوري يدبر انقلابا.. أما بعد ذلك وخاصة في نهاية الخمسينات فد اختلطت الأمور واستؤصلت أو أبعدت الأقلام الثورية.. وانضبط الجميع فلم يعد يهم من يكتب ماذا ..

كذلك أتحدى أي مؤرخ أو محلل سياسي للفترة ما قبل 1952 يوافق على أن ضابطا وطنيا ثويا يعادى الإنجليز والسراي يمكن أن يتجه إلى دار " أخبار اليوم" ومحمد حسنين هيكل لخلق صلة من أية نوع.. لقد كان الوطنيون يتحاشونها كالجرب..

كذلك نتمسك بنص رائع أورده العالم الخبير الأستاذ هيكل تعليقا حول تقرير للسفير البريطانى جاء فيه:" تلقى أحد أعضاء هذه السفارة مكالمة تليفونية من على أمين يسأل إذا كان هناك صحة للتقارير التي تتحدث عن تحركات واسعة النطاق للقوات البريطانية".

فعلق لا فض ولا عدمنا اعترافاته :

" ليس متصورا بالطبع أن يكون الأستاذ " على أمين" قد اتصل بشخص في السفارة لم يعرفه من قبل ليسأله السؤال الخطير، وليس مقصورا أيضا أن لا يذكر السفير في تقريره اسم المسئول الذي جرى مع الاتصال.. ومن هنا يمكن استنتاج أن الشخص الذي اتصل به الأستاذ على أمين يعمل في السفارة ولكنه ليس في الأقسام السياسية الظاهرة، التابعة لسلطة السفير وإذن من هو وتحت أي غطاء ؟ " ( حرفيا من كتاب بين الصحافة والسياسة).
وحقا لولاك يا جرادة ما وقعت يا عصفور. .

الله أكبر

من فمك أدينك يا إسرائيل ، روزفلت ايكابرجر ليكلاند ايفانز جونز.. وما رأيك أن جميع اتصالات عبد الناصر بالسفارة الأمريكية وردت في مجموعة وثائق 1952- 1954 تحت عبارة : اتصل "بموظف السفارة " أبلغني موظف السفارة أن ناصر أو أبلغ ناصر موظف السفارة ..وبأي صفة كنت أنت تتصل وما الغطاء الذي كانت تعمل تحته خلية النحل المخابراتية بالسفارة وحولها.. تستكثر على " على أمين" الذي كان يسرحك من كوريا إلى إيران أن يعرف موظف مخابرات في السفارة البريطانية وأنت قبل حرق القاهرة بثلاثة شهور تتعشى في بيت موظف بالسفارة الأمريكية وتحرضه على حكومة مصر وسياستها؟ ".

حقا اللي زى على أمين ماتوا..

ونزيد إن عمالة وارتباط مصطفى أمين بالقوى الأجنبية كانت حقيقة معروفة وشائعة ومقررة في مصر منذ ظهور " أخبار اليوم" وكان باعة الجرائد ينادون على صحيفة " أخبار اليوم " : " أقرأ جريدة السفارة البريطانية" أو " الأمريكية" وقلنا إن رجال الثورة لم يعتقلوا من الصحفيين في الساعات الأولى إلا مصطفى وعلى أمين ، حتى جاء الأمر من الذي عنده علم من الكتاب الابليسى بالإفراج.. بل وأصبح مصطفى أمين كما هو ثابت من نص الرسالة التي اتفقنا جميعا على قبولها بلا تحفظ .. أصبح مستشار عبد الناصر ومحل ثقته والصحفي الأول في مصر إلى أن نازعه مكانته تلميذه والذي كان بلا تاريخ وطني، بل تحيط به شبهة أكدتها التقارير والمذكرات فيما بعد؟
لماذا اختار عبد الناصر مصطفى أمين، وأخبار اليوم من دون الصحافة المصرية كلها ليجعلها صحيفة الثورة؟
لماذا أعطى عبد الناصر الثقة مدة 13 سنة لجاسوس معروف للأمريكان؟ هذا سؤال لم يطرحه الذين سعدوا بالرسالة نكاية في مصطفى أمين ، فقتلوا الذبابة ولكن على جمجمة الزعيم.

وهذا بعض ما جاء في الرسالة الوثيقة مما يتصل بموضوعنا:

" وأحب يا سيادة الرئيس أن أروى لكم بأمانة كيف بدأت علاقتي بالأمريكيين ففي سنة 1935 عين والدي وزيرا مفوضا في واشنطن وسافرت معه وأقمت في السفارة المصرية بواشنطن . . وكنت أرغب في أن أدخل كلية لدراسة الصحافة".
" وبعد عودتي من أمريكا واشتغالي بالصحافة التقيت بالكثير من أصدقائي الأمريكيين، في تلك الفترة التقيت بارشى روزفلت، وكيم روزفلت. وكان روزفلت يؤلف كتابا عن النفط في الشرق الأوسط وكنا نلتقي باستمرار مع هؤلاء جميعا وكنا نتحدث في شئون الحرب وشئون الشرق الأوسط.. والتقيت في ذلك الوقت بالسفير الأمريكي بالقاهرة وكان يدعوني باستمرار للغداء والعشاء معه، وكان له عدة بيوت في القاهرة، وكان يهمه أمر مصر إطلاقا..

وفى أثناء ذلك أمكنني أن أعرف منهم أخبار هامة أفادتني صحفيا ..

واستمرت علاقتي واتصالاتي بالسفارة الأمريكية بالقاهرة وموظفيها وحدث في سنة 1947 أن طلب منى المرحوم النقراشي باشا رئيس الوزراء أن أكون واسطة الاتصال بينه وبين الأمريكان.

ثم تولى مستر تاك منصب سفير أمريكا وكانت علاقتي به قوية جدا. وكنت أقابله باستمرار .

وفى تلك الأيام تغيرت سياسة أمريكا وأصبحت لها سياسة مستقلة في المنطقة بعد أن كانت تعتمد على أن تكون ذيلا لبريطانيا في المنطقة.

وكثيرا ما نقدت قبل ذلك سياسة الأمريكان في أنهم يتلقون تعليماتهم من السفير البريطانى في القاهرة،و كانوا أشبه بالمنومين مغناطيسيا لا يصدقون إلا ما يقوله لهم الإنجليز".

" ثم حدث بعد ذلك أن توثقت علاقتي بمستر كافري السفير الامريكى الجديد وكنت أقابله باستمرار وكان مقتنعا برأيي بأن مصلحة أمريكا هى مصلحة الشعوب العربية في الوقت نفسه وهى أن تؤيد أمريكا خروج المنطقة من النفوذ البريطانى وكان يكره الإنجليز كراهية شديدة.

وعندما يسمعني أنتقد تصرفات الإنجليز في المنطقة، يهتز طربا وكأنه يسمع قطعة موسيقية ولكنه يعطف على الملك فاروق.

وكان الملك قد وثق علاقته به وكان يفهمه أنه يستشيره في كل المواضيع وأنه يأخذ رايه قبل أن يفعل أي شيء".

" ولما تولى نجيب الهلالي الحكم عرفت أن الملك فاروق أخذ رشوة مليون جنيه من أحمد عبود باشا ليقيل نجيب الهلالي من الوزارة ، وأخبرت كافري بذلك فلم يصدق ثم تحرى الخبر بطريقته الخاصة وتأكد أنه صحيح .

ثم زار كافري نجيب الهلالي وقال له إنه تأكد أن الملك قبض فعلا مليون جنيه ليقيل الهلالي من رياسة الوزارة.

وعندما استقال نجيب الهلالي راح يصرح للناس بحكاية رشوة المليون جنيه وهذا الموقف هو الذي جعل كافري يغير رايه في الملك ويرى أن بقاءه على العرش كارثة".

ما غلطناش:

1- المنطقة في دائرة النفوذ البريطانى والأمريكان موافقون على ذلك، ولهم اتصالاتهم بمصطفى أمين.
2- الأمريكان خلال الحرب العالمية وما بعدها بدءوا يعملون لوراثة الإمبراطورية البريطانية، واختفى الطاقم المتتلمذ عل بريطانيا ، ظهر الطاقم الذي " يكره بريطانيا كرها شديدا" ومنهم السفير " كافري" صديق مصطفى أمين الذي هو صديق كيرميت روزفلت كما نرى من عام 1944 .
3- كافري علاقته قوية بالملك وفاروق يثق فيه ثقة مطلقة..
4- في وزارة الهلالي أي مارس 1952 نفض كافري يده من الملك وقرر أن بقاءه على العرش كارثة .. كارثة لمن؟ .. ولماذا ها الاهتمام البالغ بمصر وكوارثها من السفير الامريكى؟ وما هذا البساط الأحمدي بين صحفي مصري والسفير الامريكى..؟وما العلاقة بين رأى السفير الامريكى في العرش ومن يبقى على العرش، بحملات أخبار اليوم ضد الملك والفساد والوفد.. ثم بما جرى للعرش بعد ذلك ومن " محاسن الصدف" أن يستمر كافري ومصطفى أمين على علاقة ممتازة بمن خلع الملك وورث العرش ومنع الكارثة.

قال مصطفى أمين لعبد الناصر:

" وأذكر لسيادتك أنني التقت بمستر " كيم" ومستر" ارشى" روزفلت في عام 1944 وذلك في مكتبي في مجلة الاثنين التي كنت أرأس تحريرها والذي قدمني لها هو الدكتور فؤاد صروف عميد الجامعة الأمريكية في ذلك الوقت وجرى الحديث في ذلك اليوم عن أن " كيم" يؤلف كتابا عن منطقة الشرق الأوسط والبترول العربي وأنه سيستغرق عدة سنوات لإعداد هذا الكتاب..

" وقد سألني خلال هذا الحديث عن رأيي في سياسة أمريكا في المنطقة . فقلت له إن أمريكا لا سياسة لها، وأنه تسير في ركاب الإنجليز ضد الشعب المصري.

" وكان كيم وقتها يرتدى ملابسه العسكرية كضابط في الجيش الامريكى ولا اذكر رتبته ولم يتكلم " ارشيلد" في أثناء مناقشتي مع كيم وكان يرتدى أيضا ملابس عسكرية كضابط للجيش الامريكى..".

" وكان هذا سنة 1944 ولم يحدث بعد ذلك أن تقابلت مع أحدهما أو مندوب عنهما كما لم يحدث في خلال هذه المقابلة أي اتفاقات أو ارتباطات بمواعيد لاحقة".. ثم حدث أن أقام مستر كافري مأدبة عشاء أو غداء لا أذكر، وكان ذلك بعد سنة 1950 فتقدم لي خلال هذه الدعوة كيم ويده في يد مستر كافري السفير ألأمريكي وكان في هذا الوقت شخصا مدنيا. وسألني كيم إذا كنت أذكره وكنت في ذلك الوقت صاحب جريدة أخبار اليوم ومجلة آخر ساعة .

وكنا نهاجم سياسة الوفد والنحاس، فأجبته إنني أذكره وأن شكله لم يتغير ، وتحدثنا على ما أذكر في استنكار سياسة أخبار اليوم بمهاجمة النحاس وأن هذا يضر الموقف الدولي، ولا يساعد على مقاومة الشيوعية في المنطقة.

فقلت له إن الفساد هو الذي يؤدى على نشر الشيوعية وأننا نحارب الفساد وانتهت هذه المقابلة أيضا دون ارتباط ولكنى أذكر هنا أنني شعرت بأهميته غير العادية بالطريقة التي كان يمسك بها يد السفير وكان كافري مشهورا بالعجرفة والرسمية..

وبعد تشكيل وزارة على ماهر بعد حريق القاهرة في 16 يناير 1952 كنت موجودا عند رئيس الوزراء في ذلك الوقت ودخل السكرتير يعلن وصول مستشار إيزنهاور وقد بدا على على ماهر الاهتمام بالضيف الكبير وطلب منى الانتظار في غرفة السكرتير حتى تنتهي زيارة هذا الشخص فإذا به كيم روزفلت ولكنى لم أحضر المقابلة وعلمت بعد ذلك من رئيس الوزراء أنه كان يتحدث في موضوع استئناف المفاوضات مع انجلترا وكان هذا أول اتجاه لأمريكا للتدخل في سياسة مصر.

وذهبت بعد ذلك إلى إحدى الحفلات ووجدت أن كيم موجود فيها فتوجهت إليه بعد أن عرفت من على ماهر أهميته وتحدثت إليه عن مقابلة رئيس الوزراء وقد ذكر لي أن أمريكا مهتمة باستئناف المفاوضات التي انقطعت بين مصر وبريطانيا وأن لندن مستعدة أن تذهب على نصف الطريق وانتهت المقابلة.

وكان كيم قد حضر إلى مصر في هذه المرة في مهمة قصيرة لا تزيد على يومين ثم قامت الثورة في 23 يوليو 1952 وحضر كيم إلى القاهرة أيضا في مهمة الاتصال بقيادة ولم أقابله هذه المرة ولكن عرفت بحضوره من بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة.

وزاد تردده على القاهرة بعد ذلك في مهام قصيرة وقد قابلته في أغلب المرات والحقيقة إنني كنت أسعى إلى لقائه عندما أعلم بحضوره وكنت أجتمع به في حضور الأستاذ محمد حسنين هيكل وكنا نتغذى معا في بيتي وقد توطدت علاقتنا وكانت مناقشتنا تدور حول المشاكل التي تدور في الأذهان، وجرى حديث أيضا عن محمد نجيب ورأينا أنه لا يصلح وكانت هذه المرحلة خلال الفترة سنة 1953، 1954.

وكان كيم روزفلت على اتصال وثيق بالثورة وكان يقوم بنشاط واسع في هذا المجال لدرجة أنه كان في ذلك الوقت صاحب أقوى نفوذ بين الأمريكيين في مصر بما فيهم السفير الامريكى".

ثبتت الرؤيا:

1- كيم روزفلت جاء إلى مصر قبل الثورة مرتين على الأقل.. مرة بعد 1950 وارجع إلى ما قاله ايفيلاند عن تجنيد الصحفيين المصريين البارزين الثلاثة، ومرة بعد حريق القاهرة ، وقد جاء في المرة التالية بغطاء كبير ومهم يستوجب الثقة وهو ما حدث إذ تلقاه على ماهر باحترام وأخرج مصطفى أمين من الغرفة، وهو لا يدرى أنه صديق قديم لمصطفى أمين من 8 سنوات على الأقل .. كما حاز ثقة الملك فاستسلم لمشروعه الوهمي عن الثورة البيضاء.. كما حاز ثقة المجموعة الناصرية في تنظيم السادات.. كيف لا وهو مستشار إيزنهاور؟
2- أما حكاية أنه أقام في مصر يومين، فإما أنها معلومات مصطفى أمين أو تنقيح من الجهاز الذي سرب هذه الرسالة للنشر للنيل من مصطفى أمين، والثابت من الروايات الأخرى أن كيم روزفلت أقام في مصر من فبراير إلى مايو.. 1952.
3- اجتمع روزفلت ومصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل في أغلب المرات التي زار فيها كيرميت مصر بعد الثورة..
4- اتفق رأى كيرميت روزفلت ممثل المخابرات الأمريكية، ومصطفى أمين وهيكل ممثلا ..؟ .. على أن محمد نجيب لا يصلح محمد نجيب يوك.. محمد نجيب ليس جيدا .. من هو كيريمت روزفلت ليقرر صلاحية رؤساء مصر الثورة؟.

هل من جواب عند الثوريين؟

5- " كان كيم على اتصال وثيق بالثورة" "وكان يقوم بنشاط واسع في هذا المجال" " لدرجة أنه كان في هذا الوقت صاحب أقوى نفوذ بين الأمريكيين في مصر بما فيهم السفير الامريكى".

الراجل قضى في مصر يومين قبل الثورة.. ومخابراتي أمريكاني.. وجاء بعد نجاح الثورة، فكيف أصبح له هذا النفوذ القوى، وهذه الصلة الوثيقة ، وهذا النشاط الواسع؟..

فجأة؟

لابد أن نقبل رواية مايلز كوبلاند فهي التفسير الوحيد المقنع للحقيقة العجيبة التي أثبتتها اعترافات مصطفى أمين الذي يقول أيضا:
" استمرت علاقتي مع كيم روزفلت على هذا عندما يحضر في مأموريات قصيرة وكانت مأمورياته متعددة في مهمات تتعلق باتصالاته مع رجال الثورة وكنت في كل مرة يحضر فيها أتقابل معه وذلك إما عن طريقي بالمبادأة في الاتصال أو هو يتصل بى في بعض الحال.
وكنا نجتمع أيضا في منزلي في وقت الغداء في حضور الأستاذ حسنين هيكل وكان الأستاذ هيكل يشغل وظيفة رئيس تحرير الأخبار وأخبار اليوم في ذلك الوقت.. ولا تزال علاقتي به كما تعلمون قائمة بمعنى أنه إذا حضر اتصل بى..

أقرر هنا أن اتصالاتي مع كيم روزفلت لم تحدث إلا في خلال فترات حضوره في القاهرة والمرات التي سافرت إلى أمريكا – وكنت في كل مرة أسافر فيها إلى أمريكا أحرص على لقائه.. وفى بعض المرات لم أقابله".

" أما بخصوص مستر ليكلاند والذي ذكر لي المرحوم صلاح سالم أنه يعتقد أنه ضابط مخابرات امريكى والذي شككت من بعض تصرفاته وأسئلته أنه يعمل بالمخابرات وقد عرفني عليه السفير الأمريكي كافري خلال إحدى حفلات السفارة والذي كنت أتناقش معه في المسائل السياسية، وكان هذا الرجل ذا نفوذ على السفير ومصدر قوة لا تتفق مع وظيفته في السفارة وكان على علاقة وثيقة بأعضاء مجلس الثورة في مصر.

استمرت مقابلاتي مع ليكلاند وكانت تتم إما في مكتبي بدار أخبار اليوم أو في مكتب الأستاذ حسنين هيكل بأخبار اليوم".

وتعرفت أيضا في هذه الفترة بمستر مايلز كوبلاند ضابط المخابرات الأمريكية وكان يعمل بسفارتهم بالقاهرة وعرفني به نائب مدير مكتب الاستعلامات الامريكى بالقاهرة في ذلك الوقت وكانت علاقاتي به جيدة وكان يحضر إلى مكتبي وأحيانا في منزلي.

واستمرت علاقتي مع مايلز كوبلاند كل فترة وجوده بالقاهرة وبعد أن انتقل إلى بيروت وعمل مديرا لإحدى الشركات الأمريكية هناك.. ولا زلت أتقابل مع مايلز كوبلاند كما تعلمون سيادتكم في كل مرة يحضر فيها إلى القاهرة أو أتوجه إلى بيروت.

وإن كانت مقابلات بيروت لم تزد عن مرتين وكان يطلب منى خدمات وهى أن أتوسط لدى سيادتكم في مسائل تجارية ولم أتحدث إلى سيادتكم بخصوصها وهى بشان شراء مصر لماكينات حسابات الحكومة السرية على حساب المعونة الأمريكية.

وفى بعض الأحيان يكتب إلى طالبا تحديد موعد لمقابلة سيادتكم وكانت محادثتي مع مايلز كوبلاند تتصف بنفس الأسلوب وهى المناقشات السياسية وهو يطوف المنطقة بعد سفره إلى بيروت لاحظت عند مقابلتي الأخيرة في بيروت أنه واسع النشاط والاتصالات وأنه ينتقل بين السعودية ولبنا ن ومصر وتكلم معي في موضوع وذكر أن من مصلحتنا أن ننسحب فورا من اليمن ورأيي في عمل كوبلاند الحالي أنه عملية مخابرات منظمة باسم شركة.

وفى سنة 1956 قدمني الأستاذ محمد حسنين هيكل إلى مستر وليام دورات ميلر الملحق السياسي بالسفارة الأمريكية وهو كما علمنا فيما بعد أحد ضباط المخابرات الأمريكية وكان اتصالي به خلال فترة تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي وما بعدها.

وكنت أطلع سيادتكم يوميا على هذه الاتصالات وكنتم سيادتكم تسمونه " ريكا" وقد أصبح الآن منذ عهد كنيدي نائبا لمدير الاستعلامات الامريكى وهو منصب كبير جدا هناك وأنا لا زلت على اتصال به عندما يحضر للقاهرة.

" وعندما وقع العدوان كنت أنا ومحمد حسنين هيكل على اتصال يومي بل وعدة مرات في اليوم بمستر ميلر وكنا على اتصال مستمر بسيادتكم.

وكنا نبلغ أمريكا باستمرار أثناء المعركة بطريقة سريعة غير الطريقة الدبلوماسية وجهة نظر بلادنا وذلك عن طريق ميلر كما تعلمون وتذكرون أن فكرة البوليس الدولي ولدت أثناء اجتماعنا في أخبار اليوم بحضور محمد حسنين هيكل".

لعل الرفيق جروميكو قد وجد الإجابة على تساؤله ولو بعد ما يقرب ن ثلاثين سنة.. وهو : " ما الذي يجبر عبد الناصر على قبول البوليس الدولي؟"

إنها فكرة المخابراتى الامريكى وممثلي ثورة يوليو.. مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل .. ولا فخر.

يقول مصطفى لعبد الناصر:

" ثم تفضلتم وأوفدتموني في مأمورية أثناء العدوان في أمريكا لنشر صور العدوان وفى واشنطن علمت بأن الولايات المتحدة مترددة في قبول وجهة نظرنا بالجلاء بلا قيد ولا شرط وقمت بعدة اتصالات وصلت بفضلها إلى حل، وهو أن أكتب مشروع تصريح تدلون به سيادتكم من القاهرة ينشر في أمريكا وعلى أثره تؤيد الولايات المتحدة موقفنا، وأرسلت لسيادتكم المشروع تلغرافيا، وحرصت في مشروع التصريح أن يعبر عن رأى سيادتكم، وليس فيه ذرة من التفريط في أي حق من حقوق الوطن ولكنه في الوقت نفسه يزيل المخاوف التي ترددت في الأوساط الحكومية نتيجة المناورات البريطانية والفرنسية".
وفى أمريكا بعد وقف إطلاق النار 1956 قال مصطفى أمين للأمريكان:" يجب أن تعمل أمريكا على الإسراع في الجلاء وبعد ذلك تقدم مساعدات لمصر وفى هذه المناقشات أقترح أن أقابل آلن دلاس مدير المخابرات المركزية حتى نتكلم في موضوع أثر العدوان في انتشار الشيوعية وقال إنه سيدبر لي هذا اللقاء.
وتقابلت مع كيرميت روزفلت وأخبرته بما حدث فقال إن هذا أمر مستحيل ثم حدث أن اتصل بى ( كيم) وقال لي إن اوامس دبر موعدا لك مع مدير المخابرات المركزية وقابلت مستر آلن دلاس في مكتبه لمدة 15 دقيقة وقد شرحت له وجهة نظر بلادنا باختصار ورغبتنا في الإسراع بجلاء قوات العدوان في أسرع وقت وأن أي تأخير سيؤدى إلى كارثة.

وقدمت تقريرا بذلك إلى سيادتكم فور عودتي شرحت فيه كل هذه المقابلات واحدة واحدة ونص ما جرى فيها.

وفى سنة 1958 التقيت عند الأستاذ محمد حسنين هيكل بمستر جويدن يونم وهو يتولى منصب الملحق السياسي بالسفارة ألأمريكية وكنا نتقابل في أخبار اليوم ونتقابل في المنزل إذا كانت معه زوجته ولكن مقابلات المكتب أكثر بطبيعة الحال.

كنت أتناقش معه في نفس الموضوعات التي كنت أتناقش فيها مع سابقيه واستمرت علاقتي معه حتى غادر مصر وفى سنة 1958 أيضا كنت على اتصال بمستر روبرت انشوتس وكان رئيس القسم السياسي في السفارة الأمريكية وكان يتميز على زملائه بأنه كثير الأسئلة بطريقة ملفتة وكنا نتناقش في الموضوعات السياسية والوحدة مع سوريا ولم يكلفني بإرسال أي معلومات للرئيس بل كان يقوم بهذا يونم وكان روبرت انشوتس يقابلني في مكتبي وفى بيتي ولم يحدث أن لاحظت أنه يعرف علاقتي مع يونم ولم يحدث أن تقابل ثلاثتنا معا.

وفى أثناء ذلك عرفني مراسل جريدة نيويورك تايمز بالقاهرة في فندق كوزمو بوليتان بمستر "جون سيدل" الملحق السياسي للسفارة وأعتقد أنه ضابط مخابرات امريكى واستمر هذا في القاهرة لفترة أربع سنوات وكنا نتفق على مواعيد المقابلات.

وكانت المقابلات تتم في المكتب أو في المنزل وإن كان أغلبها يتم في المنزل وكانت مناقشتنا عن المعونة الأمريكية والشئون السياسية المختلفة.

وتذكرون سيادتكم أنه هو الذي أبلغنا بنبأ الانقلاب الذي سيقوم به زياد الحريري في سوريا قبل قيامه بوقت قصير وهو أيضا الذي كنت أحصل منه على برقيات الشفرة التي كنت أقرأها باستمرار لسيادتكم عن الموقف في العراق وفى الدول العربية.

وعرفني مستر ميدل بضابط المخابرات الامريكى بروس ارديل الذي حل مكانه في بيته في المعادى بعد سفر الأول".

وهذا النص يفيد تسليم رجال المخابرات مصطفى أمين، لبعضهم فعند انتهاء مهمة أحدهم وقدوم آخر يتسلم هذا العهدة.

كما تفيد الكثير عن خفايا الاتصالات التي كانت جارية مع الأمريكان لإزالة آثار العدوان 1956 وتحقيق أكمل نصر عربي .

وعرفنا كذب هيكل عندما يدعى أن عبد الناصر في 1955 قرر وقف الاتصالات مع المخابرات الأمريكية، فها نحن في نهاية 1956 والاتصالات على قدم وساق بل إن القناة الحقيقية التي كانت على اتصال مع أمريكا خلال العدوان هى قناة المخابرات مع مصطفى أمين وعلى أمين أو عبرهما.. بأي صفة هذه؟

وعرفنا من هو مايلز كوبلاند وكيف استمرت علاقته الطيبة مع الزعيم الى القبض على مصطفى أمين 1965..

وعرفنا أن هيكل بدوره يقدم مصطفى أمين لرجال المخابرات الجدد مثل " وليام دورات ميلر" و" جويدن يونم" وهو ضابط الاتصال بعبد الناصر " الذي يوصل المعلومات للريس".

وعرفنا مستوى العلاقة بين الجاسوس مصطفى أمين كما يحلو للناصريين تسميته وبين الزعيم الخالد، فهو يعامله كما كان جعفر البرمكى يعامل الرشيد لولا أن هارون كان حرا ورشيدا فقطع رأس جعفر وعلقها.. " مصطفى أمين" يكتب في سياسة مصر وحول سيادتها على أراضيها ومياهها ويرسله لعبد الناصر للتوقيع..

هل عرف ذئاب الناصرية أن أسنانهم لن تنفذ في لحم مصطفى أمين إلا عبر جثة عبد الناصر..؟

وعرفنا أن البوليس الدولي هو اقتراح عرضه المخابراتى الامريكى وقبله مصطفى أمين وحسنين هيكل باسم مصر..

وعرفنا .. كذب هيكل مرة ثانية ، عندما ادعى أن عبد الناصر أمر على صبري بالامتناع عن مقابلة آلن دلاس وأبرزها هيكل كأنها نوبة شرف. فها هو مبعوث عبد الناصر الشخصي يطلب ويلح وينال مقابلة آلن دلاس ويمن على سيده:" وقدمت تقريرا بذلك إلى سيادتكم فور عودتي".

وعرفنا أن المخابرات الأمريكية كانت ملتحمة مع النظام الناصري إلى أوائل الستينات إلى حد تزويد عبد الناصر بأنباء الانقلابات في سوريا، ولعل زياد الحريري إن كان حيا يعرف من الذي وشى به . وأن أمريكا لم تكن تتآمر مع حلف بغداد على عبد الناصر بل كانت تبلغه أخبار العراق..

وعرفنا أيضا أن مصر الناصرية كانت تحصل على معلوماتها عن الدول العربية من البرقيات السرية الواردة بالشفرة للمخابرات الأمريكية؟

يقول مصطفى أمين:

" وعرفني كافري بمستر ليكلاند.. وعندما قامت الثورة أبلغني ليكلاند أنه في ليلة قيامها أيقظ السفير البريطانى في واشنطن، مستر دين اتشيسون وزير الخارجية الامريكى من النوم وأبلغه أن ثورة شيوعية قامت في مصر وأن الحكومة البريطانية قررت التدخل العسكري فورا وتحرك الجيش البريطانى من فايد لقمع الثورة، وقال لي ليكلاند إن دين اتشيسون طلب مهلة للتشاور وأنه أبرق إلى كافري يسأله رأيه، وأن ليكلاند هو الذي أعد البرقية العنيفة التي على أثرها أبدت أمريكا اعتراضها على التدخل العسكري البريطانى في مصر، وشعرت بحكم اتصالي بأهمية ليكلاند وقوته رغم صغر سنه وأبلغت المرحوم صلاح سالم برأيي أن ليكلاند هو السفير الحقيقي، وعقب ذلك حدث اتصال مستمر بين ليكلاند وبين الرئيس جمال عبد الناصر وصلاح سالم وبعض رجال الثورة، وكان ليكلاند هو الواسطة بين الثورة والسفير الامريكى وشعرت أن ليكلاند في اجتماعاتي معه المتكررة كثير الأسئلة.

وأنه يتظاهر بالخوف وبأنه لا قيمة له بينما شعرت أنه صاحب أكبر نفوذ على السفير وأكثر علما بالسياسة الأمريكية من جميع موظفي السفارة الأمريكية الذين اجتمعت بهم.

وقد أبلغني صلاح سالم أنه يشعر بل يعتقد أن ليكلاند من المخابرات الأمريكية وأن رأى رجال الثورة أنه من جهاز المخابرات الأمريكية، وطلب منى أن أسأله بيني وبينه عن ذلك فسألته فنفى بشدة وقال إنه طلب أن يشتغل بالمخابرات ورفض ذلك.

وكان ليكلاند يسألني أسئلة كثيرة جدا ولكنه كان يبدو متحمسا للثورة ومؤيدا لها، ولم أشعر في علاقتا الوثيقة به أنه كان يخدعني أو يضللني أو يستغلني أو يوهمني بأنه مع الثورة وهو في الواقع ضدها. وأعتقد أنه قام بخدمات جليلة جدا في شان علاقات أمريكا مع الثورة في بدء قيامها.

وكان ليكلاند يحضر إلى أخبار اليوم يوميا وفى بعض الأحيان يتناول الغداء معي أو أتناول العشاء عنده.

وكان أهم ما يسأل ليكلاند عنه هل هناك بين قادة الثورة من له ميول شيوعية وعرفت منه أن الإنجليز كانوا يقولون لهم باستمرار إن لديهم معلومات مؤكدة بأن عددا من أعضاء مجلس الثورة من الشيوعيين، وأن اتجاهاتهم كلهم ضد الغرب، ومن ليكلاند عرفت أن الإنجليز يؤكدون أن يوسف صديق شيوعي وأن خالد محيى الدين شيوعي، بل إن أنور السادات شيوعي أيضا.

وكنت على صلة بأنور السادات فأكدت لليكلاند إنه إذا كان تفكير خالد محيى الدين مثل أنور السادات فلا يمكن أن يكون أحد في مجلس قيادة الثورة من الشيوعيين بل إننا على العكس أرى أن مجلس الثورة ضد الشيوعية".

" وقد أزعج الأمريكيون عندما أفرجت الثورة عن المعتقلين في أول قيامها.

وكان الإنجليز يؤكدون لهم أن كثيرا من الذين أفرجت عنهم الثورة من الشيوعيين وكان الإنجليز يعتبرون كل من يهاجمون سياستهم من الشيوعيين.

وقل لي ليكلاند إنه واثق ومتأكد أن الثورة ليس اتجاهها شيوعيا وأن الإنجليز مغفلون وأنه غير صحيح أنهم خير من يعرف المنطقة وأنه جعل كافري يكتب تقارير يهاجم ههذ الآراء التي كانت تقدمها السفارة البريطانية في واشنطن على البيت ألبيض ، وإلى وزارة الخارجية الأمريكية وشعرت بأن ليكلاند وكافري أمكنهما أن يقفا ضد كل محاولات المخابرات البريطانية لتشويه صورة الثورة أمام واشنطن.

وفى هذه الأثناء كان يحضر إلى مصر من وقت إلى آخر كيرميت روزفلت وكان كيرميت يقابل الرئيس جمال عبد الناصر وكانت مقابلاتي لكيرميت روزفلت بعلم الدولة وبموافقتها التامة.

وقد علمت من الرئيس جمال عبد الناصر أن كيرميت من المخابرات الأمريكية وأنه عضو بارز فيها وأبديت فزعي من ذلك، ولكن الرئيس جمال عبد الناصر وافق على استمرار صداقتي بكيرميت روزفلت، وكنت أخبر الرئيس عبد الناصر باستمرار عن كل ما يقوله كيرميت روزفلت وعن جميع الآراء التي يبديها في مقابلاته معي".

" وكنت أيضا على اتصال مستمر بمستر "وزرزبى" ومستر " بين" الموظفين بقسم الاستعلامات الأمريكية وكنت على صلة وثيقة ومستمرة بهما وكنت أشعر من أسئلتهما أنهما أيضا من رجال المخابرات وعرفني مستر؟ وزرزبى" على ما أذكر أو المستر " بين" بمستر " ايكل بيرجر" وكنت على اتصال مستمر بمستر مايلز كوبلاند الذي كان على صلة دائمة بالرئيس وزكريا محيى الدين.

وفهمت من أحاديث المسئولين أن قادة الثورة يعلمون جيدا أن كل هؤلاء من المخابرات الأمريكية وأنهم واثقون من ذلك ولكنهم يرون أن المصلحة في الاتصال بهم وخاصة أنه تبين بوضوح أن المخابرات الأمريكية هى صاحبة السلطة الحقيقية في أمريكا وأنها أقوى نفوذا من وزراء الخارجية الأمريكية. وأنها قادرة على رسم السياسة فإن كثيرا من ألأشياء التي كنا نطلبها من أمريكا أو يسأل عنها كانت تصلنا عن طريق المخابرات ألأمريكية قبل أن نعرفها بواسطة السفير الامريكى في القاهرة بعدة شهور.

ومع علم المسئولين المصريين وتأكيدهم بأن هؤلاء جميعا من المخابرات الأمريكية فإنهم كان يصرون دائما أن هذا غير صحيح وأن هذه معلومات خاطئة وأن وظيفة كيرميت روزفلت مثلا هى أنه مستشار سياسي لرئيس الجمهورية ولم يحدث مرة واحدة أن اعترف واحد منهم في أي حديث لا مباشرة أو غير مباشرة بأنهم من المخابرات الأمريكية.

" وكان لدينا اعتقاد أن كثير جدا من موظفي السفارة الأمريكية في القاهرة من المخابرات الأمريكية وكان يحدث في بعض الأحيان أن يكون أحد الموظفين من غير المخابرات ثم تظهر كفاءته فلا تلبث المخابرات الأمريكية أن تجنده فيها".

" وحدث في عام 1954 أن حدثت أزمة محمد نجيب وعلمت أن محمد نجيب اتصل بشخص من المخابرات الأمريكية اسمه مستر لي وأن هذا الشخص كان ملازما لمحمد نجيب طوال الوقت وأفهم محمد نجيب مستر لي أن أعضاء مجلس الثورة كلهم شيوعيون وأنه يريد أن يخلص البلاد منهم وأنه يرغب في تأييد الولايات المتحدة له في معركته في مجلس الثورة.

" وكانت الحكومة البريطانية تؤيد محمد نجيب كل التأييد وتعتقد أنه مصلحة بريطانيا في الخلاص من جمال عبد الناصر وأصدقائه.

" وكان كوبلاند يخبرني هو وايكل بيرجر عن تقارير تصلهم باستمرار من المخابرات البريطانية تؤكد أن جمال عبد الناصر هو الخطر الحقيقي ضد الغرب وأن مصلحة الغرب في بقاء محمد نجيب وأن المصلحة أن يبدأ انقلاب محمد نجيب بحكم مؤلف من الوفد والإخوان المسلمين والشيوعيين ثم بعد ذلك يتخلص الغرب من الشيوعيين وسيبقى محمد نجيب الذي أكد لهم مستر لي انه سيكون أصدق صديق لأمريكا ولبريطانيا وأنه إذا انتصر فريق جمال عبد الناصر فإنه سيصبح خطرا على مصلحة أمريكا وبريطانيا لا في مصر وحدها بل في الشرق الأوسط كله".

" وقد وقفت أخبار اليوم في هذه المعركة ضد محمد نجيب ونشرت مقالات في الأخبار بعنوان( سلاطة روسي) عن مشروع حكم محمد نجيب بوزارة من الوفديين والشيوعيين والإخوان المسلمين ونشرت أخبار اليوم الحديث السري التليفوني الذي جرى بين محمد نجيب ومصطفى النحاس وقد أحدث نشر الحديث ضجة كبرى في الرأي العام وأسقط محمد نجيب بين الجماهير.

وكان كوبلاند وايكل بيرجر على ما أذكر يتصلان بى في تلك الأيام باستمرار ويقابلاني يوميا.. وكنت أطلع المسئولين على المحادثات التي تبذل من أجل تأييد محمد نجيب .

ولقد شعرت يومها بأن نفوذ شخص مايلز كوبلاند أقوى كثيرا من عدد من كبار السفارة الأمريكية الذين كانوا يجمعون على وجوب تأييد محمد نجيب لأن الإنجليز والمخابرات البريطانية أقدر على الحكم على الحالة في مصر عنهم.

" وقد حدث خلاف خطير بين الرأيين في هذا الشأن وكان في أحد الأيام أن بدا ذلك بانتصار مؤقت لمحمد نجيب وحل مجلس الثورة وأخبرني كوبلاند أن رجال السفارة البريطانية في القاهرة كانوا يتبادلون التهاني ولقد كانت واشنطن نفسها مقتنعة برأي الحكومة البريطانية بحتمية انتصار محمد نجيب وضرورة تأييده.

" وكان رأيي الذي أبديته دائما لكل من سألني منهم أن السلاطة الروسية التى يدعوا إليها محمد نجيب ستنتهي بأن يستولى الشيوعيون على الحكم وأنه من مصلحة أمريكا أن يتولى الحكم جمال عبد الناصر وهو عدو للنفوذ الأجنبي في المنطقة إلى مستعمرة روسية.

" وفى سنة 1956 عندما حدث تأميم قناة السويس كنت على صلة ببيل ميلر وكان الرئيس عبد الناصر على علم بهذا الاتصال.

وكان ميلر يحضر إلى مكتبي يوميا وكنت أبلغ الرئيس يوميا بما يقوله ميلر وكان الرئيس يسميه على ما أذكر ازمرلدا أو اسم آخر ى أذكره.. وسألت الرئيس لماذا يسميه هذا الاسم فقال إنه اسم رواية قرأها عن فتاة تسمع باسمها باستمرار ولا تراها.

" وكان بيل ميلر يطلعني على كل الأنباء والبرقيات الهامة التي تصل إليه كما كان يفعل كوبلاند وايكل بيرجر الذي كان من وظيفته في السفارة أن يطلع على البرقيات السرية.

" وحدث سنة 1954 أن أخبرني ايكل بيرجر أنه اطلع على برقية سرية جدا وصلت على التو من السفير الامريكى في تل أبيب وألح في ألا أخبر الرئيس بهذا الأمر وقال إنه لو عرف أن هذه البرقية تسربت فسوف يفقد عمله.

" وأسرعت على الفور وأخبرت الرئيس عبد الناصر بما حدث واهتم الرئيس بهذا النبأ وطلب معلومات أوسع عن هذه العملية الخطيرة ومكانها. " واتفقنا أن أذهب أنا ومحمد حسنين هيكل ونقابل مستر بايرود السفير الامريكى واستطعنا أن نعلم أن الخبر صحيح مائة في المائة.

" وأحضر بايرود البرقيات السرية التي وصلت إليه وتفاهمت أنا وهيكل أن يشغله هيكل بالحديث بينما أنا أنقل البرقية وفعلا استطعت أن أنقل نص البرقية وقدمناها للرئيس جمال عبد الناصر فأصدر على الفور أمره إلى الجيش المصري بالاستعداد لهذا العدوان المفاجئ. وتم العدوان في موعده.

وكان الجيش المصري مستعدا له ولقن الجيش المصري يومها درسا لليهود، وقد شكرني الرئيس جمال عبد الناصر يومها على هذا العمل الذي قمت به وقال إنني قدمت خدمة كبرى لبلادي".

الشرح:

1- نحن هنا أمام واقعة مهمة تحسم جدلا دار طويلا حول من الذي منع القوات البريطانية من التدخل لضرب الثورة، والملك ما زال في البلاد.. مصطفى أمين " يعترف" بأن ممثل المخابرات الأمريكية في السفارة هو الذي أبرق بقوة أو بشدة يطلب شل يد بريطانيا عن ضرب ثورة " الشعب المصري التحريرية" .. ودين اتشيسون استخدم كل قوة الولايات المتحدة لمنع بريطانيا من ضرب الثورة.. ولا يوجد شارع واحد في مدينة نصر باسم المخابراتى ليكلاند، ولا باسم دين اتشيسون .. ويحدثنا أمين هويدى عن الوفاء أين هو؟.
يوم 23 ضباط الجيش لا يعرفون أسماء ولا اتجاهات أعضاء مجلس قيادة الثورة باستثناء محمد نجيب وأنور السادات.. فكيف عرف هذا المخابراتى " الأعور" ميول واتجاهات ههذ الثورة واطمأن على أنها تمثل مصالح أمريكا، ومن ثم تستحق أن تجازف الولايات المتحدة بعلاقتها مع بريطانيا، بل وبما كان لها من نفوذ في القصر الملكي، وينصح بل يطلب بشدة التدخل لمنع الإنجليز من عرقلة المسيرة؟ كيف عرف هذا الأعور وخاطر بمستقبله السياسي، ومستقبل المصالح الأمريكية ؟ حقا كل ذي عاهة جبار.. أو ربما كان هو الأعور الدجال.

2- تأكد كلام ايفيلاند بأن المخابرات الأمريكية كانت مطلقة اليد في مصر ، وتفوق السفارة نفوذا وحرية في التعامل مع الثورة وتمثيل الولايات المتحدة، وهو وضع اتفق الجميع على شذوذه ولا مثيل له إلى في مصر.

لماذا ؟..لصلة خاصة بين المخابرات وهذه الثورة ، حتمت وبررت إطلاق يد "الواصلين" من موظفي المخابرات سى آى ايه..
3- أصبح ليكلاند هو الواسطة بين الثورة والسفير الامريكى.
4- شهد مصطفى أمين أن ليكلاند كان متحمسا للثورة وقام بخدمات جليلة جدا في شأن علاقات أمريكا مع الثورة في بدء قيامها..
كيف ولماذا انشرح قلب هذا الأعور بسرعة، وآمن قبل أن يتبين كثير من المصريين حقيقة الثورة؟
5- كانت العلاقة بين ليكلاند المخابراتى الثوري هذا ومصطفى أمين تفوق " قليلا" علاقة صحفي بموظف امريكى، فهو لا يكاد يفارقه ،" في تلك الأيام من بداية الثورة" يزوره يوميا وإما يتغدى هذا عنده أو يتعشى هو عنده.. يعنى كما نقول ايهين في ايه.. المخابراتى مهتم بالثورة، فلماذا الاهتمام بمصطفى أمين؟ لا جواب حتى نعثر على الحلقة المفقودة بين الإنسان الثوري والقرد المخابراتى؟ وهيكل هو ثالثهما باستمرار وهذا ما قاله مصطفى أمين لعبد الناصر الذي يعلمه.
6- كان الأمريكان يعتقدون أن يوسف صديق شيوعي وكذلك خالد محيى الدين.. والحمد لله سرعان ما خرج الاثنان من مجلس الثورة وأخذا الشر وراحا.. واستطاع كافري وليكلاند الوقوف ضد كل محاولات المخابرات البريطانية لتشويه صورة الثورة أمام واشنطن .. الحمد لله.. ويكفينا شر الدساسين.
7- انزعجت أمريكا من الإفراج عن المعتقلين . ليه؟ وماذا يتوقع من ثورة إلا أن تفرج عن المعتقلين من النظام السابق؟ على أية حال لقد خفف من انزعاجها أن الثورة احتفظت بعدد من الشيوعيين كرمز لموقفها ولطمأنة المنزعجين..
8- في هذه الأثناء كان كيرميت روزفلت يتردد على مصر، وكان يقابل الرئيس جمال عبد الناصر . وكانت مقابلات مصطفى أمين مع روزفلت بعلم الدولة.
وهذا بالطبع ما أكده الكتابان، كما أن ايفيلاند شرح النقطة الأخيرة وهى علم الدولة، فقد أكد علم عبد الناصر بصلة مصطفى أمين وهيكل بالمخابرات، وأنه قبل استمرار هذه العلاقة على أن تكون بعلمه، وهو ما يعرف في علم المخابرات بالعميل المزدوج مع فارق أن الطرفين بل حتى الأطراف الثلاثة هنا تعرف أن الكل يعرف.. وهى لعبة شديدة التعقيد راهن فيها كل طرف على غباء الطرف الآخر.. ويمكن القول إن العلاقة كانت مفيدة لكل الأطراف، والمصارحة كانت ضرورية لكسب الثقة وانفتاح النظام الناصري.. كما يمكن القول إن تطور ميزان القوى داخل هذا المثلث جعل هيكل يتجاوز مصطفى أمين عند عبد الناصر، فقد كان اقرب سنا وأكثر حيويا وثقافة إلى حد ما ، وخبثا جعله يظهر التفاني في الزعيم والإيمان به، بينما ظل مصطفى أمين يعامل عبد الناصر كتلميذ أو حتى كما كان يعامل الملك فاروق واستمر رهانه الأكبر على الأمريكان.
وتدهور وضع مصطفى أمين، مما جعله يزداد اعتمادا على الأمريكان، ونفورا من عبد الناصر فانتصر عليه هيكل ، الذي عرف من أول لحظة أن مستقبله كله هنا وهناك مرهون بعبد الناصر، فلا قيمة له عند الأمريكان إلا بقدر قربه من عبد الناصر. . حتى تربص عبد الناصر بهيكل وتوجس هيكل من عبد الناصر وتدخل القدر العجيب أو قوة خفية فعجلت نهاية ناصر.. وبقى هيكل يؤرخ على قبره.
" وافق الرئيس عبد الناصر على استمرار صداقتي بكيرميت روزفلت".
9- الرئيس جمال عبد الناصر يعرف أن كيريمت روزفلت عضو بارز في المخابرات الأمريكية.
10- ظهر اسم ايكل بيرجر .. ومايلز كوبلاند ، وقال مصطفى أمين في اعترافه بين يدي صلاح نصروجمال عبد الناصر.. والرائد لا يكذب أهله وهو في السجن.. " وكنت على اتصال مستمر بمستر مايلز كوبلاند الذي كان على صلة دائمة بالرئيس وزكريا محيى الدين".
يعنى كوبلاند ليس بالنكرة ولا طالب وظيفة، كما تحدث عنه المدعو بل كان على صلة دائمة بالرئيس.. وهذا كلام يقال للرئيس في خطاب شخصي.. فلا مفر من تصديقه.. ولا مفر من الشك في حكمة تجاهل هيكل لذلك في رده على مايلز كوبلاند ؟.. ( والشك أكثر في عدوله الآن عن هذا التجاهل).
وأكد مصطفى أمين أن "قادة الثورة كانوا يعلمون جيدا أن كل هؤلاء من المخابرات الأمريكية ، وأنهم فضلوا التعامل مع الولايات المتحدة عن طريق قناة الـ سى آى ايه .. وهذا الموقف كما يثير التساؤل حول أسبابه، يلقى الضوء على التطورات التي حدثت بعد ذلك، ويعزز رواية لعبة ألأمم وحبال الرمال".
وفى نفس الوقت ورغم معرفة كل الأطراف، فإن مصطفى أمين يؤكد أن جميع الموظفين الأمريكان أنكروا دائما أنهم من المخابرات، وهذا يكذب ادعاء هيكل بان الحكومة الأمريكية أبلغت عبد الناصر أنها تفضل أسلوب الاتصال عن طريق المخابرات الأمريكية.. وهو قول باطل لأن الحكومة الأمريكية لا تفعل هذا ، لا تعترف رسميا باستخدام الـ سى آى ايه لأن ذلك ضد العرف والقوانين بل الدستور الامريكى الذي يجعل السياسة الخارجية من اختصاص الرئيس ومن خلال وزارة الخارجية، فهي كانت عملية سرية رسمية فرضتها الظروف الخاصة التي جعلت رجال الـ سى آى ايه يأتون برجال الثورة إلى الحكم ومن ثم كان من الطبيعي أن تستمر الصلة ، مع تجاهل المؤسسات الدستورية الرسمية بل وأحيانا استنكارها.
11- وهذه نقطة مهمة أخرى كان يدور حولها الهمس والتحليلات، وهى أن محمد نجيب كان يتمتع بتأييد الحكومة البريطانية، التى كانت أيضا ترغب في التخلص من جمال عبد الناصر.. وقد نقل رجل المخابرات سى آى ايه في مصر "كوبلاند" و" ايكل بيرجر" هذه المعلومات لمصطفى أمين وهو بدوره اتخذ الموقف المنطقي بعد كل ما سبق ذكره، هاجم محمد نجيب وجند أخبار اليوم ضده، ونشر الحديث الذي جرى بين محمد نجيب ومصطفى النحاس وهو الحديث الذي " أسقط محمد نجيب بين الجماهير" وأكد مصطفى أمين " إن من مصلحة أمريكا أن يتولى الحكم جمال عبد الناصر".
وتصادف أن كان هذا لمصلحة جمال عبد الناصر ومن رأى فريق المخابرات الأمريكية في مصر.
وهذا يعطى بعدا جديدا لأزمة محمد نجيب فقد كانت في أحد جوانبها أو أهمها: صراعا أمريكيا – بريطانيا ..
فالإنجليز حاولوا الالتفاف وأخذ حصة في الثورة، ولكن الأمريكان مثل الفريك لا يحبون الشريك.
هل يفيد التذكير بحجز المخابرات الأمريكية والوفد العسكري الامريكى في بيروت " في انتظار اضطرابات في مصر" ( أكتوبر 1954) وشكوك مؤلف " حبال الرمال" أو ممثل المخابرات العسكرية الأمريكية في " تآمر" المخابرات سى آى ايه مع ناصر للإطاحة بنجيب.. وهذا هو مصطفى أمين يتشفع عند عبد الناصر بالدور الذي لعبه هو والمخابرات الأمريكية في ترجيحه على محمد نجيب..؟
وإذا كان مصطفى أمين قد ساهم في المعركة ضد نجيب بمقالاته فلماذا نتصور أن المخابرات سى آى ايه اكتفت بالدعاء للسلطان ناصر بالنصر كعميان دار السلطنة؟

1:2- أكد مصطفى أمين (بصرف النظر عن الحبكة الروائية والتي بدورها تثير أكثر من سؤال إذ كيف ولماذا يسمح السفير الامريكى لصحفيين مصريين بالاطلاع على البرقيات السرية الواردة للسفارة؟.. إلا إذا كان البساط أحمدي جدا؟) .. المهم أكد مصطفى أمين رواية بغدادي وغيره على أن المخابرات الأمريكية أبلغت مصر بعدوان إسرائيلي منتظر.. يقول مصطفى أمين:

" كان جهاز المخابرات البريطانى يعمل باستمرار على أساس أن الرئيس عبد الناصر خطر على مصالح بريطانيا الاستعمارية والاقتصادية في المنطقة وليس لأن عبد الناصر يمثل خطرا شيوعيا.. وكان مايلز كوبلاند وميلر زوبيرجر وكيرميت روزفلت يقولون لي إنهم مقتنعون بهذا الرأي وكانوا يقولون إن المخابرات البريطانية تحاول تضليل أمريكا لمصلحة بريطانيا".

وهذه تضاف إلى نقطة الصراع الامريكى- البريطانى، وأن مصر الناصرية في تلك الفترة وربما إلى عام 1965 كانت تمثل الطرف الامريكى.

" وكنا في جميع اتصالاتنا بهؤلاء نعلم أنهم متصلون بجهاز المخابرات الأمريكية وكانت الدولة تعلم بهذه الاتصالات وتعرفها تفصيلا".

" وعندما أوفدني الرئيس جمال عبد الناصر في مهمة إلى أمريكا أثناء العدوان، قابلت كيرميت روزفلت عدة مرات في حضور الدكتور أحمد حسنين سفير مصر في واشنطن في ذلك الوقت وبعلم جمال عبد الناصر، وعرفت أن المخابرات الأمريكية فوجئت بالعدوان وأنها لم تعلم عنه من لندن أو باريس وإنما علمت به من تل أبيب، وفى أيام العدوان الأولى كان بيل ميلر يزورنا يوميا في أخبار اليوم، وأحيانا يقابلنا أكثر من مرة في اليوم، وكان السؤال الذي يسأله دائما واحدا لا يتغير وهو : هل نستطيع الصمود وكم ساعة نستطيع أن نقف على أقدامنا، وكان يسأل هذا السؤال أكثر من مرة في اليوم.. وكان يقول لو صمدت مصر ثلاثة أيام فسوف تخسر بريطانيا المعركة".

" وكنت على صلة مستمرة ودائمة بالليل وبالنهار تليفونيا بالرئيس جمال عبد الناصر وكنت أبلغه أولا بأول بكل كلمة يقولها " بيل ميلر" في مقابلاته العديدة المتكررة".

" وقبل قيام العدوان البريطانى- الفرنسي الاسرائيلى على مصر كانت الولايات المتحدة بجميع أجهزتها على جهل تام بهذا العدوان، وكان بيل يتردد علينا باستمرار في أخبار اليوم ويؤكد هذا ويقول إن أمريكا لا توافق على هذا العدوان وما دامت هى لا توافق، فلن يقوم العدوان".

وهذا صحيح كله.. ومن المهم الرجوع إليه في حديثنا عن العدوان.. فالولايات المتحدة فعلا جهلت تدابير العدوان، فقد كتمت بريطانيا عنها الأنباء لأنها كانت معركة حياة أو موت، كما ى يستبعد أن تكون عيون وأصابع الموساد داخل المخابرات الأمريكية قد تعامت وسدت آذان هذه المخابرات ، وجعلتها غافلة، وربما تتحمل المخابرات سى آى ايه مسئولية استرخاء عبد الناصر ورفضه أن يصدق جميع الأنباء التي وصلت إليه من مصادر شتى عن العدوان، مما أثار دهشة ونقد المؤرخين وتشاء حكمة الله أن تبرىء ساحة الرئيس وعلى لسان أحد ضحاياه ، فالرئيس كان مقتنعا بمنطق " بيل" وهو أنه ما دامت أمريكا لا توافق على العدوان فلن يقع وهذا المنطق هو إحدى خطايا الانفتاح على المخابرات سى آى ايه والقناعة بقانون القوتين الأعظم وأنه يتحكم في كل شيء، أي انكسار الإرادة الذاتية للقوى الأصغر وإمكانية تحركها المستقل في ظروف خاصة.. وقد أخطأ بيل في تقديره، وأخطأ عبد الناصر في حساباته ، وربما كان هذا من حسن حظنا جزئيا.. ونفس الخطأ ارتكبه الشريف حسين الذي ظل إلى أن فقد عرشه يعتقد أن بريطانيا تستطيع أن تأمر ابن سعود بالتخلي عن أهدافه وانتصاراته.

وهذه الفقرات من اعترافات مصطفى أمين تلقى الضوء على موقف أمريكا خلال حرب السويس واهتمامها بالصمود المصري لكي يفشل العدوان ومن ثم يتبين سخافة اتهام أمريكا بأنها كانت شريكة في العدوان الثلاثي وأن هذا الاتهام المتهافت إنما قصد به تغطية حقيقة العلاقة بين مصر الناصرية وأمريكا، وأيضا خطأ الاستدراج للمخطط الاسرائيلى الذي أراد ونجح في خلق صدام مصري- امريكى بعدما وقفت الولايات المتحدة بكل ثقلها ضد إسرائيل في عدوان 1956..

قال مصطفى أمين:

" واستطعنا أن نعرف أن إيزنهاور غاضب من أن العدوان تم وراء ظهره، وأن إيدن استغله وكانت هذه المعلومات مفيدة جدا أثناء المعركة".
إلى مصر في مكتبي بأخبار اليوم بحضور محمد حسنين هيكل".

تانى..

" وكنا نبلغ عبد الناصر أولا بأول كل المعلومات ونقوم بمهمة الاتصال بين الرئيس جمال عبد الناصر وإيزنهاور حتى أم الرئيس جمال عبد الناصر قال يومها إن أخبار اليوم أصبحت وزارة خارجية تحت الأرض، وكنا نشعر وقتها أن رسائلنا تصل إلى إيزنهاور بهذه الطريقة أسرع كثيرا مما لو أرسلت بطريق السفير".

وربما يفسر هذا الكثير من السلوك الغامض أثناء العدوان.. ويذكر مصطفى أمين الرئيس عبد الناصر بأنه هو الذي أمره بشن حملة شعواء على الشيوعية خلال أحداث ثورة العراق والخلاف الناصري الخرشوفى المعروف( 1958- 1959).

" وكنت على اتصال يومي بسيادتكم وكنت أبلغكم تفصيليا كل مقابلاتي مع الرجال الأمريكيين الذين اتصلت بهم وكل ما كنت أحصل عليه من أنباء ومعلومات وأسرار بحيث كنا نعرف أولا بأول كل الأنباء التي يهمنا أن نعلم بها سواء ما يجرى في امريكى أو يجرى في المنطقة العربية وكنتم سيادتكم تطلبون منى الاستفسار عن مسائل معينة أو إبلاغهم مسائل معينة وكان الأستاذ سامي شرف يتصل بى ويطلب منى أن أحصل على معلومات معينة من أصدقائي الأمريكيين وأعتقد أنني كنت أحصل على بيانات تهم بلادي في فترات عصيبة قلقة.

" وحدث بعد تعيين الأستاذ خالد محيى الدين رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم أن قررت إيقاف اتصالي بأي امريكى وسألت الأستاذ سامي شرف في ذلك فطلب إلى الاستمرار كما أنا".

ويعرفنا مصطفى أمين: أن " ارشى روزفلت" ابن عم كيرميت " هو رجل الـ سى آى ايه في لندن" وهو الذي قابل مصطفى أمين عام 1944 في مجلة الاثنين وكان واسطة الخير هو الدكتور" فؤاد صروف" عميد الجامعة الأمريكية في ذلك الوقت" وكانت مقابلة مباركة إذ بعدها بفترة بسيطة ظهرت أخبار اليوم كأقوى مجلة أسبوعية في العالم العربي وبدأت مسيرة النجاح المذهل، وإن كان مصطفى بيك قد فسر لنا بعض أسبابه في هذه الوثيقة الخطيرة، عندما تحدث عن " ثمن الصلة":

" سيادة الرئيس:

وأحب أن أثير سؤالا هل كان المقابل الذي حصلت عليه من اتصالاتي بالمخابرات الأمريكية أو الأمريكيين المسئولين يساوى ما قدمته لهم؟
والجواب على ذلك أنني لم أتقاض ثمن ههذ الصلة مالا أو مرتبا شهريا أو سنويا إنما جاء المقابل في الصورة الآتية فقط.
(1) أخبار أمدني بها المسئولون الأمريكيون ورجال المخابرات الأمريكية خلال هذه السنوات العديدة. وكنت أقوم بنشرها بأخبار اليوم وباقي صحف الدار وتنفرد بها دون باقي الصحف الأخرى التي تصدر في القاهرة أدت إلى زيادة توزيع صحف أخبار اليوم وبالتالي أدت إلى زيادة إيراداتها ومن هذه الأخبار خبر مفاوضات الهدنة بين الحلفاء والنازيين وكانت تجرى سرا في أوربا في ذلك الحين وكانت أخبار اليوم أول جريدة سبقت بنشر هذا النبأ، كذلك خبر عن أول تفصيلات عن اختراع القنبلة الذرية كذلك خبر عن موعد ومكان فتح الجبهة الثانية في أوربا وكذلك خبر عن موعد الهجوم المنتظر الذي سيقوم بها هتلر على روسيا وكذلك خبر مفاوضات إيطاليا بالتسليم للحلفاء في نهاية الحرب الثانية وكذلك أول خبر أن الروس يعرفون سر القنبلة الذرية.
(2) وبهذه الصلة حصلت على امتيازات إصدار مجلة المختار.
وهو يدر على أخبار اليوم مبلغا طائلا سنويا وقد وافقتم سيادتكم على أن نحصل على امتياز إصدار ههذ المجلة.
(3) وبهذه الصلة حصلت على امتياز طبع مجلة الصداقة وهى تدر على أخبار اليوم مبلغا كبيرا سنويا.
(4) وبهذه الصلة حصلت لأخبار اليوم وصحفها على إعلانات من شركات أرامكووبان أمريكان وكانت كل الصحف الأخرى كالأهرام مثلا تأخذ نفس القدر من الإعلانات.
(5) وبهذه الصلة حصلت على روق من أمريكا لمصر بحوالي 2 مليون لأنه وزع على الصحف بنسبة توزيعها وحصلت أخبار اليوم من الحكومة على نسبة كبيرة من هذا الورق وكان الورق الذي اشتريناه من الحكومة أرخص من ورق السوق فربحنا بطبيعة الحال.
(6) حاولت أن أستفيد من ههذ الصلة بشراء مطابع جديدة من أمريكا وطلبت منهم أن يعاونوني في أن أحصل على قرض من بنك التسليف والاستيراد الامريكى بشراء مطبعة وكان المبلغ المطلوب حوالي 100 ألف جنيه فلم يوافق البنك لأنه يطلب ضمانات الحكومة المصرية ولأن تقاليد البنك هى عدم تقديم قروض للصحف.
(7) بهذه الصلة أمكنني أن أوفد أم كلثوم لتعالج في أمريكا بالذرة دون مقابل.
(8) وفى الوقت نفسه حصلت لبلادي على معلومات من الأمريكيين هامة وخطيرة عن موعد هجوم إسرائيل سنة 1954 ونوهتم سيادتكم بفضل هذه المعرفة في كسب المعركة وجمع الأخبار عن الحالة في سوريا بعد الانفصال وانقطاع وسائل الاتصال بالإقليم السوري وجمع الأخبار عن الحالة في العراق بعد نزاعنا مع عبد الكريم قاسم وجمع أخبار عن الموقف في السعودية بعد ألأزمة التي وقعت بيننا وبين سعود وأنا الذي أبلغت سيادتكم بنبأ المؤامرة التي يقوم بها الملك سعود مع أحمد أبو الفتح وسعيد رمضان وبعد أن أبلغتكم هذه المعلومات ومصدرها عرفت من سيادتكم أنكم بوسائلكم الخاصة عرفتم تفاصيل وأسرار هذه المؤامرة".

ويستفاد من هذه الفقرة الآتي:

1- صلى مصطفى أمين بالمخابرات ألأمريكية أو الأمريكان سابقة على الثورة أي منذ الحرب العالمية، وأنهم كافئوه في تلك الفترة بالأخبار التي تدر عليه الربح، من خلال إنجاح صحيفته وتفوقها.
وهو يسمى ذلك ثمن الصلة أي أنه كان يقدم لهم خدمات خلال الفترة من 1945 إلى 1952 .
ترى ما هى هذه الخدمات والتي شكلت صحيفة سوابقه التي أتاحت له كل هذه الحظوة وكل تلك الثقة في ظل الثورة؟ أغلب الظن- وأغلبه إثم- أنه كان يجندهم للثورة وبالذات لتنظيم السادات.
2- إن مكافأة الصحفي العميل، عند هذه الأجهزة لا تأخذ – دائما – شكل أموال تدفع له ، بل خدمات تجعله الصحفي الأول بلا مجهود كبير منه، وقد تشمل إزاحة المنافسين. وهذا بالطبع يشمل مصطفى أمين وغيره من الذين نراهم يطفون عند السطح بلا مبرر مهني.

ولنقف هنا قليلا مع الرسالة وتعليق هيكل عليها فنورد هذه الملاحظات:

1- لا يمكن فصل هيكل عن مصطفى أمين في كل أحداث الرسالة من يوم الانقلاب إلى أوائل الستينات، ففي كل الاتصالات واللقاءات مع عناصر المخابرات الأمريكية يوجد هيكل.
" مصطفى أمين " يذكر ذلك بوضوح وصراحة ويتبعها بأن " اتصالاتنا معهم كانت بعلم الرئيس وموافقته"، وهو بالطبع لا يعنى الاتصال كمندوب للرئيس بل يعنى الاتصال الذي يحاكم عليه.. ولا يمكن بالطبع أن يكذب مصطفى أمين على عبد الناصر في رسالة استعطاف وهو في أحلك الظروف وفى قبضة الوحش.. وحتى المافيا يعرفون أن الكذب مستحيل في مثل هذه اللحظات.
إذ لا شك أن عبد الناصر الذي يعرف " دبة النملة" وخاصة عن هيكل لابد أنه يعرف إذا كان هيكل يحضر أو لا يحضر اجتماعات مصطفى أمين وروزفلت أهم امريكى يتردد على القاهرة وقتها.
ومن ثم لو كان ما يقوله مصطفى أمين على هيكل ، مجرد أكاذيب، لاستشاط عبد الناصر غضبا من هذا الذي يغرر به حتى وهو في السجن، وأصبحت الرسالة بلا معنى ومصطفى أمين أذكى من أن يجهل هذا ، وهيكل أيضا أخبث من أن يرد على هذا المطب بأنه كذب واختلاق، وهنا استعان البهلوان بكل ما في الجراب من حيل وكان أن أعلن أن مصطفى أمين كتب هذه الأكاذيب عن اشتراكه معه في الاتصال المعيب بالمخابرات ألأمريكية وهو يعتقد أنه صادق.
إزاى..؟ بسيطة خالص.. اتهم مصطفى أمين بأنه مجنون ، يكذب حته.. حته.. وفى النهاية يصدق نفسه.. ولكن ارقأ هذا الاعتذار من فم هيكل أحلى:
" ولكن ما أثار استغرابي هو بعض الوقائع التي استشهد بى على صحتها.. كان الأستاذ مصطفى أمين يروى قصة، ثم يعود في اليوم التالي ليرويها وقد اختلف فيها تفصيل واحد، ثم يعود بعد أسبوع ليرويها وقد اختلف تفصيلان وتتحول المتوالية الحسابية إلى متوالية هندسية، وتفقد القصة في آخر طبعة منها علاقتها بالطبعة الأولى، لكن كثرة التكرار تولد نوعا من الاقتناع الحقيقي لدى صاحبه بأن ما يقوله هو صدق، كذلك يخيل له..
وهكذا فإن الأستاذ مصطفى أمين حين قدم الوقائع أمام جمال عبد الناصر- في رسالته الوثيقة- لم يكن يظن أنه يكذب- كما قال بنفسه- وإنما كان يقول ما يتصور هو انه صحيح بصرف النظر عن الحقيقة.
وإذن فنحن أمام ظاهرة مثيرة للتأمل: لا تحتاج إلى مجرد رجل أمن يضبط الوقائع ، ولكنها تحتاج أيضا إلى عالم نفسي يحلل الدوافع".
فكل هذه الاجتماعات التي حددها مصطفى أمين باليوم وموضوع المناقشة ومن حضر من الطرف الامريكى مع هيكل كلها تخيلات.. وحالة نفسية.
وما دام هيكل يكتب لقراء في مستوى " سجاح قمر" فليكتب ما يشاء.
2- هيكل هو ابن دار أخبار اليوم البكر ، ففي الوقت الذي كان الشباب يتفجر وطنية التحق هو بصحيفة الاستعمار البريطانى في مصر، ثم في عام 1946 انضم لأخبار اليوم ومرة أخرى كان طلبة المدارس يعرفون أن أخبار اليوم هى صحيفة القصر والسفارتين البريطانية والأمريكية.. ومن ثم فعندما "يتحنجل " الأستاذ هيكل الآن ليقول لنا إنه يشك في أن تكون المخابرات الأمريكية أنشأت أخبار اليوم، نقول له قديمة، هذه حقيقة مقررة في جيلنا من أربعين سنة، وأنك كنت منهم ثالثهما ووريثهما وابنهما البكر.
وأنك إذ تقرر الآن " كان الأستاذ مصطفى أمين من 1944 إلى 1950 الصحفي المعبر عن السراي واتجاهاتها وظل هذا الوضع حتى سنة 1952 " نقول فلماذا رضيت أن تبقى من 1946 إلى 1952 أي ثلاثة أرباع المدة، في خدمة صحيفة السراي والمخابرات الأمريكية أم عرفت ذلك ألآن فقط بعد دراسة أرشيف أخبار اليوم؟
وكيف ارتبطت بهذه الصداقة الحميمة مع جواسيس ؟ .. المضحك أنه يقول الآن بعد أربعين سنة إن " مراسلي أخبار اليوم في الخارج وقت إنشائها كانوا- كما يبدو لنا ألان- طرازا غريبا من الصحفيين".
ألم تتبين ذلك وهو يعلمون كمراسلين لك وأنت رئيس تحرير آخر ساعة والأخبار وأخيار اليوم.. ولماذا مراسليها في الخارج فقط؟ أليست المهمة الأولى لدار صحيفة تنشئها المخابرات الأمريكية هى العمل في الداخل؟
الآن عرفت أن " فؤاد صروف" عميل، وأن " المختار" كانت مجلة استعمارية المنشأ والهدف؟ أتمنى أن يأل الجيل الجديد والديه ماذا كنا نقول عن المختار في الأربعينات.. وكيف لا تزال الشبهة تطارد كل من كانت له صلة بها.. وأخيرا ألم يستأذن مصطفى أميت من جمال عبد الناصر على إعادة طبع المختار في سنة 1960 فوافق سيادة الرئيس .
هل من ألأمانة أو احترام القارئ أن تستشهد بعمالة مصطفى أمين – وهى ثابتة- بأن المختار صدرت فيما بعد عن دار أخبار اليوم وذكر الأستاذ مصطفى أمين في رسالته – الاعتراف، أن ذلك كان بين الفوائد التي حصل عليها من صلاته الأمريكية" وتقفز فوق اعترافه بأنه أستأذن الرئيس فأذن له..؟ أم هذه من التخيلات ، فلا مصطفى أمين استأذن ولا عبد الناصر وافق، ولا المختار صدرت فعلا في 1960 أو فيما بعد لكي تتهرب من التاريخ وحقائقه المخزية لكم جميعا؟
3- إن الرئيس عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وأنور السادات، كلهم كانوا يعرفون موقف وسياسة وارتباطات مصطفى أمين ودار أخبار اليوم.
ورغم ذلك أغلقت صحف مصر الوطنية وشرد من شرد وسجن من سجن حتى كتب على أمين يشمت في أبو الخير نجيب تنكيل محكمة الثورة به. وظل هو وتوأمه يتربعان على عرش الصحافة المصرية مشرفين وموجهين للاتصالات المصرية- الأمريكية خلال حرب 1956 .. لماذا؟
من الذي أخرج مصطفى أمين من السجن وأعطاه مقاليد الصحافة.. ؟ لماذا تحتاج الثورة إلى عميل يتصل لها بالرئيس إيزنهاور؟ لماذا لا يتصل زكريا محيى الدين؟ عبد الناصر لم يهتم ولا وجد وقتا ليقابل أحمد بهاء الدين ولو مرة واحدة في حياتهما ومصطفى أمين يكتب بيانات عبد الناصر بل ويرسلها إليه للتوقيع.
لماذا هذه الثورة مشبوهة الاتصالات، وكل اختياراتها تصب في النهاية في قناة المخابرات الأمريكية من أحمد حسين سفيرها في واشنطن إلى مصطفى أمين وهيكل والتهامي.. الخ ..
4- ومرة أخرى أو حتى عاشرة، اعتذر لهذا الجيل الذي اختلطت ألأمور فلم يعد يدرى معنى كلمة جاسوس وعميل.. بعد أن سيطرت على مصر حكومة جاءت بها المخابرات ألأمريكية، وأصبح اسمها حكومة الثورة.. ففقدت الكلمات معناها، وتأمل كيف كتب هيكل كتابا كاملا يثبت فيه أن مصطفى أمين وعلى أمين جاسوسان.
مصطفى أمين خان مصر مع الأمريكيين، واستعدى الحكومة الأمريكية ضد مصر وأعطاهم معلومات ساعدت على العدوان الاسرائيلى.. أما على أمين. بنص تصريح الزعيم " يعمل في المخابرات البريطانية"

ورغم ذلك ، أم نقول. وبسبب ذلك انظر كيف التقى ممثل الناصرية بجاسوس الإنجليز..

" ووصل على أمين إلى مكتبي وكان لقاء بعد فراق تسع سنوات حافلة كان فرحى بلقاء الأستاذ على أمين حقيقيا وأشهد أنني شعرت بنفس الشيء من جانبه.."

ثم طاف به مبنى الأهرام.. ثم سألني الأستاذ على أمين " أين يستطيع أن يذهب طول نهاره، إن جو الصحافة المصرية أوحشه..

وقلت على الفور:" إن الأهرام تحت تصرفه وسوف أخصص له مكتبا بجوار مكتبي يجلس فيه كما يشاء ويستقبل فيه من يشاء." وقام مرة أخرى يقبلني متهدجا بالتأثر . لم يتغير شيء من الطفل الكبير الذي عرفته منذ سنوات طويلة" بحروفه.

لم يتغير شيء حتى وإن كان الطفل الكبير لعب استغماية مع المخابرات البريطانية؟..

وانظر ماذا كتب يوم الإفراج عن جاسوس أمريكا والمتسبب في العدوان أو المساهم فيه..

" إن الصحافة المصرية تتلقى القرار بالإفراج عن ألأستاذ مصطفى أمين بعرفان بالجميل عميق.. ذلك لأنه لا جدال في أن الدور الذي قام به الأستاذان مصطفى أمين وعلى أمين هو حلقة في حياة وتطور مهنة الصحافة في مصر".

بعد كل ما قلته؟ بئس الصحافة وبئس التطوير وتعس من دور.. وحقا كما قلت: " هى مخططات قوى عظمى تلعب بمصائر ومقادير شعوب وتحاول فرض سيطرتها على الآخرين وترويض هممهم وإفقادهم الثقة بكل شيء حتى يصبحوا على استعداد للقبول بأي شيء، ثم إعادة تشكيل أفكارهم وأحلامهم بوسائل عديدة تبدأ بالكلمة والصورة وتنتهي بالمدفع والدبابة"صدقت.. ولكن لا تشمت بنا.. إن كنتم قد هزمتم جيلنا بالمدفع والدبابة فقد هزمناكم بالكلمة وغدا يأتي جيل يبصق على قبوركم وصحافتكم ودبابات أتت بكم وأضاعت الوطن..

وبعد ..

نعتقد الآن أنه باستثناء الحصول على محضر اجتماع المخابرات الأمريكية والسادات في مارس أو مايو 1952، لا يمكن أن تتوافر أدلة منطقية أقوى حجة وأبلغ دلالة مما أوردناه في هذه النصوص الثلاثة على اختلاف مصادرها.. وبقى أن نستفيد من هذه الحقيقة في تفسير قرارات ومواقف وسياسات عبد الناصر..
وإذا كان الإرهاب يستهوى الكثير من المؤرخين والمعلقين، وهو عن حق يشكل قاعدة النظام الناصري، والمعيار الصادق لتقييم النظم، وهو أيضا الحقيقة التي اتفق عليها المتآمرون الثوريون باعتبارها ضرورية لإجهاض الحركة الوطنية في مصر، وفرض الزعامة المطلقة للقائد الجديد الذي سيستخدم هذه الزعامة بما يعود بالفائدة على بلده والمنطقة والأمريكان .. بل كان أول الشروط التي وضعتها المخابرات ألأمريكية للقائد المنتظر، هى أن يكون مجنون سلطة، يعشق السلطة ولا يسمح بمشاركة فيها، وعلى استعداد لتدمير كل شيء في سبيل أن يبقى في السلطة، وقد ذك كوبلاند ذلك صراحة..

وإذا كنت قد تعرضت بالطبع لهذه الديكتاتورية ، وهذا لشبق للسلطة، وما أدى إليه من تصفيات في القيادة، بل إلى مناورات ومؤامرات يبدو معها ميكافيلى وكأنه أبو موسى الأشعري.. إلا أنني ركزت على ما يوصف بأنه " انتصارات" أو ما يحاول كتاب الناصرية، والمخابرات الأمريكية وضعه في الكفة الأخرى، لموازنة ما نزل بمصر والعرب من خسائر.

وأود أن أتوقف هنا لحظات لأترك بعض الوثائق تتكلم وهذا الوثائق مما نشر في الكتاب الدوري لوزارة الخارجية الأمريكية.

نفس الكتاب الذي أذهل الأستاذ هيكل المذهولين "خلقه" بنشر بعض من وثائقه. أما الوثائق التي سأقدمها أنا للقارئ فهي من النوع الخاص الذي قلت عنه إنه من نوع عجيب، لا يراه الأستاذ هيكل ولا يشير إليه، لأنه لا يرى إلا بالعين المجردة.

وخيرا أبنه إلى حقيقة عجيبة الإيحاء والدلالة، وهى أن هذا الكتاب الصادر عن وزارة الخارجية كسجل يومي لنشاط ومعلومات سفاراتها في العامل كله، لا توجد فيه ولا رسالة ولا برقية ولا مذكرة واحدة في الفترة من 22 يوليو إلى 28 يوليو 1952 لا من القاهرة ولا من أية جهة في العالم إلى واشنطن أو بالعكس إلا رسالة واحدة يتيمة من السفير الأمريكي في لندن بتاريخ 23/7/52 يقول فيها إنه سمع بانقلاب في مصر وأنه يرسل عن ذلك تقريرا .. ولا أثر للتقرير .

وإذا رفضنا تفسير هذه الظاهرة المدهشة بأن الرقابة رأت أن برقيات وتقارير تلك الفترة تكشف ما لا يجوز – بعد – كشفه، فليس أمامنا إلا قبول تفسير هزلي، وهو أن السفارة الأمريكية بل والخارجية الأمريكية أصيبت بالصاعقة لهول المفاجأة فظلت مسخسخة من مساء يوم 21/ 7/ 1952 إلى 28/ 7/ 1952 تماما كما خلت الوثائق من أية إشارة من السفارة على حادث " المنشية" كأن السفير لم يسمع به، أو قال عنه ما لا يجوز نشره حتى اليوم .

بصراحة .. نحن نتوجس شرا كبيرا من استمرار حرص الأجهزة الأمريكية على إخفاء وثائق انقلاب يوليو..

إنا لمنزعجون مما يبيتون..

تقرير مكتب الشرق الأدنى ( الخارجية الأمريكية 28/ 7/ 1952).

" لا يوجد نفوذ شيوعي في الجيش أو قليل .. ولا دليل على وجود عناصر شيوعية في التحرك الأخير، ولكن الشيوعيين عادة يحاولون استغلال أي تغيير، الإخوان المسلمون لهم قوة في القوات المسلحة، لابد أن يكون لهم نفوذ في الانقلاب الأخير لأن أهداف الانقلاب تتفق مع أهداف الإخوان في محاربة الفساد.
ولأن عددا من قادة الانقلاب هم أعضاء في جماعة الإخوان.
أما الوفد فكان يتخذ موقف المراقب خلال الشهور الستة الأخيرة بعد حرق القاهرة، وقد عاد النحاس وسراج الدين إلى القاهرة ووصفوا نجيب بأنه " منقذ الوطن " ولكن تبقى أن يعرف على أي مدى سينقذ حزب الوفد وهو ألأهم عندهما.
" إن اقتراح تشكيل " صلاح الدين" لحزب وفد جديد يتعاون مع النظام الجديد اقتراح غير مناسب لأن تنظيم الوفد وأمواله يخضعان لسيطرة حازمة من سراج الدين والنحاس وعبود كما أن الجيش لن يهتم بهذا الأمر طالما ظلت له السيطرة على الوضع".
7 أغسطس 1952 من كافري إلى وزارة الخارجية ردا على اقتراحها.

" من السفير الامريكى كافري إلى الخارجية الأمريكية 7 أغسطس 1952 " العلاقات بين الوفد والنظام الجديد ليست على ما يرام كما تمنى النحاس وسراج الدين.

عندما عادا للقاهرة. والجيش الذي كان يخشى قوة الوفد في البداية بعد نجاح الانقلاب زال الكثير من هذا الخوف وأصبح الموقف يبشر بمصر بلا وفد".

وطلبت وزارة الخارجية الأمريكية من السفارة في القاهرة " دراسة عن تأثير الإخوان وإمكانية تعاون صلاح الدين والعناصر الوفدية الشابة مع النظام الجديد" برقية 230 إلى القاهرة بتاريخ 4 أغسطس 1952 ورد السفير بأن " اتجاهات الحركة لا تتفق مع اتجاهات الإخوان مثل موافقتهم على الدفاع عن الشرق ألسوط، واتجاههم للغرب في طلب السلاح والمساعدات وقبول الأمير عبد المنعم كأحد الأوصياء الثلاثة على العرش"

من السفير الأمريكي إلى وزارة الخارجية 20/ 8 / 1952..

بدعوة منهم ، تعشيت الليلة مع نجيب وتسعة من ضباطه الأساسيين.

1- أكدوا مرة أخرى رغبتهم في صداقة الولايات المتحدة..الخ..
2- ناقشت معهم الإصلاح الزراعي، فقالوا إنه من ناحية لابد من عمل شيء وفى الحال بخصوص الفوران الشعبي بين الفلاحين. ولكن من الناحية الأخرى فإنهم يرون إمكانية إفساد الاقتصاد المصري كله لو تطرفوا في هذا الأمر أو بعبارة أخرى لا يمكن إعطاء حوالي 17 أو 18 مليون فلاح شرائح من الأرض ثم تتوقع أن ينتجوا شيئا له قيمة، وهم يشعرون بالحرج لأنهم تحدثوا كثيرا عن الإصلاح الزراعي علنا..
3- اعترفوا بأنهم تسرعوا في الإفراج عن الشيوعيين وقد قاموا باعتقال بعضهم.
4- أما عن الإخوان المسلمين فقط اعترف لي محمد نجيب على انفراد من الآخرين، أن هناك بعض الخطر من ناحيتهم لأن عددا من الضباط والجنود ينتمون للإخوان ولكنه يعتقد أنه يمكنه السيطرة على الوضع.
5- أكدوا أنهم سيواصلون جهودهم لإضعاف الوفد.
6- أنهم يعتقدون أن حوادث كفر الدوار الأخيرة محركة من الخارج، وأنهم لم يقرروا بعد إعدام الرجل الذي حاكموه وقد سألني نجيب رأيي هل يشنقه أو يغير الحكم إلى السجن المؤبد، وقد تهربت من الجواب".
كافري
20 أغسطس 1952

من وزير الخارجية ألأمريكية إلى السفارة الأمريكية بالقاهرة:

" إننا نعتقد أن الدعم المادي والأدبي للنظام المصري هو أفضل سياسة مدروسة يمكن اتباعها لتحقيق أهداف الغرب والولايات المتحدة في مصر والعكس أيضا..

وهى:

1- " اشتراك مصر في مشاريع الدفاع.
2- حل النزاع المصري البريطانى.
3- السلام مع إسرائيل ".
" أتشيسون "
30 / 9/ 1952

من وزير الخارجية الأمريكي إلى مدير هيئة الأمن المشترك.

واشنطن 19 فبراير 1953
سر جدا

" إننا نعتقد أن بقاء الجنرال نجيب في السلطة هو أمر حيوي للغاية بالنسبة لمصالحنا".

جون فوستر دلاس

من وزير الخارجية الأمريكية إلى الجنرال محمد نجيب:

": إن شجاعتك في حل مشاكل مصر الداخلية والخارجية أثارت إعجاب الشعب الامريكى، إن حل مشكلة السودان في خللا شهور، وهى التي سممت العلاقات البريطانية المصرية على مدى نصف قرن، لدليل شجاعتك وصبرك وكفاءتك كرجل دولة".

دلاس
/3/1953

24" إن الشعور العام للشعب في هذه المنطقة (الشرق الأوسط) هو أكثر عداء للغرب وأكثر استعدادا للتعاطف مع أعداء الغرب بأكثر مما نحب أن نصدق".

كافري
أول يونيه 1953

ومرة أخرى ينقل السفير الأمريكي حديثا بين ناصر وموظف السفارة ولكنه يضيف: " وبهذه المناسبة فقد لاحظ صحفي مصري جيد الاطلاع أن الإخوان المسلمين كانوا سيثيرون اضطرابا في المنطقة منذ مدة لولا سيطرة ناصر على الوضع".

كافري لوزارته
22 / 6/ 1953

" احتمالات استمرار مجلس الثورة في الاحتفاظ بالسلطة؟ ممتازة في الوقت الحالي بافتراض أنه لا تقع اغتيالات لأعضائه البارزين وعدم حدوث تدهور اقتصادي خطير.

القوى الأساسية المؤيدة هى : القوات المسلحة ، الحرس الوطني، هيئة التحرير ، البروليتاريا في الريف والمدينة متعاطفة مع النظام عموما.

المعارضة: الأحزاب السياسية القديمة، الطبقات العليا، بعض الساخطين في الجيش والبوليس وجهاز الحكومة، بعض التشكيلات من رجال الأعمال والعمال والشيوعيين ولكن قوات مجلس الثورة كافية لقمع عناصر المعارضة".

كافري
4 فبراير 1954
من السفير كافري إلى وزارة خارجيته
سرى
القاهرة 5 أبريل 1954
5- لا يوجد على مدى الرؤيا حكومة بديلة يمكن أنتكون مرضية من وجهة نظر الغرب ( بالغين المنقوطة) مثل الحكومة الحاضرة".

قال جمال عبد الناصر اليوم في محادثة مع لسفير الامريكى " إنه يقدم لأول مرة لبريطانيا قاعدة عسكرية في مصر لأن معاهدة 1936 لا تعطيهم قاعدة".

15 / 7/ 1954
28 سبتمبر 1954

مذكرة من مسئول مكتب تنسيق العمليات.

عن اجتماع لبحث مشكلة المساعدة العسكرية لمصر حضره الآتية أسماؤهم:

عن الخارجية :جون جيرنفن ،لويس نرشتلنج، وليم بوردت

عن الدفاع:وليم جودل

عن المخابرات : ريتشارد بيسيل ، كيرميت روزفلت

إدارة العمليات الخارجية: نورمان بول

مكتب تنسيق العمليات : المر ستانس ، ماكس بيشوب

" وقد قام مستر روزفلت ومستر بيسيل بعرض الوضع في مصر بإيجاز:

........................................................................................................................................................................ وقد اشرنا إلى انه لوحظ أيضا اختفاء أية وثائق أو تقارير عن محاولة اغتيال " عبد الناصر" في المنشية فلم يرد عنها شيء. .


ولكن في 15/11/1954

من السفير كافري إلى وزارة الخارجية

" مما يثير الانتباه أن الأهرام نشرت اليوم أن وثائق الإخوان التي ضبطت تضمنت خططا لجر الحكومة إلى معركة حقيقية في فلسطين أو مع الإنجليز في القنال لتمكين الإخوان المسلمين من تنفيذ انقلاب في القاهرة".

عن الإنجليز ونجيب .. الخ

بعد أن نشرنا كتابنا " كلمتي للمغفلين" وكشفنا فيه مدى الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة لانقلاب 23 يوليو ضد الإنجليز، ومدى التعاون الذي قام بين رجال هذا الانقلاب والمخابرات الأمريكية، لم يعد بوسع بياع الناصرية أن ينكر هذه الحقيقة، فاعترف بها ولكن تحت غطاء أنهتا المناورة المشروعة باللعب على التناقض وهذا تفسير مقتبس من تحليلنا، مع حذف جزء هام جدا وهو ألا أنه لم يكن كذلك لأن كل حركة وطنية مطالبة وقادرة على الاستفادة من التناقضات، على أن يكون ذلك سياسة وليس مؤامرة، وبشرط أن تكون حقا حركة وطنية، وليست من صنع أحد أطراف الصراع وبالذات جهاز المخابرات وقد شرحنا ذلك بما فيه الكفاية في أكثر من موضع.. وإنما نعرض هنا بعض الوقائع في ضوء ما كشفت عنه الوثائق المتاحة.
إذا كان تأييد تشرشل للانقلاب يشكل علامة استفهام في بعض الكتابات التي تعرضت لهذه الفترة. فلا جدال في أن الإنجليز فوجئوا بالانقلاب، وأنهم لم يكونوا " جد متحمسين" له..


ولكن يبدو أنهم اقتنعوا في الأيام الأخيرة باستحالة سيطرتهم على الوضع بغير احتلال القاهرة والإسكندرية والدخول في مجابهة مسلحة مع الشعب والحكومة.. ونحن نرجح أيضا أن اتصالا تم مع تشرشل نفسه أقنعه بأنه لا يملك خيارا غير قبول الحل الامريكى أو على الأقل ترك الأمريكيين يحررون أصابعهم في التجربة وسواء كان ثمن تأييد الإنجليز للانقلاب هو ترشيح على ماهر وأن توليه رئاسة الوزارة كان مقصودا لطمأنتهم أن الأمور لم تخرج نهائيا من جعبتهم، لأن على ماهر من النظام الذي اعتادوه واعتادهم ، وهو بلا حزب، ومن ثم لابد أن يبحث عن سند، في مواجهة العسكر، وقد صح ما توقعه الإنجليز، فما إن أحس على ماهر بضعفه أمام محمد نجيب وعسكره وأدرك اعتمادهم على الدعم الامريكى حتى التفت إلى بريطانيا وتقدمت بريطانيا لمساعدته فكانت نهايته.

ففي مذكرة من وزارة الخارجية الأمريكية إلى السفير الامريكى بالقاهرة،تخبر الوزارة سفيرها أن بريطانيا طلبت من واشنطن تنبيه العسكر إلى ضرورة إعطاء فرصة لإجراء إصلاحات معتدلة وأن تبلغهم أن الولايات المتحدة ستستاء جدا لو اتخذوا إجراء ضد على ماهر وأن ايدن يرى مخاطر إجراء إصلاح زراعي غير مدروس على الاقتصاد المصري والتركيب الاجتماعي كما سيفضى إلى سيطرة العناصر الأكثر تطرفا، كذلك لفت الانتباه إلى الاعتقال الجزافي، وضم الوزارة لعناصر متطرفة ووفدية.." .

وختمت الرسالة بهذه النصيحة:" إن التنسيق بين سياسة بريطانيا وأمريكا أهم اليوم من أي وقت مضى واى تصرف يفهم منه المصريون أنه مسايرة من الولايات المتحدة سيشجع المتطرفين على حسابنا .

ويرى ايدن أن المصريين يعتقدون أن الولايات المتحدة قد أطلقت يدهم ببيان الخارجية في 3 سبتمبر .

وأن الولايات المتحدة تخطيء تماما إذا تبنت توصيات كافري .

إنني أرجو الولايات المتحدة أن تعيد النظر في احتمال أن يؤدى تشجيع العناصر المتطرفة في مصر في هذه المرحلة إلى تكرار أحداث الخريف الماضي.

ففي رأيا أن الوضع الحالي في مصر خطير ويحتاج إلى معالجة حذرة ومن الولايات المتحدة ومنا".

ولكن كافري كان " مالي يده" و" الأولاد- كما كان يسمى قيادة الثورة- في جيبهن لذلك جلس حقا على كرسي الأستاذية وقال ك" إن تكتيكات وزارة الخارجية البريطانية خاطئة ومرارا وتكرارا تنبأت لهم بسوء العاقبة وهم في هذه المرة مخطئون أيضا".

كانت الأمور قد وضحت ، وعرفت بريطانيا رقم تليفون " مجلس الثورة" في واشنطن فأصبحت الشكوى والاحتجاج والنصائح توجه إلى ولى الأمر وعرف الإنجليز أن " اللي له ظهر لا يضرب على بطنه" ..

فلما شعروا بالنية لإزاحة على ماهر تدخلوا.. وهاجموا " الإصلاح الزراعي" وهو أمر منطقي تماما مع ما قدمناه من أسباب حول تأييد الأمريكيين لهم، فكما أشرنا كانت ملكية الأرض والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية القائمة عليها هى من صنع وفى خدمة النظام الاستعماري البريطانى ولذلك كان الأمريكان يريدون هدم ذلك كله وإحلال علاقات جديدة توافق نظامهم حتى الرغبة في إضعاف مزاحمة القطن المصري للقطن ألأمريكي تفسر معارضة الإنجليز، فلا تنس أن بريطانيا كانت المستورد الأول للقطن المصري لمصانعها الذي تشتريه بالاسترلينى ، أما القطن الامريكى فلا سبيل إليه إلا بالقطع النادر – وهو الدولار.

ولكن على ماهر يزاح وتشكل حكومة برئاسة محمد نجيب أي العسكر وتبادر أمريكا على ضوء معلومات سفيرها بإعلان تأييدها للتغيير الوزاري ( بيان 3 سبتمبر 1952) وبدون مشاورة مع بريطانيا التي لا تزال تعتبر من الناحية الشكلية صاحبة السيادة على مصرن أو على ألأقل حليفة أمريكا التي لا تجوز مفاجأتها بموقف منفرد، بناء على مشورة كافري المضرة جدا.. وأن هذا سيقنع المصريين بأنهم تحت الحماية الأمريكية ومن ثم يشجعهم على تحدى بريطانيا..

ويرد السفير الامريكى بأوضح وأوقح عبارة يعلن فيها.. إنه مسرور من إسقاط على ماهر لأنه عرى الإنجليز :

" إن سقوط على ماهر، جعل البريطانيين في مصر في العراء، فالعسكر ليس فقط لا صلة لهم بهم، بل يعتقدون أن بريطانيا تحاول تخريب حركتهم. كذلك فإن أي مدني تعامل في الماضي مع البريطانيين بروح التفاهم قد قبض عليه".

أما عن اتهامات الإنجليز فقد فندها كالآتي:

التشكيل الوزاري والمتطرفون : " حقا.. ليس من المستحسن وجود أشخاص عريقي التطرف عديمي الخبرة مثل فتحي رضوان ونور الدين طراف في الوزارة، أو ممثل للإخوان مثل الباقورى.. إلا أن الباقورى من الجناح الأكثر اعتدالا في الإخوان، ورضوان وطراف مجرد اثنين من ستة عشر .
وقد أبديت اعتراضا شخصيا على ضم السنهورى ( موقع نداء استوكهلم للسلام) أو الشيوعي براوي. وقد احترم العسكر اعتراضي وأبعدوا الاثنين . وقد اخبرنا العسكر اليوم أن برنامجهم سينشر بالكامل خلال أيام".
كافري 8/9/1952

ثم أشفع ذلك بمذكرة أطول في 10 سبتمبر 1952 برر فيها سرعة إعلان التأييد الامريكى فقال:

" لقد كان من الضروري أن نتحرك بسرعة لتنمية العلاقات والثقة مع الحكومة الجديدة وخاصة لأنه لم يقع تغيير في أهداف حركتهم الإصلاحية، التي أيدناها في بيان وزير الخارجية.

وكل ما جاء في المذكرة البريطانية هو خارج الموضوع ( أشار السفير الامريكى على أن مسلكية على ماهر حتمت سقوطه).

"أما عن ادعاء البريطانيين عن اعتقالات جزافية في القاهرة فإننا نؤكد أن الحقيقة مخالفة تماما لقد ضرب العسكر عدوهم الرئيسي وهو الوفد" .

" أما ادعاء أن نجيب أسير العناصر المتطرفة فقد أخبرت البريطانيين صباح اليوم أن هذا ادعاء صحيح، وكذلك ادعاء ايدن بوجود خطر تجدد الإرهابيين وسوء الفهم بين مصر والدول الغربية، فهو مجرد تخيلات لا أساس لها من الصحة، وبصفة خاصة نحن نتوقع أن ترفض الوزارة ( وزارة الخارجية) تعريض ايدن بأن الولايات المتحدة تشجع العناصر المتطرفة في مصر.

إن الولايات المتحدة تشجع حركة إصلاحية يقودها ضابط شريف يرأس حكومة مدنية، وهو قبل كل شيء يسيطر على الوضع في مصر.. ونعتقد انه يمكن إقناعهم بأن مركزهم في مصر سيكون أكثر أمنا إذا ما أقامت الولايات المتحدة الآن، ثم هم الإنجليز فيما بعدن علاقات ثقة مع حكومة مصر".

كافري

ولكن الحكومة البريطانية تقدم احتجاجا رسميا على انفراد أمريكا بإعلان تأييد التغيير الوزاري : " إن هناك خلافا في تقدير الوضع في مصر وكان من الممكن جدا في الوقت الذي تمتدح فيه واشنطن النظام المصري، أن تصدر لندن بيانا مخالفا".

ولم تهتم الخارجية الأمريكية بل قالت: " إنه تثق تماما في تقديرات كافري للوضع في مصر.

ولو اتبعنا سياسة التحفظ التي تطالب بها لندن، لما كان ذلك في صالح احد ولا البريطانيين أنفسهم.

بل كنا سنلقى ماء باردا على العلاقات الوثيقة القائمة، بما يضر مصالح أمريكا وبريطانيا معا، إن الولايات المتحدة لا ترى تطرفا في نظام نجيب ولو أنه يتعجل الإصلاح ويستحق تشجيعنا".

" اتشيسون "

وزيادة في توثيق العلاقات، وطلب المزيد من التشجيع اتصل أحد المفاتيح، القائمقام عبد المنعم أمين عضو مجلس الثورة، الذي لم يكن من السادات وإنما أدخل ليلة الثورة وغلى قمة القيادة فورا لصلته بالأمريكان، كما يقول مؤرخو الناصرية بكل تبجح..

ويبدو أن المخابرات ألأمريكية لزيادة التأكيد اشترطت بعض التعيينات، لأشخاص كانوا أبعد ما يكون عن التنظيم.. فلما اطمأنوا إلى صدق تعاون عبد الناصر وسيطرته على التنظيم.ز سمحوا له بأن يصفى جميع المزاحمين وخاصة في السوق الأمريكية.

وبهذه المناسبة نحب أن نوضح أننا إذا قبلنا مقولة أن عبد الناصر هو منشئ تنظيم السادات، فذلك في إطار الحديث عن التنظيم الذي استولى على الحكم في 23يوليو ، لأنه كما قررت عشرات الكتب لم يكن لا التنظيم الأول ولا الوحيد.. أما التنظيم الذي نفذ انقلاب يوليو فكان فعلا برئاسة جمال عبد الناصر وان عدد كبيرا من التنظيمات السابقة أو المعاصرة تحولت إلى روافد تصب في هذا التنظيم أو تبددت في الصحراء.

وحتى لو سلمنا بأن نسبة كبيرة ممن انضموا لهذا التنظيم لم ينضموا بسبب عبد الناصر بل بجاذبية الأسماء المشهورة أو انضموا عن طريق تنظيمات سياسية أخرى وبنية خدمة أهداف هذه التنظيمات مثل الإخوان الذين كان يمثلهم العير والوتد فلم يمثلا في مجلس الثورة.. أو الشيوعيون مثل يوسف صديق وخالد محيى الدين، حتى لو سلمنا بان عددا كبيرا لم يكن يعرف عبد الناصر وانضم بانطباعات مختلفة تماما لفكر ناصر وتصوراته وأهدافه إلا أن دخول هؤلاء التنظيم، كان يضعهم ولو لم يعرفوا تحت قيادة عبد الناصر.

وصحيح أنه عندما تم الانقلاب وانكشفت الأسماء لم يكن عبد الناصر لا أكثرهم ثقافة ولا جماهيريهن إلا أنه كان أقدرهم على التآمر، وأهم من ذلك أوثقهم صلة بالمخابرات الأمريكية وبالتالي وضعت تحت تصرفه قدرات هذا التنظيم الشيطاني المهول وقتها، وهكذا أصبحت مقاومته عبثا ومعارضته انتحارا، وانتصر بسهولة مذهلة أسطورية على قوى وشخصيات تفوقه في الخبرة والمعرفة مرات ومرات.. ولا شبيه لذلك إلا السهولة التي تم بها انقلاب السادات على كل مراكز القوى والحكم في مصر.. بنفس الحليف أو العصا السحرية.. وللمرة الثانية كان هيكل هناك .

نعود لحديث عبد المنعم أمين.ز الذي توجه للسفارة الأمريكية وأبلغها الآتي بنص عبارات تقرير السفير:

" إن المجموعة العسكرية معادية تماما للشيوعية ومع الولايات المتحدة.
وإنهم على استعداد لإعطاء تعهدات سرية عن الأهداف البعيدة المدى بما فيها قيادة الفداع عن الشرق الأوسط .

وسألني ما التعهدات المطلوبة وهل تعد مقبولة لو صدرت من محمد نجيب .. وأكد مرارا وتكرارا أن مصر لا نوايا عدوانية لا إزاء إسرائيل ".

كافري
18/9/1952

وهنا جاءت وثيقة العار أو وثيقة المكنسة فقد ردت وزارة الخارجية

" وبالإضافة إلى التعهدات السرية فإننا نعتقد أنه من صالح مصر أن تتخذ بعض الخطوات التي تطمئن الرأي العام في هذا البلد (أمريكا ) وغيرها، مثل تأييد الأمم المتحدة في كوريا، وتعويض البلاد المعنية عن أحداث 26 يناير .. وهذه الخطوات التي لن تكون صعبة في حد ذاتها بالنسبة للنظام، إلا أنها ستكون دليلا علنيا جديدا بأن النظام الجديد هو الحقيقة " مكنسة جديدة" وقطع صلته بالماضي". . 30/9/1952.

وهكذا ظهرت المكنسة الثورية أو المكنسة الناصرية.

وبدأت ما سماه الناشر الإنجليزى " لملفات السويس" دراما إخراج بريطانيا من الشرق الأوسط وإدخاله في دائرة الهيمنة الأمريكية، أصبحت كل الأوراق في يد كافري.. الذي حدد " هيرمان فينر" مؤلف كتاب " دلاس والسويس" أهدافه في تلك المرحلة فقال:" ويعتبر كافري من السفراء القلائل الذين سببوا المتاعب للانجليز فقد كان يخدم المصالح الأمريكية حسب تعليمات وزارة الخارجية وكان من بين المهام الملقاة على عاتقه المصالح المتضاربة للانجليز والعرب في مصر. وقبل كل شيء خروج الإنجليز من قاعدة القناة- وقد التحق بالسلك الدبلوماسي في عام 1911 .

وفى القاهرة تأثر الرجل بالغ التأثير بالمشاعر القومية المصرية، كما حزت في نفسه مظاهر الفساد وعدم كفاية حكم الملك فاروق.

بعث كافري لوزارة الخارجية الأمريكية طالبا منها مساعدة الثورة على تحقيق أهدافها، وقال إنه ينبغي حمل الإنجليز على ترك قاعدة القناة وأنه ينبغي إذا لزم الأمر خروجهم من غير أي شرط لأنه ما من زعيم مصري يستطيع سياسيا منح أية امتيازات للامبرياليين".

وفى الحقيقة إن هذا كان تقدير الأمريكيين في البداية- أو قل طموحهم – وهو إخراج بريطانيا من مصر والسودان، من قناة السويس بلا قيد ولا شرط، والوصل إلى تسوية في السودان تكفل صورة من صور الاتحاد مع مصر بما يسمح بالوجود الامريكى هناك، وما يرضى المطالب الوطنية في مصر والسودان بعض الشيء..

وعلى هذا الأساس بدأت مفاوضات السودان بين واشنطن ولندن في الوقاع.. وإن كانت قد جرت بين وفد مصري وآخر بريطاني..

وكانت أمريكا في المركز ألأقوى لأنها كما قال مؤرخ الناصرية " تمسك بمفتاح من أهم المفاتيح في عملية المفاوضات كلها" وهو نظام الحكم المصري .

وكان كافري مصمما على إخراج البريطانيين عراة ، مطمئنا إلى أنهم لا يقدرون على أي تحرك مضاد في مصر.. ولكن بريطانيا لم تكن تجهل هذا الوضع، وأيضا لم تكن خاوية اليدين من الأوراق، كانت هناك المصالح العالمية التي نجبر أمريكا على الوقوف عند حد معين في تصعيد صدام علني مع بريطانيا حليفها الأول، وهناك مصالح أمريكية في مواقع أو قضايا تملك فيها بريطانيا حرية الحركة..

ولم تتردد بريطانيا في استخدام أي سلاح وهى تقاتل بحقن ما بدا وقتها معركة الإمبراطورية الأخيرة.. فهددت بالانسحاب من كوريا، وبتصعيد خلافها مع أمريكا حول الصين، بل والتقرب من روسيا ووصل الأمر على حد الإسفاف بتهديد تشرشل بأن سياسة أمريكا ستؤدى إلى انتصار الاشتراكية في بريطانيا .

وقد أورد مؤلف الناصرية بعض النصوص التي تؤكد دور السفارة الأمريكية في هذه المفاوضات ، وإحساس بريطانيا أنها تفاوض أمريكا، وأن السفارة أو القسم المصري في وزارة الخارجية الأمريكية هو الذي يحرض ويدعم المفاوض المصري. فقد روى عن " سلوين لويد" وزير خارجية بريطانيا أنه كان يرى أنه لابد من تأجيل المفاوضات مع مصر حتى تجرى مفاوضات مكثفة مع الأمريكيين لتنسيق موقف الدولتين العظميين ( بريطانيا والولايات المتحدة) تجاه مصر، وحتى لا تتضارب المواقف بينهما لأسباب من سوء الفهم يرجع معظمها إلى تصرفات غير مسئولة كما حدث في الماضي وشرح مؤلف ملفات السويس ذلك بقوله:" وكانت الإشارة صريحة إلى دور بعض الدبلوماسيين في السفارة الأمريكية".

وقال :" كانت لندن غارقة حتى الأذنين في مفاوضات مع الولايات المتحدة " من أجل أن يختفي " عنصر كافري" كما كان يسميه ايدن" ويسجل مغتبطا أنه لما" وصل ايدن على واشنطن وجد لديهم خططا وليس مجرد أوراق".

وهكذا أصبحت واشنطن دار الخلافة وإيزنهاور الباب العالي، وكافري الباشا التركي في ذروة قوة الدولة العلية.

وأصبح على من يريد حماية مصالحه في مصر أن يدفع الجزية أولا في اسطنبول – واشنطن ، بل إن إقامة علاقة بين حكومة الثورة والسفارة البريطانية ن أصبحت تحتاج لإذن أو ترخيص من السفارة ألأمريكية وقد أشرنا إلى فضيحة لجوء الوزير البريطانى للسفارة ألأمريكية لتمكنه من مقابلة رئيس مصرن وتولى رجل المخابرات الأمريكية في السفارة إقناع أو إجبار الرئيس الممتنع على مقابلته..

وفى تقرير السفير كافري يوم 18/9/1952 سأله عبد المنعم أمين : " إذا كان الوقت قد حان لإقامة اتصال من السفارة مع العسكر" تماما كما كان باشاوات مصر يستأذنون دار المندوب السامي البريطانى قبل إقامة علاقة مع أية دولة.. أو كما كانت تنص معاهدات الحماية مع مهرجانات الهند.

وراحت بريطانيا تهدد باحتلال مصر.. وكتب تشرشل لايزنهاور " لا مجال للظن بأننا سنحتاج دعمكم العسكري أو الأدبي أو المالي لاحتلال القاهرة والإسكندرية"

18/2/53

ورد عليه أيزنهاور:" إن أي حل لمشكلة القناة يجب أن يلقى قبولا من المصريين ، وإلا فإن نجيب سيلحق بمصري آخر منفى الآن في إيطاليا".

وقال كافري للانجليز إنهم بموجب المعاهدة يجب أن يغادروا البلاد خلال ثلاث سنوات..

وكتب تشرشل رسالة مطولة إلى أيزنهاور 19/12/53

" إنني منزعج جدا من مجرد تصور إعطاء مساعدات اقتصادية أمريكية لمصر في نفس الوقت الذي تقوم بيننا فيه خلافات حادة.
إن هذا سيكون له أثر سيء جدا في بلادنا على العلاقات الأنجلو – أمريكية ، وقد تستخدم المعارضة الاشتراكية هذا الموقف للمطالبة بضم الصين الشيوعية للأمم المتحدة ، أو المقارنة بين مساعدة مصر والتجارة مع الصين وهو ألأمر الذي يتعرض لانتقادات السناتور مكارثى غير العادلة ، مما يثير كثيرا من الرفض هنا. أرجوك أن تفكر في مصر في إطار لصورة العامة لعلاقاتنا . ونحن لن نتنازل بعد اليوم، وقد تنشب الحرب في أية لحظة". ( بين بريطانيا ومصر).

وفى اليوم التالي رد أيزنهاور:

" بناء على طلبكم لم تمنع فقط المساعدة العسكرية عن مصر بل حتى المساعدة الاقتصادية .. وتقول إن الاشتراكيين سيشعرون بالمرارة للمساعدة الأمريكية الاقتصادية لمصر لأن أمريكا تعترض على التجارة مع الصين والذي أعرفه أنكم ما زلتم تتاجرون مع الصين ونحن لن نحاول أكثر من مد يد المساعدة لبدء تنمية اقتصادية، وهل أنت مستعد إذا أوقفنا المساعدة الاقتصادية لمصر أن تقف معنا بحزم في معارضة ضم المعتدين الصينيين الملاعين إلى مجلس الأمم المحبة للسلام، ولو حتى إلى أن تسحب الصين قواتها الغازية وتتوقف عن دعم .. الخ".
ايزنهاور
20/12/1953

وأبلغ أيدن واشنطن " أن مصر هى أكثر الموضوعات قابلية للانفجار في العلاقات البريطانية- الأمريكية".

22/12/1953

وعاد تشرشل يجر ناعم ويبطن تهديداته:

" إن قضية مصر تبدو تافهة بالنسبة للمشاكل الكبرى التي تواجهنا هنا، ورغم ذلك فقد تسبب نكسة عميقة وخطيرة في العلاقات الأمريكية- البريطانية وهذا سيشكل كارثة بالنسبة لنا جميعا.
وسواء انحزت ضدنا في مصر أم لا ، فإن هذا لن يؤثر على دعمنا لكم الذي نعتقد صوابه في موضوع الصين، ولكن سيصبح من الصعب علينا أنا وايدن أن ندعمكم في الشرق الأقصى، إذا ما كان علينا لا مواجهة معارضة الاشتراكيين وحدهم بل وأيضا مواجهة شعور عام في سائر البلاد. وهناك أشياء قليلة لا نستطيع القيام بها معا. فهناك خمسون ألف بريطاني في مصر وعند مداخلها".
تشرشل 22/12/53

ورد أيزنهاور يقترح صفقة ومساومة على حساب إيران ومصر وهكذا يفعل الامبرياليون :

" أنت تعلم بالطبع أنه إذا كان بوسعنا الوصول إلى ترتيبات كاملة وناجحة في إيران .. فهذا سيطلق يدنا هنا في مواجهة أية معارضة تحاول إضعاف دعمنا لجهودكم الهادفة للصول إلى اتفاق مناسب في مصر".
إيزنهاور لتشرشل 23/12/1953

وفى نفس اليوم تساءل الإنجليز: هل يرغب المصريون في العودة إلى طاولة المفاوضات، ورد وزير الخارجية ألأمريكية بثقة من له الأمر:" نحن قادرون على إعادتهم إليها".

23 /12/1953

ولم يقل إن شاء الله

كانت مصر إحدى ورقات اللعب على مائدة الامبرياليين في تقسيم العالم وإعادة توزيعه،وكانت الورقة في جيب أمريكا.. وبريطانيا لديها ما تعطيه وأيضا ما تحجبه ، والضغط على مصر أسهل ن فالعسكر يعتقدون أنهم بحاجة إلى الدعم الامريكى على جميع المستويات، وعبد الناصر لم يدعم مركزه بعد، وهو لا يستطيع تحدى بريطانيا وعصيان أمريكا في نفس الوقت، ومن هنا انتهت كل الأزمات تقريبا بضغط امريكى على مصر وتنازل العسكر لبريطانيا .

ولم يكن الإنجليز تحت رئاسة تشرشل يريدون اتفاقا ، بل كانوا يأملون في سقوط النظام أي الاتفاق على التخلص منه مع الأمريكان كما حدث مع مصدق، ولما بدا الخلاف بين محمد نجيب وعبد الناصر ، واضطر محمد نجيب إلى الاعتماد على الوفد والإخوان بعد كل ما ارتكبه ضدهم وحاول جاهدا إقناع الأمريكيين بأنه مستعد لتلبية جميع الطلبات، فقوبل بالرفض لأن عبد الناصر كان رجلهم المفضل، وجد نجيب نفسه حليفا للانجليز .. على كره من الطرفين..

واكتشف الإنجليز في محمد نجيب "رجلا أعلى مستوى وأكثر عمقا من ناصر "641/74- 2-25-54.

25فبراير 1954.

ورد عليهم كافري " إن ناصر وهو ما زال في السادة والثلاثين من عمره يعلو بكتفيه ورأسه فوق نجيب في القدرة وقوة الشخصية.".

كافري 26 فبراير 1954

وكل فتاة بأبيها معجبة؟ أم نقول بعميلها؟

وبينما اعتقد الإنجليز – بفقر معلوماتهم بعد تصفية عناصرهم – أن الثورة " خلصت" وأغلقوا ملفات المفاوضات وانصرفوا ( برقية 2/4م1954) أكد كافري العليم أن النصر مضمون لناصر وانهال باللعن على محمد نجيب ومن يحالفه:

من السفير الامريكى كافري إلى الخارجية الأمريكية.

سرى وعاجل
26 مارس 1954

أظهر نجيب استعداده للعمل معه أسوأ العناصر في البلاد بما في ذلك الوفديون والإخوان المسلمون والشيوعيون للبقاء في السلطة ولذا فإن أي قرار آخر لمجلس الثورة كان يعنى الصدام مع هذا الحلف غير المقدس"

كافري

كان السفير الامريكى يفسر سبب صدور قرارات 25 مارس التي تعهدت بإعادة الحريات والدستور والبرلمان وإنهاء حكم العسكر، وبينما كانت مصر كلها تصد، كان السفير يعلم أنها مجرد مناورة وخطوة للوراء لقفزة أو انقضاض على الحلف غير المقدس فكتب لحكومته :

إن مجلس الثورة سينتهز أية فرصة للسيطرة على الوضع وتثبيت القيادات الثورية النظيفة" 26/3/1954

" إن ناصر رجل عرف بالجرأة والمكر ، ولا تثبط عزيمته نكسة ،ويعتمد على عنصر المفاجأة"

كافري
23/3/54

ولابد أن كافري وأصحابه كانوا يعرفون فضل المجاهدين على القاعدين ولذلك لم يكتفوا بالدعاء لناصر والاطمئنان لكفاءته، فقد قامت مظاهرات " صاوصاو" أشهر خائن في تاريخ الطبقة العاملة، ومما يثير الانتباه تعدد أوجه الشبه بين هذه المظاهرات المفتعلة وبين عملية " اجاكس" في طهران التي نظمها " كيرميت روزفلت" نفسه للإطاحة بمصدق.. ويمكن لمن شاء تقصى هذا الموضوع .. أما النكتة حقا فهي رسالة كافري عن هذه المظاهرات فقد بدا تقريره بقوله:

" جماهير طيبة القصد بدأت مظاهرة مؤيدة لمجلس الثورة".

وامتدح براعة مجلس الثورة في عزل نجيب وهو بالطبع يقصد اللعبة التي كان لمصطفى أمين فيها دور البطولة ونعنى اتهام نجيب بأنه رجل الأحزاب، ولا يجوز أن يفسر إغفال كافري الإشادة بدور مصطفى أمين بأنه من مرض قلة الوفاء الذي يشكو منه الدرويش.. بل لأن قانونا صدر في عهد ريجان يحظر نشر أسماء عملاء الولايات المتحدة.

قال كافري: " استطاع مجلس الثورة بحكمة أن يجعل عودة الأحزاب هى القضية وليس خلافهم مع نجيب.

ولذا يمكن القول إنهم حصلوا على تأييد سلبي ضد عودة الأحزاب الفاسدة " " إن سمعة نجيب تدهورت بأنباء اتصاله مع العناصر الوفدية"

كافري 30/3/1954

وقد زعم " سلوين لويد" أن عبد الناصر قال له :" إن نجيب لم يكن معاديا بما فيه الكفاية للانجليز ومن ثم كان عليه أن يتآمر ضده"

أما كافري فقال :" لم يخف نجيب معارضته لاتفاقية السويس ولو كان بوسعه لألغاها لتحقيق كسب شخصي" 15/11/1954

ويضرب القوى الوطنية أو المعارضة وتصفية نجيب، واستعادة ناصر وصحبه السيطرة الكاملة على الموقف، عاد الإنجليز إلى مائدة المفاوضات وأصبح عبد الناصر أكثر استعدادا لقبول ضغط الأمريكيين وأقدر على ترضية خاطر كافري فهذا اللون من الحكم- للأسف- كلما زاد بطشه بمواطنيه كان أكثر استعدادا للتفريط في حقوق الوطن وهكذا قبل عبد الناصر استمرار القاعدة 7 سنوات ، أو بالأحرى وبنص عبارته، أعطى الإنجليز قاعدة لسبع سنوات، ولم تكن معاهدة 36 تعطيهم هذا الحق، وقبول الجلاء في 1956 هو اعتراف بعدم إلغاء المعاهدة اعتراف بانتصار الإرادة المصرية، وهكذا نكست الراية التي ارتفعت في 8 أكتوبر 1951 عندما تحدت مصر بريطانيا العظمى وألغت المعاهدة بقرار منفرد، تماما كما انتكست راية الإرادة الوطنية في إيران بالإطاحة بمصدق وإعادة الشاه ومدربيه الإنجليز والأمريكان.. ومن الغريب أن كيريمت روزفلت كان هنا وهناك..

كذلك خان عبد الناصر إجماع الشعب على رفض الدفاع المشترك عن الشرق الأوسط فقبل عودة الإنجليز إلى القناة إذا ما وقع عدوان على الدول العربية أو تركيا..

ورغم ذلك فقد خرج عبد الناصر أبيض الصحيفة أنمام التاريخ من ذلك كله، بل واستحق – عن حق- شرف محقق الجلاء ولو رغم أنفهن فقد أحرقت حرب 1956 اتفاقية الجلاء بكل عيوبها وشروطها، إلا التنازل الأخطر والأفدح والأبقى أثرا وهو فصل السودان..

وإذا شئنا أن نختم هذا الحديث، عن الحلول الامريكى محل الإنجليز، وكيف كان الناصريون وعملاء أمريكا يرون ههذ العملية وما زالوا.. فلا أبلغ دلالة وأقبح تعبيرا مما قاله هيكل في الطبعة الإنجليزية " لملفات السويس" قال أخزاه الله ، بعد أن أورد حادثة لجوء عالم الآثار البريطانى إلى السفارة الأمريكية خلال العدوان الثلاثي، وتدخلت السفارة الأمريكية لحمايته هو ومجموعاته من الآثار .. ووفرت له الحماية وهذا ما ورد في النص العربي، كما أشرنا، إلا أن الأستاذ أضاف في الطبعة الإفرنجية أن الأمريكان أخذوا مجموعة الآثار لأنفسهم، وعلق بال آتى: " وهكذا كانت أمريكا تلبس الحذاء الذي خلعته بريطانيا ".

أخزاك الله ..

جعلت مصر حذاء تتبادله أقدام المستعمرين..

أطال الله عمر الشقي حتى يأتي جيل يعلمك ما الحذاء وفيم يستخدم..

الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو

ولو أن خلاف ناصر مع الولايات المتحدة ، لا يقع زمنيا في إطار هذا الكتاب، إلا أنني وجدت من الضروري أن أعرض بإيجاز لتطورات هذا الانفصال، حتى تكتمل ملامح الصورة- فكما قلنا- كانت نقطة الخطأ هى قبول دور " المكنسة" لصالح الولايات المتحدة الأمريكية ، أو قبول التعاون والتعامل من خلال المخابرات الأمريكية ، الأمر الذي أدى إلى محاولة تغطيته بخلق معارك إعلامية ضد الولايات المتحدة وسياستها المعلنة، وبالتالي إعطاء القوى المعادية لمصر مادة لإثارة المؤسسات الدستورية والرأي العام في أمريكا ضد مصر وعبد الناصر وما يتبع ذلك من ردود فعل اشرنا إليها.. وبعد صفقة السلاح، كان هذه القوى المعادية تشكل أساسا من بريطانيا وإسرائيل ..
ورغم كل ما شرحناه ودللنا عليه من موافقة الـ سى آى ايه على صفقة السلاح، بل وقبولها من جانب القيادات العليا في الولايات المتحدة، والاتفاق التام بين عبد الناصر والمسئولين الأمريكيين سرا وعلنا، على أن هذه الصفقة لتحقيق " هدف إيجابي" وهو تبريد الموقف مع إسرائيل أو إعطاء دفعة للجهود الأمريكية التي كانت جارية في هذا الوقت لعقد الصلح مع إسرائيل مع كل الآمال المعلقة على النظام الناصري في " جر" النظم العربية إلى هذا الصلح..

وكان يمكن أن تستمر هذه الآمال وتلك الجهود لولا عاملان:

1- الجماهير العربية التي تعادى الولايات المتحدة، بوعيها الفطري السليم وبحكم تناقض مصالحها مباشرة مع المصالح الأمريكية، أو من خلال الدعم الامريكى للاحتلال الصهيوني للأرض العربية في فلسطين.. هذه الجماهير رأت في صفقة السلاح، عملا " معاديا" للولايات المتحدة، وخروجا من دائرة نفوذها ، فانفجر تأييدها معبرا عن هذا الفهم، راغبا في المزيد، فارضا على ناصر هالة من الوطنية المعادية للولايات المتحدة، لم تكن في نيته ولا رغبته ولكنه لم يكن بالذي يرفضها أو يصححها ، فكما قلنا كان هذا اللون من الزعامة هو رأس ماله في لعبة السلطة ، ولعبة ألأمم معا.. وقد قوبلت هذه الموجة بالقلق والتوجس من قبل أصدقاء ناصر في الولايات المتحدة.

2- وهنا ننتقل للعامل الثاني، وهو أعداء ناصر وهم في تلك المرحلة الإنجليز والإسرائيليون . "الإنجليز "كانوا يرون فيه عدو بريطانيا رقم واحد لأنه يصفى الإمبراطورية في الشرق الأوسط والعالم العربي.. والإسرائيليون لأسباب عديدة ، أهمها في تلك الفترة، أنه يزاحمهم على مركز الصديق الأول للولايات المتحدة في الشرق ألوسط، وأنه بسبب ههذ العلاقة مع الولايات المتحدة، يشجع الأخيرة على المضي في مشروعات الصلح والإصرار على فرض هذا الصلح على إسرائيل ن وقد ذكرنا أن أكبر خطر كان يهدد المؤسسة الصهيونية في ذلك الوقت، هو فرض الصلح أو السلام عليها.. قبل أن تتم توسعها الأرضي.. ولذلك كان هذا المناخ الذي اجتاح العالم العربي، والتصريحات البطولية في الإعلام المصري والغربي، مادة مناسبة جدا لأعداء ناصر، استخدموها لإقناع الرأي العام الامريكى والمؤسسات الدستورية الأمريكية بخطورة ناصر وتأصيل عداوة العرب التي لا حيلة معها، وأيضا في إحراج الذين يعلمون الحقيقة وإقناعهم أو إجبارهم على التسليم بخطأ لعبة المخابرات الأمريكية .

وكما قلنا أحس هؤلاء بما يدبره أعداء ناصر وأعداء التعاون الامريكى- المصري، وما سببه الصدى الإعلام للصفقة من تأثيرات في واشنطن، فاندفعوا يحذرون وينصحون .. وإليك بعض الأدلة من كتاب هيكل نفسه:

" نقل أحمد حسين عن السفير الامريكى في موسكو " شارلزبوهلين" ( الذي كان في زيارة عمل لواشنطن ( أبريل 1956) " أن بريطانيا وإسرائيل تحاولان إقناع الولايات المتحدة بالوقوف معها ضد مصر بحجة أن مصر قد فتحت الباب للشيوعية في الشرق الأوسط، ولكن حتى الآن لم تنجح جهودهما، إلا أن المجموعة التي داخل وزارة الخارجية والتي ترى أن إسرائيل هى وحدها الصديق الحقيقي لأمريكا تكسب المزيد من الأرض، وكذلك فإن " جيمس انجلتون" الذي ينادى باستخدام إسرائيلي ن ترجح كفته الآن في السى آى ايه على كفة روزفلت الذي لا يزال يعتقد بإمكانية استخدام بعض الدول العربية".

من حقنا أن نستعير مقولته اللاتينية ضد مصطفى أمينك بنفسه قالها.. نعم بنفسه .. تياران في المخابرات الأمريكية، تيار يراهن على إسرائيل لأسباب جد معروفة، وتيار يراهن على مصر يتزعمه كيرميت روزفلت.. يؤمن بإمكانية استخدام بعض الدول العربية .. مثل من ولماذا .. يحرجه الاعتراف الصريح حتى للخواجات..

المهم أن موقف مجموعة روزفلت المدافعة عن ناصر بتاع الـ سى آى ايه – كما سماه وكيل الخارجية البريطانية- أصبح حرجا، فهم فضلا عما يواجهونه من المعارضة الدائمة من قبل اللوبي الصهيوني في الكونجرس، يتعرضون الآن لمعارضة متزايدة ومتصاعدة من وزارة الخارجية التي تطالب بأن يصبح لها دورها الطبيعي في الشرق الأوسط، وأن يستمع لها في تقرير العلاقة مع المنطقة ومصر، فلا تترك لمغامرات عناصر المخابرات ألأمريكية .. بل وأيضا فإن السى آى ايه ذاتها لم تعد تقف كلها خلف روزفلت ، فصحيح إن نجاحه في إعادة شاه إيران، وتنصيب ناصر زعيما للقومية العربية قد أعطاه سمعة أسطورية، أجبرت المدرسة الإسرائيلية على الانزواء فترة شهر العسل مع الناصرية، ولكن الحملة الهسترية التي شنتها أجهزة بريطانيا وإسرائيل وأنصارها، جعلت المدرسة الإسرائيلية يشتد عودها، وتقف على أرض أكثر صلابة وتتعالى حجتها في طلب تصفية هذه المغامرة المحتومة الفشل بحكم التناقض الأصيل بين القومية العربية وبين المصالح الامبريالية.. والاعتماد على إسرائيل، التي هى بتكوينها وظروفها وأهدافها مرتبطة مع المصالح الأمريكية .. ومرة أخرى نتركه يقولها بنفسه:

" ولكن الـ سى آى ايه ( المخابرات الأمريكية ) وهى ألأداة التنفيذية الرئيسية للسياسة الأمريكية في المنطقة أصبحت هى ذاتها منقسمة الآن . فقد نقل بكيرميت روزفلت من القاهرة إلى بيروت ( الله .. ما حدش قال لنا إن مقره كان في القاهرة 4 سنوات من عمر الثورة) حيث رأس المكتب الذي يدير العمل في سوريا ولبنان تحت ستار مكتب استشارات ، وأخذ معه ايكلبرجر وكوبلاند" ( أي نقلت من مصر المجموعة الناصرية).

ويكمل هيكل:" كان روزفلت لا يزال يأمل بدور أكثر إيجابية لمصر ولكن المسئولين الآخرين في مقر الـ سى آى ايه في واشنطن يقودهم " جيمس انجلتون" وصلوا إلى قرار بأنه لا يمكن تحقيق شيء بواسطة العرب وأن البلد المبشر بالنسبة لطموحات الوكالة سى آى ايه هى إسرائيل.

وكان " انجلتون" قد عمل مع جماعات صهيونية خلال الحرب، وأخيرا بعد إقامة إسرائيل ، عمل مع الموساد وكان مسئولا عن تسريب المعلومات التى مكنت إسرائيل من تنفيذ برنامجهم بنجاح" والعبارة بحاجة إلى تعديل لأن مجموعة انجلتون مرتبطة وتراهن على إسرائيل من البداية وإنما فشل عملية روزفلت في مصر هو الذي رجح كفتها وحجتها عند القيادة الأمريكية .

كذلك لا أقر قوله أن المخابرات الأمريكية هى الأداة التنفيذية الرئيسية للسياسات الأمريكية في المنطقة، لأن هذه الصياغة يقصد بها تبرئة المذنب بإدانة الجميع، فلا أحد يقول إن الـ سى آى ايه كانت الأداة الرئيسية لتنفيذ السياسة الأمريكية مع إسرائيل، رغم التعاون بين الموساد والـ سى آى ايه فلم تكن واشنطن تسمح ولا إسرائيل تقبل أن تدير الـ سى آى ايه السياسة الأمريكية أو تمثل الدولة الأمريكية خارج إطار المهام المتفق عليها لأجهزة التجسس، والتي تراقب وتضبط إذا جاوز الحد، وإذا كان هناك تعاون فهو في إطار التخابر أما التعامل السياسي فمن خلال المؤسسات الدستورية..

وهذا الفارق بين جور السى آى ايه في مصر وإسرائيل هو السبب الأساسي- في رأينا- الذي أدى إلى فشل عبد الناصر ونجاح زعماء إسرائيل في إقامة تحالف مع الولايات المتحدة يخدم مصالح إسرائيل أساسا .

إسرائيل تحالفت مع أمريكا علنا، وفى إطار إستراتيجية مقبولة من المؤسسات الدستورية والأغلبية العظمى من شعبها، أما مصر فقد تحالفت سرا وعلى شكل مؤامرة ما زالت تؤلف المجلدات في نفيها إلى اليوم، ومن ثم دخلت مصر في دوامة محاولة إخفاء هذه العلاقة بالمزايدة ضد أمريكا في الإعلام، والمواقف العالية المسرحية..

فكانت المؤسسات الدستورية الأمريكية والرأي العام الامريكى الذي لا يعرف نشاط روزفلت ينحاز شيئا فشيئا إلى جانب إسرائيل وضد مصر استنادا إلى المواقف المعلنة. وهو بالضبط عكس ما حاوله السادات ونجح فيه إلى حد بعيد..

لقد عمل " انجلتون" مع الموساد، ولكن عبد الناصر هو الذي عمل مع الـ سى آى ايه ومن ثم استخدمت إسرائيل اتصالها بالـ سى آى ايه لمصلحتها، واستطاعت أن تعارض سياسة أمريكا وتتحداها ابتداء من قرار العدوان على مصر في هام1956 رغم إنذارات إيزنهاور إلى تصفية الوجود الامريكى في لبنان بالدم كما حدث في اغتيال بشير الجميل والمارينز وإلغاء المعاهدة التي فرضها شولتز لضمان انسحاب إسرائيل من لبنان.. الخ بينما كان عبد الناصر يخضع مصالح مصر الأساسية لطلبات وتوجيهات الولايات المتحدة عبر ارتباطه بالـ سى آى ايه لأن شعب إسرائيل يضع حكامه في السلطة ويخلعهم ، أما في مصر فإن المخابرات الأمريكية هى التى وضعتهم في السلطة.

وبالطبع فإن ما حدث بعد ذلك بين عبد الناصر وواشنطن ، له أكثر من سبب وله جذوره التاريخية والحضارية والجيوبوليتكية والدينية ، فهذه مجرد ملاحظات ما دمنا بصدد الحديث عن دور رجال المخابرات الأمريكية في تقرير مصير الدول .. العربية.. طبعا .

منذ سبعين سنة والعرب يتحدثون عن نتائج هبوط أو صعود نفوذ المكتب العربي ولورنس.. وتأثير ذلك على الثورة العربية الهامشية.. وها هو يتحدث عن تأثير هبوط أسهم روزفلت على الثورة العربية الناصرية ومن يهن يسهل عليه ، ولمن شاء الرجوع لملفات الخلافات بين المكتب العربي والمكتب الهندي وآلام لورنس ويقارن تأثيرها على تاريخ العرب بالخلاف بين المجموعة العربية والمجموعة الإسرائيلية وآلام روزفلت فليفعل.

وإذا كانت هذه السنوات- كما قلنا من قبل- قد شهدت علو صوت المجموعة الإنجليزية ضد عبد الناصر، إلا أن المجموعة الإسرائيلية هى التي كانت تحفر بعمق. وتتابعت الأحداث بسرعة مما أدى إلى تأجيل الخلاف المصري- الامريكى بل أعادت الالتحام بين واشنطن والقاهرة في أعلى صورة، وذلك بعدوان 1956 الذي كان ذروة هذا التلاحم وأيضا نقطة انحداره..

وسنقف هنا لحظات قبل أن ننتقل للعدوان، سنقف عند نقطة يحاول المريب أن يلعب بها ويضلل، وهى عداوة بريطانيا لعبد الناصر ومفاوضاتها و ضغوطها على الولايات المتحدة للتخلص منه، فهذا الذي يكتب التاريخ " بخفة" لاعب الثلاث ورقات يخلط خلطا معيبا ومريبا بين بريطانيا وأمريكا، ويجعل من شكليات الدبلوماسية وطبيعة العلاقة المعقدة بين واشنطن ولندن، مدخلا للتضليل والإيحاء بأن أمريكا وبريطانيا كانتا تريدان- على حد سواء- التخلص أو اغتيال عبد الناصر..

ومرة ثالثة سنتركه يقولها بنفسه:

" ولعل مما يعطى دلالة على طبائع الأمور في هذا الوقت أن جورج آلن ( وكيل الخارجية الأمريكية) ( وصاحب قصة الإنذار إياها) سلم أحمد حسين ( السفير المصري) يوم 8 مايو 1956 ملفا عن الحملات التي ينظمها البريطانيون ضد ناصر شخصيا.
وأبلغ أن هنري لوس صاحب مجلتي: " لايف" و" تايم" أخبر دلاس أنه عندما كان " لو" في لندن قال له تشرشل إذا كان ناصر سيفقد بريطانيا نفط الشرق الأوسط فيجب أن يذهب ناصر، " وقال أحمد حسين إن آلن يعتقد أن بريطانيا مستعدة للقتال في سبيل مصالحها مهما كان الثمن.
وإن أمريكا ستضطر إلى إعطاء دعم سياسي لبريطانيا حتى لا تسلم المنطقة للروس".

ها هى أدق اتصالات البريطانيين تبلغ للسفير المصري ليحذر " البطل" .. نعم " البطل " واقرأ هذه:

" أحد رجال السفارة البريطانية في أمريكا ألقى محاضرة في إحدى الجامعات الأمريكية وصف فيها عبد الناصر بأنه " عدونا رقم واحد" ولكن عميد الجامعة اعتذر للسفير المصري وقال له" لا تهتم بمثل هذا الهجوم على الرئيس، فالبريطانيون استخدموا دائما هذه اللهجة في الحديث عن أبطال الاستقلال.

لا تنس أن جورج واشنطن كان يوما ما عدوهم رقم واحد".

ولذلك فإننا نستميح القارئ عذرا، إذا قلنا إننا نواجه مزورا استباح كل شيء.. وذلك في تعرضنا للوثيقة التي وضعها في نهاية ملفاته، بعد مهرجان مما اعتاده النصابون في الموالد: " فتشونى .. إديه فاضيه.. ما فيش حاجة في كمي.. اشهدنا يا سى لافندى وإنت يا شابه.. الخ".

فقد قدم ما سماه بـ:

" تقرير مخابرات امريكى يكشف بالكامل خطط الانقلاب والغزو والقتل" بحروف سوداء وعناوين من طراز " المرأة التي أكلت دراع جوزها" ثم مقدمة تقول بحروف سوداء خاصة:
" هذه الوثيقة من أخطر الوثائق على طريق السويس- أو هكذا أتصور – وقد وصلت متأخرة عن موعدها المقرر ولكن المهم أنها وصلت ( هذه الجملة من كلام بتوع الثلاث ورقات وليس لها أي معنى ، فنحن لا تعرف أن هناك مواعيد لوصول التقارير الأمريكية لهيكل.. وسنرى أنها وصلت قبل موعد نشرها الرسمي إذ أن القانون الامريكى يمنع نشر الأوراق الرسمية قبل مرور ثلاثين سنة فموعد نشرها يبدأ من 1986 .. ولكنها سلمت قبل موعدها، أخرجت من ملفاتها المختومة بخاتم سرى جدا " لا يفتح قبل ديسمبر 1986".. وأعطيت لهيكل ليترجمها وينشرها ثلاث مرات خلال عام 1986 .. مرة في الطبعة الإنجليزية مختصرة ومتواضعة وبدون صرخات : الحقونى يا زباين .. ومرة على صفحات الأهرام وفى الملف العربي بالهستيريا الفاجرة.. بل المضحك المبكى أننا سنرى أن هذه الوثيقة بالذات وصلت على غير موعد. . يقول :" وربما كان بين الأسباب التي تضفى أهمية خاصة هو أنها ولأول مرة فيما أعرف وثيقة داخلية من وثائق إدارة المخابرات المركزية الأمريكية ووثائق وزارات الخارجية تذاع بعد أجل معين ثلاثين سنة أو خمسين سنة ولكن وثائق إدارات المخابرات لا ترى النور على الإطلاق".
ولأن مقدمة الوثيقة أو الإعلان عنها يفوق حجمها فلا مفر أن نختصر، وخاصة أنها منشورة بالعربية مرتين، مرة في الأهرام ومرة في ملفات السويس، لمن شاء الاستمتاع .

باختصار ما الذي يريد إيهامنا به..؟

يريد القول بأن اجتماعانا قد عقد للتنسيق بين الإنجليز والأمريكان على مستوى المخابرات في ربيع عام 1956 ( حدده في طبعة الخارج أو أواخر فبراير 1956.. وكتاب حبال الرمال أشار إلى هذا الاجتماع وهو صادر من خمس سنوات وقد اشرنا إلى ذلك في كتابنا السابق..) وكان هدف الاجتماع هو إزالة عبد الناصر وما يريد إثباته أن الأمريكان والإنجليز كانوا متفقين على هذا الهدف فكيف يكون عبد الناصر أمريكانيا..؟

يقول : " ولم تكن المخابرات الأمريكية على وفاق مع المقدمة ولكنها كانت متفقة مع النتيجة .. الخلاص منه.. "

وهذه سفسطة .

فالقضية هل كانت الولايات المتحدة أو بالدقة المخابرات الأمريكية متفقة مع بريطانيا على اغتيال عبد الناصر؟

يقول:"وفيها كما يتضح من السياق أن المخابرات البريطانية قررت العمل على قتل جمال عبد الناصر".

وبقراءة الوثيقة لا توجد إشارة إلى قتل عبد الناصر.

ولكننا نؤكد أن تصفية عبد الناصر كانت هدفا ملحا في رأس ايدن وقدمنا في الكتاب السابق أكثر من دليل وتصريح على أن هذه الرغبة الجنونية كانت أهم ما يشغل بال ايدن.. وقد أثبتنا قول مسئول بريطاني:" إذا لم نتخلص من ناصر فقد يفكر ايدن في قتله هو بنفسه" فلا جديد يتحفنا به هيكل:

يقول:" الوثيقة تظهر الخلاف في ذلك الوقت بين مختلف هيئات المخابرات البريطانية ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية والخلاف ليس على الهدف النهائي ولكن على الأساليب".

ثم نهويشة( ألا بانضة) عن ترك الوثيقة أمانة في يد مركز الترجمة والنشر في الأهرام الذي ترأسه سكرتيره نوال المحلاوي- الطاعنة في عبد الناصر- " ضمانا الحيدة المعاني وحتى الألفاظ".

تمام.. هات يا حاوي..

ماذا في الوثيقة أو الصفحة ونص استطعت فهمها..؟

اجتماع هيستيرى نظمه الإنجليز لإفهام الأمريكان أن صبرهم قد نفذ من رجل الأمريكان جمال عبد الناصر.. وإلا فلماذا يستأذن الإنجليز من الأمريكان في قتل عبد الناصر؟

وقد سجل مندوب المخابرات الأمريكية في الاجتماع دهشته من أن الإنجليز قالوا صراحة :" إن بريطانيا مستعدة أن تحارب معركتها الأخيرة.. وأيا كانت التكلفة فسنكون الكاسبين".

" لماذا يوجه هذا الإنذار للأمريكان إلا لأنهم ولى أمر هذا المشاغب أو كما يقول بالبلدي.." لم الواد بتاعك اللي أنت مسرحه وإلا حاطربأ الدنيا وزى ما يجرى"..

وبالدبلوماسية : مصالحنا مهددة وامبرطوريتنا تنهار ونحن نعلم أنكم وراء ذلك كله معتمدين على رجلكم عبد الناصر.. فإما أن تقبلوا التفاهم وقسمة جديدة للعالم العربي وليس إخراجنا بالكامل .. وإلا فلن نقبل أن نرى الإمبراطورية تصفى ونقف مكتوفي اليدين.. سنضرب في سوريا وفى السعودية سنستعين بالشيطان .. بأي وسيلة..

وهل يعقل أن تنسق أمريكا مع بريطانيا :" وضع سوريا تحت الهيمنة الهاشمية " أو " عمل انقسام في الأسرة السعودية".. وهل لأن هذه الشائعات نوقشت في الاجتماع مثل اغتيال عبد الناصر يعنى أن الأمريكان والإنجليز متفقان في هذه الأهداف وتؤخذ حجة في تفسير العلاقات والمعادلات..؟ ألا يتهم مندوب المخابرات البريطانية السى آى ايه في مصر بأنها تضللهم وترسل لهم معلومات هى مجرد:" زبالة" هل هذا مناخ ثقة تصل إلى حد تنسيق اغتيال ناصر..؟

وإذا شاء هيكل وغوغاء الناصريين والمتناصرين الجدد فسنزيدهم أدلة على كراهية الإنجليز وسنثير هنا نقطة جديدة فرضت نفسها على تفكيرنا منذ عام 1967 بعد التحالف الامريكى – الاسرائيلى الذي تسبب في هزيمة 1967 والإخلال الخطير في ميزان القوى بالمنطقة لصالح الاستعمارية الإسرائيلية وضد المصالح القومية والحياتية لمصر..

وقتها كنت أول من طرح شعار التحالف مع أوربا، واذكر مقالتي في أخبار اليوم التي قلت فيها: إن أوربا التي أقامت إسرائيل لتمنع قيام قوة عربية في شرق البحر الأبيض تشكل خطرا عل مصالحها في أفريقيا وغرب آسيا، قد فوجئت بأن ما تخشاه قد تحقق، ولكن في شكل قوة عبرية وليست عربية..

وأذكر أنني كنت وقتها في زيارة للخليج وكانت بريطانيا قد أعلنت قرار انسحابها من الخليج.. ورفعت قرار الحظر على دخول المصريين إلى مشيخات الخليج أو بالذات ساحل عمان.. وسعى إلى مندوب إذاعة الشرقة يطلب حديثا، وكانت مؤسسة بريطانية طالما تبذلت في نفاق الاستعمار البريطانى وتبريره والتطاول على مصر وعبد الناصر وفوجئ مندوب ههذ الإذاعة بأنني أقبل دعوته وأدعو إلى تحالف مع بريطانيا ، لأنه لم تعد بيننا وبينها مشكلة بعد قرار الانسحاب من الخليج وانسحابها بالفعل من جنوب اليمن، وأن الخطر الآن- وقتها- هو شاه إيران وأمريكا وإسرائيل ومن ثم فالاستراتيجي الممكنة هى التحالف مع بريطانيا.

لا أقول هذا من باب المن وإظهار العبقرية، بل لأن كتاب " غيفلين شوكبرج" وكيل الخارجية البريطانية في تلك الفترة والذي صدر منذ شهور قد فجر هذه القضية في تفكيري مرة أخرى عندما قال إنه بعد اتفاقية الجلاء فكرت بريطانيا في التحالف مع عبد الناصر.

وأعترف أن الدنيا دارت بى..

لو أن عبد الناصر لم يكن مرتبطا بالأمريكان، لو أن عبد الناصر كان واعيا بالخطر الاسرائيلى، وقبل هذا التحالف، أو على الأقل رفض أن يستخدم كمخلب قط امريكى ضد بريطانيا.. هل كان يقع عدوان 1956 وكارثة 1967 .. تعالوا نسمع أولا ما يقوله الإنجليز.
يقول شوكبرج: في 27 يوليو 1954 كان الوفد البريطانى يحتفل مع ناصر ومعاونيه تحت سفح الأهرام ببداية مرحلة جديدة في التعاون بين البلدين" .
ويقول إنه " بعد الاتفاقية بدأت بريطانيا تضع استراتيجيه أساسها التحالف مع العرب أو باذلات مع ناصر وذلك يتضمن فرض صلح على إسرائيل أو دفع الأمريكان للتقدم بمشروع صلح، ولم تكن هناك معارضة كبيرة في أمريكا، وتم وضع خطة سميث آلفا وقبلت من الحكومتين وعرضت على ناصر من قبل السفير الامريكى في أبريل 1955 ولم يكن استقبال ناصر لها سيئا" ويقول " إنني اعتقدت وما زلت أن " ايدن" حاول وضع سياسة في الشرق الأوسط، على أساس تعاون مشترك مع مصر، التي كانت وقتها أكثر الدول العربية تأثيرا، وتسيطر على الصحافة والإذاعة وتزود الكليات والمدارس العربية بالمدرسين.

وأعتقد أن تصميمه على الوصول إلى تسوية معهم حول القناة بنيت على أساس ذلك التصور.

ولكن في السياسة لا يكفى وجود أفكار سليمة على المدى البعيد" وروى أنهم قالوا لعبد الناصر عقب توقيع المعاهدة.." آن الأوان لتكف عن سبنا، فقال : لابد لي من عدو وقد كنتم هدفا مناسبا وبقى أن نجد هدفا آخر".

وقد تدخل " ايدن" شخصيا لحث البنك الدولي وحكومة أمريكا لتمويل السد العالي، وقد رأينا أنها كونت فعلا كونسرتيوم لبناء السد وكانت ترغب بشدة في أن يكون السد من نصيبها.

وكانت خطة " آلفا" تتضمن إعطاء مصر ممرا إلى الأردن، وكان الحديث يدور حول ممر آخر إلى لبنان، وقد رفض اليهود أي حديث عن تنازل، ولكن الجو العام في البيت ألبيض وهوايتهول وداوننج ستريت كان معاديا ليس لإسرائيل بل حتى لليهود..

ونحن نعرف أن العواطف والأيدلوجيات في السياسة البريطانية هى التعبير عن المصالح ولخدمة الإستراتيجية المطروحة، فكل الحب والعطف الذي تفجر من أجل اليهود في الحرب العالمية الأولى وإلى قرب نهاية الحرب الثانية أو بالتحديد إلى عام 1943 تحول إلى ندم على بلفور، والاعتراف بأنه كان خطأ ساقتهم إليه العاطفة حتى أن " هامرولد ماكميلان" قال :" يبدو أن أفضل حل هو أن نبعد اليهود عن المنطقة ونسكنهم في مدغشقر.

" وكير كباترك" من كبار رجال الخارجية البريطانية قال لمؤلف " الانحدار إلى السويس" : " إن اليهود محكوم عليهم بالدمار على المدى البعيد لأنهم لا يستطيعون تعلم التعايش مع جيرانهم .

ويوما ما ستتوقف الأموال الأمريكية والمساعدات الأمريكية ، كذلك فإن البحر الأبيض لن يكون مفتوحا إلى الأبد، وعندها سيكون اليهود مجرد فئران في المصيدة". وذهب ايدن في خطابه في " بلاك بوول" إلى حد حذف أية عبارة ثناء على اليهود من الخطاب. . وقال شوكبرج عن هذه الأيام:" في كل يوم كان نير إسرائيل حول عنقنا يجذبنا عميقا إلى الوحل".

وعلى شاطئ الأطلنطي الآخر كانت الإدارة الأمريكية كما قلنا، أكثر الإدارات رغبة وقدرة في الضغط على إسرائيل ، خاصة إذا ضمنت بريطانيا معها.. وقد أيدت أمريكا الخطة"آلفا".. وفى الاجتماع الذي عرض فيه الإنجليز تصورهم لأسلوب تنفيذ الخطة، قال دلاس: يجب إفهام العرب أنهم لم يستطيعوا عقد السلام مع إسرائيل الآن فسيفقدون أفضل فرصة، لأن جهود الأمريكيين في تبريد اليهود خلال العامين الماضيين، لا يمكن استمرارها وخاصة عندما تقترب الانتخابات، وأيضا إن الضمان الامريكى المطلوب لن يكون الحصول عليه سهلا إذا كان العرب يعملون للسلام فعلا".

واشتكى دلاس للانجليز من نفوذ اليهود في امريكى، وقال لهم إن التبرعات الخاصة الوحيدة المعفاة من الضرائب وتدفع لجهة غير أمريكية هى التبرعات لإسرائيل ، إلا أنه أضاف إن لدينا 12 شهرا لعمل شيء قبل أن تبدأ محنة الانتخابات ويستحيل وقتها عمل أي شيء.. " وايدن" بدوره اعترف بنفوذ اللوبي اليهودي في مجلس العموم".

أما الرئيس " إيزنهاور فقد أصر على أن يعلن" " آلفا" لكي يربط بها الحكومة الأمريكية قبل الانتخابات" حتى يجنبها مزايدة الذين يتسوقون أصوات اليهود و" خاصة من أفريل هاريمان مرشح الديمقراطيين الذي كان يتملق اليهود".

كانت بريطانيا في حالة من اليأس والجزع على مصيرها ، لم تمر بها كانت في انتظار أسطول الأرمادا.. زمن اليصابات أو اليزابيث الأولى، وهذه هى نوعية التفكير الذي كان يسيطر على مخططي سياستها في عام 1953:

" القانون الدولي والمزاج العالمي للرأي العام كله في اتجاه معاد للعوامل التي جعلتنا أمة عظمى، أعنى نشاطنا خارج حدودنا.. وها نحن خطوة خطوة سندفع إلى الوراء إلى داخل جزيرتنا نموت جوعا".

في ظل هذا المناخ ، أو قل في ظل هذا الوضع، وبريطانيا تواجه خطر التصفية أو الموت جوعا، كانت إمكانية التفاهم مع مصر قائمة وممكنة، صحيح أنه لم يكن هناك أي أمل في " إقناع" اليهود بقبول تسوية، ولكن المناخ كان سيتحول إلى صالح مصر والدول العربية إذا ما حاولت أن تفرض التسوية العربية، في ظل عداء بريطانيا لإسرائيل ، وحرج أمريكا أو استيائها من اليهود..وحتى إذا لم يثمر هذا الوضع إلا تجميد إسرائيل ، فقد كانت هناك إمكانية تسليم بريطانيا بالدور المصري المشروع في ما بقى لها من مناطق نفوذ في العالم العربي، وقبولها أن يتم انسحابها على نحو يملأ الفكر المصري والاقتصاد المصري الفراغ الذي ستتركه .. لا أمريكا ولا إسرائيل .. ولكن.

تحركت قوتان لنسف ههذ المحاولة أو الحلم كما سماه " شوكبرج" عندما قال نسفت كل خطط التحالف مع مصر بالهجوم على حلف بغداد..

شنت مصر حملتها على حلف بغداد ونسب إليها طرد جلوب وإهانة سلوين لويد.. والتآمر في ليبيا على قلب الحكم الموالى للانجليز واحتضان إمام عمان.. الخ..

وكان عملا " عبقريا" تحويل بريطانيا من راغبة في محالفة مصر وتكرار عملية الجامعة العربية في عام 1943 على مستوى أرقى يتفق ووعى العرب ومكانة مصر في عام 1954 .. تحويلها إلى عدو لدود يحالف إسرائيل لتدمير مصر..

طرد غلوب في أول مارس في 12 مارس 1956 قال ايدن لسكرتيره "إما بريطانيا وإما ناصر"..

وصدر الأمر للمخابرات البريطانية ببحث كافة وسائل اغتيال عبد الناصر ذكر بعضها " بيتراريت" في كتابه الذي أثار وما زال أزمة في بريطانيا وهو " صياد الجواسيس" : " استخدم غاز أعصاب وقد وافق ايدن في البداية على الخطة ولكنه تراجع بعد ذلك لما حصل على موافقة الفرنسيين والإسرائيليين على الاشتراك في عمل عسكري.. فلما فشل الغزو وأجبر على التراجع عاد إلى سلاح الاغتيال ولكن في هذا الوقت كانت كل عناصر المخابرات البريطانية في مصر قد صفيت ووضعت خطة جديدة لعملية تستعين بضباط مصريين مرتدين ،ولكن الخطة فشلت".

ها نحن ندعم حجة هيكل في رغبة بريطانيا في اغتيال " عبد الناصر" ولكن هل ذهب مندوب المخابرات الأمريكية لتنسيق هذه المهمة؟ وهل صحيح لأنهم تحاوروا في خطر عبد الناصر ووافق الأمريكان على أنه " مضر" يعنى الاتفاق في الأهداف؟ لا.. إن كل طرف كان يعرف أن الآخر يقول غير ما يعنى- ولكن الدبلوماسية والمصالح المتشابكة في أكثر من نقطة، والملتحمة في بعض المناطق، والمتناقضة إلى حد القتل في مناطق أخرى، تجبرهم هل استخدام قدر من النفاق المتبادل، فتقول بريطانيا : رغم دور المخابرات الأمريكية في قيام ناصر وثقتها فيه إلا أن هذه السياسة ستؤدى على دخول الروس والشيوعية للشرق الأوسط.. بينما استطاعت بريطانيا بمكانتها وهيبتها ومعرفتها بالمنطقة والقوى السياسية فيها، استطاعت أن تحفظ بها منطقة مغلقة للغرب.. ولكن انظروا على سياستكم. . السلاح الروسي يتدفق إلى 3 بلدان عربية والبقية تأتى.. ويرد ألأمريكان بأن السياسة البريطانية والاستعمار البريطانى لم يعد يلائم العصر، وهو السبب في كل الاضطرابات، والثغرة التي سينفذ منها الشيوعيون، وأن عبد الناصر ولو أنه عقد صفقة سلاح مع روسيا إلا أن سجونه تضم أكبر عدد من الشيوعيين في أي بلد وهو الذي صنع الحركة الشيوعية في مصر وحجمها إلى ما يلغى أي تأثير لها في الوطن العربي.

ولقد قلنا في كتابنا السابق، وقبل أن تنشر هذه الوثائق إن بريطانيا في ذلك الوقت، كانت تعتبر عبد الناصر والملك سعود ألد عدوين لها في المنطقة، الأول بزعامته وقبل ذلك بمكانة مصر وإمكاناتها ، والثاني برصيد عبد العزيز ومكانة الأرض المقدسة وأموال النفط. ولم يكن لدى بريطانيا قوات محلية، تأتى لها بناصر وسعود مقيدين كما فعلت كشافة عمان في " تركي عطيشان" وبريطانيا تعرف أن تسيير الأساطيل ضدهما يعنى الصدام مع الولايات المتحدة مباشرة، كما حدث فعلا عندما نفد صبر بريطانيا فشنت حملة 1956 وانتهت بكارثة لها..

وفى الاجتماع الذي يهوش به هيكل، قال مندوب بريطانيا " جورج يونج" لـ " ايكلبرجر" مندوب أمريكا – ناصر :" إذا أردت الحق فإن كلا من ناصر وسعود لابد من تصفيتها".. فهل يسمح كاتب – حسن الخلق- لنفسه أن يستنتج من ذلك تآمر أمريكا على اغتيال الملك سعود؟.

إنها طريقة من طرق المساومة.. ولقد وصل الإنجليز والأمريكان فيما بعد إلى مساومة ثم تسوية، ولكن ليس قبل انقلاب العراق.. فاتفقوا بعد الانقلاب على تطويق عبد الناصر أو كما قال كوبلاند:" لقد عملنا على تقليل نفوذ عبد الناصر.

بجهد أكبر مما فعلنا عند بناء هذا النفوذ، وكنا في هذه المرة أكثر علانية..

فمن الذي أنكر بغض الإنجليز لعبد الناصر .. ولكن لماذا ؟.. ولمصلحة من بعد اتفاقية الجلاء؟.. ونحن لا نحاول أن نجلس في كرسي التاريخ.. فإن هذه المعادلات تبدو صحيحة وسهلة بعد زمانها بثلاثين عاما، ولا يمكن إغفال عنصر الشعور الوطني الذي كان يشتهى مطاردة بريطانيا إلى جزيرتها ويحمل لها حقدا عمره أكثر من مائة عام منذ أن تصدت لمحمد على.. ولا إغراء تحرير البلاد العربية، ولكن الأمر لم يكن في اعتقادي يحتاج لعبقرية تاليران، بل لو كان قرار عبد الناصر قرارا مصريا لاكتشف أهمية التحالف مع بريطانيا كما فعل " بن جوريون" عدو الإنجليز الأكبر الذي لم يتردد بالمخاطرة بصداقة أمريكا وحالف عدوة الأمس البعيد والقريب لكي يحقق مصلحة إسرائيل .. ولكن عبد الناصر لم يفعل، فجر قضية حلف بغداد، ثم صفقة السلاح وأخيرا تأميم قناة السويس ، وإسرائيل من جانبها أكملت له سياسته بالعدوان المتكرر الاستفزازي الذي دفعه إلى السوفييت..

نعود للوثيقة التي للأسف استطاع الدجال أن يجرجرنا لمناقشتها مع أن فضح تهافت ادعائه أسهل مما يظن ويكفى أن نسأل من هو مندوب أمريكا في الاجتماع وماذا فعل؟

والجواب : هو " جيمس ايكلبرجر الذي تبين ( فيما بعد) أنه كان مسئولا عن محطة وكالة المخابرات المركزية في مصر وأن غطاءه الرسمي لهذا العمل كان إرساله إلى القاهرة بوصفه الوزير المفوض للسفارة الأمريكية فيها" وفيما بعد هذه لنا عليها تحفظ.. ففي النفس منها شيء وشوية.. فقد ورد في رسالة مصطفى أمين ذكر " ايكلبرجر" هذا أكثر من مرة.. حسبك منها الآتي-مؤقتا-:

" وكان كوبلاند وميلر وايكلبرجر وكيرميت روزفلت يقولون لي إن المخابرات البريطانية تحاول تضليل أمريكا لمصلحة بريطانيا ( باتهام عبد الناصر بالشيوعية).

" وعرفني المستر بين بمستر ايكلبرجر وكنت على اتصال مستمر بمتر مايلز كوبلاند وفهمت من أحاديثي مع المسئولين أن قادة الثورة يعلمون جيدا أن كل هؤلاء من المخابرات الأمريكية وأنهم واثقون من ذلك. ولكنهم يرون أن المصلحة في الاتصال بهم".

" ثم سافرت أنا ومحمد حسنين هيكل إلى أمريكا في مهمة أوفدنا إليها الرئيس في أمريكا أثناء عرض مسألة تأميم القناة.. واتصلنا بكيرميت روزفلت وايكلبرجر .. وكنا في جميع اتصالاتنا بهؤلاء نعلم أنهم متصلون بجهاز المخابرات الأمريكية وكانت الدولة تعلم بهذه الاتصالات وتعرفها تفصيلا". الخ..

هل يكفى هذا للشك في " فيما بعد" هذه .. لا.. سيتبين من رواية هيكل نفسها أن عبد الناصر كان يعلم بأن " ايكلبرجر" هو رجل المخابرات الأمريكية وقت انعقاد هذا الاجتماع..

لكننا قبل أن نقدم الدور الذي لعبه ايكلبرغر في الاجتماع نحب أن نقدم المزيد من المعلومات عنه، ومن شاهد ارتضى مؤرخ الناصرية شهادته واستشهد به في ملفاته.. وهو " ايفيلاند" مندوب البنتاغون الذي فاوض عبد الناصر عام 1955 قال:

" ايكلبرجر هو أحد المجموعة التي تفتخر بأنها اخترعت ناصر المؤيد للغرب".

هذا عن السؤال الأول.. أما السؤال الثاني فهو:

جمال عبد الناصر الزعيم.. هل حقا ذهب يأكل " وحيده" في هذا الاجتماع.. أم ذهب ممثلا ومندوبا ومدافعا وجاسوسا للزعيم؟

من فمك أدينك يا إسرائيل ..

" ومن الظواهر التي تستحق الدراسة أن " جيمس ايكلبرجر" عاد بعد اجتماعات لندن إلى القاهرة وحاول تسريب معلومات إلى الرئيس جمال عبد الناصر مفادها أن الإنجليز قد يحاولون التخلص منه شخصيا، وأنهم جسوا نبض الجهات الأمريكية المختصة فيما إذا كانت مستعدة للتعاون معهم لتحقيق هذا الهدف وأن الرد الأمريكي كان نصيحة لهم أن يصرفوا النظر عن مثل ههذ التصورات الخطيرة.. ووصلت هذه المعلومات المتسربة إلى جمال عبد الناصر ودعته إلى التساؤل عن الهدف من وراء تسريب هذه المعلومات إليه وهل القصد الامريكى هو الدس لبريطانيا أو أن الهدف هو محاولة تخويفه؟

هذا هو النص العربي، أما النص الإنجليزى فهو بلا حذلقة ولا ظواهر ولا دراسة ولا تزييف ولا إخفاء ولكن هكذا:

" ولقد انزعج ايكلبرجر بما قيل في هذا الاجتماع إلى حد أنه سرب الكثير منه إلى القاهرة وربما كان هذا آخر اتصال مفيد حصلت عليه مصر من التنظيمات السرية الأمريكية ".

اعتراف هنا بأنه اتصال مفيد بصرف النظر عن آخر أو أول فكل الخاطئين إذا ضبطوا أقسموا أنها آخر مرة يعنى عارفين ومتصلين.

وكان " ايكلبرجر " مندوبا وعينا للزعيم الخالد، ورغم كل الاحتياطات فقد رأوا زيادة في الاطمئنان تحذير الزعيم الخالد من إصرار بريطانيا على إثبات أنه لا خلود لبشر؟ فأرسلوا ايكلبرجر يقول: إني أرى أن الإنجليز يذبحونك بل لقد بلغ من قلق الأمريكان على حياة البطل أنهم زيادة في التأكيد، استخدموا قناة ثانية لإبلاغ الزعيم وهو السفير المصري بواشنطن:" زارني مسئول كبير مصطل، معروف لنا بميوله الطيبة نحو مصر والعرب وفهمت منه أن الإنجليز الآن في حالة خوف وانزعاج ويتصرفون تصرفات عصبية غير متزنة .. وقد ذكر لي نفس المصدر أنه لا يستبعد أن تلجأ إسرائيل لعمليات الاغتيال الإجرامية ضد القادة في مصر".

ألا يحق لنا أن نعتبر المندوب الامريكى في هذا الاجتماع كان يمثل عبد الناصر ، وبادر بإطلاعه على أهم سر في ما تصفه بأخطر اجتماع مع المخابرات البريطانية ؟ أهذه هى وثيقتك؟

حقا القانون لا يحمى المغفلين ولكن قد يحمى النصابين؟

أرجو أن نكون قد نجحنا في إلقاء بعض الضوء التمهيدي على أسباب انهيار عملية روزفلت- ناصر وسنقدم المزيد في ما يلي من صفحات، إلا أننا نؤكد هنا أننا يجب أن نرفض أي ادعاء بأن الخلاف بين عبد الناصر والأمريكان كان بسبب مواقفه التحررية أو معارضته لسياساتهم الامبريالية وإنما هو أساسا حول أسلوب معاملتهم وانتصار المدرسة الإسرائيلية في الإدارة الأمريكية وبفعل إسرئايل التي لم تكن تريد مزاحما على حجر الأمريكان والتي كانت ترى في استمرار ارتباط ناصر بالأمريكان أو ارتباط الأمريكان به ما يعرقل مشاريعها التوسعية في المنطقة واستراتيجياتها التي تهدف لتحطيم مصر.

ومرة أخرى أرجو ألا يستنتج فقير العقل أن ناصر بذلك كان خطرا أو عدوا لإسرائيل .. بالعكس كما برهنا لو أرادت إسرائيل أن تقيم في مصر نظاما يخدم أهدافها في تلك المرحلة ما استطاعت أن تتخيل فضلا عن أن تقيم نظاما أفضل من نظام عبد الناصر .

ولكن العقبة الوحيدة كانت في ارتباطه بالأمريكان وكان المخرج الذي نفذت منه إسرائيل هو صيغة هذا الارتباط.

الفصل السادس: كل القرارات لصالح إسرائيل

" .. لو كان الذي يحكم مصر يهوديا .. لما خدم إسرائيل بأكثر مما فعل عبد الناصر.."

يأسف هيكل في قصة السويس لأن الذكرى العشرين لما يسميه " حرب السويس" قد مرت دون أن يحتفل بها كما يجب، ويرى أن السبب هو " أن التقويم السياسي الجديد في مصر يعتبر حربها هزيمة ضمن الهزائم التي لحقت بالعرب في مواجهتهم المستمرة مع إسرائيل وذلك خلط بلانهاية" .. ولذلك قرر هو أن يحيى الذكرى، وله الحق فقصة حرب سيناء كانت نموذجا للتضليل الاعلامى الذي دفعت الأمة العربية ثمنه فادحا بعد عشر سنوات، ومن ثم فعودة المجرم إلى مكان الجريمة أمر طبيعي ومتوقع، ويقود دائما على ضبطه وإدانته بإذن الله كما سنحاول..

ويشكو فاتح ملفات السويس: " ومما يثير العجب فعلا أن هناك في مصر من وصفوا " السويس" بأنها كانت هزيمة ، في الوقت الذي يعتبر فيه شركاء العدوان الكبار على مصر، بريطانيا وفرنسا، أنهم هزموا في السويس، وأن موقعتها الكبرى كانت نهاية الإمبراطورية بالنسبة لهما، ولقد كانت النقطة التي اختل فيها التوازن هى الخشية من نسبة السويس إلى جمال عبد الناصر ، وبالتالي يكون انتصارها إذا حسب له ريشة على رأسه". (أهرام 26/9/1986).

وأتمنى أن يعرفنا كاتب هذا القول بالمصري الذي قال إن عبد الناصر أو مصر هزمت أمام بريطانيا وفرنسا في معركة تأميم القناة .. أتمنى أن اعرفه.

أنا شخصيا لا أعرف أنمثل هذه الفرصة صدرت من مصري أو في مصر.. وفى " ملفات " حافلة بالوثائق .. كنا نتمنى لو أنه استشهد بفقرة واحدة لكاتب مصري أو حتى لكاتب يهودي ونشرت في مصر تقول إن عبد الناصر هزم في معركة التأميم أو أن بريطانيا وفرنسا لم تهزما.

" في زمن فقد الجميع فيه المصداقية" – كما يقول- كنا نتمنى لو أمسك بخناق من زعموا هذا الزعم ودلنا عليهم ولكنه لم يفعل ولن يفعل، لأنه اتهام باطل، وادعاء مصطنع، بهدف تحقيق مغالطة وتضليل المصريين عن الجانب الذي أصبح اليوم – للأسف- هو الجانب الأهم.

فإذا كان باطلا ادعاء هيكل أن البعض ينكر النصر في معركة التأميم حقدا ولمنع عبد الناصر من أن تصبح على رأسه ريشة، فالحق كل الحق أن هناك في مصر من قال ، وما زال يقول أن إسرائيل لم تنتصر في حرب 1956 .. مع أن إسرائيل تصفها بأنها كانت " النصر في حرب حق الوجود" أي أن انتصارها على مصر في 1956 نفى الشك الذي كان موجودا حول إمكانية وجودها واستمرار هذا الوجود.. وعبد الناصر شخصيا، بكى على كتف عبد اللطيف بغدادي وقال :" هزمني جيشي" وسجلت حقائق التاريخ نتيجة المعركة لحساب إسرائيل : احتلال سيناء خمسة شهور.. تدمير كل السلاح المصري- السوفيتي، إنزال ضربة مؤسفة بالجيش المصري وثقته بنفسه وقيادته.

فتح خليج العقبة بكل ما ترتب على ذلك من نتائج. تأمين حدودها وتحييد الجيش المصري وإخراجه من المواجهة عشر سنوات.. ومع ذلك فهذا البعض يحاول أن ينكر هذا النصر.. والنقطة التي اختل فيها الشرف هى أن انتصار إسرائيل ، هو بطحة على رأس عبد الناصر مع أن هزيمة بحجم هزيمة 1956 لا يمكن أن يحملها رأس فرد واحد ، بل هى أكبر وأفدح من عار واحد، إنها عار وحزن ومأساة جيل بأكمله، ونسأل الله ألا تكون قد كتبت قدر ومصير أمة كاملة.

لقد شهد فاتح الملفات، على نفسه وعلى كل من على رأسه ريشة، عندما اعتبر " حرب السويس" كما يسميها مجرد حلقة في سلسلة من ثلاث حلقات هى :" حرب السويس .. حرب 1967 .. حرب 1973" وفى حدود معلوماتنا وإلى أن يثبت العكس أرشفجى التاريخ الناصري، فإننا لم نحارب ثلاث فلابد من البحث عن العنصر المشترك وإلا كان ذلك مجرد عبث بالقارئ وتغرير بالناشر وخلط لمعارك لا صلة بينها.. والعنصر المشترك هو إسرائيل .. وهى التي تجعل الربط ممكنا بين 1956 و 1967 و 1973 .. بل هو يعتبر أن هذه المرحلة من الصراع على الشرق الأوسط انتهت بعدما جرى في حرب 1973 أي الصلح مع إسرائيل .. وهذا يعنى أن الصراع يبدأ من إسرائيل وينتهي بإسرائيل ..

وحتى إذا قبلنا حذفه من تاريخ الصراع على الشرق الأوسط حرب 1948.. فلا يمكن تصور تزوير التاريخ بحذف إسرائيل أو تقليل دورها وما حققته في الحديث عن السويس.. لا يمكن أن يكون بريئا الاستمرار في شرب أنخاب نصر التأميم، الذي أصبح حدثا تاريخيا ، ونوارى نصر إسرائيل الذي استمر معنا وخطط مصيرنا وسيظل معنا إلى أجيال قادمة. لقد اندثرت تأثرات، بل ذكريات معركة التأميم من ذاكرة هيكل نفسه، باعترافه ، حتى نسى ذكرى مرور ثلاثين عاما عليها كما نسى من قبل ذكراها العشرين .. حتى اضطر ناشره الإنجليزى إلى تذكيره ،واستعان على إقناعه بأنها تستحق كتابة ، " بتجنيد" الإنجليز والفرنسيين والأمريكيين والألمان واليابانيين ( تعذر وصول يأجوج ومأجوج بسبب السد).

ما معنى أن نستمر في الحديث عن قطع ذيل الأسد البريطانى، ونغفل أو نتغافل عن حديث الذئب الاسرائيلى الذي اقتحم بيننا .. ؟ ما معنى أن نستمر في دق طبول المجد بتحويل بريطانيا إلى دولة من الدرجة الثانية في الشرق الأوسط.. أليس عجيبا ومريبا أن نحتفل بإخراج بريطانيا من الشرق الأوسط في نفس الوقت الذي تطالب فيه بعودتها هى أوربا لمعاونتنا في مواجهة أمريكا وإسرائيل المستبدين بالشرق الأوسط؟

إن كتابة التاريخ إن لم تكن لتفسير الحاضر وإنارة الطريق للمستقبل فهي بالتأكيد لا يمكن أن تكون تزويرا للماضي.. وتضليلا عن جذور الحاضر وقضايا المستقبل.

ولكن هيكل يخبرنا أن " انتصار السويس – وكان انتصارا- يستحق الدراسة والتأمل" ولعلى أزعم أنه كان أكمل انتصار في تاريخ العرب الحديث، بل إنه كان أكمل انتصار في تطبيق نظريات الحرب المحدودة منذ ظهرت هذه النظريات في أعقاب التعادل النووي بين القوتين العظم".

ولا ندرى إذا كان يصدق نفسه بأنها كانت أكمل انتصار في تاريخ العرب، بل وعلى الصعيد العالمي في تاريخ الحروب المحدودة، فلماذا يحتاج الأمر إلى شهادته بأن يضع بين قوسين " وكان انتصارا"؟

ليس هكذا يكتب المؤرخون عن "أكمل" انتصار.. ويؤلفون لإثبات أنه كان انتصارا .. فما من كاتب فيتنامي يؤلف كتابا ع " ديان بيان فو" أو عن حرب فيتنام يبدأه بقوله إن النصر الفيتنامي " – وكان انتصارا-" .. هذه جملة اعتراضية جديرة بكاتب امريكى، وهو يقصد بها أن أمريكا " انتصرت" في فيتنام، ومن ثم يشرح ويحلل ويثبت أنه رغم ما يبدو من هزيمة عسكرية إلا أن الولايات المتحدة حققت .. الخ.. أو أن يكتب مؤرخ ألماني" أن نصر العلمين- وكان انتصارا" ثم يشرح ويخترع .. أما المؤرخ الإنجليزى فلا يحتاج لأن يقسم على أن العلمين كانت انتصارا..

بهذه الجملة اعترف هيكل أن الأمر موضع الشك، وأنه يحتاج إلى كتاب يقع في 304 صفحات لإثبات أنه كان انتصارا وليس هزيمة كما هو الشائع والمعروف والمستقر في أذهان المصريين وخاصة بعد أن كشفت بعض الحقائق بعد هزيمة 1967 التي تجد اليوم من يقول عنها أنها كانت " أكثر انتصارا" من حرب 1973.. وكله عند عرب الناصرية انتصار .

فكتاب هيكل أو دعواه خبر يحتمل الصدق والكذب وسنناقش ما جاء فيه لنرى هل نجح في إثبات أنها " ليست هزيمة من ضمن الهزائم التي لحقت بالعرب في مواجهتهم المستمرة مع إسرائيل ".. وسنكتشف أنه حكي عن كل شيء من باندونج إلى كريشنامنون بينما لم يخصص للمواجهة مع إسرائيل في سيناء إلا ستة سطور من كتاب يضم أكثر من تسعة آلاف سطر بينما خصص لنسف خط شركة نفط العراق البريطانية 12 صفحة.

وعلى أية حال لقد وعدنا بكبح انفعالاتنا ومناقشة الوقائع:

وأول خطأ يقع فيه أو قفزة بهلوانية يفاجئنا بها هى نظرية الحرب المحدودة،إذ يعلن أن نصر السويس " كان أكمل انتصار في تطبيق نظريات الحرب المحدودة" ثم يستعرض لنا تعريفات كسينجر وكلاوزفيتز ..

وينسى خلقه ويضرب لنا الأمثال فيقول: إن حرب فيتنام : كانت – على سبيل المثال- حربا محدودة، ولم يكن هدف الشعب الفيتنامي أن يكسر إرادة المجتمع الامريكى أو أن يفرض عليه مشيئته، كامل، وإنما كان هدفه أن يرغم الولايات المتحدة على فك قبضتها عن فيتنام الجنوبية ليسهل كنس نظام " فان ثيو" وتحقيق وحدة فيتنام شمالا وجنوبا.. و" كان أسلوب الشعب الفيتنامي هو الكثير من المقاومة السياسية والكثير من التعبئة المعنوية والقدر الكافي فقط من استعمال القوة المسلحة في حمى توازن القوة العالمية حتى تصل الولايات المتحدة إلى نقطة تجد فيها البقاء في فيتنام أكثر تكلفة من الجلاء عن فيتنام".

وهكذا كان

( وضعها هيكل في سطر وحدها فالتزمنا بالنص )

" وكانت حرب السويس من هذا النوع من الحرب المحدودة"
فهمنا من هذا النص أن " الحرب المحدودة" هى التي تستهدف تحقيق هدف محدود بدون " كسر إرادة الخصم أو فرض مشيئة المنتصر عليه كاملة".

والسؤال .. ما دخل ذلك في التعادل النووي ونظريات هنري كسينجر؟ فهذا اللون من الحروب معروف منذ بداية التاريخ.. فلم يكن التاريخ كله حروبا شعارها فناء الخصم أو تسليمه بلا قيد ولا شرط ولا حتى حروب " رأس كليب" .. فهذا الشرط لم يعرف إلا في حروب الاحتلال من دولة متفوقة على دولة أضعف بنسبة فادحة ، وكانت تنتهي بإفناء إرادة المهزوم وإلحاقه بجهاز المنتصر، ثم طرح على ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية، أما حروب المتكافئين فكانت دائما لتحقيق هدف محدود، مثل تعديل الحدود، أو الحصول على امتياز أو منع أحد الطرفين من التدخل في شئون الطرف الآخر.. أو الاتفاق أو الاعتراض على تقسيم طرف ثالث.. ومن ثم جعلها نظرية جديدة وربطها بكيسنجر وكلاوزفيتز والتعادل النووي .. هى جعجعة طاحونة هواء، طحينها الجهل والتضليل ..

فيتنام حرب محدودة من طراز السويس.. وبما أنه قرر أن حرب السويس هى أكمل انتصار في الحروب المحدودة، فهي أعظم من انتصار الشعب الفيتنامي على إمبراطورية كانت تحتله ما يقرب من ثلاثة قرن، ( فرنسا) ، ثم على أكبر قوة عسكرية غرفتها البشرية وإحدى القوتين " الأعظم" أمريكا. .

انتصار الشعب الفيتنامي كان انتصارا ساحقا ماحقا، لا مساومة في جزئية واحدة من أهدافه:

إخراج الأمريكان..

" كنس " فان ثيو ونظامه( كنس هذه لإثبات ثورة هيكل ونفى حكاية التعاطف مع الأمريكان).

فرض وحدة البلاد تحت إرادة ونظام الشمال.
ضم كمبوديا.. وإظهار العين الحمراء للصين.
ومع ذلك فنصر السويس أكمل من نصر فيتنام؟

ربما .. فقد حرموا من الخطب والأغاني والمقالات وهتافات :" سنقاتل" بينما الجيش قد صدرت إليه الأوامر بالانسحاب: " كل رجل على مسئوليته" ربما ينتقض من نصر الفيتناميين أنهم لم ينجبوا " هيكلا" يؤلف عن انتصار الفرنسيين ..

كيف يمكن أن نناقش كاتبا يقول في عام 1977 والدم لم يجف بعد من أرض فيتنام " إن مقاومة الشعب الفيتنامي لم يستخدم القوة المسلحة إلا بالقدر الكافي، وإنما كان اعتماده على المقاومة السياسية والكثير من التعبئة المعنوية"؟

يخيل لنا أنه يتحدث عن فيلم غاندي، أو جهاز التعبئة الذي كان يديره عبد القادر حاتم واشتكى منه عبد الناصر حتى قال له:" أنت مفروض ترفع معنوية الناس وليس تحذيري وتخويفي أنا"

شعب فيتنام الذي قاتل عشرين سنة وقدم ما لا يقل عن ثلاثة ملايين شهيد وألقى فوه عشرة أضعاف ما ألقى من قنابل في الحرب العالمية الثانية وقاتل بكل ما وصل إلى يده من سلاح وبالأظافر والأحجار النحل والنمل والثعابين..

يقال عنه:" كان لا يستخدم القوة المسلحة إلا بالقدر الكافي".

أين القوة المسلحة التي كانت لد الفيتناميين ولم يستخدموا إلا بالقدر الكافي.. الكافي لماذا ؟ لهزيمة العدو أم لإثارة شفقته؟

أين المعركة التي هرب الفيتناميون من خوضها بحجة أنهم لن يجروا للمعركة وأن أمريكا لن تفرض علينا ارض المعركة لا زمانها كما يقول الثوريون العرب، والعدو داخل مخادعهم وسكينه تنحر في نخاع شعبه؟

هل كان بوسع الفيتناميين ضرب نيويورك بالطائرات مثلا ولم يفعلوا لكي لا تتحول الحرب المحدودة إلى حرب شاملة؟

هل عرف التاريخ أكثر دموية وأكثر اعتمادا على المقاومة المسلحة بين امبريالية وشعب صغير مثل حرب فيتنام.

هو لا يفهم معنى الحرب المحدودة، فتلك الحرب لم تكن محدودة, من جانب الفيتناميين ولا كان يمكن أن تكون أكثر شمولا مما أرادوها وخاضوها وانتصروا فيها.

كان هدفهم الانتصار الكامل على أرضهم.. تحرير وطنهم وتحرير إرادتهم ورفع يد الأمريكان عن وطنهم وتصفية وجودهم وعملائهم وتوحيد هذا الوطن في ظل النظام الشيوعي الشمالي فهي حرب شاملة .

في الهدف وفى التطبيق

وانتهت بتحطيم إرادة الخصم فعلا وكسر إرادة النظام الامريكى أو المجتمع الامريكى أو ما شئت فيما يتعلق بموضوع الحرب التي يخوضها الفيتناميون ، فلا كان بوسعهم ولا من أهدافهم فرض إرادتهم على المجتمع الامريكى لإزالة النظام الرأسمالي في نيويورك أو وقف دعم أمريكا لإسرائيل.. أو فصل فلوريدا وضمها إلى كوبا.. لم يكن هذا من أهدافهم ، ولكن لا يعنى هذا أنها " حرب محدودة" أو أنها لا تهدف إلى كسر إرادة الخصم.. هذا ابتذال للغة والفهم.
الحرب المحدودة- ونعلمكم ونأكل من عرق جبيننا- هو تعبير متداول بين العملاقين، أى الصراع في رقعة محدودة دون السماح للقوى المحلية أو لتطور الأحداث بجرهما إلى مواجهة شاملة، مثل الحرب في كوريا، وفيتنام، فهي حرب محدودة، ولكن ليس من جانب الكوريين ولا الفيتناميين .. ومثل الحروب العربية الإسرائيلية منذ 1967 .. فهذه حروب شاملة من وجهة نظر الفيتناميين والإسرائيليين – على الأقل – ولكنها حرب محدودة في إستراتيجية وممارسة الدولتين النوويتين .. فمعظم الحروب التي نشاهدها منذ نظرية " حافة الهاوية" هى حروب محدودة ولكن من وجهة نظر الكبار وبحساباتهم.

أما القول بأن فيتنام أرادتها حربا محدودة لكلا لا تجر روسيا والصين لمصادمة نووية مع الأمريكان، فهو نموذج للتفكير الى أضاع الوطن جريا وراء السلام العالمي ، لو كانت فيتنام تستطيع جر روسيا لضرب نيويورك بالقنابل الذرية لما بخلت بثمن أو فعل لإحداث ذلك.

وهكذا قبل أن ننتقل إلى الصفحة الثالثة في الكتاب نجد هذه الأخطاء والأضاليل.

1- خطأ في تعريف الحرب المحدودة تاريخيا واستراتيجيا .
2- خطأ في وصف حرب فيتنام بأنها حرب محدودة من جانب الفيتناميين.
3- خطأ فادح في الزعم بأن الفيتناميين اعتمدوا على المقاومة السلمية واستخدموا المقاومة المسلحة في نطاق ضيق " بالقدر الكافي".
4- خطأ في وصف نصر السويس بأنه أكمل من نصر فيتنام دون أن يذكر لنا وجها من وجوه النقص المزعوم في النصر الفيتنامي: هل وافقوا على تحييد ونزع سلاح فيتنام الجنوبية ووقف العمليات العسكرية أو غارات الفدائيين الفيتكونج عليها؟.. هل وافقوا على حرية الملاحة في خليج تونكين وتجميد الوضع عشر سنوات؟

هل تشاجر هوشى منه مع عامر جياب.. " اسحب الجيش وإلا أخليه "..

هل ضربت طائرات فيتنام على الأرض ودمر السلاح الجوى في يوم واحد وكان العدو ويقدر له ما يقل عن يومين؟

الاحترام واجب، حتى من مثل هذا الكاتب، للشعب الذي هزم الأمريكان وأذهلهم في أكبر بل وأول هزيمة عسكرية كاملة للولايات المتحدة في تاريخها الامبرطورى باعتراف الأمريكان أنفسهم.. بما فيهم أساتذتك.. وأخيرا ما الهدف من هذا الحديث" عن الحرب المحدودة" وأهدافها؟ هل مصر هى التي شنت الحرب على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل حتى نقول إنه انتصرت في تحقيق هدفها بمحدودية الحرب؟ من الذي شن الحرب على الآخر؟ وفق تحديده تكون " السويس" فعلا أكبر نصر إسرائيل لأنها كانت حربا محدودة وهى التي شنتها ولم تكن بنص عبارته تستهدف القضاء على عبد الناصر ولا كسر أرادته وإنما فك قبضته عن خليج العقبة وكسر سلاحه ..وقد حصل..

لقد أنصف هيكل خصومه عندما فسر حزنهم ونفورهم من الاحتفال بذكرى " حرب السويس" بأنهم يعتبرونها هزيمة من سلسلة الهزائم في المواجهة العربية – الإسرائيلية وهذا هو بالضبط التصنيف الذي يطرحه الرأي الآخر، وإن كنا نحن نعتبرها واحدة من أهم وأخطر هذه الهزائم، بل لعلها كانت الحاسمة رغم ما يبدو من بشاعة ونتائج هزيمة 1967 .. وكان المفروض إذن من مؤلف انتصار السويس أن يرد أو يفند هذه النقطة فيثبت أن حرب السويس لم تكن هزيمة مصرية في المواجهة العربية – الإسرائيلية لا أن يحدثنا عن انتصاراتنا في باندونج وحلف بغداد.. أو حتى أن يركز الحديث عن تأميم القناة وهزيمة العدوان الأنجلو – فرنسا، فلا أحد يجادل في انتصار عبد الناصر في معركة تأميم القناة ومواجهة الغزو الأنجلو – فرنسي وإن كان الجدل طويلا في أسباب وظروف هذا الانتصار.. وإنما السؤال المطروح وباعتراف الكاتب نفسه هو: هل انتصر عبد الناصر في المواجهة مع إسرائيل عام 1956..؟

ولذا فإن " الخلط المريب" هو الخلط بين قضية تأميم قناة السويس ومحاولة بريطانيا وفرنسا إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء والرجوع إلى منطقة الشرق الأوسط، التي أصبحت من حصة العملاقين النوويين، هذا من جهة وبين الغزوة الإسرائيلية كجزء من" المواجهة المستمرة" بين العرب وإسرائيل .

هما قضيتان منفصلتان وإن اجتمعتا في الزمان والمكان لفترة قصيرة شاذة في حساب الزمن، وخارج حركة التاريخ الطبيعية..

تأميم قناة السويس إجراء وطني مصري تمتد جذوره إلى منتصف القرن التاسع عشر منذ أن شق في قلب الوطن نموذج الاستغلال الامبريالي في أبشع صوره وكان التأميم إجراء وطنيا في مواجهة النظام الاستعماري القديم المنحدر من القرن التاسع عشر والذي لم يعد له مكان في النصف الثاني من القرن العشرين وفى الشرق الأوسط بالذات كجزء من عملية التحول التاريخ التي بدأت في الحرب العالمية الثانية، وهو زوال الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية كجزء من التصفية الشاملة التي كانت تتم على يد الثورة الجزائرية وحزب الاستقلال والملك في المغرب والبرلمان السوداني، والقصر والزعماء الفلسطينيين في الأردن وحاكم البوريمى السعودي، وإمام عمان، ومظاهرات الوطنيين ضد سلوين لويد في البحرين..الخ.

والغزوة الأنجلو- فرنسية ، لم تكن أكثر من عمل من خرج التاريخ، فيه كل رعب ومخاطر وسخافة الديناصور وحتمية هزيمته وانقراضه.

أما الغزوة الإسرائيلية وإن تمت تحت المظلة الأنجلو – فرنسية فكانت منعطفا جديدا ونقطة تحول ذات أبعاد حاسمة وشديدة الخطورة، قبلت موازين الصراع العربي- الاسرائيلى وحكمت السلوك العربي خلال العشر سنوات القادمة مما مهد بل حتم هزيمة 1967.

هذا ما أردنا توضيحه قبل أن نناقش معركة القناة ومعركة سيناء..

أما الحديث عن الانسحاب الأنجلو- فرنسي من بور سعيد وإحصاء دخل قناة السويس ثم تعميم ذلك للقول بأن " العدوان الثلاثي" لم يحقق أغراضه وأن عبد الناصر انتصر على الثلاثة.. فهذا ليس سياسة ولا تأريخا وإنما لعب بالثلاث ورقات في زاوية مظلمة من شارع الفكر السياسي العربي.

إسرائيل لا كانت في شركة قناة السويس، ولا كانت تريد إرجاع شكة قناة السويس ولا مصلحة لها في أن تكون قناة السويس محتمية بالمساهمين الإنجليز والفرنسيين ، وإسرائيل لم تكن تمر في قناة السويس في عهد الشركة الأجنبية.

ومنذ تاريخ سابق على انقلاب 23 يوليو.. فقد أصرت مصر ووافقت الشركة على أن القناة كممر مائي يخضع للسياسة المصرية تماما كمدخل خليج العقبة، ولم تستطع إسرائيل أن تمر لا في الخليج ولا في القناة قبل " الثورة" و " التحرير " حتى فتح لها عبد الناصر الخليج، وفتح لها رفيقه ونائبه السادات القناة.

استخدمت إسرائيل أزمة القناة، لتحقيق أهدافها الثابتة وتنفيذ مرحلة من مخططها الدائم، ونفذت ذلك بنجاح تام يكاد يصل إلى مائة في المائة، بصرف النظر عن طموحها الذي استعر عندما فوجئت باحتلالها ثمن الأراضي المصرية في ماشة ساعة.. فهي التي يحق لها أن تدعى النصر الكامل والأكمل في الحرب المحدودة.

لأن إسرائيل لم تكن تطمع في هذا الوقت في فرض إرادتها على عبد الناصر في القاهرة، ولا حتى في 1967 فكرت إسرائيل في عبور القناة وعندما سال الفرنسيون موشى ديان في عام 1956.. " هل لديك نية لعبور القناة؟ رد على الفور بالنفي.."

بل ونصحهم هو " بأن احتلال القاهرة يخلق تعقيدات سياسية يستحسن تجنبها" وفى عام 1967 هرع السادات فزعا لعبد الناصر يدعوه للانسحاب إلى الصعيد لأن بيانا عسكريا مصريا بعبور إسرائيل القناة فرد عليه عبد الناصر بلا مبالاة :" اقعد يا أنور.. إسرائيل لن تعبر ولا تريد العبور" ( انظر كتاب البحث عن الذات).

ولم يكن لإسرائيل في 1956 ولا في 1967 ولا في 1977 نية عقد صلح أو سلام مع مصر أو العرب قبل إتمام مخططها التوسعي بضم " كل أرض إسرائيل وملحقاتها". ولو عرض عبد الناصر عليها السلام في حرب السويس لرفضته لأن ذلك كان سيعرقل أو حتى يمنع مخططها في ضم الضفة والجولان وجنوب لبنان.. وأخيرا سيناء.ز بل لعل من أهداف حملة سيناء 1956 وأد المحاولات التي كانت تدور بخاطر الأمريكيين والإنجليز لإجراء تسوية للمسألة الفلسطينية تقوم على تنازل الإسرائيليين، فهم وحدهم كانوا الطرف المطلوب منه التنازل في هذا الوقت، مقابل القبول العربي بوجود " الكيان" الصهيوني.. ومنذ النصر الاسرائيلى في سيناء 1956 انتهى أي حديث عن القدس الجديدة أو المشاركة في ميناء حيفا، أو إعادة صحراء النقب للعرب أو مشروع تقسيم 1947 أو حتى ما احتلته إسرائيل من المناطق المنزوعة السلاح.

وصحيح أن سيناء هى أهم هدف توسعي إسرائيلي ولكنها أيضا وربما لهذا السبب، آخر هدف يتحقق.

وبعد سلسلة استنزاف للقدرة العربية، وتصفية الدور المصري والإمكانات المصرية إلى الصفر، وهذا لا يتحقق إلا بسلسلة هزائم عسكرية وسياسية كانت السويس واحدة منها كما كانت حرب وهزيمة 1967.

وإسرائيل تقبل مرغمة، الانسحاب من سيناء أكثر من مرة ولكنها لا تتخلى أبدا عن هدفها في ضمها فهي وحدها التي تكفل تحولها إلى إسرائيل الكبرى.

والغريب أن هذا الفهم كان واضحا عند العسكريين السوريين في وقت مبكر جدا فقد جاء في مذكرات بغدادي أنه في الأسبوع الثاني من أكتوبر 1955 حضر إلى منزل جمال عبد الناصر سعيد الغزى رئيس وزراء سوريا واللواء شوكت شقير رئيس هيئة أركان حرب الجيش السوري وكان الأمير فيصل بن عبد العزيز حاضرا( والبغدادي طبعا) وقال لجمال إن إسرائيل لو أحبت أن تتوسع أو القيام بعمليات حربية فإنها في هذه الحالة تفضل أن يكون التوسع على حساب سوريا أو لبنان" فرد عليه شوكت شقير:" إن إسرائيل لن تقوم بهذه العمليات إلا لهدف وهذا الهدف هو إجبار الدول العربية على الصلح معها.

وهى إن احتلت دمشق ذاتها فهي تعلم أن هذا لم يجبر الدول العربية على الخضوع لها وطلب الصلح معها، ولكنها تعلم أنها لو هاجمت مصر ودحرت جيشها، وهو أقوى جيش عربي، ففي هذه الحالة فقط يمكنها فرض شروطها على الدول العربية".

واللواء شقير معذور في تقليله أهداف إسرائيل إذ ظن أنها لا تريد أكثر من فرض الصلح وهو كان يتحدث قبل هزيمة 1956 عندما لم يكن يخطر ببال عربي أن إسرائيل تطمح في أكثر من الاحتفاظ بما حصلت عليه.

إلا أن اللواء عبر عن فهم سياسي متقدم ولو أنه يبدو بديهيا ، غير ان القيادة المصرية – لأمر ما – غفلت عنه، وقد رد عبد الناصر على اللواء بقوله:" إن إسرائيل اليوم تفكر بدلا من المرة عشرات المرات قبل أن تقدم على مهاجمة مصر لعلمها بقوة جيشها ومدى استعداده وهى الآن لن تقامر على كيانها".

واضح أن الحديث كان يدور حول الكيان ذاته وقد تأدب الجالسون فلم يشيروا إلى الهجوم الذي شنته إسرائيل على مصر قبل أربعين يوما فقط من هذا الحديث المملوء " ثقة" بالنفس..

ووافق السوريون على عقد اتفاقية عسكرية مع مصر لمنع إسرائيل من " المقامرة على كيانها" بالهجوم على سوريا التي أصبحت محمية بالجيش المصري، ولكن البغدادي الخبيث يقول: " ولم تمض فترة طويلة على توقيع تلك الاتفاقية العسكرية بين سوريا ومصر، حتى أراد بن جوريون- على ما يظهر- أن شكك سوريا في قيمة هذه الاتفاقية فدفع بقوة عسكرية من الجيش الاسرائيلى لمهاجمة بعض مواقع عسكرية للجيش السوري قرب بحيرة طبرية حوالي منتصف شهر ديسمبر 1955، وقد قتل في هذا الهجوم حوالي خمسين جنديا سوريا، وقامت مصر بإبلاغ سكرتير هيئة الأمم.. إن أي اعتداء ( ثاني) على سوريا..الخ".

المعزوفة المعروفة والتي لم تطبق أبدا. .

باختصار إن أي دراسة جادة تحتم الفصل بين معركة تأميم القناة ومعركة سيناء ولو أن هذه الدراسة الجادة أجريت في 1957 وواجهنا نتائجها بشرف ومسئولية، ربما لتجنبنا كارثة 1967 بل ونكبة الانفصال وخطيئة حرب اليمن، ولدخلت المواجهة المصرية- الإسرائيلية ومن ثم المواجهة العربية – الإسرائيلية مرحلة جديدة لصالح العرب.
ولكن التزوير الذي جرى عمدا في 1957 بدق طبول النصر المزعوم يراد له أن يستمر اليوم من أجل المزيد من التخبط والتدهور في تلك المواجهة المصيرية والأبدية بل إن التزوير يمتد إلى ظروف معركة تأميم القناة بإخفاء الدور الامريكى الحاسم في هزيمة المخطط الأنجلو – فرنسي.

نحن إذن ، نرفض " الخلط التام" كما نرفض البهلوانية بالحديث عن انتصارات هوائية.. وإنما نحصر الموضوع في قضيتين : القضية التي طرحها هيكل وهى: المواجهة العربية – الإسرائيلية.. والقضية الثانية هى تأميم القناة والغزو الأنجلو – فرنسي.. وهذا ما سنناقشه بالتفصيل.. ولكن لنبدأ باستعراض المنطق الناصري كما يقدمه هيكل الذي ما زال يحتل مركز المفلسف والمنظر لهذا المنطق رغم الجهود المنافسة لدكاترة الجامعة الأمريكية.

يقول:" إن جوائز الحرب كانت ثلاثا: قناة السويس وفى يد من هى ؟ وصحراء سيناء وفى يد من هى؟ وقطاع غزة وفى يد من هو؟ وبعد انتهاء المعارك كانت هذه الجوائز كلها في يد مصر.. القناة سليمة تحت سيطرتها وإرادتها وصحراء سيناء جزء من سيادتها وقطاع غزة أمانة في عهدتها، وإذن كان انتصارها كاملا".

وهذه الجوائز بالطبع ونتائجها هى من إعداد مؤسسة هيكل للتصنيع وتعبئة التاريخ. وليست جوائز الحرب.

الهدف الأول كما قلنا لا يجوز خلطه بموضوع التحدي الذي طرحه وهو هل كانت " حرب السويس " هزيمة في سلسلة الهزائم في المواجهة العربية- الإسرائيلية وسنناقشه بالتفصيل..

أما عن المواجهة فإن هدف إسرائيل كان الآتي:

1- فتح مضيق تيران أي خليج العقبة للملاحة الإسرائيلية.
2-تدمير السلاح السوفيتي الجديد.
3-تحطيم القدرة العسكرية المصرية ونقل الوضع العربي من تصور القدرة على إزالة إسرائيل ووضع المطالب باستئناف الحرب العربية- الإسرائيلية التي توقفت في عام 1949 إلى وضع الدفاع واستبعاد فكرة الهجوم على إسرائيل .
4-نزع سلاح قطاع غزة ومنع النشاط الفدائي منه.
5-تحييد مصر عسكريا لأطول فترة ممكنة حتى يتم استعداد إسرائيل لمعركة " الإمبراطورية" الإسرائيلية فحرب 1956 كانت كما وصفتها جولدا مائير " حرب الوجود" أما حرب 1967 فهي حرب " حق الهيمنة" .. كانت إسرائيل تحتاج هذه الفترة حتى تصبح المبادرة في يدها فتحدد هى زمان ومكان وصيغة المعركة.

ونحن نزعم وعلينا البينة أن الأهداف تحققت بالكامل، وأن القيادة المصرية هزمت في هذه المواجهة بالكامل.. بل وإن عبد الناصر نفسه هو أول من أدرك هذه الحقيقة يوم طاف وهو يبكى بين حطام الجيش المصري على شاطئ القناة في نوفمبر 1956 وأراح رأسه على كتف " عبد اللطيف بغدادي" وهو يردد بالإنجليزية " هزمني جيشي" .. فهل يريدنا هيكل أن نصدقه ونكذب عبد الناصر؟

منذ صفقة السلاح الروسي، والإسرائيليون يستعدون للحرب ضد مصر، ويقول موشى ديان إنه خطب في جنوده في أبريل 1956 فقال لهم: " ليس لدينا صفقة سلاح تشيكية ولا بريطانية ولا أمريكية .. فالبلاد التي لديها السلاح ترفض التعامل معنا ومع ذلك فهناك أمة واحدة نستطيع أن نعقد معها صفقة رابحة.. هى أمة إسرائيل .. إن ما نحتاجه هو صفقة إسرائيلية يمكنها أن تكشف القوة الدفينة لشعبنا"

ويقول إنه كان يعد خطة لاحتلال غزة لتصفية النشاط الارهابى (الفدائيون) وفتح خليج العقبة من نوفمبر 1955 ولكن مبعوث الرئيس الامريكى كان في ذلك الوقت يفاوض عبد الناصر وبن جوريون ولذلك طلب منه بن جوريون وقف الخطة حتى يناير 1956".

ولم يكتف موشى ديان بالطبع بعقد صفقة مع الروح المعني في إسرائيل بل نجحت جهودهم في عقد صفقة مع فرنسا في نهاية 1956 للحصول "على سلاح يمكننا من مواجهة نوعية السلاح المصري الجديد إن لم يكن حجمه" فالتسليح الفرنسي والاستعداد الاسرائيلى سابق على تأميم القناة ، لأن إسرائيل تعيش فعلا هذه المواجهة الدائمة العربية – الإسرائيلية وتتحين الفرص لضرب ضربتها، وتوظيف كل حدث لمصلحتها في هذه المواجهة، أما نحن فنتحدث عنها فقط في الخطب وندعو الله ليل نهار أن يجنبنا إياها فلا يستجاب لنا دعاء.

ويقول:" لم يكن بن جوريون مفتونا بفكرة ضم قطاع غزة أو شبه جزيرة سيناء، بل كل ما كان يريده هو السيطرة على الساحل الغربي لخليج العقبة ومضيق تيران أي شرم الشيخ فلو فتح المضيق للملاحة الإسرائيلية لأصبحت إيلات ميناء كبيرا وهذا يعنى الحياة لكل النقب".

وقبل سفر الوفد الاسرائيلى إلى فرنسا للاتفاق على الحملة أبلغهم بن جوريون بالتوجيه التالي:

1- إسرائيل لن تشن حربا بمفردها.
2- هدفنا هو السيطرة على الشاطئ الغربي لخليج العقبة. لضمان الملاحة الإسرائيلية في الممر المائي وربما نفكر في نزع سلاح شبه جزيرة سيناء ولو تحت إشراف قوة دولية".

وقال الفرنسيون لليهود" إذا ما سيطرتم على مضايق تيران فيمكنكم مد خط أنابيب من إيلات إلى البحر الأبيض".

وهو ما حدث بالضبط بعد الحرب. ومن ثم يمكن القول بأن انتصار إسرائيل كان كاملا.

وعشية الغزو حدد اليهود أهدافهم: " بالنسبة للهدف النهائي للحملة، فإن أهدافنا كانت واضحة كان غرضنا احتلال شبه جزيرة سيناء وإزالة القوات المصرية ، وهذا سيضمن لنا حرية الملاحة إلى إيلات، وتحييد التهديد المباشر لإسرائيل من قبل الجيش المصري ويوقف العمليات الإرهابية من قطاع غزة".

وقد تحقق ذلك بالكامل:

1- احتلوا شبه جزيرة سيناء خمسة شهور.
2- أزالوا التهديد العسكري المصري بتدمير الجيش المصري وصفقة السلاح الروسي.
3- ضمنوا حرية الملاحة إلى إيلات ومن إيلات .
4- أوقفوا العمليات الفدائية من قطاع غزة.
5- نزعوا سلاح سيناء فعليا، بوضع البوليس الدولي الذي جمد الحدود من الجانب المصري عشر سنوات.

ويقول : " نحن أيضا كنا نتمنى أن يحل نظام جدي محل عبد الناصر يصنع علاقات سلام مع إسرائيل ولكن هذا لم يكن جزءا أساسيا من أهدافنا العسكرية التي ستحقق حتى لو بقى ناصر في السلطة".

ونحن نضيف ولا حتى كان من أهدافهم أو أمانيهم السياسية في تلك المرحلة ، لأن أي سلام مع إسرائيل في هذا الوقت كان سيصادر طموحها ومخططها التوسعي، ومندوب الرئيس الامريكى الذي كان يفاوض بن جوريون في هذا الوقت- كما أشرنا- كان يبحث في إعطاء ممر برى بين مصر والأردن في صحراء النقب لا الحدود الآمنة وتعديلات في صميم الأرض المصرية والأردنية والسورية كما سيطرح بعد عشر سنوات.

ولخص موشى ديان نتيجة الحرب بقوله:" ولقد تحققت أهداف إسرائيل الثلاثة من الحملة:

حرية الملاحة الإسرائيلية في خليج العقبة، نهاية الإرهاب الفدائي.. تجميد خطة الهجوم المشترك المصري- السوري- الأردني على إسرائيل وقد قبل عبد الناصر مبدأ حرية الملاحة من وإلى إسرائيل . وقبل وضع حد للإرهاب ضدها".
ويقول هيكل نفسه " نقلا عن مذكرات موشى ديان عن معركة سيناء" ( ولاحظ أن هذه هى المرة الوحيدة ا لتى وردت فيها سيناء بدون صفة " صحراء" في كتاب هيكل والسبب هو أمانته في النقل عن موشى ديان الذي لا يمكن أن يقول عن جوهر الشرق الأوسط " صحراء" كما يفعل الأمين على الناصرية ) إنه قابل بن جوريون في اليوم التالي لعودته من باريس وعقد معه اجتماعا طويلان ثم يقول ديان" وفى نهاية الحديث صدر إلى الأمر بأن أكون مستعدا للاستيلاء على تيران لتأكيد حرية الملاحة الإسرائيلية في خليج العقبة والبحر الحمر".
ويشعر هيكل أن هذا النص ينسف دعواه عن " الجوائز" فيهرع إلى وثائق بن جوريون التي أصدرها باروزهار سنة 1968 ليثبت أن " دافيد بن جوريون طلب في نفس الاجتماع مع ديان، أن تكون هناك خطط إضافية لاحتلال قطاع غزة وللسيطرة العسكرية الكاملة على سيناء".

موافقون

ولكن ماذا يعنى ذلك؟

يعنى أن الأمر الصادر بتحديد هدف الخطة أو " الحرب المحدودة" هو فتح خليج العقبة والبحر الأحمر للملاحة الإسرائيلية لا إسقاط عبد الناصر ولا إقامة حكومة موالية في القاهرة ولا فرض التسليم بلا قيد أو شرط، ولا حتى ضم سيناء وكل هذا وارد في الخطة كما قلنا ولكن في حينه.
الإضافة التي وردت في رواية " باروزهار" طبيعية ومنطقية جدا.. فإن احتلال تيران وفتح الملاحة في خليج العقبة لإسرائيل مهمة تختلف كثيرا عن عملية مطار " عنتيبى " ضد عيدي أمين، أو تدمير طائرات طيران الشرق الأوسط في مطار بيروت.. إذ لابد من حسبان المقاومة المصرية، الأمر الذي يستلزم تصفيتها أولا، قبل الاطمئنان لفتح الملاحة.

وهذا يعنى احتلال غزة وتحطيم القوة المصرية العسكرية في سيناء.. حتى تصبح تحت السيطرة الإسرائيلية أو على الأقل يزول تحكمها للملاحة في خليج العقبة.

وقد فازت إسرائيل بهذا الهدف الكامل الذي حدده بن جوريون قبل تأميم القناة وحرب القناة بعام كامل.

وهيكل ينسى كذبه ولذا يعود ويقر بعضمة لسانه أن هدف إسرائيل لم يتجاوز فتح خليج العقبة يقول:" كانت إسرائيل – كما رأينا- قد قررت وحسمت واستدعى بن جوريون تلميذه وصفيه موشى ديان من أجازة في باريس وطلب إليه أن يتولى رئاسة أركان حرب الجيش الاسرائيلى ووضع خطة للهجوم على سيناء بقصد احتلال شرم الشيخ وفتح خليج العقبة".

هذا هو هدف حملة 1967 إلى جانب ما ذكرناه من أهداف أخرى. أما اختراع هدف لإسرائيل وهو " ضم سيناء" ثم الصياح بأننا انتصرنا لأنها انسحبت والسكوت على مكاسبها الأخرى فلا يشار إليها بحرف، فهو تضليل وتهريج.. والغريب أنه يصدر من نفس المدرسة التي تردد أن استرداد سيناء بعد 1967 لم يكن مشكلة ولا انتصارا لأن إسرائيل كانت دائما مستعدة لإرجاعها .. كيف تكن إسرائيل غير راغبة في ضم سيناء أو غير قادرة على هذا الضم في مرحلة الإمبراطورية وتتطلع لذلك في 1956 ..؟ وقد قامت مصانع هيكل لفبركة التاريخ ، بإصدار طبعة معدلة من أهداف " بن جوريون".

وإليك ملاحظتنا عليها:

الهدف كما أورده هيكل :

ضرب قواعد الفدائيين في سيناء

النتيجة :

تحقق بالكامل ومن 1956 إلى 1967 لم يقع حادث واحد من سيناء ضد إسرائيل .

الهدف كما أورده هيكل:

العمل على تفريغ سيناء بما يؤدى إلى إنهاء خطر أي هجوم مصر محتمل. أي تجريد سيناء من السلاح حسب تعبير بن جوريون.

النتيجة:

تحقق عمليا بقبول عبد الناصر وضع البوليس الدولي على الحدود، فانتهى خطر أي هجوم مفاجئ مصري ، إذ أصبح على مصر أن تطلب سحب البوليس الدولي وإخطار الأمم المتحدة أو طوب الأرض أننا سنحارب ولا يهم عندئذ إن كان الجيش في العريش أو القنطرة فقد زال عنصر المباغتة.

الهدف:

فتح خليج العقبة:

النتيجة:

تحقق بالكامل .

الهدف:

تأمين مشارف إيلات بالسيطرة على منطقة طابا.

النتيجة : كأنه يتحدث عن أهداف كامب ديفيد هذا الهدف غير مفهوم. فما دام البوليس الدولي عند مدخل ومخرج الخليج.. المفتوح للأسطول الاسرائيلى فما أهمية طابا؟ وعلى أية حال حصلت على طابا ومشارف إيلات إلى قناة السويس في الغزوة الثانية 1967.

الهدف:

طرد مصر من قطاع غزة وعدم السماح بعودتها.

النتيجة :

تحقق عسكريا أي وجود أو استخدام عسكري للقطاع أما عن الحكم المصري وعودته، ففي النفس شيء حول حقيقة هدف إسرائيل هل كانت فعلا في هذا الوقت تريد القطاع بربع مليون فلسطيني؟.. على أية حال اقرأ ما كتبناه في هذا الموضوع وكيف أجبر شعب غزة التاريخ على العودة للوراء فأعاد مصر للقطاع إلى أن تمكن منهم ناصر وسلم القطاع مرة أخرى لإسرائيل في 1967.

الهدف:

تحطيم وحدة المعسكر العربي بضرب مركز مصر.

النتيجة:

في اعتقادنا أنه تحقق إلى حد كبير جدا لأن عبد الناصر رفض أن تكتب ههذ الوحدة بالدم والسلاح محاء الخطايا وموحد الأمم، بل فضل المشاعر فسهل التزييف، واستمر العملاء في السلطة وعلى السطح..
ونظرة إلى العالم العربي في سنة 1959 مثلا وواقعه عام 1955 نرى أن هذه الوحدة فعلا تمزقت.. ولا يجوز بسبب فشل حملة ايدن أن نقلل من أهمية تصريحه عندما سئل ماذا تحقق بحرب السويس فقال:" منعنا الوحدة العربية" إنه تصريح بحاجة إلى دراسة ثانية.

الهدف:

إسقاط الطاغية.

النتيجة:

لم يتحقق.. وإذا كنا نعتقد أنه كان للدعاية وتبرير الحرب، تماما كما ادعى كل استعماريي أوربا، أنهم غزوا بلادنا لمحاربة الفساد وتخليصنا من حكم الطغاة.. وما مكنهم من بدنا إلا هؤلاء الطغاة، ولا مكن الطغاة في بلادنا إلا هؤلاء الغزاة.. وبن جوريون يقول:" إن تغيير النظام لم يكن جزءا أساسيا من أهدافنا العسكرية بل ويؤكد أنه سيحقق هذه الأهداف حتى لو بقى عبد الناصر في السلطة ( ص 153 كلمتي للمغفلين) وهيكل قال في موضع آخر من ملفاته إن " شيمون بيريز" حدد أهداف إسرائيل في غزوة 1956 بقوله:" إن سويسنا هى إيلات، ثم إن عمليات تقوم عليها إسرائيل سوف تكون بهدف فتح الممرات الملاحية ص 482 ع.

أي لا إسقاط الطاغية ولا شرب الطافية..

على أية حال لو كانت إسرائيل أرادت فعلا إسقاط عبد الناصر في 1956 ، فحقا إن بنى إسرائيل يثابون رغم أنوفهم.. وهم يظنون بالله ظن السوء .. ولو علموا الغيب لاختاروا الواقع.. فلو تحقق هدفهم في 1956 وحكم مصر فؤاد محرم أو موشى ديان أكانت إسرائيل ستحقق بعد عشر سنوات أفضل مما حققته بفضل استمرار الطاغية في الحكم؟

لسوء حظ العرب وحسن حظ إسرائيل أن الطاغية لم يسقط فسقطت سيناء والجولان والضفة.. ولم يبدأ استرجاع بعضها إلا بعد موته بثلاث سنوات.

نعود لهيكل الذي يستعرض لنا انتصارات " حرب السويس"

يقول هيكل:" كانت حرب السويس تجربة هائلة من تجارب العمل القومي العربي وقدرته وإن من غير تنسيق مسبق بين الأطراف" ولأننا تعاطينا جرعات هذا الإعلام الناصري فتخدرنا بمثل هذه الجمل الإنشائية من مدح الذات والرضا عن النفس وهدهدة الأطفال جلبا للنعاس بالخرافات ، فقد ظل العمل العربي إلى اليوم يفتخر بأنه يمر بتجارب هائلة من غير تنسيق مسبق وبمجرد الفزعة البدوية ومحاولة القفز في القطار أو القيام بأي عمل لإثبات الوجود وتبرئة الضمير أو التنفيس عن الوطنية الحقيقية.

والدليل أن مؤرخ النصر لم يجد مثلا يضربه عن الوقفة العربية المساندة لمصر إلا نسف مجموعة السراج لخط الأنابيب البريطانى وهو عمل مجيد بلا شك ولكن مجموعة أنصار جورج حبش نفذته بعد ذلك ولكن الخط الآخر وأثبتت أنه لا يحتاج لأكثر من مجموعة فدائية ولا يمكن أن تنحصر فيه مساندة دولة عربية في حجم سويا، ومواقعها- وقتها- في الجولان كانت تمكنها من إنزال ضربة موجعة إن لم نقل قاصمة بإسرائيل التي قذفت بكل جيشها إلى سيناء ولم تكن قد أصبحت بعد المارد الذي يحارب على ثلاث جبهات..

إن هيكل كثير الصخب حول ضربة نسف أنابيب النفط، ليس حبا وعرفانا لدور السراج .

فما ناله السراج على يد هيكل والنظام الناصري يضيف صفحات مرعبة لملحمة العزيز سنمار.. ولكن في عام 1982 يتفضل هيكل على عبد الحميد السراج في محنته بإعلان أن :" السراج كان مضبوطا على نفس موجة عبد الناصر".

ولكن هذا المضبوط انفرط عقده فور أن دخل في الفلك الناصري وألغيت كل سلطاته وحول إلى " طرطور" في القاهرة كما سنرى وعزل عن قواعده في سوريا وهو الذي كان يحكمها بقبضة حديدية ، انتهى به الأمر بسبب هذا الانضباط إلى أن اعتقل وأهين على يد ضباط الانفصال الذين كانوا يرتعدون من مجرد التفكير في تحديه قبل أن يطحنه النظام الناصري..

فالإشادة بنسف الأنابيب ليست تحية للسراج، وإنما الصخب هنا هو لإخفاء سؤال رهيب يطل برأسه بين الحين والحين، وسيظل يطل برأسه ينشد الجواب الصريح مهما بدا أن الإعلام الناصري قد نجح في كتم أنفاسه إذ لم يطرح أبدا على بساط البحث الجاد.. ولم تعرف الإجابة السليمة عليه.

ذلك السؤال هو: لماذا أمرت القيادة المصرية الأردن وسوريا بعدم دخول الحرب؟ لنرجع قليلا إلى الوراء :

منذ عام 1953 قام تحالف مصري – سعودي وثيق كان تطورا نشطا وأكثر فعالية للتحالف المصري السعودي الذي تم بين الملكين الراحلين عبد العزيز وفاروق منذ عام 1946 والذي مكن من قيام الجامعة العربية، ووحدة الموقف العربي، بصرف النظر عن النتائج- حول قرار تقسيم فلسطين والحرب العربية – الإسرائيلية الأولى.. وقد تطور هذا التحالف في ظل الملك سعود والقيادة المصرية الجديدة لحركة 23 يوليو بحيث أصبح أكثر تركيزا على تصفية الوجودين البريطانى والفرنسي من المنطقة..

وإذا كان الفرنسيون قد قبضوا في خلال 24 ساعة على باخرة مصرية تحمل السلاح للجزائر ( الباخرة آتوس) وعلى شيك سعودي بعشرة ملايين دولار مع مجموعة بن بيلا عندما أنزلت طائرتهم واعتقلوا.. فإن التحالف المصري- السعودي كان أكثر وضوحا في شرق البحر الأبيض أو المشرق العربي ضد بريطانيا حيث العدو التقليدي والمباشر للسعوديين والمصريين.. وكانت المملكة على خلاف بل وصدام مع الإنجليز سواء من خلال العرش الهاشمي في العراق، والملك عبد الله في الأردن ، أو بالعدوان البريطانى على البوريمى السعودية.. وجميع حدود المملكة مع جيرانها الخليجيين .. بينما كانت مصر بالطبع في صدام مسلح مع الإنجليز في مصر وصراع في السودان، وخلاف تقليدي بين القاهرة من ناحية، وبغداد وعمان من ناحية أخرى..

أما سوريا التي ظفرت باستقلالها حديثا من فرنسا بمساعدة بريطانية ، ونفوذ بريطاني في السنين الأولى، فقد تحولت إلى أرض الصراع لشتى القوى في المنطقة بين شركة نفط العراق وشركة أرامكو حول مد أنابيب النفط إلى البحر، وبين العراق والسعودية، وبين مصر والعراق.. وبين بريطانيا وفرنسا..

واستطاع الذهب السعودي والإعلام الناصري أو كما يقول سلوين لويد مشوها:" إن رياح القومية العربية التي تهب من مصر تفوح منها رائحة الذهب السعودي ؟.. استطاعا أن يوجها الموجة القومية والوطنية، الأصيلة في عدائها للاستعمار البريطانى والجادة في التحرر من هذا الاستعمار، استطاعا توجيهها لكيل الضربات لهذا النفوذ، فتمت حماية سوريا من مؤامرات نورى السعيد- البريطانيين وتم طرد غلوب من الأردن، وقيام حكومة ناصرية في عمان وتطويق ثم هزيمة حلف بغداد، واى تأريخ لتلك الفترة يحاول إنكار المساهمة السعودية الفعالة في تحقيق هذه الأهداف، هو تزوير مفضوح للتاريخ، في اعتقادنا لا ينجم فقط عن نكران الجميل ولا الرغبة في إبراز الدور الخاص، ولا لتبرير الافتراءات والتطاول على الملك الراحل سعود، بل وأيضا لسبب آخر لا يقل أهمية ويتعلق بفهم " طبيعة" هذه المرحلة وحقيقة التيارات والمصالح التي حكمت التحرك الناصري فيها ووفرت له النجاح وهو ما سنشرحه بالتفصيل وبالصراحة الكاملة في موضعه.

المهم أنه نتيجة هذه الجهود، بدأ يتشكل حلف سعودي – مصري – سوري – يمنى.. وركز جهوده على جذب الأردن.. بعيدا عن العراق الذي وقع حلف بغداد مع تركيا في 24 فبراير 1955 وانضمت إليهما بريطانيا في 4 أبريل 1955 ثم تبعتها إيران وباكستان ( يوليو وأكتوبر).

ففي أول مارس 1955 وقع في دمشق اتفاق مصري – سوري وفى 6 مارس 1955 أيدت السعودية الاتفاق المصري – السوري وأعلن عن تشكيل قيادة عسكرية مشتركة للأقطار الثلاثة.

وفى 27 أكتوبر 1955 وقعت اتفاقية لتوحيد القيادة العسكرية بين مصر والسعودية.

وفى 12 مارس اختتم مؤتمر ثلاثي في القاهرة بين عبد الناصر والملك سعود وشكري القوتلى، دام أسبوعا، وصدر بيان مشترك بإقرار جميع الإجراءات الضرورية لإقامة جبهة موحدة ضد إسرائيل ، وشجب حلف بغداد " لأنه يضعف الموقف العربي" وتقرر إرسال مبعوث عن المؤتمر إلى الملك حسين مع عرض بدفع قيمة المعونة البريطانية لتأكيده)..

ويقول سلوين لويد وزير خارجية بريطانيا وقتها إن " الحملة ضد غلوب في الأردن كان يقوم بها عملاء ناصر والسعوديون" وإن " إخراج غلوب قد تم بالدعاية المصرية، ومال الملك سعود".

وفى ابريل 1956 وقعت الاتفاقية المصرية- السعوديةاليمنية.. وأقرضت السعودية عشرة ملايين دولار لليمن . " ,أعلنت الحكومة المصرية ترحيبها بالحلف كضربة لبريطانيا وجزء من خطة طرد البريطانيين من شبه الجزيرة العربية.

واعترف خروشوف أنهم ( الروس) يبيعون سلاحا لليمن" ويتكلم هيكل بنفس لهجة سلوين لويد عن استغلال مصري للسعوديين فيقول:" إن عبد الناصر استعان بالأسرة الملكة السعودية ضد حلف بغداد" ويكتفي بهذا النطق السامي دون تفسير .

و يقول لنا إذا كانت معركة حلف بغداد هى أبرز منجزات السياسة الناصرية الثورية ضد الاستعمار الامريكى وشركاه فكيف قبلت الأسرة السعودية- واتهامات هيكل لها معروفة- أن يستعان بها في تحقيق هذا الانجاز الثوري التاريخي؟

ويشهد بغدادي أنه في أكتوبر 1955 طلب الأمير فيصل بعبد العزيز تشكيل لجنة عسكرية مصرية- سعودية لشراء أسلحة للمملكة من دول الكتلة الغربية كما يشهد بغدادي أن الرئيس شمعون وسط عبد الناصر لدى السعودية لوقف الحملة عليه في صحف لبنان.

ولكن فيصل ( بن عبد العزيز) قال إن شمعون " انجليزي" ويعمل على تنفيذ سياسة الإنجليز".

في أول مارس 1956 طرد " غلوب" باشا أو الحاكم الفعلي البريطانى للأردن وقائد الجيش الأردني القصة معروفة حول وصول خبر الطرد أثناء مأدبة العشاء لسلوين لويد في القاهرة مع عبد الناصر وعامر.. واندفع المد الوطني العربي في الأردن فاستقال الوزراء الفلسطينيون الأربعة خلال زيارة الجنرال تمبلر للأردن، وهى الزيارة التي كانت آخر محاولة من بريطانيا لإقناع الملك حسين بالانضمام إلى حلف بغداد وسجل سلوين لويد في مذكراته عن الوزراء " ومن المعتقد أنهم تلقوا رشوة ضخمة من السعوديين". . وأن الملك حسين قد " أحاط به قرناء السوء".

في 10 مارس عرض نورى السعيد على سلوين لويد تنفيذ انقلاب في وسريا إذا ما حصل له على ضمانة بعدم تدخل تركيا أو إسرائيل .. وحصل له سلوين لويد على وعد بذلك من تركيا وإسرائيل وكان الموعد المحدد لتنفيذ الانقلاب هو الفترة بين 30 سبتمبر و 15 أكتوبر 1956.

ووصل المد الوطني في الأردن إلى ذروته بإجراء الانتخابات وفوز حكومة سليمان النابلسي بالأغلبية الساحقة، وقيام مجلس نيابي ناصري- سعودي، وتوقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر وسوريا والأردن، ووضعت القوات العسكرية الثلاث تحت تصرف القائد المصري عبد الحكيم عامر، فهو الذي يأمرها بدخول الحرب ويوجه تحركاتها العسكرية تماما كأنها جيش واحد.

ولا شك أن هذه كانت أعلى مرحلة في التضامن العربي، والتنسيق العربي العسكري، ولكن هيكل لا يشير إليها أبدا في سجل الانتصارات ، بل يقفز عليها للحدي عن نسف " ماسورة " النفط، ولأمر ما ، جدع قصير أنفه، واشترت المرأة السمسم غير المقشور بالمقشور..

اكتفى هيكل بإشارة غريبة إلى هذا الاتفاق، وإلى الهدف الذي كان يرجى منه عندما قال أن السراج " كان يأخذ ميثاق الدفاع المشترك والقيادة المشتركة بين مصر وسوريا والأردن، وهو اتفاق وقع قبل العدوان الاسرائيلى بأيام قليلة مأخذ الجد".

العفو ما هو كان " صغير" وربما لم يكن قد انضبط – بعد- على كل الموجات العاملة مع القاهرة.

ويقول إنه اكتشف في سوريا خطة سرية " لعمل انقلاب في سوريا يتوافق مع غزو مصر، وكان هدفها أن تمنع اشتراك الجيش السوري في المعركة مساندا لمصر، إلى جانب الهدف الدائم وهو السيطرة على قلب دمشق" ولكن الخطة اكتشفت وأحبطت.

المؤامرة صحيحة وقد اعترف بها سلوين لويد وغيره ولكن هل صحيح أدى كشفها إلى إحباط الهدف؟ وهو منع الجيش السوري من الاشتراك في المعركة؟

هل اشترك الجيش السوري في المعركة؟

ومن الذي منعه؟ ليس نورى السعيد ولا حلف بغداد ولا الرجعية.. بل أمر صريح من عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المشتركة المصريةالسوريةالأردنية.

لماذا ؟

ويمكن لأي قارئ ملم بأوضاع تلك الفترة أن يقدر مدى التحول في الموقف الذي كان يمكن أن يحدث لو أصدر عبد الحكيم عامر أمره للجيش الأردني والسوري بالهجوم على إسرائيل خلال استغراق جيشها في أضخم حرب واجهته منذ قيام إسرائيل ، وهى غزو سيناء التي تعادل مساحتها ضعف مساحة إسرائيل ، فالجيش الأردني كان بشهادة الجميع وقتها، عالي الكفاءة من الناحية العسكرية، ومتفجر الوطنية شديد الرغبة في غسل عار معارك 1948 والاتهامات التى كيلت له بسبب خيانة قادته الإنجليز، والجيش الأردني، كما يذكر المعمرون- كان وقتها على بعد طلقة مدفع من البحر ويستطيع أن يقسم إسرائيل إلى شطرين بطابور دبابات وتأملوا الخريطة.. والجيش السوري كان لا يزال بكرا لم تمزقه الانقلابات والمؤامرات والحزبية، ومواقعه في الجولان كانت تعطيه تفوقا ساحقا اعتبر أنه غير قابل للهزيمة " عسكريا" .. وكان السلاح الجوى الاسرائيلى ما زال في بدايته.

نتمنى أن يذكر لنا ناصري واحد ما الخسائر المحتملة عسكريا أو سياسيا التي أراد القرار المصري تجنبها بمنع الأردن وسوريا من فتح جبهتين ضد إسرائيل في عام 1956 والتي لم تكن محتملة في 1967 عندما طلب منهما الدخول رغم اختلاف الظروف تماما بحيث كان المكسب في 1956 محتملا والخسارة في 1967 مؤكدة بعد ضربة الطيران المصري ..؟ ألا يذكرنا هذا بسؤال مايلز كوبلاند عن " اللغز" في إحجام عبد الناصر عن الحرب مع توافر عوامل النصر، والانجرار إليها إذا كانت الخسارة مؤكدة؟

من الناحية العسكرية كان الوضع أفضل بالنسبة للعرب في 1956.

من الناحية السياسية كانت إسرائيل معتدية باتفاق العالم كله لأول وآخر مرة وبقرار إدانة امريكى، وكانت مصر وسوريا والأردن أعضاء في قيادة مشتركة تلزمهم جميعا بالحرب إذا ما اعتدى على أحد الأطراف الثلاثة، ومن ثم لا لوم ولا مؤاخذة دولية.. بل إعجاب وزرع لهيبة العرب على المستوى الدولي، وتعريف العالم أن التضامن العربي والاتفاقات العسكرية العربية أمور جادة..

مؤكد أن الوضع العسكري لم يكن ليصبح أكثر سوءا لو صدر الأمر إلى سوريا والأردن بالهجوم على إسرائيل في 29 أكتوبر 1956 .

هذا من الناحية العسكرية التي لا تحتاج لكثير إثبات، ولكن ، هناك عنصر سياسي خطير، يتغافلون عنه ولم يطرح أبدا، وهو ما كان يقلق بال الإنجليز واليهود والأمريكان ونورى السعيد وغيره.. خلال فترة الإعداد لغزو مصر.. فالمعروف أن الأردن كان مرتبطا بمعاهدة دفاعية مع الإنجليز، وباتفاق مع العراق يتضمن دخول الجيش العراقي الأردن في حالة تعرضه لعدوان إسرائيلي ، وذلك بعدما تصاعد عدوان إسرائيل على الأردن قبيل الهجوم على مصر، حتى ساد الاعتقاد بأن إسرائيل تدبر غزو الأردن لا مصر.. وكان المفروض في حالة وقوع حرب شاملة بين الأردن وإسرائيل أن تصبح كل من بريطانيا والعراق في مأزق حرج .

فإذا كان الجيش العراقي سيجد نفسه مضطرا بحكم الضغوط العربية والشعبية على حكومة بغداد، أو بحكم وطنية ضباطه، مشتركا في المعركة ، فإن بريطانيا كانت ستواجه مأزقا خطيرا لأنه فضلا عن استحالة محاربتها لإسرائيل ، كانت في هذا الوقت بالذات تخطط لغزو مشترك مع إسرائيل .

يصور لنا موشى ديان هذا المأزق بعد عشرين عاما بقوله:" خلال المفاوضات ( لتدبير العدوان الثلاثي) كان من الضروري أن نعمل على تجنب قد ننزلق فيه إلى صدام مع بريطانيا ، قد يؤدى إلى عمل عسكري بريطاني ضدنا.

وذلك من جراء العلاقة البريطانية – الإسرائيلية المعقدة. فبريطانيا لها معاهدات مع عدة دول عربية قد تهرع لمساعدة مصر، ولو حدث ذلك فقد ينشأ وضع نكون فيه نقاتل مع بريطانيا في جبهة، وفجأة نجد أنفسنا مصطدمين معها في جبهة أخرى مع الأردن حيث سيقدم له البريطانيون مساعدة عسكرية بموجب معاهدة الدفاع الأنجلو أردنية".

" وكان رأى بن جوريون أن إسرائيل لن تهاجم الأردن إلا إذا هاجمها الأردن، وما دام لا يسمح للقوات العراقية بالدخول في أراضيه وكان بم جوريون يعتقد أن بريطانيا لديها من النفوذ ما يمكنها من ضمان حياد الأردن وبذلك تمنع تعقيدات لا ضرورة لها ستتبع دخول القوات العراقية في الأردن".

" وكان العراق والأردن قد أنشا قيادة مشتركة في يونيو 1956 تقرر بها وضع فرقة عراقية متقدمة على الحدود العراقية- الأردنية تكون مستعدة لمساعدة الأردن في حالة الطوارئ، ثم اجتمع الملكان حسين وفيصل بن غازي لبحث نقل هذه القوات ذاتها للأردن، وقد أعلن بن جوريون عن عزمه على التصرف عسكريا لو حدث ذلك".

إسرائيل كانت مصممة على التصرف لدخول الجيش العراقي الأردن، والمعاهدة التي يرتهن بها شرف العرش العراقي، ونورى السعيد ، والمراهنة على صداقة النظام العراقي على تنفيذ بند الدخول العراقي في حالة الحرب بين الأردن وإسرائيل.

والمعاهدة البريطانية الأردنية، والبريطانية العراقية وسمعة بريطانيا ، وثقة أصدقائها، وادعاءات عملائها كله معلق على امتحان موقفها إذا ما حدث القتال المسلح بين الأردن ثم العراق وإسرائيل " كذلك كان علينا أن نعرف هل ستنفذ بريطانيا معاهدتها مع الأردن وتتقدم لمساعدته إذا ما هاجم إسرائيل أو إذا ما تحركت إسرائيل إلى الصفة الغربية ردا على دخول القوات العراقية الأردن؟"

وجاء في مذكرات " هيوجتسكيل" زعيم المعارضة البريطانية خلال معركة القناة أثناء حفل العشاء الشهير الذي كان مقاما على شرف الملك فيصل العراقي ليلة التأميم سأل الأمير عبد الإله الوصي على العرش العراقي عن الأحوال فرد الوصي العراقي ( 26/7/1956 :" إن الوضع خطير، والأردنيون قد يقدمون على إجراء " سخيف" ويهاجمون إسرائيل فنجد أنفسنا ننجر إلى الصراع . إن هذا مثير للقلق".

أزمة فعلا .. ومشكلة خطيرة.. وبن جوريون يراهن على الضغط البريطانى على الأردن لإنقاذ الغرب وإسرائيل والنظم الصديقة من ههذ الورطة- الكارثة.. ولكنها مراهنة غير مضمونة، فالأردن في أكتوبر- نوفمبر 1956 لم يكن بالأرض الصالحة لقبول مثل هذا الضغط البريطانى بل الأحرى أن الملك حسين بذكائه المعروف كان سيرفض تنفيذ مثل هذا الطلب، أما عن الجيش الأردني بقيادة على أبو نوار الناصري- وقتها- واللاجئ السياسي في القاهرة بعد ذلك، والحكومة الأردنية حكومة سليمان النابلسي وهو غنى عن التعريف فكان يستحيل تصور استجابتهما للضغط البريطانى ورفض تنفيذ اتفاقية الدفاع المشترك.

ورطة حلت بأبسط وأهون ثمن.. مصادفة عجيبة جعلت " الضغط" يأتي من آخر جهة يمكن أن ترد على الخاطر ومن جهة لا يمكن اتهام من يطيع أمرها بالخيانة.. من القيادة المصرية المغزوة أرضها؟

لماذا ؟

نتمنى أن نسمع تفسيرا..

بالطبع لا نريد تفسيرا سوقيا حاقدا من طراز " أمة يهودية" أو عبد الحكيم عامر أصله " ايللى كوهين" هذا سخف لا يستحق حتى مجرد السماع فضلا عن المناقشة..

التفسير الذي وصلنا إليه ، أن صفقة تمت بين أمريكا وعبد الناصر، طالبت فيها أمريكا عبد الناصر ألا يوسع النزاع، أن يمنع دخول الأردن وسوريا الحرب وهى تتعهد بالباقي.. وقد نفذ الطرفان.. ولكن ربح اليهود وخسرنا على المدى القريب والبعيد.

ويلاحظ أن " سلوين لويد" قد أورد قرار عبد الحكيم عامر للجيشين الأردني والسوري بعدم دخول الحرب، ولكنه لم يعلق بحرف على أسباب القرار.

وهكذا لم يكن أما الضباط السوريين ، إلا ماسورة النفط ينفثون فيها غيظهم، ويرفعون في نفس الوقت سعر النفط الامريكى بقطع أكبر شريان للنفط الأنجلو- فرنسي على البحر الأبيض وأقرب شريان لغرب أوربا إلى جانب سد قناة السويس..

إن المساندة العربية الأساسية التي كانت يمكن أن تشكل قاعدة العمل العربي، ونموذجا للتضامن ينمو مع الأيام، ويحسب له العدو حسابه في المستقبل، المساندة التي كانت ستكتب سطور الوحدة العربية بالدم، منعها عبد الناصر، وبالتالي لم يبق عندما ضربت الإذاعة والأغاني والبرقيات، والنداء " هنا القاهرة" من إذاعة عمان ودمشق عندما ضربت الإذاعة المصرية واستقر في ذهن العرب أن " قطع" النفط هو آخر الدواء والحلقة المفرغة التي ترقص حولها الأمة العربية دون أي تقدم.

والمسئول عن ذلك هو المؤامرة الإعلامية التي أرادت إخفاء السر وراء عدم تنفيذ اتفاقية الدفاع المشترك في أول امتحان للتضامن العربي في ظل 23يوليو .. بالصخب حول الدعم العربي والتضامن العربي، وبسالة الجيش السوري الذي نسف أنبوب النفط وكأنه جماعة إرهابية مطاردة من السلطة؟

لو طبق الميثاق لعرف العرب قيمة هذه الاتفاقيات " وأخذوها مأخذ الجد" ولعرف العدو قيمتها " وأخذها مأخذ الجد" كما يسخر هيكل من سذاجة السراج؟

أيمكن أن يقول كاتب جاد " مؤمن" بعبد الناصر والوحدة العربية أن السراج " كان يأخذ ميثاق الدفاع المشترك مأخذ الجد"؟

يعنى ايه؟

اتفاقية عسكرية وقع عليها رؤساء ثلاث دول والقائد العام في كل جيش وأقرتها السلطة التشريعية في كل بلد.. فأي عجب أو غرابة أن يأخذها السراج على محمل الجد؟ إلا لأن كاتب هذا الكلام يعرف أن الأمر كله نصب في نصب؟
على أية حال هيكل أعفى نفسه من تقديم أي تفسير للسبب الى لم تنفذ من أجله الاتفاقية رغم اكتشاف المؤامرة الاستعمارية الرجعية التي كانت تستهدف منع تنفيذها؟
هذا ما كتبناه في " كلمتي للمغفلين" وقد قبل " هيكل" التحدي، فتقدم بتفسير في " ملفات السويس" يبرر فيه لماذا منع عبد الناصر الأردن وسوريا من دخول الحرب ضد إسرائيل فأضاع فرصة نصر" محتملة" كما يقول كوبلاند، ومرجحة في رأينا.

اضطر هيكل للرد علينا فقال الآتي:

" لقد فضل جمال عبد الناصر أن تخوض مصر المعركة العسكرية وحدها لأنها لا تستطيع أن تتحمل مسئولية ما يمكن أن يجرى على أرض عربية أخرى قد لا يستطيع أن ينجدها بقوات مصرية في الوقت المناسب، وكان تفضيله أن تقف الأمة العربية كلها مع الشعب المصري بمشاعرها وبما تستطيع عمله دون القتال المسلح".

نشاطركم الأحزان.

وهو كلام لا يستحق الرد، كلام مريب مشبوه.. كأن عبد الناصر كان يخوض حربا من أجل ميراث جده في بنى مر، أو كأن الحرب مع إسرائيل قضية مصرية خاصة ومن ثم يتحمل عبد الناصر مسئولية توريط العرب.. وماذا كان سيصيب العرب أسوأ مما أصاب مصر باحتلال ثمن أراضيها ؟ولماذا لم يفكر على هذا النحو في 1967 عندما استخدم حتى الكذب لإدخال الأردن في الحرب الخاسرة بل التي كان قد خسرها فعلا ويعلم ذلك يقينا.
يرد هيكل.. إنه منع الأردن من الدخول لأنه كان يعلم بتربص إسرائيل بالضفة الغربية أو أجزاء منها وكان مصمما على حرمانها من أية فرصة في هذه الظروف.

في انتظار ظروف أحسن.. لأنه هو نفسه تخلى عن هذا التصميم واستخدم الكذب لحث الملك حسين على دخول حرب 1967 المحتوم فيها خسارة الضفة..

ففي 1956 كان احتلال إسرائيل للضفة محتوم الفشل، فالأردن كانت تربطه معاهدة دفاعية مع بريطانيا والعراق، وأهم من ذلك أن العالم كله بما فيه أمريكا كانت ضد احتفاظ إسرائيل بأية أرض تحصل عليها بالحرب، وأنت نفسك قلت إن بن جوريون قال : " ليس لإسرائيل صديق واحد في الأمم المتحدة".

وأنت أيضا نقلت عن إيزنهاور قوله:" إننا لا نستطيع أن نجد أمام العالم أي مبرر سياسي أو قانوني يعطى لإسرائيل حق البقاء في سيناء، إن العالم كله سيتعاطف مع ناصر إذا قرر مواصلة الحرب ضدهم وستكون إسرائيل وحدها بعد خروج الإنجليز والفرنسيين من بور سعيد".

الحمد لله إيزنهاور يفكر مثلنا... فما الضرر لو كانت إسرائيل فعلا احتلت الضفة في البداية مثلما احتلت سيناء واشتركت الأمة العربية كلها بالسلاح وليس بمشاعرها يا فاجر الادعاء.. ما الضير إذا استمرت المعركة على ثلاث جبهات وامتدت خطوط إسرائيل من سوريا إلى القناة إلى الأردن، وخرج الإنجليز والفرنسيون واستفرد العرب بإسرائيل خاصة وقد قلت إننا استرجعنا ما خسرناه من سلاح في الحرب ( أي حرب؟ من الذي حارب؟).

ألم يكن انسحاب إسرائيل مؤكدا في 1956 .. محل شك كبير في 1967 و1987 .. هل يمكن أن نلغى عقولنا ونقبل ادعاء خوف عبد الناصر على الضفة كمبرر لمنعه شن الحرب الشاملة على إسرائيل في المرة الوحيدة التي كانت عوامل النصر أكثر من عوامل الهزيمة؟

وانظر ما كتبه " ارسكين تشايلدر" في كتابه:" الطريق للسويس" تدرك خطورة الوضع على إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا والنظام العراقي، وفداحة ما ارتكبه عبد الناصر في حق مصر والعرب والمواجهة مع إسرائيل بقراره الذي أفزع الموقف من كل عناصر الخطر قال تشايلدز:

" فالصورة الظاهرية للوضع، تتمثل في أن إسرائيل قد اقتحمت نفسها في هذه الحرب الصحراوية ودفعت إليها بالقسم الأكبر من قواتها كلها، لتواجه دولة عربية واحدة لها حليفتان عربيتان أخريان ترتبط معهما بالتزامات عسكرية ثابتة وهما سوريا والأردن، بينما تقوم وراءهما دولة عربية ثالثة هى العراق لا تستطيع تحت تأثير شعبها الوقوف مكتوفة اليدين في أية حرب عربية إسرائيلية شاملة".

وهذا هو تأثير العلاقة المريبة مع المخابرات الأمريكية ، فلا شك أنها هى التي نصحت بتطويق " الأزمة" ولن نقول تحت تأثير أصدقاء إسرائيل في الـ سى آى ايه بل لأنه لم يكن من مصلحة الولايات المتحدة، اتساع الحرب ودخول أطراف جديدة، مما كان يحمل إمكانية جادة في انهيار النظام الاستعماري بأكمله في الشرق الأوسط. لو كانت علاقة عبد الناصر بالأمريكان علاقة سياسية مفتوحة، حتى ولو كانت علاقة تحالف ، مثل إسرائيل ، لكان القرار في يده، ولو كان ممثلوه مع الأمريكان، هم الدبلوماسيون المصريون أو حتى من العاملين في المخابرات المصرية وليس المخابرات الأمريكية ، ما كان ليتخذ هذا القرار الصارخ الضرر بمصلحة مصر.. فليكفوا عن القول بأنه استخدم هذه العلاقة الشائنة لمصلحة مصر فقد كانت أولا لمصلحة أمريكا.. وإسرائيل.

نعود لقائمة الانتصارات :

" إن جو السويس كان هو الاختبار الذي نجح ونضج فيه جيل الخمسينات في العالم العربي، جيل جمال عبد الناصر وأحمد بن بيلا وهوارى بومدين وعبد السلام عارف وجماعات الضباط الوحدويين وسوريا والطلائع الملتزمة من حزب البعث العربي الاشتراكي في منطقة الهلال الخصيب، وهو جيل كتب عليه أن يكون جسرا تمشى – وتدوس أحيانا-ى عليه أمة بأسرها من مرحلة إلى مرحلة في النضال .
كان خذا هو الجيل الذي فتح الطريق تحت شعارات " الحرية والاشتراكية والوحدة" و" من المحيط إلى الخليج " و " بترول العرب للعرب" و" نصادق من يصادقنا، ونعادى من يعادينا" و" نحن جزء من حركة الثورة الوطنية في العالم" إلى آخره إلى آخره ( هو اللي بيقول إلى آخره وليس أنا ) وربما كان اقسي نقد يمكن توجيهه لهذا الجيل أنه كان يعرف ما لا يريد بوضوح ولكنه لم يكن يعرف ماذا يريد بنفس هذا الوضوح " إلى آخره إلى آخره وأنا الذي أقولها هذه المرة.
وليسمح لنا أن نضيف إلى قائمة جيل الخمسينات : عبد الكريم قاسم الذي لا شك أن أثره في العراق، وفى التاريخ العربي أكبر من اثر عبد السلام عارف الذي جاء وذهب وجاء وقتل ولا أحد اهتم بماذا يريد وماذا لا يريد.. وإن كان النظام المصري يحمل القسط الأكبر في مسئولية مصيره التعس وفشله، ولا شك أنه كان يتفجر وطنية، وإخلاصا وتدينا، والحمد لله الذي جعل هيكل يسجله في قائمة الشرف، وقد كان هذا الهيكل شجي في حلق عبد السلام عارف في حياة هذا المسكين.
أما بن بيلا فلا شك في إخلاصه وحماسته وثوريته، ولا شك أيضا في أنه يبدأ ثورته قبل السويس.. وتعلم مما يتلوه الناصريون في بابل ما فرق بينه وبين الشعب الجزائري، فتمكن منه هوارى بومدين ابن جيل الخمسينات، الذي استطاع بمساعدة مقالات هيكل الاستفزازية ، المتباكى اليوم على بومدين، والمهاجم له يوم كان رئيس الجزائر المهم استطاع بومدين أن يحول الجزائر إلى أكير قوة معادية لمصر وعبد الناصر، وهو البلد الوحيد الذي ضرب فيه المصريون بعد هزيمة 1967 واعتدى فيه على السفارة المصرية.. وتحولت الجزائر من حلم وبهجة وأمل كل عربي، بل ومن " أكمل نصر عربي حقا" تحولت على يد الأصفر الحقود إلى شجي في حلق الأمة العربية، ومصدر الفرقة والنزيف الدائم حتى اليوم في المغرب العربي.
أما جيل ضباط الوحدة في سوريا والطلائع الملتزمة في حزب البعث، فحدث ولا حرج من الحريري إلى أمين الحافظ وصلاح جديد وباخس والجندي ولا تنس كمال أمين ثابت.. وعلى صالح السعدي ونايف كذا.. والحبل على الجرار..
أما أنه لم يجد لهذا الجيل ما يسجله له إلا الشعارات ( باستثناء بن بيلا) فلا نناقش ، فقط نذكر المواطن العربي بما تحقق منها،.. كل تلك الحريات التي يرفل فيها المواطن العربي والوطن العربي وكل الاشتراكية التي تغمر الأسواق العربية والتي تفوح من سيجار هيكل وبيوته الثلاثة في مدينة القاهرة كما ذكر للمحقق، وخمس عربات تنتظر على بابه أما عن الوحدة من المحيط إلى الخليج فلا ينكرها إلا جاحد لفضل حرب السويس.
وقد – والله- احتار فينا الصديق والعدو، ولم نجد عند الضيق صديقا له قيمة يأخذ بيدنا أو يعطينا ربع ما يعطيه العدو الاسرائيلى.. أما بترول العرب للعرب الذي لم يتحقق إلا بعد أن خفتت أصوات هذا الجيل وزالوا على المسرح، وتقلص طلهم من الساحة العربية وتحقق على أية حال على يد شيوخ لا وجه للشبه بينهم وبين جيل الخمسينات هذا ..

إذا كانت هذه هى الانتصارات فأين الهزائم؟

يقدم لنا هيكل قائمة أخرى من الانتصارات من طراز استطاعة " الاتحاد السوفيتي أن يحقق ويعلن تعادله مع أمريكا" ويحتار الطراف أين يصرف هذا الانتصار بالعملة المصرية، خاصة وقد أضاف تفسير هيكل حيرة إلى حيرة إذا قال وهى " التي فتحت باب الوفاق " فهل كان الوفاق لصالحنا؟
ويصر على أن يسجل علينا في قائمة الانتصارات:" انقسام العالم بين روسيا وأمريكا، وقرار فرنسا والصين بناء قوة نووية مستقلة، وتحول بريطانيا وفرنسا إلى دولة من الدرجة الثانية ، وسقوط الجمهورية الفرنسية الرابعة، وتدعيم الاتجاه نحو السوق الأوربية، وتحرير المستعمرات في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وظهور لومومبا ونكروما ونيريرى ؟ وفيدل كاسترو، وأن السويس كانت آخر صراع شارك فيه العمالقة " في ميدان القتال كان هناك جمال عبد الناصر من ناحية، وعلى الناحية الأخرى دافيد بنجوريون ، أنطونى ايدن وجى موليه" وطبعا لا أحد يقول إن " جى موليه" كان عملاقا، ولا أحد يذكر اسمه الآن إلا بالعدوان على مصر.. وايدن سماه عبد الناصر" الخرع" فمن أين جاءته العملقة؟

كلام وحذلقة وخلى يتفكه بآلام الشجي المصري.

على أية حال هذه لم تكن سوى المقدمة.. والكتاب في ثلاثمائة صفحة ويبدأ الفصل الأول بالحديث عن إسرائيل وهو ما نحمده له فهي حقا جوهر القضية ولب المعركة.. ويقرر لنا أن " شركاء الحرب ضد مصر في سنة 1956 كانوا أربعة ولم يكونوا ثلاثة كما هو شائع في تعبير العدوان الثلاثي".
الله أعلم بعدتهم ، والله على الذي حاول إخفاء الشريك الرابع عشرين سنة.. وأطلق على الحرب اسم " العدوان الثلاثي" وغنى له " 3 دول متقدمة يا بور سعدي .. " الخ والشريك الرابع الذي يكشف عنه هيكل الستار، هو أمريكا بالطبع، الذي يؤكد لنا أنها: " سارت شوطا على طريق السويس، ثم تخلت عنه إلى طرق أخرى ظنتها أسرع نفاذا إلى القاهرة" وهذا هو الخلط حقا.. خلط نتائج ، صحيحة بمقدمات خاطئة، ومقدمات معروفة بنتائج مزورة، وسنشرح ذلك بالتفصيل، فالولايات المتحدة كانت نافذة إلى القاهرة.. ولكن بغير هذه الصيغة السوقية المضللة، والحق أن هيكل لا يقدم جديدا فاتهام أمريكا بالمساهمة في العدوان الثلاثي وحلف بغداد وجميع المؤامرات ضد السلطة المصرية في تلك الفترة مطروح في الإعلام الناصري بوضوح منذ عام 1957 وبشكل متقطع ومتحفظ أحيانا قبل ذلك وبالذات منذ 1955.
يقول : " كانت إسرائيل أمام الجميع على طريق السويس بحكم اهتمامها الذي لا يدانيه اهتمام بكل ما يجرى في مصر".
وهذا صحيح ألفا في المائة.. والكارثة أنهم يعرفون ، وإن كنت تدرى فالمصيبة أعظم.ألم يكن الواجب ولو من باب المجاملة أن نهتم بمن يهتم بنا؟

وسنؤجل حديث " الاهتمام" وإنما نكتفي حاليا بذكر عدة نصوص:

" كان لدى المخابرات المصرية تقرير من تقدير المخابرات البريطانية جاء به:ط ليس لدى مصر أية نية في الاعتداء على إسرائيل ، وأنها ليست مستعدة لذلك بخلاف موقف إسرائيل واستعدادها".
في سنة 1955 وبعد ما قطع بن جوريون عزلته في مستعمرة سدبوكر بالنقب ليعد العدة لضرب مصر الضربة القاتلة.. يقول هيكل:" كان عبد الناصر يقول إنه لا يشغل نفسه بإسرائيل ، وإنما يركز على التنمية الداخلية في مصر لذلك خفض ميزانية القوات المسلحة بخمسة ملايين جنيه عن السنة الماضية، لاعتقاده- كما قال عبد الناصر نفسه- أن إسرائيل ليست خطرا على مصر إلا لأن مصر ضعيفة اقتصاديا واجتماعيا".

فالرئيس عبد الناصر:

1- لا يشغل نفسه بإسرائيل .
2- لا يفكر في مواجهة عسكرية معها، لا ابتداء من جانبه، ولا حتى في احتمال أن " تجن" هى وتهاجمه ولذلك بدأ يضعف قدرة مصر العسكرية بخفض ميزانية القوات المسلحة، وسيحدث هذا – للمصادفة- مرة أخرى في نفس السنة السابقة على حرب 1967 وسيلغى بد بناء الدشم التي تحمى الطائرات المصرية لتوفير النفقات اللازمة للحرب في اليمن..
3- ونحن نعرف أن الزعيم الخالد لم يصمد طويلا على هذا التصور، وهو الرغيف قبل المدفع، أو المصنع قبل الدبابة، لأنه بعد قليل من ذلك الإعلان والخفض في ميزانية التسلح، عقد صفقة السلاح السوفيتي التي قدرت الدفعة الأولى منها بستين ضعف ما خفضه لزيادة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.. ومع ذلك فنحن نعتقد كما سنثبت أن صفقة السلاح الروسي كانت تهربا من المواجهة وليست سعيا لها.. المهم أن القيادة الجديدة لمصر جاءت على السلطة وهى غير منشغلة بإسرائيل واستمرت على عدم شغل البال هذا حتى قذفتها إسرائيل بالقارعة .. فقررت أن تشغلنا بإسرائيل بدلا من أن تنشغل هى بإسرائيل . .

في 1955 قال " محمود فوزي" الذي يسيء إليه هيكل بالثناء عليه، ولا ندرى لماذا ؟.. قال فوزي لسولين لويد " ما من حكومة مصرية سيصل بها الجنون يوما إلى حد شن هجوم مسلح على إسرائيل ".

بعد الشر عليكم من الجنون.. والمجنون راح والحمد لله..

ويقدم لنا هيكل خطة مصر ضد إسرائيل .. آسف ههذ لا وجود لها.. أقصد يقدم لنا خطة إسرائيل ضد مصر،التي كانت تتوقع أن تستمر مصر، قائدة العالم العربي والوحيدة القادرة على شن هجوم عليها إلى نهاية هذا القرن.

ونقرأ الخطة ونحتار هل كانوا فعلا يعرفون ذلك ففعلوا كل ما يؤدى إلى تحقيق خطة إسرائيل ؟..

1- إبقاء مصر ضعيفة متخلفة غير قادرة على إقامة البناء الاقتصادي الزراعي والصناعي المتطور، وباختصار أن يظل الإنسان المصري كيانا مقهورا مطحونا عليلا غائبا عن الوجود الحضاري بكل قيمه، تماما كتلك الصورة التي رسمتها جولدا مائير في كتابها حياتي الذي وصفت فيه الناس داخل محطة سكة حديد القاهرة حين وصلت إليها في العشرينات في طريقها إلى فلسطين.. أكوام من اللم والعظم المغطى بالتراب والذباب".
أليست هى جولدا مائير التي زعمت الرواية المصرية أنها قالت عن مصر الناصرية:" لما يتعلموا يركبوا الأتوبيس نبدأ نخاف منهم" هل كانت حالة مصر عند وفاة عبد الناصر أفضل بكثي منها قبل ثلاثين سنة.. هل كانت أكوام اللحم داخل وخارج وعلى سلم وفوق سطح الأتوبيس أفضل ؟ هل تقدمنا بانتقال أكوام اللحم من المحطة إلى سطوح القطارات تحصدها أعمدة الكباري وتلقيها على جانبي القطار للذباب؟ هل كانت القاهرة في العشرينات كما تركها عبد الناصر " أقذر" عاصمة في العالم العرب؟ هل مرت فترة كان فيها المصري كيانا مطحونا عليلا غائبا عن الوجود الحضاري بكل قيمه مثلما أصبح في الفترة التي مرت به من 1952 إلى 1966..؟
2- " إبقاء مصر معزولة عن بقية العالم العربي.." وهى عناوين وضعنا فيها مؤلفات، ولكن يكفى أن نقدم صورة لوضع مصر والعالم العربي في عدوان 1967 .
كانت مصر قد انسحبت من مؤتمر القمة العربي لأنه " أصبح مظلة للرجعية العربية" وانسحبت من مؤتمر القمة الافريقى "بعد أن تأكد لها أن استمرار حضورها أصبح غير ذي فائدة" وأعلن عبد الناصر أن القوات المصرية باقية في اليمن، ووصل الخلاف مع السعودية إلى ذروته، وعشية هجوم إسرائيل كان عبد الناصر يسب الملك فيصل في "القاعدة العسكرية المتقدمة" في سيناء ويطالبه بأن يطلب من صديقه شاه إيران.. الخ.
وعندما وصل الملك حسين إلى القاهرة في 30/ 5/ 1967 كانت علاقاته متدهورة مع مصر على حد أن داعبه عبد الناصر بقوله:" ما رأيك لو قمنا باعتقالك"؟
وكانت هناك أزمة حدود مع السودان بسبب حلايب، أوشك الجيش المصري أن يتدخل فيها كما صرح زكريا محيى الدين وذلك في الأسبوع الأول من مايو 1967 والعلاقات مقطوعة مع تونس وفى أسوأ حالاتها مع المغرب بعد أن حاربناها من أجل الجزائر ورفعنا شعار الحسن والحسين.. الخ ثم خاصمنا الجزائر من أجل بن بيلا.
هذا بعض من فيض يؤكد أن هدف إسرائيل رقم 2 في خطة هيكل، قد تحقق ربما بما يفوق أحلامها.
يقول:" كانت إسرائيل تريد أن تظل اهتمامات القاهرة متجهة إلى الخرطوم في الجنوب على أقصى تقدير تحت ضغوط وادي النيل وأوهام وحدة التاج بين مصر والسودان، وفى نفس الوقت تبقى صحراء سيناء عازلا يفصل ما بين المشرق العربي في آسيا والمغرب العربي في أفريقيان كان لابد للصحراء العازلة أن تكون فراغا من أي قوة ، ومنذ ذلك الوقت المبكر اتخذت الإستراتيجية الإسرائيلية من صحراء سيناء مقياسا للأمن والخطر إذا كانت الصحراء فارغة من مظاهر القوة فهو الأمن، وإذا امتلأت الصحراء فهو الخطر" .
الحروف السوداء من عندي وهى لإبراز أنه في أقل من ستة سطور وصف سيناء بالصحراء خمس مراتـ لم يخطئ مرة واحدة ويقول سيناء وهى المحافظة الوحيدة في مصر التي تضم البحر والجبل والخليج.

نناقش هذا الافتراء..

1- هل صحيح كانت مصر تنحصر اهتماماتها في الاتجاه للخرطوم؟ .. ومن الذي أنشأ الجامعة العربية؟ وهل دم النظام الناصري مؤسسة أو صيغة للعمل أكثر عروبة وأفضل نتائج من الجامعة العربية؟ ما هى؟

الجمهورية العربية المتحدة؟.. التي قصفت في عمر الورود وأخرت قضية الوحدة إلى نهاية هذا الجيل على الأقل.. وأصابت التضامن العربي بأمراض لم يشف منها إلى الآن؟ أما سخرية هيكل من وحدة مصر والسودان فتلك قصة أخرى ، والحديث ذو شجون سنتلو عليكم نبأها في فصول أخرى ويكفى أن نقول هنا إنه يوم صدور مراسيم إعلان وحدة مصر والسودان تحت التاج المشترك التي هزت قلب كل مصر من الأعماق.ز كان هيكل هو الوحيد الذي هاجمها في منزل مندوب المخابرات الأمريكية ن وهاجم الدور المصري في السودان، وقال:" إن السودان لا يكسب شيئا من علاقته بمصر بل هو يخسر ومصر تكسب"حتى تعجب السفير الامريكى، ونقل دهشته لحكومته، أن يصدر هذا عن مصري حتى ولو كان هيكل.

هل صحيح كانت إسرائيل تريد وحدة وادي النيل ، لننشغل بها عن الوحدة العربية ولكي تبقى صحراء سيناء فارغة عن القوة؟

لماذا تصرفنا وحدة وادي النيل عن العمل العربي؟ بالعكس إنها تعطى مصر عمقا طبيعيا يجعلها أقوى في مواجهة إسرائيل وأكثر قدرة استراتيجيا، ويلقى عليها مسئولية أكبر، وتقديرا أكبر لأهمية العمل العربي ودورها القيادي فيه، ويجعل لهذا الدور قبولا أكثر وحجة أقوى.

ويجذب إلى ساحة العمل العربي في الشمال، طاقات السودانيين البكر، ورجولتهم ونقاءهم وحماستهم، وإيمانهم القومي والديني. ويحقن دم العروبة في شرايين الوجود الافريقى..

وتخيل دولة وادي النيل جذورها في قلب أفريقيا ممتدة من خليج العقبة إلى ليبيا ومن العريش إلى السلوم على البحر الأبيض وتسيطر على ساحل البحر الأحمر الشرقي كله تقريبا وتضم ما يقرب من مائة مليون ورقعة زراعية أكثر من 200 مليون فدان..

تخيل أن هذا ما كانت تتمناه إسرائيل لمصر لكي تشغلنا عن التعاون مع جورج حبش وعلى صالح السعدي؟ ولكي نحرم من حوار مباحثات الوحدة الثلاثية؟

إن أول خطوة لعلاج التدهور الثقافي في مصر هو تشكيل لجنة تقصى حقائق لبحث التكوين العقلي لقراء هيكل.

على أية حال، الحمد لله الذي اختص بالحمد على المكروه، فشل كيد بنى إسرائيل وانصرفت اهتمامات القاهرة عن الخرطوم، وتحررنا من " ضغوط وادي النيل" وهى من باب " صاحت العتاريف وحبظلم" .. إذ لا أحد يفهم ماذا يعنى بضغوط وادي النيل، وكأنها غازات والعياذ بالله.

وزالت أوهام وحدة مصر والسودان مع زوال التاج المشترك.
فماذا تحقق؟
هل ملأنا صحراء سيناء بالقوة؟
هل زال وضع الصحراء كعازل بين آسيا وأفريقيا؟
ما الذي اتخذته الناصرية من إجراءات للقضاء على هذا العازل ؟
كم عدد المستوطنات التي أقامتها مصر في سناء من 1952 على 1967؟
كم عدد السكان الذين نقلتهم إلى هناك؟

كم مدينة جديدة بنتها.. كم من المطارات المدنية وخطوط الطيران التي كانت تطير من العريش لعمان ولبنان والرياض وكم عدد الخطوط البحرية بين شرم الشيخوبور سودان وجدة والعقبة؟ ما الروابط التي أقامتها مصر في سيناء لتربط بين المشرق العربي والمغرب الأفريقي عبر الصحراء؟

ما العازل ؟ وإلا : " إنشا ورص كلام" كما كانت تقول أغنية أعياد النصر؟
وكيف يبنى العازل وكيف يزول؟

إسرائيل عندما أرادت أن تزيل سيناء كعازل فعلت الآتي:

1- أقامت خط بارليف لكي لا يعبر المصريون من إفريقيا على آسيا فهل أقمنا خطا مماثلا عند حدود إسرائيل مع سيناء أم وضعنا البوليس الدولي؟
2- فتحت الحدود بين إسرائيل وسيناء فأصبح اليهودي ينتقل من تل أبيب على شرم الشيخ والعريش بلا إذن مرور.
فهل ألغت الثورة هذا .. أم حتى يوينة 1967 كان المصري يدخل سيناء بترخيص خاص وكان الجمرك عند" حدود مصر" أي قناة السويس وحتى مايو 1967 قامت أزمة كبرى ومع أهالي سيناء لأن الحكومة طالبتهم ببطاقات شخصية للنساء وهو ضد تقاليدهم، وإلا منعوا من عبور القناة ودخول مصر ألم تكن لسيناء إدارة خاصة في جاردن سيتي تصدر إذن الدخول للمصريين ؟
3- أقامت إسرائيل المستوطنات وأسكنت فيها اليهود فهل فعلنا ذلك؟ أم صرفنا انتباه المصريين عن سكنى سيناء باختراع أوهام تصرف نظر المصريين تماما عن سيناء لكي تبقى فارغة حضاريا وبشريا في انتظار الموعود ومنذ العشرينات أو الثلاثينات والمصريون واللبنانيون والسوريون يصرخون : عمروا سيناء ، عمروا جنوب لبنان.. عمروا الجولان لكي لا تأخذها إسرائيل " أرضا بلا سكان" ولكن حكومات ما قبل يوليو كانت مشلولة الإرادة بفعل ثمانين ألف عسكري أجنبي.. أما حكومة الثورة فمرة تخرج علينا بمديرية التحرير ، ومرة تصرعنا بالوادي وأن به نهرا يضرب نهر النيل على عينه.. كل هذا لحرف الأنظار عن أهمية وإمكانية سكنى سيناء وتعميرها وهو ما أثبت اليهود أنه ممكن وأن الماء متوافر والإنتاج سهل ومربح.
من الذي أبقى سيناء خالية وحاجزا.. وهل يمكن أن تكون الصحراء إلا خالية وحاجزا؟ هل وضع مليون عسكري فيها يلغى الحاجز؟ اقرأ ما يكتبه اليهود على اختلافهم من غزل ومعرفة بكل حجر في سيناء.. وقارن هذا بإصرارك على أنها صحراء وما كتبته بيمينك أنت وصبيتك على أنها "عبء".
4- إسرائيل أقامت الفنادق والشركات السياحية ، والمصايف والمشاتى في سيناء .. فهل فعلنا ذلك؟ إسرائيل ربطت سيناء بشبكو مواصلات إسرائيل البرية والجوية والبحرية فهل فعلنا ذلك؟
إسرائيل درست ودرست تاريخ سيناء وجغرافيتها، ووضعت لها أسماء مروره حتى " تيران" اكتشفت بن جوريون عشية غزوها في عام 1956 وهو في الطائرة المتجهة على باريس لتنظيم العدوان الثلاثي، اكتشف أنها كانت مقر مملكة يهودية في القرن الخامس الميلادي اسمها " يوتفات" والثعلب فات فات وأنت لا تكف عن نعتها بالصحراء.. ومن يهتم بالصحراء؟
من الذي قال إن امتلاء سيناء بالقوة يعنى الحشد العسكري الذي سرعان ما يتبخر عند أول هزيمة.
وتبقى الصحراء وحدها لا تجد من يحميها.. لو كانت الثورة أسكنت ثلاثة ملايين مصري في سيناء- وهو هدف ممكن جدا- لاستحال على إسرائيل غزوها أو البقاء فيها آمنة ما يقرب من 15 سنة؟

نتابع خطة إسرائيل تأليف محمد حسنين هيكل :

- يقول إن إسرائيل كانت تفضل أن تبقى مصر في دائرة النفوذ الغربي" وكان المكروه باستمرار أن تكون لمصر صداقات دولية خاصة، وباذلات مع القوى العظمى البارزة، وفى وقت من الأوقات خشيت إسرائيل من صداقة خاصة بين مصر والولايات المتحدة، لكنها لم تلبث أن اطمأنت بفهمها أن مثل ذلك ضد حركة التاريخ في المستقبل المرئي على الأقل ، ثم تحولت خشية إسرائيل إلى صداقة خاصة بين مصر والاتحاد السوفيتي".
- أما أن إسرائيل فكانت تخشى أن تقوم صداقة بين مصر والولايات المتحدة، أو بمعنى أدق علاقة خاصة بين مصر وأمريكا فهذا صحيح.ز أما أنها حضرت أرواح التاريخ ورأت أن ذلك ضد حركة التاريخ فهو تضليل ، بل عملت بجهد خارق في الولايات المتحدة ، وعلى الحدود، وفى شوارع القاهرة والإسكندرية ( عملية لافون مثلا) وفى جهاز الحكم المصري، كما ستكشف الأيام، لنسف هذه الإمكانية.
أما إن إسرائيل كانت تخشى قيام صداقة خاصة بين مصر والاتحاد السوفيتي، فهذا صحيح شرط أن نحدد معنى خاصة أما الصداقة التي قامت في ظل الناصرية بين مصر وروسيا فهي عين وصميم ما أرادته إسرائيل وسنشرح ذلك بالتفصيل في موضعه.
ثم يروى لنا قصة دارت بينه وبين " أنورين بيفان" النجم الساطع في حزب العمال البريطانى ( غير عملية النجم الساطع التي قام بها الجيش الامريكى بالاشتراك مع القوات المصرية) والسردار بنكار سفير الهند وقتها.
وهى قصة مريبة تثير علامات استفهام غريبة، فهو يقول إنه قضى ليلة كاملة في السفارة يحاول إقناع بيفان بأن ينصح الإسرائيليين بالاهتمام بما يجرى في مصر.
حتى ضاق بيفان به ذرعا ( وهذا نص كلمات هيكل، ويكاد المريب يقول خذوني) " وراح بيفان" أمام " بانيكار" يسألني باستفزاز :" لماذا تريدهم هناك في إسرائيل أن يحسبوا حسابا لما جرى هنا.
ولست أرى أمامي هنا في مصر ثورة، ما أراه هو واجهة ثورة وليس مضمون ثورة، وهذه هى البيانات الصادرة عن النظام الجديد ، وهذه وثائقه أمامنا فأرني فيها أية اتجاهات ثورية تخيف عدوا أو تثير – بجد- اهتمام صديق"

بحروفه.

لماذا قضى هيكل ليلة كاملة في السفارة الهندية يحاول إقناع من وصفه هو بأنه " كانت صداقته مع دافيد بن جوريون وثيقة" .. لماذا كان يحاول إقناعه بأن ما جرى في مصر يشكل خطورة، أو مصلحة لإسرائيل ن ومن ثم يجب أن تهتم إسرائيل بذلك وتحسب حسابه؟ لماذا ؟ ولمصلحة من ؟ .. وخوفا على من ؟ .. أو خوفا على ماذا ؟ كان يخشى أن تهمل إسرائيل ما يجرى في مصر؟ .. فتضيع الفرصة؟
الوطني العادي يدعو الله أن يعمى عين إسرائيل حتى يتم أمره .
تفسير واحد، هو أنه كان مكلفا أو متطوعا بإغراء بيفان صديق إسرائيل بأن يبلغهم بأن صفحة جديدة قد فتحت في مصرن يمكن أن تقوم معها علاقات جديدة حتى ينشغل البلدان " في التنمية والعدالة الاجتماعية"؟

أم هل يمكن تقديم تفسير آخر؟

وهنا يطرح هيكل واقعة وقفنا طويلا أمامها ونحن نحاول أن نفهم ماذا يقصد من إثارة الغموض والحيرة إن لم نقل الفزع حول تاريخ الزعيم الخالد في حرب فلسطين.. فهو يقولك عن بن جوريون بدأ يطلب معلومات عن عبد الناصر ، فتقدم إليه اثنان في إسرائيل كلاهما قابل جمال عبد الناصر على نحو أو آخر".
لماذا هذا التعبير بالذات " على نحو أو آخر" لماذا ؟ ما النحو.. وما الصرف.. أو وما الآخر؟
" أولهما ضابط المخابرات " يوريهان كوهين" اتصل عدة مرات بعبد الناصر الذي لفت نظره ( أي لفت نظر المخابراتى اليهودي) خصوصا عندما سأله عبد الناصر في أثناء استراحة للجنة الاتصال عن " الأساليب التي استعملتها الجماعات الإسرائيلية المقاتلة ضد الإنجليز في فلسطين ما بين نهاية 1946 ومنتصف سنة 1948".
وإيراد الرواية بهذا الشكل يوحى، أو يقصد بها أن توحي بأن الجو صار من نوعية خاصة بين جمال عبد الناصر " أركان حرب الكتيبة السادسة المشاة المتمركزة ما بين عراق المنشية والفالوجا في حب فلسطين 1948" وبين ضابط المخابرات الاسرائيلى، على درجة نسيان نفسية القتال، وظروف اللقاء، والحديث في القضية الوطنية ثم طلب الخبرة الإسرائيلية في مقاومة العدو"المشترك" .. الاستعمار البريطانى.. إذ لا يعقل أن أركان حرب العدو المحاصر سيستوقف ضابط مخابرات العدو قائلا:" تسمح من فضلك كنتم بتحاربوا الإنجليز إزاى؟" .. لابد من تعارف وحديث وانفتاح ومصارحة حتى يصل الأمر إلى طلب عبد الناصر نصيحة المخابرات الإسرائيلية في تنظيم إخراج الإنجليز.. وهذه خبرة لا تقال على فنجان قهوة في استراحة ما بين جلسات المفاوضات..

ولا تقتصر رواية هيكل على هذا اللقاء ما بين عراق المنشية والفالوجا أي في منطقة القتال أو الأرض الحرام، بل يؤكد هيكل أن عبد الناصر وكوهين التقيا مرة ثانية " داخل إسرائيل " حيث قضى عبد الناصر ليلة كاملة بنهارها أو بنص تعبيره " 24 ساعة في الأرض المحتلة من النقب"..

والسبب أن عبد الناصر ذهب إلى هناك ليرشد اليهود إلى مقبرة كانت قواته في الحرب قد دفنت فيها أكثر من أربعمائة وخمسين جثة.

هل أن رواية هيكل القصة على هذا النحو لا يمكن أن تكون بريئة القصد، إذ أنها تثير أكثر من سؤال.. فما دخل رئيس الأركان في المقابر؟ هل دفن عبد الناصر الأربعمائة وخمسين قتيلا وحده؟ ألم يشاركه فيها ضابط برتبة صغيرة أو وصول.. حتى لا يعرف أحد المكان غيره فيذهب بعد سنتين ليرشد اليهود عنه؟ حتى لو أضاف هيكل أنه " ذهب بتكليف من قيادة الجيش المصري"...

المهم أنه من " محاسن الصدف" أن يجد عبد الناصر نفس الضابط "

يوريهان كوهين" في انتظاره ويمضيان 24 ساعة كاملة داخل إسرائيل .؟

ملم يضف هيكل شيئا عما جرى من حوار في تلك الليلة، لعله احتفظ به ضمن أوراقه التي قال إنها محفوظة خارج مصر.

وهذا هو النحو الذي عرف فيه كوهين عبد الناصر أما النحو الآخر عن لقاء ايجال آلون فلم يذكر عنه شيئا..

ويختم حديثه هذا بقوله:" وكان بن جوريون على استعداد لأن يسمع كل من يستطيع أن يضيف إلى معلوماته شيئا عن جمال عبد الناصر" ثم سطرين نقط؟

ولا حاجة للنقط والغموض.. فحتى لو حكم مصر محمد حسنين هيكل أو جمال سليم لكان على رئيس وزراء إسرائيل أن يسمع عنه كل شيء فهذا ليس الدليل على أهمية عبد الناصر ولا أهمية الثورة، فتلك قضية لا تحتاج لشهادة بن جوريون ، ولكنه دليل أهمية مصر، ودليل يقظة وتنبه الحكم في إسرائيل .. ولا ينتقص من أهمية إسرائيل أن حكام مصر كانوا عنها في شغل بسماع كل ما يمكن أن يضيف إلى معلوماتهم شيئا عن فؤاد سراج الدين أو تنظيم الإخوان السري، أو محمد نجيب ؟ ثم نورى السعيد وشمعون..الخ..

بن جوريون أو ب. ج- كما يسميه الكاتب الظريف ويعرفنا أنه اختصار اسمه- كان يعيش في " هم" مصر 324 ساعة وهو خارج الحكم حتى أنه " حول مستعمرة " سدبوكر" إلى مركز قيادة عليا سياسية وعسكرية.. " بينما يورد هيكل بالمقابل النص الذي اشرنا إليه من قبل على لسان عبد الناصر الى يقول فيه:" إنه لا يشغل نفسه بإسرائيل " .. ثم يكرر " مع سنة 1954 كان بن جوريون ووراءه القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل مشغولين بجمال عبد الناصر قبل أية ظاهرة أخرى في المنطقة".

كل القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل لا تنام الليل من التفكير في عبد الناصر وبالمقابل لا أحد يفكر في بن جوريون أو إسرائيل وبالذات في عام 1954 العام الحافل بالانجازات الثورية..

فماذا كانت النتيجة..؟
للأسف . إنها معروفة لأنها حدثت..

يقول هيكل:

" في سنة 1954 كان بن جوريون في مستعمرة سدبوكر – لا يزال يمطر رئيس الوزراء موسى شاريت بالمذكرات المكتوبة يسأله :" هل اتخذت الحكومة الإسرائيلية كل الاحتياطات الواجبة عليها إزاء مثل هذا التطور _ جلاء الجيش البريطانى عن مصر)

هل عرفنا ما الأشياء؟.. أسلحة ومعدات ومخزون عسكري، التي تركها البريطانيون في القاعدة .. هل أخذت بريطانيا تعهدات كافية لحرية ملاحة إسرائيل "الخ الخ..

في الحقيقة كانت سنة 1954 حاسمة في إسرائيل ، وكان الخلاف في القيادة بين بن جوريون وتيار الصقور من ناحية وبين موشى شاريت وتيار الحمائم كما يسمونهم : بين بن جوريون وشاريت، وبين لافون وموشى ديان ولكنه كان خلافا على مصر والعرب.. ولجأ بن جوريون إلى عزلته ليعد العدة لتطهير إسرائيل من أمراض وأوهام الطفولة، جماعة الحالمين بالتعايش مع العرب، والعاطفين على الاتحاد السوفيتي وحركة السلام.. تأكيد وحدة إسرائيل والقضاء على أية إمكانية للانقسام قبل سحق قوة العرب العسكرية واستئصال حتى مجرد طموحهم في مقاتلة إسرائيل .. ولم تتم هذه التصفية بالمعتقلات والسجون بل بتصعيد المواجهة مع العرب، وخاصة مصر، لأن الوحدة الوطنية لا تتحقق إلا في مواجهة العدو الوطني.. وفى هذا الوقت ألف مناحيم بيجين كتابه الذي قال فيه:" في إسرائيل لا يوجد عمال ولا رأسماليون بل وطنيون فقط".

لقد استطاع بن جوريون في الفترة من يناير 1954 – عندما اعتزل الحكم في فبراير 1955 عندما عاد بدرجة وزير الدفاع وهو مؤسس إسرائيل ، ولكنه لم يهتم بالألقاب والأقدمية، التي كانت الشغل الشاغل لمجلس الثورة. . استطاع أن يضع إستراتيجية الإمبراطورية الإسرائيلية التي نفدت خلال الثلاثين عاما التالية.

ترى ما الاهتمامات المقابلة للقيادة المصرية في عام 1954.. نسمع شهادة البغدادي:

بدأ عام 1954 والخلاف على أشده بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر، بعدما حلت الأحزاب وقبض على القيادات السياسية المدنية وألغى الدستور..
يختتم بغدادي تاريخه لعام 1953 بتقرير أن سياسة جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر " قد أدت إلى إفساد الجيش مما يترتب عليه نتائج وخيمة عسكرية وسياسية مما سيتضح للقارئ من خلال هذه المذكرات".
وهذا بالطبع نتيجة وسبب " لعدم الانشغال بإسرائيل " .. وانشغلت القيادة المصرية في صراع مصيري، على لسلطة فيما بينها، وفيما بينها وبين بقية القوى السياسية المصرية وكانت المؤامرات على جميع المستويات.

" جمال عبد الناصر تكلم مع هيكل وأحمد أبو الفتح، وطلب منهما عدم نشر أحاديث وصور محمد نجيب.. وأنور السادات لمح هو الآخر إلى " أحمد الصاوي محمد" بجريدة " الأهرام" وسأل بغدادي عن مدى علم مصطفى أمين وعلى أمين بذلك الأمر " فأبلغني جمال عبد الناصر أن هيكل أبلغهما وأنه – أي جمال- يثق بهما".

وكان محمد نجيب لا يزال رئيس الجمهورية الشرعي..

" وفى اليوم التالي لهذا الحديث مع جمال عبد الناصر كنت أتحدث مع زكريا وحسين الشافعي عن هذا الخلاف الذي بدأ يستفحل وهذا الهجوم السافر على صفحات الجرائد وأن ذلك له ضرره ولا يحقق مصلحة لأحد ( لماذا لم يقل ذلك لعبد الناصر نفسه في اليوم السابق؟) فعلق زكريا على ذلك بقوله: إنه التنافس على السلطة ولكنهما استاءا معي لما علما بموضوع حديث جمال مع الصحفيين".

ومن تسجيل البغدادي نكشف موقفه المنافق، فليس في ما أورده عن جلسته مع جمال عبد الناصر ما يوحى بأي استياء ، أو اعتراض ، بل بالعكس أراد إكمال حلقة الحصار الاعلامى حول محمد نجيب فسأل وماذا عن مصطفى أمين وعلى أمين.. هل أخبرهما أحد؟ فطمأنه عبد الناصر " إنه معمول حسابهما".

" اقترح جمال عبد الناصر عقد اجتماع من وراء ظهر محمد نجيب " وكان واضحا أن الهدف هو أن يصبح اجتماع يوم الأحد ( الاجتماع الرسمي لمجلس الثورة) ما هو إلا اجتماع صوري فقط، حتى يمكن شل وعزل محمد نجيب ويصبح وكأنه في جانب والمجلس في جانب آخر" وتحمس جمال سالم وكان الأمر قد بليت بليل واقترح تفويض عبد الناصر في اتخاذ القرارات نيابة عن المجلس، أي قبل تفويض مجلس الأمة الشهير بـ 13 سنة.ز على أن يأخذ موافقة الأعضاء تليفونيا.

" اجتمع مجلس الثورة لبحث كيف يمكن مقاومة الإخوان المسلمين والقضاء على جماعتهم" "ورؤى تركهم لزيادة الانشقاق بينهم" فهذه " هى الوسيلة لإضعافهم وتفكيك صفوفهم" و" كان قرارنا هو العمل على زيادة الانشقاق الموجود بينهم والعمل أيضا على زعزعة ثقة من يتبعهم في أشخاص قياداتهم"

ثم تقرر " حل الإخوان واعتقال مرشدهم وما يربو على 450 معتقلا وفصل بعض الطلبة والموظفين المنضمين للجمعية وكان قد أحيل ضباط البوليس المنتسبون إليها إلى المعاش وكذا تم اعتقالهم" .

وكانت جماعة الإخوان هى آخر تنظيم سياسي يحل ويعتقل أعضاؤه في مصر، فهي التنظيم الذي اعتمد عليه ضباط وحركة 23 يوليو ن وكلفه عبد الناصر بالتصدي للانجليز إذا ما هجموا من ناحية السويس.. ( لنا رأينا في هذه الرواية وارجع إلى ما كتبه مصطفى أمين في فصل في البدء جاء الأمريكان ) ولكن لم يمر أقل من عامين حتى كانوا في السجون وكان الفصل والتشريد والتجويع للمواطنين بسبب آرائهم السياسية.

" جمال عبد الناصر يبلغ المجلس أنه اتصل بإسماعيل فريد يارو ومحمد نجيب وسب له ولعن رئيس الجمهورية ، وطالب إسماعيل فريد أن ينقل إلى رئيس الجمهورية هذه الشتائم وأعتقد أن جمال قصد بهذا إرهاب الرجل، وأنه من المستحسن له أن ينزوي ويخضع".

الكلام لبغدادي.

" واقترح جمال سالم أن يقتل هو محمد نجيب ويحاكموه.."
وهذا بالطبع في مواجهة عبد الناصر أما من ورائه فإليك نموذج من الحوار الهامس الذي كان يدور بين الجماعة التي شاء القدر أن تكون على رأس السلطة المصرية وإسرائيل تعمل ليل نهار لخوض معركة " حق الوجود".

يقول بغدادي:

" يوليوس قيصر :

وكنت قد سافرت إلى مدينة الأقصر بالطائرة يوم الجمعة 19 فبراير 1954 لافتتاح المطار الجديد بها، وقد رافقني في هذه الرحلة حسن إبراهيم.

ودار بيننا حديث حول فيلم يوليوس قيصر الذي شاهدناه في اليوم السابق.. وذلك الشبه الكبير بين ما دار في ذلك الفيلم .

وما كان يتمثل على أرض مصر من صراع وتطاحن من أجل السلطة.

وعلى أن هذه هى سنة الحياة. وأن هذا الصراع سيظل على مسرحها ما دام هناك بشر وحياة.

وجرنا الحديث عن الفيلم – إلى الحديث عن مجلس قيادة الثورة والتطور الذي حدث به- وبعد أن كان هناك توازن في القوى والرأي داخله دام قبل قيام الثورة وبعد قيامها لمدة عام تقريبا إلا ان هذا التوازن قد انتهى.

وأخذنا نبحث عن أسباب هذا متعرضين لموقف جمال سالم وانحيازه إلى رأى جمال عبد الناصر المستمر ، وأن ذلك الموقف منه غير ما كان حاله من قبل .

ومتعرضين أيضا لأشخاص المجلس وكيف كانوا وما أصبحوا عليه.

وكذا موقف جمال عبد الناصر وما يهدف إليه من محاولة تركيز السلطة في يده وذلك بغرض أن ينفرد بها في النهاية.

ولقد شكا حسن أنه غير ممكن أن يعمل وحتى عمله في هيئة التحرير غير محدد .

وكان جمال عبد الناصر هو الأمين العام لها وكان يتعاون مع إبراهيم الطحاوى وأحمد طعيمة في إدارة تلك المنظمات السياسية متخطيا حسن ، علما بأن قرار المجلس بتعيين حسن بها قصد به أن تلك المنظمة السياسية وإدارتها نظرا لانشغال جمال عبد الناصر في مسائل أخرى.

وكان حسن إبراهيم يتمنى أن يعفيه المجلس من عضويته نظرا لهذه الظروف ولكن الخوف على وحدتنا وتماسكنا وبالتالي على الثورة كان عامل ضغط على كل منا في ضرورة الاستمرار دون التنحي".

والغريب أننا سنجد " حسن إبراهيم" هذا يلعب دورا رئيسيا في تصفية محمد نجيب ، وتنغيص حياته في الوقت الذي يشتكى فيه هو من الاستبداد.

وفاجأهم محمد نجيب باستقالته التي " كان لها وقع الصاعقة" (بغدادي ) وصدر الأمر إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الثورة بعدم مغادرته منزله حتى تصدر إله أوامر أخرى من " المجلس".. ويقترح جمال عبد الناصر أستاذ التاكتيك غير العسكري "أن نرضى محمد نجيب الآن ونقبل جميع شروطه ونخضع له حتى نفوت الفرصة عليه ونعمل على إقناعه بسحب الاستقالة ، وبعد شهر – أي في يوم 23 مارس 1954 نتخلص من محمد نجيب" وأنه هو الذي سيقوم بعمل الترتيبات اللازمة لتنفيذ هذا الأمر".

وواضح أن الحديث كان يدور حول الاغتيال وليس الإقالة إذ رفض بغدادي ذلك وأعلن أن أي عمل " سيتخذ وأجده ضارا بهذه الثورة فلن أستمر في العمل معهم" واعترض صلاح سالم أيضا لسببين ، الأول اسبرطى وهو أن الجريمة هو ما يكتشف وليس ما خالف الأخلاق فقال : " إن ألأمر أن يكتشف ويعرف أن المجلس هو الذي دبرهن وهذا سيكون كفيلا بالقضاء على سمعة المجلس" أما السبب الثاني فقد بين للمجلس " ألضرار التي ستنتج عنه بالنسبة للوضع في السودان وذلك لمحبة الشعب السوداني لمحمد نجيب" ورأى المجلس استبعاد اقتراح جمال عبد الناصر" .

ورغم ما أورده بغدادي عن حديث مع زكريا وحسين حول صراع السلطة، وما جرى بينه وحسن إبراهيم من تعليق على يوليوس قيصر فقد كان للأعضاء من قدرة على إخفاء المشاعر ما يكفى للحديث أمام بعضهم هكذا : " واجتمعنا في منزل جمال عبد الناصر وقد بدأ هو الحديث بقوله: " إن هذا الخلاف ليس تطاحنا على السلطة والسلطان وإنما هذا والتطاحن من أجل المبادئ والمثل ، وتكلم صلاح أيضا عن هذه المثل، وتكلم جمال سالم في نفس المعنى كذلك".

واستدعى الوزراء المدنيون للاجتماع بعد أن هدد أعضاء المجلس بالاستقالة واضطروا للرجوع تحت ضغط السادات.

ويصف بغدادي حالة وزراء مصر هكذا " وكان الوجوم مخيما على وجوههم، بل كان الرعب ظاهرا في أعين البعض منهم".

وإذا كان الرعب يطل منعيون الوزراء، فهذا يعطيك فكرة عن ماذا كان يطل من عيون الشعب وصغار الموظفين، وويل لدولة، ينطق الرعب في عيون وزرائها.. وأين لدولة تزرع الرعب في عيون وزرائها أن تنشغل بعدو فضلا عن أن تخفيه..

وقال الضباط الثوار إن " الشدة مطلوبة" لا ضد المصريين فاقترح الوزراء المرعوبون اقتراحا للنجاة بجلدهم قالوا: ما دام الشدة مطلوبة فأنتم لها.. " شكلوا حكومة عسكرية، وخلونا نروح نبوس ايدك يا بيه.." ولكن القيادة أوضحت لهم:" أن انسحابهم في هذه الظروف يعطى معنى عدم موافقتهم على تلك السياسة" .

وأنت عارف يا شاطر اللي ما يوافقشى بنعمل فيه ايه؟ خصوصا والوقت وقت الشدة وبلع نور الدين طراف رعبه، وهو في المجموعة الانتهازية التي أتلفها بغض الوفد فأسقطها في براثن الحكم الاستبدادي ولوثت اسم الحزب الوطني.. الذي تحول إلى ممسحة لكل من أراد الاعتداء على حقوق الشعب من خلال محاربة الوفد.

طالب نور الدين طراف بالصمود . الصمود ضد الوفد ومحمد نجيب بينما كانت إسرائيل تبحث الصمود والتصدي والتعدي ضد العرب ومصر بالذات.

قرر مجلس الثورة أن يتحول إلى جهاز لإطلاق الإشاعات ضد رئيسه محمد نجيب.. " على أن يتم ذلك عن طريق ذكر هذه الخلافات لكل من نعرفهم، وهم بدورهم سيقومون بنقلها إلى غيرهم كما طلب من الجمهورية والأخبار الكتابة عن المثل والمبادئ".

ويقول بغداد إنهم قرروا معاملة محمد نجيب معاملة لائقة برئيس الجمهورية وقائد الثورة. الخ ولكنه أيضا بسذاجة واقعة حدثت أثناء الاجتماع تعطى فكرة عن نوعية المعاملة التي كان يلقاها محمد نجيب، والغريب أنه لا يعلق ولا يستنكر ولكن بعد عشر سنوات عندما ستفرض الحراسة على أموال أخيه، سيعتبرها عملا لا اخلاقى مع أن أخاه لا من الثورة ولا من التسعة المشهود لهم ولا كان لديه هذه الأموال قبل أن يصبح أخوه " الكاهن" الأكبر للأشغال والمقاولات.

الواقعة أن رئيس الجمهورية المحددة إقامته في منزله بعث يطلب الإذن لطباخه الخاص بالخروج والدخول إلى المنزل دون اعتراض ليحضر المأكولات اللازمة للمنزل" ومذكرة أخرى يطلب فيها السماح بذبح عجل من الماشية كان لديه بالمنزل لنفاذ العليقة الخاصة به وكان قد اشتراه لذبحه وتوزيعه على الفقراء قبل سفره إلى السودان لحضور افتتاح البرلمان السوداني الجديد".

وهكذا في الوقت الذي كان فيه بن جوريون – ( بشهادة) هيكل- يحاول أن يعرف كل صغيرة وكبيرة عن النظام الجديد في مصر وعن نتائج الانسحاب البريطانى من مصر، كان رئيس جمهورية مصر مهددا بالموت جوعا، ولا يملك حق الإذن بذبح العجل الذي تعرض بدوره للتجويع.. ومجلس الثورة يبحث موضوع عجل أبيس هذا ؟ وإذا كان بوسع المؤرخ أن يستنتج السماح لحمد نجيب بالأكل، من واقعة استمراره حيا حتى دفن معظم أعضاء مجلس القيادة، فإن السؤال الحائر إلى اليوم، والذي لم يجب عليه بغدادي هو مصير العجل .. هل لحقوه وحللوه بالسكين ؟ أم نفق جوعا؟

سؤال من ضمن التي ازدادت اتساعا كل يوم بين الشعب والجيش والت لا يمكن تصور انتصار الوطن في ظلها .. فالجيش الذي كان أمل ورمز وقرة عين المصريين قبل الثورة والذي احتضن الشعب ضباطه وجنوده في الأسبوع الأول من الثورة وصل الحال إلى أن قال ضباط سلاح الفرسان لعبد الناصر:" أصبح الشعب ينظر إليهم وكأنهم خونة بعد استقالة محمد نجيب وإنهم على حد قولهم يبصقون أثناء سيرهم في الشارع ويوجهون إليهم كلاما جارحا وأن هذا يؤلمهم ويجرح شعورهم".

أهذا مناخ انشغال بإسرائيل ؟ أو الأمن القومي كما يقول أمين هويدى؟

والذي يراجع مذكرات بغدادي وتصريحات أعضاء مجلس الثورة أمام عبد الناصر وما كانوا يقولونه في لقاءاتهم الخاصة مع من يثقون به يكتشف ظاهرة رهيبة هى أن هذه المجموعة لأمر ما فقدت طهارة البكارة والصدق مع النفس وقرر كل منها أن يبقى على السطح الساخن أطول مدة ممكنة لأن السقوط يعنى الموت بالحياة كما وصفه صلاح سالم.. وها هو وضع رئيس المجلس عبرة لمن يعتبر .. والرعب في أعين الوزراء " ومن ينسحب يعنى أنه لا يوافق" . . فآثروا السكوت.. وفى مثل هذا المناخ لا يمكن معرفة الحقيقة، ولا اكتشاف الأخطاء، وسنرى أنهم استمروا يستبعدون الخطر الاسرائيلى إلى أن نزل جنود المظلات الإسرائيليون في سيناء وعرفوا النبأ في حفل ميلاد أحد الأنجال. وظلوا يستبعدون الغزو البريطانى إلى أن صعد عبد الناصر على سطح بين سفير الهند ورأى الطائرة البريطانية بعينه..

نعود إلى اهتمامات القيادة المصرية في مارس 1954.

" قام سلاح الطيران المؤيد لجمال عبد الناصر بالتحليق الارهابى فوق سلاح الفرسان المؤيد لمحمد نجيب وخالد محيى الدين وأعلن عبد الحكيم عامر أنه غير ملتزم بقرار مجلس الثورة وأنه سيدك سلاح الفرسان إن لم يخضع لأوامره وعلى المجلس أن يحاكمه بعد الانتهاء من المعركة".
والمعركة المقصودة هى ضد سلاح الفرسان المصري ، ولو أن عامر اتخذ هذا القرار الشجاع مرة واحدة في 1956 أو 1967 .. اعني دك إسرائيل على مسئوليته وليحاكموه بعد المعركة .. لتغير التاريخ.. ولكن هيهات.

" وأصدر أمره لوحدات المدفعية والمشاة بأخذ مواقعها التي حددت لها" .

" وفى أثناء ذلك حضر إلينا اليوزباشي كمال رفعت واليوزباشي حسن التهامي وهما من السادات وأبلغانا أنهما قاما من تلقاء أنفسهما بإلقاء القبض على محمد نجيب وهو في منزله ونقلاه إلى ميس سلاح المدفعية".

اجتمعوا بعد ذلك واتهم صلاح سالم، خالد محيى الدين بأنه ( أي خالد) هو الذي دبر عصيان سلاح الفرسان.

وعلمنا من جمال عبد الناصر أنه قد أمر باعتقال الكثيرين من الإخوان المسلمين والشيوعيين وأساتذة الجامعات خاصة جامعة الإسكندرية بصفته الحاكم العسكري.

ذلك لأن أساتذة تلك الجامعة كانوا قد اجتمعوا وقرروا بأن تتولى كل طائفة عملها، وهم يعنون بذلك عودة ضباط الجيش إلى ثكناتهم.. كما أبلغنا أنه قد أمر بتشكيل محاكم عسكرية خاصة لمحاكمتهم".

كان واضحا فشل المخطط الاسرائيلى فشلا ذريعا، ونعنى به الهادف إلى شغل القاهرة أو مصر بالسودان وأوهام وحدة وادي النيل، بل أصبح واضحا أن بريطانيا هى التي سقطت في المخطط الاسرائيلى إذ كانت الدبلوماسية البريطانية ، والإدارة البريطانية ، تعمل ليل نهار لفصل السودان عن مصر، ومجلس الثورة في مصر إما غافل تماما عما يجرى هناك لا يعنيه مصير السودان ولا يشغل باله بأوهام وحدة وادي النيل ، ولا يعانى أية ضغوط من وادي النيل إلا ما يتمثل في مكانة " محمد نجيب" واهتمامات صلاح سالم الذي ارتبطت وحدة وادي النيل بشخصه ومستقبله السياسي، والذي كان من المجموعة الوطنية التي تعتبر فقد السودان كارثة وخيانة وطنية لا يجرؤ رجل ولا نظام ولا حتى ثورة على مواجهة الشعب بها بله مواجهة ضميره.. أما مجلس الثورة فكان منشغلا بتدبير تصفية محمد نجيب وبعضه يتعاون مع الإنجليز ومرتبطا معهم بفصل السودان كما اكتشف صلاح سالم في آخر لحظة، ففقد عقله حرفيا وليس بلاغيا كما وضحنا في فصل السودان في كتابنا السابق.

ومن محاولة اغتيال محمد نجيب ،وإرهابه على يد سلوين لويد والحاكم العام وعصابات عملاء الإنجليز في السودان، إلى إذلاله وامتهانه وتهديده في القاهرة إلى حد تعلقه بعباءة الملك سعود وهو يودعه في المطار، يرجوه أن يأخذه معه ولا يتركه تحت رحمة رفاقه رجال مجلس الثورة، ويعتذر الملك سعود وما إن تطير به الطائرة حتى يسقط رئيس جمهورية مصر وهو يبكى ويصرخ:" البلد رايحة في داهية.. يا رب بتعذبنى ليه.. موتني.. انفضحت يا محمد نجيب.. حاكموني.. " ثم يغمى عليه فيحملونه حملا ويكتبون في مذكراتهم إنه تظاهر بالإغماء.

كان النظام الديمقراطي القائم على فصل السلطات ترسخ قواعده في دولة العنصرية الاستعمارية، وكان رئيس مجلس الدولة يضرب علقة في القاهرة التي عرفت احترام القضاء منذ سبعة آلاف سنة ..

في عام 1954 وقعت حادثتان غريبتان متشابهتان ، الأولى: من تدبير وتنفيذ جمال عبد الناصر ، والثانية : من تدبير " لافون" وزير دفاع إسرائيل وتنفيذ شبكة جاسوسية وتخريب يهودية في مصر.

الأولى نقلا عن مذكرات عبد اللطيف البغدادي أحد أبرز رجال مجلس الثورة قال ك" في الاجتماع المشترك ( مجلس الثورة ومجلس الوزراء مارس 1954) أشار جمال إلى أن هناك ستة انفجارات قد حدثت في نفس اليوم وكلها في وقت واحد وفى أماكن متفرقة، واحد منها في مبنى محطة السكة الحديد، واثنان بالجامعة وآخر بمحل جروبي.

وكان غرضه من الإشارة إلى هذه الانفجارات هو توضيح أن هذا قد حدث نتيجة لسياسة اللين والميوعة الظاهرة في موقف الحكومة وكان محمد نجيب مصرا على اتخاذ الإجراءات العادية ومعارضا في اتخاذ أية إجراءات استثنائية".

والحادثة الثانية في يوليو 1954 قامت وحدة إرهابية إسرائيلية بزرع عدد من القنابل في مؤسسات أمريكية بريطانية في القاهرة والإسكندرية وقد اعتقلت المجموعة وانتحر أحد إفرادها في السجن واعدم اثنان في يناير 1955.

يقول موشى ديان " وثار الرأي العام الاسرائيلى وطالب بمعرفة المسئول عن هذا ا لعمل؟.. هل هو الضابط المسئول عن الوحدة ( الإرهابية) أم وزير الدفاع؟.. وأصر الضابط على أنه تلقى أمرا شفويا من الوزير في اجتماع ضمهما وحدهما.

بينما ادعى لافون أن الضابط تصرف على مسئوليته، وشكلت لجنة تحقيق بأمر رئيس الوزراء تضم رئيس المحكمة العليا وأول رئيس أركان للجيش الاسرائيلى وكان قرارها أنها لا تستطيع أن تجزم على وجه اليقين من الذي أعطى الأمر، وهذا ألقى ظلا من الشك على كل من الضابط وزير الدفاع، ولذا قرر رفاقه في الحكومة وقيادة حزب الماباى أن لافون يجب أن يذهب.

وكان قد قدم استقالته في 2 فبراير 1955 وقبلتها الحكومة في 20 فبراير وفى هذا اليوم رجع بن جوريون إلى منصب وزير الدفاع".

وبدأ التاريخ الاسرائيلى ما يعرف باسم " فضيحة لافون" وقد كتبت الصحافة العربية الأكوام عنها ، وعن فساد النظام الاسرائيلى الذي يزرع القنابل في القاهرة بدون موافقة السلطات الدستورية.. ؟ ولكن لا الصحافة الإسرائيلية ولا المصرية اهتمت بالبحث عن من زرع القنابل الأخرى في عاصمة مصر وفى أماكن شديدة الزحام ولا يتجمع فيها إلا المواطنون من أبناء الشعب باستثناء جروبي.. الذي كانت قد زحفت إليه الطبقة الوسطى لأن الباشاوات والرجعية كانوا في المعتقلات.

ومر ربع قرن دون أن يفتح احد فمه، حتى مات سليمان وانطلق الجن يتحدثون ويعترفون ويتذكرون وأخبرنا عبد اللطيف بغدادي بالآتي:

" اعترف جمال عبد الناصر في اليوم التالي وهو على فراش المرض، أن الانفجارات التي حدثت في اليوم السابق وأشار إليها في اجتماع المؤتمر، إنما هى من تدبيره لأنه كان يرغب في إثارة البلبلة في نفوس الناس.. الخ وليشعروا بأنهم في حاجة إلى من يحميهم على حد قوله".

تشابه غريب في مشاغل القيادتين المصرية والإسرائيلية .. كلتاهما تريد إثارة البلبلة في العاصمة المصرية.. وكلتاهما تزرع القنابل في القاهرة.. مع فارق أن المدبر الاسرائيلى عوقب بالطرد، من الحياة السياسية الاسرئيلية والمنفذين لقوا حتفهم في سجون مصر.. أما الفاعل المصري فسيقام له حزب في مصر وأقترح أن يسمى " حزب البلبلة".

" برر الرئيس عبد الناصر رشوة " الصاوي محمد الصاوي) رئيس نقابة عمال النقل بالقاهرة بمبلغ أربعة آلاف جنيه " ليدفع عمال النقل إلى الأضرار بعد قرارات 25 مارس، ولكن جمال ذكر أنه أراد بذلك أن يسبق خالد محيى ا لدين ويوسف منصور صديق لأنهما كانا ينويان عمل نفس الشيء على حد قوله".
" اقترح جمال سالم التخلص منكل ضابط في الجيش غير موال للثورة والإبقاء فقط على الموالين لها حتى لو أصبح عددهم 300 ضابط فقط.

كما أعاد اقتراحه الذي يردده كثيرا وهو عزل الأفراد والذين يهمهم عزل هذه الثورة عن الشعب مهما كان عددهم ووضعهم في الواحات".

صدر قانون يحرم الوظائف العامة والحقوق السياسية على جميع السياسيين الذين شغلوا مناصب قيادية في مصر منذ بدء الخليفة حتى 23 يوليو 1952 وقيل صراحة إنه يقصد به عزل السنهورى من مجلس الدولة ، حرمت مصر من كل خبرة رجالها لفصل رجل واحد.. فلما اعترض وزير قال له جمال عبد الناصر:" إن مجلس الثورة قد وافق على القانون وهو يعرض عليهم للعلم فقط" .

كان بن جوريون يجرى اتصالاته ويتم ترتيباته لقيام حكومة ذات كفاءة عالية وقادرة على النجاح في انتزاع " حق الوجود" لإسرائيل.. وكانت مصر تحكمها مجموعة أقل ما توصف به علاقاتها أنها تفتقد الثقة، يتربص كل منهم بالآخرين، ويتوقع الغدر منهم وعلى حساب المصلحة العامة.. انظر كيف فسر عبد اللطيف بغدادي اختيار عبد الناصر له ليكون وزيرا " للشئون البلدية والقروية":

" اقترح أن أتولى وزارة الشئون البلدية والقروية، وأن الغرض – كما قيل- هو أن يشعر الشعب بأعمال الثورة في المدن والريف، وأن الاختيار قد وقع على لهذا الغرض، ولكنني أحسست أن الغرض من توليتي هذه الرسالة هو العمل على إضعافي سياسيا لضمان فشلي بها فشلا ذريعا وخاصة أن الاقتراح جاء بعد خلافي مع جمال عبد الناصر".

ويقول بغدادي إنه لما نجح رغم توقيعات أو تدبير الرئيس جمال عبد الناصر، استاء عبد الناصر من ذلك " وبدلا من أن يكون ذلك موضع شكر وتقدير من جمال لأن ما تؤديه تلك الوزارة ونجاحها ما هو إلا تدعيم للثورة وإثبات لوجودها، شن على حملة محاولا التشكيك في أهدافي عند إخواني أعضاء المجلس وقصص أخرى كثيرة واردة في يومياتي ولا محل لذكرها في هذا المجال".

سنتوقف الآن عن استعراض " مشاغل" القيادة المصرية التي صرفتها عن " الانشغال" بإسرائيل، هم مصر الأول والأخير.. لنعود إلى هيكل لنتابع معه الاتصالات ، على أن نعود مرة أخرى لصيغة المواجهة المصرية التي أدت لهزيمة 1956.

الفصل السابع: انتصارات عبد الناصر وخسائر الوطن

" .. و"مصادفة" جاء الإعلان عن صفقة السلاح في اليوم التالي مباشرة لإلغاء المحاكم الشرعية.."

ولأن الهدف كتاب هيكل هو صرف الأنظار تماما عما جرى في صحراء سيناء فإن الكاتب سيسود عشرات الصفحات في الحديث عن انتصارات " باندونج" و" حلف بغداد" و " صفقة السلاح" وهى الاسطوانة المشروخة التي صدعت رأس المواطن العربي 15 سنة حتى تحطمت واحترقت في نيران 1967 ولكن ها هو من يريد أن يسقينا مرة أخرى من البئر التي بصق فيها الجميع.. يعود ليحدثنا عن انتصارات الخطب والمؤتمرات الدولية وقد قرأنا تحليل جولدا مائير عن بن جوريون وأنه لم يكن يهتم إلا بما يضيف للقوة المادية اليهودية، ولا يهتم قلامة ظفر بالمؤتمرات الدولية والصحافة العالمية.

ولنبدأ من " باندونج" .

فقد أثار الإعلام الناصري ويثير ضجة حول اشتراك عبد الناصر في مؤتمر " باندونج" ، ويبدو للناصريين الجدد، أنعبد الناصر ارتكب المحظور والمحرم وفتح الطلسم وتحدى أمريكا وبريطانيا بذهابه إلى مؤتمر ينادى بعدم الانحياز.. الأمر الذي كان دلاس يعتبره " جريمة أخلاقية"..
كما قبل عبد الناصر وحده، أن يظهر مع أشخاص " مشبوهين" مثل شوان لاى وتيتو وسوكارنو.. بل حتى نهرو.. ومن ثم – فعند هؤلاء – أن مجرد الاشتراك في باندونج كان عملا بطوليا نادرا في شجاعته، وتحديا وصفعة للامبريالية الأمريكية بالذات.. لا تأتى إلا من ثوري مثل فتى بنى مر.. بينما منعت الامبريالية الاشتراك فيه عن سائر الدول غير الثورية التحررية ..الخ .

ولن نتمسك كثيرا بالرواية المثيرة التي أثبتها " مايلز كوبلاند" والتي تزعم أن خطة عمل الوفد المصري في مؤتمر باندونج، وضعها خبراء من واشنطن .. وراجعها ونقحها رجال المخابرات الأمريكية في القاهرة.. ومع ذلك فلا بأس من إثبات ما رواه قال:

" قبل سفر عبد الناصر إلى باندونج كان أصدقاؤه الأمريكان منتعشين ،وكانوا أيضا يشجعونه على الاعتقاد بأنه سيجد لنفسه مكانا في نادي الكبار..

وجاء خبراء من واشنطن لكتابة ورقة عمل ، وترجمت هذه الورقة للعربية بواسطة " على صبري" الوزير بدون وزارة في الرئاسة، على أساس أن يستعير عبد الناصر بعض ما بها من أفكار .

كما جرى تلقين مساعدي عبد الناصر، بعض ما يمكن أن يصادفهم من شوان لاى والشيوعيين .

كما قدمت معلومات هائلة لعبد الناصر عن الوضع السياسي في اندونيسيا وهو موضوع كان هاما جدا للولايات المتحدة، ولبعد الناصر في نفس الوقت من ناحية أن سوكارنو أحد منافسيه في المؤتمر. ولما كان الخبراء الذين جاءوا من واشنطن على اتصال فقط بالسفير بايرود ، فإن اطلاعنا على ترجمة على صبري لما كتبوه أثار حماستنا، فقد وصلت إلينا مكتوبة على ورق من رئاسة الجمهورية، بدو إشارة إلى أنها مجرد ترجمة لأصل امريكى.. بل بدت كأنها تعرض الموقف الذي ينوى عبد الناصر فعلا أن يتخذه، وعندما ترجمها المسئول السياسي .

في السفارة " بيترتشيس" إلى الإنجليزية، وقدمها لبايرود" قال له " بيتر" إنها أذكى ما قرأ لاى حكومة في الشرق الأوسط. وأن الحكومة الأمريكية ربما تجد في ناصر، عنصرا مهما في التأثير على دول أفريقيا وآسيا لكي تصبح محايدة حقا، بدلا من أن تحايد إلى جانب الشيوعيين كما بدأ شعار الحياد الايجابي يعنى فعلا".

بصرف النظر عن واقعة" ورقة العمل" وإن كنا نعتقد بصحتها، فإن ما أورده يثبت الآتي:

1- لم يكن اشتراك مصر " رغم أنف" أمريكا ولا على جثتها بل رحبت به ونظمت مساعدة الوفد المصري بكل ما أورده ، وما لم يورده..
2- كانت خطة أمريكا في منتهى البساطة كما سنشرحها بالتفصيل ، إرسال زعيم تثق فيه وفى عدائه للشيوعية ليعطى " الحياد" نكهة غير شيوعية.. لأن الموجة السائدة والتيار كان يعطى الحياد لونا شيوعيا..

ومع ذلك كما قلنا لن نتمسك بهذه الرواية لأنها" أفظع" من أن تصدق.. ونعود لبداية الحديث.. فنسأل أي شجاعة أو غرابة في الاشتراك في المؤتمر؟

المؤتمر اشتركت فيه كل من : سوريا ولبنان والسودان والعراق والأردن والسعودية وليبيا واليمن؟

أي جميع الدول الغربية المستقلة وقتها، والمرتبطة بمعاهدات أو قواعد سواء مع بريطانيا أو أمريكا؟ فلماذا يكون اشتراك مصر عجبا وحده؟.. ونصرا يسجل ، ويوازى ما جرى من كبت وهزائم؟ وما العجب في اشتراك مصر؟ ما الانجاز التاريخي، والتحول العالمي ، والموقف الوطني الذي تجلى بمجرد السفر إلى باندونج؟

كلهم سافروا : ليبيا إدريس السنوسي؟ وعراق ونورى السعيد. . بل حتى إسماعيل الأزهري الذي عاد من لقاء ملكة بريطانيا ليشن حملة شعواء على عبد الناصر لم يتأخر عن حفلة باندونج.. بل كان بارزا هناك في كمناكفته للوفد المصري، بل قيل إن " شوان لاى" دافع عن حقه في التحدث باسم السودان.. عندما قال : " أعتقد أن هذا الأسود هو أحق من في القاعة.. بالحديث عن السودان".

فلماذا ينفرد " عبد الناصر" بالثناء التاريخي ويحرم منه الملك إدريس نورى السعيد والإمام أحمد.. الخ؟

سيقول الناصري.. ليس المهم الاشتراك، وإنما المهم المكانة البارزة التي كانت لعبد الناصر في المؤتمر؟

وهذه المكانة هى من شقين: شق من صنع الإعلام المصري الذي قال عنه سلوين لويد إن " جوبلز يحسد عبد الناصر عليه" وكانت هذه تلميحة منه للخبراء الألمان الذين جاءت بهم المخابرات الأمريكية لمساعدة الإعلام المصري. والذي يمكن القول إنه كان أقوى إعلام في تلك الفترة في العالم الثالث كلاه، والذي كان يبذل وقتها- جهدا خاصا بمعونة " أهل الخبرة" لرفع شعبية عبد الناصر بعد اتفاقية الجلاء وتأكد انفصال السودان، ومذبحة الإخوان المسلمين ، وتحويل الوطن إلى سجن كبير لشتى القوى السياسية من اليمين إلى اليسار ..

وقصة الخلاف حول تنظيم الاستقبال الشعبي للقائد من باندونج معروفة، وقد طارت فيها رأس جمال سالم الذي كان نائبا لرئيس الوزراء، أي حاكم مصر في غياب عبد الناصر أو هكذا كان يعتقد، وأراد أن يكون استقبال عبد الناصر عند عودته من باندونج" استقبالا عفويا وبمبادرة الجماهير" وكان ذلك يعنى أن عبد الناصر سيصل للمطار ويتوجه إلى بيته دون أن يدرى أحد، كما حدث لكل الوفود التي اشتركت في مؤتمر باندونج، فلم يكن المصريون قد تخدرا بعد بأمجاد النصر الخالد الذي حققوه باشتراكهم في باندونج ولكن الأجهزة الخفية التي كان يحكم بها الرئيس مصرن كانت ترى في ذلك فرصة كما قلنا لكسب شعبية، وتغطية الاعتراضات المطروحة من المصريين.. فقرروا تحدى جمال سالم.

يقول بغدادي:" ولكن هيئة التحرير والمسئولين بها: إبراهيم الطحاوى وأحمد طعيمة لم يلتفتا إلى أوامره واتخذا ترتيبات أخرى مخالفة لتلك التي أمر بها ( جمال سالم) بل وتم نشر الترتيبات التي اتخذاها على صفحات الجرائد اليومية دون إذن منه.

وكان جمال سالم يرى أن يكون استقبال جمال عبد الناصر الشعبي نابعا من الجمهور نفسه دون تدخل من الأجهزة الرسمية للدولة، ولكن المسئولين عن هيئة التحرير قاموا بالعمل على نقل العمال إلى المطار ومناطق أخرى متعددة بغرض التجمع بها.

وعلى طول الطريق الذي سيمر به جمال عبد الناصر وهذا التصرف ضايق جمال سالم.. الخ".

وقد عوقب جمال سالم بنزع اختصاصاته كنائب رئيس وزراء فور عودة عبد الناصر، عقابا لع على الاعتماد على مبادرة الشعب".

هذا عن العنصر الأول في أسطورة نجم " باندونج" أما العنصر الثاني والحقيقي، فهو مكانة مصر التي جعلت نهرو خلال زيارته لمصر يتحدى عبد الناصر ويصر على مقابلة الرئيس مصطفى النحاس المحددة إقامته وقتها، لأنه كما قال:"إن الحركة الوطنية في الهند تتلمذت على حزب الوفد.." .

وإلا كيف تفسرون استقبالات اندونيسيا ؟ كيف يمكن تفسيرها بشخصية عبد الناصر؟ الذي لا يتحدث الاندونيسية ولا الهولندية؟ ولا كان وقتها قد حقق إنجازا واحدا يبرر أن يستقبله الشعب الأندونيسى هذا الاستقبال المفرط في الحماسة..؟

هل كانت معاهدة الجلاء إنجازا أكبر مما حققه سوكارنو بتحرير اندونيسيا؟

هل كانت يسارية وتقدمية عبد الناصر هى السبب وهو الذي لم يسافر إلى باندونج، إلا بعد أن شن أكبر حملة اعتقالات ضد الشيوعيين المصريين، صفى فيها تنظيم " الراية" ( الحزب الشيوعي المصري) بينما كانت اندونيسيا تضم أكبر حزب شيوعي في آسيا بعد الصين؟

هل كان الشعب الأندونيسى لا ينام الليل متابعا معركة حلف بغداد بين عبد الناصر ونورى السعيد.. ولذلك خرج إلى الشوارع يحي بطل ضرب حلف بغداد؟ حتى هذه لم تكن قد اشتعلت بعد..

ماذا كان عبد الناصر يمثل في ابريل 1955 للشعب الأندونيسى حتى يكون استقباله هناك " اشد حماسة من استقبالاته في القاهرة والإسكندرية.. فكان ظهوره على منصة الخطابة أو في الأروقة والشوارع يقابل بمظاهرات حارة جدا؟".

والمتمركس ناقل النص يلقى كعادته بنصف التفسير ثم يعدو هاربا خوفا من الناصريين الذين يحلو لهم دائما أن يجعلوا عبد الناصر أكبر من مصر فهو يقول:" كانت هذه أول رحلة لجمال عبد الناصر خارج مصر، ظهر فيها كنجم بارز يمثل دولة ذات حضارة عريقة ولها دور قيادي في الدول العربية التي كانت تشكل ثلث أعضاء المؤتمر".

طبعا كاتب مثله لن يشير على الإسلام ولكنه اعترف بـأن بروز عبد الناصر كان لوقوفه على منصة مصر وليس العكس كما يروج أو يسجل صبية الناصرية، مكسب باندونج على حساب مصر.

ما من تفسير واحد لشعبية وتألق عبد الناصر في أند ونسيا إلا أنه القادم من مصر " عش العلماء" وبلد الأزهر الشريف الذي منه هذا الشيخ المعلق بركاب عبد الناصر.. وأيضا بلد ثورة 19 وإلغاء المعاهدة.. الخ.

ونضيف عدة ملاحظات لمن يريد التوسع في دراسة باندونج وفكرة عدم الانحياز وقتها:

عدم الانحياز لم يكن شعارا موجها بالدرجة الأولى ضد المعسكر الغربي.. أو على الأقل لم يكن موجها ضده وحده.
فالمعسكر الشيوعي كان لا يزال متأثرا بنظرية ستالين- زادنوف عن انقسام العالم إلى معسكرين: معسكر الاستعمار، ومعسكر السلام .

" ولا أحد يستطيع أن يجلس على السور، فإما أن تقع في هذا الجانب أو ذاك".

ومن ثم فظهور نظرية، بل وتنظيم يؤكد أن السور، ليس فقط ، يتسع لمن يريد الجلوس عليه، بل هو المكان الطبيعي لدول العالم الثالث، أي أنه ليس من الضروري لكل من أراد التحرر من الاستعمار أن يقع في أحضان الروس مثل هذه النظرية موجهة بالدرجة الأولى ضد روسيا، ضد التيار الذي كان يجذب حركات التحرر الوطني نحو موسكو، حتى وإن نجح الروس في تطويقها وامتصاصها فيما بعد.. ولم يكن مصادفة أن تكون نجوم المؤتمر هى الصين ويوغسلافيا واندونيسيا .. والهند.. وكلها كانت تخوض صراعا متفاوت الحدة والعلنية ضد " الهيمنة السوفيتية" أما عبد الناصر فهو كما – وصف بحق- الرجل الذي قضى على الشيوعية في العالم العربي ودعك من هستيرية دلاس فالقوى الأكثر اتزانا في الإدارة الأمريكية كانت تعيش التطور الجديد. وكانت تؤيد " اتزان" الحياد ووقف اندفاع الدول الآفروآسيوية للاتحاد السوفيتي باسم "الحياد الايجابي".

الوجود العربي في ا لمؤتمر ( 9 من 29 دولة) كان بلا شك عنصرا ملطفا في مواجهة أية حماسة يثيرها شوان لاى ولم يكن مما يغضب الأمريكيين أن ينتزع عبد الناصر عدو الشيوعية الأضواء في المؤتمر من " شوان لاى" أو سوكارنو المشاغب مع الأمريكان وضحيتهم في النهاية.

وإذا أضيفت إلى قائمة المكاسب رفه شعبية عبد الناصر في المنطقة حيث كانت الولايات المتحدة لا تزال تراهن عليه في تصفية الوجود البريطانى وأيضا في تحقيق التسوية السلمية مع إسرائيل ، وهو الهدف الذي لم تتخل عنه قط.. كذلك اكتشف الأمريكان، كما اكتشف الإعلام المصري وجود ميدان آخر يمكن كسب انتصارات فيه وتجريعها للجماهير لكي تنسى ميدان المكاسب الحقيقة وهو الصراع ضد إسرائيل .

إسرائيل لم تشترك في باندونج ولم يخطب بن جوريون في " بالى" ولا قام فيها مقر المؤتمر الآفروآسيوى، ولكن ذلك لم ينتقص من مكانتها العالمية، والدليل : أن العالم كله كان معها عشية عدوان 1967 وضد عبد الناصر الذي لم تفده مكانته الدولية ولا باندونج ولا عدم الانحياز ولا الحياد الايجابي، ولا آسيوي – افريقى . كل هذه الفقاقيع التي استخدمت على أوسع نطاق لتخدير الجماهير المصرية والعربية. وحرف أنظارها عن مواجهة إسرائيل ..

وهكذا كانت المهرجانات تقام باسم باندونج، والقصائد أو المقالات تدبج في بطل باندونج، وإسرائيل تحتل المنطقة المنزوعة السلاح في العوجة والكونتللا وتذبح الجنود المصريين والمواطنين الفلسطينيين في غزة، وتشحذ آلة الحرب استعدادا لعدوان 1956 وقد لخص " المعلم" مايلز كوبلاند النجاح المصري في عالم الآسيوي- افريقى وباندونج.. الخ فقال :

" فشل ناصر في تحويل الدول الأفريقية ضد إسرائيل ، وهو لم يكن هدفا جادا من أهدافه على أية حال ؟ ولكنه نجح في كسب تأييد واسع آسيوي- أفريقي للقرارات المضادة للامبريالية في الأمم المتحدة وغيرها، وكذلك تأييد حق تقرير المصير، ودور متزايد في العامل الآسيوي – الافريقى مما أدى إلى تقديم الإنجليز والفرنسيين والأمريكان مساعدات أكثر لمصر في محاولة لشرائه".

باندونج كانت المهرجان والنشاط آسيوي- الافريقى كان من لزوم المهرجان ولا علاقة له بالمواجهة المصرية- الإسرائيلية إلا بالسلب .

وربما كان كاتب متمركس نصف ناصري يشير على حكاية شرائه هذه عندما قال إن عبد الناصر كان يريد شل المؤتمر آسيوي – الافريقى عندما جاء به إلى القاهرة ومنعه من أن يلعب دورا سياسيا إيجابيا، ولذلك تعمد أن يفرض عليه " عسكري" ليس له أية اهتمامات سياسية – في أي هذا الكاتب- مما أدى إلى تحول المؤتمر إلى " مقر هامشي بلا فعالية أو أثر وربما كانت الخشية من زحف الأفكار اليسارية "الخ".

فنشاط مصر في المؤتمر الآسيوي- الافريقى استهدف شله وتفريغ فعاليته.

إلا باندونج كان بداية تطور جديد للناصرية، ومن هنا أهميته الحقيقية ، لا كانتصار لمصر. ولكن كتغيير في المعادلة .. فالروس باعتبارهم يتحركون على موجة واحدة، وليس بين أجهزتهم هذا التناقض أو التفسخ الموجود في الأجهزة الأمريكية، نصبوا شباكهم لهذا المتعطش للزعامة، والقادم من أهم بلد في آسيا وإفريقيا، وقتها، وكما رأت الولايات المتحدة في عبد الناصر قوة صدام وحاجزا ضد الشيوعية، كذلك رأى السوفيت فيه إمكانية لدخول قصر لعبة ألأمم في الشرق الأوسط، يقول كوبلاند" في باندونج سر ناصر الطرفين، الأمريكان لأنه خفف الحملة على الغرب، والروس بتأييده الحملة عل الاستعمار" إلا أن الموقف اختلف لأن الروس لم يتحفظوا في مدح سلوكه، بينما كانت لنا نحن تحفظاتنا، كذلك أقنعه الروس أنه وصل ( القمة) أما نحن فلن نقل له ذلك"

وهذا طبيعي فالأمريكان كانوا يتوقعون من صديقهم أكثر مما كان بوسعه أن يقدم، والروس كانوا ينتظرون من " البكباشي" الفاشي معتقل الشيوعيين " عميل " الغرب أسوا بكثير مما حدث.. فكان أن عتب هؤلاء وابتهج أولئك.

وعبد الناصر تصرف التصرف الطبيعي، فلم يكن بوسعه أن يزاحم شوان لاى ونهرو وكوكارنو .. إذا اتخذ موقف شارل مالك أو نورى السعيد.. فهو لم يكن مسحورا " بشوان لاى" كما " دس " له شارل مالك عند المسئولين في المخابرات الأمريكية ، بل كان يحاول إبطال سحر شوان لاى ، كانت الموجة هى سب الاستعمار، أما مهاجمة " الهيمنة السوفيتية" فلم يكن شعارها قد طرح بعد، وإن كان في صدور الرجال مثل " تيتو" و" شوان لاى".

ويعتقد " مايلز كوبلاند" أن البيروقراطيين في واشنطن لم يفهموا ذلك ومن ثم ضاق صدرهم بعبد الناصر، بينما التفسير الأخبث ، يقول: إن الرؤساء في واشنطن الذين يريدون لعبة ألأمم،رأوا أن إظهار غضب أمريكا وهزيمتها.

يساعد على نجاح عبد الناصر، ويضاعف مكاسب اشتراكه في المؤتمر.. بينما التفسير الأقرب للعقل، هو أن الأجنحة الأمريكية المعادية للشيوعية عداء صليبيان وكانت أمريكا غير معترفة بالصين وحديثة بالمكارثية، لم تلتئم جراحها بعد من حرب كوريا.. هذه العناصر التي ستقود أمريكا إلى حرب فيتنام، كانت ضد أن يظهر أو أن يصافح موظف في دائرة نفوذها، الزعيم الشيوعي الصيني شوان لاى .. ومن قم غضبت من عبد الناصر..

وهناك أيضا المدرسة الإسرائيلية الأمريكية التي كانت تعمل ليل نهار لنسف العلاقات الناصرية -الأمريكية ، وإحباط مشروع اعتماد مصر- عبد الناصر، كالوكيل أو الاحتياطي الامريكى في المنطقة، وهذه المدرسة سلاحها المفضل، هو اتهام عبد الناصر بالشيوعية ، ووسيلتها هى استفزاز لكي يندفع أكثر في اتجاه الشيوعية.

وربما يكون التفسير الصحيح هو مزيج من هذه التفسيرات جميعا.. بل اغلب الظن أنه كذلك.

المهم يرى " كوبلاند" أن الروس كانوا أذكى في قبول خطوة عبد الناصر في اتجاههم والترحيب بها والشد على يده، ومعاملته كزعيم عالمي.. والتغاضي عن خطواته في الاتجاه المضاد.

يقول:" وقد انتقل برودنا إلى مصر في أكث الأشكال استفزازا فأولا لم يظهر السفير بايرود في مطار القاهرة في استقبال عبد الناصر عندما عاد عودة الفاتحين من المؤتمر وعندما وصل عبد الناصر إلى منزله كان أول تقرير يتلقاه هو أن بايرود لم يكتف بمقاطعة الاستقبال، بل ونصح كل سفراء الغرب الآخرين بتبريد الدخول الظافر.. والحقيقة هى أن " بايرود" تحدث مع السفير البريطانى وسأله ما البروتوكول المفروض، فنصحه بترك سفراء الدول الآفروآسيوية ينعمون بيومهم. فلما اتصل عدد من سفراء الدول الغربية يسألون بايرود هل أنت ذاهب رد عليهم بأنه يعتقد أن وصول عبد الناصر يجب أن يبقى آسيويا- أفريقيا.. وأن عبد الناصر سيسعده أن نبقى نحن البيض بعيدا".

هذا لغو، لا أهمية له، وإن كان قد حرص على " تلبيس" المسئولية للسفير البريطانى.. إلا أن "اللعبة" كانت تبدأ بالاتفاق مع ألأمريكان، ولكن البطل لكي يندمج في الدور ويثير حماسة رواد المهرجان كان عليه، وغالبا ما ينجح ، إغضاب الأمريكان الذين بسبب نظامهم وارتباطهم السرطاني بإسرائيل ، سرعان ما يطورون هذا الغضب الصحي ، إلى فشل سياسي، بالنسبة لهم، ومظاهرة ناصرية – سوفيتية. وفى النهاية ماذا بقى في يدنا من باندونج؟

ماذا أفادت باندونج ميزان الصراع المصري – الاسرائيلى..؟

سيقفز الجواب من حلوقهم.. صفقة السلاح.. فقد كان حديثها في باندونج من شوان لاى .. وكانت باندونج بداية المسيرة في اللعب على حبال الوفاق والتناقض بين الغرب والشرق..

.. وحلف بغداد
وإذا كان هيكل قد اضطر إلى الاعتراف بأن معركة حلف بغداد لم تكن مع الولايات المتحدة بل لمح إلى عجز بريطانيا عن فهم السياسة الأمريكية فـ " الأحلاف كانت سياسة أمريكية ن ومع ذلك ترددت أمريكا في الانضمام لحلف بغداد" إلا أن الغبار ما زال يغلف قصة حلف بغداد، والشائع عند السوقة، أنها كانت معركة مصيرية خاضتها مصر وحدها وأحيانا بدعم العناصر الوطنية في سوريا ضد الحلف الشيطاني الامريكى – الاسرائيلى- البريطانى- العراقي – التركي..الخ.

.. وحلف بغداد والصورة الحقيقية بعيدة كل البعد عن ذلك وهى باختصار :.. وحلف بغداد

كانت بريطانيا وحدها وعملاؤها من العرب مع الحلف..

وكانت أمريكا وإسرائيل ومصر والسعودية وسوريا ضد الحلف وقد يبدو هذا مزعجا وصدمة للناصريين القدامى الذين سكروا بخمر " معركة الأحلاف" ومخيبا لآمال الناصريين الجدد الذين يتطلعون لاستئناف هذا اللون من المعارك القليل الخسائر.. ولكن ههذ هى الحقيقة..

وفكرة الأحلاف أو محاولتها سابقة على قيام 23 يوليو ووصلت إلى شكلها الواضح المحدد عامي 1950- 1951 .. ورفض مصر لها وتعرضها للضغط لقبولها، وخلافها مع بغداد حولها سابق على 23 يوليو .. ويرجع إلى هذا التاريخ.. وفى أوراق وزارة الخارجية الأمريكية من عام 1959/ 1951 مطلب عراقي – بريطاني بنصح مصر بالكف عن تحريض الدول العربية على رفض الانضمام للحلف المقترح من قبل العراق".

ومن المعروف أن بريطانيا وأمريكا وفرنسا وتركيا، قرروا تشكيل قيادة للشرق الأوسط في عام 1951 على أن تضم مصر " وربما دولا أخرى من الشرق الأوسط"..

وكانت الخطة هى ترضية المشاعر الوطنية في مصر والعراق بل وحتى الأردن بإلغاء المعاهدات الثنائية التي كانت تربط هذه الدول ببريطانيا والتي كانت تعتبر في نظر الوطنيين العرب معاهدات حماية واحتلال وسيطرة ومن ثم ترضى مشاعر هؤلاء بإلغاء هذه المعاهدات، وفى نفس الوقت يتم تشكيل تنظيم جديد، أو طرح صيغة جديدة تنتقل إليها كل الامتيازات العسكرية، وبالتالي السيطرة السياسية ، ولكن تحت اسم أقل " بريطانية" وأكثر مداعبة لغرور هذه الدول، وأكثر قابلية للدفاع عنه من العملاء المحليين..

أو كما جاء في مذكرة بتاريخ 8 سبتمبر 1951 ( أي قبل الثورة بعشرة شهور) من واشنطن تحمل عبارة سرى جدا وعاجل: " تقرر أن يقترح على مصر الاشتراك في قيادة الشرق الأوسط وستصبح مصر عضوا في هيئة رئاسة الأركان وسيضم مكتب القيادة العليا ممثلا عن مصر وستشجع مصر على قبول مقر القيادة في أراضيها، وتعطى مكانا مهما في تلك القيادة، وتحول القاعدة البريطانية الحالية في مصر إلى قاعدة للحلفاء تحت إشراف قيادة الشرق الأوسط مع الاشتراك الكامل لمصر في إدارتها في الحرب والسلم. وتنسحب كل القوات البريطانية في الحرب أو السلم ، سيضم للقيادة وستضمن مصر للحلفاء في حالة الحرب أو التهديد بالحرب كافة التسهيلات والمساعدات التي تشمل استخدام مواني مصر وطائراتها ووسائل مواصلاتها". أي استبدال الاحتلال البريطانى باحتلال مشترك بريطاني- فرنسي- امريكى.. أما تركيا فهي لربط الحلف الأطلنطي وكانت قد انضمت إليه تركيا في وقت سابق..

وبالطبع رفضت حكومة مصر الاقتراح جملة وتفصيلا وشنت عليه حملة شعواء في الصحافة المصرية.. ثم كان إلغاء المعاهدة وانهيار أي حديث عن تسوية مصرية – بريطانية، وخاصة بعد أن صدرت مراسيم وحدة وادي النيل تحت التاج المشترك، وأصبح من المستحيل على أية حكومة ولو برئاسة سائق السفارة البريطانية إلغاء هذا القانون..

وكان الحل هو إلغاء " التاج المشترك" وهكذا بإلغاء الملكية في مصر سقط القانون وسقطت آثار القرار الوفدي الشجاع بإلغاء المعاهدة.. وحلت مشكلة السودان..

أما مشكلة الجلاء، فكان من المستحيل على أية حكومة مصرية قبل 23 يوليو أن تقبل " الدفاع المشترك" مع بريطانيا، بمعنى استمرار الوجود البريطانى في مصر، وإن ذهب بعضها إلى إمكانية قبول عودة الإنجليز في حالة الحرب أو العدوان على مصر أو حتى البلاد العربية، أما إدخال " تركيا" فكان مرفوضا من جميع الأحزاب والحكومات حتى أكثرها رغبة في التعاون مع الإنجليز.. وهذه العقدة أصرت عليها بريطانيا في مفاوضاتها مع عبد الناصر واضطر هذا إلى قبولها..

وبذلك لم يكن هناك مفر مع الضغط الامريكى على بريطانيا – من توقيعها الاتفاقية لتبدأ على الفور في محاولة الاستمرار في صيغة جديدة بل وأن تتسع ههذ الصيغة لترضية العراقيين وخاصة نورى السعيد المطروح منافسا لمصر، والذي يتحتم تقديم صيغة جديدة لارتباطه ببريطانيا بعد أن حصلت مصر على الجلاء وإلغاء معاهدة 1936.. وهكذا أوعزت بريطانيا بقيام حلف بين العراق وتركيا.

.. وحلف بغداد ونترك سلوين لويد وزير خارجية بريطانيا يحكى لنا القصة: .. وحلف بغداد

وسلوين لويد، كما هو معروف، هو وزير خارجية بريطانيا وقبلها وزير المالية، خلال السنوات التي سبقت وشهدت معركة القناة، وحلف بغداد ، فهو من هذه الناحية شاهد عيان ، وهو أيضا رئيس الدبلوماسية البريطانية الذي شاهد أو ساهم في تحويل بريطانيا العظمى إلى دولة من الدرجة الثانية، هو آخر أجيال الإمبراطورية، وأول من شاهد واعترف مرغما بحتمية قبول مقعد في الصف الخلفي في لعبة ألأمم التي يتصدرها الأمريكان والروس.
ولكي نختصر كتابه الذي يقع في 282 صفحة نقول إنه في هذه الفترة التي يحكى عنها كانت الولايات المتحدة تعمل بهمة لتصفية الوجود أو النفوذ البريطانى والفرنسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.. تصفية ووراثة الامتيازات النفطية الأنجلو- فرنسية في المنطقة وما يستلزمه هذا وما يتبعه من مراكز إستراتيجية ونفوذ ومصالح اقتصادية أخرى..
ولم يكن من الممكن لاعتبارات كثيرة أن يأخذ هذا الصراع صيغة الحرب العالمية الأولى أو الثانية أي القتال المسلح بجيوش الأطراف المتصارعة، وإنما كان عليهم أن يقاتلوا من وراء الأقنعة، وبالقفازات من خلال القوات المحلية في الأجزاء النائية، أو من خلال الانقلابات في سوريا، انقلاب يوقع اتفاقية التابلاين وانقلاب يجمدها، أو من خلال المحاور العربية حول حلف بغداد . أو بالدعم المصري – السعودي لثورة الجزائر والحركة الوطنية في المغرب.

ونرجو ألا يسيء القارئ الفهم. فلا شك أن الخلاف حول" البوريمى" كان مطلبا وطنيا سعوديا مشروعا.. وأن المقاومة البريطانية لهذا الحق كانت من أجل الإمكانات النفطية الهائلة المؤكدة في المنطقة وإن لم يكن في الواحة ذاتها، ولكن باعتبار أن الولايات المتحدة لها مركز خاص في النفط السعودي وقتها- فإن أية إضافة للثروة النفطية للمملكة يضاف بصيغة ما، إلى الرصيد النفطي الامريكى في السوق العالمية، ومن ثم كانت لأمريكا مصلحة في ترجيح وجهة نظر السعودية في صراعات الحدود مع البريطانيين أو المحميات البريطانية.. فكونه يمثل تعارض مصالح عالمية، لا ينفى واقعيته المحلية.. كذلك الدعم العربي لثورة المغرب والجزائر وتونس هو موقف قومي ومصيري، ولكنه في نفس الوقت يتفق مع الإستراتيجية الأمريكية الراغبة في طرد فرنسا من شمال أفريقيا وهكذا كما سنرى، كانت أمريكا ضد حلف بغداد، ضد أي تشكيل يبقى الوجود البريطانى في المنطقة أو يجر إلى قبضتها الدول التي أفلتت من هذه القبضة وأصبحت صديقة أو في دائرة النفوذ الامريكى أو تترك بابها مفتوحا.. كان العالم يودع نظاما هزم، وهو الهيمنة الأنجلو – فرنسية، ويستقبل نظاما جديدا هو الهيمنة الأمريكية – الروسية. وإليك ما قاله خبير الأحلاف الامريكى في تلك الفترة، والرجل كان يتولى تنسيق جبهة العراق- الأردن- لبنان قال:" كان" هربرت هوفر، وكيل الخارجية الأمريكية يكره حلف بغداد والسد العالي لما ستستفيده بريطانيا منهما".. ووكيل الخارجية هذا ، كما سترى في يوميات معركة العدوان الثلاثي، أقوى وأهم وأفهم من المختل فوستر دلاس.. وهو ضد حلف بغداد فأي مخاطرة أو مجد أن يكون عبد الناصر أو شكري القوتلى ضد هذا الحلف؟

وقال سلوين لويد عن هوفر هذا :" إن الولايات المتحدة لم تنضم لحلف بغداد تحاشيا للصدام مع النفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة، ولم يهتموا بما يصيب النفوذ البريطانى، وهذا أهون التفاسير، أما أسوأها فإن "الماكجيين ( من ماك جى سفير أمريكا في غيران) في مرحلة تصفية الحكم البريطانى- وكافري السفير الامريكى في مصر الشديد العداء للانجليز) وأرامكو في السعودية، قد أظهروا عداوتهم لبريطانيا علانية.

وهربرت هوفر الابن وكيل الخارجية الأمريكية كان غارقا في عداوة البريطانيين إذا ما حكمنا بما قاله وما فعله".

" كانوا في وزارة الخارجية الأمريكية يعتقدون أن أي ارتباط علني مع المستعمرين الامبرياليين البريطانيين، سيسبب ضررا ماحقا، إن دلاس لم يقبل أبدا الانضمام إلى حلف بغداد تحت أي ظرف من الظروف".

هذا هو باختصار ، واقع الزمن الذي طرح فيه حلف بغداد، على أن نراعى – كما قلنا- أن هذا اللون من الصراع، شديد التعقيد، وهو لا يحكمه أو يحكم تصرفات اللاعبين فيه، قانون بسيط اسمه التناقض الامريكى- البريطانى، كما كان بؤساء " حزب التحرير " " وحدتو" يفسرون كل شيء بمفهوم أن كل القوى المحلية مجرد دمى، بعضها يلبس العلم البريطانى وبعضها الراية ذات النجوم والأشرطة ويحرك البعض الأول جون بول بينما يحرك البعض الآخر العم سام؟ هذا تصور ساذج وتبسيط سوقي، وليس في السياسة شخصيات مسطحة، ولا مواقف مبسطة، فهناك أكثر من قانون وأكثر من علاقة تربط الدولتين وتحكم تناقضهما وتصرفاتهما وهناك علاقات كل دولة بالقوى العالمية الأخرى ، وهناك المصالح والإمكانات للقوى المحلية..وهناك الدبلوماسية التي تغطى ذلك كله بالحديث عن المبادئ والقيم والمثل والمصالح المشروعة، والسلام العالمي ومحاربة الشيوعية والحياد الايجابي والسلبي .. الخ .. حتى ترى " سلوين لويد" يتحدث عن حماية بريطانيا للسودان من الاستعمار المصري وشوكبرج يتحدث عن مؤامرة سعودية – شيوعية .

كذلك ستعجب لتناقض الموقف الامريكى، أو تناقض تصريحات دلاس وزير خارجية أمريكا مع سلوك حكومته، بل مع مواقفه هو نفسه العملية.. وسنلمس فارقا كبيرا بين موقف " دلاس" " المتدين" الذي يكره عبد الناصر ، وبين موقف موظفي الجهاز المحترف سواء في ا لمخابرات الأمريكية أو وزارة الخارجية الذين يراهنون على الزعيم الشاب لتصفية بريطانيا والشيوعية من المنطقة.. وقد فعل. .

وقد شهد سلوين لويد " أن حكام مصر الجدد قدموا تنازلا لم تقدمه حكومة مصرية من قبل وهو حق السودانيين في تقرير المصير. وقد مدحهم ايدن في البرلمان" لأنهم فضلوا التركيز على محاربة الفاسد في بلادهم وحل المشاكل الدولية التي ورثوها من الحكومات السابقة، منا أشاد بقبولهم مبدأ حق تقرير المصير".

وقد ظهرت فكرة حلف بغداد بالتنازل الثاني الذي قدمته الثورة كما قلنا، عندما اعتبرت تركيا في دائرة الدفاع الإقليمية وأن العدوان عليها يبيح للانجليز العودة إلى قواعدها العسكرية في مصر، تماما كالاعتداء على السودان أو السعودية، ومن هنا نؤيد قول ممثل وزارة الدفاع الأمريكية أو أول دولة عربية وقعت حلفا عسكريا مع ا لغرب هى مصر الناصرية وليس عراق نورى السعيد، ولا جدوى من تزوير التاريخ.. بل وثاني دولة وقعت معاهدة عسكرية مع الولايات المتحدة هى مصر الناصرية في ديسمبر 1953..

وبقبول مصر الدفاع المشترك عن تركيا، أو الحلف البريطانى – المصري – التركي، ظهرت فكرة ربط تركيا عضو حلف الأطلنطي بالمنطقة العربية بضم العراق والأردن، على ضوء التوصية القديمة ( 1951) " بأن تتخلى بريطانيا عن معاهداتها السيئة السمعة مع الأردن والعراق إذا ما توافرت الترتيبات البديلة" أن تبقى قوات بريطانيا ولكن بموجب الحلف، وتلغى المعاهدة لإسكات المعارضين.

يقول سلوين لويد:

" فوقعت معاهدة دفاعية بين تركيا والعراق في 24 فبراير 1955 بتشجيع امريكى كبير . ونحن أيضا نؤيد ذلك لسببين الأول أنه يقوى الدفاع عن الشرق الأوسط ضد الخطر السوفيتي، والثاني أن المعاهدة العراقية- البريطانية الموقعة في عام 1930 كانت ستنتهي في عام 1957. والحلف الجديد إذا دخلنا فيه يمكن أن يحل محل المعاهدة دون إثارة معارضة عراقية".
هل صحيح شجعت أمريكا الحلف؟.. فلما بادرت بريطانيا أو بالأحرى هرولت للانضمام إليه ( في 14 أبريل 1955) أي قبل انقضاء أربعين يوما على قيامه، وكان هذا آخر قرار وقعة تشرشل الذي هو بدوره آخر أسود الإمبراطورية الذي مات وهو يعض بأسنانه المتآكلة على ما بقى من نفط الشرق الأوسط؟..

ما هو موقف أمريكا فعلا..؟

يقول " ولبر كران ايفلاند" ممثل البنتاجون وعضو " مكتب تنسيق العمليات للشرق الأوسط" والمسئول عن تدبير مؤامرة سوريا 1956 وعضو اللجنة المشتركة مع المخابرات البريطانية عام 1956 لبحث المواقف في الشرق الأوسط يقول:
" بنفوذ بريطانيا وقعت باكستان معاهدة دفاعية مع تركيا في أبريل 1954 الأمر الذي فاجأ وزارة الخارجية الأمريكية تماما، وفى البداية لم تنطق.. ولكن في نهاية السنة بدأ فوستر دلاس يصف هذه الخطوة من مسلمي الشرق بأنها مكسب..".
ويقول إن " أصل فكرة حلف بغداد كانت بريطانيا ، كمحاولة لتجديد المعاهدة العراقية مع بريطانيا دون تكرار مأساة ما جرى مع مصر" " ودفعت بريطانيا العراق لتوقيع المعاهدة مع تركيا، ومرة أخرى فإن وزارة الخارجية أخذت على غرة.
وخاصة عندما أعلنت بريطانيا عزمها على الانضمام إلى التحالف العراقي- التركي، وحثت أمريكا على أن تحذو حذوها فورا.. وهكذا أخذ صناع السياسة الأمريكية على غرة بحلف بغداد، وكان عليهم أن يتصرفوا في إطار ردود الفعل، بدلا من أن تكون لديهم بدائل مجهزة سابقا، ثم جاء تعقيد أكبر، وهو انضمام الولايات المتحدة للحلف كما تطالب بريطانيا ، وهذا معناه أن الولايات المتحدة ستصبح عضوا في تنظيم يضم دولة عربية وهى العراق، وهذا يحتم عليها إما أن تصدر تعهدا بالدفاع عن إسرائيل ، أو أن تصر على انضمام إسرائيل أيضا إلى الحلف".

" وكان واضحا مما سمعته من الأدميرال دافيز وفى مكتب الوزير " أندرسون " أننا اندفعنا لخلق سياسة تتماشى مع سياسة الأمر الوقاع التي فرضها علينا الجهاز البريطانى. وكانت إيران هى الثغرة الباقية في الإطار الشمالي كما تخيله وزير الخارجية. وقررنا أن تسد هذه الثغرة بمبادرة منا.

وكنا قادرون على تحقيق ذلك بما لدينا من نفوذ، أولا بما أصبح بعد ذلك " أشهر سر" تتباهى به المخابرات سى آى ايه وهو دور آلن دلاس وكيرميت روزفلت في إعادة الشاه إلى عرضه عام 1953 بما عرف باسم عملية اجاكس".

والمسئولون عن مصر في المخابرات الأمريكية كانوا ضد حلف بغداد:" أنا وايكلبر جر كنا ضد حلف بغداد" وقد سافر كوبلاند رئيس المحطة سى آى ايه في مصر إلى واشنطن حيث عارض حلف بغداد ونجح في استصدار قرار أمريكا بعدم الانضمام للحلف..

فما تفسير قول " سلوين لويد" إن أمريكا كانت مؤيدة وما حقيقة موقف عبد الناصر ؟ لقد اشرنا في فصل " الأمريكان يا ريس" إلى اختلاف وجهتي النظر داخل الإدارة الأمريكية حول " الأحلاف" .. البيت الأبيض أو بالأحرى ايزنهاور، وجون فوستر دلاس، وبقية الجهاز التقليدي كانت ترغب في الأحلاف ولا يمكن أن نقدم أفضل من هذا التفسير لمايلز كوبلاند:" إن مشاريع الدفاع والأحلاف والترتيبات العسكرية كانت نابعة من تفكير متخلف يمثله ايزنهاور وجهازه الرسمي، من بقايا الحرب العالمية الثانية، وهو توقع غزو عسكري مماثل للغزو الألماني، ومن ثم كانت الإستراتيجية هى مواجهته باستحكامات عسكرية..".

وقال :" إن فكرة منظمة للدفاع عن الشرق الأوسط كانت قد تحولت إلى فكرة خارج التاريخ والسبب الوحيد الذي جعلها مطروحة للمناقشة هو أن الوزير دلاس رغم ذكائه لم يستطع التخلص من الفكرة".

وقلنا : إن الأجهزة المتطورة كانت قد اكتشفت زوال عهد الأحلاف والاستحكامات العسكرية والغزو الروسي" .. ولذلك تولت تحرير " الوزير الذكي" من عقده، وشن " صوت العرب" الذي أقامته المخابرات الأمريكية ولو من الناحية التكنولوجية حملته المشهورة على الحلف..

كذلك كانت الولايات المتحدة لا تريد منظمة تتربع فيها بريطانيا يحف بها عملاؤها أو الحكومات المتعاونة المرتبطة ببريطانيا ، مثل باكستان والعراق والأردن وشمعون.. الخ..

كان التفكير والتدبير هو ما أشار إليه كوبلاند في شكوى عبد الناصر من خرق الأمريكان لاتفاقهم وشرح هذا الاتفاق- على لسان عبد الناصر، بأنهم وافقوا على تركه يدبر الأمر فيخلق حلفا عربيا غير مرتبط علنا مع أي من الدول الغربية الكبرى، ولكنه قادر على التجاوب والتكامل مع خطط الدفاع الغربية وقت الحاجة. فنسفت بريطانيا المشروع سواء بتعجلها " التحفظ" على العراق والأردن، قبل أن تخرجها أمريكا من هناك، أو لرغبتها في نسف المشروع الامريكى- الناصري.

وأخيرا عقدة العقد وهى " إسرائيل " فالولايات المتحدة لا تستطيع الدخول في معاهدة عسكرية دفاعية مع دولة عربية، في حالة حرب مع إسرائيل ، دون تقديم ما يوازن ذلك لإسرائيل .. ومن السخف طبعا تصور حلف عربي، أمريكا عضو فيه، في نفس الوقت الذي ترتبط فيه أمريكا بمعاهدة دفاعية مع إسرائيل أو الاقتراح الجنوني بضم إسرائيل للحلف..

ومن هنا حق لنا أن نقول إن الولايات المتحدة كانت ضد حلف بغداد وكان يتمشى مع مصالحها تمام التمشى، تحطيم هذا الحلف أو شله على الأقل، أما صياح " دلاس والصحافة الأمريكية فلا يزيد على " هتاف" الناصريين ضد أمريكا للاستهلاك المحلى، ولضرورات النفاق الدبلوماسي مع " الحلفاء"..وأخيرا لإعطاء معركة ناصر ضد الحلف نكهة أقوى، من عصير محاربة الاستعمار مما أدى إلى النهاية المتوحشة " الأمريكانية" لكل رجالات حلف بغداد.

ولعله من المفيد أن نثبت هنا، رأى " هيرمان فيفر":

" كان من المتوقع أن ينضم دلاس إلى الحلف، غير أن الذي حدث هو أنه قال لايدن في أثناء اجتماعهما في مؤتمر القمة الذي عقد في جنيف في يونيه 1955 إنه لن ينضم وشعرت الحكومة البريطانية باليأس وامتلأت حقدا وغضبا لتخلى أمريكا عن انضمامها للحلف..
بل إن الإنجليز عبروا عن استيائهم البالغ حين تواترت الشائعات التي تفيد أن السفير الامريكى في القاهرة جيفرسون كافري يبرم صفقات مع ناصر وأن من بين نتائج هذه الصفقات عدم انضمام أمريكا للحلف. ورد دلاس على تذمر ايدن بأنه من الخير له ألا ينضم بدلا من أن ينضم ثم يعود إلى الانسحاب في المستقبل.
وشعر دلاس بالخوف من الصيحة التي ترددت أصداؤها في الرشق الأوسط ضد العراق. لقد كان يخشى أن يؤدى إغضاب عروبة " ناصر" إلى ضياع المساعدة الضخمة التي يمكن أن تقدمها مصر والسعودية ضد الاتحاد السوفيتي، وربما خشي غضب بن جوريون كذلك لو زادت قوة العراق نتيجة انضمام أمريكا، ومعروف أن لدى إسرائيل من ألأسباب ما يحملها على التوجس من ازدياد قوة أي بلد عربي." وفى نهاية أبريل عام 1956 صرح دلاس لمجموعة المراسلين في اجتماع خاص في واشنطن بأن الإنجليز قد " حرفوا " فكرته حول حلف يضم الدول التي تواجه الشمال فقط، وذلك حين اشركوا العراق في الحلف لأنهم بذلك قد أثاروا عداوة الدول العربية الأخرى". " ويجدر أن نضيف أن اهتمام دلاس بحلف بغداد كان بنسبة عشرة بالمائة".

وفى الاجتماع التمهيدي لمؤتمر القمة الامريكى- البريطانى سألوا وكيل الخارجية البريطانى مستر " ايفلين شوكبرج" عن حلف بغداد فقال :" نحن لا يعنينا إلا النفط ، وما حلف بغداد إلا صيغة تمكن بريطانيا من الاحتفاظ بقواعدها في الأردن والعراق بدون تجديد المعاهدة وليس له أهمية حربية".

" وقال وكيل الخارجية البريطانية إن السعودية هى عدو بريطانيا الأول أو الشخصي وهو يريد أن يبحث معنا كيف نحدث تغيرات أساسية في حكومة السعودية.

وقد كتبت في مذكراتي يومها، يبدو أن بريطانيا تريد تنظيم انقلاب يلغى النظام الملكي السعودي، بمساعدة أو دون مساعدة المخابرات سى آى ايه" .

" ولما حدثوه عن الخطر الشيوعي في الكويت" التي كانت محمية بريطانية لم يهتز وإنما قال:" إن الخطر الحقيقي في الأردن، حيث المال السعودي والنشاط المصري".

وهيوجيتسكيل زعيم المعارضة البريطانية ، وأقوى مدافع عن خط الانضواء تحت المظلة الأمريكية والكف عن محاولة العودة " غير المشروعة أمريكيا" للمنطقة شرح لنورى السعيد أسباب معارضته أي جيتسكيل لحلف بغداد قال: إنني أعارض السياسة البريطانية التي اتخذت من حلف بغداد أساسا لسيطرتها في الشرق الأوسط والتي تهدف إلى السيطرة على المنطقة عن طريق حلف بغداد".

سلوين لويد يحمل الأمريكان بصريح العبارة مسئولية فشل الحلف إذ يقول: " إن نقطة الضعف في ( حلف بغداد) كانت تكمن في موقف الولايات المتحدة ذي الوجهين، فقد ظل دلاس يتحاشى العضوية الكاملة، قائلا إنه لا يمكن الحصول على أغلبية الثلثين المطلوبة في الكونجرس للانضمام الرسمي. لم يكن يعتقد أن الرأي اليهودي في أمريكا سيحبذ، ولكن إذا ما تحقق ما وصفه بالتسوية الفلسطينية فإن الوضع سيختلف وعندها سيوصى بعضوية أمريكا الكاملة.

( يعنى في المشمش) ولكنه وافق – على أية حال- على إرسال مراقبين عسكريين وسياسيين لحضور الاجتماعات ( وربما كان هؤلاء هم الذين يزودون خصوم الحلف بأسراره).

ويعود فيقول :" كانت أهدافنا ألا تبقى علاقاتنا مع العراق على الأسس القديمة فإن وجودنا العسكري كان سيصبح تحت مظلة حلف بغداد، مع تركيا وإيران وباكستان ودعم الولايات المتحدة، فإن مثل هذا الحلف لم يكن من السهل اتهامه بأنه أداة للاستعمار البريطانى.

ولكن الولايات المتحدة كانت يوما حارة ويوما باردة، دلاس رحب بحلف بغداد ولكنه رفض الانضمام إليه.

ويبدو أن الغيرة القديمة من بريطانيا سادت بكل تأكيد على مشاعر بعض مساعديه. فالأمريكان في الظاهر كانوا حليفا مخلصا يوثق به، ولكن في العمق، كان كثير من ألأمريكيين تمتلئ قلوبهم بكراهية الاستعمار، والنفور من الاعتراف لنا بأية سلطة موروثة من أيام إمبراطوريتنا، وسرور نصف خفي ونصف ظاهر برؤيتنا نهوى إلى القاع".

هل تريدون أوضح من ذلك؟

ومن الاهانة لعبد الناصر، القول بأن بريطانيا أقامت الأرض وأقعدتها لكي تضمه إلى حلف بغداد وهى التي طلبت من مصر في عام 1950 أن تكفى خيرها شرها، فتمتنع عن تحريض الدول العربية ضد مشاريع الأحلاف التي تسعى إليها العراق، ولا أحد يطالبها بالانضمام إلى هذه الأحلاف.
فبريطانيا كانت تريد حلفا تسيطر عليه وتسوره حول أفراخها في الشرق الأوسط لكي لا يخطفها النسر الامريكى، ولم تكن تسعى إلى حلبة صراع مع المصريين ورجال المخابرات الأمريكية الذين تعج بهم القاهرة.
ولكن الأمريكان ما كانوا ليسكتوا على بناء هذه الحظية البريطانية وعيونهم جاحظة لنفط العراق، وغارقة في نفط إيران..
وبعكس الفكرة الشائعة بين الناصريين، عن أن عام 1955 كان عام الضغط الامريكى على عبد الناصر للدخول في حلف بغداد، فإننا نجد أن هذا العام قد شهد الضغط البريطانى في جميع المناسبات لإقناع الولايات المتحدة بتأييد الحلف، وتملص الولايات المتحدة من هذا الموقف، بل إن سلوين لويد يتهم أمريكا بأنها قتلت الحلف مجاملة " لناصر والدول العربية التى تفكر مثل ناصر" وهى السعودية وسوريا واليمن وقتها.
ويشمت فيه بقوله: " ولكن دلاس لم يكسب شيئا برفضه الانضمام لحلف بغداد، وقد ثبت ذلك عندما اشترى عبد الناصر السلاح من تشيكوسلوفاكيا وأعلن ذلك في سبتمبر 1955".
وقد عقد اجتماع قمة بين ايزنهاور ودلاس من جهة وايدن وسلوين لويد في محاولة لتصفية الخلافات أو لوقف ما سماه وزير خارجية بريطانيا بصريح العبارة " محاولة طردنا من المنطقة قبل الأوان".

ونوقشت في المؤتمر القضايا الرئيسية التي توتر العلاقات وهى :

1- الصين.. ومعروف أن بريطانيا بسبب " هونج كونج" والمصالح الأخرى، قد اتخذت موقفا مخالفا للموقف الامريكى من الصين الشيوعية وكانت تحاول في هذا الوقت مجاملة لروسيا والصين، وابتزازا للأمريكان، إعطاء الصين مقعد مجلس الأمن بدلا من فرموزا وقد رد الأمريكان في الاجتماع على هذه المناورة برد حاسم لوقف الابتزاز أو المساومة البريطانية :" أخبرونا أنهم سينسحبون من الأمم المتحدة إذا ما حدث هذا " .

فانقطع الحديث ولكن ليرد الإنجليز بنفس الأسلوب في النقطة الثانية:

" وكانت هناك مناقشة طويلة حول واحة البوريمى التي تقع في أراضى سلطان مسقط الذي كانت لنا معه معاهدة وكان الاعتقاد بوجود نقطة هناك، وقد تحرك السعوديون لاحتلال الواحة في 1953 .
ولكن صدروا بمساعدة قوات ساحل عمان والأمير زايد شقيق حاكم أبو ظبي. وكان هناك تحكيم ولكننا انسحبنا منه محتفظين بمواقعنا في الواحة، التي أصبحت شوكة دائمة في علاقتنا مع السعودية.
ولكن لم يكن بيدنا حيلة لمعالجة ذلك دون أن نتخلى عن أصدقائنا .. وكانت الحكومة الأمريكية بسبب قاعدتهم الإستراتيجية في الظهران وأهمية المصالح النفطية لأرامكو في السعودية، كانت تضغط باستمرار علينا للتسليم للسعوديين . وقد بذلنا جهدنا لإقناع دلاس وايزنهاور أن هذا الموضوع غير قابل للبحث..

" وفى النهاية بدا أنهم فهموا وضعنا، وتبينوا، أيضا، أن الملك سعود يستخدم أمواله بغباء وبطريقة ستدمر الغرب وتساند الشيوعية.

كما أكدوا لنا أن الولايات المتحدة لن تنضم لحلف بغداد ، ولو أنهم وعدوا بمساعدات " وفى الاجتماعات التمهيدية لهذا المؤتمر قال وكيل وزارة الخارجية وبعد جولة قام بها في بغداد وطهران وأنقره وطرابلس أبرق من تل أبيب إلى ايدن:" يجب أن يظهر الأمريكان دعمهم لحلف بغداد" كما اقترح انقلابا في سوريا".

" وفى 8 مارس 1956 قال لي دلاس إن الولايات المتحدة ستهتم أكثر بالشرق الأوسط.. فسألته كيف؟ .. قال إنه لم يصل إلى رأى بعد، فبادرته قائلا : يمكنكم أن تبدأوا بالانضمام إلى حلف بغداد.. فرد قائلا: إن هذا مستحيل تماما، ولم أفهم أبدا السبب الحقيقي ، إذ كان يشير – عادة – إلى اللوبي الاسرائيلى وصعوبة الحصول على موافقة الكونجرس ولكنى لم أعرف أبدا ما إذا كان هناك أمر آخر يخفيه في نفسه" وما يخفيه دلاس في نفسه يظهره كوبلاند وايفلين ويلمح له لويد..

وفي منتصف مارس 1956 قدم تقريرا إلى مجلس الوزراء بعد جولة في الشرق ألوسط قال فيها:" يجب أن نبذل محاولة أخرى لحث الولايات المتحدة على الانضمام لحلف بغداد.. يجب أن نعمل على ا لتقريب بين العراق والأردن ومحاولة عزل السعودية عن عبد الناصر بتوضيح أطماع عبد الناصر للملك سعود.

واتخذا إجراءات ضد عبد الناصر مثل تجميد الأرصدة . وسحب تمويل السد العالي، وخفض المساعدات الأمريكية لمصر.. ووقف الإمدادات العسكرية، ولكن ذلك كله يحتاج لدعم حكومة الولايات المتحدة. ولذا فإن المهمة الأولى هى الحصول على اتفاق امريكى – بريطاني".

وأخيرا توسل وزير خارجية بريطانيا لدلاس:" وعندما أخبرت دلاس بصفة شخصية جدا ولمعلوماته فقط أنني لا أعتقد أن نوى السعيد يمكن أن يعمر طويلا ما لم يتخذ إجراء حاسم يثبت أن سياسته في دعم حلف بغداد بالفوائد عل العراق، لم يظهر على دلاس أنه أخذ كلامي على محمل الجد،مما جعلني أشعر أن عداء السعودية للعراق انعكس على نصائح وزارة الخارجية الأمريكية لدلاس".

وأكثر من ذلك أن " سلوين لويد" يكشف سرا غريبا، له علاقة بالرواية التي يذكرها هيكل وإن أخطأ في تواريخها وهى الاتفاق المبدئي الذي جرى بين سلوين لويد وعبد الناصر على وقف حملات صوت العرب ضد حلف بغداد مقابل تعهد بريطانيا بوقف محاولاتها لضم دول عربية جديدة إليه.

هذا الاتفاق تقدم به دلاس إلى سلوين لويد إذ قال :" إنه يعتقد بإمكانية إجراء مساومة مع عبد الناصر بأنه لن تنضم دولة عربية أخرى للحلف مقابل وقف الحملة على الحلف. وقد رد سلوين لويد أنه عمليا لن تنضم دول عربية في المستقبل القريب ولكنه لا يستطيع أن يجرى هذه المساومة مع عبد الناصر لما يمكن أن يكون لها من تأثير على دول الحلف وخاصة على نورى السعيد. وكان ذلك في لقاء دلاس ولويد في كراتشي في مارس 1956.

أمريكا لم تكن مع حلف بغداد، بل كانت ضده، وأقل ما يوصف به موقفها هو أنها لم تعترض على النشاط المضاد له، والذي قام به الحلف المصري- السوري – السعودي.. ففور سقوط الحكومة الموالية لبريطانيا والعراق سافر صلاح سالم إلى دمشق حيث وقع بيانا مشتركا مع خالد العظم (وزير الخارجية) يدعو إلى رفض حلف بغداد وإقامة حلف عربي، وقد بادر الملك سعود بإصدار بيان يؤكد موافقة المملكة على البيان المصري السوري..

ويفسر كاتب متمركس ذلك بأن" السعودية كانت في نزاع شديد مع بريطانيا حول أحقيتها في واحة البوريمى".

وهذا صحيح ، ولكنه يقف عنده لا يتقدم خطوة، لأنه يعرف أنه يمشى على رمال متحركة، فلو تقدم خطوة واحدة لوجد نفسه أمام الصراع الأنجلو- امريكى الذي طالما حاولنا تلقينه إياه في صدر شبابه، لينكره في شيخوخته .. لكي لا يضطر لوضع " الناصرية" في مكانها في دائرة الصراع..

وما يمكن قوله في هذا الموضع من الحديث.. أن السعودية كانت لها مصلحة حقيقية ، بل وسياسة قديمة في معارضة بريطانيا، ومعارضة العراق الهاشمي الذي أصبح أكبر قوة موالية لبريطانيا في المنطقة، وقاعدة نشاطها وخاصة بعد الانسحاب البريطانى من مصر والسودان.. فالعداء السعودي- الهاشمي قديم.

والمصالح البترولية- السعودية، مرتبطة بالمصالح الأمريكية وبابتعاد سوريا عن القبضة البريطانية – العراقية وباسترداد واحة البوريمى وما حولها من نفط من الإنجليز، وكما كانت السعودية راغبة في استخلاص أراضيها المغتصبة من قبل الإنجليز، فإنها كانت بشكل أقوى تشعر بأمن أكبر إذا ما زال الوجود البريطانى من المنطقة كلها. والسعودية في هذا الموقف مع استقلال سوريا ضد بغداد الإنجليزية، مع تحرر الخليج من الاستعمار البريطانى، مع سياسة مصر..

وفى تلك المرحلة لم تكن سياسة مصر تتعارض مع السياسة الأمريكية ، كان عبد الناصر يعمل على تصفية الاستعمار البريطانى من المنطقة، لأن هذا هو الضمانة الأولى لتحرير مصر ووقف مؤامرتهم في مصر والسودان وليبيا.ز ولم يكن مستعدا ولا قادرا على أن يدخل في حلف تتزعمه أو تتصدره بريطانيا، وقد كادت اتفاقية الجلاء تكلفه حياته، إن صح أن هناك مؤامرة حقيقية لاغتياله، ولكنه يعلم أن أكثر من وطني كان يتمنى وقتها نهايته جزاء " خيانة" اتفاقية الجلاء.. كذلك لم يكن ليقبل أن تكون بغداد مركزا لتنظيم إقليمي للشرق الأوسط فهو والملك سعود كانا يتحركان من موقف وطني تاريخي استراتيجي واضح المصلحة لمصر والسعودية والعرب وضد بريطانيا .. وأيضا يتفق والإستراتيجية الأمريكية للمنطقة..

كذلك فإن اللوبي الصهيوني في السياسة الأمريكية لم يكن ليرحب بقيام حلف عربي – تركي ، لأنه في النهاية قد يوجه ضد إسرائيل بطرقة مباشرة أو غير مباشرة.. ولو من خلال تقليل الخلافات بين الغرب والدول العربية، وإتاحة الفرصة للتعرف وربما الحصول على أسلحة متفوقة للدول العربية وأيضا جذب تركيا إلى اهتمامات وهموم العالم العربي، وما قد يؤدى إليه من ارتفاع في النبض الاسلامى، الخافت منذ سقوط الدولة العثمانية.

فكل دول الحلف المقترح إسلامية.ز وقد رأينا كيف شنق عدنان مندريس جزاء اهتمامه بالعالم العربي، ومحاولته التودد للعرب والشعب التركي ببعض الافراجات عن دين الجماهير التركية المعتقل منذ أتاتورك..

وإذا كانت المنطقة قد شهدت منذ حلف بغداد ثلاث حروب ضد إسرائيل ولم تشهد حربا واحدة ضد الاتحاد السوفيتي فإن إسرائيل هى المعنية بالدرجة الأولى بكل ما يدور حول التنظيمات العسكرية في المنطقة. وهى بصراحة ضد أية منظمة دفاعية إقليمية وخاصة إذا كانت مع الغرب، ويمكن مراجعة موقفها من صفقات السلاح الغربية للسعودية ومن مشروع قوات الانتشار الأردنية – الأمريكية ، حيث كانت هى التي وأدت المشروع.

وكما لاحظ المخابراتى الامريكى بذكاء أو بعلم سابق:" إذا درس أحد حملات ناصر ضد الغرب يجد أنه يركز أكثر على القوات الأجنبية والقواعد ، منه على دورنا نحن الأمريكان في إقامة إسرائيل".

حلف بغداد كان مشروعا بريطانيا ، على غير هوى الأمريكان ، وضد سياسة إسرائيل وفى هذا الإطار يمكن فهم الحملة عليه، وتقييم " النصر" الذي أحرزناه عليه.. ولكن هيكل يحاول أن يكشف فائدة لمعركة حلف بغداد يمكن أن يضيفها إلى كفة مصر في المواجهة مع إسرائيل فيقول:" لو نجح نورى السعيد في ضم سوريا والأردن ولبنان إلى حلف بغداد لتم عزل الشرق العربي عن مصر وعن بقية المغرب العربي وبمعنى أدق ترك مصر وحدها في الميدان أمام إسرائيل ".

دعنا من حكاية المغرب العربي فلم تكن قد قامت له قائمة بعد برغم الحركات الوطنية الباسلة هناك، وتلك لا يعزلها حلف ولا أحلاف.. لا يعزلها إلا الحكم " الثوري" كما رأينا فيما بعد..

أما عن المشرق العربي، فالحمد الله لم ينجح نورى السعيد في ضم سوريا ولا الأردن ولا لبنان للحلف، فهل غير ذلك من حقيقة ترك مصر وحدها في الميدان أمام إسرائيل؟ ومن هرع إلى نجدتها في حربها أمام إسرائيل عام 1956.. هل كان الحلف سيمنع حفنة ضباط أو وطنيين من نسف الخط؟ الوطنيون منعوا بريطانيا من استخدام قاعدة الحبانية في العراق أو القواعد البريطانية في ليبيا.. وأبناء ولى عهد دويلة خليجية منعوه من دخول قصره فاضطرت بريطانيا لاستخدام قبرص حيث أعلن ثوار ايوكا وقف العمليات العسكرية في كل الجزيرة خلال فترة الحملة رغم كل التأييد الذي منحته لهم مصر..

فلما وقع العدوان، وسلمت بريطانيا بأنه قد آن الأوان لطردها من المنطقة وسلمت بالوجود الامريكى وانحصرت آمالها في الوجود بإمارات الخليج وعدن وملحقاتها تخلت عن فكرة حلف بغداد، وطواه النسيان حتى ووري التراب مع نورى السعيد ، إلا أن الإعلام الناصري ما زال يحدثنا عن معركة بغداد، ويسجلها هيكل في حيثيات إثبات أن " نصر السويس" كان أكمل نصر في الحرب المحدودة.

أو هذا على الأقل ما كان في كتاب " قصة السويس" ولكن بعد أن فندناه بما فيه الكفاية كما يرى القارئ، فإن مؤرخ الناصرية، اضطر إلى التسليم بأن المعركة ضد " حلف بغداد" لم تكن بالموقف الثوري الوطني الموجه أساسا ضد الولايات المتحدة كما ظل يفترى ثلاثين عاما، ولذلك سنسمع نغمة أقل صخبا في " ملفات السويس" وسنجد وثائق أكثر دلالة..

سنجده يقول:" الرياض أول من أحس بنذر العاصفة القادمة".. وأول رسالة ضد الحلف كانت من الملك سعود، وأول تحرك على النطاق العربي، وأول حملة ضد الحلف موجهة للرأي العام العربي كانت سعودية، بل والذي فات هيكل ذكره، أن موقف مصر كان غامضا ورجل عبد الناصر" صلاح سالم " أوشك أن يوافق على الحلف في خلال اجتماعه مع نورى السعيد، وذلك لأن موقف أمريكا لم كين قد اتضح بعد، أو أن التعليمات لم تكن قد صلت بوضوح إلى القاهرة ، بينما تحرك الملك بالحس السياسي السليم، حس صاحب المصالح الحقيقية ، فأي تحرك للعراق وباكستان ذلك الوقت لابد أن يكون انجليزيا، وكل ما هو انجليزي ضار بالمملكة ويمكن القول بأن رسالة الملك سعود إلى عبد الناصر، كانت الأساس في دعاية صوت العرب ضد الحلف:" ونعتقد أن الدافع ( لقبول العراق للحلف) هو الضغط الامريكى- الإنجليزى للتفاهم مع إسرائيل وقد أصبحت المسألة الآن مهمة لا تحتمل التغافل ولا سيما أن البلاد العربية في حالة تهديد، فقد أصبحت المسألة مهمة وخطيرة ويجب تعاضدنا وتفاهمنا".

فأرسل إليه السفير السعودي مع رسالة أخرى حول الشكوك التي أثيرت في العراق عن موقف مصر من الحلف .. وتحريض ضد العراق الذي بقبوله" عدم استخدام السلاح ضد إسرائيل الى لا يوجد غيرها عدو للعرب لمما يدل على خروجهم عن الضمان الجماعي، وربما يكون وراء هذه الخطوة ما هو أعظم منها وهو انضمام العراق إلى الحلف التركي- الباكستاني والسير وراء المستعمر لتحقيق مصالحه".

ولا يستحى هيكل أن يقول:" وكان الملك سعود قد فقد أعصابه ووجه نداء عاما إلى الشعوب العربية كلها قال فيه:" إن ما أقدم عليه حكام بغداد خيانة عظمى والسكوت عليه جريمة" ويعترف هيكل متأخرا جدا "بأن نورى السعيد استمزج رأى السعودية قبل مفاتحة عبد الناصر حول حلف بغداد فرفضوا الحلف" وقال إن عبد الناصر سأل ( الملك) فيصل : هل ستقبلون حلف بغداد؟ فقال الأمير: معاذ الله لن يكون ذلك أبدا .

على الأقل اعترفوا أن الملك سعود كان أكثر عنفا في مهاجمة حلف بغداد .

وتتتابع اعترافات هيكل: فينقل أن ايزنهاور لم يكن متحمسا من البداية لضم الأردن إلى حلف بغداد لأن إسرائيل من حقها أن تقلق من أن يصبح أحد جيرانها المباشرين عضوا في حلف بغداد بينما هى بعيدة عنه" وردد ايدن: جنرال أحمق لا يفهم شيئا في السياسة وقال:" إسرائيل لم تكن متحمسة لاشتراك أمريكا في حلف بغداد"

لنا سبق الفضل عندما قلنا من سنوات أن إسرائيل كانت ضد حلف بغداد، وأنه لا يجوز أبدا تضليل العامة بتسجيل حلف بغداد في قائمة أهداف إسرائيل والانتصار عليها في قائمة هزائم إسرائيل وانتصارات القومية العربية..

ثم نعرج على بقية "الانتصارات" .. ونبدأ بحلف ايزنهاور .

وحلف ايزنهاور ولو أنه مسجل على أهرامات الناصرية، إلا أنه لا يستغرق منا وقفة طويلة، إذ يكفى أن نطرح هنا أي " المعلم" مايلز كوبلاند أو بالأحرى رئيس الوردية فالمعلم الحقيقي هو كيرميت روزفلت قال كوبلاند مندوب المخابرات الأمريكية في مصر: " في 1957 كنت في واشنطن أعمل في لجنة المفروض أن تكون مسئولة عن كل ما له علاقة بعبد الناصر، وأذكر أنني حضرت يوما إلى المكتب صباح يوم من أيام شهر يناير لأعرف أن مبدأ ( شروع ايزنهاور قد أعد للإعلان وهو يسبب المتاعب لكل خصوم ناصر ولا يقدم لهم ما يحتاجونه فعلا للوقوف ضد حملات ناصر التي كان من المؤكد سيشنها ضدهم.

مشروع ايزنهاور اقترح على الكونجرس في مارس 1957. والمشروع يخول للرئيس ايزنهاور استخدام الجيش الامريكى في الدفاع عن أية دولة في الشرق الأوسط مهددة بعدوان مسلح من أية دولة تسيطر عليها الشيوعية الدولية، وتقديم المساعدات الاقتصادية لمثل هذه الدولة لبناء وسائل دفاعها. وحتى اليوم لا أعرف من الذي زرع الفكرة هل هو دلاس أو بيل رانتروى .. كل ما ذاكره أنها لم تكن من اختراع لجنة تخطيط سياسة الشرق الأوسط( المكونة من المخابرات سى آى ايه و وزارة الدفاع و وزارة الخارجية ) ولا أحد من موظفي مكتب الشرق الأدنى وأفريقيا لهم أي علاقة بالمشروع. ونحن جميعا من موظفي الخدمة السرية، كنا على يقين أن المشروع لا معنى له على الإطلاق. وعلى ما أتذكر فإن كل المسئولين عن الشرق الأوسط بالإجماع كان هذا رأيهم، وعندما سئل ممثل المخابرات الأمريكية في لجنة التخطيط السياسي للشرق الأوسط إذا ما كان يفكر في إرسال أد مساعديه ليشرح المشروع للحكام العرب رد قائلا:" نحن لا نستطيع أن نربط أنفسنا بكل فكرة مخبولة تظهر".

ونحن لا نستطيع الآن أن ننجح في ما فشل فيه عضو لجنة التخطيط السياسي للشرق الأوسط فنعرف من الذي زرع فكرة الحلف في رأس ايزنهاور ولا من الذي زرع فكرة الحملة الصليبية ضد الحلف في رأس عبد الناصر ولكن عملا بقانون " ابحث عن المستفيد" نجد أن إسرائيل قد سعدت بتطويق ونسف أول تعون علني عالمي وإقليمي بين الولايات المتحدة ومصر.. فبعد كل ما تعرض له ايزنهاور من اتهامات وضغوط بأنه باع الحلفاء الدائمين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل من أجل مغامر عدو للغرب يميل للشيوعية ، بل واتهامه بأنه معاد للسامية حاول عن حسن نية وغباء أو بإيعاز من خبيث أن يظهر العين الحمراء للشيوعية وعملاء الشيوعية في المنطقة، وآخر ما كان يتوقعه هو هذا الهجوم من النظام الذي أنقذه ايزنهاور من أخطر ما تعرضت له دولة صغرى في القرن العشرين.

وكان أنصار مصر أو المدرسة العربية في السياسة الأمريكية على وعى بخطورة الوضع بعد الانحياز الامريكى ضد إسرائيل وبريطانيا، وحساسية الرأي العام الامريكى، والجهد المضاعف لإسرائيل وبريطانيا لإثبات خطأ سياسة ايزنهاور ولذلك حاولوا تحذير مصر من استفزاز الرأي العام الامريكى أو تحقير ايزنهاور بالاستجابة إلى إغراء الحرب الإعلامية وتسجيل البطولات على أمريكا.. كمان.. أو كما كان صلاح جاهين يؤلف : " والأمريكان يا ريس" .. وينقل هيكل أن " لوى هندرسون" حذر السفير المصري أحمد حسين بأن الظرف الحالي عام إلى أقصى درجة بقدر ما هو دقيق، وأن التصرفات خلال الشهور القليلة القادمة سوف تكون حاسمة في شأن العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر.

وأن الفرصة سانحة أمام مصر لكي تتبوأ مركزا قويا ممتازا، وفى نفس الوقت فالخطر قائم في أن يسوء مركز مصر وتضيع كل ثقة فيها. وأن الولايات المتحدة لا تضمر سوءا لمصر، وأنها ترغب في التفاهم ولكن على أساس سليم ومن الجانبين وبنسبة مائة في المائة".(587).

ولكن عبد الناصر – لأمر ما- رفض كل هذه النصائح واختار أن يدخل معركة استفزازية ضد ايزنهاور تحت شعار محاربة الأحلاف مع أن مبدأ ايزنهاور لم يكن حلفا ولا يطلب انضمام أحد.. وهنا قد يرى أنصار التفسير الاسرائيلى ظاهرة الناصرية ، في موقف عبد الناصر من ايزنهاور، حجة تدعم رأيهم بأن ناصر كان يخدم مصالح إسرائيل بالدرجة الأولى .

أما نحن فما زلنا عند تفسيرنا ونعتقد أن عبد الناصر الذي كان ق تواءم مع إستراتيجية " استثمار" حملاته ضد الامبريالية، أو بإيعاز من خبيث آخر على الجانب المقابل، اندفع في مهاجمة ايزنهاور ومشروعه.. وكذلك عاد الصفاء بين بريطانيا وأمريكا بعد ما ثبت بالدليل القاطع أنعبد الناصر لا يحفظ ودا وانتصرت المجموعة الإسرائيلية التي راهنت على فشل الاستثمار الامريكى في مصر وأكدت دائما أنه لا حليف يعتمد عليه إلا إسرائيل .

وربما يكون موقف المخابرات الـ سى آى ايه المعارض لمشروع ايزنهاور السخيف كما وصفوه قد شجع عبد الناصر على أن يستفيد من معارضة المشروع وهو مطمئن إلى فشله..

وربما حرضوه على مهاجمة المشروع تدعيما لوجهة نظرهم.

ربما.. والغريب أننا كافأنا أمريكا على تأييدها الحاسم لمصر في 1956 بحملة عداء لت تتصاعد حتى وصلت للقطيعة ، مع ازدياد الود والتقارب مع السوفييت، وكافأنا أمريكا عقب تأييدها السافر العلني لإسرائيل في حرب 1973 والذي كان العامل الحاسم في إحباط نصر عربي قوى الاحتمال.. كافأتها قيادة 23 يوليو بالارتماء في أحضانها وقطع العلاقة مع روسيا؟

عجبي
صفقة السلاح
تحطيم احتكار السلاح

" إن العالم العربي اعتبر الصفقة قرارا بتحرير الإرادة العربية" وقعت كالصاعقة على الغرب الذي لم يتصور إمكانية حدوثها فضلا عن أن يكون قد علم بها وجن جنون دلاس، وزلزلت موازين القوى، وقسمت الشرق الأوسط إلى قوى وطنية ، وقوى رجعية .. وكانت ضربة معلم، لم يفكر فيها لا كان يمكن أن يفكر فيها إلا زعيم ثوري صلب لا يساوم ولا يخاف مثل جمال عبد الناصر.

ها هو ملخص رأى الإعلام الناصري الذي أطعموه للأمة العربية أكثر من عشرين سنة وما زال يتردد إلى اليوم في الدوائر الفكرية المتخلفة..

وملخص رأينا الذي بلا شك سيصدم الناصريين والمتناصرين هو:

- إن عبد الناصر لم يكن أول من حاول الحصول على سلاح من الاتحاد السوفيتي بل الأحرى أن يقال: إنه آخر من حاول ذلك وأنه بذل كل جهد في طاقته لمنع ذلك ففشل.
- إن الصفقة كانت بعلم ورضا إن لم نقل بتحريض المخابرات الأمريكية .
- إن الصفقة كانت أهم خطوة اتخذتها الدول العربية لصالح إسرائيل وحتى لا يسقط ناصري ناشئ في غيبوبة من هول ما أقول .. نبدأ بالوقائع والتحليل .. فالذي هو أفضل منا جميعا لم يستطع الصبر على ما لم يحط به علما..

ونبدأ بالضابط نصف الناصري نصف الماركسي الذي يفتتح شهادته بإعلان من راديو موسكو:

" لم يدخل السوفييت إلى المنطقة غزاة ولم يتقدم علمهم خلف التجارة كما فعلت انجلترا في الصين".
وحقا يكاد المريب يقول خذوني فهذا هو بالضبط ما حدث في حالة الروس فقد بدأوا بالتجارة غير المشروطة، وانتهوا والرواية الروسية ترفرف على سبعين ألف عسكري كانوا في مصر بعد " التجارة" وبسبب التجارة.

ما علينا.

تبدأ قصة السلاح مع الاتحاد السوفيتي عندما حظرت بريطانيا تصدير السلاح إلى مصر في أعقاب الحرب الفلسطينية الأولى وتدهور العلاقات مع بريطانيا في عد حكومة الوفد ( 1950- 1952) التي كانت أول حكومة مصرية تعترف بالاتحاد السوفيتي وذلك في عام 1942 وطلبت حكومة الوفد سلاحا من يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفيتي، ولكنهم رفضوا ذلك" وقد فسر فؤاد باشا سراج الدين ذلك الموقف لأحمد حمروش بأن " الروس كانوا حريصين على عدم استفزاز الغرب" وقد تأكد صدق قول سراج الدين بما نشر هذا العام فقط من وثائق الخارجية الأمريكية فقد جاء في محضر اجتماع بتاريخ 17/10/1950 بين وزيري خارجية مصر وأمريكا أن الوزير الوفدي محمد صلاح الدين قال للوزير الامريكى:" إن مصر قد تضطر إزاء الحصار الذي تفرضه بريطانيا على تسليحها، قد تضطر إلى التحول للكتلة السوفيتية المتعطشة لتقديم السلاح لمصر..".

وفى أغسطس 1953 سأل حسن رجب وكيل وزارة الحربية لشئون المصانع حكومة تشيكوسلوفاكيا في توريد الأسلحة، فكان الرد بعد الدراسة هو: نحن بلد نحب السلام ولا نعطى أحدا سلاحا".

" ديسمبر 1953 تساءل محمد نجيب ( في لقاء مع السفير السوفيتي ( بنيامين سلود ..) عن احتمالات تسليح الاتحاد السوفيتي لمصر".
" السفير المصري في موسكو عزيز باشا المصري استفسر من السوفييت أيضا عن احتمالات تسليحهم لمصر بمبادرته الخاصة خلال عام 1954".
" أحمد لطفي أكد بحث هذا الموضوع مع مستشار السفارة السوفيتية بالقاهرة".
" في عام 1955 طلب حسين عرفه مدير المباحث الجنائية بالبوليس الحربي من كامل البندارى (الباشا الأحمر) بإيعاز من عبد الناصر في رواية حمروش أن يتصل بالسفير السوفيتي ليسأله عن إمكانية تقديم السلاح وجاء الرد السوفيتي بأن تقديم السلاح لمصر والجنود البريطانيون يحتلون القناة سيكون معناه في النهاية تسليم السلاح للبريطانيين .

ويروى محمد نجيب أن " سولود زاره في منزله في يناير 1954 وأبلغه أن الاتحاد السوفيتي وافق من ناحية المبدأ على بيع السلاح لمصر.

وقد ابلغ محمد نجيب ذلك كتابة لعبد الحكيم عامر قائد الجيش المصري وطلب منه أن يعد قائمة بالأسلحة المطلوبة .."

ويستنتج حمروش أو يعلق على إهمال عامر وناصر لهذا الأمر في حينه بقوله:" إذا صحت هذه الرواية فهي لا تعنى أكثر من اندفاع نجيب في مطالبته للسلاح من السوفييت، في وقت كان جمال عبد الناصر يعتقد فيه أنه لم يكن ملائما بعد لاتخاذ ههذ الخطوة الجريئة التي تعنى احتمال حدوث صدام مع انجلترا وأمريكا في وقت لم تكن فيه اتفاقية الجلاء قد وقعت بعد".

حتى " حسين فهمي" رئيس تحرير الجمهورية اشتغل سمسارا لهذه الصفقة، وحصل على موافقة السوفييت وأبلغ ذلك جمال عبد الناصر فكان " الصمت هو الجواب".

ويؤكد حمروش أن صلاح سالم هو الذي طلب السلاح من شوان لاى وليس عبد الناصر كما هو شائع .. وهذه الرواية:

" قال لى صلاح سالم إ الفيللا التي أقام بها كانت قريبة من سكن شوان لاى رئيس وزراء الصين الذي شاركه عبد الناصر في دائرة الضوء.. ( الخ) وفى إحدى الزيارات المتبادلة صارحه سالم بحاجة مصر إلى السلاح لمقاومة تهديدات إسرائيل وبناء جيش قوى قادر على تثبيت مبادئ الحياد الايجابي وسأله عما إذا كان يمكن للصين أن تقدم له ( للجيش) حاجته من السلاح.

واعتذر شوان لاى قائلا: إن الصين تستورد سلاحها من الاتحاد السوفيتي وأنه إذا وافق صلاح فسيبذل جهده للاتصال بالسوفييت، ومعرفة رأيهم في موضوع توريد السلاح لمصر.. ووافق صلاح فورا.."

ويحرص حمروش على تأكيد أن عبد الناصر لم يوعز لصلاح بذلك إذ يقول بطريقة مستترة " والشيء المقطوع به أن صلاح سالم لابد أنه أبلغ جمال عبد الناصر بحدثه مع شوان لاى".

" وبعد العودة لمصر وفى شهر مايو 1955 اتصل دانيال سولود السفير السوفيتي بصلاح سالم وأبلغه بموافقة الاتحاد السوفيتي على توريد ما تشاء مصر من أسلحة.

أبلغ صلاح سالم جمال عبد الناصر بحديث السفير السوفيتي، وأن صلته انقطعت بعد ذلك بالموضوع، فقد تولى مسئولية الاتصال بعد ذلك، على صبري مدير مكتب جمال عبد الناصر".

نلخص هذه الوقائع:

1- كسر " احتكار السلاح" بطلبه من الاتحاد السوفيتي لم يكن مبادرة عبقرية فريدة في زمانها، غريبة في مصدرها، خارج حدود عصرها، بل هى خطوة طبيعية، وتفكير سابق على الثورة وعلى عبد الناصر.. تقدم به الوفد، ثم محمد نجيب وعزيز المصري وأخيرا صلاح سالم وكلها مبادرات لا دخل لعبد الناصر فيها.. ويبدو أن الناس نسيت الضجة التي أثارها " معروف الدواليبى" عندما قال إنه سيحصل على السلاح من روسيا وكان رئيسا لوزراء سوريا، بل وفى الوقت بالذات وقبل الإعلان عن الصفقة المصرية اتفق نهرو مع الروس على صفقة طائرات اليوشن 28. ولم تؤلف فيها الأغاني والنظريات بل لا يكاد يعرفها أحد.
2- أن العقبة في تلك الفترة لم تكن في رجعية ولا عمالة الجانب المصري، ورفضه شراء السلاح من الاتحاد السوفيتي، بل في رفض الاتحاد السوفيتي تقديم هذا السلاح لكي لا يفتح جبهة جديدة في الحرب الباردة، ويشهد بذلك الكاتب المتمركس نفسه إذ يقول إن الرفض الروسي كان سببه سياسة ستالين التي كانت تقضى بعدم تقديم أية مساعدات عسكرية أو اقتصادية لأية دولة غير شيوعية" وأن قبول الاتحاد السوفيتي قد قطع علاقته الدبلوماسية مع إسرائيل في فبراير 1953 عقب إلقاء قنبلة على مفوضيته في تل أبيب" " السفارة الروسية " وقال:" إن وصول مثل هذه الأسلحة الحديثة إلى بلد غير شيوعي، من الاتحاد السوفيتي ، ما كان يتم لولا وفاة ستالين وحدوث تغيير في سياسة الحزب الشيوعي ظهرت واضحة في قرارات المؤتمر العشرين الذي عقد في فبراير 1956 وقرار الانفتاح على شعوب آسيا وأفريقيا ودعم حركات التحرر الوطني".
وهذا المدح في خرشوف الذي كانت زيارته لمصر سببا في تولى حمروش رئاسة تحرير روز اليوسف ، والسب في ستالين من مظاهر قلة الوفاء التي يشكو منها أمين هويدى.. فالاتحاد السوفيتي في عهد ستالين كان يدعم حركات التحرير وإلا لما غنى له الحدتاويون في عيد ميلاده: " عاش ستالين.. عاش ستالين.. عيد الشعوب وعيد الأمم" ولكن الدعم يختلف شكله من مرحلة لمرحلة.. فهو في مرحلة بناء الدولة السوفيتية يكتفي بالتخريب الذي يحدثه الشيوعيون في مؤخرة العدو، أما بعد أن تم بناء الدولة وظهرت الإمبراطورية وتطلعت إلى حصة في السوق العالمية ونصيب في عائدات السعر العالمي الظالم أو دم الشعوب الذي يتغذى به داركيولا" الامبريالي تاجر السلاح.. هنا يأخذ الدعم شكل صفقات سلاح وديون وفوائد للديون وخبراء بمرتبات وامتيازات ، وكله عند العرب دع..
المهم من ذلك كله هو أن الرفض كان من جانب الاتحاد السوفيتي ولأربع سنوات كاملة وأن التغير أو الانقلاب الثوري الجذري لم يكن من جانب مصر التي لم تكف عن طلب السلاح من أيام فؤاد باشا وصلاح الدين باشا ، بل كان من جانب الاتحاد السوفيتي، وبسقوط ستالين وليس سراج الدين ومجيء خرشوف وليس عبد الناصر.. تمت الصفقة.
3- إن عبد الناصر كان أقل المتحمسين خلال تلك الفترة لطلب السلاح من الاتحاد السوفيتي، فقد أهمل تماما اتصال محمد نجيب، الذي طلب السلاح لمواجهة حتى الإنجليز، فلم يكن اتفاق الجلاء قد وقع ولا الإنجليز خرجوا من مصر.. ولكن عبد الناصر كما يقرر الكاتب الناصري رفض لكي لا يستفز الإنجليز والأمريكان.. بينما لم يحسب محمد نجيب حسابا لذلك.. ولا يجوز أن نصف قرار نجيب بالتسرع، فإذا فعله عبد الناصر أصبح عملا عبقريا وضربة مؤقتة حاسمة..
4- وأخيرا عندما وافق الاتحاد السوفيتي على بيع السلاح لمصر، وجاء كما يقال بشيك على بياض لمصر.. هل بادر عبد الناصر بعقد الصفقة وإتمام الاتفاق؟ إذا كان القرار قراره، ومن منطلقات ثورية تحررية اشتراكية واعية.. فلماذا التردد ؟..
وقائع التاريخ تؤكد أن جميع من سبقوا عبد الناصر على طريق السلاح السوفيتي كانوا جادين في طلبهم، إلا عبد الناصر، فلم يكن يفكر في أكثر من مساومة الغرب والضغط عليه.. فهو اعتبر العرض الروسي ورقة مساومة وإغراء لإثارة غيرة أمريكا وبريطانيا، إذ كان يفضل أن يحصل على السلاح منهما ولا يتورط في علاقة مع الروس، وهذه الحقيقة أعلنها ى خطبه عشرات المرات، وهو يعتذر عن " خطيئة" شراء السلاح من الروس مؤكدا أنه فعلها مكرها غير باغ ولا شارحا للروس صدره..

قال حمروش:

" ومع وجود هذا العرض المفتوح من جانب السوفييت، والذي تم الاتفاق عليه مع جمال عبد الناصر فإن التعاقد لم يوقع عليه وينفذ، فقد كان جمال عبد الناصر شديد الحذر في اتخاذ هذه الحظوة التي تعنى صداما مباشرا مع الأمريكيين والبريطانيين الذين ما زالت قواتهم في منطقة القناة، لم ترحل بعد" "واستخدم جمال عبد الناصر اتفاقه مع السوفييت كقوة ضغط على الغرب في محاولة أخيرة لإجبارهم على توريد السلاح.. اتصل جمال عبد الناصر بسفيري أمريكا وبريطانيا، وأبلغهما بنبأ الصفقة وحذرهما من اضطراره لقبولها، إذا لم تصله أسلحة من الدولتين.. وأقبل شهر يونيو دون أن يتلقى جمال عبد الناصر ردا عليه من السفيرين ، في الوقت الذي كان فيه السفير السوفيتي يستعجل معرفة رد مصر لإبلاغه لموسكو".
وجاء شبيلوف إلى مصر وتم الاتفاق على صفقة السلاح.. ومع ذلك ظل الاتفاق سرا غير معلن وغير موقع لأن جمال عبد الناصر ظل مترددا بأمل حدوث تغيير في الساعة الحادية عشرة في موقف الغرب كما يقول تاتينج. واستدعى جمال عبد الناصر الملحق الجوى وأبلغه أن هناك مشروع اتفاق نهائي لم يوقع بعد بصفقة أسلحة منع السوفييت وأن عليه إبلاغ المسئولين في واشنطن باضطرار مصر للحصول عليها إذا ظلت أمريكا في موقف الرفض. ولكن كل هذه المحاولات انتهت إلى لا شيء.. ولم يكن هناك بد من توقيع الصفقة والإعلان عنها"..
عبد الناصر إذا أجبر إجبارا على " كسر احتكار السلاح" أو لم " يجد بدا" بعدما رفض الأمريكان كل محاولاته ومساوماته.. وتركوه عن وعى واختيار وسابق علم لكي يتعامل مع السوفييت.
فأعفونا على الأقل من مسرحية " الفالج" الذي أصاب الغرب، والجنون الذي حل بدلاس والإنذار الذي حمله آلن.. فالأمريكان كان عندهم علم ومن أوثق المصادر.. من عبد الناصر نفسه بوجود العرض ، ثم الاتفاق..
وكذلك يمكن القول إن قرار عبد الناصر لم ينبع من إدراك أو لحتمية المجابهة مع الغرب للارتباط العضوي بين هذا الغرب وإسرائيل ، ولا عن قناعة بضرورة تحرير الإرادة المصرية، ولو بالمفهوم الضيق، ولا عن قناعة بحتمية الصدام مع الغرب للدور التحريري الذي لابد أن تقوم به مصر في المنطقة انطلاقا من نظرية الدوائر إياها؟ .. بل كانت خطوة أجبر عليها.

وإليك رواية المصادر الأمريكية:

" وفى الأيام الأولى، عندما كان عبد الناصر يطلب معدات عسكرية لم يكن واردا احتمال استخدامها لهدف كبير مثل حرب مع إسرائيل أو اليمن أو ما أشبه.. ولا حتى كان طلبه كبيرا، فالحاجة كانت مركزة على الأهداف الأمنية الداخلية. وقد أوضح ناصر بجلاء لسفرائنا أن نظامه يعتمد على الجيش في تأمينه. وهو يؤمن أن جيشا هزيلا هو جيش غير مخلص. وقد بدأت طلباته من أمريكا بأربعين مليون دولار ثم وصلت إلى عشرين مليونا وأخيرا نزلت إلى مجرد مليونين أو ثلاثة ملايين ثمن معدات استعراضية .. طاسات ، وحمالات مسدسات.. وغيرها من المعدات حسنة المظهر في الاستعراضات " " بايرود كرجل عسكري يعرف أن السلاح الذي يطلبه عبد الناصر لا يمكنه من الإضرار بمصالحنا بأية حال".

ولفهم موقف الأمريكان نعرض الآتي:

عندما وصل العسكر إلى الحكم كان من الطبيعي أن يتطلعوا إلى الدعم الامريكى بكافة أشكاله، وبالذات المعونة العسكرية، أي الأسلحة، والمعونة الاقتصادية.وقد وضع الأمريكان خططا لذلك بالفعل، وكان عبد الناصر مستعدا لقبول شروط المعونة العسكرية وهى توقيع اتفاقية الأمن المتبادل ، ولكن الإنجليز تدخلوا كما رأينا بكل حيلة في يدهم من ذكريات تشرشل مع ايزنهاور إلى التهديد بانتصار الاشتراكية في لندن واستجاب الأمريكان للضغط ومنعوا الدعم العسكري بل حتى الاقتصادي.. فلما وقعت اتفاقية الجلاء بمعظم الشروط التي وضعتها بريطانيا ، لم تكن هناك- كما بدا- مشكلة في تنفيذ الوعود الأمريكية بإمداد مصر بمعدات عسكرية، بالطريق العلني المعتاد الذي يقتضى توقيع معاهدة الأمن المتبادل، ولكن عبد الناصر كان قد وقع لتوه معاهدة مرفوضة من الشعب، ويخوض معركة إبادة ضد الإخوان المسلمين العملاء..
ولذلك رأى كما أبلغ المتصلين به من الأمريكان أنه لا يستطيع أن يوقع اتفاقيتين عسكريتين مع الغرب في عام واحد، ولكن رجال الخارجية الأمريكية ، سواء كراهية أو منافسة الرجال الـ سى آى ايه أو لاقتناعهم بأن " ناصر" الذي يخوض حربا مع شعبه، وارتبط باتفاقية عسكرية مع بريطانيا لا يملك الخروج عن طاعتهم أو الإضرار بهم،أو ربما كان موقف الخارجية الأمريكية هو مجرد موقف بيروقراطيين، لا يرون أبعد من اللوائح والنظم ويخشون لو أعطوا عبد الناصر امتياز الحصول على سلاح بدون اتفاقية ، ما يسيء إلى مركز الدول التي خضعت للشروط الأمريكية، أو لشاء من ذلك كله صمم رجال الإدارة الأمريكية، على ضرورة أن يتبع ناصر القوانين ويوقع اتفاقية المساعدة العسكرية وذهبت جهود أصدقاء ناصر في المخابرات عبثا..

وسنقدم هنا وثيقتين :

مذكرة من هيئة تنسيق العمليات
إلى نائب وزير الخارجية
واشنطن 28 سبتمبر 1954
سرى للغاية

الموضوع: المساعدة العسكرية لمصر

مرفق الملحق تى آيه بى آيه كتبه مستر جيرنجان نائب وزير الخارجية المساعد لشئون الشرق الأدنى وجنوب آسيا وأفريقيا..

حضر الاجتماع ممثلو: الخارجية والدفاع والمخابرات سى آى ايه وإدارة العمليات الخارجية.

1- سوف نتبع، كما هو جار حاليا، محاولة دعم التنمية الاقتصادية لمصر في حدود 40مليون دولار.
2- .... ( محذوف) يجب أن ننصح رئيس الوزراء ناصر بأننا لا نستطيع تنفيذ برنامج مساعدة عسكرية شاملة، إلا عندما يصبح قادرا على توقيع اتفاقية المساعدة العسكرية التقليدية، ولكن نظرا لصداقتنا الخاصة ورغبتنا في مساعدة نظامه على البقاء ودعم مركزه، فنحن على استعداد لتقديم مساعدة اقتصادية متواضعة إضافية بطريقة تمكنه من توفير قدر من الدولارات لشراء معدات عسكرية أمريكية وسيكون ذلك بصفة سرية جدا وهذا ينطبق فقط على السنة المالية الحالية وسيبلغ ناصر بوضوح كامل أن أية مساعدة أخرى في المستقبل يجب أن تتم بالطريق المعتاد.
3- إذا وافق ناصر فيمكن تحويل عشرة ملايين دولار من وزارة الدفاع إلى إدارة العمليات الخارجية بند المساعدات الاقتصادية وتضاف إلى الأربعين مليونا المقررة للمساعدة الاقتصادية الأصلية.

4- قرار تحديد المواد التي ستباع لمصر والإجراءات اللازمة لذلك ستتم علنا وبالطريق المعتاد وكأن المبالغ المعنية جاءت أساسا من مصادر مصرية.

وأخيرا " فإنني أعتقد بوجود شيء من المصداقية في دعوى الـ سى آى ايه بأن ناصر يؤمن فعلا بأننا قد التزمنا نحوه ببعض المساعدات العسكرية.

وأعتقد أيضا أن عبد الناصر يمكن أن يكون مفيدا جدا في الشرق الأوسط، إذا ما دعمناه وتعهدناه ولذا أعتقد أن لفتة خاصة من هذا النوع تستحق المحاولة.

وعلى أية حال إذا رفض ناصر هذه الترتيبات ، فأنا أوصى بالعودة إلى موقفنا الأصلي وهو : لا مساعدة عسكرية بأية صورة حتى يكون مستعدا لتوقيع الاتفاقية المعتادة. وأرى أن يثار هذا المر في اجتماع أوه سى بى ( هيئة تنسيق العمليات في 29 سبتمبر)".

وقبل أن ننتقل للوثيقة الثانية نقف هنا عند نقطة أشرنا إليها في كتابنا السابق ولكنها لم تكن واضحة، وهى ما زالت شديدة الغموض، وكتاب الناصية يضنون علينا بتفسير رغم إفراطهم في الكتابة. ففي هذا الوقت ذهب " محمود فوزي" إلى السفير الامريكى وأبلغه أن عبد الناصر أو مصر لا تريد سلاحا من أمريكا؟ وقد ورد ذلك في برقية من كافري إلى وزارته برقم 1357 بتاريخ 29 أغسطس 1954 " 268- زارني وزير الخارجية أمس وأخبرني أنه بعد دراسة دقيقة ، فإن الحكومة المصرية قررت ألا تطلب مساعدة عسكرية من أمريكا في هذا الوقت لأن المصريين تيقنوا أن القوانين الأمريكية تتطلب توقيع اتفاقية الأمن المشترك وأن هذا القرار ( عدم طلب السلاح) لن يؤثر على سياسة الحكومة المصرية في التعاون الوثيق من الغرب، وإنما لأسباب داخلية، وطلب رفع حجم المساعدة الاقتصادية".

وتضاربت المواقف بشكل مثير.. هيئة الأمن كتبت مذكرة في 8/9/1954 أعربت فيها " عن سرور الخارجية الأمريكية لقرار مصر بعدم طلب السلاح نظرا للاحتجاجات الإسرائيلية الأخيرة".

واحتجت الـ سى آي ايه في واشنطن وقال ممثلوها إن السفير ليس له مداخلة مع عبد الناصر وأيده السفير المصري في واشنطن الذي شك في النبأ واتصل بعبد الناصر تليفونيا، الذي أذن أن يبلغ وزارة الخارجية " أبلغنا السفير المصري هنا هل ضوء مكالمة تليفونية أجراها مع ناصر أنه بعكس وأنه يرغب في إبقاء الأمر معلقا حتى يحل مشاكله الداخلية" 31/8/1954.

هل كانت مناورة من وراء ظهر عبد الناصر، أم بعلم عبد الناصر لأحكام الخطة التي نقلت إليه عن زيادة حجم المساعدة الاقتصادية العلنية، بما يوفر عملة لمصر تشترى بها سرا المعدات العسكرية أي من السوق الأمريكية نقدا ودون حاجة لشروط المساعدة.. ؟ ثم تدخلت الـ سى آى ايه فجعلته يغير موقفه؟ الحق أننا لا ندرى .. وعلامات الاستفهام تتزايد حول شخصية محمود فوزي.

الوثيقة الثانية:
ملحق ب ..
سرى جدا
28 سبتمبر 1954

مذكرة من مسئول مكتب تنسيق العمليات (ستاتسى).

عقد الاجتماع لبحث مشكلة المساعدات العسكرية لمصر وحضره الآتية

أسماؤهم :

عن الخارجية

جون جيرنغن
لويس فرشتلنج
وليم بوردت

الدفاع

وليم جودل

المخابرات

ريتشار بيسيل المدير العام

كيرميت روزفلت نائب المدير للشرق الأوسط

إدارة العمليات الخارجية

نورمان بول

مكتب تنسيق العمليات

المرستاتس
ماكس بيشوب

وبدء مستر جيرناجن الاجتماع بأن وجود التزام امريكى بإعطاء مصر مساعدات عسكرية واقتصادية.

وأن وزير الخارجية المصرية أبلغ السفير كافري أنه بسبب الظروف الحالية، فإن مصر لا تريد توقيع اتفاقية المساعدة العسكرية في هذا الوقت.

وبما أن تعهد الولايات المتحدة بتقديم المساعدة العسكرية لمصر لا ينطوي على حالة خاصة، ومن ثم يجب أن يتخذ الطريق المعتاد .. ولكن نظرا لعدم رغبة مصر في الحصول على المساعدة العسكرية في هذا الوقت.

فقد رؤى أنه من غير المرغوب فيه أن نثير مشكلة حول إقناع المصريين بضرورة قبولهم اتفاقية المساعدة وأنا استحسن على ضوء المناقشات الأخيرة في مكتب تنسيق العمليات، أنه لو أمكن إيجاد حيلة لإعطاء مصر ما لا يزيد عن عشرة ملايين دولار مساعدة عسكرية لمصر تحت ( ......) ( وردت هكذا) بعض الترتيبات مثل مساعدة اقتصادية، فإن مستر " جيرنجان" يعتقد أن مثل هذا الترتيب سيكون مقبولا سياسيا ولن يسبب لنا أية مشاكل.

واستعرض مستر " ستاتس" ومستر " جودل" المناقشة التي جرت في اجتماع هيئة تنسيق العمليات في اجتماعها الأخير يوم الأربعاء 22 سبتمبر ( بالرجوع إلى الملفات لم تجر مناقشة المساعدة العسكرية لمصر في ذلك الاجتماع) وقال مستر " جودل" إن وزارة الدفاع قد اعتمدت ما يزيد قليلا عن عشرين مليون دولار للمساعدة العسكرية لمصر وأن جزءا من هذا المبلغ يمكن أن يحول لإدارة العمليات الخارجية إذا ما رأت الـ أوه سى بى ( مكتب التنسيق ) ذلك ضروريا ومرغوبا فيه. وأكد مستر " جودل" في نفس الوقت أن هناك احتياجات أخرى لهذا المبلغ".

" ثم تحدث " مستر روزفلت ومستر بيزل ( رجلا المخابرات سى آى ايه ) فوصفا بإيجاز الوضع في مصر :............................".

( هذا الجزء اختفى . حذف من ملفات الخارجية ولن تتاح أبدا معرفته ).

ثم استمر التقرير :

" وجرت مناقشة مكثفة حول نوعية المواد التي يريدها المصريون في هذا الوقت واتفق على أنه من المستحسن إرسال ضباط أمريكيين لمصر لنصح المصرين حول المواد التي يجب أن يحصلوا عليها وليروا إذا كان تلبية طلبات الولايات المتحدة؟ وصرح المستر بأول أن هيئة المعونة الخارجية يمكنها خلال وقت قصير إعداد برنامج للمصريين استخدامها لشراء إمدادات عسكرية من الولايات المتحدة" واتفق على أن المجموعة ستقترح على أوه سى بى في اجتماعها القادم 29 سبتمبر برنامج العمل التالي:

1 – ( محذوف) يتصل بالكولونيل ناصر و (محذوف) يبلغ الأخير أنه ولو أن المساعدة العسكرية المنحة، يمكن تقديمها فقط في ظل اتفاقية مساعدة عسكرية فإنه قد يكون من الممكن ان يوضع تحت تصرفه ( محذوف) مبلغ في حدود عشرة ملايين يمكن أن يستخدمها في شراء إمدادات عسكرية من الولايات ا لمتحدة.
وأن هذه المساعدة هى " كل " ما يمكن له أن يتوقع في السنة المالية الحالية.
وأنه إذا حاز هذا البرنامج قبوله فعليه أن يطلب من وزير خارجيته الاتصال بالسفارة الأمريكية لطلب المساعدة". " وتقرر في هذا الاجتماع إرسال فريق دراسة من العسكريين بملابس مدنية لنصح المصريين بما يشترونه بالعشرة ملايين".
ولكن حدث تطور جديد يعكس الصراع الذي كان دائرا وقتها بين مجموعتين ، مجموعة وربما كان السفير الامريكى فيها، التي ترى أنه يستحيل على واشنطن إعطاء أسلحة بحجم يرضى ناصر إلا إذا خضع للتنظيمات القانونية المتبعة في أمريكا وفريق المخابرات الذي رأى أن توقيع عبد الناصر على اتفاقية عسكرية مع أمريكا سيؤثر على الدور المرجو له كزعيم العالم العربي وقائد ثورة التحرير .. الخ.. واستمر الشد والجذب وانعكس ذلك في قرارات مصرية متناقضة:
في 27 أكتوبر 1954

" أبلغ السفير المصري، الخارجية الأمريكية أنه بسبب القبول الحسن للمعاهدة مع الإنجليز، وتحسن الوضع السياسي الداخلي لذا فإن كولونيل ناصر يرغب في استئناف المفاوضات حول المعونة العسكرية".

في 29 أكتوبر 1954.

" أبلغوا ناصر أن الحكومة الأمريكية مستعدة لاستئناف مفاوضات السلام وأن ترسل فورا لجنة تقصى حقائق عسكرية في ملابس مدنية لتناقش مع ناصر ما يتعلق بالاتفاقية العسكرية ( ....محذوف) وإمداد مصر ( ...محذوف) بحوالي ثلاثة ملايين دولار لشراء معدات عسكرية أمريكية لرفع الروح المعنوية واستئناف السفارة في القاهرة المفاوضات على أساس اتفاقية على طراز الاتفاقية المبرمة مع العراق".

وهذه الوثائق تؤكد تماما ما سجله ولبر ايفيلاند" في كتابه " حبال من رمال" فعلى ضوء قرار هذا الاجتماع تشكل وفد منه " جير هاردت" وسافرا إلى مصر حيث اجتمعا بناصر، ولكن كتاب " ايفيلاند" أكثر معلومات، ذلك أنه حدد الأشخاص الذين حضروا الاجتماع وفيهم كوبلاند والتهامي ولكن كما أشرنا هناك قرار حذف أسماء الذين لهم علاقة بالمخابرات الأمريكية ويمكن أن يضرهم سياسيا أو أمنيا الإشارة إلى نشاطهم.. ولذلك حذف من تقرير الاجتماع اسم " كوبلاند" الذي لم يرد في الوثائق إطلاقا وكذلك حذف اسم " التهامي" وقيل " وواحد من السكرتارية الخاصة لرئيس الوزراء".

وأغلب الظن أن المقصود هو التهامي وليس كوبلاند .. كذلك سجل تقرير الخارجية الأمريكية عن الاجتماع مع ناصر 23/11/1954 نفس الملاحظة التي اتفق عليها كوبلاند في " لعبة ألأمم" وايفيلاند في " حبال الرمال" وهى " إن الجو كان وديا ومسترخيا".

وقال ناصر:" إنه لا يقدر أن يوقع معاهدة مع الإنجليز واتفاقية عسكرية مع الأمريكان في وقت واحد"..

ورد التقرير كالآتي:" في 23 نوفمبر، اجتمع جير هاردت، ايفيلاند ( محذوف ونعتقد أنه اسم كوبلاند) مع عبد الناصر وعامر وعضو من السكرتارية الخاصة لرئيس الوزراء (ناصر)".

وجاء في التقرير أن ناصر أبلغ الأمريكيين أنه يتوقع " تصفية الإخوان خلال شهرين، وفى هذه الحالة وعلى ضوء تدعيم قبضة مجلس الثورة يمكن أن يعيد النظر في توقيت الاتفاقية المطلوبة.

وفى يوم 31 ديسمبر 1954 كتب مستر جيرنجان الوكيل المساعد للخارجية الأمريكية مذكرة جاء فيها:

تسلمنا رسالتين ( ... محذوف) من رئيس الوزراء ناصر يقولك" إن الحاجة إلى المساعدة العسكرية ماسة" .

نظرا للحالة المعنوية الحاضرة للجيش، وهو يطلب البحث عن وسيلة لتقديم مساعدة عسكرية مجانية بدون توقيع اتفاقية برنامج مساعدات الدفاع المشترك.

وهو يسأل إذا كان خطابا شخصيا منه للرئيس الامريكى يكفى لتغطية اشتراطات القانون ويشكل بديلا عن الاتفاقية..؟".

وردت المذكرة :

1- إن اعتمادات المساعدة لمصر حولت لأغراض أخرى وبالتالي فإن أية مساعدة ستعتمد عل تخصيصات الكونجرس التي بدورها ستتأثر بموقف الكونجرس والرأي العام الامريكى إزاء سياسات المصريين وخاصة فيما يتعلق بإسرائيل.
2- في جميع الأحوال سيطلب من مصر أن توقع الاتفاقية.
3- نحن على استعداد لدراسة طلبات شراء في إطار اتفاقية المساعدة الحالية.

" وكما تعلمون فإن خططنا نحو تحقيق أتقدم في حل المشكل العربي- الاسرائيلى، يعتمد أساسا على مصر كالقائد المحتمل لتسوية مع إسرائيل ولإقناع ناصر لقبول هذا الدور يجب:

1- مساعدته على تقوية مركزه في الداخل.
2- إقناعه بأن هذه السياسة ستحقق عائدا وبالخطة المقترحة سنلوح له " بجزرة " إمكانية المساعدة العسكرية وهو الأمر الذي يحتاجه بشدة.. بينما نقول له بوضوح إن ذلك لن يعطى له مجانا بل لابد أن يدفع مقابله وذلك بتحسين موقفه من إسرائيل . وقد نوقش ذلك في 30 ديسمبر ( 1954) مع مستر هوفر، مستر مورفى ، وأندرسون نائب وزير الدفاع وآلن دلاس ( مدير الـ سى آى ايه) .
3- وبهذه الرسالة الخسيسة الأهداف والوسائل " الجزرة" كان يمكن أن يتجمد الموقف أو يدخل في مرحلة اكتشاف جديدة لإمكانية الحل السلمي للصراع العربي- الاسرائيلى، في ضوء توقعات المراهنين على عبد الناصر وأيضا المدرسة العربية في الإدارة الأمريكية وهى التي كانت تضم القوى التي استهانت بالنفوذ الصهيوني وجهلت الأطماع الصهيونية الحقيقية، فقد رأت هذه القوى بعد إنهاء المشكل المصري- البريطانى، أن الفرصة متاحة لوضع السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على قدميها بالمراهنة على القوة الكبرى والطبيعية بل والشرعية الأصيلة وهى العرب.. وبالذات مصر التي كان يحكمها شباب معجون بالأمريكان باعتراف هيكل أو مرتبطون بالأمريكان في اتهامات خصومهم.. ولو تحقق هذا التصور لواجهت إسرائيل مأزقا حقيقا، لا لأن أمريكا كانت ستتفق مع العرب على إزالة إسرائيل ، بل كانت ستجبر إسرائيل على عقد صلح مقبول للعرب، وهذا يعنى زوال إسرائيل في نظر الفكر الصهيوني الامبرطورى..

وقد حاول اللوبي الصهيوني، بكل قواه أن يمنع تسليح مصر، ولكنه كان يعرف أن هذا مستحيل الاستمرار، وخاصة إذا ما نجح الحكم في مصر في إثبات استقرار الحكم ولو في صيغة ديكتاتورية تعتمد على صغر سن الزعيم، وفى خلق جبهة عربية ملتفة حوله، إذ لابد أن يقوى اللوبي الامريكى ويطلب ترك أطراف المنطقة تحسم أمورها دون تدخل من جانب الولايات المتحدة، ما دامت النهاية لصالح الولايات المتحدة في كل الاحتمالات.. ولمنع ذلك كان لابد أن تفرض إسرائيل على المنطقة واقع أنها الصديق الوحيد للولايات المتحدة وإقناع الرأي العام الامريكى بأن إسرائيل هى القوة الوحيدة في الشرق المضمونة الولاء للولايات المتحدة والغرب ورأس الرمح في محاربة النفوذ السوفيتي في المنطقة وليس المهم أن تصدق الإدارة الأمريكية ذلك أو تتظاهر بالتصديق فمن تخادع لك فقد خدعته. أو بالأحرى إن مجرد رواج هذا المفهوم لدى الأمريكان يسهل على الإدارة الأمريكية تنفيذ مطالب اللوبي الاسرائيلى الشديد التنظيم وصاحب القوة الانتخابية التي يسيل لها لعاب السياسيين الأمريكان ..

وقد اتبعت إسرائيل في ذلك الآتي:

1-تبنى سياسة معادية للسوفييت على مستوى الشعارات بل واستفزاز الروس لمعاداة إسرائيل وذلك بإزالة المسحة الشيوعية التي صاحبت فترة بناء إسرائيل وظهور الدولة والتي كانت ضرورية في ذلك الوقت لكسب اليسار الأوربي، وشل المعارضة الروسية لإنشاء الدولة ودفع الاتحاد السوفيتي للتحلل من الالتزام النظري الذي ظل يكرره نصف قرت بأن الماركسية ، وهو رفض قيام أمة على أساس الدين أو العرق.. وأيضا لضمان وصول السلاح من تشيكوسلوفاكيا والمتطوعين من شرق أوربا.. وأخيرا لتغطية صهيونية قادة الأحزاب الشيوعية في العالم العربي وكلهم من اليهود.
وقد وصلت عملية الانسلاخ ذروتها بإلقاء القنبلة على المفوضية الروسية في تل أبيب، واستفزازات جولدا مائير السفيرة في الاتحاد السوفيتي، وإثارة قضية اليهود السوفييت.. وقطع العلاقات مع روسيا.
2-إثبات أن إسرائيل أجدر بالمراهنة عليها لقوة جيشها وكفاءة مجتمعها وأيضا لديمقراطية نظامها وليس هذا عن ولع الأمريكان بالديمقراطية بل لأن النظام الديمقراطي يضمن الاستمرارية والاستقرار ووحدة الجبهة الداخلية والدول لا تحب أن تبنى إستراتيجيتها على الحالة الصحية أو المزاجية لشخص واحد.
3-ولكن ذلك كله لم يكن يقدر له النجاح إلا بتوفر عنصر ثالث أكثر أهمية، بل هو شرط نجاح هذا المخطط ألا وهو إفساد علاقة دول لمواجهة- على الأقل – مع الغرب، بل ودفع هذه الدول إلى الارتباط بالاتحاد السوفيتي، وتضخيم هذه العلاقة في الإعلام الامريكى لإثارة جنون المواطن الامريكى الذي ما زال إلى اليوم رغم سنوات الوفاق وتحول أمريكا إلى مزرعة القمح الروسية، ما زال يفقد السيطرة على أعصابه كلما لوحوا براية حمراء.

وهكذا كانت كل خطبة وكل زيارة وكل إشارة عربية في اتجاه السوفييت تقابل بصيحات اللوبي اليهودي.. والأمريكيين السذج، بطلب الدعم لإسرائيل، كتيبة الصدام التي تقف وحيدة تدفع من دم أبنائها ثمن حماية العالم الحر وأمريكا بالذات من الخطر السوفيتي .

كان لابد إذا من دفع مصر إلى أحضان السوفييت، وهو ما سميناه بفرض التحالف مع الطرف الأضعف في المحالفة الدولية ، على الخصم المحلى.

والكاتب الماركسي شم رائحة اللعبة، ولكنه كما قلنا لا يطيق مواجهة الحقيقة, لذا نراه يقول:" والذي يتابع أخبار الصحف في هذه الفترة التي امتدت من يوم الغارة على غزة في 28 فبراير 1955 حتى شهر سبتمبر 1955 يجد أن مانشتات الصحف لم تتوقف خلالها عن الإعلان عن اعتداءات إسرائيلية واشتباكات مع الفدائيين وقوات الجيش المصري، الأمر الذي كان يستهدف الضغط على مصر، والذي كان يدفعها في نفس الوقت دفعا إلى محاولة الحصول على السلاح دفاعا عن أراضيها واستقلالها وحيادها أيضا".

وهذا الذي استطاع حمروش أن يكتشفه ، لابد أن نفترض وجود إسرائيليين في مستوى ذكائه عرفوا أيضا أن هذا الاستفزاز والضغط يدفع مصر دفعا لطلب السلاح.. فهل كان اليهود يتحرقون شوقا لحصول مصر على السلاح من أمريكا ولذا كانوا يدفعون جنودهم لإراقة دمهم في الاشتباكات مع المصريين لدفع عبد الناصر دفعا للحصول على السلاح من الولايات المتحدة أو الغرب وإقناع أمريكا باعتداءاتهم بحاجته للسلاح ؟

مد بصرك إلى الأمام قليلا يا رفيق.. وستجد إسرائيل كانت – فعلا- تضغط عسكريا على عبد الناصر لتأزيم قضية التسليح وجعلها تحتل المرتبة الولي من اهتماماته ، وبما أنها تعلم أن الولايات المتحدة لن تلبى طلبه، لأن كل نفوذ إسرائيل سيجند لمنع ذلك، ومن ثم لا يبقى أمامه من حل إلا اللجوء السوفيتي وتخريب جسوره مع الغرب والولايات المتحدة.. وأن هذا الهدف كان حيويا لإسرائيل وأشرف بن جوريون نفسه على تنفيذه بخروجه من عزلته إلى وزارة الدفاع وشنه الغارة الأولى على الفور عقب عودته بأيام ثم استمر في التحرش لدفع عبد الناصر دفعا في هذا الطريق.

وقد علق البغدادي على العدوان الاسرائيلى الكبير الذي وقع على سوريا في منتصف ديسمبر 1955 على معسكرات الجيش قرب حدود طبرية وقتل فيه أكثر من خمسين جنديا وذلك بعد توقيع اتفاقية الدفاع المشترك مع سوريا علق بأن هذا الاعتداء دفع سوريا في اتجاه الاتحاد السوفيتي كما سبق واتجهنا وكان الأحرى به أن يقول كما سبق ودفعنا وقد نجح المخطط وفتحت ترسانات الغرب لإسرائيل واستمر التطوير في هذا الاتجاه حتى أصبح المواطن الامريكى يعتبر إسرائيل ولاية الحدود الأمريكية .. وبلغت ههذ السياسة ذروة نجاحها في حربي 1967 و1973 التي كانت إسرائيل تملى فيها شروطها وطلباتها على أمريكا وكأنها تقاتل حربا أمريكية وإليك شهادة خبير من أهل البيت:

" ولو أن آلن دلاس كان سعيدا لأن سوريا قد عادت إلينا تطلب السلاح إلا أنه قال لي إن بريطانيا تعارض الآن أية مبيعات سلاح للشرق ألأدنى باستثناء العراق عضو حلف بغداد وأن أخاه فوستر دلاس وزر الخارجية- يفكر في الاقتداء ببريطانيا. هذه الأنباء أزعجتني وخاصة عندما أكد لي ما كنت قد سمعته عن مبيعات سلاح ضخمة من فرنسا لإسرائيل.

ههذ المبيعات كان يتغاضى عنها الإنجليز والأمريكان. أما فرنسا فأعلنت أنها لن تنضم لحلف بغداد، مكتفية بإرسال هذه الأسلحة لإسرائيل لتقوى ولو بشكل غير مباشر القدرات الدفاعية للغرب في المنطقة.

وتجاهل دلاس سؤالي وهو : كيف تستطيع إسرائيل ، وهى محاصرة بمحيط من العداء العربي، وتشكو دائما من انعدام الأمن على حدودها الأمر الذي يهدد وجودها كيف ستتمكن من المساهمة في الدفاع عن المنطقة ضد الهجوم السوفيتي ؟ تجاهل آلن دلاس سؤال هذا ، وفضل التحدث عن مصر، فشرح لي أن المخابرات سى آى ايه على يقين تام الآن أن ناصر عنده وعد قاطع من الروس بتزويده بأسلحة ثقيلة مقابل محصول القطن المصري.

وأن الرئيس المصري الآن يقول إنه ظل يتفاوض على سلاح امريكى لمدة عام فلم ينل إلا المماطلة والتأجيل. وعبر دلاس عن تعاطفه مع موقف ناصر، بأن شرح لي كيف أن سياسة إسرائيل إزاء مصر هى منع أي اتفاق سلاح امريكى – مصري.

فهي – كما أفضى لي وكسر فيما بيننا- حاولت أن تنسف مكاتب أمريكية في القاهرة على أن تنسب ذلك لإرهابيين مصريين.. ولكن ثبت أن الموساد هى التي نفذت هذه العملية ( عملية لافون) وأكثر من هذا قال دلاس إن عمليات الردع الإسرائيلية ضد هجمات الفدائيين المصريين الذين يعملون من غزة وسيناء قد تصاعدت فوق أي مبرر .

فالهجوم الاسرائيلى الأخير على موقع عسكري مصري في غزة خلف 54 قتيلا مصريا وخمسين جريحا.. وأدى إلى إدانة جماعية من مجلس الأمن الاسرائيلى، كما أدى إلى تجميد مؤقت للمساعدات الاقتصادية الأمريكية التي كنا قد وعدنا بها إسرائيل كما أثار نداءات من الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار بعد أن أرسلت إسرائيل قواتها مرة أخرى للمنطقة.

وقد أبلغ الرئيس ناصر الولايات المتحدة أنه لن يستطيع مقاومة ضغط الرأي العام المطالب بالرد، بل قد لا يستطيع الاحتفاظ بمنصبه، إلا إذا وافقت أمريكا على بيع السلاح الذي طلبته مصر منذ فترة طويلة، ثم سألني دلاس عن رأيي في ردة فعل سوريا إزاء صفقة السلاح المصرية- السوفيتية فقلت: إن كلا من السفير الامريكى مورس وأنا على ثقة بأن سوريا هى الأخرى ستتجه إلى الروس وسألت دلاس عن مصير الطلب المصري للسلاح.

فقال لي – مرة أخرى لمعلوماتي الخاصة- إن المخابرات سى آى ايه قد نظمت اتصالا على أعلى مستوى في حكوماتنا مع الممثل الشخصي لعبد الناصر الصاغ حسن التهامي وفى الوقت الذي نتحدث فيه فإن " كيم روزفلت" يطوف بالتهامي على مكاتب المسئولين في واشنطن.. وباختصار .. قال " آلن دلاس" إنه يأمل في جهود روزفلت وأن تقديرات المخابرات سى آى ايه حول نتائج صفقة السلاح السوفيتية – المصرية ستكون مؤثرة.

ومن الواضح أنني لم أكن في موضع يمكنني من التعبير عن مشاعري الحقيقية في الموضوع، إلا أنه خطر في هذه اللحظة أن الأخوين دلاس يؤثران سلبيا على السياسة الأمريكية فلو أن رجلا آخر كان يرأس المخابرات الأمريكية، ولديه الشجاعة للمخاطرة بسمعته ووظيفته فإنه كان سيمارس مسئولياته الدستورية بتحذير الرئيس بأن سياسة وزارة الخارجية تفتح الباب للروس لكلا يشكلوا قوة مؤثرة في مستقبل الشرق الأوسط. ولكن إخلاص آلن دلاس لأخيه فوستر دلاس، وقف في طريق قيامه بواجبه وقال كوبلاند إن الجناح الاسرائيلى عارض أية علاقة أمريكية مع ناصر، وأن السفير الامريكى بايرود أبلغ المسئولين في أغسطس 1955 بوجود عرض سوفيتي لتزويد مصر بالسلاح وأن ناصر يمكن أن يقبل".

ماذا نفهم من هذه الأقوال:

1- نفهم أن المفاوضات المصرية- الأمريكية للسلاح كانت تسير في طريق مسدود، في البداية كانت بريطانيا تعارض بيع السلاح لمصر أثناء المفاوضات ثم تركزت المعارضة في اللوبي الاسرائيلى في الولايات المتحدة.
2- كانت المخابرات الأمريكية ومن ثم القيادة الأمريكية على علم تام بصفقة السلاح ومن ثم لا مجال للحديث عن مفاجأة وضربة وصاعقة.. فقد أحيطوا علما بها من جمال عبد الناصر نفسه كما أحيطوا علما بأنه سيضطر لقبولها إذا لم يسعفوه بالسلاح. وخاصة بعد اعتداءات إسرائيل التي كشفت ضعف الجيش المصري وأثارت ثائرة المصريين والفلسطينيين واستغلها خصومه العرب.. فأصبح استمراره في السلطة مهددا مع كل ما يترتب على ذلك من انهيار لخطط هذه الأجهزة، وللسياسة الأمريكية التي تعتمد على وجوده.
3- يتهم " ايفيلاند" " آن دلاس " بالتستر على سياسة أخيه الخاطئة في منع السلاح عن مصر، ويعتقد أنه لم يكن شقيقه، لقام بواجبه نحو تنوير الرئيس الامريكى بخطورة هذه السياسة لأنها ستدفع عبد الناصر لشراء السلاح من روسيا.
لأن آلن دلاس مدير المخابرات ، كما يرى ايفيلاند- على وعى تام بمخطط إسرائيل لإفساد التحالف الامريكى- الناصري ومنع السلاح عن مصر، ايفيلاند لا دليل عنده على أن آلن دلاس لم يخبر الرئيس ايزنهاور بذلك ولكن لا ايزنهاور ولا دلاس الوزير ولا دلاس المدير كان بوسعهم حل المشكل، خاصة بعد الهجمات الإسرائيلية التي جعلت إعطاء أي سلاح لمصر يعنى دعما مباشرا للمجهود الحربي ضد إسرائيل في ظروف قتال. ولذلك فشلت تقارير المخابرات سى آى ايه وجولة كيرميت بالتهامي على مكاتب المسئولين، فقد نجح اللوبي الصهيوني في سد الطريق الامريكى.. ولم يبق أمام عبد الناصر سوى ممر واحد مفتوح وهو الطريق إلى سيبريا .. فما الحل؟

ليتخيل القارئ وضع آلن دلاس ويفكر ما الحل الذي يمكن أن يصل إليه في هذه المشكلة:

1- المخابرات الأمريكية تدير أكبر عملية في تاريخها في مصر والوطن العربي من خلال سلطة عبد الناصر.
2- هذه السلطة مهددة بالسقوط إذا لم يحصل عبد الناصر على أسلحة لتهدئة جيشه والرأي العام لا للقتال مع إسرائيل.
3- لا سبيل لحصول ناصر على السلاح من أية دولة غربية.
4- صفقة السلاح الروسي ستنقذ سلطة ناصر، وتدعم شعبيته وتزيل التوتر الناجم عن الاعتداءات الإسرائيلية لفترة تتمكن فيها المخابرات الأمريكية من معالجة الموقف أو كسب الوقت في انتظار حل آخر.

ماذا يختار آلن دلاس؟ سقوط عبد الناصر أم قبول الصفقة ومحاولة الاستفادة القصوى منها؟

ولماذا نخمن ؟ إليك ما جاء في الوثائق قال كوبلاند:

" في منتصف سبتمبر تسلم كيرميت روزفلت ( نائب مدير المخابرات ألأمريكية والمسئول عن الشرق الأوسط ومدبر انقلاب 23 يوليو) رسالة شخصية من ناصر بأنه سيوقع اتفاقية مع الروس للسلاح، وأنه إذا كان روزفلت يريد إقناعه بالتخلي عن ذلك فأهلا وسهلا به في القاهرة. وفى اليوم التالي سافرت وكيرميت إلى القاهرة .

وقابلنا في المطار معاونو عبد الناصر وأخذونا رأسا إلى شقة عبد الناصر في أعلى مبنى مجلس الثورة وكان عبد الناصر في جو " ألم أقل لكم" .. وشديد المرح مستعدا لسماح حجج روزفلت ضد الصفقة، ولكن روزفلت فاجأه ، فبدلا من القول بأن عبد الناصر يجب ألا يقبل الأسلحة قال روزفلت : إذا كانت الصفقة كبيرة كما سمعنا فسوف يزعج ذلك البعض ولكنها ستجعلك بطلا كبيرا فلماذا لا تستفيد من ههذ الشعبية المفاجئة للقيام بتصرف حكيم؟ فلن ينتقص من شعبيتك أن تصدر تصريحا تقول فيه:" إننا نحصل على هذه الأسلحة لغرض دفاعي فقط، وإذا كان الإسرائيليون يريدون الاشتراك في جهد مشترك لتحقيق سلام دائم في المنطقة فسيجدون منى الترحيب بذلك..

ووافق عبد الناصر على الفور، وقال إنها فكرة جيدة.. " وناقشنا الاقتراح إلى منتصف الليل واتفقنا على أن يعلن عبد الناصر الصفقة في بيان رزين نبيل يستثير الهتاف ليس فقط من المتطرفين بل من العناصر المحافظة، وبعدها يبدأ مبادرة بموقف حيادي من القضايا الدولية، وستكون مقبولة من الجميع ، بينما يمضى في حل مشاكله الداخلية الملحة بالمعونة الأمريكية. واتفق على أن أكتب أنا ( مايلز كوبلاند) الفقرة المطلوبة في خطاب عبد الناصر( عن إسرائيل) على أن ينقحها عبد الناصر وروزفلت في اليوم التالي.

وتدفق علينا في الفندق الناصحون بماذا يجب وماذا لا يجب أن نضع في خطاب عبد الناصر من أمثال مصطفى أمين، ومحمد حسنين هيكل والوطني المتطرف حسن التهامي وهو كبير مساعدي عبد الناصر وجيمس اكلبرجر وأحمد حسين السفير المصري في واشنطن.. وكلهم كانوا يعرفون أن صفقة سلاح عقدت مع الروس".

" وقرأت أنا وكيم مسودة الفقرة المقترحة لعبد الناصر في الساعة الثامنة مساء اليوم التالي مرة أخرى في شقة عبد الناصر في مجلس قيادة الثورة ، المواجه للسفارة البريطانية وأعجبت المسودة ناصر.. وقال إنه يمكن أن يضمنها خطابه بسهولة، إلا أن اعتراضه الوحيد، أنه لا يستطيع أن يقول عبارة " سلام مع إسرائيل " ولذا يقترح بدلا منها " تخفيف حدة التوتر بين العرب وإسرائيل" وقبل روزفلت ذلك وأحضر ناصر زجاجة ويسكي يحتفظ بها لكبار الزوار وفى هذه اللحظة دق التليفون وقال الضابط المناوب في أسفل المبنى، إن السفير البريطانى سير همفرى تريفليان يطلب مقابلة عاجلة.

سألنا جمال: ماذا يريد؟
أجبناه: سيحدثك في الصفقة.
سال: كيف عرف فالمفروض أنها سر.

ورد عليه روزفلت: جمال؟ حتى إذا افترضنا أن الخبر لم يتسرب من جماعتك فإن الروس سيسربونه فليس من مصلحتهم أن يبقى سرا.

" سأل ناصر: ماذا أقول له؟.. قال روزفلت.. حاول تهدئته إلى مساء الغد، موعد الإعلان عن الصفقة قل له: إن الأسلحة من تشيكوسلوفاكيا باعتبار أن تشيكوسلوفاكيا هى المصدر الرئيسي للسلاح لإسرائيل أيضا".

ثم قصة مسلية لمن شاء الرجوع إليها حول تلذذ رجال المخابرات الأمريكيين بغفلة السفير البريطانى وجهله أنهم في الداخل يسكرون.

وجاء زكريا وعامر وأخذوهم للعشاء في منزل السفير أحمد حسين حيث كان بايرود مدعوما وفوجئ برئيس الدولة يدخل محاطا بروزفلت وكوبلاند.. إلى آخر القصة المعروفة عن انفجار بايرود وانسحاب ناصر من العشاء . انظر لعبة ألأمم ص 160 إلى 161 .

ولكن الأمور لم تسر وفقا لخطة المخابرات الأمريكية ولا شك أن الإستراتيجية الإسرائيلية كانت تتطلب أن يصاحب عقد الصفقة حمى معادية للولايات المتحدة والغرب، والمزيد من أدلة شيوعية مصر.

وتدخل القدر أو " يهوه " أو أخطاء الدبلوماسية الأمريكية كما يقول كوبلاند، أو اللوبي الصهيوني لإفساد مخطط المخابرات وتسميم الجو.. وإليك أولا رواية " مايلز كوبلاند" عما عرف بعد ذلك بقصة الإنذار الامريكى والذي ما زال الأفاقون يتشدقون بها إلى اليوم.

بعد الأزمة التي حدثت على العشاء بين السفير الامريكى والرئيس ناصر حول حادثة ضرب الأهالي الملحق العمالي الامريكى أبرق روزفلت وايرك إلى واشنطن يطلبون سحب بايرود لأنه فقد توازنه العقلي.

عندها قرر دلاس أن يرسل إلى القاهرة " جرج آلن" نائب وزير الخارجية للتحقيق من سلامة قوى بايرود العقلية وفى نفس الوقت أعد الوكيل المساعد وليم راونترى مسودة خطاب شديد اللهجة من دلاس إلى ناصر يشير فيه إلى مخاطر قبول السلاح الروسي.

وسرب بعضهم للصحف أنباء عن الموضوع كانت كافية لتنشرها هذه الصحف تحت عنوان " آلن يتجه إلى القاهرة لتقديم إنذار لعبد الناصر" وانتقلت القصة إلى تيكر الأسوشيتدربرس في القاهرة الساعة السادسة مساء بتوقيت القاهرة، الحادية عشرة صباحا بتوقيت واشنطن.

وفى الساعة السادسة والنصف عندما ذهبنا لمقابلة عبد الناصر كان محاطا بمعاونيه، وكان يأمر أحدهم بحذف " هذه الفقرة السخيفة" ويضع مكانها شيئا مضادا للأمريكان، ويأمر بالاتصال بوزارة الخارجية ويبحث معهم إجراءات قطع العلاقات مع دولة كبرى.

ويأمر ثالثا بحجز إذاعة القاهرة لإذاعة بيان هام على الشعب، ورابعا بطلب سيارة متواضعة واصطحابي وروزفلت إلى المطار.. " ويجب أن نسجل شكرنا لمصطفى أمين الذي أعاد جو الهدوء وأقنع عبد الناصر بأنه لن يخسر شيئا إذا قابل " كيم روزفلت" فقط لسماع ما ليده قبل اتخذا كل هذه الإجراءات.

ووافق عبد الناصر على أن يصعد إلى أعلى حيث روزفلت في انتظاره غير عالم بما أذاعته الاسوشيتدبرس لأن وزارة الخارجية لم تهتم بإبلاغ السفارة في مصر بقدوم آلن سواء بإنذار أو بدون إنذار .. وبعد شهور قال عبد الناصر في خطبه إن أمريكيا جاء يحذره من إنذار امريكى.. وهذا محض افتراء من ناصر ونفاق عربي، فكل ما قاله روزفلت هو : لماذا لا تتسلم الإنذار أولا.. ثم تصرخ.. ربما غلطت الاسوشيتدبرس .. ولكن عبد الناصر أصر على أن الاسوشيتدبرس لا يمكن أن يخطئ وكل ما كان بوسع روزفلت أن يقوله هو:" لو سلمك إنذارا فتصرف كما ترى، ولكنى لا أظن أن دلاس سيرسل إنذارا من غير أن يخبرني عنه.

وهدأ عبد الناصر ووافق على تأجيل كل الإجراءات إلى أن يتسلم الإنذار، ولكنه حذف الفقرة إياها من خطابه. وعندما قابلته وكيم بعد الخطاب بدقائق التفت إلينا قائلا:" الخطاب لم يكن تماما كما أردتما ولكن ما زال في الوقت متسع، وفى صباح اليوم التالي وصل آلن، وكان في استقباله حشد من المتظاهرين يهتفون ضد أمريكا.. وتلك هى الصورة النموذجية للناصرية التي يحبها العرب.. وقبل أن يقترب منه أي مراسل لسؤاله كان حسن التهامي قد اخترق كوردون مشاة الأسطول ( مارينز) الأمريكان، لتسليمه رسالة من روزفلت وجونسون:" أنكر الإنذار.. أو على الأقل لا تشر إليه حتى نتناقش".

أما حكاية الإنذار الحقيقية فيعرضها كالآتي:

" قال وزير الخارجية عرضا :" آلن .. ما دمت ستذهب لمصر، فانتهز الفرصة وقل لناصر رأينا في صفقة السلاح التي عقدها ، وأنت يا بيل.. أكتب شيئا ما" .. وبما أن أمر الوزير واجب التنفيذ، فإن " آلن" رغم اتفاقه مع روزفلت في الليلة السابقة على تبريد العملية، إلا أنه كان مضطرا لتسليم الرسالة، ولكنه عندما ذهب لمقابلة عبد الناصر اكتفى بقراءة بعض فقرات منها محاولا جعلها هادئة ثم انصرف لمناقشة أشياء أكثر سرورا وهو ماذا ستفعل مصر بالأربعين مليون دولار التي سنقدمها لها، وفى النهاية لم يكن هناك إنذار وإنما ساهمنا في رفع شعبية ناصر في العالم العربي".

وقال ايفلاند إنه سأل " آلن عن الإنذار فقال له إنه لم يحمل أية تهديدات" .

وقال : " وصلت برقية إلى بيروت تفيد أن وكيل الخارجية جورج آلن قد أرسله وزير الخارجية دلاس للقاهرة للتباحث مع ناصر وذلك لخلق إحساس بأن صفقة السلاح الامريكى – التشيكي لا تعنينا ، ولذلك وصفت الرحلة بأنها زيارة روتينية لعدة بلدان لمناقشة القضايا الجارية".

ويضيف أن آلن " عقد اجتماعا للسفراء الأمريكيين في الدول العربية لمجرد إظهار أن رحلته لم تكن مخصصة لمصر وصفقة السلاح".

يبدو أنه كان إنذارا سريا تهمس به أمريكا في أذن ناصر بينما تظهر للعالم كله أنها غير مهتمة بصفقة السلاح.

أما رواية هيكل فهي تحكى عن إنذار خطير، كان في طريقه إلى مصر وعن محاولات كيرميت روزفلت منع عقد الصفقة ولكن عبد الناصر هدد باتخاذ إجراء عنيف ضد المبعوث الامريكى حامل الإنذار المزعوم مما جعل أمريكا تسحب الإنذار وتعود ذيلها بين رجليها ولا يمكن استنتاج إنذار من تصريح آلن في المطار عن حق مصر المشروع في شراء السلاح كما سنرى.

وفى اعتقادي أن حكاية الإنذار إذا رفضنا التفسير البسيط فإنها لا تخرج عن أحد هذين الاحتمالين أو هما معا.

1- إما رؤساء روزفلت في أمريكا أرادوا المزيد من احتلاب الفكرة الجهنمية بتسخير الصفقة لخلق شعبية واسعة لبعد الناصر تمكنه من المضي خطوات لا يجرؤ عليها حاكم عربي منذ مصرع الملك عبد الله وحسنى الزعيم.. ولا شيء يزيد الشعبية – حتى اليوم- أكثر من الحديث عن هلع أمريكا وانهيار بريطانيا وإغماء إسرائيل وإنذار امريكى بضرورة إلغاء الصفقة وتمزيق عبد الناصر الإنذار أو تحطيمه في الجو بإنذار مضاد، والمضي قدما في طريق المجد بعقد الصفقة وإثبات أن " أرض العروبة نار" وهو ما حدث تماما.
2- وإما أن أنصار إسرائيل في سراديب الحكومة الأمريكية خشوا فعلا نجاح مخطط روزفلت والمجموعة الناصرية في المخابرات الأمريكية في استصدار هذا التصريح السلامى من عبد الناصر الذي كان سيحقق المزيد من دعم العلاقات المصرية- الأمريكية ومحاصرة نوايا إسرائيل الحربية، ولذلك سربوا شائعة الإنذار للصحافة لاستفزاز عبد الناصر إلى مواقف تؤدى إلى توتر العلاقات مع أمريكا وإلغاء اللهجة السلامية، والمزيد من الاندفاع للسوفييت .
وهذا ما كانت إسرائيل تحاوله باعتداءاتها خلال عامي 1954 و1955 حتى تحقق بصفقة السلاح، ولم يكن من المعقول أن نترك جهودها تنهار بإعلان ناصر خطوة سلامية من روسيا وعلى علاقة طيبة مع أمريكا، وهى الصورة التي كان الأحباء في المخابرات يحاولن رسمها بجهد خارق الذكاء.. ولإحباط خطتهم سرب عملاء إسرائيل شائعة الإنذار.. وقد حدث ما توقعوا.

المهم أن رواية هيكل متناقضة لرواية مايلز كوبلاند الذي أكد أن عبد الناصر شخصيا هو الذي كان يبحث الأزمة مع كيرميت روزفلت وأن الجو كان وديا للغاية، وموضوع الحديث الرئيسي كان السخرية من غفلة الإنجليز. ومحاولة الاستفادة القصوى من الشعبية التي سببتها الصفقة لعبد الناصر في مصر والوطن العربي من أجل خطوات بناءة نحو السلام والاستقرار في المنطقة.

أما رواية عبد اللطيف بغدادي عن الحوار بين كيرميت وعبد الناصر فمثيرة للغاية وكانت ولا تزال تستوجب أن يعكف على تفسيرها وتحليلها كل من يعينه الأمر.

قال كيرميت لجمال عبد الناصر إن مستر آلن موفد برسالة من دلاس نفسه، وأنه يعتقد أن دلاس وزير الخارجية هو الذي أملاها شخصيا كما يعتقد أن الإنجليز هم الذين أشاروا عليه بهذا لأنها عنيفة جدا وأنه يجب عليك ( يقصد جمال) أن تحزن ولكن لا تغضب وأن تمسك أعصابك حتى يمكننا أن نحل هذا المشكل فيما بعد كما ذكر له أنه لو كان هناك في الولايات المتحدة وقت كتابة هذه الرسالة لمنع إرسالها بهذه الصورة ، ومما قاله كيرميت لجمال أيضا :" إنك ستجرح في كبريائك ولست أقصد كبرياءك الشخصية ، بل كبرياء بلدك ".

ورأيي حتى تمر هذه الأزمة دون اتخاذ أية إجراءات من جانبنا، أن تكون صبورا وأن تطلب منه أن يعطيك فرصة للدراسة، وأن تكون كأب حليم وهو كابن أو أن تقبل ما في الرسالة".

هل يمكن أن يكون هذا الحوار بين مسئول امريكى ورئيس دولة؟ هل هذا الذي يتكلم كأنه الأخ الكبير على طريقة بغدادي في استخدام التعابير الإنجليزية – يمكن أن يكون مجرد موظف امريكى حتى ولو كان يبلغ إنذار إلى زعيم ثورة؟ هل يمكن أن يتحدث مندوب المخابرات الأمريكية هكذا مع كاسترو أو هوشى منه أو حتى على ماهر؟

ستهان في كرامة وطنك لكن إياك والغضب مسموح لك بالحزب فقط؟ هذه مؤامرة بريطانية غرروا فيها بوزير خارجيتنا لنسف علاقتنا . أمسك أعصابك ، وعامل " ألبله" القادم من وزارة خارجيتنا كابنك حتى ينصرف راضيا، واترك الباقي على أنا.

هذه تعليمات أو نصائح موجهة ضد جزء من الإدارة الأمريكية برغبة احتوائها لا الصدام معها، وأيضا إفساد أو إفشال كل ما تحاوله بهذه الرسالة التي أرسلت بها مبعوثا خاصا وبإملاء من وزير الخارجية نفسه.. ولكن ها هو أكبر مسئول في المخابرات الأمريكية بالمنطقة ينظم لعبد الناصر أسلوب إفشالها. ويهون عليه نتائجها، ويؤكد أنها لن تغير شيئا في علاقتها.

علاقة عجيبة وحوار أعجب، لا يمكن فهمه إلا على ضوء المعامل الذي أشرنا إليه وهو وجود علاقة خاصة بين قيادة 23 يوليو والمخابرات الأمريكية ، قبل الثورة وبعدها، وأن هذا الجانب المحترف من الإدارة الأمريكية كان أكثر علما وأكثر تأثيرا في الإستراتيجية والقرارات الأمريكية.. وهو الجناح الذي كان يصفى عن وعى الوجود البريطانى في المنطقة..

وأن الإنجليز لم يخطر ببالهم أن اللعب الامريكى يمكن أن يصل إلى حد فتح أسواق الشرق الأوسط للسلاح الروسي، وهذا بدوره يلقى الضوء على ما سنراه خلال معركة القناة من بعض المواقف المتناقضة من جانب دلاس وزير الخارجية الامريكى، وحيرة سلوين لويد وزير خارجية بريطانيا في تفسيرها.. وأيضا غلطة العمر التي ارتكبتها بريطانيا ، عندما ظنت أن تناقضها مع المصالح الأمريكية ، لا يمكن أن يصل إلى حد تآمر أمريكا ولو في صمت مع روسيا ضدها..

على أية حال يبدو أن كيرميت قد نجح نجاحا باهرا في تطويق الأزمة الجاهلة التي سببها دلاس تحت تأثير الإنجليز .. فالدرس الذي أعطاه للمسئولين المصريين عن " آداب السلوك في معاملة رسل الملوك" أتى أثره في ضبط مشاعرهم من ناحية والموافقة على استقبال المبعوث بحنان ممزوج بالحزب المهذب، وأيضا بعث مدير المخابرات هذا بورقة، إلى المستر آلن هذا فيها على ما يبدو " الاسم الأعظم" وإذا بهذا الـ " آلن" يفاجئ الجميع بتصريح يفوق ما كان يتمناه الرئيس المصري إذ قال:" إن مصر دولة ذات سيادة، ولها مطلق الحرية في شراء السلاح من أية جهة تشاء" فهل هذا حامل إنذار؟.

وعتب المستر " آلن" على عبارة وردت في إذاعة صوت العرب، تقول إن أمريكا تنبح كالكلب، فجرى تحقيق على الفور وتبين أنه ترجمة سيئة لعبارة " ترغى وتزبد" وضحك الجميع .. وصافى يا آلن.

فكل ما قيل عن كارثة نزلت بالغرب من صفقة السلاح وطعنة قاتلة للأمريكان.. ومطالبة برأس 23 يوليو بسبب صفقة السلاح مجرد كلام في كلام لتضليل الأنام الذين هم في غفلتهم نيام.

ونحن نعد هذا الكتاب الذي بين يديك ( ثورة يوليو الأمريكية ) ظهرت وثيقة فاقعة الدلالة تثبت حقا أن الأمريكان كانوا في تلك الأيام يمارسون التعذيب الصيني مع الإنجليز.. فكما أشرنا كان الإنجليز- لأسباب عديدة- هم الذين أقاموا الدنيا وأقعدوها حول صفقة السلاح وتعامل عبد الناصر مع الروس، وراحوا يطاردون الأمريكان مطالبين بإجراء صاعق مع تلميذهم عبد الناصر، والاتصال بالاتحاد السوفيتي ومناشدته العدول عن الصفقة، وقد فاتحوا " مولوتوف" فعلا في هذا الأمر فنظر البلشفي العجوز إليهم نظرة القط لفأر يحتج عن بيع سلاح وإقامة علاقات في الشرق الأوسط؟

أما ايزنهاور فكان أبدع وأبرع وإليك القصة كما رواها وكيل وزارة الخارجية البريطانية ايفلين شوكبرج:

" وراح الرئيس ايزنهاور يلقى علينا درسا فلسفيا مثيرا حول الأسلوب معالجة الموقف فقال:" إذا كان من حقنا زيارة موسكو والحديث مع الروس وقبول التعامل بين الشرق والغرب.ز فكيف يحق لنا أن نشكو أن تفعل نفس السىء، دول صغيرة مثل مصر؟

ربما كان علينا أن نتعايش مع حد معين من التغلغل السوفيتي في مثل هذه البلدان، حتى يأتي الوقت الذي يشعر فيه الروس بفداحة ما جنوه على أنفسهم على أية حال ليس لدينا كبير اختيار ما دامت مساعدات أمريكا للدول الأجنبية أصبحت بسبب توسعها ضئيلة إلى هذا الحد، فنحن لا نستطيع منافسة الروس، إذا ما قرروا التركيز على بلد معين مثل مصر.. انتظروا حتى يكشف الروس أن حقنة مساعدة واحدة لمثل هذا البلد قليلة الجوى إذا لم يتبعها دعم باهظ مستمر".

والآن نعيد النظر في صفقة السلاح على ضوء ههذ المعلومات التي طرحناها ، وسنجد أنه لا هستيريا ولا مفاجأة بل خطوة محسوبة جاءت في توقيعها وفى ظروفها العالمية والإقليمية ، وأرادها ووافق عليها كل الفرقاء:

فريق المخابرات الامريكى الذي أيد الصفقة رأى فيها حلا يرضى جميع الأطراف ولو مؤقتا، فهو يعفى أمريكا من إلحاح عبد الناصر في طلب السلاح، مع تعذر تلبيته بسبب الضغط اليهودي الذي أشرنا إليه، والذي نجح في إلغاء موافقة البيت الأبيض والخارجية والدفاع، وكلها كانت موافقة على تسليح مصر.. كما كانت الصفقة تسعد النظام المصري وتخفيف من توتر احتياجه للسلاح، وخاصة بين صفوف العسكريين الذين كانوا يتعرضون للمهانة والخسائر على يد الجيش الاسرائيلى.. وهو موضع لا تحمد عقباه في جيش ذاق طعم الانقلابات..

تسهل على الإدارة الأمريكية التوسع في إمداد إسرائيل بالمعونات بحجة التوازن مع الوجود السوفيتي، وتضعف حجة الدول العربية الصديقة للغرب في الاحتجاج على الدعم الاسرائيلى.. وهذا بدوره يؤدى إلى ترضية اللوبي اليهودي..

وقد تحقق ذلك فعلا حتى أصبح الشعار في حرب 1973 " لا يجوز أن يهزم السلاح السوفيتي، السلاح الامريكى وهبطت طائرة عملاقة تحمل الدبابات والطائرات في مطار اللد كل ربع ساعة " وفى الشرق الأوسط، فإن حديث صفقة السلاح والإنشاء بنصر " التعاقد" لشراء السلاح، ينقذ القيادة من إحراج " الصقور" في معارك استخدام السلاح، ويجعلها تتفادى مطالب الجماهير باستخدام السلاح ضد إسرائيل .

وإذا كان سلوين لويد قد عل ساخرا:" لحسن حظ إسرائيل ، كان العرب مقتنعين أن امتلاك السلاح يغنى عن إتقان استخدامه" فإنني أصحح العبارة إلى " أمكن إقناعهم أن امتلاك السلاح يعفيهم من استخدامه"

وهو ما حدث .. فاختفت كل النتائج الايجابية التي كانت ممكنة للاعتداءات الإسرائيلية ابتداء من العدوان على غزة فبراير 1955 إلى أكتوبر 1956 .. ضاعت في أفراح صفقة السلاح.. وألهت الجماهير عن المطالبة والقيادات المخلصة عن التفكير في إستراتيجية مواجهة حقيقية مع إسرائيل تعتمد على بناء القوة الذاتية للعرب فظنت أن شراء السلاح والمزيد من السلاح هو الحل، حتى أصبح مجرد شراء السلاح ومن أية جهة، وهو كل برنامج المواجهة، ودون أي تفكير في استخدامه، لا في إستراتيجية هذا الاستخدام، حتى رأينا منظمة التحرير الفلسطينية تشترى دبابات. ولم يحدث تحطيم احتكار السلاح " أو الاندفاع في شرائه أي تغيير في ميزان المواجهة العسكرية بين العرب وإسرائيل من 1955 إلى 1973 إلا إلى الأسوأ ولصالح إسرائيل، وبمعدلات تتضاعف مع تضاعف حجم المشتريات.

فتحت الصفقة السوق المصرية للسلاح الروسي ومن خلفها السورية واليمنية .. الخ وهذه حلت مشكلة تصريف السلاح القديم وفى روسيا. وكان من المتعذر قيام الوفاق، بدون حل مشكلة تجدد الترسانة السوفيتية، وتجربة سلاحها والتخلص من المتخلف منه، وهذا لا يتم إلا بإحدى وسيلتين: إما فتح جبهات قتال حقيقي بين الروس والأمريكان.

أو تصديره لطرف ثالث يدفع ثمنه ما يخفف عن المواطن السوفيتي ماليا واقتصاديا، ويتيح تجربة السلاح بدماء المتخلفين ومن ثم يستمر التطوير الذي يريده الجنرالات الروس ولا يكلف ذلك الأمريكان ما ولا دما.إن الوفاق لا يطلب لذاته..

وقد كانت صفقة السلاح من بداية الوفاق الامريكى- السوفيتي، بداية التعايش ، بداية إعادة تقسيم العالم بين روسيا وأمريكا على حساب بريطانيا وفرنسا، وسيأتي المؤتمر العشرون ثم العدوان الثلاثي على مصر، حيث تقف روسيا وأمريكا معا في الأمم المتحدة وكأنهما توءم.. في التصويت وفى الإنذارات بينما كان السلاح الروسي يتم تحطيمه في سيناء ، والسفن الروسية تنقل قطن الفلاح المصري لتبيعه في أسواق أوربا بدلا من " المستغل الاستعماري" البريطانى، فيزداد دخل المواطن الروسي من الثمن الذي تتقاضاه الدول العظمى أو المتقدمة من دم ومال المتخلفين وإلا فما فائدة القوة السوفيتي الجبارة إن لم تأخذ حصة في ثروة العالم الثالث.. وكيف تستمر بريطانيا وفرنسا بل وبلجيكا في نهب شعوب آسيا وأفريقيا ، وهى بلا قدرة عسكرية بل ترتعد رعبا من صواريخ روسيا..

هذه إذن قسمة ضيزى ، لابد أن تلغى أو أن تعدل، ولم يكن للاتحاد السوفيتي من مدخل لأسواق وأموال آسيا وإفريقيا إلا السلاح، وكانت البداية في مصر..

وهذه الصورة التي لم تكن واضحة في هذا الوقتـ بل وبدت غريبة وشاذة ، سنجدها عادية وبشكل أكثر افتضاحا مع تطور الأيام ثمنا للسلاح المحظور تعطى ليبيا الدولارات من إنتاج النفط، وليبيا تعطيها لروسيا ثمنا للسلاح المحظور استخدامه في أية بقعة تهدد المصالح الأمريكية الحقيقية، وروسيا بدورها تعيد الدولارات إلى أمريكا ثمنا للقمح.. وملخص الدورة: أن أمريكا تأخذ نفط ليبيا بالقمح الفائض الذي إذا لم تبعه فستحرقه، وروسيا تحصل على القمح الامريكى بالأسلحة التي إذا لم تتمكن من بيعها، فستلقى في العراء بمجرد اكتشاف الغرب سلاحا أكثر تطورا.. وبشيء من التبسيط يمكن القول إن روسيا تحصل على القمح شبه مجاني، وأمريكا تأخذ النفط بثمن بخس وكل هذا بدأ بفكرة عبقرية نبتت في مكان ما خارج مصر حيث قال أحدهم : اتركوه يشترى السلاح من روسيا.

كذلك قدر هؤلاء الخبراء أن صفقة السلاح ستعطى عبد الناصر شعبية في العالم العربي تمكنه من تحقيق حلم أمريكا وهو رفض التسوية السلمية في المنطقة.

وأخيرا إن فتح منفذ لمصر لشراء السلاح من الاتحاد السوفيتي سد احتمالا خطيرا كان لابد أن يطرح في حالة سد جميع الأبواب، وهو احتمال الاعتماد على النفس، وهو الحل الجذري بل الوحيد لتحقيق التحرر الحقيقي، وحسم المسألة الصهيونية نهائيا لصالح العرب.

والاستعمار يفضل دائما أن تقع الدولة الصغرى في دائرة نفوذ منافسه على أن يستقل بإدارتها الاستقلال الحقيقي وما يحمله هذا من مخاطر على استقرار النظام العالمي، واحتمال ظهور منافس ثالث..

وهنا نقول رأينا في الموقف المفترض للقيادة الوطنية، عندما اتضح من غارات إسرائيل أنها مصممة وقادرة على ضرب الجيش المصري.. ومن ثم تنبهت إلى أن هذا هو الصراع المصري الذي سيقرر مستقبل المنطقة..

كان المفروض أن تركز على هذا التناقض، وبالتالي على أنباء قوة مصر الذاتية للارتفاع بمستوى القدرة في المواجهة وصولا إلى ترجيح الإرادة المصرية.

وهذا يتطلب وحدة الجبة الوطنية، لأن الصراع ضد إسرائيل يجب أي هدف آخر، وهذا يستلزم إطلاق الحريات وتشكيل جبهة وطنية من جميع القوى تحت إستراتيجية واحدة هى المواجهة المصرية- الإسرائيلية.

وضع إستراتيجية عربية قومية تفرض التعاون الحقيقي مع كل القوى العربية تحت شعار واحد لا يتبدل، وهو المواجهة العربية- الإسرائيلية، يحدد على ضوئه الموقف من كل القوى، ومن ثم لا يبقى لأية قوة حجة في ادعاء أنها تعارض الإستراتيجية المصرية لأسباب أخرى أو لأنها لا تعمل ضد إسرائيل.

ونفس الشيء بالنسبة للقوى العالمية، بحيث يتحد موقفنا منها على ضوء علاقتها بهذه المواجهة أساسا إن لم نقل فقط.. لا أن نهاجم جولد ووتر لأنه ضد اليهود ونحتفل بسارتر لأنه فيلسوف ويساري وسار على رأس مظاهرة في مايو 1967 تهتف:" اقتلوا المسلمين .. الموت لعبد الناصر" .. وجمع أربعة مليارات فرنك للمجهود الحربي الاسرائيلى..

أن تؤمن حقا بأنه "لا صوت يعلو على صوت المعركة" شرد أن نعنى المعركة مع إسرائيل لا مع جمال سالم أو فؤاد سراج الدين أو المحاكم الشرعية أو أهالي كمشيش .. الخ.. – وضع إستراتيجية لتحقيق الكسر الحقيقي لاحتكار السلاح بإنتاجه.

وأظن أنه لا أحد يجادل الآن ، في أنه لا كسر حقيقي لاحتكار السلاح ولا تحرير لإرادة أمة بإنتاجها للسلاح، وهو مطلب يثير الرعب في الدوائر الاستعمارية والصهيونية وعملائهم، وأذكر أنني عندما طرحت هذا المطلب عام 1970 قال عميل مجلة حوار التي كانت تصدر مباشرة من خزينة المخابرات الأمريكية إن مطلبي هذا " نكتة ثقيلة الدم". وهذا صحيح .

ثقيلة على قلب الامبريالية وعملائها، ولكنها ضرورة أساسية، لا مفر منها إذا ما أردنا أن نمتلك حرية الإرادة في بلادنا وفى المنطقة، فالخروج من دائرة السلاح الغربي إلى السلاح السوفيتي أكثر إحكاما وأكثر قسوة، بسبب سيطرة الدولة، ووحدة المصدر، بينما المعسكر الغربي بتعدده، وتناقضاته وثغراته وفساده.. قد يعطى مجالا للمناورة ولو محددة .. وقد رأينا كيف تحطم قلب عبد الناصر وهو يسافر ذهابا وإيابا إلى روسيا لإقناعهم ببيع السلاح له خلال حرب الاستنزاف، وكيف اضطر هوارى بومدين لحمل المال معه للدفع نقدا لكي يشترى لمصر من روسيا دبابات في حرب 1973..

كسر الاحتكار الحقيقي هو إنتاج السلاح.. أما أن هذا الهدف ممكن فلن نقول انظروا إسرائيل والصين والبرازيل.. بل انظروا تجربة هيئة التصنيع الحربي العربية، وما أنتجته من أسلحة استخدمت في حرب إيران والعراق وما يقال عن إمكانية إنتاجها لدبابات وطائرات ( بعد الصلح مع إسرائيل كما توقعنا وتلك قصة أخرى).

كل هذا يجعلنا نقول لو أن الحكومة المصرية في 28 فبراير 1955 اتخذت قرار إنتاج السلاح، ووضعت خطة تلاحم عربي، لإنتاج هذا السلاح بالخبرة والطاقة البشرية المصرية والمال والتضامن العربي لتغير التاريخ.. ولكانت الصفقة الروسية مجرد حل مؤقت ومفيد في هذا الإطار .. ولكننا استخدمنا الصفقة لتخدير أنفسنا وشعوبنا..

منذ أن تمت دخلت إسرائيل في تحالفات عالمية كفلت لها الدعم الكامل في مواجهتها مع العرب. إذ استطاعت محالفة فرنسا وبالتالي بريطانيا ، فلما انتقلت للمواجهة الساخنة كانت تتمتع بأكبر غطاء غربى ممكن أن يتوافر لدولة صغيرة، بريطانيا وفرنسا أكبر إمبراطوريتين في هذا الوقت بعد روسيا وأمريكا. .

فماذا استفادت مصر من نشاطها الدولي..؟ لا شيء إلا إذا اعترفنا بالسر المكنون وهو أن الولايات المتحدة الأمريكية هى التي أنقذت النظام من العدوان الثلاثي وأزالت له آثار العدوان..

من حقنا إذن أن نعجب للنتيجة التي خرج بها الكاتب المتمركس:

" وهكذا أدت صفقة الأسلحة إلى انقسام الموقف في الشرق الأوسط إلى دول وطنية متحررة تشترى السلاح من الاتحاد السوفيتي بلا قيود أو شروط. ودول أخرى تابعة للامبريالية ومرتبطة معها إما بأحلاف عسكرية أو بقبول ما ورد في مشروع ايزنهاور".

سوق السلاح أصبح سيف اصف بن برخيا، أو الصراط المستقيم الذي يميز المتحرر من الرجعى.. من يشترى من الاتحاد السوفيتي فهو وطني متحرر.. ومن يقاطع البضاعة الروسية عميل..

هذا كلام سوقة.. لا ينهض عليه أي دليل ، فالأسلحة السوفيتي لا حررت ولا حمت استقلالا وطنيا . ومواقف الدول العربية في مواجهة إسرائيل لم تختلف كثيرا ما بين مشتر للسلاح من موسكو أو لندن .. وثالث دولة دخلت السوق، كانت المملكة اليمنية المتوكلية ، الإمام أحمد حميد الدين عقد صفقة سلاح مع الروس، وصفقة مصانع مع الصينيين ، وابنه الإمام القادم محمد البدر أشرف على الشراء والشحن، والإمامان كما يدرس في مدارس الثورة، هما رمزا الرجعية والعمالة.

مما برر استنزاف قدرات مصر بل والتضحية بمستقبلها السياسي في المنطقة بهزيمة 1967 لتحرير اليمن من الإمامين ، اللذين جاءا بالسلاح الروسي الذي سار على الطريق الصيني..

إذن فليس كل من اشترى السلاح السوفيتي تقدميا وطنيا متحررا .. والعكس أشد خطأ..

ورغم مرور 24 سنة شهدت هزيمتين ونصفا للأسلحة السوفيتية ورغم اتضاح أبعاد المأساة التي سببتها ههذ الصفقة، أو بالأحرى اعتمادها كمنهاج في حل المواجهة المصرية- الإسرائيلية.. رغم مرور ربع قرن، فإن الكاتب شبه الناصري يقدم لنا- دون أن يدرى- فكرة عن الهدف الذي حققته الصفقة إذ يقول:

" هدرت في شوارع القاهرة يوم العرض العسكري احتفالا بعيد الجلاء لمدة أربع ساعات دبابات ستالين وقاذفات اللهب، والمدفعية الخفيفة والثقيلة وغطت السماء أسراب طائرات الميج النفاثة وقاذفات القنابل الأليوشن.
" وانبهرت الجماهير بما رأته من تسليح حديث، وزغردت النساء وتأثر العرب الذين حضروا العرض العسكري مشاركة لمصر في احتفالها التاريخي.. أرسل الأردن كتيبة من الفيلق العربي وأرسل لبنان مجموعة من جنود التزحلق، واليمن جماعة من تلاميذ المدارس الحربية، وليبيا والسعودية وسوريا وحدات نظامية.

كان يوما حافلا بالنشوة والابتهاج، وخاصة للعسكريين الذين حققوا هدفا من أعظم أهدافهم، ولم تعد استعراضاتهم العسكرية هزيلة أو متخلفة "

هذه هى باختصار قصة الأسلحة السوفيتية:

الدبابات تهدر في شوارع القاهرة، وتغطى سماء القاهرة طائرات الميج وقاذفات اللهب. لم تهدر دبابة واحدة في شوارع فلسطين المحتلة.. واحدة.. لم تسقط قنبلة واحدة.. واحدة.. خلال 25 سنة من شراء السلاح السوفيتي فوق مدينة إسرائيلية واحدة.. واحدة.
لم تخترق طائرة مصرية واحدة.. واحدة.. المجال الجوى الاسرائيلى ولو خطأ . كله للاستعراض في شوارع القاهرة وسماء القاهرة.
كله من أجل أن " تنبهر" الجماهير فلا تفكر ،حتى تنتقل من الانبهار بالتسليح الحديث لجيشها الثوري إلى الذهول من هزيمة الجيش أمام العدو القومي.

تزغرد النساء فيختفي نحيب وصراخ واحتجاج الجنود والمواطنين الذين قتلوا في الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة وستنقلب هذه الزغاريد بعد 4 شهور ليس غلا، إلى نحيب وأسى وارتياع في بيوت جنودنا القتلى والأسرى والمفقودين في معركة 1956 وسيتأثر العرب ويهرعون للاشتراك في" الاستعراض " في شوارع القاهرة، فإذا جد الجد وجاء الحرب، سيطلب منهم عبد الناصر عدم التدخل ، ويبقى ذلك اللغز الحائر الذي لا يفسره مفتى الناصرية ولا الدراويش.

وكان يوما حافلا بالنشوة والابتهاج والتخدير وخاصة للعسكريين الذين فرحوا بأن " استعراضاتهم" لم تعد هزيلة أو متخلفة، وإن استمرت قوة ضربهم الحقيقية كذلك..

من أجل هذا وافقت الولايات المتحدة على صفقة السلاح الروسي، ومن أجل هذا ظلت إسرائيل تدفع العسكريين باعتداءاتها المتكررة، دفعا نحو عقد هذه الصفقة.. وإليك هذه الشهادة، بعد أن أعلنت مصر عن أضخم صفقة سلاح أعطيت لدولة في الشرق الأوسط مع الاتحاد السوفيتي، قام بعض المسئولين الأمريكان ومنهم السفير الامريكى في دمشق بجهد محمود لمنع سوريا من عقد صفقة مماثلة، وإقناع المسئولين السوريين بانتظار قرار امريكى لصالحهم.. ولكن هذا ما سجله ممثل وزارة الدفاع الأمريكية والمسئول عن جذب أو قلب حكومة سوريا لصالح الولايات المتحدة قا ل:

" ومع اقتراب نهاية السنة لم تكن واشنطن قد اتخذت قرارا بعد في طلب سوريا للسلاح، واقترح السفير مودس" السفير الامريكى في دمشق " أن أسافر إلى واشنطن فربما أنجح أكثر في تحريك الموضوع. وبينما كنت أرتب سفري، جاءت الأنباء بوقوع هجوم إسرائيلي كبير على سوريا ترك 56 قتيلا سوريا و30 إسرائيليا ( يناير 1956) وخلال مناقشة الحادث مع السفير مودس، عبرت عن اقتناعي بأن السياسيين اليساريين وضباط الجيش السوري وجدوا كل ما يحتاجونه بهذا العدوان لتبرير عقد صفقة سلاح مع روسيا، بعد أن تعهدت حكومة سوريا بأنها لن تؤخذ على غرة مرة أخرى إزاء هذه الهجمات، ولكن السفير الامريكى في دمشق ذهب أبعد من ذلك، إذ قال : إن الإسرائيليين تصرفوا عن وعى كامل بأن سوريا ستتجه إلى روسيا في طلب المساعدة، لأن ذلك سيبرر طلب إسرائيل للسلاح من الغرب ضد الشيوعيين وليس ضد العرب".

إسرائيل بشهادة الأمريكان.. دفعتنا دفعا إلى شراء السلاح من روسيا.. أما نحن فقد رقصنا على " طبلة" العملاء والمخابرات، ونشرنا المانشتات الحمراء:" هلع في إسرائيل" " تزايد الهجرة من إسرائيل بعد إعلان الصفقة"..

نامت الجماهير على موسيقى الاستعراض العسكري، واستغلت المخابرات الأمريكية " شيوعية" السلاح في عزل مصر عن حلفائها الطبيعيين، فهذا الذي كان أكثر من صديق لناصر وارعيا للنظام المصري كيرميت وروزفلت، كان يعمل على تحريض الحكام العرب ضد ناصر في نفس الوقت الذي كان الناصريون ، والإعلام الناصري بخبراء كيرميت روزفلت يشتغل " انبهار الجماهير" في تمزيق العالم العربي، وإرهاب الحكومات العربية، التي كانت راغبة ومستعدة للتعاون من ناصر المصري العربي، ولكنها لا يمكن أن تقبل التعاون فضلا عن الفناء لناصر الشيوعي، المحرض لجماهيرها..

وهكذا كانت اللعبة تدار ببراعة نادرة، لعزل مصر، ودعم زعامة حاكم مصر، بتخويف الحكام والنظم والطبقات المالكة العربية ودفعها إلى طلب حماية الولايات المتحدة، ولو كان الثمن التغاضي عن دور ههذ الولايات المتحدة في قيام واستمرار إسرائيل .. بينما تعمل إسرائيل ليل نهار لتدمير مصر وصولا إلى العرب..

يقول " سلوين لويد" إن البعض في " الغرب" كان يرى ترك عبد الناصر للروس بعد صفقة السلاح، إذ كان هذا البعض يعتقدون أن وجود عدد كبير من الروس في مصر سيثير ضدهم المصريين، كما أن هذا الوجود سيخيف العائلة المالكة السعودية مما يؤدى إلى فتور العلاقات المصرية- السعودية".

قال هيكل إن نبا صفقة السلاح " تفجر في إسرائيل كالقنبلة".

ولكنهم على أية حال لم يتبددوا أيدي سبا ولا جروا في اتجاه البحر، بل قرروا غزو مصر . وسيخبرنا دون أن تطرف عينه، كيف بدأت إسرائيل تبحث عن السلاح والغطاء الدولي، وكيف نجحت في تحقيق أضخم صفقة سلاح في تاريخها دوخ خطبة واحدة من مسئول يهودي، ولا هتاف في الشارع ولا استعراض عسكري يبهر الجماهير ولا تعليق عن القنبلة التي انفجرت في مصر بسبب الصفقة التي ضمت :

29 طائرة مستير.
19 طائرة فوتور قاذفة مقاتلة.
200 مدفع.
90 دبابة ايه ام اكس.
وتوالت الشحنات..

نعم توالت الشحنات في صمت، بلا خطب ولا مطولات من هيكل إسرائيل ، وأنى لإسرائيل مثل هيكل.

ولأنهم هناك كانوا يطلبون السلاح للقتال به،والقتال يعنى الجدية والسرية.. أما نحن فأردنا قعقعة السلاح. " دعاية" السلاح لتجنب القتال.. وهذا يتطلب الاستعراض والعلنية المفرطة .

وقد حقق كل طرف ما أراد وسنرد على موقف إسرائيل ولكن نتوقف هنا لحظة عند محاولة خبيثة من هيكل لتشويه موقف مصر القومي وتشويه أهداف ودوافع عبد الناصر نحو الثورة الجزائرية إذ يلخص الموقف بين فرنسا- إسرائيل – مصرالجزائر هكذا :

" زادت شحنات الأسلحة الفرنسية لإسرائيل وزادت مساعدات مصر للثورة الجزائرية.. بل وينسب لعبد الناصر أنه قال لتيتو: إننا نريد أن نجعل فرنسا تحتاج كل قطعة سلاح ترسلها إلى إسرائيل ولذلك نساعد الثورة الجزائرية".

لماذا كل هذا الحقد على مصر والحرص على سلبها كل فضيلة.. الفكرة الشائعة والحقيقة، هى أن فرنسا حالفت إسرائيل بسبب دعم مصر للثورة الجزائرية.. وليس العكس، أي أننا دفعنا ثمن موقفنا القومي العربي .. ومهما قيل في فداحة الثمن الذي دفعته مصر فإن المحصلة النهائية رابحة ومجزية وهو استقلال بلد عربي وحرية شعب عربي، عبد الناصر ومصر من قبله ومن بعده على حق في دعم ثورة الجزائر مهما كانت النتائج..

ولكن هيكل يقلب الصورة، فيجعل مصر تدعم ثورة الجزائر نكاية في فرنسا؟ يا للافتراء والعار..؟

وبالمناسبة ، فقد يتساءل البعض هل كان من مصلحة مصر إثارة عداء فرنسا وتعريض أمنها الوطني واستقلالها للخطر من أجل تحرير الجزائر؟ ثم ماذا كسبنا من ثورة الجزائر.. ضرب المصريون في شوارع الجزائر، وامتهنوا وطردوا.. وناصبتنا حكومة الجزائر العداء وقادت جبهة الصمود والتصدي والمزايدة ضدنا..؟

هذا الكلام وإن كان يمكن أن يتردد في المناقشات البيزنطية ومن جانب الذين لا يريدون أن ينسب فضل للناصرية، إلا أنه لا يجوز وطنيا ولا قوميا، بلا ولا عقليا.. لأن استقلال الجزائر كما قلنا بأية صيغة هو إنجاز إسلامي – عربي، وبالتالي فهو مكسب وطني مصري.. ولا يجوز الندم أو الشك لحظة واحدة في صوابية وشرف الدعم المصري للثورة الجزائرية..

ولكن لابد أن نطرح هذه الملاحظات:

1- أن الدعم المصري للحركة الوطنية الجزائرية بل للحركة الوطنية في المغرب العربي، وهى التي فجرت ثورة الجزائر، سابق على عبد الناصر ، ولو لم يكن عبد الناصر في الحكم لجاء ثوار الجزائر أيضا إلى مصر، واتفقوا على الدعم ونالوه من أية حكومة مصرية، ربما كان حجم الدعم سيختلف وفقا لمدى حرية الحركة لهذه الحكومة سياسيا ، ومدى حريتها في التصرف في موارد مصر.. ولكن جوهر الموقف لا يختلف.
2- أن الأسلوب المتدني للأجهزة الناصرية في التعامل مع الحكومات العربية والحركات الوطنية، هو المسئول إلى حد كبير عن نجاح القوى المعادية لمصر والعروبة في السيطرة على الأوضاع في الجزائر، ومن ثم في تأليب دول المغرب العربي كله ضد مصر التي كانت كعبة آمالهم ومركز حبهم وتطلعهم وهم في المعارضة فتحولت إلى العدو رقم واحد عندما أصبحوا في السلطة.. ولا يجوز اتهام حكومة بومدين وحدها بالجفاء لمصر ففي عهد عبد الناصر كانت علاقتنا متردية مع كل دول المغرب من إدريس السنوسي إلى بومدين مرورا بالأستاذ والقصر الملكي في المغرب. أو الحسن أخو الحسين كما كنا نقول في صوت العرب عن ملوك العرب.

فنحن إذا كنا قد خسرنا فرنسا ، فقد كان ذلك حتمية تاريخية لا يمكن تجنبها، لأن قدرتنا ودورنا ومبادئنا كانت تحتم علينا الوقوف مع ثورة المغرب العربي.. إلا أن خسارتنا حكومات ما بعد الاستقلال لم يكن له ما يبرره وكان الأمر يمكن تجنبه لو كنا نتمتع بجهاز حكم ديمقراطي تتحكم فيه الكفاءات لا المخابرات.

3- السلاح الفرنسي لم يهزمنا في 1956 حتى يأسف البعض على دعم الثورة الجزائرية.. فالغزو الفرنسي هزم وتراجع، أما النصر الاسرائيلى فكانت له أسبابه المصرية..

المهم نجح الجهد الاسرائيلى في تحطيم " احتكار السلاح" ويسجل هيكل ذلك بقوله:

" لقد فتحت أبواب فرنسا.. كل أبواب فرنسا لإسرائيل" وقد عجمت روسيا عود الغرب، وكشفت كذب الصياح الاعلامى، عندما عرضت في مؤتمر القمة في لندن " فرض حظر سلاح على الشرق الأوسط كله" فرفضت الدول الغربية .
ولم تكن هذه نهاية العالم، بل أعقب صفقة السلاح الروسي على الفور، قرار امريكى بتمويل السد العالي وقال فوستر دلاس في رسالة لعبد الناصر:" الروس يعطونكم سلاحا بتمويل السد العالي وقال فوستر دلاس في رسالة لعبد الناصر:" الروس يعطونكم سلاحا للموت، أما نحن فسنبنى لكم السد العالي للحياة".

وربما كان هذا الموقف الهادي المتفهم من الغرب، هو الذي جعل الإعلام الناصري يتشبث كالغريق بحكاية الإنذار، إذ لا تكاد توجد واقعة، ولا شاهد، على مظهر آخر من مظاهر غضب الولايات المتحدة ، فضلا عن جنونها من صفقة السلاح بل كانت بردا وسلاما على إسرائيل ومن يعنيهم أمر إسرائيل .

واستمر الأمريكان يخدعون القاهرة بمساعي السلام ومشاريع اللقاء بين بن جوريون وعبد الناصر، معتمدين على نوايا ناصر السلمية إزاء إسرائيل ، وأنه كما سنرى لم يفكر قط قبل 1967 في محاربة إسرائيل ولكن السلام لم يتحقق، لأن إسرائيل لم تفكر قط في مسالمة مصر قبل أن تحقق إمبراطورية إسرائيل . يقول ايفيلاند:" في عام 1956 أي بعد صفقة السلاح كان الإخوان دلاس يرتبان لقاء بين بن جوريون وناصر ولو أن تصرفات بن جوريون أوجت أنه يفضل التعامل مع ناصر بالسلاح عن التفاوض حول مقترحات السلام التي أقنع بها شاريت حزب ماباى".

وهذا التاكتيك الاسرائيلى المعروف عن ادعاء خلاف في القيادة اقنعوا به عبد الناصر ولعلنا نذكر تصريحه الذي مدح فيه ميول موسى شاريت.

وقال ايفيلاند إن " العنصر الرئيسي في جهودنا من أجل تجميع دعم عربي للسلام مع إسرائيل .. كان هو الرئيس المصري " وتساءل " هل تبحث الـ سى آى ايه مشروع سلام مع ناصر بدون علم السفير الامريكى في القاهرة بايرود".

السد العالي:

وإذا كنا لن نناقش السد العالي كمشروع في هذا الموضع من الحديث فإننا نحب أن نلقى الضوء على بعض النقاط التي لها علاقة بموضوع حديثنا هذا .. والتي تحتاج إلى تأمل ودراسة مفصلة..

الأولى: أنه بعكس الشائع والذائع عن أن " سحب" تمويل السد العالي كان عقوبة على صفقة السلاح ومحاربة حلف بغداد.. الخ.. وهذا غير صحيح ، بل الغريب أن قرار تمويل وليس سحب التمويل هو الذي اتخذ في أعقاب صفقة السلاح ، فقد قررت أمريكا وفى ذيلها بريطانيا الرد على " الخطوة الروسية" وما أثارته من شعبية، بمظاهرة غربية مضادة، وهى تمويل السد العلى، وبدأوا الدراسات والأبحاث في هذا الأمر وبعث دلاس ببرقيته لبعد الناصر والتي تقول " الروس يعطونكم سلاحا للموت، ونحن سنعطيكم السد العالي للحياة" كما أورد هيكل متأخرا جدا تصريح ايزنهاور المشهور في 19 ديسمبر 1955 بأنه سيطلب من الكونجرس اعتماد مائتي مليون دولار على عشر سنوات للسد العالي.

ولكن العرض سحب لعدة أسباب .. ذكر " سلوين لويد" بعضها في قوله " قال لي ( يوجين) بلاك ( دير البنك الدولي) إن الأمريكان يمكنهم تمرير تمويل السد العالي من الكونجرس، ولكنى رأيت ذلك تفاؤلا لا مبرر له فاللوبي الصيني كان غاضبا لاعتراف ناصر بالصين الشيوعية في مايو، ولوبي القطن ضد هذا القرض بسبب اتفاق ناصر مع روسيا على القطن ( ليس صحيحا.. بل بسبب توقع زيادة المساحة المزروعة قطنا في مصر ومنافستها للقطن الامريكى) واللوبي الاسرائيلى ضده على أساس أنه يقوى أحد أعدائه الرئيسيين. إلى جانب الطلبات التي انهالت على الولايات المتحدة من أصدقائها في الشرق الأوسط يطلبون مساعدات ، وحجتهم جميعا أن الصداقة هى التي يجب أن تكافأ لا العداوة، وأن إعطاء مساعدة لمصر لبناء السد هو العكس تماما وضرب مثلا" بن حليم" رئيس وزراء ليبيا الذي كان مشبعا بحب الغرب (بالغين المنقوطة) الذي كرر على ما سمعته في المنطقة وهو أن أصدقاء الغرب يجب أن يكافأ بسخاء أكثر من عبد الناصر الذي يكافأ على عداوته ، وكانت هذه إشارة واضحة منه إلى اعتزامنا تمويل السد العالي".

ويذهب سلوين لويد إلى أن الكونجرس كان بسبيله إلى سن قانون يقيد صلاحية الحكومة في منح القروض إذا ما أصرت على تمويل السد العالي، ودلاس خشي أن يصدر هذا القرار الشامل، مما يضر بالمعركة الانتخابية للرئيس ايزنهاور فبادر بتهدئة الكونجرس بإعلان سحب التمويل.

وقالا دلاس لايزنهاور في 15 سبتمبر 1956 إن القرار لم يكن مفاجأة للمصريين فقد كان لديهم علم به.. ويؤيد هذا رواية محمد حسنين هيكل وسلوين لويد عن الوزير العراقي الذي نقل أخبار مناقشات حلف بغداد إلى عبد الناصر " فعرف منها أن الدول الغربية لن تمول السد العالي".

ويدعى سلوين لويد أن أحمد حسين هدد أمريكا بأنه إذا لم تمول أمريكا السد العالي فالاتحاد السوفيتي جاهز للدفع، ورد عليه دلاس في 19 يوليو 1956 بأن أمريكا لا تبتز ولا تهدد، وسحب العرض .

ويبدو أن دلاس اتخذ القرار بسرعة فلم يستشر أحدا ولا ناقش القرار مع موظفي وزارة الخارجية، واستشار الرئيس الامريكى في صباح نفس اليوم، وأبلغ السفير البريطانى " ماكينز " قبل الإعلان بساعة.

ولم أكن أعلم بهذا القرار السريع. فقد ناقشنا الموقف في مجلس الوزراء وكلفت بعمل مذكرة حول كيفية إبلاغ المصريين بانسحابنا".

والأمر كله لم يستغرق إلا أسابيع ما بين قرار التمويل وقرار سحب التمويل، كما جاء في لجنة الشئون الخارجية للكونجرس الامريكى..

ومسألة الدور الذي لعبه الاعتراف بالصين في استفزاز الولايات المتحدة لسحب القرار، مسألة معقدة في المنطق الناصري، فصحيح أن اللوبي الصيني كان مستاء من عبد الناصر، ولكن ليس على الحد الذي يمكنه من استصدار قرار بهذا الحجم. . والمؤرخ الناصري يحتار في قضية الاعتراف بالصين، فهو يسجل في قائمة الانتصارات العالمية" كمبادرة جريئة من مصر، فلم تكن هناك دولة في الوطن العربي أخذت هذا الموقف في وقت كانت حكومة الولايات المتحدة فيه كالنمر الهائج ضد كل ما هو صيني، حتى أن جوازات سفر الأمريكيين كان يصرح فيها بالسفر إلى كل دول العالم عدا الصين وكوريا الشمالية"..

وبعد 4 صفحات ليس إلا ، نجده يرد على " بعض الجهات المعادية التي تحاول الإساءة لموقف عبد الناصر وتصويره بمظهر المستفز الذي يجبر خصمه على اتخاذ خطوات عنيفة وذلك بزعم هذه الجهات المعادية أن الاعتراف بالصين الشعبية هو الذي أثار جنون أمريكا وجعلها تسحب التمويل.." ويلقم هذه الجهات المعادية حجر بأن يقلل من أهمية تلك " المبادرة الجريئة" بل يثبت تفاهتها بدليل " أن إسرائيل ربيبة أمريكا اعترفت بالصين الشعبية عام 1950 دون أن يحدث ذلك صدى في علاقتها مع واشنطن".

ونحتار في هؤلاء .. خطوة قامت بها إسرائيل منذ خمس سنوات، وهى ربيبة أمريكا ولم يهتز لها جفن امريكى، كيف تصبح مبادرة جريئة وتحديا للنمر الامريكى الهائج بعد خمس سنوات عندما يقوم بها عبد الناصر؟

وأيهما أكثر تهييجا للنمر الامريكى : الاعتراف بالصين، وكل حلفائها في أوربا اعترفوا بالصين ، أو رفض مصر في عهد حكومة الوفد التصويت مع أمريكا أو تأييدها في حرب كوريا وكل العالم غير الشيوعي وقف مع أمريكا في حرب كوريا..؟

والمصادر الأمريكية المتاحة الآن، تؤيد رواية سلوين لويد حول معارضة اللوبي اليهودي، ولوبي زراع القطن وفى ولايات الجنوب، وأيضا اللوبي المعادى للانجليز في كتال " حبال الرمال" :" كانت هناك معارضة متوقعة من أعضاء الكونجرس من ممثلي الجنوب زراع القطن الراغبين في إبقاء القطن المصري بعيدا عن السوق، ومن أنصار إسرائيل ، وأيضا من وزير المالية الذي شعر أن الشركات والمقاولين الإنجليز سيستفيدون فائدة هائلة بينما ستكون مساهمتهم رمزية، كما كان على مصر أن تسوى مشاكلها مع السودان حول المياه" .

كذلك كان " هربرت هوفر" الابن وكيل الخارجية والمشبع بكراهية الإنجليز ضد المشروع بسبب دور الإنجليز فيه، ولا نظن أن أمريكا كانت في مزاج إعادة بريطانيا إلى مصر وبمشروع بمثل هذا لحجم بعد كل الجهد الذي بذله الكافريين والسونيين لإخراجها من هناك.

وقد أوضحت بريطانيا فيما بعد أنها فوجئت بالقرار الامريكى بسحب التمويل.

وهناك ملحوظة فريبة، لا ندعى أننا قد فهمنا أبعادها الحقيقية، وهى أن الأمريكيين كان لديهم اقتناع بأن المشروع سيثير كراهية المصريين . لماذا ؟ ... لا ندرى.

التفسير الشائع أنه بسبب ما يتكلفه المشروع من مال، لابد أن يرهق المصريين؟..

وهو تفسير متهافت لأن المفروض أن التمويل الخارجي، سيعفى المصريين من العبء المالي ن وحتى إذا كان على شكل قرض فإن السد العالي سيحقق زيادة في الدخل تكفى لسداد القرض وتحقيق فائض.. وإذا كان الضرر ماليا، والكراهية سببها المال.. فكيف يكون الحل هو نصح مصر بأن تمول هى السد بدلا من جلب الكراهية على الدولة التي ستموله .. هل التمويل الداخلي أقل عبئا من التمويل " الكريم" من الاتحاد السوفيتي، أو قرض دولي؟..

كلام غير مفهوم .

الذي حدث برواية هيكل أنه في محادثات محمود فوزي– دلاس 6/10/1956 " أشار دلاس إلى أن الشعب المصري سيكره من يبنى السد العالي، لذلك فلا مانع لديه من أن يقوم الروس بذلك" وقد ذكر محمود فوزيفي رسالته أن دلاس برر ذلك بالإرهاق الاقتصادي..

وقد كرر دلاس مع المصريين مرتين من اقتناعه بكراهية الشعب المصري المنتظرة للمشروع.. مرة في اقتراح " تلبيسه" للروس ومرة عندما قال " إن مصر تستطيع – في رايه – تمويل السد العالي عن طريق دخل قناة السويس لأن هذا ألسم وسوف يجنب أية دولة تقديم المال اللازم لمشروع يثير كراهية المصريين ورددت عليه في هذا الموضوع بوجهة نظرنا"

ويا ليت أو هيكل عرفنا أحدهما " بوجهة نظرنا" لنفهم ما الذي كان يشير إليه دلاس وهو يتحدث عن " إثارة السد لكراهية المصريين ".

ونفس الفكرة كررها دلاس مع هيوجيتسكيل زعيم المعارضة البريطانية , إذ جاء في يوميات جيتسكيل : حاولت أن أستفهم من دلاس عن أسباب سحب تمويل السد العالي فأجابني إجابة غير مفهومة أهم ما فيها : " إن الولايات المتحدة كانت تأمل أن يؤدي سحب قرار التمويل الأمريكي إلى مسارعة السوفييت بتقديم عرض لتمويل السد ليتحملوا العواقب الخيمة بأنفسهم على المدى البعيد برغم أنهم سيحققون مكاسب سياسية آنية " .

ما الكارثة الخفية في موضوع السد ؟ والتي رأت أمريكا أن تورط الاتحاد السوفييتي في عواقبها الوخيمة , ببناء هذا السد , وإنها أي هذه الكارثة , ترجح المكاسب السياسية التي عادت عليها وقتها ولعدة سنوات تالية ؟؟

وقد فندنا القول بأن الإرهاق الاقتصادي هو المقصود , فلم يبق إلا تفسير واحد وهو أن الأمريكان قد اكتشفوا عيبا خطيرا في السد , وتوقعوا أن يثير كراهية المصريين في المستقبل .

إن كان ذلك صحيحا , وكتم دلاس والأمريكيون ذلك عن مصر , فهو دليل وحشية وإجرام هذه الحضارة الغربية , وإن الجانب المصري قد أبلغ بذلك فلم يهتم من أجل الأهداف السياسية للمشروع , فما من لفظ في اللغة يمكن أن يصف هذا الفعل ..

ومرة أخرى نحن لا نجزم بشيء فالإشارات ما تزال غير مفهومة ..

وملحوظة ثالثة حول حوار دلاس ـ فوزي , إذ يفهم من الحديث الذي رواه هيكل ـ أنه في الأسبوع الأول من أكتوبر 1956 أي قبل العدوان الثلاثي بثلاثة أسابيع , وقبل هزيمته بأربعة أسابيع كان دلاس قد قرر ووثق أن القناة ستصبح ملكا خاصا لمصر وأنها ستستطيع إنفاق دخلها على تمويل السد ,أو ما شاءت من مشاريع ,وإن كان قد نصح بتمويل السد العالي .

وكان فوزي وعبد الناصر يعرفان أن هذا هو اقتناع الأمريكان . وهذه نقطة مهمة سنحتاجها في تفسير موقف الولايات المتحدة خلال معركة التأميم ...

على أية حال .. واضح أن دلاس لم يكن ضد بناء السد , ولا كانت هناك مؤامرة أمريكية لمنع بنائه " لما كان يحققه من طفرة في اقتصاد مصر ويوفر لها من أمن غذائي ... إلخ " بل إن سحب التمويل كان في حدود الأسباب المعروفة لعوامل داخلية في أمريكا . موقف الكونجرس المتأثر بلوبي القطن ولوبي إسرائيل , وكراهية مساهمة بريطانيا فيه .

ولعامل أخرى غير معروفة هي التي تدور حول قول الأمريكيين إن المشروع سيثير كراهية المصريين لمن يبنيه , وهي كما قلنا نقطة غامضة حتى الآن .

وربما أوردها " هيكل " خصيصا لتبرئة الأمريكان من آثار السد العالي فعندما تعالت الهمسات , بعد موت سليمان وفتح القمقم , حول أضرار السد العالي .

دافع المتورطون في المشروع بأن صلاحية المشروع لم يقررها الروس وحدهم بل الفنيون المصريون والدول الغربية ..

وقد أقسم " حسن إبراهيم " عضو مجلس الثورة لأحمد حمروش أنه يوجد نموذج كامل للسد العالي في قرية جرينوبل بفرنسا تم بنائه عندما تعاونت مصر في مجال البحث مع إحدى الشركات الفرنسية " .

واعتبر مدير الفرقة القومية للمسرح , وكذلك حسن إبراهيم أن ذلك دليل على" سلامة المشروع " .

ولا شك أن كل شركة عالمية يطلب منها دراسة مشروع في حجم السد العالي , تكون الخطوة الأولى هي عمل نموذج له , تسعين به في الدراسة والوصول إلى قرار حل فوائد وأضرار وصلاحية المشروع , فالنموذج في حد ذاته ليس دليلا ولا شهادة , وإنما المهم هو التقرير .. ماذا قالت الشركة ؟ هذا ما لم يهتم عضو مجلس الثورة , ولا مؤرخ ما بعد الثورة بالحديث عنه , أو حتى التعرف عليه .

وكذلك الاستشهاد برغبة أمريكا وبريطانيا في تمويله , على صلاحيته , لا يقدم دليلا مقنعا , لأن سحب التمويل كما قلنا تقرر بعد أسابيع قليلة من القرار وحتى إذا أخذنا التواريخ المعلنة فهي من نوفمبر 1955 إلى يوليو 1956 .. فهل شهدت هذه الفترة أية دراسات أمريكية على الطبيعة حتى يقال إنهم وافقوا على المشروع فنيا ورفضوه سياسيا ؟.

هل كان دلاس يعرف نظام الدورة الفيضانية الرائعة التي كانت السبب في ظهور مصر وتميزها عن الواحات .. فمصر لم تصبح مصر بمجرد توافر الماء , بل بنظام الفيضان الذي كان يغسل أرضها مرة كل سنة فيحمل الأملاح إلى البحر ثم يعوض النقص في التربة بإلقاء طبقة جديدة من الطمي والمعادن المفيدة للأرض كل عام , أي ملايين الأطنان من المخصبات الطبيعية , والطمي بلا تكلفة وفي أتقن عملية رش .. بل اكتشفنا اليوم أن الفيضان كان يغرق جحور الفئران ويقتل منها العدد الذي يبقيها في إطار التوازن الطبيعي , فلما منعنا الفيضان وخرجت الصحف تبشرنا بعنوان لا ينسى وهو :" هذا العام : هو آخر فيضان للنيل " .

انتصرنا على النيل , ونمت الفئران وتكاثرت , حتى أكلت ما زرعه الفلاح بماء السد وما قبل السد ...

هل قامت مؤسسات أمريكية وبريطانية بهذه الدراسات , وقدمت التقارير التي تؤكد أنه لا خطورة من احتفاظ مصر ببحيرة معلقة فوق رأسها إذا ما ضرب السد أو سقط بفعل زلزال , وهو الذي كما قيل يمكن أن يغرق مصر إلى القاهرة , وبارتفاع الدور الرابع .. وهل قالت هذه التقارير إن فوائد ترجح أضراره .. حتى نقول اليوم إن العالم كله وافق على بناء السد , فإذا ثبت ضرره فالعالم هو المسئول , ونحن لا ذنب لنا ؟..

بناء السد العالي، بصرف النظر عن أية نتائج، يجب أن تحدد طبيعته، فهو قرار سياسي من شخص غير ذي دراية فنية، لم يقرأ كتبا في حياته بعد الثانوية العامة إلا ما يكفى للتخرج من كلية الطيران، وليس فيما عرفناه عنه ما يعطى ملامح مثقف، ولا علامة تحضر.

والروايات الناصرية مجمعة على اتهامه باختلال عقلي، استوحى الفكرة من يوناني وصف السادات له يوحى بخبله هو أيضا ، وقد رفض " المهندسون" قبل الثورة الاهتمام بفكرته، إلى أن اصطاد لها مجنون مجلس الثورة جمال سالم " ففتنه المشروع وتبناه حتى أن أحدا من أعضاء مجلس قيادة الثورة لم يبذل جهدا لمعرفة تفاصيل المشروع". وهذه شهادة متحمس للسد.

تبناها جمال سالم، وطرحها مجلس الثورة في سوق الشعارات المصرية، مثل مديرية التحرير والوادي الجديد ، واستخدمته الدول الخاطبة لود مصر مثل قول دلاس: " سنعطيكم السد من أجل الحياة " إلى أن سقط في حجر الروس.

كان المفروض أن يطرح المشروع للمناقشة الفنية في أوساط المهندسين والجيولوجيين والزراعيين وخبراء الثروة البحرية، والأمراض المستوطنة ومجلس الأمن القومي.. حول مكاسب ومخاطر المشروع من إمكانات الزلازل واحتمالات ضربه من العدو إلى مستقبل الكائنات البحرية والنحر عند المصب.. ثم يطلب رأى المؤسسات العالمية الخبيرة. . ثم يطرح التقرير النهائي للمشروع أمام اللجنة العليا " الفنية" لا السياسية .. لتقرر قبول المشروع أو رفضه أو تعديله فليس هذا من اختصاص مجلس الثورة ولا من أعمال السيادة، مجرد خزان على النيل .. ثم يعرض الأمر على البرلمان للمناقشة فهناك خبراء غير ممثلين في الأجهزة الحكومية والمناقشة العامة المفتوحة تتيح الفرصة لشتى الاجتهادات والتنبيه على ما يفوت الخبير الفني..

ولكن ذلك كله كان مستحيلا لأن المشروع أصبح جزءا من قدسية الثورة، يحيط به إرهابها ورهبتها.. وارتفاعها فوق مستوى النقد والمناقشة ، وكل نقد له خيانة وعمالة للاستعمار تؤدى إلى إسقاط الجنسية. ؟

وحتى الآن ، فإن الحدي عن الزلزال الذي هز أسوان، يفسر على الفور بأنه مؤامرة للنيل من ذكرى الزعيم الخالد، والتقليل من المساعدة الأخوية للاتحاد السوفيتي زعيم المعسكر الاشتراكي..الخ".

حتى الروس لهم عذرهم، فقد انساقوا إلى الحمى التي انتابت الدولة المصرية وهى تغنى " حنبنى السد" . والروس يهمسون الآن أنهم نبهوا للأخطار المحتملة، ولكن لا أحد سمع لهم . فقد عولج الأمر بالأسلوب " الثوري" الذي يهتم أولا وأخيرا بالكسب السياسي العاجل، ولا يفكر أبعد من عمر الحاكم.

من الثابت إذا أن كل الأطراف عالجت موضوع السد سياسيا .. الغرب أراد أن يرد على صفقة السلاح، وربطه بالصلح مع إسرائيل .. وكجزء من برنامج عام للمنطقة ، والاتحاد السوفيتي تبناه تحت إلحاح مصر نكاية في الدول الغربية وكسبا لشعبية في مصر والمنطقة.

والثورة أساسا أطلقت الشعار وتورطت فيه، للتغطية على السلبيات في الحريات، أو كما قال عبد الناصر :" حاجات بيضاء.. وحاجات سوداء".

وفى مثل هذا الجو.. يتعذر بحث الجوانب الفنية.. وهى الأساس في الخزانات .. لا الشعارات.

والآن وقد تبين أن السد العالي فشل حتى في أن يكون خزانا للمياه، وهى المهمة الوحيدة التي تشبثوا بها في مواجهة كل الأضرار الفادحة التي أنزلها بمصر.. أعنى ادعائهم أنه يحم مصر من خطر الجفاف على مستوى القرن، تبين أنه يكفى لمواجهة الحد الأدنى من الجفاف ، المعروف من أيام سيدنا يوسف وهو سبع سنوات، فما قيمتهن ولماذا بددنا كل هذه الأموال عليه، وضحينا بالطمي والسردين والمنشآن على النيل وشواطئ الدلتا وورد النيل والفئران .. والكمية الهائلة التي تفقدها بحيرة ناصر بالبخر وبلاد النوبة.. الخ.. ما قيمته إذا كنا مهددين بالعطش والبوار وجفاف النيل حتى لا تستطيع السفن أن تسبح فيه..

إنهم يتنبئون بحرب ضارية في الشرق الأوسط حول الماء ، وقتها سيتذكر الشرفاء، كيف مزق ناصر وصحبه وحدة وادي النيل ، وتخيلوا لو أن حكومة واحدة كانت مسئولة عن مصر والسودان منذ عام 1954.. كم من سدود ، كم من مشاريع ، كم من سدود ، كم من مشاريع ، كم من مياه كنا سننقذ ونوفر وندخر للسنوات العصيبة، وللوطن الكبير والشعب في مصر والسودان، بل هل كنا نستبعد أن تتحد أو حتى تشترك كل الدول المرتبطة بنهر النيل في تلك المشاريع التي تنفذها دولة وادي النيل الكبرى؟ ولكن الذين مزقوا الوطن الواحد وفصلوا بذلك بين النيل ومنابعه، حاولوا ستر هذه الجريمة بالضجة حول السد العالي وها نحن نتبين أننا به أسوأ حالا على الأقل في الكهرباء، فلو أننا أقمنا بدلا منه عدة قناطر وسدود صغيرة لما ارتبط إنتاجنا الكهربائي بمصدر واحد غير ثابت هو مستوى الماء في بحيرة فاشل .ز أو ناصر.

ولكن متى كان هؤلاء يهتمون بمصر أو يتحررون الصدق في سبيلها.

الفصل الثامن: روسي وأمريكي ع الدفة

" تأخر الغزو البريطانى يوما كاملا بسبب تعرض ومضايقات الأسطول السادس.. "

الانحدار للسويس

ويبدأ المفتى رحلته من بريطانيا على طريق السويس ولا يفوته أن يحكى لنا قصة " سلوين لويد" وطرد جلوب.ز والنبأ الذي وصل على " سلوين لويد" وهو يتناول العشاء مع عبد الناصر مما جعله يظن- وهو غبي حقا- أن عبد الناصر كان على علم بالنبأ بل وقته توقيتا ليصل إلى سلوين ما بين الأسكلوب بانيه، والسلطة ، وكأن الأردن محافظة مصرية.

ما علينا من غباء سلوين لويد.. رواية هيكل تتضمن معلومة غريبة وخطيرة .

وهى أن عبد الناصر نفسه كان آخر من يعلم.. بل إن سلوين لويد والسفارة البريطانية والعالم كله أحيط خبرا بإقالة " جلوب" إلا عبد الناصر.

هذا ما يقوله " هيكل" الأمين على تراث الزعيم.. فقد دخل سكرتير السفارة البريطانية، بل اقتحم العشاء اقتحاما، ودس ورقة في يد السفير البريطانى الساعة التاسعة مساء، ودسها هذا في جيبه بعد أن قرأها وأصبح واضحا على وجهه وحديثه أن أمرا خطيرا قد وقع.. ثم انصرف السفير والوزير البريطانى، وكل هذا حدث لم يلفت انتباه عبد الناصر ليسأل أحد معاونيه- إيه يا جماعة اللي حصل.. اسألوا الوكالات يكون في خبر.. وإلا اسألوا أقسام البوليس تكون أم السفير ماتت؟

أبدا.. وفق رواية هيكل لم تتحرك شعرة استفهام في رأس الزعيم .

بل توجه عبد الناصر إلى فراشه ونام قرير العين عن شواردها .. حتى أيقظه هيكل- ومن غيره يوقظ الغافل؟ - في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي.

التاسعة؟

- عندي خبر يا ريس يا كبير القلب.. عارف جلوب بتاع الأردن. .
- ماله ؟ أو اشمعنى..؟
- .. الخ ما يمكن أن يتضمنه سيناريو مسرحية هزلية حول تلك الصورة البشعة التي يقدمها هيكل عن الزعيم الذي كانت أبرز مميزاته هى " المعلومات" وخاصة من هذا الطراز.. والذي كما تجمع كل الروايات لم يكن ينام قبل ان يسمع جميع إذاعات العالم ولكن في رواية هيكل نجده معزولا.
لا سفارة تبلغ؟
ولا ملحق عسكري؟
ولا مخابرات ؟
ولا مراسل صحفي؟

ولا أحد يسمع راديو ترانزستور.. فالخبر كان قد أذيع من جميع محطات العالم وبجميع اللغات حتى السواحلى.. والزعيم لا يدرى حتى يبلغ هيكل الذي بدوره سمعه من مراسل " رويتر " في مصر الذي اتصل بهيكل يطلب تعليقا على الخبر ولم يخطر بباله أنه لا هيكل ولا سيده قد سمعا بالخبر..

" أن يظل المصري غائبا عن الوجود الحضاري.. الخ"
وهكذا كانت تحكم مصر.. وتقود العالم العربي.

دعنا من هذا الهذر ولننتقل إلى حديث يبهج النفس حقا:

الاجتهادات حول الوقت الذي طرأت فيه فكرة تأميم القناة على خاطر عبد الناصر كثيرة ومتباينة ، ومتفاوتة الذكاء والإسفاف أيضا، ومن هذا النوع الأخير زعم هيكل أنه هو الذي أوحى لسيده بتأميم القناة، على الأقل إن الفكرة خطرت لهما في وقت واحد وإليك رواية هيكل.
استيقظ محمد حسنين هيكل صباح 21 يوليو وقناة السويس في رأسه، الحمد لله وليس شرم الشيخ. وإلا لأعاد مجد الإسكندرية.
" واتصلت به ( الهاء تعود على عبد الناصر) تليفونيا في غرفة نومه، وكانت الساعة الثامنة والربع صباحا وتبادلنا حديثا عاديا مما يتبادله الأصدقاء في لصباح( من طراز أكلت إيه امبارح يا حمادة؟ جبنة وبطيخ يا جيمي.. معرفش ليه رجلى بتنمل .

عاملين إيه الأولاد.. يا صبر أيوب) ثم قلت له :" إنني فكرت طويلا فيما تستطيع أن تفعله إزاء القرار الامريكى وقال(اللي هو عبد الناصر) وهل توصلت إلى شيء؟

وقلت : هل تذكر ما كنت تقوله عن انتظار فرصة ملائمة للتقدم فيها بطلبنا للمشاركة والحصول على نصف دخل.. الخ".

وهو بذلك يقلد " مايلز كوبلاند" الذي ادعى في كتابه أنه اقترح تأميم القناة قبل عبد الناصر في تمثيله دور عبد الناصر في قصر " لعبة ألأمم".

وأغلب الظن أن عبد الناصر وصل للقرار عقب سحب تمويل السد العالي وما أحاط به من صورة قاتمة، إذ اعتبر في الدوائر المعنية قرارا بسحب الثقة من عبد الناصر، وأن أمريكا لا يمكن أن تعامله بهذا الشكل إلا إذا افترضنا أنه حالة ميئوس منها أو كما صور هيكل الموقف بأنه بعد " سحب تمويل السد العالي جاءت النهاية وأوشك الستار أن ينزل على قصة عصر عبد الناصر وصعوده في الشرق الأوسط".

وهذا بالطبع فهم أو تصور له أسبابه الخاصة، وهو الاعتقاد بأن النظام مسنود من الأمريكان، وإلا فإن الشعب المصري لم يكن يربط بين عبد الناصر والسد العالي، فهو ليس مهندسا، أو وزيرا تبنى مشروعا مائيا ويسق وينتهي عصره بفشل المشروع؟

عبد الناصر الذي احتفل قبل شهر بخروج آخر جندي بريطاني، لماذا يسدل الستار عليه لأن أمريكا ترفض تمويل واحد من مشاريعه؟

ومهما يبدو ذلك غريبا الآن ، فقد كان الشعور وقتها في أوساط أنصاف السياسيين في الخارج والمتنفذين في مصر والعالم العربي.. إن الأمريكان قرروا فعلا إسقاط عبد الناصر ، وأنهم قادرون على ذلك باعتبار دورهم في ظهوره واستمراره .. وكان لابد من إجراء " دراماتيكي" يجبر إدارة المسرح على استمرار رفع الستار ، ويبقى المتفرجين في مقاعدهم بمنطق الممثلين الذي يحكى به هيكل .

والدليل على أن القرار كان مفاجئا أنه لم تكن هناك دراسات جادة لردود الفعل الممكنة في بريطانيا وفرنسا .. وأن عبد الناصر كان قد وقع اتفاقية جديدة مع شركة قناة السويس قبل شهر احد تتضمن اعترافا بشرعية الشركة ولو كان الهدف هو التغطية لأمكن للوفد المصري إطالة المفاوضات حتى يصبح قطعها حجة للتأميم.. ولم يكف سلوين لويد عن استخدام هذه الاتفاقية للتأكيد بأن مصر لا تحترم اتفاقياتها، وتستخدم منطقا تبريريا في اتهام الشركة.. يتناقض مع موقفها من شهر واحد.. الخ.

ولكننا إذ نقول إن القرار كان مفاجئا وابن وقته، وكرد فعل عل سحب تمويل السد العالي، فإننا نؤكد أن الفكرة ذاتها، كانت دائما في رأس جمال عبد الناصر ، وكانت على رأس قائمة المنجزات التي حلم بتحقيقها حتى قبل أن يصل إلى السلطة.

فما من مأساة كانت تعتصر قلب الطالب المصري، مثل قصة قناة السويس، وما جرى فيها من غبن وتغفيل واستغلال لمصر.

وإلى ما قبل هزيمة 1967.. لم يكن هناك ثأر يحلم به المصري، مثل انتزاع القناة من المستغلين الذين حفروها بأموال ودماء المصريين وأجسادهم حقيقة لا مجازا.. ثم استولوا عليها مجانا وبأسلوب لصوصي يكفى لدمغ تاريخ أوربا والغرب كله بالعار.. حتى إسماعيل باشا بدأ تاريخه السياسي بشعار أريد" القناة لمصر لا مصر للقناة" في هذا الوقت المبكر، وقبل أن يتم حفر القناة وقبل أن تقبض الشركة منها جنيها واحدا، كان واضحا أن القناة هى نزيف في قلب مصر تنزح منه ثروتها واستقلالها وسيادتها، ويكفى أن تعرف أن القناة عند التأميم كان دخلها حوالي ثلاثين مليون جنيه استرلينى، حصة مصر منها مليون واحد والباقي لبريطانيا وفرنسا وأخلاط الأوربيين، بل كانت القناة في قلب مصر والسفن البريطانية والفرنسية تدفع الرسوم في لندن وباريس.

وكانت الشركة تتصرف كمؤسسة استعمارية عنصرية استعلائية تعيش في القرن التاسع عشر، كل جهازها الادارى من الجنس الأبيض، تتفاوت مراكزه بتفاوت بياضه، وعند القاع فئة خاصة من المصريين .. وبعدما قامت حركة الجيش، واستولى الضباط على الحكم، بل وباتوا في فرشا الأميرات.. استمرت شركة قناة السويس تمنعهم من دخول نادي شركة قناة السويس كسائر المصريين لأن شعب القناة دون مستوى المالطيين والكورسكيين العاملين بها ويروى كتاب مجتمع عبد الناصر أن قائد معسكر الجيش المجاور لشركة القناة اضطر لإرسال جنوده يسبحون عراة بجوار نادي الشركة، ففزع المسئولون هناك وسمحوا لهم بالاشتراك في النادي ربما بعدما اجتازوا الامتحان وكشف الهيئة.

كانت نموذجا للامبريالية في أبشع صورة وما كان يمكن أن تستمر لحظة واحدة في بلد مستقل، بل كان تأميمها يقترن دائما في خاطر الحركة الوطنية بتحقيق الجلاء.

وفى السنوات التي سبقت عبد الناصر طرح شعار التأميم في عدة مصادر:

1- منشورات فتحي الرملي وهو اشتراكي من الرواد المصريين ومن أوائل الذين تنبهوا إلى خطورة التغلغل اليهودي في الحركة الشيوعية المصرية.. فكان جزاؤه الإقصاء التام من المجرى العام لهذه الحركة، وإبعاده عن الصحافة ما يزيد على ربع قرن بتهمة الشيوعية في نفس الوقت الذي كان فيه سكرتير الحزب الشيوعية متربعا في كرسي الوزارة.
2- برنامج الحزب الاشتراكي بزعامة أحمد حسين
3- برنامج الحزب الشيوعي المصري الصادر عام 1950.
4-كتاب " الجبهة الشعبية" لمحمد جلال كشك الصادر عام 1951 والذي حكمت المحكمة بمصادرته لدعوته إلى قلب نظام الحكم القائم وقتها.. ثم كان من حيثيات تقديمه للنيابة وتوقيفه لمدة عامين في عهد الثورة

أما مصطفى الحفناوى، فلم يطرح أبدا مطلب التأميم .

ولما بلغه عبد الناصر بالقرار أصابه الهلع وقال لعبد الناصر:" إنه يسمع بأذنيه أزيز الطائرات التي ستهجم علينا"

على أية حال كان أبعد نظرا أو أصدق توقعا من عبد الناصر. ولكن عبد الناصر كان أكثر وطنية وأجدر بالزعامة عندما اتخذ قرار التأميم .

تأميم القناة.. إذن ، كان مطلبا وطنيا مصريا ، بل وعلى رأس الأماني المصرية.. وعبد الناصر كان مصريا وطنيا وقائدا وزعيما عندما اتخذ هذا القرار، الذي لا ينتقص من شانه ، الغزو الأنجلو – فرنسي. حتى ولو انتصر الغزاة واستردوا القناة، بل واحتلوا مصر، لفاز عبد الناصر بمكانة وتقدير المصريين " لأحمد عرابي " – على الأقل – فالوطنية ليست جائزة تمنح للمنتصرين وحدهم.

ولا ينتقص من قدر عبد الناصر أنه كان متأكدا من دعم الأمريكيين ، أو حتى كان على اتفاق معهم، فإن الزعيم الوطني مطالب بالتحرك في ظل مظلة دولية لصالح وطنه، تزيد احتمالات الانتصار وتقلل حجم الخسائر.

وقد دبرت عملية التأميم بإحكام، وأخفيت عن ألأطراف المعنية أي الشركة والإنجليز والفرنسيين ، ونفذت بإبداع ودون خسائر على الإطلاق، وأديرت ببراعة فائقة بعكس توقعات المخرف الإنجليزى الذي جعل بريطانيا تراهن بعض الوقت على عجز المصريين إدارة القناة.. ونلاحظ أن عملية الاستيلاء على شركة القناة ومكاتبها ومعداتها وإدارتها تمت بإشراف ضباط مهندس لا من مجلس قيادة الثورة ولا من السادات البارزين ولا من الجهاز الحاكم.. ولأمر ما لم يعهد عبد الناصر بمهمة بهذا الحجم للقوات المسلحة تحت إشراف عامر وشمس كما سيعهد بعد ذلك بالأوتوبيس ولا إلى كمال الدين حسين أو بغدادي أو حسن إبراهيم.. وإنما اختار واحدا وقعت عينه عليه بالصدفة خلال " حفل افتتاح خط أنابيب البترول بين السويس ومسطرد يوم 23 يوليو.. وكان اختياره موفقا ويا ليته عرف من هذه التجربة أن الكفاءات الحقيقية توجد أيضا خارج الصفوة المختارة .

يا ليته اختار ضابطا بمحض الصدفة وكلفه قيادة معركة سيناء.. إذن لكانت النتيجة أفضل . إذ يستحيل أن تكون أسوأ مما حصل.

ومرة أخرى يعزز رأينا في أن " القرار" وليس الفكرة كان ابن يومه، ومفاجئا وأنه لم تتح الفرصة لدراسته دراسة كافية.. إنه لم تتخذ إجراءات مثل سحب جانب مهم من الأرصدة المصرية في بريطانيا وأمريكا.. ( 112 مليون جنيه استرلينى في بريطانيا + 60 مليون دولار في أمريكا تم تجميدها فور التأميم) وكان يمكن إصدار الأوامر إلى أربع مدمرات مصرية بالخروج من المواني البريطانية حيث كانت وحجزتها الحكومة البريطانية بعد التأميم.

وعلى أية حال هذه تفاصيل، ويمكن القول أن الحرص على المفاجأة كان يستلزم المخاطرة بالمال والسفن حتى ولو لم يكن سحبها يثير حتما شكوك الإنجليز لأن الجو كان متوترا ولم يكن يخطر ببالهم فكرة التأميم.

والقضية التي سننتقل إليها الآن، هى إثبات دور " الكارت" في نجاح عملية التأميم وهزيمة بريطانيا وفرنسا.. فقد خاضت الولايات المتحدة كما سنرى معركة ضد بريطانيا وفرنسا على جميع المستويات وراء الكواليس وأمام منبر الأمم المتحدة، وفى المؤتمرات الصحفية وفى اجتماعات حلف الأطلنطي، وفى المظاهرات الانتخابية وتعاونت مع الاتحاد السوفييتي لأول مرة منذ قيام إسرائيل ، تعاونا مثيرا. ولكن لا يجوز أن تحمل التناقض الامريكى- البريطانى، وحده، الفضل في النصر المصري، ولا أن يكون هذا الدور الامريكى سببا في انتقاض دور القوى المحلية الوطنية.. فهذه التناقضات بين الدول الكبرى هى مجرد عامل مساعد ، مهما كانت أهميته، أما النتيجة الحاسمة والدائمة فتقررها العامل المحلية.. فالتناقض العالمي لا ينصر من لا يريد أن ينتصر..

كان لابد من شجاعة عبد الناصر أو مخاطرته، لاتخذا القرار بالـتأميم ، وكان لابد من كتمان الأمر عن الإنجليز والشركة.. ثم كان لابد من نجاح الإدارة المصرية في تسيير القناة في الفترة ما بين التأميم والغزو.. ولو حدث أن تعطلت الملاحة أو سدت القناة، أو انهارت الإدارة الجديدة، لضعفت الأوراق المصرية، بل ولضعف موقف أمريكا.

ولو حدث أن سقطت الإسماعيلية والسويس أو ظهرت في بور سعيد ومنطقة القناة حركة متعاونة مع الغزاة، أو لو وقع انقلاب في القاهرة، وقد كان ذلك ممكنا جدا وأعضاء مجلس الثورة يهربون أولادهم، وخياراتهم ما بين ابتلاع السم أو التسليم للسفارة البريطانية لو حدث ذلك لانهار كل شيء ولأسقط في يد الأمريكان ، ولاضطروا – كما كان الإنجليز يخططون- لقبول الأمر الواقع ، أي قسمة جديدة للشرق الأوسط بشروط أفضل للانجليز والفرنسيين والكف عن " طردنا من المنطقة قل الأوان".

ولكن الوطنية المصرية العريقة، تسامت فوق أحزان ومآسي وأخطاء وتنكيلات أربع سنوات وكشفت عن معدنها الأصيل في اللحظات المصيرية، والتفت حول عبد الناصر، حول مصر التي كان يمثلها عبد الناصر في تلك اللحظة، ولم تهتز شعرة في مصري والطائرات تضرب القاهرة، والمظليون في بور سعيد . والمصريون يرون أحداثا من خارج عالمهم. . وغزوا تقوم به أضخم إمبراطوريتين .. وقوات دولتين كان اسم أحداهما يثير الرعب في آسيا وأفريقيا, وإنذار منها يكفى للاستسلام.

فالاعتماد على القوى العالمية، أو وضعها في الحساب، ممكن ، بل وضروري أحيانا ، شرط أن يكون واضحا أن الكلمة الحاسمة هى للقوى الذاتية أو المحلية.

وبنفس القوة لا يجوز أن نزور التاريخ ونتعامى عن الحقائق ، مما يؤدى إلى الجهل والتجهيل ليس فقط بتاريخنا بل لحسابات المستقبل.. ومن ثم فعندما يصر هيكل على أن أمريكا كانت الشريط الرابع لبريطانيا وفرنسا وإسرائيل " في معركة القناة.." وهو من هو .. علينا أن نتحسس رؤوسنا ونتساءل ماذا يقصد..؟ وماذا يريد فعلا أن يخفى بهذه التزوير المفضوح..

إن عداء أمريكا لمصر وإضرارها بمصر أكبر وأوضح منان يحتاج لتزوير ويكفى دورها في قلب انتصارنا الوحيد على إسرائيل في عام 1973 إلى هزيمة.. وإن كل مصري قتل منذ 1967 إلى كامب ديفيد قتل بدولار امريكى وسلاح امريكى وربما يهودي امريكى مرخص له من ضريبته أية مبالغ يتبرع بها لجيش إسرائيل الذي يقتل المصريين ، ويسد طريق مستقبلهم، بل ويدمر فرصتهم في هذا المستقبل.

نحن لا نحتاج إلى تزوير التاريخ إذن لنكره الاستعمار الامريكى.. ولكن هيكل وأمثاله يريدون أن يخفوا حقيقة يفزعهم ظهورها وهى أن المصالح الأمريكية والروابط الأمريكية كانت موجودة وملتقية ومتفقة مع السياسة الناصرية في الفترة من 1952 وربما إلى 1965 بدرجات متفاوتة، ومع استمرار تباعد محوري التلاقي، الذي بدا ملتحما في 1952 ووصل ذروة التعانق في 1956 في معركة القناة.. ثم بدأ في الانفراج والتلاقي المضطرب إلى أن تمت القطيعة في 1965.

أما فريق الماركسيين فهم يريدون من ناحية تغطية خطيئة تعاونهم بل فنائهم في النظام الناصري، ومن ثم يزعجهم الاعتراف بأنهم حلوا تنظيماتهم استجابة لمطالب نظام بدأ مع الأمريكان.. كما يرون- عن حق- أن إبراز الدور الامريكى في معركة القناة، يقلل من أسطورة الإنذار الروسي، ومن التأييد الحقيقي الذي قدمته، الاتحاد السوفيتي لمصر والذي لم يكن ليحقق أكثر من الذكرى الطيبة لولا الموقف الامريكى، ومن ثم فهم يخفون الموقف الامريكى لأسباب روسية.

وهكذا نرى مؤلف مسلسل " ثورة 23 يوليو " يتحلى بحياء العذراء الحامل وهو يحلل الموقف الامريكى قائلا:" ولكن السياسة الأمريكية لم تكن تجارى حدة الرغبة الفرنسية والإنجليزية في الوصف ( هكذا وربما كانت صحتها العنف العصف وفسدت من الاضطراب في نفسية الكاتب وهو يعرف أنه غير صادق مع نفسه أو عاجز عن فهم الموقف ) بجمال عبد الناصر لاقتراب موعد الانتخابات الأمريكية وحرص ايزنهاور على عدم الدخول في مناورات تعرض موقفه الانتخابي للضعف".

ما تأثير عبد الناصر في الانتخابات الأمريكية ؟

بالعكس إن جميع الدراسات والتحليلات تؤكد أن ايزنهاور خاطر بتحدي قوى لها وزنها في الناخبين بتأييده عبد الناصر في معركة القناة.. ومعارضة بريطانيا وفرنسا.. وإسرائيل باذلات .. وما زال يضرب به المثل ، على أن " اللوبي اليهودي" ليس بالقوة الحاسمة في الانتخابات الأمريكية – كما هو الشائع- إذا ما وجد رئيس امريكى قوى، يتبنى مصالح أمريكا الأساسية والحقيقية.. تلك المصالح التى كانت تتفق تمام الاتفاق مع طرد بريطانيا وفرنسا من المنطقة في ذلك الوقت، وقد راهن لايزنهاور على " أصحاب المصالح الحقيقية".
الذين كانوا مع انتزاع القناة من الاستعمار القديم كتصفية أخيرة لهذا الاستعمار في شرق البحر الأبيض وإزالة سيطرته على ممر حيوي عالمي، وممر أساسي للنفط الامريكى- الخليجي..

ويظهر تهافت محاولات هيكل عندما يحاول تفسير الموقف الامريكى بأنه كراهية شخصية بين دلاس وايدن فيقول:" كان ايدن لا يثق بدلاس، بل كان يكرهه، وكان الشعور بين الاثنين متبادلا".

ولن نقول إن سياسة الدول الكبرى لا توجهها الأمزجة الشخصية .

بل سنقدم الأدلة على أن دلاس بالذات كان أكثر الأمريكيين قربا للموقف البريطانى، وأكثرهم تحمسا ضد عبد الناصر وأنه ما أفلت مرة من قبضة " الجهاز الامريكى" إلا ولخبط السياسة الأمريكية بتعاونه مع الإنجليز والفرنسيين.

ويعود هيكل فيعلن حيرته:

" كان موقف الولايات المتحدة الأمريكية في مناقشات مجلس الأمن باعثا على الحيرة، فالولايات المتحدة كانت تتبنى مواقف بريطانيا وفرنسا المعادية لمصر ولجمال عبد الناصر، ولكنها كانت تحاول إفراغ المواقف من احتمال استعمال القوة المسلحة، لأن ذلك قد يؤدى إلى تصادم بينها وبين الاتحاد السوفيتي ثم إنه كان يسيء إليها عربيا ودوليا أن تؤيد عملية عسكرية يحركها منطق القرن التاسع عشر، ويحكمها أسلوب " دبلوماسية مدافع البوارج".
وهذا تزوير ومحاولة خبيثة لتبرئة ساحة الأمريكان من ألأطماع واستعمارية القرن التاسع عشر ودبلوماسية البوارج.. واى صورة أنبل للموقف الامريكى من أنه كان منطلقا من " الحرص على السلام العالمي" ورفضا لدبلوماسية البوارج.

والولايات المتحدة لم تتردد في المخاطرة بحرب عالمية في كوريا قبل سنوات، بل وكان الشبح المخيم على عملية التأميم هو الخوف من دبلوماسية البوارج التي استخدمتها أمريكا ضد جواتيمالا.. حتى فقد عبد الناصر أعصابه وصرخ في أحد زوراه " هل ستحدثني أنت أيضا عن جواتيمالا"؟.

فأحدث نموذج لدبلوماسية البوارج ومنطق القرن التاسع عشر كان النموذج الامريكى.. بل كان الإنجليز يستشهدون بعملية جواتيمالا كلما حذرهم الأمريكان من دبلوماسية البوارج.

الولايات المتحدة لم تكن تخشى أو تتوقع صداما مع الاتحاد السوفيتي في مصر، فلم يكن المطلوب منها أن تتدخل عسكريا، حتى تتوقع مجابهة مع روسيا، بل كان يكفى أن تترك الإنجليز والفرنسيين يقومون " بالمهمة القذرة" وما من دليل واحد على أن الاتحاد السوفيتي كان جادا في استخدام القوة ضد بريطانيا وفرنسا في معركة القناة.. وإنما كان الأمر كله تصعيدا في المواجهة السياسية، والإنذار السوفيتي إياه لم يقدم إلا بعد ما تأكد أن الولايات المتحدة معارضة للتحرك الأنجلو- فرنسي بكل قواها، بل وبعد أن نجح هذا الموقف الامريكى في إنهاء العمليات العسكرية.. وهذا كلام عبد الناصر نفسه ولا يفتى هيكل وعبد الناصر في المدينة.. أو هكذا المفروض.

ولو كان الغزو الأنجلو- فرنسي ، يخدم المصالح الأمريكية ، لما ترددت الولايات المتحدة في دفع بريطانيا لاستخدام القوة المسلحة، ويكفيها الاستنكار أو اتخاذ موقف سلبي لشل الاتحاد السوفيتي ،وهى لم تتردد في استخدام القوة المسلحة في جواتيمالا .. ثم أرسلت البوارج إلى لبنان مع إنذار بتدمير مصر إذا ما تعرضت لسلامة جندي امريكى واحد، وأدت النزول البريطانى في الأردن عندما لاح خطر الوحدة العربية الحقيقية 1958 ولم تهتم بمخاطر حرب عالمية ثالثة.

ولا نطق الاتحاد السوفيتي بحرف فهو يعرف جيدا متى يصمت ومتى يحلو توجيه الإنذارات.

ونفس الشيء في حرب 1967 والاتحاد السوفيتي يرى انهيار كل استثماراته في العالم العربي، على يد إسرائيل الغازية وتحت المظلة الأمريكية ، فلم يحرك ساكنا.

هذا المنطق الهيكلي يهدف إلى إخفاء علاقة الناصرية بالأمريكان في هذه الفترة، ويهدف أكثر على تبرئة ساحة الأمريكان من النزعات الاستعمارية.. أما التفسير الصحيح فهو أن الولايات المتحدة كانت تريد وراثة الشرق الأوسط بتصفية الاستعمار القديم، وإخضاعه للاستعمار الجديد وما كانت لتسمح بعودة الاستعمار القديم.. وهدم كل ما حققته أمريكا في 13 سنة منذ رحلة روزفلت إلى العالم العربي.. وهذا ما قاله سلوين لويد" يريدون طردنا من المنطقة قبل الأوان".

ولكن الفكر المتأمرك والمتمركس يلتقيان في نفى شبهة المصلحة الاستعمارية عن الأمريكان تحت غبار سب الولايات المتحدة واتهامها بالتآمر والخداع.. الخ وفى النهاية نجدها طاهرة الذيل ، عارضت العدوان حماية للسلام العالمي، أو لأجل كسب انتخابات الرئاسة أو رفضا لدبلوماسية البوارج.. وينسى الماركسي ما قاله شبيلوفن ويخفى المتأمرك شهادة سلوين لويد والوثائق الأمريكية ذاتها..

نقف أولا أمام نصين من مذكرات " سلوين لويد" يبدو فيهما شديد البراءة أو البلاهة في محاولة مفضوحة لستر الحقيقة.. فهو يعلق على خطاب عبد الناصر يوم التأميم:

" في 26 يوليو بالإسكندرية ، كانت بريطانيا هى الهدف الرئيسي لهجومه، مع أن أمريكا هى التي وجهت الصفعة. وهذا التركيز على بريطانيا يثبت أن الخطاب كان معدا منذ وت طويل".

ويمكن القول إنه كما كان التأميم مجرد تعلة للقرار البريطانى المسبق بضرب مصر وعبد الناصر، فإن سحب تمويل السد العالي كان أيضا في الشرق الأوسط وشرق أفريقيا".

فالقضية لم تكن أسهم بريطانيا في شركة قناة السويس، بل الوجود البريطانى كله في الشرق الأوسط وشرق أفريقيا.. وعبد الناص أخرج الإنجليز من مصر والسودان، وسلوين لويد قد نسب لعبد الناصر- وهذا صحيح إلى حد كبير دون إغفال الحركة الوطنية الطبيعية المتصاعدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والتي فجرها قرار حكومة الوفد بإلغاء المعاهدة، ثم تأميم مصدق للنفط الإيرانى- كل متاعب بريطانيا ، وكل الإذلال الذي نزل بها من طرد جلوب، إلى إلقاء التراب في وجه سلوين لويد، واختفائه في البحرين حتى أمكن تهريبه ليلا إلى المطار.. والسفير البريطانى في مصر كتب لوزير خارجيته ( لويد) قبل التأميم يقول ك" في حياتي لم أقرأ سبا وإهانة لبريطانيا مثل المنشور في الصحافة المصرية خلال الشهور الأخيرة".

وسلوين لويد هو الذي قال " إن عبد الناصر هو العدو الأول لبريطانيا " .. وكل عملاء بريطانيا في المنطقة كانوا يجأرون بطلب ضرب عبد الناصر، وإلا فإن سلطتهم بل حياتهم مهددة بالخطر طالما ظل رعاياه يسمعون هذا الصوت العربي يسب بريطانيا ويهين حكوماتها، ويسجل عليها الانتصارات ولو بالخطب ويبقى سليما بل وتزداد مكانته ويخطب وده.. وهم – كما يعرف رعاياهم- يلعقون أحذية الإنجليز.

مستحيل .

ولذلك فإن قرار المواجهة كان سابقا على التأميم.. والمنطقة لم تكن تتسع لعبد الناصر والاستعمار البريطانى بصيغته القديمة، وعملائه من طراز نورى السعدي والمنتصر واسكندر ميرزا.. وعبد الناصر يعرف أنه لا يستطيع التوقف عن تصفية الوجود البريطانى.. ومن ثم فلا غرابة في أن تكون بريطانيا هى المستهدفة في خطاب الإسكندرية 26/7/1956 وأن تتخذ بريطانيا على الفور قرارا بالغزو.. أي الوصول بالمواجهة إلى الذروة. وصلنا إلى رأى في الموضوع نعتقد أنه يستحق المناقشة سنعرضه في نهاية هذا الحديث.
وهو سلوين لويد الذي قال :" الذين يقولون إن السويس كانت مزلقا في تاريخنا، لأننا تصورنا أن بريطانيا تستطيع أن تتصرف عالميا بإرادتها المنفردة، يخطئون .

فنحن لم نكن نجهل حقيقة وضعنا أما الخطأ الوحيد الذي وقعنا فيه، فهو أننا لم نتوقع أبدا الإجراءات التي يمكن أن تتخذها الولايات المتحدة ضدنا، فقد كنا تحت تأثير صداقتنا مع ايزنهاور خلال الحرب، ونعتقد أن خلافاتنا تدور في نطاق العائلة، ولا يمكن أن تصل إلى حد تحطيم الروابط العائلية.. فلم يخطر ببالنا أبدا أن الأمريكان يمكن ألا يقفوا في صفنا أو على الأقل يتخذون موقف الحياد الودي".

وقد يبدو وزير خارجية بريطانيا هنا مغفلا.. وهو الذي يعرف بالانقلابات المضادة التي دبرتها بريطانيا وأمريكا ضد بعضهما في سوريا، وبالخلاف حول " البوريمى" الذي رفض الإنجليز مجرد الحديث فيه، وفى مواجهة ايزنهاور شخصيا.. وهو الذي أشار إلى العداء والتنافس الامبريالي مع الأمريكان في أكثر من موضع كما ترى.. قد يبدو مغفلا تماما وهو يتحدث عن " الخلاف العائلي" ولكن الحقيقة، أن السياسة البريطانية أخطأت الحسابات ، إذ راهنت على توريط الأمريكان أو فرض الأمر الواقع عليهم.. في ظل قواعد الصراع داخل عائلة " حلف الأطلنطي" أو العالم الحر كما يسمون أنفسهم، والتي تقتضى عدم الضرب تحت الحزام، وحفظ مظاهر التضامن.

بريطانيا كانت تعرف أنها تقاتل في حرب القناة، معركتها الأخيرة للبقاء في المنطقة ومنع الأمريكان من إخراجهم منها قبل الأوان" والذي تجلى في زيارة روزفلت لمصر واجتماعه بالملك فاروق والملك عبد العزيز ، وملاحق تشرشل له على نحو كوميدي.. ثم تصريح ترومان عن فتح باب الهجرة لفلسطين، ثم إخراجهم من فلسطين وسياط اليهود على مؤخرتهم، وما من قوة كانت تخرج بريطانيا من فلسطين إلا الضغط الامريكى.. ثم الضغط عليهم لقبول الجلاء عن مصر والتخلي عن السودان الذي كان الإنجليز لا يفكرون في قيام حكم ذاتي فيه تحت إشرافهم قبل عشرين سنة..

كانت بريطانيا تحلم بضرب أو وقف هذا الزحف الامريكى بإعادة احتلال مصر ،ووضع الأمريكيين أمام الأمر الواقع، فيضطرون إلى ا لحياد أو حتى التأييد اللفظي.. في انتظار جولة أخرى.. ولكنهم أخطئوا الحساب، فالوضع لم يكن بالسوء الذي ظنوه بين الروس والأمريكان.. والولايات المتحدة لم تكن أقل منهم وعيا بخطورة الوجود البريطانى في قناة السويس، أو بالأحرى مصر .. كما كانت على وعى بضعف بريطانيا وفرنسا، وعجزهما عن اتخذا مجلس الوزراء البريطانى حتى التعليق على اقتراح سلوين لويد بعد الهزيمة، بالانتقام من أمريكا ببناء أوربا المستقلة.

لهذا لم يتردد الأمريكان في العمل علنا على إفشال الغزو البريطانى، ولم يهتموا حتى بشكليات العلاقة العائلية؟..

وكان هذا من حسن حظ مصر والأمة العربية وعبد الناصر بالطبع.

أما من ناحية الأمريكان فهم أيضا في البداية لم يتوقعوا أن تكون ردة الفعل البريطانية بهذا الحجم.. أو كما يقول سلوين لويد :" وفى اعتقادي أنه في 27 يوليو بدا لكثير من الأمريكيين أن التأميم مجرد صفعة لمؤسسة استعمارية عجوز. ولم يكن يعنيهم أي إجراء يحسن وضعتنا مع الدول العربية، أو يدعم مركز فرنسا في الجزائر. . وكان ايزنهاور يكن شعورا متناقضا نحو بريطانيا بحكم روابط فترة الحرب، ومن ناحية أخرى تسيطر عليه كراهية عميقة متأصلة لسجلنا الاستعماري" .

ورغم مرور ربه قرن فإن الوطني المصري يحس برعشة اللذة وسلوين لويد يبكى.. قائلا:

" سجل موفى-_ روبرت) – وهو أكثر دبلوماسي امريكى استقامة واعتدالا واتزانا تعاملت معه- في كتابه المناقشات التي دارت في واشنطن يوم الجمعة 27 يوليو بعد خطاب عبد الناصر ( التأميم) فقال إن دلاس كان في " بيرو" فاجتمع ايزنهاور وهربرت هوفر الابن وكيل وزارة الخارجية ومورفي، اجتمعوا لبحث ما حدث.
وقد كتب مورفى إن ايزنهاور لم يكن مهتما كثيرا ولم يفكر أحد في أن الأمر يحتاج استدعاء دلاس فالشرق الأوسط لم يكن يعتبر ذا أهمية أولوية للولايات المتحدة والاستثمارات الأمريكية في شركة قناة السويس لا تذكر.ز بل كان بوسعي أن أسمع هوفر يقول ذلك.. وتقرر أن يذهب مورفى إلى لندن ليرى ما هذه الضجة ؟ وعلام؟ .. وليسيطر على الوضع..".
" هكذا بعد ستة أشهر من حواري مع دلاس حول ناصر والخطر في الشرق الوسط، فإن هذه اللامبالاة من جانب ايزنهاور كانت كافية لدفع المر للبكاء".

سلامة قلبك يا خواجة لويد.. السياسة هكذا .. قطع قلبه الأمريكان.

ويقدم لنا شوكبرج صورة تثير البكاء حقا، للأسلوب الذي عامل به الأمريكيون الإنجليز في قضية ناصر فقد روى أنه خلال اجتماع قمة بين ايزنهاور وايدن، 30 يناير 1956 أبلغهم " أنه يفكر في تحريك القوات الجوية والبحرية في البحر الأبيض كرادع لإسرائيل يثنيها عن العدوان.

وكان واضحا أنه يستمتع بذلك.. ثم ناقش رئيس الوزراء وايزنهاور موضوع ناصر وهناك قال الرئيس : جنسه أيه؟ ناصر ده؟ فرد سلوين لويد : إنه طموح يطمع في إمبراطورية من الأطلسي للفارسي تحت قيادته.. ورد ايزنهاور : وهل يتوافق ذلك مع رغبة العرب الآخرين.. على أية حال السؤال المهم هو هل ناصر مع السوفييت؟ لأنه إذا ثبت ذلك فإما أن نساعد إسرائيل أو نساعد العرب الذين لا يحبون مصر.."

وتصل الملهاة ذروتها عندما ينتهز ايدن الفرصة، فيشير على خطاب ناصر السىء الذي ألقاه بالأمس ويؤكد أنه رجل يصعب التعايش معه..

فيرد ايزنهاور : ربما ليس لديه مساعدون أكفاء يراجعون خطبه.

ويقول شوكبرج: وساد الصمت.

وهذا الذي يسميه " سلوين لويد" " لا مبالاة أمريكية " بالشرق الأوسط يطرح له " مورفى" تفسيرا آخر في كتابه " دبلوماسي بين محاربين" عندما قال :" كان ايزنهاور مصمما على ألا تستخدم الولايات المتحدة كمخلب قط لحماية امتيازات بريطانيا النفطية " ويعلق لويد على هذه الفقرة بقوله: " وكان هذا هو الموقف الذي حز في نفوسنا".

ويعود فيقول إنه رغم جهوده في توضيح " خطورة عبد الناصر" الذي إذا لم يردع فإنه يستطيع أن ينزل الدمار بمصالح الغرب.

" إلا ايزنهاور وقتها كان متأثرا بمشاعره المعادية للاستعمار وبتحيز " هوفر" ضد الامتيازات ( البريطانية – الفرنسية) في الشرق الأوسط"

وقد اجتمع حلف الأطلنطي وحرصت الولايات المتحدة على عدم الاشتراك فيه على مستوى وزير الخارجية، بل أرسلت موظفين عاديين ،يقول سلوين لويد إنهم لم يتحدثوا ولا علقوا.. واستطاعت بريطانيا وفرنسا ( وهما من الأصل يدفعان خارج مصر" وهولندا والنرويج وألمانيا، ولكن أمريكا نسفت القرار، فقد رفضت تنفيذه أو الالتزام به، وأعلم دلاس " أن قناة السويس لا تحتل مركزا رئيسيا من اهتمام الولايات المتحدة".

وكان هذا بالطبع أول تأييد علني لعبد الناصر، ففيه اعتراف بالتأميم ، وفيه تتفيه للهستريا الأنجلو – فرنسية التي كانت تصرخ بأن هتلر مصر وضع أصبعه على القصبة الهوائية للغرب.. الخ فجاء دلاس يعلم أن أمريكا غير مهتمة بالموضوع بل وسمحت الحكومة الأمريكية لرعاياها بالعمل كمرشدين في قناة السويس المؤممة، بعدما أمرت الشركة الاستعمارية مرشديها بالانسحاب بأمل تعطيل القناة، وكانت مشكلة المرشدين تصور وقتها وكأنها جوهر المعركة.. وأنها تحتاج لخبرات هائلة يستحيل توفيرها.. وهو تصور ثبت أنه مبالغ فيه ولكنه جعل مصر تطلب من كل أصدقائها إمدادها بالمرشدين، فجاءوا من روسيا ويوغسلافيا واليونان.. وأمريكا.. وعمل المرشدون السوفييت والأمريكان " على الدفة" جنبا على جنب، وهو تعاون لم يشهد العالم له مثيلا إلا عند قيام دولة إسرائيل ، ومكافحة شلل الأطفال وستتسع دائرة هذا التعاون في الأمم المتحدة والإنذارات لحسم مستقبل الشرق الأوسط، ووضعه تحت هيمنة العملاقين حقا، لا تاريخا.

وقد تجلت "لا مبالاة" الأمريكان في دعوتهم لدفع الرسوم لمصر.. وردا على هذه " اللامبالاة " اتخذ الإنجليز تكتيك " تخويف" الأمريكان وإقناعهم بأنهم جادون في استخدام القوة لإجبارهم على الدعم أو الضغط على عبد الناصر ولما تأكد الأمريكان أن الإنجليز ( والفرنسيون) مصممون على اللجوء إلى السلاح.. اتبعوا معهم تكتيك كسب الوقت على اقتناع بأنه كلما مر الوقت واكتشف العالم أن القناة تعمل كما كانت بالنسبة لدورها كممر عالمي، وشريان النفط والتجارة لغرب أوربا، مع الدعاية الأمريكية والروسية، والانقسامات الحزبية داخل فرنسا وبريطانيا ، فإن مبررات استخدام القوة ستتناقض وكذلك التأييد لها من قبل الأمن العام الأوربي..

وهذا ما يفسر تكتيكات الطرفين في الفترة من التأميم إلى مجلس الأمن.. مع حرص الأمريكان على تقوية المعارضة لقرار استخدام القوة بالتأكيد على انفصال الموقف الامريكى وتناقضه مع الموقف البريطانى- الفرنسي، وأيضا الحرص على دعم موقف عبد الناصر ضد أي ضغوط بريطانية – فرنسية..

" في لندن أبلغهم مورفى أن الرأي العام الامريكى غير مستعد لقبول فكرة استخدام القوة. . وأنه يعتقد أن السفن الأمريكية يجب أن تدفع الرسوم لمصر.. فهي رهينة" .

وينفى سلوين لويد ما يقال عن " نجاح مورفى في كبح جماحنا" .. وهو يغالط.. فهو لم ينجح في منعهم ولكن آخر الإجراء عندما نقل إلى ايزنهاور الجو المحموم في لندن، والحديث عن الحرب، وعندها تقرر أن يرسل دلاس إلى لندن فورا.ز وشعر الإنجليز بالرضا عن النفس لأنهم نجحوا في تخويف الأمريكان وإثارة اهتمامهم .

وسجل " ماكميلان" في يومياته يوم 31 يوليو 1956 :" ويبدو أننا نجحنا من خلال إفزاع مورفى ن الذي لابد أنه رفع تقريره بالروح التي أردناها. لأن فوستر دلاس قادم الآن على عجل.

وهذا تطور مهم جدا" وبعدما قابل ماكميلان دلاس كتب في يوميات أول أغسطس 1956 يقولك" يجب أن نبقى الأمريكان خائفين ، يجب ألا نترك لديهم أي وهم.. وعندها سيساعدوننا في الحصول على ما نريد دون حاجة لاستخدام القوة".

موقف إلقاء ماء بارد على الأزمة الذي لجأ إليه الأمريكان في البداية لم ينجح.. وأيضا لم ينجح الإنجليز في إرهاب أو إخضاع الأمريكان، وإن نجحوا في إثارة قلقهم، ودفعهم إلى تغيير خطتهم، فأرسلوا دلاس نفسه وبخطة واضحة هى المماطلة وكسب الوقت، ومنع الحلفاء من التصرف أو اللجوء إلى الحل الوحيد الذي يعيد لهم ما فقدوه في الشرق الأوسط.. وهو " دبلوماسية البوارج".

وهذا ما سجله " سلوين لويد" نفسه بعد عشرين سنة عندما قال :" كان واضحا أن دلاس يلعب لكسب القوت".

طار دلاس إلى لندن يوم 31 يوليو، وحضر في اليوم التالي إلى وزارة الخارجية البريطانية وسلم رسالة " لايدن" من ايزنهاور اعترف فيها أنه قد يكون من الضروري استخدام القوة لحماية الحقوق الدولية، ولكنه يأمل أن يتمكن مؤتمر الدول الموقعة لاتفاقية 1888 والدول البحرية الأخرى من تحقيق الضغط المطلوب على المصريين من أجل ضمان كفاءة تشغيل القناة في المستقبل.

وأكد على خطأ الإصرار على استخدام القوة في الوقت الحاضر.

أما إذا تدهور الوضع إلى الحد الذي يتحتم فيه استخدام القوة، فسيلزم دعوة الكونجرس قبل استخدام القوات الأمريكية العسكرية .

على أن يقتنع الكونجرس بأن كل الوسائل السلمية لحل الصعوبات قد استنفدت .

وأضاف إنه فهم من الرسائل التي أرسلها له ايدن وماكميلان أن قرارا باستخدام القوة قد أقر بالفعل من جانب الحكومة البريطانية وأنه لا نهائي ولا رجعة فيه.

ولكنه (ايزنهاور) يأمل إعادة النظر فيه ولذلك أرسل دلاس على لندن".

ويضيف " سلوين لويد" :" لم أصدق أن دلاس، فكر لحظة واحدة، أننا سنستخدم القوة في الحال، ولذلك كان تناوله للموضوع معقولا، فقد قال إنه لابد أن " يطفح" عبد الناصر القناة التي ابتلعها ، وأنه لا يعقل أن تخضع القناة السياسية دولة واحدة بدون رقابة دولية.

ولابد من اكتشاف وسيلة لإجبار عبد الناصر على تسليم القناة، ولكن القوة جب أن تكون آخر وسيلة.

وإن كانت الولايات المتحدة لا تستبعدها، إذا ما استنفدت كل الوسائل الأخرى.. " ولكن لما انتقلنا إلى مناقشة التفاصيل، كان واضحا أنه يلعب عل كسب الوقتـ فقد كان يعتقد أن المؤتمر سيحتاج لثلاثة أسابيع للإعداد له.

ولم يكن يتصور أنه يجب أن ينعقد في لندن أو باريس أو واشنطن.. وكان مشككا في جدوى إصدار بيان ثلاثي عقب محادثاتنا هذه .

أما عن عضوية المؤتمر فكان مصمما على دعوة الدول الموقعة على اتفاقية 1888 إلى جانب آخرين".

جاء دلاس لكسب الوقت والمماطلة، وهذا يتطلب بالطبع بعض التأييد اللفظي، وإن كان قد قاوم إلى آخر لحظة إعلان ذلك في بيان ثلاثي، وكانت " اللعبة" التي جاء بها هى اقتراح مؤتمر لندن، بأمل أن يستغرق في الإعداد له والخلاف حول المقر، والدول المشتركة وبرنامج العمل، ورئاسة المؤتمر.. ثم الخطب بداخله.. ما يكفى من الوقت لتبريد الانفعال البريطانى، كذلك دق دلاس أو الدبلوماسية الأمريكية ن إسفينا ممتازا في المؤتمر بالإصرار على دعوة الدول الموقعة لاتفاقية 1888 وهذا يعنى، كما فهم الإنجليز، دعوة روسيا ، التي وقعت ههذ الاتفاقية عام 1888 بينما كان الإنجليز يريدون المؤتمر- إذا كان لابد من مؤتمر- مقصورا على الدول الغربية، أو الدول التي تعتمد أساسا على القناة، وهذا يستبعد روسيا المؤيدة لعبد الناصر.. وهذا الإصرار الامريكى على تمثيل روسيا في مؤتمر لندن مؤشر مهم لفهم دبلوماسية المرحلة لمن أراد أن يفهم..

وإذا كان دلاس قد ساقهم من طرف اللسان حلاوة، بالحديث عن "تطفيح " عبد الناصر القناة والبحث عن أسلوب يرغمه على إرجاعها لهم.. إلا أن رسالة ايزنهاور المكتوبة كانت واضحة.

1- الرجوع عن قرار استخدام القوة.
2- هدف المؤتمر والضغوط على المصريين هو ضمان " كفاءة تشغيل القناة" لا إلغاء التأميم ولا " تطفيح" عبد الناصر القناة.. ولا إرجاعها لهم..

ونجحت الخطة الأمريكية وبدأ الإعداد للمؤتمر، ولكن الدبلوماسية البريطانية نجحت في تخفيض الوقت الضائع، بل والخروج من المؤتمر بنتائج أفضل بكثير مما توقع الأمريكان وقد لخص سلوين لويد الانطباع البريطانى حول مؤتمر لندن، أو اقتناعهم بأنهم كسبوا الجولة ضد الأمريكان بقوله:

" بعد انتهاء مؤتمر لندن جاءني دبلوماسي صديق من دول الكمنولث وسألني.. لماذا تركتم زمام القيادة للأمريكان .. ففتحت عيني وهمست لنفسي بالمثل القائل: ..........." أي الفن الحقيقي هو الذي لا يظهر الفن فيه" فالحقائق كانت كالتالي:

1- المؤتمر عقد في لندن، وهو ما كنا نريده ولا يريده الأمريكيون.
2- توليت رئاسة المؤتمر وهو ما كنا نريده ولا يريده الأمريكيون.
3- فعنا دلاس إلى عرض القرار الثلاثي وهو آخر ما كان يفكر فيه قبل عشرة أيام.
4- وكانت نتيجة المؤتمر قرارا مرضيا تماما لنا، وبأغلبية 18 صوتا من اثنين وعشرين .

وهذه النتيجة جاءت بفضل جهد كبير في الإعداد والمعالجة الحذرة للوفود ( عملت الدبلوماسية البريطانية والمخابرات البريطانية والضغوط في العواصم المعنية والرشوة عملها وأيضا غموض الموقف الامريكى أو على العكس ظهور الوفد الامريكى في مظهر المؤيد للانجليز ولكن أهم ما في عرض وزير الخارجية البريطانى أنه قائمة بما أحرزه من انتصارات على الأمريكان).

انتهى المؤتمر في 23 أغسطس 1956 بما يمكن وصفه حقا بانتصار بريطاني – فرنسي.. بقرار ضد مصر في شكل إنذار تبلغه لجنة دولية تتكلم باسم 18 دولة من اثنين وعشرين..

وسواء قلنا إن دلاس قد سايرهم كسبا للوقت، فالقرار على أية حال كان للتفاوض وليس بالحرب.. أو أن الدبلوماسية البريطانية استطاعت تطويقه وزحلقته خطوات أكثر مما تقتضيه لعبة كسب الوقت.. فإن الإدارة الأمريكية سرعان ما أصلحت الموقف ونسفت كل نتائج مؤتمر لندن...

اندفع " لويد" يضاعف كمية الصابون تحت قدم دلاس فأبرق إليه يشكره على معالجته الأستاذية لقضيتنا في مؤتمر لندن، وأضاف:" تحت قيادتك اعتقد أننا سنحرز المزيد من النجاح" .

كان نجاح بعثة " منزيس" يتوقف على اقتناع عبد الناصر بحقيقتين : أن بريطانيا وفرنسا مصممتان على استخدام القوة. وأن الولايات المتحدة لا تعارض ذلك.. وهذا هو عين ما حرصت الولايات المتحدة على نفيه علنا.

وإليك القصة كما يرويها سلوين لويد:

" اجتمع منزيس بعبد الناصر في 3 سبتمبر 1956 وفى اليوم الثاني في مساء 4 سبتمبر قدم له منزيس الموضوع باسم اللجنة، واستمع إليه عبد الناصر، وكان منزيس قد قرأ في الصحف أن عبد الناصر أبلغ قياداته العسكرية أن الحشود الإنجليزية والفرنسية هى مجرد تهويش .
فطلب منزيس الاختلاء به، وقال له إنه لا يهدده، ولكنه يحذره من أنه يرتكب خطأ فادحا، لو استبعد إمكانية العمل العسكري.. ورد عبد الناصر إنه لا يعتبر هذا تهديدا من منزيس وأنه سيضعه في اعتباره.
وفى صباح اليوم التالي كانت الصحف تحمل العناوين المثيرة. فقد سئل ايزنهاور في المؤتمر الصحفي عن إمكانية استخدام القوة، فرفض ذلك بتاتا وبلا قيد ولا شرط( أي لا حل أول ولا حل أخير ) وسئل ماذا يحدث إذا رفض ناصر المقترحات الحالية( التي قدمها منزيس) قال ( الرئيس الامريكى) : عندئذ يجب تقديم مقترحات أخرى، وقال نحن ملتزمون بحل سلمى للنزاع ولا شيء آخر.
وهذا بالطبع دمر أية فرصة كان يمكن أن تتاح لنجاح مهمة منزيس".

نجح منزيس في إقناع عبد الناصر أن الإنجليز والفرنسيين سيستخدمون القوة ضده، وأنه يخاطر بكل شيء إذا لم يقبل مقترحات لجنة الـ 18 .. ووعد عبد الناصر بالتفكير والرد..

وعبد الناصر لا يخشى إلا استخدام القوة، إذ أن أية وسيلة أخرى لن ترغم مصر على تسليم القناة أو إلغاء التأميم أو الانتقاص من فعاليته.. وهنا وقبل أن يتسع الوقت لعبد الناصر للتفكير يعره ايزنهاور إلى مؤتمر صحفي علني، يبلغ فيه عبد الناصر بل يلتزم فيه أمام العالم أجمع برفض استخدام القوة مهما حدث، وبالذات إذا رفض عبد الناصر مقترحات منزيس..

وبالفعل " رفض عبد الناصر مقترحات 18 دولة في 9 سبتمبر واقترح تشكل هيئة مفاوضات".

لا يمكن للمؤرخ حسن النية، أن يستبعد هذا العنصر في إفشال مهمة لجنة منزيس، وفشل مؤتمر لندن وسقوط المرحلة الأولى من المخطط الأنجلو- فرنسي. وتسمية أمريكا " الشريك الرابع" في حرب عالمية ثالثة، أو لحماية السمعة الطيبة لأمريكا غير الاستعمارية .. وغير ذلك من حجج العملاء.. الذين يمارسون لعبة ساذجة، هى مدح أمريكا في صيغة الذم.

إنه صراع لصوص، ولما اختلف اللصان فازت مصر بالقناة ولا شيء آخر..

بل تأمل كلمة مندوب الولايات المتحدة في لجنة منزيس أمام عبد الناصر كما أوردها هيكل:

" أريد أن أوضح أن أمريكا ليست دولة استعمارية. وهذه هى سياستنا المعلنة منذ مدة. ولن نقبل الاشتراك في أية خطة استعمارية.

وإني متأكد أنه لو شعرت الحكومة الأمريكية أن هذا الحل الغرض منه فرض حل معين على مصر لما اشتركت في هذه الجنة. وكل ما الأمر أننا نريد حلا سلميا بالمفاوضة يتمشى مع السيادة المصرية".

ولو راجعت كلمات مندوب أثيوبيا وإيران لوجدت مندوب أمريكا أكثر ثورية. بل لو كان هذا النص منسوبا لمندوب روسيا لما ظهر فيه كبير اختلاف..

فهو يصف بريطانيا وفرنسا كدول استعمارية ويبرئ أمريكا من هذا الدنس.. ويشير على خطط استعمارية وهى التي تحاول فرض حل معين على مصر.. ويعلن أنه يبحث عن حل سلمى يتمشى مع سيادة مصر ولا يشير إلى حقوق أو ادعاءات أي طرف آخر حتى تحفظ حرية الملاحة الذي أورده مندوب أثيوبيا لم يتمسك به المندوب الامريكى ولا طرحه.

ويقول لويد مرة أخرى والمرارة في فمه إن ايزنهاور بعث برسالة على ايدن يوم سبتمبر 1956 يقول له فيها: يجب ألا يتخذ أي إجراء عسكري قبل استنفاد جهود الأمم المتحدة، فالرأي العام الامريكى بلا مناقشة فكرة استخدام القوة، وخاصة عندما يبدو أننا لم نستنفد كل الوسائل السلمية التي يمكنها أن تحمى مصالحنا الحيوية.

إن استخدام القوة العسكرية، ضد مصر الآن قد يترتب عليه نتائج أكثر خطورة من مجرد تجميع العرب حول ناصر".. ويضيف سلوين لويد بأم ايزنهاور كانت لديه الجرأة أو إن شئت الوقاحة ليقول في رسالته" إننا لسنا غافلين عن حقيقة أنه قد لا يكون هناك مفر من استخدام القوة".. وذلك قبل 24 ساعة من وصول منزيس إلى القاهرة ليقدم لعبد الناصر أول مقترحات منذ التأميم ولكن ايزنهاور رغم كان ما قاله في رسالته لايدن يقدم على عقد مؤتمر صحفي علني، يعلن فيه رفض استخدم القوة إطلاقا. وهذا التصريح دفع عبد الناصر إلى رفض استخدام القوة إطلاقا. وهذا التصريح دفع عبد الناصر إلى رفض دراسة المقترحات.

وكذا إشارته إلى هيئة المنتفعين والأمم المتحدة. إذ بعد أيام قليلة بدأ دلاس يؤخر الحديث عن مجلس الأمن ويتراجع عن أي دعم سبق تقديمه لهيئة المنتفعين".

كما تسلم لويد رسالة من دلاس الله فيها " إن الرأي العام العالمي سيتأثر لغير صالحنا بالأنباء التي أصبحت شائعة عن استعدادات عسكرية بريطانية – فرنسية وخطط لإجلاء الرعايا".

" رفض ايزنهاور أن يدعم خطاب دلاس في مؤتمر لندن، ورفض أن يبذل أي جهد لاتهام ناصر بأنه يسعى للمتاعب، بل خفف عنه الضغط في أحرج لحظة" ( لحظة تقديم إنذار الـ 18 دولة).

" لو لأن مسئولا أمريكيا بارزا أو اثنين تحدثا لعبد الناصر خلال وجود منزيس في القاهرة لكان ذلك كافيا لنجاحنا . ولكنهم ضللونا بمشروع جمعية المنتفعين وخانونا كما أكد مورفى في كتابه".

أما مشروع هيئة المنتفعين، فقصته أنه بعد أن أفشلت أمريكا نتائج مؤتمر لندن ومهمة لجنة منزيس، وأنذرت وحذرت من اللجوء للقوة، تقدمت بمشروع جديد لكسب الوقت، وهو جمعية المنتفعين.. أي تشكيل جمعية من الحكومات المنتفعة بالقناة، تتولى إدارة القناة وتحصيل الرسوم.

وهو الاقتراح الذي قيل إن دلاس خرج به من خلوته في جزيرة "ديوك" وورد في رسالة ايزنهاور.. وفال دلاس على رواية لويد " إن الجمعية ستحصل الرسوم، وهكذا لا ستفيد ناصر من القناة، بل يرى المال يتسرب من يديه (وهو يغنى: يا رب هل يرضيك هذا الظمأ؟) ..وبصرف النظر عن تشويه لويد لفكرة دلاس أو اقتراحه إلا أنه على حق عندما يقول إنه كان مجرد كسب للوقت.

قال لويد :" كنت على استعداد لقبول هذا الاقتراح على شرط أن نتأكد أولا أن دلاس لا يجرجرنا من اقتراح حتى يصبح من غير الممكن شن عملية عسكرية".

" إن الدافع لدلاس لتقديم مشروع جمعية المنتفعين هو ما وضحه مورفى في كتابه صفحة 467 وهو أن دلاس كان يعمل في ظل تعليمات صارمة بمنع التدخل العسكري. ومن ثم كان عليه أن يبتكر مشروعا يؤخرنا، وبالذات عن التوجه لمجلس الأمن " " في 11 سبتمبر ابلغ ايدن مجلس الوزراء البريطانى أن عبد الناصر رفض المقترحات جملة وتفصيلا. وأن أمريكا تعارض بشدة استخدام القوة، كما تعارض اللجوء إلى مجلس الأمن. ولذلك لم يبق إلا تجربة جمعية المنتفعين ولكن نقطة الضعف في مشروع الجمعية، أنها قد تكون ببساطة مجرد خدعة من دلاس للتأخير.

وقبلت بريطانيا – مكرهة- مجاراة خدعة دلاس في جمعية المنتفعين ولكن بتفسيرها، وهو أن الجمعية ستحصل كل الرسوم وذلك وحده يدفع عبد الناصر إلى رفضها، والشرط الثاني أنها – أي الجمعية- ستستخدم القوة في فرض فكرتها وهى الاستيلاء على القناة وإدارتها، وشق السفن طريقها في القناة رغم إرادة مصر ودون دفع رسوم لمصر..

ولكن دلاس تراجع.. ورفض هذا التفسير.. وأبلغ لويد أنه يرى أن تدفع جمعية المنتفعين تسعين بالمائة من الرسوم لعبد الناصر ولمتكن مصر في هذا الوقت- وبعد التأميم – تحصل أكثر 35% بل وأعلن أن جمعية المنتفعين " هذه ولدت وستبقى بلا أسنان.. وأن السف الأمريكية لن تشق طريقها بالقوة، بل ستطوف حول رأس الرجاء الصالح إذا ما سدت مصر القناة في وجهها .. لذا اقترح " هيوجيتكيل" ساخرا أن تسمى " هيئة المنتفعين برأس الرجاء الصالح".

يقول لويد" إن المأساة التي لعبت دورا في إحباط المرحلة التالية كانت في تصدقنا أن دلاس يتصرف عن حسن نية باقتراح جمعية المنتفعين وليس انه جرد طبخ حصى لتعطيلنا".

وهو كذاب لأنه لم يصدق دلاس لحظة واحدة وإنما تخادع له.. واستمر الحشد العسكري.

" أن يقترح دلاس تقسيم الرسوم بنسبة تسعين بالمائة لناصر، الأمر الذي سيجعل ناصر يضحك على الدول الغربية ويدعى- عن حق – أنه حقق نصرا كاملا.. جعلني شديد التشاؤم من المستقبل، إذ فيما يختص بموضوع الضغط على ناصر ، كانت الولايات المتحدة هى الحلقة المكسورة رغم كلمات دلاس الشجاعة في مارس عن إسقاط عبد الناصر في ستة شهور وتطفيحه القناة على حد قوله في أغسطس".
" لقد خلص ايزنهاور ودلاس ناصرا من أي قلق من إمكانية اتخذا الولايات المتحدة موقفا قويا ضده. وأصبح بوسعه أن يلعب آمنا على التناقض الروسي- الامريكى"

وظهر عبد الناصر على التليفزيون الامريكى وبشر دلاس صديقه سلوين لويد أن عبد الناصر قد ترك أثرا طيبا.

ربما قالها له وهو يخرج لسانه.

نجح تكتيك جمعية المنتفعين في تأجيل ذهاب الإنجليز والفرنسيين لمجلس الأمن وهى الخطوة قبل الغزو مباشر في مخطط الدبلوماسية الأنجلو- فرنسية.. " كنا نهدف إلى التوجه لمجلس الأمن في بداية الشهر (سبتمبر)ولكن اضطررنا للتأجيل بسبب اقتراح هيئة المنتفعين.

فقد حاولنا أن نلعب بإنصاف مع دلاس" وكان دلاس قد وافقهم على اللجوء إلى مجلس الأمن إذا ما رفض عبد الناصر مقترحات لجنة منزيس، بشرطين : ألا يعنى ذلك التزام الولايات المتحدة باستخدام القوة، وأن يكون الذهاب لمجلس الأمن بنية شريفة للوصول إلى حل".

وهذا يقول عنه الفقهاء تعليق الشرط بمستحيل فأنى لمثل ايدن وسلوين لويد وموليه بالنوايا الشريفة؟

ولكن بعد تقديم اقتراح جمعية المنتفعين عارض دلاس بقوة في التوجه لمجلس الأمن ، حتى يحسم أمر جمعية المنتفعين.. التي كانت قد بدأت اجتماعاتها يوم 19 سبتمبر في لندن وحضرها 13 وزير خارجية من 18 دولة اجتمعت ، بل وأرسلت كل من نيوزيلندا واستراليا ممثلا بدرجة رئيس وزراء سابق، ويعلق سلوين لويد بخبث" أصحابنا كانوا يأخذون الأمر على محمل الجد".

ولكن بريطانيا وفرنسا كانتا تعلمان باللعبة الأمريكية وقررتا أن الوقت قد حان للتصرف المنفرد، وأن ذمتهما قد أبرئت .. فتوجهتا على مجلس الأمن يوم 23 سبتمبر1956 وردت مصر في اليوم التالي بتقديم شكوى هى الأخرى حول الإجراءات العدوانية..

وقابل ماكميلان ايزنهاور لاستمزاج رايه في خطوة الذهاب إلى مجلس الأمن فحدثه ايزنهاور في كل شيء ولكنه لم يشر بحرف إلى قرار التوجه لمجلس الأمن" وإذا كان ايزنهاور قد تعفف عن الحديث في هذا الفعل الفاضح فإن دلاس كان الصاع صاعين لماكميلان: " لقد توجهتم إلى مجلس الأمن دون مشاروة معي.. وأنا أحس أنني عوملت بشكل سيء".. " وإننا لن نجنى إلا المتاعب في نيويورك ( الأمم المتحدة) وأننا نسعى إلى كارثة .

وكان يتحدث – على حد تعبير ماكميلان- كمن يحذرنا من دخول بيت للدعارة .

ويكمل سلوين لويد:" كان من الصعب أن نصدق أن دلاس صادق مع نفسه فهو الذي قال يوم 13 سبتمبر في برنامج تليفزيوني: إننا يجب أن نحصل على برنامج من الألأم المتحدة لحسم الأمر.

وقال في جمعية المنتفعين إن حكومة الولايات المتحدة تتحرك سريعا نحو الأمم المتحدة وتحدث معي بالتفصيل حول هذا الأمر. . إن دلاس لا يمكن أن يثير هذا الغبار، إلا لأن مورفى كان صادقا عندما قال إن دلاس كان يتصرف تحت تعليمات صريحة من ايزنهاور بمنع التوجه لمجلس الأمن .

كان اقتناعه هو خطأ هذا التوجيه ولكنه شعر بضرورة الالتزام به".

ونظرة ايزنهاور كانت أصدق لعدة عوامل .. منها أن مجلس الأمن كان آخر إجراء في تبرئة ذمة الإنجليز والفرنسيين قبل استخدام القوة.. ولذلك كان يريد منعهم من اجتياز هذه العقبة حتى يستمر في تسليتهم بمشروعات جديدة من طراز جمعية المنتفعين..

- لأن ايزنهاور كان يعلم أن طرح النزاع في مجلس الأمن سيعطى الاتحاد السوفيتي الفرصة لتقديم الدعم الذي يتقنه والذي غذى عليه العرب منذ ذلك التاريخ.. وهو الدعم الأدبي بالتصويت والخطب في الأمم المتحدة، وهى دعاية للروس- في ظروفهم الحرجة وقتها ( المجر) – أمريكا في غنى عنها..
- أن ايزنهاور كان يدرك موقف الولايات المتحدة المحتوم في مجلس الأمن وأنه سيكون على غير هوى بريطانيا وفرنسا وهو لا يريد أن يعمق الجراح، وهو يخوض حربا محدودة ضد بريطانيا وفرنسا، وليس عداوة أبدية شاملة.. ويدبر مصالحتها بعد انتزاع اللقمة من فمهما..

ولكن بريطانيا أرادت أيضا توريط أمريكا، ورفضت هذه التورط فصوتت على إدراج الشكويين المصرية والأنجلو – فرنسية، بسبعة أصوات ضد لا أحد والثانية بـ 11 صوتا ضد لا أحد.

تحدد يوم 5 أكتوبر للنظر في الشكويين.

يوم 2 أكتوبر عقد دلاس مؤتمرا صحفيا أعلن فيه عن وجود خلاف حاد بين أمريكا وحلفائها الأوربيين حول السويس : إن الولايات لمتحدة لا يمكن أن ينتظر منها أن تربط نفسها مائة في المائة، لا مع القوى الاستعمارية، ولا مع القوى التي تهتم فقط بالحصول على الاستقلال بأسرع وأكمل ما يمكن".

ولا أظن أنه يوجد تعريف يمكن أن يطوب ويثنى على السلطة المصرية في خطوة التأميم، مثل وصفها بقوى تسعى لتحقيق الاستقلال بأسرع وأكمل صورة في مواجهة القوى الاستعمارية؟..

فلا مصر معتدية ولا ناصر هتلر، ولا القناة سرقت على طريقة "على باب " كما قال الاشتراكي النصاب " انورين بيفان" بل خطوة نحو استكمال الاستقلال أو انتزاعه من القوى الاستعمارية وإن كانت تشوبها بعض الأنانية أو اللامبالاة بالنتائج الأخرى .. أو التسرع .

وقال :" بينما تتفق مواقف فرنسا وبريطانيا وأمريكا حول حلف الأطلنطى، فإن أية قضية تمس في جوهرها أو مسلكيتها بشكل ما ن ما يسمى بالاستعمار ، ستجد الولايات المتحدة، نفسها ، دورا مستقلا نوعا ما".

وهو بهذا قد صنف مشكلة القناة بأنها مشكلة استعمارية وليست حقوقا أو التزامات دولية..

ثم تحدث عن هيئة المنتفعين فقال :" إن البعض يتحدث عن عملة خلع أسنان المشروع، والحقيقة أنه لم تكن له أسنان أصلا، في حدود معلوماتي"

وفى اليوم التالي وبعد أن شتم بريطانيا في "زفة" المؤتمر الصحفي، استدعى السفير البريطانى ليصالحه في " عطفة" وزارة الخارجية وقال له " إنه غير سعيد بالمؤتمر الصحفي.. وأن ملاحظاته قد ربطت دون أن يدرى بين السويس والمسألة الاستعمارية وأن النص قد وزع على الصحافة قبل أن يقرأه وهذا حد من حريته" .. ورد السفير البريطانى متذرعا بكل البرود الإنجليزى " إن ههذ المؤتمرات الصحفية خطيرة جدا، ووافقه دلاس ولكنه أضاف إن هذه هى المرة الأولى التي ارتكب فيها مثل هذه الخطأ الفاحش".

يوم 5 أكتوبر وقبل ساعات من انعقاد مجلس الأمن، حاول لويد وبينو إثارة نخوة دلاس الذي أخبرهما أن الرئيس ايزنهاور ضد الحرب، وأن هذا الموقف ليس له علاقة بالانتخابات.. فشرح له لويد" أخطار عبد الناصر الذي يتآمر على قتل الملك إدريس في ليبيا وحتى الملك سعود وجه له تهديا.

إذا كان مركز نورى ثابتا في العراق إلا أن السخط ينتشر بين صغار الضباط العراقيين بتحريض عبد الناصر. والأردن تم التغلغل فيه .

سوريا؟ عمليا تحت حكم عبد الناصر، الذي يساعد أيضا منظمة ايوكا في قبرص" وأكمل بينو فشرح الوضع في شمال أفريقيا".

ولكن دلاس " كرر اعتراضه على استخدام القوة في الوقت الحالي، وإن وافق على إبقائها كأحد الخيارات".

ولكن في اليوم التالي فوجئوا بالصحف الأمريكية طافحة بأنباء الخلافات بين أمريكا من جانب وبريطانيا من جانب آخر..

وقال سلوين لويد:" وقد علمت أن هذه الأخبار سربت من الوفد الامريكى في الأمم المتحدة.

وأضيف إن دلاس أخبر المحيطين به من الصحفيين أن على بريطانيا أن تقبل المشروع الهندي.

وقابلت دلاس يوم الأحد وطلبت منه أن يحدد بالضبط أين نحن؟ وكان واضحا من لهجتي أن صبري قد نفد.. فأنكر أنه تحدث عن المشروع الهندي.

واعتذر ووعد بضبط سلوك الوفد الامريكى. وأنه لا صحة لوجود خلافات .

وأنه يؤيد استعداداتنا العسكرية وأنه نفسه لا يستبعد استخدام القوة في مرحلة أخيرة".

وقد شهد سلوين لويد بأن دلاس كان يقول لهم عكس ما يفعل، فلا حاجة لإجهاد أنفسنا لتفسير ما يبدو كأنه تناقض.

تمخضت اجتماعات الأمم المتحدة عن مشروع المبادئ الستة المشهور، وقد قبله الطرفان بنية عدم تنفيذه.. المعتدون على أساس أن الخطة التي وضعوها، مع إسرائيل ستضع العالم أمام وضع جديد، ويكفيهم أنهم قبلوا " الحل السلمي" ، وإنما جد ظرف لم يكن في الحسبان بهجوم إسرائيل ومصر قبلتها للمطاولة والمناجزة والأخذ والعطاء على أساس الإستراتيجية القائلة إن كل يوم يقلل من فرص العدوان، وإمكانيات نجاحه..

ولكن أمريكا التي كانت على يقين من الاستعدادات العسكرية لم تشأ أن تترك الأمر للظروف بل حرصت على توريط حلفائها بإعلان أن قبولهم مشروع المبادئ الستة وقبول مصر له قد حل الأزمة وبالتالي سقط أي حق لهم في استخدام القوة.. وهو ما كان الإنجليز على حذر منه ولذلك يقول سلوين لويد:" وأعلن همرشولد الاتفاق على ستة مبادئ .

وقد حذرت ( مجلس الأمن) من الانجراف في التفاؤل وقلت إنه لا تزال هناك ثغرات واسعة بين مصر وبيننا.

وفى هذه اللحظة بالذات اختار ايزنهاور مرة أخرى أن يسحب البساط من تحت أقدامنا، فبعد أن اخبر همرشولد المجلس بالمبادئ الستة. أعلن ايزنهاور في مؤتمر صحفي ما يلي:

" إن عندي اليوم ما أعلنه. عندي أفضل خبر يمكن أن أعلنه لأمريكا اليوم.. وهو التقدم الذي أحرز في تسوية خلاف السويس . فبعد ظهر اليوم وفى الأمم ألمتحدة اجتمعت مصر وبريطانيا وفرنسا من خلال وزراء خارجيتهم ووافقوا على مبادئ للمفاوضات.

وكل الأمور تدل على أننا تخطينا أزمة خطيرة جدا.. وأنا لا أريد أن أقول إننا قد خرجنا من الغابة تماما، ولكن تحدثت مع وزير الخارجية قبل أن آتى إلى هنا، واستطيع أن أقول لكم إن قلبه ورأسه عامران بصلاة الشكر.."

وجن جنون سلوين لويد الذي فهم المقلب الذي كان رأسه وقلبه عامرين بالمكر والكفر.. فوصف تصريح رئيس الولايات المتحدة بأنه " تصريح أهبل" يقول:" وقد احتججت بشدة لدى دلاس ، وأعتقد أنه هو نفسه اخذ، وراح يغمغم ببعض عبارات حول عدم الاهتمام بما يقال في الانتخابات".

وأحس فوزي بزوال الضغط عليه واستشهد بخطاب ايزنهاور وبدأ تراجعه عن المادة التي تطلب إبعاد القناة عن سياسة أية دولة".

" وذهبت لمقابلة دلاس لأناقش معه ماذا يعنى ايزنهاور بالضغط على عبد الناصر وما الوسائل .. وبدأت بالحديث عن الرسوم لأكتشف يا للهول أن دلاس يقترح أن تدفع الرسوم لجمعية المنتفعين وهذه بدورها تدفع تسعين بالمائة منها لناصر أي أنه سيحصل على أكثر مما يحصل عليه الآن ( 35%) وقلت له: إن هذا الاقتراح قد ملأني رعبا.. ولكن الوقت كان متأخرا لعمل أي شيء فلم نتناقش طويلا.."

وبسبب هذا الرعب لبس الإنجليز طاسة الخضة أو خوذة الحرب..

والفترة من 12 أكتوبر إلى 29 منه، معروفة، كان موعد المفاوضات المقبلة هو نفس اليوم الذي تحدد للهجوم، وستكرر معنا أمريكا نفس اللعبة الأنجلو – فرنسية بعد عشر سنوات، وسنندب ونصدق..

المهم وقع الهجوم الاسرائيلى والإنذار البريطانى، وألقى كل طرف باللثام وكشف عن نواجذه فهي الحرب.. إما النصر وإما الموت الزؤام.. أصبحت المعركة علنية وصريحة ومريرة بين أمريكا من جانب وبريطانيا وفرنسا من الجانب الآخر ولم تشفع لهمتا مشاركة إسرائيل ، بل بالعكس حل إثمهما وكراهيتهما على إسرائيل بنت أمريكا، وكانت أول وآخر مرة تقف فيها أمريكا ضد إسرائيل بهذا الوضوح والجدية..

فور العدوان أعلن ايزنهاور أنه " سيقف على جانب مصر وطلب من القائم بالأعمال البريطانى أن يبلغ ذلك لحكومته" وفسر هذا الموقف بأنه للحفاظ على شرف ومصداقية أمريكا حيث أن سمعتها أصبحت على المحك، وذلك بحكم ارتباطها بالتصريح الثلاثي الذي يتعهد بالدفاع عن المعتدى عليه في الشرق الأوسط".

ولكن أهم من الشرف والمصداقية كان هذا القرار الأكثر حسما.. وهو قول ايزنهاور: "إن الذين بدأوا هذه العملية عليهم أن يجدوا نفطهم" ولما سأل دلاس: ومن أين سيحصلون على النفط فرد عليه : ربما يعتقدون أننا سنضطر إلى تزويدهم به.. كان جواب ايزنهاور حادا وقاسيا: إنهم لا قيمة لهم كحلفاء مخاتلين ، بل ربما كانت قيمتهم لنا أقل بكثير مما يعتقدون".

وقال ايزنهاور لـ " ايميت هيوز" الذي كان يعد له خطابا انتخابيا:" إن الفرنسيين يحرضون الاسرائلييين .. عليهم اللعنة.. لقد جاءوا هنا وكانوا جالسين على مقعدك هذا منذ ثلاث سنوات 1953 وقلت لهم لن تحققوا في شمال أفريقيا غلا هند صينية أخرى فأبوا قائلين:.. لا.. الجزائر جزء من فرنسا وغير ذلك من التفاهات".

ويتابع" هيرمان فينر" في كتابه " دلاس والسويس" عرض موقف أمريكا من العدوان فيقول:

" يوم 30 أكتوبر اجتمع دلاس بالسفير الفرنسي وقال له: إننا نعيش في أخطر لحظات العلاقات الفرنسية – الأمريكية . إن هذا اليوم هو أحلك يوم في تاريخ الحلف الغربي بل قد يكون نهاية الحلف نفسه. إن هذا الهجوم على مص يثير خطر حرب عامة.إن تصرف وتدخل فرنسا يشبه تماما الاتحاد السوفيتي في بودابست".
" لقد صمم دلاس على أن يرغم بريطانيا وفرنسا وإسرائيل وليس مصر على إطاعة القانون بالتنديد الأدبي والمعنوي تارة، وتارة أخرى بالمطاردة بالتكتيكات التي قد توصف أحيانا بأنها وحشية، كان مصمما ليس فقط على أن يعود الحق على نصابه بل وأيضا إظهار دور أمريكا أمام العالم بوصفها الدولة التي تحفظ النظام وتقر الحق".
" وهكذا فمنذ 30 أكتوبر حتى قرار وقف إطلاق النار والانسحاب استخدم دلاس ومساعدوه المخلصون وسائل قاسية مع حلفائه، وهى شن حمل مسعورة من الاستنكار والتنديد في الأمم المتحدة ثم منع عن حلفائه إمدادات البترول التي تعتمد عليها أنظمتهم الصناعية والزراعية اعتمادا كاملا وحرمانهم من أرصدة الدولار، الأمر الذي أدى على استنفاد مواردهم المالية.
لقد أدت الحرب الصليبية التي شنها دلاس على حلفائه إلى إذلال هذه البلاد لصالح ناصر وصديقه الدائم، الحكومة السوفيتية".
" ولذلك لم يكن من الغريب أن يتذكر " هارولد ماكميلان" والذين جاءوا من بعده، في حزبه ثم رجال حزب العمال كذلك بل والجنرال ديجول تلك الأيام السوداء التي تعرضوا فيها للمهانة وبالغ الضرر بسبب موقف دلاس من قضية تعرضت فيها مصالحهم الحيوية للضرر".
" الدول المقهورة تشن حربا لتحقيق العدالة ولكنها تواجه اتهاما من الولايات المتحدة بفضل دلاس، أمام الأمم المتحدة، وتضطر لإنهاء عملياتها بسبب فرض العقوبات عليها من جانب واحد وهو الولايات المتحدة.

وتتمثل هذه العقوبات في حرمانها من البترول والدولارات وينتهي الأمر بإخفاق القوة وعدم انتصار العدالة".

ولا تهمنا عواطف المؤلف الإنجليزية، فليمت بغيظه.. وغنما المهم ما سجله من حقائق..

وعرض العدوان على مجلس الأمن ، وفى 30 أكتوبر تقدمت كل من الولايات المتحد وروسيا بمشروع قرار للمجلس، استخدمت بريطانيا وفرنسا حق الفيتو ضدهما.. القرار الامريكى كان يدين إسرائيل ( لأن بريطانيا وفرنسا لم تهجما بعد) كمعتدية ويطلب انسحابها ويدعو كل الدول الأعضاء إلى الامتناع عن استخدام القوة.

ويقول سلوين لويد " أما المشروع السوفيتي فكان أخف لهجة وكنا نفضل الاكتفاء بالامتناع عن التصويت عليه، ولكن فرنسا أصرت على استخدام حق الفيتو، فوافقنا لدعم تضامنا".

وبحق الفيتو البريطانى والفرنسي في مجلس الأمن كان يستحيل صدور قرار ضد المعتدين الثلاثة، ولذلك كانت الخطوة التالية من قبل مصر هى نقل الموضوع إلى الجمعية العامة، حيث لا حق فيتو، وحيث الأغلبية التي يمكن أن يشكلها الأمريكان والروس والدول المعادية للاستعمار..

ولكن لتحويل القضية إلى الأمم المتحدة كان لابد – كما تقضى اللائحة، أن تحال بأغلبية سبعة أصوات وقد تقدمت يوغسلافيا بطلب الإحالة فنال سبعة أصوات بينها تصوت أمريكا ضد اثنين وامتناع اثنين ..

ونترك وزير خارجية بريطانيا يعلق:" فلو اكتفت الولايات المتحدة حتى بالامتناع عن التصويت لسقط قرار الإحالة ولبقى الأمر في يد مجلس الأمن".

ولما صدر بالطبع قرار الإدانة والانسحاب . الخ..

وفى الجمعية العمومية افتتح دلاس المناقشات باقتراح امريكى( وهذا يعطى ثقلا واضحا للمشروع إذا لا يترك مجالا للغموض حول موقف أمريكا وبالتالي يدفع كل الأتباع إلى التصويت معه) – يطلب وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية والبريطانية والفرنسية وإعادة فتح القناة التي كانت مصر قد نجحت في سدها.

وحاول مندوب كندا إنقاذ بريطانيا بتقديم مشروع قوات الطوراىء " ولكن دلاس لم يقبل أي تأجيل للتصويت على مشروعه وكان هذا مثالا آخر على العداء لنا".

وصدر القرار بأغلبية 65 صوتا ضد 5 أصوات هى استراليا ونيوزيلندا وفرنسا وإسرائيل وبريطانيا . وامتناع كندا وست دول أخرى.

وفى الشارع كان نيكسون نائب الرئيس الامريكى يقود مظاهرة ضد بريطانيا ، إذ علق على نتيجة التصويت " بأنها اقتراع عالمي على قيادة الرئيس ايزنهاور.

في الماضي كانت شعوب آسيا وأفريقيا تتوقع أن نقف في اللحظات الحرجة مع سياسات حكومتي بريطانيا وفرنسا فيما يتعلق بالمناطق التي كانت مستعمرة.

ولكن لأول مرة في التاريخ أبرزنا استقلالنا عن السياسات الأنجلو – فرنسية، إزاء آسيا وأفريقيا.. التي تبدو انعكاسا للتقاليد الاستعمارية. أم إعلان الاستقلال هذا كان له تأثير الكهرباء في سائر أنحاء العالم".

وسنعفى القارئ من تعليق المخوزق سلوين لويد ولكن هل من أحد يريد أن يتحدث عن أمريكا كشريك رابع للعدوان الثلاثي، وأن المعركة كانت ضد أمريكا؟

ولم يقتصر الأمر على " قرارات الأمم المتحدة" بل وجه ايزنهاور إنذارا إلى ايدن وموليه يطلب فيه وقف إطلاق النار خلال 12 ساعة وقد قبلته بريطانيا بدون حتى استشارة فرنسا، وذلك بعد أن أوشك الاسترلينى على الانهيار " لتعرضه لعملية نزيف بإيعاز من الخزانة الأمريكية " على حد قول أو اتهام سلوين لويد.. وعرقلت الولايات المتحدة محاولات بريطانيا استخدام حق السحب الخاص من صندوق النقد الدولي.. " حتى مالنا الخاص؟ ؟ كما يقول لويد نقلا عن ماكميلان عن تهديد لجورج كافري وزير مالية أمريكا..

وفى رواية وليك كلارك مستشار العلاقات العامة لإيدن الذي استقال بسبب العدوان – ما يفيد أن الولايات المتحدة لم تدخر حتى احتمال الصدام المسلح مع المعتدين فقد قال : " إن الغزو الأنجلو- فرنسي لمصر تعطل 24 ساعة بسبب تحرشات الأسطول السادس واعتراضه طريق البوارج البريطانية – ص 365 من مذكرات وكيل الخارجية البريطانية –

وحاولت بريطانيا بعد وقف إطلاق النار أن تبقى في موقعها : بور سعيد وعشرين ميلا تحتلها من قناة السويس.ز وتساوم على هذا وتنتظر الفرج أو سقوط عبد الناصر.. " ولكن أمريكا أصرت على الانسحاب العاجل والشامل وبدون قيد ولا شرط"

ويقول سلوين لويد إنه سافر خصيصا إلى الولايات المتحدة " بأمل إقناعهم بالمساومة على العشرين ميلا التي نحتلها من القناة ولكنى فشلت.. ولذلك قررت أن أتقدم باستقالتي"

وكان " جورج همفرى" وزير المالية الامريكى صديق " بتلر" ( وزير مالية بريطانيا ولكنه قال له بصراحة : إن الولايات المتحدة لن تتحرك لمساعدة بريطانيا إلا إذا أعلنا قرارانا بالانسحاب".

لقد وضعت الولايات المتحدة كل ثقلها من أجل أن يكون انسحابنا بلا قد ولا شرط وكان علينا أن نقبل ذلك".

يخيل على أنه لو كان مثقفا لاستشهد بقول المهزوم العرب: مشيناها خطى كتبت علينا.. ومن كتبت عليه خطى مشاها.. " وفشلت جميع المحاولات البريطانية لزحزحة ايزنهاور عن إصراره بأن يكون الانسحاب البريطانى الفرنسي من بور سعيد بلا قيد ولا شرط".

أما ماكميلان الصقر في بداية الأزمة فقد تحول إلى حمامة فور سماعه بأخبار نيويورك عن فرض عقوبات نفطية، فقد ألقى بيديه إلى الوراء وصاح: عقوبات نفطية؟ هذا ينهى كل شيء".

نستمر مع فصول الدراما الأمريكية – البريطانية..

بعد وقف إطلاق النار وتأكد هزيمة بريطانيا اجتمع سلوين لويد مع مندوب أمريكا في الأمم المتحدة وقائد الحملة ضدها" كابوت لودج":

" وقد بدأ حديثه معي بموعظة أخلاقية، فقلت له: إذا كنا سنتحدث عن الإثم الأخلاقي.. فماذا عن جواتيمالا؟ .. ألم تتصرف الولايات المتحدة في 1954 بنفس الطريقة؟ كل الفرق أننا- وقتها- حاولنا أن نساعدكم في مجلس الأمن رغم كل الضغوط علينا. وقلت لو أن الولايات المتحدة لم تقد الحملة ضدنا في مجلس الأمن لأحرزنا نصرا رائعا .. ولكان ناصر في خبر كان.."

ولكن لويد لم تنته آلامه بعد.. ذهب على دلاس في المستشفى.. فإذا بالعجوز الامريكى يغمز له بعينه ويقول لك لماذا توقفتم.. ؟ لماذا لم تمضوا قدما فتسقطون ناصرا.."

ويعلق وزير خارجية بريطانيا :" ل أن قشة فعلا يمكن أن تقصم ظهر البعير لكانت ههذ دلاس الذي قاد الحملة ضدنا.. وأيد تحويل الأمر من مجلس الأمن للأمم المتحدة، وبذل كل جهد ممكن لهزيمتنا، الآن يتساءل لماذا توقفنا"؟

ومعروف أن الإنجليزى لثقل قلبه وبرودة حسه، لا يفهم النكتة من أول مرة ، ولم يكن دلاس في المستشفى في مزاج يسمح بإعادتها عليه؟ وقرر سلوين لويد أن يتحول إلى مكافح للامبريالية وداعية للاستقلال.

واجتمع مجلس الوزراء البريطانى في 8 يناير 1958 حيث أبلغهم سلوين لويد بالآتي:

" بعد الخلاف الخطير في الرأي مع الولايات المتحدة، فإن علينا أن نحاول جعل غرب أوربا أقل اعتمادا على أمريكا.. ولكنى لم أتلق عطفا كبيرا من زملائي لأن غالبيتهم اعتقدوا أن الأولوية يجب أن تعطى لترميم الجسور مع الولايات المتحدة".

اختارت بريطانيا قبول الأمر الوقاع، والتعلق بالقطار الامريكى ولو في الدرجة الثانية وكانت بحاجة إلى عشرين سنة أخرى للتأكد من حقيقة القوة الأوربية.

وبخروج الإنجليز والفرنسيين من بور سعيد، وخلوص القناة لمصر بلا قيد ولا شرط تحت الإدارة المصرية الخالصة.. هزمت بريطانيا وفرنسا، وانتصر عبد الناصر في معركة التأميم انتصارا كاملا غير منقوص، وهو النصر الذي استحق به تأييدنا وشكرنا بل وصبرنا خمس سنوات أخرى.. بل حتى الهزيمة الفادحة على أرض سيناء في نفس المعركة- وهو ما سنتعرض له- غفرنا له، وتلمسنا الأعذار من حداثة العهد ونقص الخبرة والغفلة عن الخطر الاسرائيلى، والانشغال بالجلاء.. لكن العذر الأكبر كان في توقعنا أنها أخطاء لن تتكرر وأنه سيستفيد مما وقوعها فيحول الخطأ إلى تجربة.

ولكننا لم نصر. . وما كان بوسعنا أن نصر على مناقشة تلك الأخطاء لكي نضمن تصحيحها وتلافيها.. فكانت النكبة الكبرى. واليوم بعد أكثر من ربه قرن، وبعد النكبة التاريخية والمصيرية.. يحاول نفس المذنب أن يقفل أعيننا ويسد آذاننا بالكذب والتضليل مرة أخرى؟

إن اتهام أمريكا بأنها كانت شريكا في العدوان هو مناورة متذاكية لتفادى السؤال ك وهو لماذا عارضت أمريكا العدوان؟ لما تجره الإجابة على هذا السؤال من إحراجات..

قلنا إنه من الناحية السياسية كان تأميم القناة في هذا الوقت بالذات ضربة معلم، فقد تم بعد جلاء القوات البريطانية ( رسميا ) ولم يعد من الممكن اتخاذه كحجة لإلغاء اتفاقية الجلاء من جانب بريطانيا ، وكانت تود ذلك، بل أصبح عليها أن تعيد غزو مصر.. ثم توقيت الضربة في وقت وصل فيه التناقض الامريكى.. الأنجلو – فرنسي ذروته، وربط مصالح مصر بإستراتيجية الطرف الأقوى في هذا التناقض ، جعل النصر مضمونا.. وخاصة أن الهدف من الوضوح والعمق في الوجدان الوطني المصري، مما جمع الإرادة المصرية، فلم تكن هناك ثغرة يمكن أن ينفذ منها العدو بمؤامراته.

وقد استطاعت الإدارة المصرية والدبلوماسية الأمريكية تأخير الغزو أكثر من ثلاثة شهور وهى بلا شك كانت فترة كافية للاستعدادات العسكرية لمواجهة هذا الغزو .. وهو ما لم يحدث..

وهنا ننتقل للجانب السلبي.. جانب الهزائم في معركة قناة السويس وذلك قبل أن نتفرغ لمناقشة هزيمة سيناء العسكرية في 1956.

أخطأت القيادة المصرية، ونفصد عبد الناصر باذلات، فهو وحده الذي وضع تقدر الموقف، بالاشتراك مع هيكل في رواية هيكل.. أو بالاستئناس برأي التسعة المشهور لهم بالثورة.. ولكنه في النهاية كان صاحب القرار.

ويشهد هيكل أن عبد الناصر أخطأ عندما تصور لأن لجوء بريطانيا وفرنسا إلى الأمم المتحدة يعنى أنه لم يبق لدى لندن وباريس ما تفعلانه ضد القاهرة غير تسجيل موقف في الأمم المتحدة" ويهز رأسه في حكمة متأخرة جدا:" وكان ذلك خطأ كما أثبتت الظروف فيما بعد".

وهذا التعالي والاتهام لعبد الناصر يعكس نوع الوفاء الاستثماري الذي يكنه هيكل لسيده السابق. وكتابه يتحدث في كل صفحة عن مشاورة الرئيس له، حتى يخرج القارئ بانطباع أنه ما كان أمرا إلا عن مشورة هيكل.. ولو كان وفيا أو يتمتع بذوق في فن الكتابة لقال " ولقد أخطأنا عندما تصورنا" أو أخطأت مصر عندما تصورت .. ولكنه حملها فقد نرجو أن يعترف هو بذلك.

ويقول هيكل إن عبد الناصر كان يعتقد أنه ما من " جنرال لديه يستطع قيادة المعركة السياسية الحاسمة والنهائية مثل محمود فوزي".

ويبدو أن عبد الناصر سيء الاختيار " للجنرالات" بصفة خاصة، حتى الجنرال السياسي لأن محمود فوزي، بشهادة هيكل خدعه همرشولد، وهو بدوره خدع عبد الناصر وذلك في رسالته بتاريخ 4 أكتوبر إذ كتب لجمال عبد الناصر من نيويورك:

" تكلمت مع همرشولد عن النوايا. وبينت له أنه إذا كانت النوايا مبيتة على عدم الوصول إلى اتفاق فليست هناك فائدة من جهود السكرتير العام.

وأجابني همرشولد بأنه يعرف سلوين لويد من زمن وأنه خاطبه في ألمر وخرج بانطباع، أو لويد، يرغب حقيقة في الوصول إلى حل رغم المظاهر، وهمرشولد يستبعد جدا استعمال الإنجليز للقوة، أما الفرنسيون فلهم متاعبهم الداخلية وهى كثيرة"فوزي.

ولم يقتصر التضليل على همرشولد ، بل اشترك الرفيق شبيلوف في التغرير بمحمود فوزي الذي بدوره ضلل القيادة المصرية، فقد كتب للرئيس عبد الناصر بتاريخ 11/10/1956:" قابلت شبيلوف الذي أعرب لي عن تأكده من أنه قد استبعدت أخيرا، الإجراءات العسكرية".

وهكذا ضلل الجنرال القائد العام، مع أن دلاس خان أصدقاءه وبلغ محمود فوزي بصريح العبارة:" ذكر لي دلاس أن بعض المسئولين في انجلترا وفرنسا لا يريدون حلا سلميا".

ويقول هيكل إن عبد الناصر أجرى تقدير موقف قبل التأميم وقدر أن احتمال التدخل العسكري سيتناقض من 80% في الأسبوع الأول من قرار التأميم إلى 20 بالمائة في نهاية أكتوبر ثم يبدأ في التلاشي بعد ذلك لأن الفرصة تكون قد أفلتت تماما وأن تقدير الموقف هذا تصور الغزو من ناحية الإسكندرية.

ويبدو أن الإنجليز بحثوا هذا الاحتمال في البداية، ولكن ابتداء من ألأسبوع الأول من سبتمبر استقر الرأي على بور سعيد ويصعب تصور أن فكرة الغزو من الإسكندرية كانت فكرة جدية، كما يصعب فهم كيف ظلت القيادة المصرية مقتنعة بها، رغم التجربة التاريخية حيث حاول الإنجليز وفشلوا مرتين في غزو مصر عن طريق الإسكندرية، واضطروا في المرة الثانية ( 1882) على تغيير طريق الغزو إلى قناة السويس ونجحوا .

وتجربة الحملة الأولى كان من الممكن أن تعطى مؤشرا للقيادة المصرية، حيث قابلت حملة فريزر 1807 مقاومة مؤثرة من الأهالي انتهت بفشل الحملة بل وهزيمتها هزيمة مذلة إذ راسلت الرءوس والأسرى وفيهم رأس " فاسال" كبير إلى شوارع القاهرة للاستعراض.. فالطريق من الإسكندرية إلى القاهرة يعرض الغزو لمجابهة الكثافة البشرية المصرية.. كذلك فإن الغزو كان يتعلل " بالقناة" فمن الطبيعي أن يسعى لاحتلالها والسيطرة عليها.

على أية حال عن هذه النقطة لم تلعب دورا كبيرا بالنسبة إلى الغزو الأنجلو- فرنسي.. ولكنها لعبت دورا خطيرا لصالح الغزو الاسرائيلى ذلك أن عبد الناصر قرر في 8 أغسطس سحب القوات المصرية من سيناء .. وسنعود لذلك بالتفصيل.

لا يملك المؤرخ إلا أن يسجل تخبط وعجز القيادة عن توقع الاحتمالات واتخاذها سلسلة قرارات تنبع أساسا من أحلام يقظة تدور كلها حول تمنى عدم الصدام مع إسرائيل مما ضاعف من فرص نجاح إسرائيل .. ولا نعرف من أين استقى حمروش معلوماته عن أن تقدير الموقف الذي وصل إليه مجلس الحكماء هو أن " الاحتمال الغالب هو دفع إسرائيل للهجوم وكان هذا احتمالا مرجحا عن أي غزو بريطاني وفرنسي".

فالإجراءات التي اتخذت تبدو أكثر من خاطئة إذا كان هذا تقديرهم فعلا إذ لا يعقل أن يكون الإجراء الذي اتخذ لمواجهة هجوم إسرائيل هو سحب الجيش ن سيناء .

رواية هيكل أكثر منطقا فضلا عن أنها مستمدة من وثيقة شاهدها هو بعينه ويعرف بالضبط أين هى في خزائن عبد الناصر.. وإليك ما قاله هيكل:" وقرأ جمال عبد الناصر تقرير المعلومات المعروض عليه عن أوضاع القوات البريطانية في المنطقة ودرجة استعدادها وأعاد قراءته أكثر من ثلاث مرات( وهذا يعنى أن هيكل كان قد قاعد يعد.. أو أن عبد الناص اهتم وسط كل هذه الزوابع بإبلاغ " محمد" أنه قرأها أكثر من ثلاث مرات ومالك على يمين ياسى محمد ) وقارن المصادر المتعددة للمعلومات ببعضها، ثم كتب بخط يده تحت التقرير حاشية تتضمن مجموعة ملاحظات نصها- كما نقلته فيما بعد من الوثيقة الأصلية.. وأظن أن الوثيقة الأصلية موجودة حتى اليوم في خزانة مكتب الرئيس جمال عبد الناصر في الدور الأرضي من بيته ( على يمينك وأنت داخل، حتى بالأمارة جنب الخاتم إياه اللي.. ما أنت عارف).

دعنا من هذا الهذر.. المهم أنه يقول إن عبد الناصر كتب بخط يده:

" مستحيل أن تلجأ بريطانيا ودها أو بريطانيا بالتنسيق مع فرنا إلى الاستعانة بإسرائيل في أي عملية ضد مصر لأن ذلك " يقلب الدنيا" في العالم العربي ضدها. بريطانيا لا يمكن أن تدخل في عملية من هذا النوع بالتنسيق مع إسرائيل ولا يمكن لايدن أن يفعل ذلك بسبب المصالح البريطانية والعلاقات البريطانية مع الملوك والشيوخ العرب"؟
بل وفى يوم أغسطس اتخذ عبد الناصر قرار سحب القوات المسلحة من سيناء، ويفسر هيكل هذا القرار المصيري بقوله:" كان جمال عبد الناصر لا يزال على اعتقاده بأن بريطانيا لا يمكن أن تسمح لنفسها بالاشتراك في معركة عسكرية جنبا على جنب مع إسرائيل .
" وهكذا عادت من سيناء فرقتان من فرق الجيش المصري، إحداهما فرقة مدرعة".

ولكن لماذا لم يخطر بالبال أن إسرائيل وبدون تنسيق، ستنتهز فرصة الغزو وانشغال مصر بمحاربة بريطانيا وفرنسا، وتهجم هى على سيناء؟ وهل كان بوسع الجيش المصري وقتها أن يصدر بريطانيا وفرنسا؟ فلماذا التركيز على الهجوم الأنجلو – فرنسي ، وإخلاء سيناء حيث الإمكانية أكبر احتمالا للتصدي لإسرائيل .. على أية حال حتى الحذر من الهجوم الأنجلو- فرنسي تلاشى في الأسابيع الأخيرة.. وساد الاسترخاء التام ورفض اتخاذ أي إجراء عسكري للدفاع أو الإعداد للمقاومة الشعبية.

لقد كان هناك إصرار في القيادة المصرية على رفض كل الدلائل التى تؤكد العدوان.. وقد أحصى مؤلف:ط مجتمع عبد الناصر" المصادر التي أبلغت عبد الناصر شخصيا بالعدوان وهى:

1- ثروت عكاشة الملحق العسكري بفرنسا، وصلته خطة تحرك القوات الفرنسية قبل العدوان بعشرة أيام. وأرسلها إلى جمال عبد الناصر بخطاب خاص مع الملحق الصحفي. عبد الرحمن لتسليمه شخصيا على جمال عبد الناصر وقد كتبه بخط يده من نسختين فقط أرسل واحدة واحتفظ بالأخرى".
2- ولم يقل إذا كان الملحق الصحفي تمكن من مقابلة الرئيس وسلمها له أم ما زال ينتظر المقابلة إلى اليوم في مكتب الجيار؟
3- زكريا العادلى إمام الملحق العسكري بتركيا عرف كافة أسرار الحشد العسكري في قبرص وإسرائيل عن طريق بعض المندوبين الأتراك الذين أرسلهم إلى هناك، عقب ملاحظته أن الأتراك ألغوا الأجازات وأعلنوا حالة الطوراىء القصوى، وأرسل نتيجة معلوماته ببرقية يوم 6 أكتوبر تقول:
4- " ستوجه انجلترا وفرنسا إنذارا نهائيا إلى مصر يعقبه عدوان جماعي بالتعاون مع إسرائيل في منتصف نوفمبر.. ثم تبعها ببرقية أخرى تقول:" رغم أن المعلومات عندي بأن الهجوم في منتصف نوفمبر إلا أن الظواهر تدل على أنه سيكون قبل آخر أكتوبر" أرسلها مع الملحق الادارى الذي سافر وعاد فورا.. وردت عليه المخابرات الحربية بأنه الملحق العسكري الوحيد الذي أبلغهم مثل هذه المعلومات( عل كانت تتوقع أن توزع هذه المعلومات في نشرة عامة على الملحقين؟).

" ولما استشعر الخطر سافر بنفسه إلى القاهرة يوم 19 أكتوبر ليبلغ عن أمرين: أولهما تدريب إسرائيل لفرد من عائلة الحوت لاغتيال حمال عبد الناصر، والثاني تكيد أخبار العدوان، وقد التقى بعبد الحكيم عامر، وأبلغه بكل ما يعرفه، دون أن يتلقى ردا شفويا .

ثم غادر القاهرة يوم 27/10/1956 دون أن تتاح له فرصة مقابلة جمال عبد الناصر رغم إصراره على ذلك".

نقطع استرسال حمروش لنعلق على هذه النقطة، فالحق أن " زكريا العادلة إمام" الذي لا يكاد يعرف اسمه، قد قدم للسلطات معلومات تكاد تكون صحيحة مائة في المائة.. عن دول الغزو وموعد الغزو.. ولكنها أهملت تماما.. وسنعود لذلك.

النقطة الثانية أنه عن طريق " الأتراك" وباسم الأخوة الإسلامية، ورغم تدهور العلاقات بين مصر وتركيا في هذا الوقت، حصل وحده على أدق المعلومات.. وذلك رغم توتر العلاقات كما قلنا بسبب حلف بغداد، وأهم من ذلك بسبب تأييد حكومة عبد الناصر لنشاط مكاريوس وجريفاس ومنظمة أيوكا، الرامية إلى إبادة المسلمين القبارصة وضم الجزيرة إلى اليونان استكمالا للحرب الصليبية اليونانية ضد تركيا.

وحمروش " الشيوعي" يقدم شهادته مستندا إلى شخصية موجودة وبرقيات الرجوع إليها.. أما المزور الأكبر عدو المسلمين ، فلا يفوته أن يشوه أو أن يشوش على هذه الواقعة ومغزاها .. فيفتري الاتى: " لكن الإنصاف يقتضى أن أذكر اليوم أن الصورة الكاملة لأوضاع القوات البريطانية ودرجة استعدادها في قبرص بصفة خاصة وفى البحر الأبيض بصفة عامة، جاءت من الأسقف مكاريوس زعيم قبرص ومن الجنرال حريفاس قائده العسكري- في ذلك الوقت- والمسئول أمامه عن المقاومة المسلحة لمنظمة أيوكا".

أولا: هذه المعلومات عن أوضاع القوات البريطانية في قبرص لم تكن مهمة لمصر لأن مصر لم تكن تفكر في غزو قبرص. وإنما كان المهم هو معرفة الاستعداد لغزو مصر.
ثانيا: وهذه من الناحية فهي باعتراف هيكل نفسه ساهمت في تضليل عبد الناصر واتخاذه القرار باستحالة الهجوم.
ثالثا: وهذه حقيقة تاريخية " ايوكا" أعلنت عشية الهجوم البريطانى على مصر " وقف جميع عملياتها العسكرية في الجزيرة" .

وكان المفروض بحكم الدعم الذي قدمناه ضد كل حقائق التاريخ وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، ورفض الروح الصليبية ، وكان المفروض أن توسع من عملياتها في مؤخرة الإنجليز.. وأذكر أنني لم أندهش لحظة يوم وصلت هذه البرقية على وكالات الأنباء .

فقد كان ذلك مطابقا لوجهة نظري حول خداع هؤلاء الصليبيين وأنهم يونانيون صليبيون يريدون ضم الجزيرة وإبادة المسلمين فيها ولا شيء آخر.. وأن كل ما يتحلون به ويرددون من شعارات ماركسية هو مجرد قشرة خارجية لإخفاء صليبية القرون الوسطى.. وأذكر أن " رفيقا" من الحزب الشيوعي القبرصي، كان يشرح لنا في السجن أن قبرص قطعة من اليونان جيولوجيا.. وكان المغفلون المصريون يؤيدونهم .. فلما جاءت لحظة الجد أوقفوا العمليات العسكرية ضد الإنجليز.

نعود لاستعراض حمروش للتحذيرات التي وردت للقيادة المصرية وأهملتها:

3- عقب عودة صلاح سالم من لندن حيث كان هناك وقت انعقاد المؤتمر الثاني ( جمعية المنتفعين) أبلغ جمال عبد الناصر أن العدوان مؤكد وحتمي.
4- سرب الأمريكيون معلومات إلى سفيرنا في واشنطون بأن الجنرال كيتلى قد اختير لقيادة غزو مصر وأنه يدرب رجاله في قبرص.

هذا ما أحصاه أحمد حمروش عن المعلومات المؤكدة التي وصلت للرئيس عن الغزو المنتظر. دون حاجة للرجوع إلى أوراق عبد الناصر الشخصية.. بل وأكد أن التحليل السياسي العادي كان لابد أن يفضى إلى توقع الهجوم واستشهد على ذلك بتصريحات ايدن في مجلس العموم الذي تحدث فيه عم حماية حقوق بريطانيا بوسائل أخرى.. وتهديدات روبرت منزيس رئيس وزراء استراليا لعبد الناصر شخصيا ( عبد الناصر كما وضحنا فهمها وقبلها على أنها تحذير).. الخ"..

وأورد هيكل أن بايرود( السفير الامريكى في مصر) قال لأحمد حسين في 15 يناير 1956" إنني لا أستبعد أن تبدأ إسرائيل الحرب".

وبالمقابل فإن السفير المصري في واشنطن- على ذمة هيكل- أبرق إلى القاهرة في 30 مارس 1956 يصف اجتماعا عقده مع هربرت هوفر مساعد زير الخارجية أبلغه فيه هوفر: أن الإنجليز في حالة عصبية جدا غاضبين من أمريكا لعدم انضمامها لحلف بغداد، ويعتبرون مصر الآن عدوهم المكشوف، وأن دعاية الحرب- كما يقولون – يمكن أن تتحول إلى حرب حقيقة" .

" وقال إنه لا يستبعد أن يشترك البريطانيون والإسرائيليون في محاولة اغتيال ناصر وعدد من البارزين المصريين.

وأضاف هيكل إلى السجل:" ابلغ أحمد حسين في فبراير 1956 بان إسرائيل سوف تهاجم مصر وأن انجلترا تحشد قوات".

وأيضا أبلغ أحمد حسين أن بريطانيا ستهاجم مصر أثناء الانتخابات الأمريكية ( وهو ما حدث) كما نقل أن الدكتور بن عبود الوزير بسفارة مراكش ابلغه أنه " علم من صديق يعمل في الـ سى آى ايه أن إسرائيل تستعد للهجوم في الأيام المقبلة وأنها تقوم بالاستيلاء على السيارات الخاصة في إسرائيل ".

يعنى تعبئة عامة والزعيم يصر على أنها مقص.

وهناك شهادة من داخل البلاط لها قيمتها فقد ذكر البغدادي أن " خالد محيى الدين أبلغ جمال عبد الناصر بمعلومات كان قد حصل عليها من أحد أصدقائه بباريس وتشر إلى أن فرنسا تعمل متعاونة مع إسرائيل لمهاجمتنا.. ولم يأخذ جمال عبد الناصر ههذ المعلومات التي أبلغه بها مأخذ الجد.. بل اعتقد هو وعبد الحكيم أن الغرض من إيصال تلك المعلومات إلينا هو لدفعنا إلى حشد قواتنا الدفاعية تجاه إسرائيل تاركين الإسكندرية ورشيد وهى طريق تقدم القوات البريطانية – كما قدر – دون قوات دفاعية كافية للتصدي لها".

بل إن رواية بغدادي أكثر هولا.. إذ يقول إنه على أثر تلقى عبد الناصر هذه المعلومات من خالد محيى الدين " قرر تفادى أي احتكاك أو صدام مع قوات إسرائيل ولذا أمر جمال عبد الناصر بانسحاب الفدائيين الذين كانوا في قطاع غزة".

العبارة غير مفهومة ، ولا أدرى هل هذا المقصود من بغدادي الذي لا يخفى نقده لعبد الناصر وكفاءته هو وعامر من الناحية العسكرية؟

ما المقصود بمنع الاحتكاك أو الصدام مع قوات إسرائيل ؟ .. داخل إسرائيل أم حتى إذا هجمت على مصر؟

لأنه إذا كان المقصود عدم الاحتكاك من جانبنا ، أو عدة الصدام مع قوات إسرائيل وهى خارج حدودنا.. كان يكفى أمر مشدد بوقف العمليات الفدائية. والمفروض أنهم جنود منضبطون.

أما سحبهم نهائيا من قطاع غزة، فالمقصود به منع الاحتكاك أو الصدام حتى لو بدأته إسرائيل .

هيكل وحمروش يفسران هذا الإصرار على تجاهل الحقائق المؤكدة التي وصلت على يد ملحقين عسكريين وأعضاء مجلس ثورة حاليين وسابقين ، وأتراك وأمريكان.. الخ يفسرانه بأن تقدير عبد الناصر الذي كتبه بخط يده في الوثيقة.. الخ أو بالتصريح الذي أدلى به إلى " كينيث لدف" في حديث صحفي بعد ذلك بثماني سنوات، قال فيه إنه استبعد لجوء البريطانيين إلى التحالف مع الإسرائيليين لاستعادة القناة بالقوة.

أما بالنسبة لفرنسا فكانت غير راضية عن حلف بغداد وكنت أعتقد أنهم منهمكون في الجزائر بما لا يسمح لهم بالحملة ضدنا؟؟ وقال هيكل إن عبد الناصر قرر أن نسبة الغزو وانخفضت إلى عشرة بالمائة ، بل إنه استبعد عمليا احتمال الغزو"؟

على أية حال الوقائع تدل على أن احتمال هجوم بريطاني كان واردا عند القيادة ولو بنسب متفاوتة ما بين ثمانين وعشرة بالمائة.. أما الاحتمال المستبعد تماما، والذي أصرت هذه القيادة على استبعاده رغم كل الدلائل.. فهو احتمال الغزو الاسرائيلى.

فقد نسب هيكل لعبد الناصر أنه عندما اختلى به وحده لوضع تقدير للموقف يوم 21 يوليو وبادره بأنه قد عرف أفكاره.. المهم قال له عبد الناصر حرفيا:" إسرائيل أيضا قد تفكر في التدخل ولكنها لا تستطيع اتخاذ تأميمنا لقناة السويس ذريعة لشن الحرب، ثم إن تدخل إسرائيل ضدنا سوف يجعل معركتها ضد مصر حربا ضد الأمة العربية كلها، وهذا يفرض على أمريكا محاولة فرملة إسرائيل .

ثم إن إسرائيل من مصلحتها أن تنتظر لكي ترى صراعنا مع الغرب كله يشتد ويعنف" وإنه لم يمكن يخشى أن يتدخل أي طرف إلا بريطانيا فهناك إذا حالة إصرار على رفض المواجهة مع إسرائيل ولو في تقدير موقف نظري.. ولاحظ الاعتماد على فرملة أمريكا لإسرائيل وهذه هى الظاهرة التي نود أن نقف عندها طويلا، لأنها – في رأينا- جوهر مأساة النظام الناص وإن تكن مترتبة على الخطيئة الأولى، وهى قبول تنفيذ الثورة بالتنسيق مع المخابرات الأمريكية.

والتفسيرات عديدة لهذا الإهمال الخطير الذي ارتكبته القيادة المصرية، والذي كان كافيا لتنبيهها – فيما بعد – إلى خطورة الاعتماد على مواهبها وحدها في تقدير الموقف، وضرورة الاستعانة بالخبراء والمحترفين ، من أهل الثقة في كفاءاتهم لا تبعيتهم. . وهو ما لم يحدث للأسف.

" لم يتحقق استنتاج عبد الناصر من تقدير موقفه وفوجئ يوم 29 أكتوبر بخبر يقول إن الإسرائيليين قد أعلنوا أنهم أرسلوا طابورا إلى سيناء للقضاء على الفدائيين ثم أعلنوا في نفس الليلة إن قواتهم تقترب من قناة السويس".

التفسيرات تختلف باختلاف الاجتهادات في تفسير ظاهرة الناصرية.

- فالذين يربطون حركة 23 يوليو بالأمريكيين ، يرون أن الزعيم كان مطمئنا لوعود الأمريكان لا عدوان. فنام على تأكيد رجل المخابرات الأمريكية الذي قال بجهالة أو عن غدر" ما دامت أمريكا لا تقر العدوان فلن يقع"
- أما المدرسة الرافضة للديكتاتورية، فهي ترى أن الحاكم الفرد المطلق عندما وضع تقدير الموقف في 22 يوليو 1956، وقرر أن احتمال الغزو وهو الأسبوع الأول من التأميم فهو يؤمم والإنجليز يهجمون وكأنهم ينتظرون في بور سعيد.. غافلا بالطبع عن تعقيدات إصدار قرار بالحرب في بلد ديمقراطي.. لا يحكم بالقرارات الفردية، ولا النزوات الطارئة، وأن لا أيد ولا ميوله، ولا هما معا، يتمتعان بسلطات شمس بدران أو شعراوي جمعة.
- ولما مرت الأسابيع ولم يحدث الغزو تأكدت.. صحة تحليل الزعيم. ومن ثم استحال تراجعه .. لأن الديكتاتور- في رأى هؤلاء- تستند ديكتاتوريته ومكانته على اقتناع بأنه لا يخطئ.. لأنه لو ثبت إمكانية خطئه، فسينظر إليه كمجرد بشر قابل للخطأ ومن ثم قابل للمناقشة والنقد والتعلم .. أي قابل للاعتراض على قراراته وأحكامه.. قابل للرفض.. دون أن يشكل ذلك خيانة وطنية، أو اعتراضا على حركة التاريخ وذلك لا يستقيم مع متطلبات الحكم الديكتاتوري ، ولذا فإن أية خسارة لا تهم ما دامت قدسية قرارات واستنتاجات الزعيم لا تمس ولا تخدش.. ولا تتغير .. أو كما قال كوبلاند" لقد حدث المحتوم للقادة من طراز ناصر، وأعنى قيام حاجز بينه وبين العالم الخارجي، هذا الحاجز الذي أصبح من الكثافة بحيث استحال وصول أية معلومات أو آراء إليه إلا ما يؤكد عصمته وخلوده".

وها التفسير على دقته من الناحية النفسية، وكقانون عام للنظم الديكتاتورية خاصة في البلدان المتخلفة، إلا أنه يغفل جانبا أكثر أهمية وخطورة في حالة مصر، يغفل عاملين:

الأول: العلاقة الخاصة التي كانت بين المخابرات الأمريكية سى آى ايه وعبد الناصر، وثقته المطلقة في تقديراتها ، وثابت من جميع الروايات أن مجموعة الـ سى آى ايه العاملة في مصر فوجئت بالعدوان ولم تكن تتوقعه. وفى نفس الوقت كانت على يقين من أن الولايات المتحدة تعارضه ، وهكذا صدق عبد الناصر رجال المخابرات الأمريكية وكذب الناس، وتحت تأثير اقتناعه بأمريكا اقتنع بأنها تملك أن تأمر بريطانيا وفرنسا وإسرائيل كل الوقت وفى كل القضايا .
أما العامل الثاني فهو الإصرار على إلغاء المواجهة المصرية – الإسرائيلية من قائمة الاهتمامات للقيادة الناصرية منذ أن تولت السلطة وإلى 5 يونيه 1967 .. وحرصها أو هل نقول التزامها بتجنب هذه المجابهة بأي ثمن.. وسنوضح أن الحجر الأساسي في الإستراتيجية الإسرائيلية هو المراهنة على هذا الالتزام المصري.. أعنى رفض المجابهة ومحاولة تحاشيها تماما.. وذلك من 1954 إلى 1973.

وقبل أن ننتقل لذلك نشير إلى الفرق بين دق وتعدد المعلومات التي وصلت للقيادة المصرية في 1956، وإن لم تعمل بها، وبين الغفلة التامة التي كانت تسبح فيها هذه القيادة في 1967.. لأن مصر كانت لا تزال حديثة عهد بالنظام الثورة.. لم تتغلغل فيها الروح الثورية على يد صلاح نصرالذي حول المخابرات إلى جهاز كبت للشعب وأكبر وكر فساد عرف في التاريخ، ويوما ما ستكشف حقائق تخزى أمة لعشرة قرون.. ولأن التصفيات قد استبعدت من الجهاز الدبلوماسي والمخابرات كل الشخصيات الراغبة والقادرة على العمل، وحتى لو أفلتت هذه الشخصية، فإن الإخطبوط الذي كان في القاهرة، ولم تعرف كل أسراره بعد.. كان كفيلا بمنع وصول جهودها إلى حيث يثمر مفعولها ..

وراجع حكاية ضياع إخطار نقطة الحدود بالهجوم الاسرائيلى البرى صباح 5 يونيه لأن الرسالة لم تفتح وراجع ضياع إنذار عبد المنعم رياض عن الحشد الجوى الاسرائيلى المتجه لمصر على شاشات الرادار، والذي لم يستقبل لأن الشفرة بالصدفة تغيرت صباح هذا اليوم باذلات ونسوا أن يبلغوها لمن وضعوهم على الحدود لهه المهمة فقط.. فلما أنجزوها لم يستلموها منهم.

الفصل التاسع : هزيمة في المعارك.. .. ونصر في الإذاعات

أحداث 1956 أثبتت أن العمالة بمفهوم التضحية بمصالح الوطن التزاما بتوجيهات أمريكا أكثر انطباقا على مصر الناصرية من إسرائيل ..

كيف دارت المعركة على أرض سيناء فيما وصفه هيكل بأنه " أكمل نصر في الحروب المحدودة" بل أكمل نصر عربي في تاريخهم الحديث..

" في الساعة الخامسة بعد الظهر تحرك لواء ميكانيكي إسرائيلي في اتجاه منطقة الكونتيى ، وعلى آخر ضوء تم إسقاط كتيبة مظلات إسرائيلية في منطقة سدر الحيطان في ممر متلا".

أين كانت القيادة المصرية.. وكيف وصلها النبأ .. ومن الذي أبلغها النبأ ؟ اليد ترتجف ، والجبين يقطر خزيا وعارا.. والقلب ينكسر ولعل ذلك ما قصد إليه هيكل في إيراد هذه الرواية:

" كان جمال عبد الناصر ساعتها يشترك في احتفال عيد ميلاد ابنه عبد الحميد، وسلمت إليه برقية وكالة يونايتدبريس تنقل البيان الرسمي الاسرائيلى، وقرأ عبد الناصر البرقية ثم ناولها إلى عبد الحكيم عامر، وكان يحضر حفلة عيد الميلاد، وخرج الاثنان من القاعة المليئة بالأطفال _ ربنا يحرسهم) وتوجها إلى غرفة مكتب عبد الناصر ومن هناك راح عبد الحكيم عامر يتصل بمقر القيادة العسكرية المصرية في كوبري القبة.

ولم تكن الوحدات المصرية في الميدان قد أبلغت بعد عن حدوث شيء".

يعنى لو لم تصدر إسرائيل بلاغا عسكريا بهجومها وتوزعه على وكالات الأنباء، وتحرضها على إبلاغه للعالم كله. لو لم تفعل إسرائيل لاستمر الرئيس والقائد العام للقوات المسلحة بين الأطفال أحباب الله إلى نهاية الحفل السعيد ثم انصرفا إلى السهرة أو النوم أو قطع فروة صلاح سالم.. دون أن يسمعا فضلا عن أن يواجها الغزو الاسرائيلى لسيناء.

ولا يجوز اتهام إسرائيل بالغفلة في إفشاء سر غزوها، لكي لا يريد أن يعلم، ولا بعداء خاص للطفل عبد الحميد، وتعمد تعكير حفل عيد ميلاده، بإعلان هجومها، بل ذلك كان ضمن الاتفاق الأنجلو فرنسي- الاسرائيلى، وهو أن تعلن إسرائيل أنها تشن حربا.. وليس مجرد مناوشات ، حتى يبدأ العد التنازلي لتنفيذ لجانب الأنجلو- فرنسي بتقديم الإنذار.. الخ.

رئيس الدولة ونائبه في حفلة عيد الميلاد ولحظة غزو مصر.. لماذا لا يحضر واحد ويبقى الآخر إلى جانب التيكر، ما دامت وكالات الأنباء أصبحت المصدر الوحيد الذي نعرف منه خبر غزو بلادنا، بل ونقلا عن تل أبيب .. إبراهيم ومراد عرفا بغزو نابليون من رسول محمد كريم في الإسكندرية في نهاية القرن الثامن عشرة ليس من القنصل الفرنساوي..

لا اتصال بين القيادة والجبهة.. لا القيادة السياسية ولا القيادة العسكرية التي لم يكن لديها أي خبر من " الوحدات المصرية في الميدان" حتى بعد قطع التورتة، وإذاعة وكالات الأنباء الخبر..

لا مخابرات ولا أجهزة إلا إذا كان الأمر يتعلق بوفدي أو إخواني أو شيوعي.. أو ضابط غير متجاوب في الجيش، عندها يكون عند القيادة الخبر اليقين..؟

هيكل يحملها " للوحدات في الميدان" فهي التي لم تكن قد أبلغت شيئا ؟ تبلغ من ؟ القيادة التي لم تسمع ولم تعلم رغم مرور ساعتين على الإنزال وبعد صدور البلاغ الاسرائيلى الثاني لم يكن لها أي اتصال بالجبهة.. حتى بعدما ذهبوا إلى القيادة وحضر بغدادي " لم يكن الموقف قد عرف بعد على حقيقته حتى تلك اللحظة" ولم تصل أخبار بعد" عن نزول قوات مظليين في سدر لحيطان".. والذي كان هادى البال عندما حدثه هيكل من " كابينة التليفون في مينا هاوس طلبت خطا خارجيا وأدرت بيدي رقم تليفون مكتب جمال عبد الناصر.. الخ وسألته " إذا كان يريدني أن أذهب إليه.. ؟ وكان تعليقه:" عندما تفرغ من عشائك مر على " لم يرد أن يفسد عليه العشاء رغم نزول الإسرائيليين في سدر حيطان.

ورغم تكرر الهزيمة في 1967 فقد ظل الجهاز الحاكم غارقا في هذه الغفلة وفى " الغاب عن الوجود الحضاري" وسيسمع الرئيس بعد 12 سنة أن المطليين الإسرائيليين ذاتهم نزلوا في إحدى الجزر المصرية وفكوا محطة الرادار وحملوها وانصرفوا ووصلوا بها إلى إسرائيل وأذاعوا النبأ من إذاعتهم ، وسيتصل الزعيم بقائد جيشه:" صحيح ما يذيعه راديو إسرائيل ؟ " فيرد قائد الجيش الذي كان سينفذ الخطة بزراميت أقصد جرانيت:" دقيقة واحدة سأل يا ريس وأخبرك".

وحتى بعدما وقع الغزو يقرر هيكل أن عبد الناصر كان يستبعد من ذهنه احتمالات التواطؤ. ثم " إن الطريقة التي بدأت بها العملية لم تنقل إليه الإحساس بأنه أمام شيء خطير.

كانت لديه تحفظاته التي تجعله يقطع بأن بريطانيا باذلات لديها من الروادع ما يصدها عن الاشتراك مع إسرائيل في عمل عسكري ضد مصر.

وكان تحت تصور أن مشكلة قناة السويس في طريقها إلى حل سياسي عندما يجتمع الدكتور محمود فوزي مع سلوين لويد وكريستيان بينو في جنيف بحضور هرشولد"

دعنا من حساباته إزاء بريطانيا وفرنسا.. لماذا لم يقنعه ما حدث بأنه أمام شيء خطير.. غزو برى، وإنزال كتيبة في عمق سيناء؟ ما هو الخطير.. إنزال في قصر القبة؟

نحن إذا أمام خطأ فادح في التقدي.. وإهمال جسيم في الاستفادة من المعلومات بل التصرف على عكس ما تتطلبه تماما.. مما أدى إلى إضعاف المقاومة المصرية، وتسهيل مهمة العدو في احتلال سيناء وتدمير جميع المنشآت فيها وتدمير جميع السلاح السوفيتي، وسلاح الطيران المصري..

ألم يكن سكوتنا عن مناقشة هذه الأخطاء عشر سنوات سببا لتكرارها في 1967 .. أيجوز أن نستمر في السكوت اليوم؟

وعندما تأكد أنه الغزو ماذا فعلت القيادة؟

اضطراب وتخبط وانقسام وزعل.. وأوامر متعارضة متضاربة كلها لصالح العدو..

رأينا كيف اتخذ عبد الناصر في 8 أغسطس ما وصفه باشكاتب الناصرية نفسه بأنه " قرار بالغ الأهمية، وهو القرار بسحب القوات المصرية من سيناء لأن جبهة القتال المحتملة قد تغيرت "، والقوات المصرية كانت في سيناء وسحبت هى القوات الدائمة، القوات الضاربة، أو القوة الأساسية ، المتمركزة هناك من 1948 ، المتوائمة مع الأرض، بخنادقها واستحكاماتها وحقول ألغامها وتمويهاتها، ونقط استطلاعها، وكل هذا يهجر بل ويدمر عندما يصدر أمر بالانسحاب لأن العدو على وشك الهجوم في جبهة أخرى، إذا لا أحد يفكر في العودة لهذه الجبهة وخاصة بالنسبة للفرقة المدرعة السيئة الحظ مع قيادة 23 يوليو، فهي لا تتاح لها الفرصة أبدا للبقاء في مواقعها والقتال وإنما هى دائما في حركة إما منسحبة بفعل قرار خاطئ أو عائدة على عجل لتصحيح قرار الانسحاب الخاطئ.

المهم كانت سيناء بلا مقاومة جدية، " صحراء" حقا مفتوحة للعدو.. واجتمعت القيادة.. ونترك عضو مجلس قيادة الثورة قائد الجناح " عبد اللطيف البغدادي" ينقل لنا صورة ما حدث.

" بعد أنتم استعراض الموقف وتقدير نية الإسرائيليين تقرر مقابلة هذا العدوان منهم بالقوة- أي بالحرب- وخاصة بعد أن تأكدنا من إنزالهم هذه القوة عند ممر متلا ولأنه اتضح أن العملية أكبر من أن تكون غارة من قوات عسكرية إسرائيلية على موقع من مواقعنا كما كانت العادة قد جرت من قبل.

وقد رؤى أنه من الضروري استخدام قواتنا الجوية في نفس الليلة لقذف قوات العدو التي أنزلت عند الممر أن تقوم أيضا في الصباح الباكر بتركيز ضرباتها على مطارات العدو وطائراته.

وأن تعمل قدر طاقتها للحصول على السيطرة الجوية حتى تتمكن بعد ذلك من العمل ضد قوات العدو الأرضية بمرونة وحرية.

" ثم حضر بعد ذلك " محمد صدقي محمود" رئيس هيئة أركان حرب القوات الجوية.

وصدرت إليه الأوامر بقيام قواتنا الجوية بضرب تلك القوات التي أنزلت عند الممر، وكذا مطارات العدو فورا.

ولكن ظهر عليه الاضطراب وارتباك وأبدى أن هناك بعض الصعوبات التي تعترض قيم الطائرات القاذفة بعملياتها فورا، بحجة عدم توافر الوقود اللازم لها بمطار غرب القاهرة- القاعدة الخاصة بقاذفات القنابل- ولما كانت القاعدة المأخوذ بها هى ملء خزانات الطائرات بالوقود يوميا بعد انتهاء طيرانها اليومي، لذا اقترحت عليه بعد أن ذكر هذه العقبة أن تقوم الطائرات بالمهمة المطلوبة منها في تلك الليلة بما تحمله في خزاناتها من وقود على أن يتخذ الإجراءات في نفس الوقت.

ليتم توافر كميات الوقود الضرورية بالقاعدة في الصباح وانصرف بعد ذلك.

" وبعد الانصراف تكلم معي جمال عبد الناصر مصرحا لي بأنه مستريح لصدقي للاضطراب الذي ظهر عليه.

وطلب منة مساعدة عبد الحكيم في الإشراف على القوات الجوية.

وانصرف الجميع بعد أن صدرت الأوامر لعدة وحدات من الجيش بالتحرك".

ويقول بغدادي إن عامر لم يقبل طلب ناصر أن يشرف بغدادي على الطيران " ففضلت عدم إحراج نفسي ولا إيجاد مشاكل في هذه الظروف، خاصة أنه ليس هناك قرار واضح يحدد مسئوليتي بالنسبة لهذا الشأن".

لا أحد يلوم عبد الناصر كثيرا على أنه لم يصدر أمرا بإقالة صدقي محمود في هذه اللحظة وتشكيل مجلس عسكري في الموقع وإعدامه.. وإن كان الاحتياط يتطلب إحالته إلى التقاعد وتسليم السلاح لضابط من المحترفين.. لا لعبد اللطيف بغداد الذي لم يتعرف على طائرة عسكرية منذ 1952..

ولا أحد يلوم عبد الناصر كثيرا على أنه في هذه اللحظة لم يسأل صدقي محمود كيف تترك قاعدة تموين القاذفات بدون بنزين، وهم يتوقعون غزو بريطانيا – فرنسيا.. بلاش إسرائيلي.. حتى ولو كانت النسبة عشرة بالمائة؟ وأين سيستخدم البنزين أفضل من تطيير الطائرات؟

ولكن اللوم كل اللوم أنه لم يحاسبه بعد الهزيمة.. بل أبقاه 11 سنة حتى فعلها فينا مرة أخرى بالتمام والكمال وتوفر البنزين ههذ المرة.

ربما نجح الإعلام " الهيكلي" في تغطية حقيقة ما جرى في سيناء عام 1956 .. بل حقيقة ما جرى على صعيد المواجهة العربية – الإسرائيلية.. ولذا لا أحد اهتم بمغزى عجز الطيران المصري أو شلله خلال الـ 24 ساعة الفاصلة في مصير الشرق الأوسط ما بين الهجوم الاسرائيلى، الساعة الخامسة بعد ظهر يوم 29 أكتوبر والإنذار البريطانى في الرابعة من بعد ظهر يوم 30 أكتوبر..

1- كان الطيران المصري أقوى من الطيران الاسرائيلى، والطيارون المصريون أفضل من زملائهم في عام 1967.. لم تكن قد تمت عملية الإفساد التي بدأت بحفلات " فؤاد محرم" وانتهت بالحفل الراقص ليلة الهجوم..

وكانت إسرائيل التي تستعد للحرب ضد مصر من يناير 1955 .. لا تخشى شيئا أكثر من هجمة الطيران المصري على مدن إسرائيل.. ( 150 طائرة ميج و 40 قاذفة اليوشن) وقد استغرقت هذه القضية جلسات طويلة وحادة بين الوفد الاسرائيلى والوفد البريطانى بالذات، إذ كان من جوريون يصر على ألا تبدأ إسرائيل هجومها إلا بعد أن يدمر السلاح الجوى البريطانى، السلاح الجوى المصري وقد استخدم بن جوريون عبارة " يمسح مدن إسرائيل " في حديثه عن إمكانيات الطيران المصري إذا ما دخلت إسرائيل الحرب قبل تدمير الطيران المصري. وكانت خطة بريطانيا باذلات أنها ستدعى دخول الحرب لفك الاشتباك بين مصر وإسرائيل وحماية القناة من قتالهما ، ومن ثم لابد أن تكون هناك حرب، وأن تستمر بعض الوقت حتى يقوم العذر على رجليه.. ولكن بن جوريون أصر على أن " إسرائيل لن تشن حربا وحدها" . وان إسرائيل ستتعرض لمخاطر شديدة، وخصوصا إذا شن الطيران المصري غارات على المدن الإسرائيلية" .

" وكانت المناقشة حامية وقد سألتهم ( موشى ديان) عما إذا كان السلاح الجوى الفرنسي سوف يهب لمساعدتنا إذا ما تعرضت مدنا للقصف خلال الساعات الأربع والعشرين الأولى عندما تكون طائراتنا كلها مشغولة فوق ميدان القتال؟ وكان ردهم بالسلب، وأضافوا إن البريطانيين يعترضون على هذه الفكرة لأنها- في رأيهم- تفسد السيناريو، وعند هذه النقطة انفجرت غضبا من المنطق نفسه ومن كثرة ترديد كلمة " السيناريو" .

وقلت لهم إن" شكسبير" كان كاتب سيناريو عبقريا، ولكنى أشك في أن أحدت في مجلس الوزراء قد ورث كفاءته".

وكان من المستحيل طبعا تلبية طلب إسرائيل ، بأن تبدأ بريطانيا وفرنسا الحرب بضرب المطارات المصرية، أو حتى بأن يتم الغزو في نفس التوقيتـ ولأن إسرائيل كانت متعطشة للحرب أو كما قال لموشى ديان" كان علينا ألا نضيع الفرصة التاريخية لمحاربة مصر مع فرنسا وربما بريطانيا أيضا.. فلن نكون وحدنا" ، وقال سلوين لويد :" كان بن جوريون يطلب منا تعهدا بتصفية السلاح الجوى المصري قبل أن تتقدم قواته في سيناء وإلا فإن مدن إسرائيل مثل تل أبيب ستمحى من الوجود"

إلى هذا الحد كان الرعب من مصر.. وبعد عشر سنوات من العمل الثوري، وبناء قوة مصر والدخول في عصر الحضارة ستدمر إسرائيل الطيران المصري بدون معونة السلاح الجوى البريطانى.

وكان الحل الوسط هو تقصير الوقت ما بين الهجوم الاسرائيلى والتدخل البريطانى ضد السلاح الجوى المصري، وكان ذلك في مخاطرة أكيدة، ونستطيع أن نتخيل اليوم النتائج التي كانت ستترتب عربيا، ومصريان وعلى صعيد المواجهة العربية والإسرائيلية ، لو أن السلاح الجوى المصري ضرب مدن إسرائيل وقتل ما بين عشرين ألف وخمسين ألف إسرائيلي في الأربع والعشرين ساعة ما بين بدء الحرب والتدخل البريطانى.

مهما أسرف الخيال، فلا يمكن المبالغة في النتائج التي كانت ممكنة ، فلا أحد كان يتوقع من مصر أن تهزم بريطانيا وفرنسا ولكن الرأس العربي كان سيرتفع شامخا مع كل ضربة تنزل بإسرائيل ن وكنا سنحطم جدار الأمن الذي اجتهدت أو تمحورت السياسة الاسرئيلية في توفيره للمواطن الاسرائيلى.. ربما كان تغير مصير الشرق الأوسط..

المهم خاطرت القيادة الإسرائيلية ، على العنصر الذي تميزت به القيادة المصرية في مواجهتها لإسرائيل، وهو عدم تصعيد أي اشتباك إلى مستوى الحرب.. يقول:" كنت آمل أن معارك الأيام الأولى ستكون محلية، وهذا يشجع المصريين على تقديرها بأنها ليست أكثر من عمليات ردع كبيرة، وبما أنهم لا يرغبون في تصعديها إلى حرب شاملة.

فلن يعبروا الحدود، ولن يقذفوا مدن إسرائيل ومطاراتها بالقنابل".

بالطبع كانت خطورة في المراهنة على هذا الاحتمال.

فلو ثبت خطأه وشنت مصر هجوما على المدن الإسرائيلية، فسندفع ثمنا غاليا ثمن تفويت الفرصة بمفاجأة الطائرات المصرية وهى لا تزال على الأرض ولكنى قدرت أن القيادة المصرية لن يكون لديها تصور صحيح لما يجى في الساعات الأولى.

وليس إلا في صباح اليوم الثاني حتى أن رئي الأركان المصري سيدرس رده من المؤكد أنه سيحشد كل قواته لمواجهة الوحدات الإسرائيلية التي تسللت إلى الأراضي المصرية ولكن لا أعتقد أنه سيرسل طائراته لضرب تل أبيب".

وقد ثبتت صحة تقديرنا وهو أننا إذا لم نهاجم مطارات المصريين فلن يمدوا نطاق عملياتهم الجوية خلف حدود سيناء".

لاحظ أنه حتى خاطر بخسارة فرصة مباغتته للطيران المصري، لأنه إذا فعل وضرب المطارات المصرية في القاهرة والإسكندرية فلا يمكن للقيادة المصرية أن تتعلل بأنها مجرد " اعتداء على الحدود" .. وعندها يمكن أن يصل جانب من السلاح الجوى المصري إلى مدن إسرائيل.. ولذلك حرص على إعطائها المبرر للتخاذل..

اعترف هيكل بهذه الحقيقة في الطبعة الإنجليزية، وأخفاها في الطبعة العربية، عندما قال إن خطة إسرائيل كانت :" عدم القيام بأي عمل لاستفزاز القوات الجوية المصرية للعمل، لأنه كل يخشى أنها يمكن أن ترد بالإغارة على تل أبيب وغيرها من المدن الإسرائيلية . وكان بن جوريون قلقا بالذات من الخطر الذي تشكله طائرات الأليوشن الثماني والعشرون . وهذا يفسر نقص النشاط الجوى في المرحلة الأولى، الأمر الذي حير القيادة في القاهرة "ص 183 خ.

حقا ربنا لا يحير مؤمنا..

ولماذا الحيرة؟ انتهزوا الفرصة واضربوا أنتم.. وإذا كان هذا يفسر نقص النشاط الجوى الاسرائيلى فما تفسير نقص النشاط أو انعدام النشاط الجوى المصري؟ والحق أنها نقطة مهمة، فصحيح أن ألأمور قد جرت وكأن تنسيقا مسبقا بين القاهرة وتل أبيب أو تعهدا مصريا بشل الطيران ومنعه من ضرب مدن إسرائيل ، إلا أن الدول التي يحكمها أبناؤها، لا تترك مجالا لمفاجأة أو خطأ مهما يكن نظرا.. إذ يحتمل أن يوجد في سلاح الطيران المصري أو في قيادة الجيش من ليس في اللعبة، ومن ثم يرى إخراج الطيران المصري، لمواجهة الطيران الاسرائيلى إذا شن هجموا واسعا، ورد الضربة في مدن إسرائيل.. وإن كان الزعيم قد احتط تماما فقص أجنحة الطائرات وسحب البنزين منها ومنع طيرانها.. وسجل هيكل له هذه المفخرة على قاعدة التمثال إياه " إن واحدا من أبرز القرارات التي اتخذها ناصر فور سقوط القنابل على القاهرة هو عدم الاشتراك في أية معارك جوية لأنه عرف أن الطيارين أهم لمصر من الطائرات .. الخ" 186خ.

وكما ترى لا يزال مصرا على التضليل والتزوير وعدم الإجابة على السؤال الذي طرحناه من سنوات .. وهو : لماذا لم يأمر بمعارك جوية قبل سقوط القنابل ، في الفترة من الهجوم الاسرائيلى على رفض الإنذار البريطانى؟

لماذا لم يقم طيارونا بغارة على تل أبيب ومدن إسرائيل.ز من الذي شل يد طيارينا عن تحقيق أمنية العرب العادلة..؟

لا يجيب .. على أية حال .. الطيارات ما كانشى فيها بنزين ..

وهكذا ضاعت 24 ساعة حاسمة فاصلة في تاريخ الشرق الأوسط، ووصل الإنذار البريطانى ولكن لم يأخذه جمال عبد الناصر مأخذ الجد، وكان يعتقد أن الغرض منه هو أن نعمل على الاحتفاظ بالجزء الأكبر من قواتنا دون تحريكها على أرض المعركة من سيناء.."

إذا جاءت معلومات بهجوم إسرائيلي، توقع أنها تضليل لستر هجوم بريطاني ، وإذا جاء إنذار بريطاني توقع أنه لتغطية إسرائيلي..

وينتقده البغدادي:" وكان هذا هو ما يعتقده جمال رغم المظاهر السابقة وصورة الجدية في تحريك انجلترا وفرنسا لقواتها على جزيرة مالطة وقبرص، ومواقفهما من الحلول السلمية المختلفة".

أخطأ الرئيس فهم نوعية العلاقة بين أمريكا من ناحية وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا من ناحية أخرى، فجهاز الإعلام المصري الذي يصف إسرائيل بأنها عملية أمريكا يفهم هذه العمالة بمصطلح " نورة السعيد" أي الخيانة، والتبعية حتى ضد المصلحة الذاتية ولذلك تصور أن أمريكا تستطيع " فرملة" إسرائيل على حد تعبير المتحدث الرسمي هيكل، وربما بريطانيا وفرنسا ولكن – المد لله- ثبتت الرؤيا أو بتعبيره تكشفت العملية بكل أبعادها عندما صعد إلى سطح البيت وشاهد القصف عل مطار العاصمة. كانت الطائرات قاذفات بعيدة المدى " كانيبرا" بريطانية في الغالب ( والله أعلم) ..وعلى العموم فلا أحد يملك في المنطقة قاذفات بعيدة المدى فير الإنجليز..

يعنى لازم هم..

إذا كانت قاذفة بعيدة المدى، وهذه هى القاهرة، واليوم هو الأربعاء.. فهؤلاء هم الإنجليز.. ونكون فعلا في حالة حرب.

كان عبد الناصر قد اتخذ قرارا بسحب القوات من سيناء في أغسطس 1956 وبذلك أصبحت " مكشوفى" بتعبير هيكل نفسه.

وكان ذلك أكبر مما تحلم بهن إسرائيل إذ جعل من الممكن أن تهبط مظلاتها في قلب سيناء.. وأن تنخفض خسائرها بنسبة كبيرة جدا، وما أبدته الوحدات المصرية القليلة المتناثرة من مقاومة مذهلة، يمكن أن يوحى بما كان يمكن أن ينزل بالجيش الاسرائيلى من ضربات قاصمة لو أن القوات لم تسحب من هناك.

بل إن هيكل يورد شبهة عجيبة على مسلك عبد الناصر فيصوره وكأنه كان يتعمد إخلاء سيناء لإسرائيل .. إذ يقول:

" وكانت المواقع المصرية شبه خالية لدرجة دفعت الجنرال " بيرنز" كبير مراقبي الهدنة إلى أن يكتب تقريرا " لاج همرشولد" السكرتير العام للأمم المتحدة يقول فيه:" إن تقلص حجم القوات على الخطوط المصرية يمثل إغراء شديد لإسرائيل " ولكن جمال عبد الناصر استبعد أن تقترب إسرائيل من هذا الإغراء في هذه المرحلة".

ممثل الأمم المتحدة يصرخ: نامت نواطير مصر عن ثعالبها.. أو " المال السايب يعلم الأولاد الحرام" .. وحاكم مصر لا يبالى ويصر على أن إسرائيل لا يمكن تعملها..

أعترف أن مثل هذه النصوص التي يقدمها هيكل تجعل التفسير القائل بيهودية عبد الناصر يلح إلحاحا لا يمكن مقاومته ، ومع ذلك أعترف أيضا أنني لا أملك أدلة مقنعة عليه، ومن ثم لا أحيد عن تفسيري وهو ارتباطه بالمؤامرة والمخابرات الأمريكية جعله يتخذ قرارات فاضحة في خدمتها لإسرائيل .. مثل إخلاء سيناء ومنع الطيران المصري من ضرب مدن إسرائيل ثم قرار الانسحاب الثاني.

وفور التأكد من الهجوم الاسرائيلى أصدر عبد الناصر الأمر للجيش بعبور القناة شرقا والتوجه إلى سيناء .. واتخذ عامر وضع الهجوم..

ورغم كراهية بغدادي لعامر وشهادته السيئة لأسلوب إدارته للمعركة إلا أن الشهادة نفسها تؤكد أن عامرا كان يقاتل بكل قواته، وكان ينفذ توجيه الرئيس بحرفياته وكان يأمل – وله الحق- في الانتصار على إسرائيل ، يقول بغدادي:" وفى يوم الثلاثاء 30 أكتوبر 1956 ذهبت على القيادة المشتركة في الساعة التاسعة صباحا فوجدت كمال الدين حسين موجودا مع عبد الحكيم . ولكن لاحظت أن عبد الحكيم يدير المعركة بحالة عصبية ويتولى إصدار الأوامر في كل كبيرة وصغيرة.

والقادة في الميدان لا يملكون التصرف إلا بعد الرجوع إليه.ز وهذا عيب كبير في إدارة المعارك الحربية.. وهو كقائد عام يجب عليه أن يتفرغ للأمور الهامة أثناء المعركة.

وقد لاحظت أيضا أنه كان يدفع بقوات كثيرة إلى أرض المعركة دون مبرر واضح يدعو إلى هذا التصرف، ولكن – على ما يظهر- كان يرغب في تحقيق نصر سريع، لأنه كان عندما يمر بعض الوقت دون سماع أخبار عن تحقيق النصر الذي يؤمله يقذف بقوات جديدة إلى أرض المعركة.

المهم أن القوات المصرية كانت في حالة اندفاع على سيناء .. ولم يكن الوقت قد سمح لها بعد بتحقيق انتصارات كما يستنتج بغدادي، فالأوامر صدرت بالهجوم في ليل يوم 29 وبغدادي في القيادة في التاسعة صباحا.. فتى على الأغلب وحتى مساء نفس اليوم إما ما زالت تعبر – وعبور القناة وقتها لم يكن بالعملية السهلة فلم يكن هناك إلا الكوبري وعبارة شبه يدوية- أو وصلت إلى سيناء وبدأت تأخذ مواقفها وتوزع مهماتها وتحاول تحديد مكان العدو.. وفجأة انقلب كل شيء رأسا على عقب..

قرر الرئيس الانسحاب.

وإليك رواية لمحامى العام:

" وكان جمال عبد الناصر في مقر قيادة القوات المسلحة في كوبري القبة يواجه مواقف بالغة العنف.

دخل هو إلى القيادة وفى ذهنه أن الانسحاب الكامل من سيناء ضروري حتى لا تقع كارثة كان يخشاها ويحسب لها، وكان عبد الحكيم عامر يعارض قرار الانسحاب من سيناء، وحاول عبد الناصر أن يتكلم بهدوء في بداية ألمر ويقول لعبد الحكيم عامر:

- ألا ترى أن استمرار تدفق قواتنا على سيناء معناه أننا نجرى بأقصى سرعة لكي نضع أنفسنا في فخ؟
إن قواتنا سوف تجد نفسها والإسرائيليون أمامها والإنجليز والفرنسيون وراءها، ولابد من تجمع القوات كلها في منطقة قناة السويس وإلى الغرب منها لخوض المعركة ضد العدو الرئيسي وهو بريطانيا وفرنسا، وبعدها يكون أمر إسرائيل سهلا".
" ويقاوم عبد الحكيم عامر لأسباب عاطفية قرار الانسحاب ويصر جمال عبد الناصر ويبعث الإشارات موقعة منه إلى قادة الوحدات المتقدمة في سيناء يأمرهم فيها بالانسحاب.

وكانت خطته على النحو التالي:

1- إن الكتائب الأصلية الثماني التي كانت موجودة في سيناء من الأصل عليها أن تقاوم مهما كان الثمن، وحتى إلى آخر رجل وآخر طلقة، لمدة ثمان وأربعين ساعة، وذلك حتى توقف تقدم الجيش الاسرائيلى في سيناء، فلا تشتبك مع القوات المتدفقة عليها بينما هى الآن تحاول الانسحاب عائدة إلى غرب قناة السويس.
2- على كل القوات المتدفقة عبر قناة السويس إلى الشرق، وفى مقدمتها الفرقة الرابعة المدرعة، أن تكمل انسحابها من سيناء في ظرف ست وثلاثين ساعة، مهما كان الثمن، وعليها أن تتمركز في منطقة القناة في مناطق شرق الدلتا، لتكون مستعدة لمواصلة القتال مع العدو على الجبهة الرئيسية للمعركة.
3- تعطيل الملاحة في قناة السويس، ونسف بعض السفن المحملة بالأسمنت فيها وسط المجرى الملاحي، ووضع كل غزاة القناة أمام واقع جديد.
4- على الطيران المصري ألا يشتبك مع العدو لأن المعركة غير متكافئة.
5- الاستعداد لحرب شعبية ممتدة ضد الاحتلال، حتى لو توقفت الحرب المنظمة واستطاعت قوات الغزو أن تتغلب على القوات النظامية للجيش المصري.

وتم ما طلبه جمال عبد الناصر.

أما بغدادي فيقول إن صلاح سالم هو الذي اقنع عبد الناصر بالانسحاب، ويقول :" في العاشرة والثلث مساء صدر قرار الانسحاب الشامل لقواتنا من تلك المناطق، سيناء وحتى من قطاع غزة ورفح والعريش وشرم الشيخ".
وبغدادي يجعل القرار جماعيا.. ولا يشير بحرف إلى معارضة عامر العنيفة لقرار الانسحاب.. ولو كان فيه الخير – أي قرار الانسحاب- لأطنب في تسجيل معارضة عامر..

ويقول حمروش:" قرر عبد الناصر سحب قوات الجيش إلى منطقة القناة لتقف مع الشعب في دفاعه عن حريته وقناته بدلا من دفعها إلى سيناء وهى ثمن مساحة مصر كلها والقوات المتيسرة ليست كافية للدفاع عنها في ظروف تفرض الصحراء فيها متاعب إدارية وفنية كبيرة".

عبيد السوء هؤلاء الذين اغتالوا سيدهم يكرهون سيناء وهى عندهم صحراء، وباعتبارهم مهاجرين من بروكلين ومانهاتن وكييف لا يقدرون على حرب الصحراء ومتاعبها الإدارية والفنية مثل " البدو اليهود" ولذلك يتركونها لهم كلما هجموا.

لماذا يخلى ثمن مساحة مصر؟ لماذا لا يدافع الجيش عن حريتنا وقناتنا على الضفة الشرقية للقناة؟ وأي دفاع عن القناة هذا إذ سمحت للعدو بالوصول إلى شاطئها الشرقي.. وإذا كنت تريد الدفاع عن شاطئها الشرقي كما سيدعى بعد بضعة سطور، وبعكس الأمر الصريح الذي أثبته هيكل العليم، بالانسحاب إلى الضفة الغربية، إذا كنت ستدافع على شاطئ سيناء فلماذا لا تدافع في الممرات؟

وهل هذه قضايا يقررها عبد الناصر، حتى إذا كان قريب العهد من عمله في مدرسة الأركان؟ إن خطة الاستيلاء على مقر قيادة الجيش يوم 23 يوليو لم يضعها عبد الناصر بل كلفوا بها زكريا محيى الدين ، لماذا يترك للعسكريين الذين أوكلت لهم الثورة مسئولية الجيش ، اتخذا القرار؟

عبد الحكيم عامر وضباطه رفضوا الانسحاب وقرروا أنه من المصلحة الالتحام مع الجيش الاسرائيلى في سيناء وتكبيده أكبر خسارة ممكنة. فهذا من ناحية يفيد الإستراتيجية المصرية على المدى البعيد لأن إسرائيل هى العدو الدائم والجار المقيم، ولأن القتال كان سيطعم الجنود بالدم، فيتعودون الصمود والاشتباك مع اليهود.. والسلاح كان متوافرا أكثر من أي وقت منذ 1948، وهذه فرصة التعميد بالنار كما يقولون، ولأنه " سوف ينتهي الغزو البريطانى والفرنسي يوما وتبقى إسرائيل أمامنا".

ويرى العسكريون وفى مقدمتهم عبد الحكيم عامر أن الانسحاب سيدمر الروح المعنوية للعسكريين والشعب، بل والشعوب العربية وسيخلق سابقة سيئة في أول حرب تخوضها الثورة ضد العدو الدائم كما أنه سيضاعف الخسائر، إذ لا تغطية جوية ومن ثم فالاحتمال الأرجح هو فقدان كل العتاد العسكري ونسبة هائلة من الجنود فلا يبقى ما يدافع به عن قناتنا وحريتنا.

وهذا نص أمر عبد الناصر : الانسحاب من سيناء في ظرف سن وثلاثين ساعة مهما كان الثمن . وما هو الثمن هنا؟ إلا العتاد وعدم المبالاة بالخسائر في الأرواح.

وهو ما حدث فعلا.. أو كما يقول هيكل : "وتم لعبد الناصر ما أراد". وكأنه فتح تل أبيب..

ولنفرض أن الجيش المصري حوصر فعلا بين الجيش الاسرائيلى والجيش البريطانى الذي لم يتخذ موقعا على أرض مصر إلا قبل وقف إطلاق النار بيوم واحد، ولم يتجاوز بور سعيد بينما بقى الجزء ألكبر من القناة مفتوحا للجيش المصري إذا شاء القتال.. لنفرض أنه حوصر هل كانت الخسارة ستكون أفدح.. ؟

لقد خسرت مصر جميع الأسلحة البرية والجوية، وانفرط عقد الجيش تماما، وصدر الأمر – كما يقول هيكل للكتائب الثماني في سيناء أن تنسحب " كل رجل على مسئوليته" أي تفرقوا أيدي سبأ..

انسحب الضباط ومن نجا من الجنود بالملابس المدنية بعد أن هجروا أسلحتهم الثقيلة وباعوا الخفيفة للبدو مقابل الحصول على جلباب وحذاء غير عسكري وجرعة ماء.

وكانت إسرائيل تعتقل الضباط وتترك الجنود وتجبرهم على عبور سيناء حفاة جياعا شبه عراة.. وتطاردهم بالطائرات في ما يشبه لعبة صيد الآدميين.. وقد خلا لها الجو..

وقال جولدا مائير: إنهم انتقوا خمسة آلاف فقط كأسرى من بين ثلاثين ألف جندي مصري كانوا هائمين في سيناء بلا ضابط ولا رابط فريسة مكشوفة للطيران الاسرائيلى الجبان، الذي لا يظهر إلا بعد تدمير الطيران المصري.

هل هذه الخطة كانت أبرع من استشهاد ضباطنا في ثيابهم الرسمية فوق دباباتهم وعلى رأس جنودهم؟

وللحقيقة والتاريخ يسجل حمروش أن عبد الحكيم عامر رفض قرار الانسحاب " وظل في مناقشة عاصفة معه ( جمال عبد الناصر) طوال الليل مما أخر سحب الدبابات قليلا". .

وأخيرا رضخ عامر، أو تمت تنحيته حسب رواية هيكل إذ راح عبد الناصر " يبعث الإشارات موقعة منه إلى قادة الوحدات المتقدمة في سيناء يأمرها بالانسحاب".

وتخيل معنوية القادة والأوامر تصلهم من رئيس الجمهورية ويتساءلون أين القائد العام. ماذا جرى؟..

وظهر خلاف جديد

الانسحاب تم كما توقعه عامر، وكما حاول طول الليل أن يتفاداه ، فالجيش المصري غير الجيش البريطانى الذي يقال فيه إنه كان ينتصر ببراعة انسحابه.. فما إن صدر الأمر للجيش بالانسحاب والالتحام مع الشعب وبأي ثمن؟ حتى انسحبت القيادات إلى الزقازيق.. " ولكن جمال عبد الناصر أوضح لهم أنه لا يجوز ترك القناة عارية بلا دفاع لأن ذلك يسهل للمهاجمين اقتحامها دون عناء وأنهم سيقفون هند حدود ذلك دون رغبة في اقتحام الدلتا أو الوصول إلى القاهرة".
" وحدث خلاف جديد بين جمال عبد الناصر وبين العسكريين من رجال الجيش الذين تصوروا أن التحام الشعب بالجيش يكون بسحب القوات إلى غرب القناة حيث تزيد كثافة السكان ونقلوا مركز الرئاسة إلى الزقازيق فعلا".

وهذا هو المفهوم المتوقع إذ لا شعب في صحراء سناء يلتحمون به.. ولماذا الاستنتاج ، وها هو الأمين على الناصرية الذي يطلع على الوثائق في الخزائن التي في الدور الأرضي ..

يقول حرفيا إن أمر عبد الناصر هو :" تجمع القوات كلها في منطقة قناة السويس وإلى الغرب منها لخوض المعركة ضد العدو الرئيسي وهو بريطانيا وفرنسا".

" تحاول الانسحاب عائدة إلى غرب قناة السويس " ص 234 الفرقة المدرعة " تتمركز في منطقة القناة وفى مناطق شرق الدلتا" ص 234.

هذا كله هذر .. الانسحاب بالصيغة التي صدر بها، كان وقف إطلاق نار وتسليم سيناء بلا قيد ولا شرط..

1- سحب جيش ما زال مندفعا في طريقه إلى المعركة.. وبعد أن قذف بمعظم القوات إلى ارض المعركة.
2- الأمر بالانسحاب " مهما كان الثمن"
3- سحب الطيران نهائيا من المعكرة ولا حتى من تغطية الانسحاب " على الطيران المصري ألا يشتبك مع العدو لأن المعركة غير متكافئة وليس مهما تدمير الطائرات المصرية.. الخ".

4- إرباك العسكريين بجملة إنشائية سخيفة: " الالتحام مع الشعب" التى لا مكان لها في التوجيهات العسكرية فالالتحام يكون مع العدو في معركة طاحنة.. وكان أن فهمها العسكريون بأنها تعنى الاختفاء داخل الحدائق وبين المنازل.. والتحول إلى المقاومة الشعبية.

إن أمر الجيش " بالالتحام مع الشعب" تعبير معروف يقصد به حل الجيش أو الاعتراف بانحلال الجيش . لأن القوات المسلحة النظامية، طالما تحتفظ بكيانها فليس المطلوب منها الالتحام مع الشعب، وإنما منع نار الحرب من الوصول إلى الشعب.

وإذا كنا نعتقد أن عبد الحكيم عامر هو أسوا قائد تولى قيادة الجيش المصري منذ مراد وإبراهيم باستثناء محمد فوزي.. إلا أن الإنصاف يقتضى القول بأنه لا يتحمل مسئولية كبيرة فيما جرى خلال حرب سيناء هذه – وأقصد يوميات القتال- فلم يكن الأمر أمره، لا التقدير تقديره ولا القرار قراره.

عبد الناصر يحمل المسئولية لكاملة فيما نزل بجيشنا، فقد " تم له ما أراد" بنص كلمات هيكل الفرحة.

" واستقرت الخطة الدفاعية على أساس تفكير جمال عبد الناصر " كما يقول حمروش، ثم يعود فيناقض نفسه ويقول إن " عبد الحكيم عامر" كان يستحق المحاكمة على قيادته للجيش في حرب 1956 وهو ظلم مبين للرجل.. فبعد قرار الانسحاب لم تعد هناك معركة .. ولا حرب.. عبد الناصر هو الذي أصدر قرار الانسحاب وكان سعيدا وفخورا به.. " فعندما أبلغ جمال عبد الناصر أن عملية الانسحاب قد تمت قال:" شعرت على الفور ساعة أخطرت، أن مصر كسبت المعركة حين أحبطت خطة العدو ولو أن قرار الانسحاب قد تأخر 24 ساعة فقد كان الأمر كله قد انتهى".

معركة وكسبناها.. فلماذا يستحق القائد العام المحاكمة؟..

ونعتقد أن هذه هى عينة من الشعارات المسبوكة التي وضعت فيما بعد لقلب الصورة، وجعل الهزيمة انتصارا، والقرار الخاطئ بالانسحاب عبقرية وإلا فما الذي تحقق بالانسحاب من سيناء؟.

مائة وثلاثة ملايين جنيه ثمن السلاح الذي دمر أو سقط في يد العدو.. واستشهاد الآلاف من شبابنا..

ما المعركة التي كسبتها مصر بالانسحاب؟

لم يكن سلوك عبد الناصر وكلماته في لحظات الصدق مع النفس خلال الحرب تعكس مثل هذا الادعاء بنجاح الخطة وكسب المعركة ، فقد كان يبكى ويقول " خزلنى جيشي" وليس هكذا يتكلم القائد الذي كسب المعركة بفرق 24 ساعة.

هذا كلام كان يقبل ويردد بدون مناقشة يوم كان عبد الحليم حافظ يغنى له :" قول ما بدالك احنا رجالك ودراعك اليمين " .. حتى فنت الرجال وقطع اليمين ..

كذلك قد عرفنا من شهادة بغدادي وتحليل موشى ديان سبب عدم اشتراك الطيران المصري في المعركة، وسر انتظار الطائرات حتى جاء الإنجليز وحطموها على الأرض في يوم واحد وكانوا يتوقعون يومين ، ولكن هيكل كالدبة التي تقل صاحبها، ينسب هذا إلى الرئيس عبد الناصر نفسه عندما يقول إنه اصدر أمره بالآتي:

" على الطيران المصري ألا يشتبك مع العدو لأن المعركة غير متكافئة ، ليس مهما تدمير الطائرات المصرية، وإنما المهم الحفاظ على الطيارين المصريين المدربين وعددهم محدود.

وإذا تمكن العدو من اصطيادهم في الجو وإسقاط طائراتهم وهم فيها، وقتلهم. فسوف تمر عشر سنوات قبل أن يكون لمصر طيارون قادرون على العمل.

والأوضاع الحالية لا تترك للطيران المصري فرصة ، فأمامه قرابة ألف طائرة بريطانية فرنسية إسرائيلية.

وليس لمصر أكثر من مائة وعشرين طيارا مدربا ولسوف ينتهي الغزو البريطانى الفرنسي يوما وتبقى إسرائيل أمامنا، ولا نستطيع أن نواجهها بغير طيارين".

ولأنه مجرد " إنشا ورص كلام" أو بصراحة مجرد أكاذيب فهو يتناقض مع بعضه.. إذا كان الانسحاب من سيناء هو موضوع التبرير تصبح " بريطانيا وفرنسا هما العدو الرئيسي ، وبعدها يكون أمر إسرائيل سهلا" ص 233 .

فإذا انقلب إلى الدفاع عن تدمير السلاح الجوى، أصبح الغزو الإنجليزى- فرنسي ظاهرة عارضة أما إسرائيل فهي العدو الدائم الباقي ص 234.

سلوين لويد قال : إن عبد الناصر كان لديه جهاز إعلام يحسده عليه " جوبلز" ربما .. ولكن " جوبلز" لم يكن يكذب على نفسه، وعلى هذا النحو المفضوح التناقض .. وفى إحصاء هيكل لما تم طلبه جمال عبد الناصر:

أحصى الآتي:

- " استطاعت الكتائب المصرية الثماني في سيناء أن تقاتل وأن تصمد في قتالها على مدى الثماني والأربعين ساعة المطلوبة منها، ولم تستطيع القوات الإسرائيلية أن تتقدم على محاور سيناء الأربعة إلا بعد أن توقفت مقاومة هذه الكتائب- بعد الموعد المقرر لها- وبدأ انسحابها، وكان رأى قادتها أنها لا تستطيع الانسحاب بطريقة منظمة، وخصوصا أنها أبلت في القتال بلاء حسنا، وهكذا كان الأمر لـ " كل رجل على مسئوليته".
- عادت القوات التي كانت تتدفق على سيناء وفى مقدمتها الفرقة الرابعة المدرعة، وكان الطيران البريطانى الفرنسي قد ركز عليها لتدميرها أثناء انسحابها، ولكنه لم ينجح إلا في إصابة بعض مركباتها الخفيفة، وأما القوة المدرعة الرئيسية فقد تمكنت من العودة سالمة إلى مواقعها الجديدة.
- تم تعطيل قناة السويس، وتوقف شريانها الحيوي عن الضخ، ووجد الذين كانوا يحاولون ضمان حرية الملاحة في القناة أن القناة توقف نبضها.
- ابتعد الطيارون المصريون عن سماء المعركة أمام تفوق لا قبل لهم به وهو كفيل بالقضاء عليهم جميعا واحدا واحدا.
- كان الاستعداد لمواصلة الحرب الشعبية على قدم وساق، واختار جمال عبد الناصر موقعا في وسط الدلتا قرب طنطا ليكون مقر قيادته في حرب كل الشعب ضد الغزو، إذا كانت هناك ضرورة لذلك".

لنناقش هذه الادعاءات :

1- وإذا كنا سنعود لهذه النقطة فيما بعد إلا أننا نسجل اعتراف هيكل بأن قرار الانسحاب هو الذي أوقف المقاومة المصرية للقوات الإسرائيلية.
ولقد كانت مقاومة باسلة وعلى أعلى مستوى، وكان يمكن أن تغير الصورة لولا الأمر بالانسحاب، وكأن القيادة المصرة كانت تعمل مع القوات الإسرائيلية، وإلا فكيف تفسر موقفها من هذه القوات التي وصفها بأنها " صامدة ومستمرة في القتال، ولا سبيل لتأمين سلامتها، بل ولا تستطيع الانسحاب بطريقة منظمة.
فإذا بالقيادة تنفض يدها منهم.. بل يا ليت . . يا ليتها تركتهم يقاتلون إلى آخر جندي أو إلى آخر طلقة ثم يؤسرون كما يحدث في كل الحروب، بعد أن يعطلوا تقدم العدو ويكبدوه أكبر خسارة ممكنة.. لا .. تأمرهم " بالانسحاب كل رجل على مسئوليته" .. وهو أمر لا يعنى إلا التمزق والتحلل من الانضباط العسكري والروح الجماعية ، التحول إلى وحوش كل منهم يحاول النجاة بجلده.. ؟ لماذا ؟؟ لماذا تأمرهم بوقف القتال .. ولماذا تصدر هذا الأمر القبيح " كل رجل على مسئوليته".
- وأي " جوبلز" هذا الذي يحسد إعلاما يردد نجمه هذا الأمر الغريب، أو التخلي عن مسئولية تأمين الانسحاب لهؤلاء الأبطال والسبب " أنهم أبلوا في القتال بلاء حسنا"..
هل الذي يبلى في القتال بلاء حسنا.. نسرحه ونقول له دبر حالك.. خذ بالك من اليهود وأنت ماشى؟ ما هذا الهذر ؟ وكيف يفسق في تاريخنا هذا الجاهل.. يقول :" وكان رأى قادتها أنها لا تستطيع الانسحاب بطريقة منظمة، وخصوصا أنها أبلت في القتال بلاء حسنا. وهكذا كان الأمر لها:" كل رجل على مسئوليته" ص 235 .
إن كان هذا كلام عاقل فهو مريب الهدف.
وإن كان هذا هو منطق هيكل فيا حسرة على أمة كان هو المصدر الوحيد للمعرفة فيها، ومستشار قيادتها؟
2- يعترف أن القوات المدرعة التي كانت تتدفق على سيناء وفى مقدمتها الفرقة الرابعة انسحبت تحت ضرب الطيران البريطانى والفرنسي" الذي ركز على تدميرها أثناء انسحابها " ولكنه يزعم أن الطيران البريطانى والفرنسي أو الألف طائرة إياها ( ولا ندرى لماذا استثنى الطيران الاسرائيلى من هذه المهمة) لم ينجح .. ولا يفسر لنا سبب ذلك.. فالقوات تعبر مضيقا مائيا لا يمكن أن تعبر عليه إلا عربة واحدة في الوقت الواحد، وبلا غطاء جوى لأن الحكيم قرر أن لطيارين أهم من أن يخوضوا حربا فيقتلهم العدو داخل طائراتهم.. لماذا وكيف فشلت الألف طائرة في اصطياد هدف مكشوف محصور مثل هذا ؟
سنقدم في هذا الأمر شهادة عبد الناصر نفسه .. ولكن ألم يكن وضع هذه القوات في سيناء أفضل وهى مشتبكة مع العدو، مما يقلل طيران العدو بسبب الاشتباك.. الم يكن هذا أفضل من وضعها وهى تقوم بدورة 360 درجة من الاندفاع إلى الهجوم إلى التراجع وجيش إسرائيل في ظهرها وألف طائرة فوقها؟

وانظر تعليق ارسكين تشايلدرز في كتابه الطريق إلى السويس:

وكان الانسحاب أمرا شاقا في وجه هذه الأوضاع التي لم يلقها جيش من الجيوش في الحروب العصرية ، لا سيما بعد أن فقدت القوات المنسحبة أي غطاء جوى، بعد قرار وقف النشاط الجوى المصري وأصبحت هدفا صالحا للطائرات النفاثة المغيرة التي تستخدم ضدها المدافع الرشاشة والصواريخ والقنابل وقذائف النابالم المحرقة" ولم يكن هناك أي أمل في النجاة أو الرد على الطائرات المغيرة، ولم يكن ثمة مكان تحتفي فيه هذه القوات ، فالأرض صحراوية ومكشوفة تعلوها الرمال".
هذا ما فعله عبد الناصر بآبائكم وإخوانكم وأبطال جيشكم يا جيل الناصرية الجديدة. فلمن ولاؤكم؟
3- تهريب الطيارين من المعركة، يصل إلى درجة الخيانة العظمى والتآمر لصالح إسرائيل فإن كان مجرد قرار أو اجتهاد ، فقد كان قرارا خاطئا، فلو كانوا قاتلوا وقتلوا في طائراتهم وخلف مدافعهم، وهم يتعرضون لطائرات العدو ويسقطون منها قدر جهدهم لخلقوا تقاليد سلاحنا الجوى، ودافعوا عن شرف هذا السلاح وأضافوا لتراث الوطن العسكري.. وخففوا بلا شك من خسائرنا وأنزلوا الخسارة بالعدو وخاصة في اليوم الأول قبل تدخل الطيران البريطانى.. وحتى لو استشهدوا جميعا.. حتى لو صدقنا خرافة أننا نحتاج لعشر سنوات أخرى.. وليكن.. فمعنى ذلك أننا كنا سنكون جاهزين في نوفمبر 1966 وهو وقت كاف جدا لخوض حرب 1967 وإلا فلماذا فعلنا وإلا فماذا فعلنا بطيارينا الذين أنقذناهم ، في الفترة ما بين 1956- 1967 إلا ضرب الحدود السعودية، والمعارضة اليمنية.. ؟
4- ولماذا نلوم صدقي محمود إذا نفذ توجيهات الزعيم، وصدق كل ما قيل عن عبقريتها .. فأنقذ الطيارين مرة أخرى وترك الطائرات تدمر في 1967؟

وإذا كان هيكل قد " كلفت" معركة سيناء في أقل من صفحة في كتاب من ثلاثمائة وأربع صفحات مخصص لإثبات أنها كانت أكمل نصر عربي.. فلأنه يريد أن يخفى الحقائق التي تفضح كذبه.. ولذلك لابد أن نقدم نحن صورة ما جرى فعلا في حرب سيناء. .

ونبدأ بشبه الماركسي الحائر بين ما ظل يردده باعتباره من المسئولين في الإعلام الناصري عن " نصر السويس" وبين الحقائق التي يعملها وتعلمها..

قال حمروش:" كان مفروضا أن يحاكم عبد الحكيم عامر عسكريا على موقف القوات المسلحة في عدوان 1956 الذي ثبت يقينا أنها لم تؤد دورها كما يجب مع تقدير وجودها في مرحلة انتقال.. الخ".

وقد ناقشنا حجم مسئولية عامر وسنناقشه، وإنما المهم هنا هو الاعتراف بأن التقصير وصل إلى حد استحقاق القائد العام للمحاكمة العسكرية، وهى صورة لا توحي أبدا " بنصر كامل" فضلا عن "أكمل نصر في تاريخ العرب الحديث"؟ يا لعار تاريخ العرب الحديث إذا كان أكمل نصرهم يستوجب محاكمة قائدهم؟

ويقول :" كانت المقاومة الشعبية تقاتل في بور سعيد بينما توقف الجيش عمليا عن القتال بعد انسحابه".

إذا لا حماية حريتنا ولا قناتنا ولا التصدي للهجمة الأنجلو- فرنسي العدو الرئيسي.. الخ.. كل هذا لم يكن سوى كذب وتضليل لإخفاء الهزيمة..

والمؤرخون لهذه الفترة والماركسيون بصفة خاصة، يشيدون بالمقاومة الشعبية في بور سعيد والموقف الرائع للشعب المصري، ولكنهم يخطئون تفسير هذه الظاهرة ويخفون الكثير من حقائق هذا الموقف.. ولكي نقدر موقف الشعب المصري ونتعرف على طبيعة المقاومة الشعبية في بور سعيد حيث سقطت سلطة 23 يوليو وأصبح الشعب وحده في مواجهة الاحتلال.. يجب أن نأخذ فكرة عن الحالة عند القمة..

يسجل بغدادي باستياء أنه عندما جاء الخبر الكاذب عن إنزال جنود مظلات في أرض السباق بمصر الجديدة:" حدث على الأثر ما كنت أتوقعه من الانفعال والعصبية وتكلم عبد الحكيم قائلا:" اختفوا جميعا واتركوني مع الجيش" واضطرب جمال ( عبد الناصر) وفكر في أولاده.

وطلب العمل على نقلهم فورا إلى القناطر الخيرية، ولكنه عاد بعد فترة وطلب نقلهم إلى منزل في وسط القاهرة خوفا منكم الناس، وحتى لا يقال إنه هرب أولاده وترك الناس معرضين للخطر.

وأما صلاح سالم فإنه كان يصر على قيامنا فورا بمغادرة مبنى القيادة والاختفاء وطلب منا أن نذهب إلى منزله لنناقش الموقف في هدوء بعيدا عن الخطر".

( لعله كان يفكر في مذبحة قلعة أخرى أو تكرار قصة شمشون ) " ولم يكن هناك أية قوات بالقاهرة إلا الكتيبة 13 المكلفة بحراسة منزل جمال عبد الناصر".

وإذا كانت الرواية الشائعة هى نصيحة صلاح سالم بالتسليم فإن بغدادي يقسم هذه النصيحة مناصفة بين عبد الحكيم وصلاح سالم،بل ويجعل عامرا هو السباق إليها فيقول إن عامرا اختلى بجمال عبد الناصر وعرض عليه التسليم أو طلب وقف القتال.

وأن عبد الناصر استدعى بغدادي إلى مكتبه وطلب من عبد الحكيم أن يتحدث معه وزكريا " في الموضوع الذي سبق وذكره له أي لجمال . وقال عبد الحكيم أنه يفضل طلب إيقاف القتال" .

أما حكاية صلاح سالم فهي في رواية هيكل.. إذ قال لجمال عبد الناصر :" لقد أديت لمصر خدمة عظيمة وأنت اليوم مطالب بخدمة أخرى سوف يذكرها لك التاريخ وهى أن تذهب إلى السفارة البريطانية وتسلم نفسك".

بصرف النظر أمانة هيكل في النقل وصلاحيته كمصدر إلا أن الرواية أيدها بغدادي وغيره من المصادر الأكثر مصداقية، وهى على أية حال لا تستغرب من صلاح سالم فقد كان يتمتع بقدرة على السخرية حادة، لا يفوقها إلا حقده على عبد الناصر واقتناعه بأنه – أي عبد الناصر – لا يؤمن بأية قيم، ولا يفكر إلا في مجده الشخصي ، واستمراره في السلطة..

وتقدم " سليمان حافظ " بطلب إعادة جمال عبد الناصر إلى الكتيبة السادسة المشاة، وإعادة محمد نجيب لأن الناس تقول إن عبد الناصر يخلط بين مجده الشخصي وبين مستقبل البلاد".

والحمد لله لم يتقدم بطلب التسليم أو وقف إطلاق النار شيوعي ولا إخواني ولا وفدى ولا مواطن من الذين حرمتهم الثورة من العمل السياسي منذ أن وصلت إلى السلطة، بل عامر وصلاح سالم.. وأخيرا المستشار الخاص الذي فلسف لهم الإرهاب ، ونظم لهم القضاء على القوى الوطنية..

وبينما صورة هيكل هى سيطرة عبد الناصر تماما على الموقف العسكري، وغبطته بنجاح حطته العسكرية .. نجد صورة مخالفة تماما عند بغدادي:

" ثم بدأ عبد الناصر يتكلم عن أنه لا يعلم شيئا عما يفعله الجيش وأن القوات العسكرية انتشرت في شوارع القاهرة، وتركت منطقة القناة رغم الاتفاق على سحبها من سيناء للدفاع عن تلك المنطقة، وأنه منعزل تماما عن القيادة العسكرية ولا تصله أية معلومات عن أوامر العمليات أو تحركات القوات أو خطة الدفاع.. وذاكرا أنه المسئول الأول في الدولة.

وأن صلاح سالم هو الذي أصبح وكأنه هو المسئول وتنفذ اقتراحاته ويصدر الأوامر.. كما ذكر أنه هو – أي صلاح- الذي كان قد اقنع عبد الحكيم بالتسليم ووقف القتال .

ومن أن صلاح قد أصبح مسيطرا عليه . وكانت حالة جمال عصبية وهو يذكر ذلك، بل كان يكاد يفقد السيطرة على نفسه فطلبت منه أن يهدأ .. الخ".

" وتكلم جمال في هذا الاجتماع ذاكرا لعبد الحكيم وبصراحة تامة كل ما يشعر به عن انعزاله عن القيادة العسكرية تماما، وعدم علمه بما يجرى رغم مسئوليته ، وأن صلاح هو الذي أصبح يدير البلد- على حد قوله- ولكن عبد الحكيم رد عليه عند ذكره لهذا بقوله: " أنت تعلم أن لي شخصيتي ولى رأيي، ولا يمكن أن أنصاع لا لصلاح أو غير صلاح" وكان جمال يتكلم وهو في حالة عصبية.

أما عبد الحكيم فقد كان متمالكا لأعصابه، ولقد سأل جمال عما يريدون منه.

وذاكرا أنه ليس لديه مانع من أن يتولى جمال القيادة العسكرية بنفسه وهو على استعداد أن يعمل تحت قيادته. ولكن جمال رد عليه بقوله: " أنا لا أطلب أن أتولى القيادة . ولكنني أطلب أن أكون على علم بما يجرى.

وأن يؤخذ رأينا فنحن أيضا كنا عسكريين ونفهم شوية" .

وفى النهاية وبعد نقاش حاد تم الاتفاق على أن يقوم عبد الحكيم بإرسال ضابطين من ضباط الأركان حرب من مكتبه ليكونا ضابطي اتصال بمكتب جمال، وذلك حتى تتوافر له الصورة كاملة أولا بأول.."

ولا أعرف شخصية بغدادي ولكن لابد أن يتمتع بقدرة عالية على السخرية. فهذا ما قدمه من معلومات ضابطي الاتصال أو " الصورة الكاملة" التي أعطياها لعبد الناصر..

" قالا إن الخطة الدفاعية هى غرب فرع رشيد.. وذلك حتى يتم تنظيم القوات المنسحبة" ونظرة إلى الخريطة تعنى أن القيادة قد تركت سيناء وقناة السويس والدلتا منطقة مفتوحة.

وأثبت عبد الناصر أنه فعلا يفهم شوية في العسكرية أو على الأقل في الجغرافيا عندما سأل مرتاعا:" معنى هذا أننا الآن ونحن في القاهرة ( شرق فرع رشيد) خارج منطقة الدفاع"

فقيل له نعم.
" يبقى صلاح سالم ما غلطش" لما اختصرها من أولها.

وعلمنا منهما أن " أغلب قواتنا العسكرية كانت قد انسحبت إلى منطقة القاهرة".

والأنكى من ذلك أنه " كان في تقدير ضابطي الاتصال أنه من الصعوبة بمكان إنزال قوات معادية في بور سعيد أو السويس. وإن كان هناك محاولة من العدو فستكون غرب الإسكندرية ولذلك لم تعط أهمية قصوى لتقوية الدفاعات في منطقة القناة.

وقد أشرنا إلى خطأ هذا التقدير، لأن الإنذار البريطانى الفرنسي قد حدد المنطقة التي هددا باحتلالها وسياسيا أمام الرأي العام العالمي الدولي، لا يمكنهما غزو كل مصر حتى يصلا إلى منطقة القناة موضع الخلاف، ولأن خسائرهما في تلك الحالة ستكون كبيرة.. ولكن كان هذا هو تقدير القيادة العسكرية المصرية".

ويقول بغدادي:" في تلك الفترة كان هناك نقد مرير لعبد الحكيم والجيش من الكثيرين، ولكن لابد أن نكون منصفين. فالحمل كان أكثر من أن يتحمله عبد الحكيم بمفرده خاصة بعد دخول انجلترا وفرنسا المعركة.. والعامل النفساني كان له تأثير كبير على تصرفات الكثيرين .

كما أنه قد حدث شلل مفاجئ للكثيرين أيضا بعد أن اتضح دخول الدولتين المعركة بالإضافة إلى إسرائيل".

وقال إن البعض شبع عامر باللواء المواوى قائد العمليات في حرب 1948..وفى يوم الأحد 4 نوفمبر توجهت إلى حجرة جمال لتناول الإفطار معه فوجدته وقد ارتدى ملابسه ويقوم بتناول الإفطار.. وقال لي إنه لم ينم طوال الليل ،وصرح لي أنه قد بكى وأنه على ما يظهر قد أضاع البلد- على حد قوله- فتأثرت لحاله.. ولا أعرف ماذا أفعل لأساعده وأساعد نفسي أيضا في هذا الموقف العصيب الذي يحيط بنا".

وهذه اللحظات لا تعيب عبد الناصر ولا تنقص من شجاعته، أو تعطى مجالا للقول بأنه قامر بالوطن.. بالعكس إنه طبيعة جدا، وكان يفترض في بغدادي أن يقول له مثل هذا الكلام.. ولكن يبدو أنهم جميعا كانوا مقتنعين بأنهم أو أنه هو وحده أضاع البلد..

وسافر عبد الناصر مع بغدادي قاصدين بور سعيد وإليك ما شاهداه:" وعلى هذا الطريق شاهدنا عربات عسكرية كثيرون مدمرة ومقلوبة ، ودبابات متروكة ،منها المحروق ومنها ما يظهر على أنه سليم أو ربما يكون معطلا نتيجة إصابته من الطائرات المغيرة ، والتي ظلت تهاجم القوات المتحركة على هذا الطريق بعد الانسحاب وهى في طريقها إلى القاهرة.

وكان جمال يسألني عن كل دبابة أو عربة نمر بها؟ .. وكنت أشعر أنه في عالم آخر، غارق في التفكير وكنت ألمس أنه متعب جدا من الموقف. وكنت أحاول أن أخفف عنه. وأهون عليه الأمر . وكنت أعتبر هذا من وأجبى في هذه الآونة التي تمر بها بلادي. وأعرف أن جمال هو رمز الثورة في مصر بل وفى المنطقة كلها".

" ونحن في طريقنا إلى الإسماعيلية قال جمال بصورة مؤثرة ومحزنة بعدما شاهد من العربات والدبابات محطمة على جانبي الطريق" إنها بقايا جيش محطم" وأخذ يتحسر على المبالغ التي كانت قد أنفقا على تسليح الجيش قائلا " مائة وثلاثة ملايين من الجنيهات قد ضاعت هباء" كما قال أيضا بالإنجليزية.

قد هزمت بواسطة جيشي. وكنت أقول له لا تيأس ولكنه يرد على بقوله إنك تعرف أنني لا أيأس أبدا. وكنت أحس أن أمامي رجلا محطما"

ربما من ضخامة النصر الكامل.

هل نصدق عبد الناصر أم نصدق هيكل..

" بقايا جيش محطم" و" مائة وثلاثة ملايين من الجنيهات ضاعت هباء" .. أي كل الصفقة الروسية..

هذا تقدير عبد الناصر .

أما زعم هيكل " ولكنه لم ينجح إلا في إصابة بعض مركباتها الخفيفة وأما القوة المدرعة الرئيسية فقد تمكنت من العودة سالمة إلى مواقعها الجديدة " فهو كذب مفضوح.

قد يغفر له الكذب خلال المعركة، وكلنا كذبنا.. وكلنا مدحنا عبقرية قرار الانسحاب.. ولكن بعد المعركة ؟ وبعد الهزيمة الثانية، وبعد أن أصبح المكسب الوحيد الممكن هو تحويل كوارث التاريخ إلى تجارب.ز فإن الإصرار على الكذب جريمة..

ولا تعجبني شماتة عبد اللطيف بغدادي وهو سجل في يومياته أن عبد الناصر كان وقتها " لا حول له ولا قوة مع أنه قائد ثورة ورئيس جمهورية " و" كنت في تلك الأثناء أنظر إلى جمال وأقارن بينه في تلك اللحظة وبينه في لحظات أخرى سابقة عندما كان يشعر بالانتصار والقوة".

عيب ..

فالهزيمة على يد العدو الأجنبي.. شعبنا كان أنبل وأكثر وعيا، نسى كل الآلام التي تجرعها من الحكم الديكتاتوري خلال أربع سنوات والتي كانت تجعل " تريفور ايفانز" المستشار بالسفارة البريطانية والخبير بالشئون المصرية يتوقع قيام المظاهرات وقلب عبد الناصر.. العكس تماما هو ما حدث، كان التصدع والشقاق في القمة، والالتحام والصمود على مستوى الشعب.

الذين على القمة لو يكونوا في مستوى اللحظة كما رأينا من خلافاتهم ونصائحهم بالتسليم والخلاف حول من هو المسئول وتخويف عبد القادر حاتم- في رواية ناتنج- لعبد الناصر من العدوان بدلا من رفع معنوية الجماهير ، كذلك في التصرف المعيب وأعنى به الاعتقال غير المبرر والمهين الذي اتبع مع رئيس الجمهورية الأول الرئيس محمد نجيب وتكفى شهادة ناصري:" صدرت الأوامر بنقل محمد نجيب إلى طما في جنوب السعيد ليكون بعيدا عن القاهرة في حالة إذا ما حاولت قوات العدوان الاستعانة به إذا انتصرت .

وكانت الرحلة شاقة وقاسية وعومل فيها معاملة لا تليق بقائد ثورة ورئيس جمهورية، وضابط برتبة لواء.. وكان ذلك بتصرف ذاتي من بعض صغار الضباط الذين لا يرون في أنفسهم إلا أدوات تعذيب وامتهان دون تفكير" ويشهد حمروش " أن محمد نجيب لم يأخذ موقفا مضادا لقيادة عبد الناصر ولم يصدر منه تصريح مضاد".

ويخطى الكاتب الماركسي سابقا ، كما أخطأت القيادة المصرية في تفسير موقف الجماهير إذ يقول إنها التفت حول عبد الناصر في عركة 1956 بسبب مواقفه الوطنية: باندونج وانتصاره في معركة الأحلاف وصفقة السلاح وإبراز دور القومية العربية.

وأظن أن رجل الشارع في بور سعيد والقاهرة، فضلا عن الفلاح، لم يكن يحسن نطق باندونج.. ولا يفهم ما هى الضجة حول حلف بغداد، أو يفهم بالضبط ما تعنيه كلمة حلف، ولماذا يكره عبد الناصر أن يحلف على بغداد أو يحلف ببغداد.

لا .. هذا انتقاص من وطنية الشعب المصري.. لو كان يحكم مصر" أحمد فؤاد" أستاذ المتمركسين في حركة الجيش، وهو بلا شك أبغض شخصية عامة في مصر مذ زيور باشا .. وجاءت بريطانيا تهاجم مصر وتعلن أن هدفها إسقاطه، لفداء المصريون بأرواحهم وما يطيقون.

الوقفة الشعبية في 1956 رغم كل السلبيات من جانب السلطة، والمرارة التي كانت في النفوس، هى وقفة وطنية طبيعية ومتوقعة من شعب في عظمة وعراقة ونضج شعبنا.

ولكن العسكر في السلطة وخارجها، ظلوا يبحثون لها عن تفسير؟ فقد كان توقعهم أن ينقض الشعب على عبد الناصر من الظهر ويفتك به ورجاله أو يقدمهم فدية " مكتفين" للانجليز.

حاشا لله. .

بل عندما تنحى عبد الناصر في 1967 كان جانبا كبيرا من الجماهير التي خرجت- من تلقاء نفسها- تطالبه بالبقاء يحركها منطق " غريب تومى" ، ابن منطقة القناة والفدائي الذي عرفناه في جميع المعارك من 51 إلى 1967 ثم انقطعت عنى أخباره فلا أعرف ماذا فعل في 1973 وقتها قال:" دى تبقى فضيحة العمر إن عبد الناصر لما يجى يسقط اللي تسقطه إسرائيل.."
ولكن عبد الناصر – للأسف وباعتراف كل أنصاره- لم يثق بالشعب أبدا. وظل يصدق إلى أن مات، إنه لو أتيحت الفرصة لأي دجال أو عميل أن يصل إلى السلطة ويمتلك الإذاعة والخزانة، فسيرقص له الشعب والنواب كما فعلوا معه. أو كما يقول دائما إن الشعب باع قرارات مارس بألفين جنيه أي المبلغ الذي دفع لصاو صاو..

ولذلك رغم الخطب عن التحام الجيش بالشعب، تصور أنه يمكن للانجليز أن يحتلوا القاهرة، ويعينوا محمد نجيب رئيسا للجمهورية. وهو مقتول أو أسير أو يقود المقاومة السرية. فيرضى الشعب المصري ويهتف لمحمد نجيب في ظل الراية البريطانى ، ولذلك قرر منع ذلك بنقل محمد نجيب إلى طما.

ودعنا من تصور قبول محمد نجيب لهذا الدور، وهو أول رئيس جمهورية لمصر والذي رفض أن يكون طرطورا لضباط جيشه المصري.. فهل يقبل أن يكون عميلا مفضوحا للانجليز.. وهل صحيح كان الإنجليز سيتوددون للشعب المصري برئيس مجلس الثورة.. ألم يكن لديهم من السياسيين ما يكفى لتشكيل حكومة إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟

ولماذا لا يعيدون الملك وهل بعد احتلال القاهرة ذنب أو عيب؟

الإجراء كان تنكيلا بمحمد نجيب، وأيضا تعبيرا عن العقيدة القاتلة وهى فقدان الثقة بالشعب..

ومما هو جدير بالملاحظة أن المدينة التي حمل فيها الشعب السلاح وقاتل دفاعا عن عبد الناصر ونظامه هى المدينة الوحيدة التي سقطت فيها سلطة عبد الناصر ووقف الشعب فيها وجها لوجه ضد المستعمرين الغزاة، لم يقع انقلاب ولا ظهر كائن يقبل ولو حتى منصب محافظ تحت الحماية البريطانية بل انخرطت الجماهير على الفور في المقاومة المسلحة بالسلاح الذي تمكنت من الحصول عليه أو الذي وصل قبل الهبوط بساعات.. فالشعب الذي لم يسمح له أبدا بحمل السلاح، عندما حصل عليه استخدمه في حماة الوطن، وأيضا دفاعا عن السلطة التي أبقته دائما تحت الوصاية أو الحجز التحفظي بتهمة الغفلة أو الغدر..

ويمكن أن نلخص الموقف خلال معركة تأميم القناة وما قبلها وما بعدها بتلك الجملة الرائعة التي قالها مواطن بور سعيد لعبد اللطيف بغدادي، الذي عينه عبد الناصر مسئولا عن تعمير بور سعيد فكان أول إجراء اتخذه في هذا التعمير هو جمع السلاح من الشعب، وأجبر على ذلك المواطنون البور سعيدويون ، الذين عرفوا دائما بالشجاعة والصراحة والشخصية المفتوحة الحادة التعبير.. وبينما كان المواطنون يتدفقون لتسليم السلاح قال هذا البور سعيدي لبغدادي:" خلى السلاح يابيه . يمكن يجوا الإنجليز تانى.. نبقى ندافع بيه عنكم" أي اتركوا لنا السلاح.. فربما يعود الإنجليز فندافع به عنكم.. وكما قيل وقتها سقط نظام وجيش عبد الناصر ونجح الشعب وعبد الناصر.. هذا هو ملخص القصة.. ولكن كما سجل الجبرتي قبل 150 سنة:" وليت العامة شكروا على جهادهم". . يقصد تصديهم للغزوة البريطانية عام 1807.

كتب أحمد حمروش:

" كانت في بور سعيد من قوات الجيش اللواء 7 والكتيبة 4 مشاة إلى جانب المدفعية الساحلية والمضادة للطائرات.ولكن عندما نزلت القوات البريطانية في"الجميل " تبعثرت القوات العسكرية نتيجة انهيار القيادة المسئولة قائمقام عبد الرحمن قدري، وإصدار قائد المحطة أميرالاى صلاح الموحى، الأوامر بوقف إطلاق النار ثم إلغائها بعد ذلك، وفشل قائد المقاومة الشعبية الرسمية صاغ غريب الحسيني وقائد جيش التحرير الشعبي صاغ عبد المنعم الحديدي في إقناع الجماهير بالتحرك معهم لبعدهم عن فهم روح الشعب الحقيقية. ثم هربهم بعد ذلك من بور سعيد. وقد تم فصل هؤلاء الضباط الأربعة من الجيش بعد انتهاء المعركة".
أي أن الضباط الذين حكموا مصر 4 سنوات بحجة حماية الطن فروا فور أول طلقة وجهت للوطن.. واستمر النظام يخشى الشعب المسلح" وعندما تشتت القوات وغلبت الحيرة صغار الضباط طلب " حمدي عبيد" و" محمد أبو نار" من الضباط " منير موافي" الذهاب لمقابلة " شمس بدران " مدير مكتب عبد الحكيم عامر الذي كان يفتش على الحرس الوطني في المنصورة.

وقال له إن الحل الوحيد هو في السماح للشيوعيين بالدخول إلى بور سعيد لأنهم أقدر من غيرهم على فهم نفسية الجماهير والتعامل معهم.وقد رجع شمس بدران إلى القاهرة ثم وافق على ذلك".

الغزو بدأ والجيش تبعثر والقادة هربوا، والمدينة محتلة، وهم يستأذنون في الدخول ، وينتظرون حتى يعود للقاهرة ويشاوروا أهل الذكر هل يسمحون للشيوعيين المصريين بدخول بور سعيد أسوة بالإنجليز والفرنسيين الذين دخلوها بلا استئذان؟..

" ويقول محمد أبو نار إن رجال المباحث العامة خلال القتال كانوا يراقبون تحركات الشيوعيين في الوقت الذي هرب فيه قائد المباحث العامة من بور سعيد. وسلم البوليس أسلحته بالكامل للانجليز"

قارن بين هذا وموقف البوليس في ظل حكومة الوفد الذين قاتلوا حتى آخر طلقة.. ولكن إذا كانت الأوامر للجيش بالانسحاب مهما كان الثمن، وللطيارين بالبقاء بعيدا عن طائراتهم " لحسن في الجو غيم" فهل نطلب أو نتوقع القتال من الشرطة؟

ويقول:" إن الإنجليز كانوا يقبضون على الإخوان والشيوعيين من سجلات البوليس.."

طالب الناس بالسلاح منذ أول لحظة في عدوان إسرائيل ولكن تعطل ذلك لكي يتم تحت إشراف المباحث العامة، وبشكل روتيني ومظهري وغير فعال ورغم الغارات على بور سعيد فإن عددا قليلا من السلاح كان قد تم توزيعه.. " ولكن مع هبوط جنود المظلات ووصول قطار محمد بالسلاح والذخيرة إلى محطة بور سعيد بدأ توزيع السلاح على الأهالي دون نظام.. السلاح في الشحم والناس غير مدربة أو منظمة تتحرك وراء أي صوت يدعوها للهجوم على العدو في أي مكان. الأمر الذي قلل من فاعليتها وعرضها لبعض الخسائر .

وهكذا تم توزيع السلاح على الشعب في اللحظة الأخيرة وكأنه طوق نجاة يلقى لغريق".

والحقيقة أنه لم يتم توزيع السلاح ولا حتى في اللحظة الأخيرة، فقد كانت السلطة قد انهارت تماما، والذي حدث أن الأهالي نهبوا القطار لكي يدافعوا عن أنفسهم وخشية وقوع السلاح في يد الإنجليز.. وقد كنا معاصرين لتلك الأحداث.. فالنظام الثوري لم يختلف في شيء عن أي نظام حكم في مصر منذ الانهيار المملوكي وهو الخوف من الشعب، أكثر من الحذر من العدو الأجنبي، رفض دور الشعب في الدفاع عن الوطن، أو كما قال محمد على للمصريين عندما تصدوا للانجليز:" ليس على العامة خروج" .. حظر حمل الشعب للسلاح هو المبدأ الذي مارسته كل الحكومات غير الشعبية، مع فارق أن الحكومات الأخرى كانت تحارب إلى آخر جندي، ولا يحتل الوطن إلا إذا قتل السلطان أو شنق على باب زويله..

" كانت المقاومة الشعبية تقاتل في بور سعيد بينما توقف الجيش عمليا عن القتال منذ انسحابه من سيناء".

وبينما سمح للخارجين على القانون بالدفاع عن بور سعيد سلمت السويس للمغضوب عليه صلاح سالم وكحل للتخلص منه بعدما كان أن يوقع أو أوقع بالفعل بين عبد الناصر وعام وبعدما قام في حركة مسرحية ولبس بدلة عسكري المراسلة الذي يقدم القهوة في الاجتماع وصدر إليها الأمر بالتوجه إلى السويس. ويشهد له، حمروش " أنه حولها إلى حصن كله خنادق ودشم ومغازل مما يجعل اقتحامها صعبا جدا على الغزاة وتكلف ذلك ما يقرب من نصف مليون جنيه صرفت خلال أيام قليلة قبل أن يتوقف إطلاق النار واعتمد في ذلك على الجماهير بالدرجة الأولى".

وبالطبع كان يمكن أن يحدث ذلك في كل مدن القناة بل في كل مدن مصر لو أن القيادة أخذت بجدية، لا أقول احتمال الغزو، بل احتمال مقاومة الغزو.. ولكنها لم تفكر في ذلك بشكل جدي على الإطلاق، بل سارت الأمور بالتداعي.. والصدف.. أما فكرة الصديق" الروسي" عن نوعية القتال الذي قام به الجيش في تلك الفترة فقد لخصته تمنيات شبيلوف وزير خارجية الاتحاد السوفيتي.

قال شبيلوف " إنه يأمل إذا تجدد القتال أن يكون استعداد مصر قد أحكم وأن يكون على رأس وحدات الجيش المصري ضابط مفرسون يختارون من بين من ينتظر منهم إجادة القتال والصمود هم وجنودهم إلى النهاية. وأن يكون المدنيون على أكثر دراية مستطاعه باستعمال السلاح وبوسائل الدفاع".

كلمات موجعة، قارصة ولكنها مخلصة من الصديق السوفيتي وواضحة المغزى، ولو عجزنا عن فهم كلمة " مفرسون" فالمعنى واضح جدا ولعلها متمرسون .

وقع الغزو الأنجلو – فرنسي وتوقف تحت تأثير العوامل التي أشرنا إليها .

وأهمها بالطبع موقف الولايات ا لمتحدة برئاسة ايزنهاور. وتأكد انتصار واستمرار النظام في مصر..

فاليهود لا يعبرون القناة، وما يجرى في صحراء هيكل لا يصل علمه إلى الشعب إلا قليلا.. والإنجليز لن يتقدموا عن العشرين ميلا.. وسرعان ما اختفت لحظات الصدق والطهارة، ونقاء العلاقة التي فتنت بغدادي خلال الأيام الأولى للعدوان وجعلته، يتذكر الأيام الخوالي، وعادت روح التآمر والصراع على السلطة.. وهذه يوميات بغدادي:

" في صباح يوم الخميس 8 نوفمبر 1956 ذهبت على مكتب جمال في مبنى مجلس الثورة، وكان قد سبقني وتناول إفطاره بمفرده( وهذه من علامات الشر عند بغدادي) وبعد أن جلست معه بعض الوقت بادرني بقوله:" أنا لم أكن أعرفك جيدا من قبل – ولم أعرفك على حقيقتك إلا يوم 29 أكتوبر الماضي وإذا كان قد حدث بيننا سوء تفاهم فيما مضى فالسبب هو صديقك جمال سالم.. وقد فكرت أن أقول لك هذا لأننا لا نعرف ماذا يخبىء لنا المستقبل، والصورة سوداء.. " واستمر يحرضه على جمال سالم حتى قال بغدادي إنه هو الذي تعب من صداقة جمال سالم وأنه يحمد الله لأن جمال عبد الناصر عرف " حقيقتي اليوم وهو يوم شدة" وانقطع استمرار الحديث لحضور زكريا" وشعرت بألم شديد وصدمت في جمال سالم وصدقت ما قاله جمال عبد الناصر ولم يخطر في ذهني أدنى ش عن صدقه فيما ذكره لأني لم أتصور أن يكون قد فكر ونحن في هذا الموقف العصيب ولا نعرف ما يخبئه لنا القدر، أن يعمل على الإيقاع بين جمال سالم وبيني".

ويقول بغدادي إنه بعد سنتين وفى صيف 1958 عندما قدم بغدادي استقالته على إثر صدام وقع بينه وبين عبد الناصر حضر جمال سالم لزيارته، فصارحه بما أخبره به جمال عبد الناصر، فقام جمال سالم وصلى ركعتين لله، وأقسم على المصحف أن هذا لم يحدث منه".

واحتار بغدادي بين قلبه وعقله " أيهما أصدق"
وفضل النسيان.

والحقيقة أن الصورة ليست بهذه البشاعة كما يصورها بغدادي ويبدو أنها كانت بعد الإنذارين الامريكى والروسي، ووقف إطلاق النار وتأكد الرئيس أن الأمريكان لم يتخلوا عنه، وأنهم في النهاية قادرون على فرملة الجميع وكان اقتراح البوليس الدولي يطبخ في مكتب مصطفى أمين وصمدت حكومة مصر الأيام الثلاثة المطلوبة، ولذا فإن الأمور ليست سوداء كما ظن أو كما كان يظن بغدادي.

ومن ثم فقد استعاد الرئيس شخصيته واستأنف المهمة التي اقتنع بضرورتها من أول يوم رأى فيه يوسف صديق، يجلس على مكتب رئيس الأركان، وهى ضرورة تصفية كل الذين يداينوه باسم الاشتراك في يوم 23 يوليو.. لكي يتمكن من تنفيذ برنامجه الوطني العظيم.

" يوم السب 10 نوفمبر 1956 وكنت مجتمعا في مجلس قيادة الثورة مع جمال عبد الناصر والدكتور محمود فوزيوعلى صبري وبعد انتهاء الاجتماع وانصراف الدكتور فوزي صدر من جمال عبد الناصر بعض الكلمات لجارحة عن الجيش.

وأخذ يشرح لعلى صبري ما يأخذه على الجيش وعلى عبد الحكيم عامر.. وروح الاستسلام التي كانت قد انتابتهم، والشلل الذي حدث لهم بعد دخول الإنجليز والفرنسيين المعركة وعدم إطاعة الجيش لأوامره رغم تكرار الاتصال بهم، وذكر أيضا دو صلاح سالم.

والغريب أن بغدادي يسجل على نفسه أنه تدخل في الحديث، وكأن جمال " زعلان" من عبد الحكيم على إيجار الشقة أو جهاز البنت.. فهو يقول إنه رد عليه: إنه الأخ الأكبر لعبد الحكيم ، والموقف كان عصيبا ( وهل يدخل الجيش وقادة الجيش إلا لمواجهة المواقف العصيبة؟) وعلينا أن نعمل على إصلاح ما فسد وعليه هو أن تحمل ( فهو كبير العائلة.. صحيح أن بغدادي ابن عمدة فهذا كلام مصاطب لا قيادة سياسية فضلا عن ثورية) والظروف تحتم على كل منا أن يتحمل تصرفات الآخر. واقترحت عليه دعوة عبد الحكيم للعشاء أو الغداء ، وهو سيلبي الدعوة".

يعنى الطبيخ مش حيندلق موقف خاطئ من ، بغدادي وهو بهذا الاعتراف يتحمل المسئولية كاملة، بقدر وزنه، في استمرار عبد الحكيم وجماعته في قيادة الجيش المصري، ويزعم أنه زار عبد الحكيم وظل معه ساعتين يحاول أن يقرب " وجهتي النظر وإزالة سوء التفاهم" و" أن رجولته تمنعه من التصرف بما يسيء إلى البلاد، وتعانقنا في نهاية المقابلة وقبل كل منا الآخر".

رجولة إيه؟

وماذا كان بوسع عبد الحكيم أن يفعل ليسيء على البلاد ( أكثر مما فعل؟) لو شنقه عبد الناصر وقتها لتضاعفت شعبية عبد الناصر.. فلم يحدث أن كان المصريون بمثل هذه النقمة على جيشهم، كما كانوا في تلك الأيام، وبالذات على قاد الجيش..
كان الموقف لم يتضح فيه نصر بعد. ولكن الشعب كله كان ملتفا حول عبد الناصر وفى نفس الوقت كانت البلد كلها تعرف وتتحدث عن هزيمة الجيش وفرار الضباط كما قيل أو ظنوا فلم تكن قد نظرت بعد فتوى الانسحاب العبقري وكان الجيش والشعب يحملان المستولية لعبد الحكيم عامر أو المواوى كما أطلقوا عليه.. ولما اقنع الإعلام الشعب بالانتصار.. ظلت الجماهير مقتنعة أن عامر والجيش هزموا مصر.. وناصر والشعب خلصوها من هذا المأزق.

فماذا كان بوسع عامر أن يفعل؟

ويقول بغدادي إنه أبلغ عبد الحكيم " بما كنت ألمسه وأسمعه من ضباط القوات المسلحة الجوية، ومن أنهم فقدوا الثقة في قياداتهم نتيجة الأخطاء التي حدثت وأن هذا يستلزم منه اتخاذ بعض الإجراءات بالنسبة لهؤلاء القادة حتى تعود الثقة بين القادة ومرءوسيهم وعليه أن يجرى تحقيقا مع القادة الذين تسببوا بإهمالهم في هذه الأخطاء والعمل على نقلهم إلى جهات أخرى. وتدخل عبد الناصر مؤيدا ذلك واقترح نقل صدقي محمود إلى منصب وكيل وزارة الحربية لشئون الطيران".

ل:حظة واحدة.

أية أخطاء؟

الأمر الصريح هو عدم الاشتباك مع طيران العدو حفاظا على حياة الطيارين .. فما الخطأ وكيف يمكن أن يخطى قادة ويستحقون الإحالة إلى التقاعد بل والتحقق ويثور ضباطهم عليهم في ظل هذه الخطة؟

هل يا ترى لم ينفذوا الأمر وسمحوا للطيارين بالدفاع عن شرف البدلة؟

نريد أن نعرف ما الأخطاء إذا ما كانت الخطة العبقرية هى بنص حروف قارئ الوثائق وفاتح الخزائن:" على الطيران المصري ألا يشتبك مع العدو لأن المعركة غير متكافئة" وماذا كان بوسع قائد الطيران أن يفعل لتنفيذ هذا الأمر أفضل مما فعل.. أمر الطيارين بالتوجه فورا إلى منازلهم وترك الطائرات خالية للتغرير بالعدو فيضربها ويكسرها ويخسر قنابله على الفاضى فالطيار طار.. بدون طيارة..

إما أن هذا اتهام غير مفهوم وتجن على صدقي محمود وعامر بعدما وقعت البقرة، وكثرت السكاكين.. وإما أن رواية هيكل كاذبة، ملفقة لستر الهزيمة على طريقة العمدة الذي ترى القملة على قفاه فيقول من خجله:" سيبها ا ولد أنا اللي حاطتها".

يريد هيكل أن يقول إن ضرب الطيران كان خطة مدبرة، وسقوط سيناء في د اليهود كان ضربة بارعة من جانبنا.. وهكذا بهذا المنطق وحده تصبح الهزيمة نصرا فنحن أردناها وصممناها.

نعود الآن لصحراء هيكل أو بالأحرى للوادي المقدس طوى، حيث سيتقرر مصير العرب ومصير الشرق الأوسط ومصير مصر خلال القرن الحادي والعشرين، وبعدما ترتوي كل حبة رمل فيها وكل حجر بدم المصريين الشرفاء.ز وتطهر إلى الأبد من الأطماع الدنسة للمغتصبين العنصريين الدخلاء.

إن الغزوة الإسرائيلية لم تكن أكثر من حلقة في سلسلة المواجهة الإسرائيلية – المصرية الدائمة.. والتي وعتها إسرائيل منذ وعد بلفور، بل حتى منذ أن بدأ اليهود يفكرون في فلسطين كوطن قومي.. فلم يكن أمامهم إلا الدولة العثمانية، كحقيقة تاريخية وكسلطة قائمة في فلسطين ، وحقيقة الوجود المصري أو إن شئت الفيتو المصري على الأحلام الإمبراطورية لإسرائيل .. مصر كانت ولا تزال القوة الوحيدة القادرة على مواجهة المخطط الصهيوني، ومن ثم فإن تدمير مصر، تعجيز مصر، هو الهدف الأول والدائم لجميع المسئولين الصهيونيين ، بصرف النظر عن أشخاص ومبادئ الحاكمين في مصر، وسواء أكانت العلاقات ساخنة دموية أو متجمدة، أو حتى طبيعية مع تبادل الاعتراف، وبصرف النظر عن نوايا وأفعال السلطة المصرية.

وفى مقابل هذا فنحن نزعم أن السلطة المصرية من 1952- 1956 لم يكن في بلها ولا تصورها إمكانية وقوع مواجهة ساخنة مع إسرائيل ومن 1956 إلى 1967 كان مخططها أو سياستها تدور حول تجنب هذه المواجهة بأي ثمن.

وبالتالي هزمنا..

ولكن قبل أن نناقش ههذ القضية الكبرى تعالوا نلقى نظرة على سيناء أرض المعركة.. ويجب أن نقول ابتداء إن الجندي المصري والجندي الاسرائيلى لم يتقابلا في حرب حقيقية إلا عام 1948 و 1973 وقد هزمنا بشرف في 1948 لأسباب عديدة، ليس أقلها أننا كنا مستعمرة بريطانية ، وأن جيشنا لم يكن جنوده قد خاضوا حربا قط، ولا تعاملوا مع المعارك الحديثة، بينما كان الجيش اليهودي في معظمه من المحاربين في الحرب العالمية الثانية، وفى معارك لها شهرتها العالمية وخبرتها بحكم القوى الجبارة التي اشتركت فيها، هذا عن اليهود الإسرائيليين وأكثر منه طبعا بالنسبة لليهود المتطوعين الذين جاءوا من الخارج..
أما حرب 1973 فقد أثبتت أنه إذا ما توافرت قيادة سليمة إلى حد ما، وشبه تعادل في السلاح، ولو لصالح إسرائيل فإن الجندي المصري أفضل من الجندي الاسرائيلى وأقدر على هزيمته ومفاجأته وقتله وأسره.. وكل ما تعيرنا به الدعاية الصهيونية..

وكتب موشى ديان وجولدا مائير وايجال آلون وكل إسرائيل كتب، وكلها كتب هادفة في المخطط الدائم وهو تعجيز مصر .. ولذلك فهى حافلة بالأكاذيب والمعلومات المشوهة.. خذ مثلا " موشى ديان" كتب كل تفصيلة في معركة سيناء 1956 ونسى أو لم يسمع بوجود قرار مصري بالانسحاب.. لأنه إذا أثبت ذلك في كتابه لسقط كل ادعاء بالبطولة، إذ أية بطولة في غزو منطقة انسحب جيشها، أو يقاتل تحت أمر صريح. بالانسحاب خلال 48 ساعة أو 72 ساعة " مهما كان الثمن" فريق مانشستر لكرة القدم لا يستطيع أن يلعب تحت هذا الإنذار الزمني.

لذا حذف موشى ديان تماما حكاية قرار الانسحاب هذا .. فلا تجد له أثرا لا في كتاباته عن 1967 ولا 1967..

ومع ذلك ورغم أن كتابه منشور تافه يهدف إلى تشويه صورة الجندي المصري وإضعاف معنوياتنا، وإفقادنا في قدرة شعبنا على تقديم مقاتلين، ورغم كل ما تعرضت له القوات المسلحة المصرية من إفساد وتجهيل على يد القيادة العسكرية من1952 إلى 1967 ورغم القرارات السياسية الفاحشة الخطأ والتي لعبت الدور الحاسم في انتصار إسرائيل وبدون قتال في الغالب .

فإن أبطالنا ما أتيحت لهم فرصة الاشتباك مع العدو إلا وأثبتوا بسالتهم وتفوقهم عليه، ليس فقط في معارك أكتوبر بل في معركة سيناء الأولى والثانية.. والدليل – كما قلنا- إن هذا الموشى لا ينسى في كتابه تفاصيل الجندي المصري المقطوعة ساقه.. الخ ولكنه ينسى قرار الانسحاب. ومع ذلك فهو يعترف بوقوع قتال شرس دافعت فيه القوات المصرية المحدودة، ببسالة وضراوة وكفاءة عن مواقعها، رغم أنها كانت قوات رمزية بسبب القرار المريب الذي اتخذته القيادة على أساس استحالة وقوع هجوم إسرائيلي ، والرغبة في تفادى أي استفزاز لإسرائيل وذلك قبل المعركة بشهرين، وكان على هذه القوات أن تتصدى لهجوم كامل شامل جرى الإعداد له منذ أكثر من عامين.. ومع ذلك أحبط الهجوم الأول في أكثر من موقع وأوقف تقدم القوات الإسرائيلية طوال الثلاثة أيام الأولى حتى صدر قرار الانسحاب فانهارت المقاومة المصرية، أو قل أوقفت بأمر عسكري من القاهرة. .

بعد أن سجلت صفحات من البطولة للجندي المصري الذي كتب بدمه مجد مصر، وخطيئة القيادة، التي خذلته مرتين وهزمته بقراراتها. ولو كان عبد الناصر صادقا مع نفسه لقال " هزمت جيشي" " أنا هزمت جيش" وليس جيشي هزمني.." فكيف ينتصر جيش لم يؤمر بالقتال؟ بل كما قال ابن مصر البكر والمعبر عن روحها نجيب محفوظ: " أمر الجيش أن ينهزم فانهزم".

في أبو عجيلة وسد روفة استمرت الوحدات المصرية تقاتل من عصر يوم الهجوم الاسرائيلى على ظهر اليوم التالي، وهم لا يزيدون على بضع عشرات من الجنود ضد لواء مدرع إسرائيلي معزز بالطائرات حتى أبيدوا عن آخرهم.

وفى العريش كاد قناص مصري وبعدما سقطت المدية، كاد أن يصيب موشى ديان ولكن رصاصته قتلت عسكري المراسلة المرافق له" الذي سقط قتيلا إلى جانبي" كما يعترف ديان.

واضطرت الطائرات الإسرائيلية إلى الابتعاد من فوق سماء العريش المحتلة من شدة نيران المقاومة التي استمر فيها جنود مختبئون رفضوا قرار الانسحاب، واستمروا في القتال.. " وفى ممر متلا ظلت قوات المظلات المعززة بالدبابات والطائرات تقاتل سبع ساعات " وكانت خسائرنا لم يسبق لها مثيل : 38 قتيلا ومائة وعشري جريحا".

وهذا تهجيص إسرائيلي فالخسائر كانت بالمئات ، بدليل أنه صدر قرار عزل قائد المظليين اليهود لعجزه عن القتال أمام المصريين. وقائد المظليين لا يعزل على 38 قتيلا.. ولا أحد يتوقع منه أن يستولى على ممر متلا بأربعين قتيلا.. ونحن نزعم أن القتال كان يمكن أن يستمر إلى اجل غير محدود لولا" وصول أمر الانسحاب" كما يشهد هيكل نفسه.

فليس تغيير القائد الاسرائيلى هو الذي أدى إلى سقوط الممر ولكن تغيير القائد المصري في القاهرة لأوامره..

وكذلك فشل اللواء العاشر الاسرائيلى في الاستيلاء على " أم كتاف" في 31 أكتوبر رغم حضور موشى ديان بنفسه إلى موقع اللواء وحثه الجنود على الاستيلاء على أم كتاف " بأقصى سرعة ممكنة" فقد : بقى هذا الموقع هو وأم شنان في منطقة أو عجيلة في يد العدو وصد تقدمنا في سيناء في القطاع الأوسط.

ورغم استيلائنا على القسيمة وأبو عجيلة نفسها وسد الروفة، فقد أجبرنا على الالتفاف واللجوء إلى الممرات الترابية، وهذا يعنى إمكانية أن يخلقوا عنق زجاجة لقوافل التموين وبالتالي يوقفون تقدمان.

" أم كتاف" كانت تتحكم في الطريق الاسفلتى الى سجل مشاكلنا، والاستيلاء عليها يفتح لنا محاور لتقدمنا.ولم أجد اجتماعي مع ضباط اللواء مقبولا، وكان و اضحا أن ضباطنا يشكون في كفاءة عسكرهم.

وقد فقدت صبري مع الضباط ولم اعد راغبا في سماع شكواهم ع الصعاب، كنت أعلم أن رجالهم متعبين وأن الإمدادات لم تصلهم في وقتها، والليالي باردة، والنهار حار وبنادقهم روكبت وعرباتهم تغرز في الطين، ولكن لم يكن لدى حل فأنا لا أملك تغيير طبيعة الأرض وعلى أن افتح الطريق الجديد..

هاجموا أن كتاف في تلك الليلة ، ولكن قلوبهم لم تكن معهم فلن يخرجوا بشيء، ومن الناحية الأخرى تقدمت وحدة من اللواء المدرع السابع والثلاثين بتصميم واضح ولكنها فشبت أيضا. كان الضباط يندفعون نحو استحكمات العدو، دون انتظار للدبابات التي تأخر وصولها بخطأ من مخابرات القيادة الجنوبية.

ولم تكن هناك خطة محكمة للعمليات وعدم تركيز القوة بما يكفى ساهم أيضا في فشلنا. وكذلك أخطأت أنا إلى حد ما.

إذ ضغطت على قائد الجبهة الجنوبية لفتح الطريق عبر أم كتاف بأسرع ما يمكن وهو بدوره ضغط ولكن كان قصدي أن يتم ذلك قبل ظهر اليوم التالي مهما كانت الضحايا.

ولكن بعد الاستخدام السىء للواء العاشر، جرى عزل قائد اللواء وأيدت هذا التغيير " ( ثاني قائد يعزل خلال الحرب بل وعلى أرض المعركة وقائد الطيران المصري يقول ما عندوش بنزين ويبقى قائدا للطيران 11 سنة أخرى).

ولم تسقط أو كتاف حتى جاءت النجدة من القاهرة.. أو قرار الانسحاب..

تخيل كل المتاعب التي ذكرها موشى ديان عن طبيعة الأرض وأضف إليها بالنسبة للمصريين الاتى:

1- جيش إسرائيل ودولة إسرائيل خلف القوة المهاجمة.. أما أبطال أم كتاف فيعرفون أن بقية الجيش متجهة بأسرع ما يمكن بعيدا عن سيناء وأنه لا أمل في أي نجدة من القاهرة.
2- وزير الدفاع في معسكر الجيش الاسرائيلى المهاجم.. والقوة المحاصرة لا تعلم ماذا يجرى في بقية الجبهة، إلا أن أوامر الانسحاب تصدر من عبد الناصر وليس من عامر وأن هناك أمرا بالانسحاب العام إلى غرب أو شرق القناة، لن نختلف.. ومعنى ذلك أننا خسرنا الحرب وسلمنا سيناء كلها أو لا أمل لهم في نجدة أو مدد بل إن قتالهم بلا معنى وقد سقطت سيناء كلها من حولهم أو بمعنى أصح " أسقطت" سلمتها قيادتهم في القاهرة بلا حرب .
3- الطيران الاسرائيلى بكل قوته يغطى القوة المهاجمة ويضرب القوة المحاصرة، والطيران المصري بلا طيارين حرصا على حياتهم.

ألم يكن من الضروري أن تدرس معركة أم كتاف في المدارس المصرية وتوضع عليها الدراسات والأفلام خلال العشر سنوات التي انقضت ما بين الحربين بدلا من أن يكون مرجعها الوحيد هو شهادة الأعداء.

ولكن كيف يمكن الإشادة ببطولة من صمدوا ولم ينسحبوا إذا كان الإعلام المصري قد جعل من الانسحاب أعظم نصر ، وأكثر القرارات عبقرية في تاريخ الحروب؟

خسرنا الحرب مع إسرائيل من الناحية العسكرية:

1- تم الانسحاب من سيناء كلها واحتلها إسرائيل بالكامل كما احتلت مضيق تيران وأعلنت حرية الملاحة الإسرائيلية فيه.
2- تحول الجيش المصري بنص عبارة عبد الناصر إلى " بقايا جيش محطم"
3- خسرنا من العتاد الحربي ما قيمته بنص كلمات عبد الناصر : مائة وثلاثة ملايين جنيه مصري( بجنيه من قبل الاشتراكية) أوكل صفقة السلاح الروسي كاملة.
ونحتار ماذا يقصد مؤرخ الناصرية عندما يؤكد هذه الحقيقة، وهى تسليم سيناء للإسرائيليين بلا قتال وتجنيب جيش إسرائيل أية خسائر، وتصرف الإسرائيليين عن وعى بأن هناك من يسحب لهم القوات المصرية، من يأمر الجيش المصري بأن ينهزم لهم..

وإلا فما معنى هذا الذي يقوله:

" قال ديان لـ" سمحونى" : " لماذا تدفع خسائر بالعشرات من رجالك لتحقيق هدف سوف تحصل عليه بدون قطرة دم واحدة بعد بضع ساعات" ( ص 538) مجانا ستسلم لك المواقع فور وصول التعليمات من القاهرة بالانسحاب.
ديان عنده موعد مع جهة ما ستأمر بتسليم الموقع دون قطرة دم بضع ساعات ويقول: " القوات الإسرائيلية دخلت شرم الشيخ وهى الهدف النهائي للعملية( اعترفنا الآن بأنها الهدف النهائي وليس إسقاط الزعيم؟) بعد وقف إطلاق النار وبعد أن أتمت القيادة المصرية انسحاب قواتها بالكامل من شبه الجزيرة( هذه أول مرة في حياته يعترف أن سيناء شبه جزيرة بعد أن سلخنا جلده على وصفها بالصحراء.. حسنا أفاد التقريع ) وقد وصل الجنرال ديان إلى شرم الشيخ في طائرة صغيرة قبل أن تصل إليها القوات الإسرائيلية وكان مطمئنا لأنه يعرف أنه لم تعد قوات مصرية" ( ص 539) .
تسليم وتسلم.. هذه بلاد بيعت أو خينت وسلمت قصدا.. وأخذت بلا قتال .. لماذا تنسحب القوات المصرة من شرم الشيخ قبل أن يصل الإسرائيليون .. وبعد وقف إطلاق النار؟..
والغريب أنه لا يستحى من الحديث عن بسالة قواتنا التي أتيح لها القتال.. فلماذا أمرتموهم بالانهزام.
4- دمرت إسرائيل " طرق المواصلات والسكك الحديدية في سيناء وكذلك قامت بوضع ألغام على هذه الطرق"
5- "والمذابح ما زالت مستمرة بطريقة منتظمة، والتخريب قائم على نطاق واسع وجميع المنشآت الموجودة في سيناء وعلمت أنهم يسرقون البترول الخام في سدر وبلاعيم في مراكب تتجه إلى ميناء إيلات" :
من رسالة عبد الناصر إلى محمود فوزا 5 ديسمبر 1956.

وهذه هى الرسالة التي علق عليها هيكل وكأنه يخرج لسانه للقراء إذ قال:

" وبرسائل ناصر وفوزي تتلهى قصة السويس كأكمل وأشمل انتصار حققه العرب في العصر الحديث بالمعنى الحقيقي للنصر في هذا العصر".
احتلوا الأرض وحطموا المنشآت وشحنوا نفطنا .. وانتصرنا .. بل وأعظم انتصار .

إذا كنا قد هزمنا عسكريا في سيناء فهل انتصرنا سياسيا كما هو الشائع في الأوساط الأقل فجورا من هيكل، التي تعترف بالهزيمة العسكرية ولكن تغطى ذلك بالخلط بين انتصار مصر على الإنجليز والفرنسيين – إذ أجبر الضغط الامريكى .. والإنذار السوفيتي الدولتين على الانسحاب بلا قيد ولا شرط. وبين انسحاب إسرائيل من سيناء وغزة، وخاصة أن شروط انسحاب إسرائيل لم تعلن أبدا في مصر ، بل وظل المصريون المثقفون لا يسمعون بها حتى كان مؤتمر شتورا 1962 والعامة لم يسمعوا بها إلا عشية حرب 1967 إذ عرفوا لأول مرة أن إسرائيل كانت تمر من خليج العقبة، بل ها هو كتاب يصدر بعد عشرين عاما ومخصص لتحليل " حرب السويس" – كما يسميها- لا يشير بحرف واحد إلى شروط انسحاب إسرائيل ، ولا ما تنازلت عنه مصر . نعم.. حرف واحد عن هذا الأمر لم يرد في كتاب هيكل الأمين على تاريخ الناصرية؟ استمرار في التزوير والتجهيل ..

الحقائق تؤكد أن القيادة المصرية فشلت وهزمت في حرب سيناء سياسيا ودبلوماسيا مما مكن إسرائيل من تحقيق هدفها المرحلي الذي دخلت من أجله الحرب..

وصحيح أن بن جوريون أعلن ضم سيناء وغزو ولكنه هو نفسه فشر ذلك بقوله:" لقد كان تقدمنا في سيناء سريعا.. كان انتصارنا سريعا جدا، وكنت سكران بخمر النصر"

فحتى حلفاء إسرائيل في الغزو ما كانوا يقرونها على ضم سيناء وقد حذر سلوين لويد موشى ديان حرفيا في خلال مفاوضات التآمر على الغزو " أرجو ألا تراودكم أحلام في استغلال الفرصة بضم سيناء"

وقال موشى ديان " بالنسبة إلى النهاية لم نكن نريد احتلال سيناء إلى الأبد ولكن كنا نريد ضمان حرية الملاحة إلى إيلات وتدمير الجيش المصري الذي يهدد إسرائيل في سيناء، ووقف عمليات الفدائيين ضد إسرائيل من قطاع غزة"

وقد تحققت هذه الأهداف كاملة.. طبعا استمر اليهود يساومون إلى آخر لحظة للحصول على أقصى ما يمكن الحصول عليه من مكاسب.ز ولكن هذه كانت أهداف المرحلة أو قل الحد الأدنى الذي يغطى مخاطر ونفقات الحملة.. ولا تنسى أن إسرائيل كما قال بن جوريون كانت على اعتقاد بأنها " لا تستطيع أن تشن وحدها حربا ضد مصر".

وقد لعبت الدبلوماسية الأمريكية دور الوسيط بين إسرائيل ومصر ، فاستخدمت الأمم المتحدة، والخطر الروسي، والإمكانات الأمريكية للضغط على إسرائيل لتحيق الانسحاب من سيناء وغزة. وضغطت على مصر بالاحتلال الاسرائيلى، والبريطاني والفرنسي إلى حد ما ، ثم بما كان بين أمريكا ومصر من علاقات بعضها معروف وأكثرها غير معروف، لقبول مطالب إسرائيل .

قادت أمريكا المناقشات في الأمم المتحدة . وكان ايزنهاور قد بعث برقية لابن جوريون فور العدوان " يقترح فيها سحب إسرائيل لقواتها من سيناء وأنه سيقدر تمام التقدير استجابتنا ، فلما لم يصل رد إسرائيل طلب هنري كابوت لودج مندوب أمريكا عقد جلسة عاجلة لمجلس الأمن حيث قدم قرارا يدعو إسرائيل لسحب قواتها المنطقة وقد تأجل الاجتماع خمس ساعات بناء على طلب فرنسا وبريطانيا وإسرائيل ، ولما استوئنف كانت الأنباء قد وصلت بالإنذار البريطانى- الفرنسي، وقد اعتبر ايزنهاور ذلك عملا من أعمال الغش".

وتبنت أمريكا اقتراح إدانة إسرائيل ، والأمر بانسحابها إلى خطوط الهدنة.

وكان الإنذار السوفيتي لإسرائيل أكثر تحديدا واقل دبلوماسية من الإنذار الموجه لبريطانيا وفرنسا ، إذ تحدث عن إمكانية زوال إسرائيل .. واستغل الأمريكيون ذلك فبعث سفير الولايات المتحدة بمعلومات لإسرائيل " بأن الاتحاد السوفيتي ينوى توجيه ضربة قاصمة لإسرائيل تسويها بالأرض".

ولكن بن جوريون قال:" لم يكن يتمنى ما يقوله بولجانين ، أو ما يحتمل أن يفعله . لقد كان اهتمامي كله بموقف الأمريكيين فقد كنت أعلم قوة وسائل الضغط التي يملكونها علينا.

بما يجعلنا نرضخ لطلبهم بالانسحاب.. إنني كنت مهتما بالأمريكيين أكثر".

وتقول جلدا مائير :" لم نخض حملة سيناء مناجل كسب أرض ولا نهب أو أخذ أسرى، وإنا كان الشيء الوحيد الذي نريده هو السلام.. أو على الأقل الوعد بسلام لعدة سنوات" .

" كنا قد انتصرنا ولكن الفرنسيين والإنجليز خسروا حربهما.. وقد خضع الإنجليز فو صدور قرار الأمم المتحد بانسحابهم من منطقة القناة، وكذلك صدر الأمر بانسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة.

وبدأت الأربعة شهور ونصف شهر من " وجع القلب في المعركة الدبلوماسية التي خضناها" و" لكن الرئيس ايزنهاور كان غاضبا وقال إذا لم تنسحب إسرائيل فسيؤيد فرض عقوبات ضدها في الأمم المتحدة" " وأخبرني دلاس أكثر من مرة إن إسرائيل ستتحمل مسئولية حرب عالمية ثالثة" " وفكرت أكثر من مرة في أن أهرب من الأمم المتحدة وأعود لإسرائيل ، ولا أواجه دلاس وكابوت لودج رئيس الوفد الامريكى في الأمم المتحدة ولكنى بقيت وابتلعت مرارتي،وفى النهاية حوالي آخر فبراير ، وصلنا إلى تسوية ما، ستغادر قواتنا غزة وشرم الشيخ مقابل تعهد بأن الأمم المتحدة ستضمن حرية الملاحة للسفن الإسرائيلية في مضيق تيران وأنه لن يسمح بعودة الجيش المصري إلى غزة".

وبالطبع تسكب جولدا مائير الدمع على ما تنازلت عنه إسرائيل أو ما أجبرتها عليه أمريكا من تنازلات .. وما زال الإسرائيليون يقولون إن مناحم بيجين تنازل للسادات عن سيناء .

" جولدا مائير" التي أقيمت لها التماثيل، وخلدت حياتها في السينما بعد ذلك اعترفت وقتها 1956 " بدا وكأن العالم كله ضدنا" جولد ص 290 حياتي.

ومع ذلك قبل عبد الناصر هذه التنازلات لإسرائيل مع أن العالم كله كان معه .

1- فتح خليج العقبة للملاحة الإسرائيلية وإزالة الوجود العسكري المصري في تيران وشرم الشيخ، بل وإزالة السيادة المصرية الفعلية هناك وإن بقيت اسميا. وسلمت المنطقة لقوات البوليس الدولي.
2- تجميد الحدود المصرية- الإسرائيلية بالبوليس الدولي الذي قبل أن يوضع على جانب واحد من خط الحدود وهو الجانب المصري فأصبحت مصر عمليا في نفس وضعها بعد كامب ديفيد، أي خارج إمكانية المواجهة.. وقد علم بعد ذلك أنه إلى جانب القوات الدولية فقد كانت هناك اتفاقية سياسية بين مصر وأمريكا بتجميد الوضع عشر سنوات وهو ما حدث.

ويجب أن ننبه إلى أن " قوات الطوراىء " لم تكن بالتي تنسحب فور طلب مصر ، كما حدث، وكما راج، وإنما قرار الأمم المتحدة، كان يشترط لسحبها الرجوع إلى الأمم المتحدة. وهذا ما كان في خاطر عبد الناصر عندما طلب سحب القوات ، لكي تتاح الفرصة لمناقشة الموضوع في " الجمعية العمومية للأمم المتحدة " كما ينص قرار تشكيلها، وعندها تفتح الأبواب للخطب والاتصالات وتبريد الموقف بدون حرب، بعدما يكون قد حقق الكسب السياسي.. ولكن النية كانت قد اتجهت لضربه، كانت إسرائيل قد أكملت استعداداتها ورأت أن الوقت قد حان للضربة القاضية وهى التي دفعت الأحداث إلى ما وصلت إليه وباتفاق ومباركة الولايات ا لمتحدة، لذلك فوجئ عبد الناصر باستجابة سكرتير الأمم المتحدة للطلب وسط دهشته ودهشة العالم كله، ولم يلتزم بالجزء الخاص بضرورة عرض الأمر على الجمعية العامة للأمم المتحدة ، حتى أنهم أرسلوا " مرسال " على عجل يسحب الطلب فقيل لهم فات الأوان وبالطبع لو كانت إسرائيل أو أمريكا لا تريدان الحرب، لما حدث ذلك ، وعلى أية حال . أية مفاجأة يمكن أن تمارسها ضد إسرائيلي وهى لا تستطيع أن تهجم إلا بعد أخطار العالم كله وذلك بطلب سحب قوات الأمم المتحدة؟

الواقع والذي حدث فعلا أن الجبهة المصرية – الإسرائيلية جمدت تماما ولمدة عشر سنوات، وأطلقت يد إسرائيل على الجبهات الأخرى ولبناء جهازها العسكري ليصبح أقوى جهاز في الشرق الأوسط، وبنفس القوة، فإن هذا التجميد، أعطى القيادة المصرية، دعما جديدا لخطها السياسي في تجاهل الخطر الاسرائيلى فأهملته تماما، في نفس الوقت الذي وضعها في موقف محرج من شعبها ومع الفلسطينيين ومع الجماهير العربية المطالبة بصدق، بالمواجهة مع إسرائيل .

وأيضا في حرج مع المزايدين والعرب الذين عرفوا بالقيد الذي قيدت مصر به نفسها، فراحوا يستفزون القيادة المصرية بتحديها لمواجهة إسرائيل ، وانتقاد سماحها بالمرور الاسرائيلى في خليج العقبة وحماية حدودها بالبوليس الدولي وإنكار ذلك على دول المواجهة الأخرى، ومعروف أن عامر اشتكى من الحملة التي صادفته في الخارج حول خليج العقبة.

وصدق مصطفى كامل عندما قال قبل ستين سنة.. " إن من يتهاون في حقوق بلاده مرة واحدة، يبقى أبد الدهر مزعزع العقيدة سقيم الوجدان "

التفريط في 1957 أدى إلى التورط في 1967 ويبدو أننا يجب أن نقف لحظة هنا لنعرض ما هو خليج العقبة ومضيق تيران. والملاحة الإسرائيلية ..

المعروف أن مصر إلى ما قبل 1948 كانت الدولة الوحيدة التي تطل على البحرين الأحمر والأبيض ، ومن ثم كانت فكرة قناة السويس، وبالطبع كان التطور التالي في العصر الحديث هو أنابيب النفط التي تربط بين المنابع القريبة من البحر الأحمر وبين الأسواق على البحر الأبيض أو قريبة منه، ولكن وجود قناة السويس أغنى عن ذلك، ولم يجعل الشركة ولا الإدارة المصرية تفكر في منافستها..

وفى مشروع التقسيم 1947 لم تعط إسرائيل منفذا على البحر الأحمر في الخريطة التي صدر بها قرار الأمم المتحدة ، وظلت الأردن هى الدولة التى تطل على البحر الأحمر من العقبة التي انتزعها الإنجليز من السعودية عام 1925 وضموها للأردن، وميناء صغير اسمع أم الرشراش ، وقد تصدت بريطانيا لأية محاولة إسرائيلية للاقتراب من العقبة التي كانت مع عدن مفاتيح السيطرة البريطانية على البحر الأحمر، ولكن تحت الضغوط الصهيونية والأمريكية ، سمحت بريطانيا لرجلها في الأردن الجنرال الذي أمر نائبه في الموقع " برومج" بالانسحاب من أم الرشراش في 6 مارس 1949 واحتلتها إسرائيل في 10 مارس 1949 دون طلقة واحدة..

وهكذا أصبحت إسرائيل الدولة الثانية التي تطل على البحرين، وكانت الخطوة التالية هى بناء ميناء وخط أنابيب ينقل النفط من إيلات على البحر الأحمر إلى أسدود البحر الأبيض منافسا لقناة السويس وخط التابلاين الذي ينقل النفط السعودي، وخط الآى بى سى الذي ينقل النفط العراقي، كما يربط الميناء الجديد إسرائيل بأفريقيا ودول آسيا.. وكانت مصر قد منعت الملاحة الإسرائيلية في قناة السويس منذ لحظة قيام إسرائيل في 15/5/1948.

أما خليج العقبة الذي تقع إيلات على رأسه فإن طوله مائة ميل، وأوسع مناطقه 17 ميلا ومدخله 9 أميال.. تسده جزيرتان: تيران وصنافير ، وهما سعوديتان وتقعان داخل الثلاثة أميال.

جزيرة تيران تقسمه إلى فتحة سعودية مليئة بالصخور وفتحة مصرية عرضها 4 أميال بها ممران والممر الوحيد الصالح للملاحة هو الممر المصري القريب من شرم الشيخ ورأس نصراني.. ولما كان الممر في المياه الإقليمية المصرية بجميع المقاييس حتى التي تقتصر على ثلاثة أميال.

ومن الجانب الآخر مياه إقليمية سعودية، والوجود الاسرائيلى في أم الرشراش أصلا غير شرعي ولا حتى بقرار التقسيم المعترض عليه.. فقد كان من الطبيعي أن تفكر الحكومة المصرية في إغلاق فتحة الخليج من الجنوب وبذلك تفقد " إيلات" أو أم الرشراش كل مبررات وجودها باستثناء السباحة وصد السمك.. وتتعطل كافة مشاريع الاستفادة من موقع إسرائيل على البحرين..

لذلك اتفقت الحكومة المصرية مع الحكومة السعودية في يناير 1950 على استخدام جزيرتي تيران وصنافير ونصبت المدافع في رأس نصراني وصرح وزير الحربية المصري مصطفى نصرت ( حكومة الوفد):

" إن تزايد نشاط إسرائيل على ساحل إيلات قد اضطرنا إلى تدعيم قواتنا المصرية في منطقة مدخل خليج العقبة، فأرسلت قوات مناسبة إلى رأس نصراني لتتحكم تحكما تاما في هذا المدخل"
وفى 21 ديسمبر 1950 أغلقت حكومة الوفد " الرجعية" المضيق في وجه الملاحة الإسرائيلية.
وفى 15/1/1951 حددت مصر مياهها الإقليمية بستة أمسال واعتبرت كل المياه ما بين جزيرتين مصريتين مياها إقليميا.
وفى أول يوليو 1951 أطلقت البحرية المصرية النار على سفينة بريطانية حاولت اختراق الحصار واعتقلتها 24 ساعة . واستمر الحال على ذلك في حكومة الثورة.

وفى سبتمبر 1954 حاولت إسرائيل تحدى الحصار، فأرسلت السفينة " بات جليم" فصادرتها السلطات المصرية، واعتقل بحارتها ثم أعيدوا إلى إسرائيل .

وفى سبتمبر 1955 منعت مصر الطيران فوق الخليج وتوقفت رحلات شركة العال..وينقل الدكتور عبد العظيم رمضان – عن موشى ديان قوله:

" كانت هذه المضايق هى الهدف الرئيسي للمعركة، ولو توقفت المعارك وفى يدنا شبه جزيرة سيناء دون شرم الشيخ، إذن لظل الحصار قائما على الملاحة إلى إسرائيل ولكان ذلك يعنى أننا خسرنا المعركة".

ويستعرض د. عبد العظيم رمضان تطورات فتح الخليج كالآتي:

- احتلت إسرائيل شرم الشيخ يوم 5 نوفمبر 1956
- قدمت الهند مشروعا قويا يندد بتأخر الانسحاب في 22 نوفمبر 1956 وكانت الجمعية العامة قد أقرت قرارا بانسحاب إسرائيل الكامل دون إشارة إلى حرية الملاحة، وأن همر شولد رفض أن تضمن القوات الدولية حرية الملاحة في خليج السويس".
- ولكن بعد أن تم الاتفاق المصري – الامريكى وانسحبت إسرائيل في مارس 1957 أرسلت أمريكا في 6 أبريل 1957 سفينة أمريكية تحمل نفطا إيرانيا لإسرائيل ومرت في خليج العقبة واكتفت مصر بالاحتجاج.. وكان ذلك أول اقتحام للخليج منذ أغلقته حكومة الوفد".

وتم أكمل نصر في تاريخ العرب الحديث..

الوفد وحكومات ما قبل 1952 أغلقت الخليج في وجه إسرائيل ، وحكومة ما بعد 1952 فتحته، ومع ذلك يقول هيكل بلا حياء:" وحتى سنة 1952 رغم اشتراك مصر في حرب فلسطين سنة 1948 فإن الرياح في مصر كانت تسير على هوى إسرائيل ، وفجأة تغيرت اتجاهات الرياح".
تغيرت ؟ نعم.. ولكن لتهب في شراع سفينة إسرائيل .. وحاسبونا على النتائج.. إذا كان ما حققته إسرائيل في ظل الرجعية أكبر مما حققته في ظل الثورية.. فمعك حق يا أمين على التاريخ.. بل حتى حرب 1948 التي خسرناها كانت أشرف في وقائعها ونتائجها يا مفرط في الجغرافيا؟

شقت أمريكا الطريق في قلب السيادة المصرية الممزقة، وجاء الدور على إسرائيل لكي تستعرض وتعربد وتعلن وتلقى الفتوح العلا..

" في أول مايو 1957 اتجهت مدمرة إسرائيلية من إيلات إلى شرم الشيخ ثم بلدة الشيخ حميد السعودية على بعد كيلو مترين ، ثم اقتربت إلى مسافة كيلو متر واحد من بلدة مقنى على الساحل السعودي.

وفى نفس اليوم واليوم التالي أجرت مدمرتان وثلاثة طرادات وطائرات حربية إسرائيلية مناورات على الساحل المصري لخليج العقبة بين إيلات وطابا ووصلت على المياه السعودية على الضفة الشرقية للخليج؟

ربكا كانت حملة تهنئة بأكمل نصر عربي، وذلك لم تحرك قيادة مصر ساكنا لأنها على ما يبدو كانت مشغولة بدورها باحتفالات " أكمل نصر في تاريخ العرب" فتركت إسرائيل تتجرع هزيمتها في المياه المصرية.

ويعلق د. عبد العظيم رمضان على سكوت مصر " فكأنها وافقت بذلك موافقة صامتة على هذا المرور".

ويقول :" ومرور الملاحة الإسرائيلية في مضيق تيران يعد أضخم مكسب حصلت عليه إسرائيل منذ احتلالها ميناء ام الرشراش في مارس 1949، وهو أخطر تطورات الصراع بين مصر وإسرائيل منذ إنشاء تلك الدولة، فقد فتح البحر الأحمر أمام إسرائيل وأتاح لها أن تتمتع لأول مرة بمزايا موقعها على بحرين: البحر الأحمر والبحر المتوسط.

وقد ترتب على ذلك النتائج الآتية:

أولا: تحول ميناء إيلات على ميناء عالمي، ومحاولة إسرائيل الاستعاضة به عن قناة السويس لنقل البضائع، والبترول بين آسيا وأفريقيا وأوربا.
فقد عمدت إلى إقامة شبكة من المواصلات بين إيلات والبحر المتوسط، وإدخال تحسينات كبرى على الميناء، وقامت بتوسيعه وتقسيمه إلى ثلاثة أقسام: قسم جنوبي ، وهو ميناء البترول، وتصل إليه السفن التي تحمل البترول الخام الذي يدفع إلى معامل التكرير بحيفا. وقسم شمالي ، يختص بشحن وتوزيع البضائع، وقسم أوسط يتم فيه تخزين البضائع.
وفى عام 1959 كانت هناك ثلاث شركات ملاحية تعمل بواخرها بانتظام بين إيلات والساحل الرقى لأفريقيا. وقد سجل الأسطول التجاري الاسرائيلى تقدما مضطردا منذ عام 1959.
وعلى سبيل المثال، فقد كانت حمولته في ذلك الحين تبلغ 321,000 طن ، فبلغت في سنة 1960، 462,000 طن ، وفى سنة 1961 بلغت مقدار 640,000 طن. وقامت الخطوط الملاحية بربط إسرائيل باليابان وبورما وسيلان وشرقي أفريقيا وغربها واستراليا.

وفى أعقاب ك الحصار عن مضيق تيران، هبت إسرائيل لمد خط أنابيب للبترول من إيلات إلى معامل التكرير بحيفا. وكانت ههذ المعامل تعمل منذ حرب 1948 بربع طاقتها فقط. ومن المعروف أن إسرائيل كانت تتيح حوالي 10 في المائة مما تحتاجه من البترول، وتستورد ما تحتاجه كمصدر للطاقة ولصناعة البتروكيماويات من إيران بالخليج العربي.

وقد جرى التفكير في إنشاء هذا الخط في أعقاب عدوان 1956 وتم إنجازه على ثلاث مراحل: من إيلات إلى بير سبع ، ويبلغ طوله 240 كيلو مترا، وقطره 8 بوصات، وتم انجازه في منتصف شهر ابريل 1957 ، ومن بير سبع على اسدوديام ، ويبلغ طوله 77 كيلو مترا ، وقطره 8 بوصات لمسافة 15 كيلو مترا أو 16 بوصة لمسافة 62 كيلو مترا. ومن اسدوديام إلى حيفا، ويبلغ طوله 139 كيلومترا، وقطره 16 بوصة.
وقد انتهى العمل فيه في منتصف يوليه 1958. ومنذ منتصف شهر مايو 1959 بدأ إنشاء خط النفط الدولي بين إيلات وحيفا الذي وقعت اتفاقيته في مطلع العام مع جماعة من الممولين الفرنسيين على رأسهم البارون روتشيلد.
وسرعان ما أنشأت إسرائيل مطارا عسكريا شمال إيلات على بعد كيلو مترين من الساحل على الجانب الغربي من الطريق العام، يصلح لهبوط الطائرات النفاثة.
ويعد مطار إيلات هو المطار الثاني في إسرائيل بعد مطار اللد. وأنشأت إسرائيل طريقا بريا من الدرجة الأولى بين حيفا وإيلات يبلغ طوله 467 كيلو مترا، أطلق عليه الإسرائيليون اسم:"قناة السويس البرية". وقد استطاعت إيلات أن تستقطب سريعا حركة الملاحة من ميناء العقبة الأردني، حتى بلغ حجم السفن التي تصل إليها في عام 1967 سبع سفن مقابل كل سفينة تصل على ميناء العقبة.
ثانيا : تسرب النفوذ الاسرائيلى إلى أفريقيا تدعمه الاستثمارات الإسرائيلية والامبريالية . وتنوع النشاط الاسرائيلى في الميادين الاقتصادية والثقافية والعسكرية.

ومن الطبيعي أن هذه العلاقات قد فتحت أمام الحاصلات الزراعية والمنتجات الصناعية الإسرائيلية أسواقا رائجة ، استطاعت إسرائيل من خلالها التغلب على الحصار الاقتصادي العربي ومنافسة الصناعات العربية".

وهذا كله من بعض شروط وعلامات كمال النصر، وإن كان تواضع مؤرخ الناصرية جعله يغفلها تماما فلم يشر بحرف لا إلى الخليج ولا إلى الخليج ولا إلى شرم الشيخ، ولا إلى الملاحة الإسرائيلية فهذه قضايا تافهة لا يجوز أن تشغلنا عن النصر الأكبر في " باندونج" والنصر التاريخي في حرب المائة ساعة على مشروع ايزنهاور..

ثالثا: كذلك نزع سلاح غزة، ومنع الجيش المصري من دخولها وكان هناك منذ عهد الرجعية التي خانت قضية فلسطين، فخرج منها بعد ما بدأت الرياح تهب في غير مصلحة إسرائيل ..

وحرمت مصر من الإمكانية الممتازة للقطاع في دعم أي هجوم مصري، بل وأوقفت العمليات الفدائية التي كانت تتم من القطاع.

قال جولد مائير:" زال رعب الفدائيين ...تقررت الملاحة في مضيق تيران، وقوات الطوراىء تحركت إلى قطاع غزة وشرم الشيخ، وكسبنا نصرا جعل التاريخ العسكري يثبت مرة أخرى قدرتنا على حمل السلاح للدفاع عن أنفسنا".

يقول حمروش وهو يعتذر:

" ضغطت أمريكا على إسرائيل للانسحاب وضغطت على مصر لتبقى قوات طوارئ دولية في شرم الشيخ حتى لا تتاح للقوات المصرية مستقبلا فرصة قفل خليج العقبة ومنع الملاحة فيه.. ولم يشأ جمال عبد الناصر أن يعاند ويواصل تحدى أمريكا لأنه وجد في ذلك على حد تعبيره موقفا غير سياسي، وقبل هذا الشرط مرغما كما يقول ناتنج".
وهكذا نرى عبد الناصر يتحدث عن " إرغامه" وهيكله يتحدث عن " أكمل نصر في تاريخ العرب".
" ولم ترسل مصر حاكما لغزة كما كانت الأمور من قبل، وإنما عينت حاكما مدنيا ولم ترسل معه قوات عسكرية بل اكتفت بفريق من الشرطة العسكرية".
ونضيف: إن مصر كانت لا تفكر حتى في إرسال الحاكم المدني، ولكن ثورة الأهالي هناك ومبادرتهم برفع الراية المصرية فور الانسحاب الاسرائيلى ومطالبتهم بالعودة المصرية الكاملة، أدت إلى تطويق هذه الحركة بإعادة الإدارة المدنية مع قبول شرط إسرائيل بإلغاء الوجود العسكري هناك وقد كنا معاصرين لهذه الأحداث زمانا ومكانا..

ويقول :" وقبلت مصر قوات الطوراىء الدولية لتكون حاجزا بينها وبين القوات الإسرائيلية ، حتى لا تتكرر الاشتباكات المسلحة التي ظلت تحتل العناوين الرئيسية في الصحف على فترات متقاربة منذ غارة 28 فبراير 1955 حتى عدوان 1956".

انتهت معركة صفقة السلاح، وتحطيم احتكار السلاح وهدير الطائرات والدبابات في شوارع القاهرة، والاستعراضات " السمينة" لا الهزيلة.. انتهى ذلك كله " بحاجز يمنع تكرار الاشتباكات ".

ولا أحد يجادل أن هذا التجميد كان لصالح إسرائيل وحدها.. فقد خرجت منه أكبر قوة عسكرية في المنطقة، وخرجت مصر منهوكة القوى، أكثر عجزا من الناحية العسكرية عما كانت عليه حتى في عام 1956..

ويريد حمروش أن يقول إن عبد الناصر بقبول قوات الطوراىء قد استبعد نهائيا – من جانبه- الحرب مع إسرائيل ، ولكن نفاقه للناصريين يمنعه أن يقول ذلك صراحة فيلف ويدور ليقول الآتي: بقبول عبد الناصر التجميد هذا " وجدت أفكار جمال عبد الناصر التي كان قد عبر عنها إلى مجلة " الشئون الخارجية الأمريكية في فبراير 1955 قبل تصاعد هذا التوتر، وجدت فرصتها للتحقيق من جديد فقد قال يومئذ: ليس هناك محل للحرب مع سياستنا الإنشائية التى قررناها لتحسين مستوى الشعب".

إذن فمحصلة حرب سيناء 1956 هى العودة إلى سياسة " لا محل للحرب" وكان الظن أن تنبه القيادة المصرية إلى أنه " ى حل إلا الحرب".

عدنا لسياسة العمدة والقملة على قفاه وادعاء أنه وضعها قصدا.. كما أن المكاسب التي حصلت عليها إسرائيل من العدوان كان من بينها الحق المكتسب في ا لملاحة في خليج العقبة وبالتالي عندما أرادت مصر أن تسترد هذا الحق في 1967 كان لدى إسرائيل المبرر العالمي للعدوان الثاني..

وربما يؤدى مناخ مبادرة روجرز وكامب ديفيد ، وما أعلن من تنازلات في العشرين سنة الأخيرة، ربما يؤدى إلى استهانة القارئ الحديث بهذه التنازلات ، ويعتقد أن القيادة المصرية فعلا كانت مرغمة عليها أو أن ظروفها كانت مماثلة لظروف 1967 وما بعدها.. والحقيقة مخالفة تماما، فلم يكن المناخ الدولي في يوم من الأيام مناسبا لمصر في تاريخ المواجهة مع إسرائيل كما كان في عام 1956..

1- الهجوم الاسرائيلى أو العدوان واضح لا شبهة فيه ولا محاولة لإخفائه أو ادعاء أنه هجوم وقائي، وأدانته 64 دولة من بين ثمانين دولة في الأمم المتحدة وطلبت الأغلبية الساحقة انسحاب إسرائيل بلا قيد ولا شرط.
2- إسرائيل تورطت في أسوأ غطاء دولي يمكن أن تلجأ إليه دولة صغرى وهو القتال تحت مظلة بريطانيا وفرنسا الاستعماريتين ، أو كما بدت وقتها- وهو غير صحيح- مخلب قط لهدف استعماري قبيح.. وما كان يمكن لأي يساري أو منتسب لفكر متحرر ليبرالي أو اشتراكي أو إنساني أو يؤيد أو يدافع عن غزو يقوم به الاستعماران العجوزان أو مخلب قط لهما، ولم يكن هناك ثمة مبرر ولا حتى عند اليهود خارج إسرائيل للعدوان.. وانفجرت المعارضة للغزو.

وتأييد مصر في لندن وكل عواصم أوربا تقريبا، وانتقد الغزو في مجلس العموم البريطانى، وكان الأعضاء أن يتضاربوا فرفعت الجلسة لتهدئة الموقف واستقال وزير الدولة البريطانى" أنتونى ناتنج" احتجاجا على العدوان.وهو حدث في تاريخ بريطانيا .

ولأول وآخر مرة تتفق أمريكا وروسيا ضد إسرائيل وينزلان معا بكل ثقلهما الدبلوماسي والسياسي .. والاقتصادي إلى جانب مصر ولفرض الانسحاب.. وقرارات مجلس الأمن ضد إسرائيل والانسحاب تقدم بها الوفد الامريكى.. مما جعل كل الدول في إطار العملاقين تصوت ضد إسرائيل .

بينما في 1967 خرج اليسار الفرنسي كله في مظاهرة وراء سارتر يهتف بالموت للعرب والمسلمين .. وجمعوا أربعة مليارات فرنك لدعم إسرائيل ، التي استطاعت أن تقنع العالم أن الوحش المصري سيفتك بها، وكانت أمريكا بكل ثقلها خلف إسرائيل .. وهذا يوضح أنه ليس بفضل شعبية الزعامة المصرية في 1956 كان الموقف العالمي بل بسبب بشاعة الصيغة التي تم به العدوان، والمكانة التي كانت لمصر قبل أن يحكمها المماليك الجدد.

وبعكس 1967 عندما كان الوضع العربي ممزقا، وكثير من النظم العربية يخشى انتصار عبد الناصر أكثر مما يخشى هزيمة مصر.. كان الوضع العربي في 1956 أفضل بكثير فالحركة الوطنية للأمة العربية في زخمها وطهارتها وبكارتها.. ومصر في حلف عسكري مع الأردن وسوريا، وقيادة عسكرية تحت إمرة القائد العام المصري وفى انتظار إشارة للهجوم على إسرئايل ، وإذا كان لا يعرف حتى الآن السبب الذي جعل عبد الناصر يمنعهم من الاشتراك في الحرب.. وإذا كنا نرفض العذر البارد بأنه رأى المؤامرة في الأيام الأولى أكبر مما تصور فآثر تطويقها في خسارة مصر وحدها..

حتى لو قبلنا هذا التفسير المريب فقد تغير الوضع في الفترة من ديسمبر ( انسحاب الإنجليز والفرنسيين) إلى مارس 1957 (انسحاب إسرائيل ) إذ كان ما زال يملك ) ورقة فتح جبهة أردنية وأخرى سورية.. فلماذا لم يستخدم هذه الورقة في المساومة والضغط لفرض الانسحاب بلا قيد ولا شرط ودون أن تحقق إسرائيل أي مكسب كما يقضى العرف الدولي وكما كان العالم كله معه في ذلك..؟ وهو وضع لم يكن متاحا بالطبع بعد 1967

وكانت مصر فيما هو أكثر من تحالف مع السعودية التي طوعت كل إمكاناتها تحت تصرف مصر، كما كانت قد جندت كل هذه الإمكانات مع مصر قبل العدوان ومنذ 1952 على جميع الجبهات.. وبدلا من وضع 1967 حيث كانت مصر تحارب السعودية في اليمن.. كانت مصر واليمن والسعودية في اتحاد دفاعي وحلف مسلح.. حتى همرشولد قال لمحمود فوزي إنه " سوف يصر على تنفيذ الجمعية العامة تنفيذ كاملا أمينا لكي لا تجنى إسرائيل أية فوائد أو مزايا نتيجة لعدوانها" ولكن ماذا فعل همرشولد إذا كان عبد الناصر لا يصر ويقبل أن تستفيد إسرائيل من عدوانها..

وإذا كنا سنعود للحديث عن موقف ايزنهاور ودلاس من إسرائيل في الحديث عن الخطة " آلفا" .. إلا أنه في مجال تعداد الظروف التي كانت مواتية لوقفة صامدة مع إسرائيل وضيعها عبد الناصر، أشير إلى أن الإدارة الأمريكية في تلك الفترة، كانت اقل واحدة تأثرا بنفوذ الصهيونية في تاريخ أمريكا منذ الحرب العالمية على الأقل – ايزنهاور نجح رغم أصوات اليهود وجهودهم، وهو في المدة الثانية، التي يتشجع فيها الرؤساء الأمريكيون، ويضعون مصالح أمريكا فوق مصالح إسرائيل ، إلا أن ايزنهاور شخصيا لم يكن محبا لإسرائيل وهو الذي قال في عام 1954:" لو كنت رئيسا للجمهورية في الوقت الذي عرضت فيه مسألة استقلال إسرائيل ، فلست أدرى ماذا كنت أفعل " ودلاس كما يقول المؤرخون " كان يعتقد أن هناك بعض الصحة في دعوى العرب بأن ترومان تاجر بأصوات اليهود لانتخابه رئيسا مقابل صوت أمريكا للاعتراف بإسرائيل في الأمم المتحدة " ودلاس اشتكى للانجليز من نفوذ اليهود الانتخابي وخطط معهم فرض حل قبل موسم الانتخابات والمزايدة على أصوات اليهود..

وقد وصل الأمر بمؤرخ سيرة ايزنهاور إلي اتهامه نوعا ما بعداء السامية:

" في 3 فبراير بعث ايزنهاور برقية عنيفة اللهجة إلى بن جوريون من ثلاث صفحات، يحثه فيها على الانسحاب من غزة ويحذره: إذا لم تفعل إسرائيل فإن الأمم المتحدة تواجه ضغطا لفرض عقوبات على إسرائيل " ويضيف" خلال بحث الإجراءات التي ستتخذ لإجبار بن جوريون على الانصياع والانسحاب، مثل منع المساعدة الحكومية ، والمساعدات الخاصة الأمريكية ، لم يحاول ايزنهاور الاتصال بالزعماء اليهود في أمريكا بعكس ما كان يفعل في كل قضية ، مثل أسعار النفط والمساعدات الخارجية.. الخ.
إذ كان في العادة يتصل ويتحاور مع الجماعات والقيادات المعنية، إلا في حالة إسرائيل والزنوج.
فلم يكن لايزنهاور أصدقاء من اليهود، وإن كان له بعض المعارف ونفس الشيء بالنسبة للأمريكيين السود، فلم يكن له لا أصدقاء ولا معارف.. ولم يكن ايزنهاور بأية حال على وفاق لا مع اليهود ولا السود". .
ولعله يجدر أن نذكر هنا أن زعيم المعارضة في الكونجرس الذي كان صهيونيا فاضح الصهيونية ، وكان يدافع عن إسرائيل وعدوانها بوقاحة في مواجهة ايزنهاور هو سناتور ديمقراطي اسمه " لندون جونسون" .. والغريب أنعبد الناصر تنازل وفتح خليج العقبة وقبل البوليس الدولي ليتجنب الحرب مع إسرائيل في ظل حكومة ايزنهاور، وأغلق الخليج وسار إلى الحرب مع إسرائيل في ظل إدارة الصهيوني لندون جونسون..
كل الظروف كانت مع عبد الناصر إلا عبد الناصر.. وقد أبدى ممثل الاتحاد السوفيتي في الأمم المتحدة دهشته علنا من قبول مصر لهذه الشروط، وقال إنها لا تحتاج لقبول البوليس الدولي" ولكن إذا كانت هذه رغبتها .. فهو لا يمانع" وعرفنا بعد ثلاثين عاما أن البوليس الدولي كان فكرة مصطفى أمين وهيكل والعضو الامريكى في محطة المخابرات الأمريكية في مصر.

لماذا قبل عبد الناصر شروط إسرائيل ؟

لماذا لم يصمد ويبدأ عملية تعبئة وبناء القوات المسلحة ، وخاصة أنه قد تم له ما أراد ووفقا لرواية هيكل أنقذ الجيش المصري من الفخ الذي نصبوه له، والطيارون أحياء عند صدقي محمود يرزقون والحمد لله.. وحتى لو صدقنا كلمة عبد الناصر عن تدمير السلاح المصري ، ورفضنا صدق هيكل عن " تدمير بعض المعدات الخفيفة" حتى لو صدقنا ذلك لم يكن تعويض السلاح مشكلة وقد فتحت السوق السوفيتية ، بل وكان الروس في غاية التحمس وقتها لتصدير السلاح.. لماذا لم يعبئ كل القوى ويبدأ أو يهدد بحرب تحرير سيناء بعد الانسحاب البريطانى والفرنسي.. وحرب ضد إسرائيل وحدها تقلب العالم العربي.. بنص تعبير عبد الناصر.

يقول هيكل :" وتحت ضغوط عالمية هائلة واستعداد مصري عسكري تمكن من تعويض خسائر الحرب خصوصا في الطيران بدأت إسرائيل انسحابها من سيناء" ص 604 الحمد لله الذي يفضح الكذاب والمريب..

ضغوط عالمية عائلة..
استعداد مصري عسكري..
طيران رجع والطيارون موجودون.
بريطانيا وفرنسا ذهبتا – كما توقع – وبقيت إسرائيل ..
لماذا التنازل.. ؟ أليست ههذ فرصة العمر لمقاتلة إسرائيل ؟
سؤال نضمه إلى الأسئلة الحائرة في ضمير الناصريين المخلصين..

لماذا بعد انسحاب الإنجليز والفرنسيين ، خضع عبد الناصر لشوط إسرائيل .. لماذا رفض أن يستغل النصر والالتفاف الشعبي والعربي والعالمي حوله لخوض معركة تحرير ضد إسرائيل .

ولكنه لم يفعل.. لماذا ؟ .. قولوا لنا ما المخاطر التي أراد تجنبها؟ لن نذهب مذهب الذين يتهمون عبد الناصر بأنه جزء من المؤامرة الصهيونية العالمية، ومن ثم اقترحوا له تمثالا في إسرائيل ..

ولكننا لا نقبل تزوير المزورين الذين يرفضون مواجهة هذا السؤال، ويصرون على أنه انتصر وأن كل شيء كان بحسبان.. ؟

ويضاعف من جريمتهم أنهم لم يقتصروا على خداع الشعب والجيش بل خدعوا القيادة نفسها فصدقت أنها انتصرت ، وسكت ميدالية مكتوب عليها" سيناء ارض النصر" وجدها الحاكم العسكري الاسرائيلى في عام 1967 في مكتب محافظ سيناء، فأعطى واحدة منها إلى " يائيل دايان" الجندي في جيش إسرائيل وابنة " موشى ديان" .. قائلا:" أظن أن هذه الميدالية من حقنا نحن".

قال جولدا مائير:" بعد تأميم قناة السويس لم يكن أمام عبد الناصر لكي تصبح مصر التي يحكمها، زعيمة العالم الاسلامى إلا شيء واحد هو إبادة إسرائيل " وفى ديسمبر 1956 كان قد تم تأميم وامتلاك القناة، وهزم وزال أي خطر من الاستعمار القديم.. ولا نقول ما قالته جولدا مائير عن إبادة إسرائيل بل نقلو إن زعامة العالمين العربي الاسلامى كانت دانية قطوفها لحاكم مصر الذي يبدأ عملية إزالة إسرائيل برفض المساومة والبدء في تحرير سيناء..

ولكنه لأمر ما، استبدل عبد الناصر الذي هو أدنى بالذي هو خير..

ههذ هى وقائع التاريخ.. و" نحن حين نتجاهل التاريخ لا نلغيه ولكننا نخرج أنفسنا من دائرة حركته" .. فما بالك حين لا نكتفي بتجاهله، بل نتعمد تزويره؟

" باختصار نحن نعتبر معركة تأميم القناة، نصرا بارزا لمصر ورئيسها عبد الناصر . ونعتبر معركة سيناء أول هزيمة حاسمة ومصيرية في المواجهة المصرية – الاسرئيلية .. تركت بصماتها ولا تزال على تلك المواجهة..

الفصل العاشر : عبد الناصر وإسرائيل

" .. ما من حكومة مصرية سيصل بها الجنون إلى حد مهاجمة إسرائيل ".

وزير خارجية
عبد الناصر

ننتقل الآن إلى السؤال الكبير ..

ما موقف عبد الناصر من المواجهة المصرية – الإسرائيلية؟

هل حقا كانت هذه المواجهة- في تصوره- هى قضية الأمن القومي لمصر ومستقبل القومية العربية، ومن ثم تحتل قائمة الأولويات في إستراتيجيته ..؟

نحن نقول : ى .. بل ونضيف إن العكس تماما هو الذي حكم سلوك عبد الناصر في الفترة من 1952 إلى 1967..

ونحب أن نبدأ بناصري شديد الحماسة، بل لعله من أطهر الناصريين نفسا وأعفهم يدا ولسانا، وفى مقدمة الذين قيل فيهم:" إن الطريق إلى جهنم مرصوف بذوي النوايا الحسنة".

هو " أمين هويدى" من ضباط عبد الناصر المقربين له- أو هو يعتقد ذلك- المؤمنين به، عمل في فترة الثورة العراقية في بغداد ، ثم وزيرا للحربية كفترة انتقال ثم مديرا للمخابرات.

يهاجم " أمين هويدى" السذج و المغرضين الذين يقيمون الأحداث الآن، قائلين : إن عبد الناصر كان عليه أن يترك فلسطين في ذمة التاريخ لنتفرغ لأحوالنا ومشاكلنا ، وأنه كان عليه أن يقفل عليه حدوده، وبذلك يتفادى الصدام مع إسرائيل " .

احترنا والله ما بين الهويدى أمين والأمين هيكل..

الأول يقول: إن الدعوة إلى التفرغ لمشاكل مصر وتفادى الصدام مع إسرائيل لا تصدر إلا عن السذج والمغرضين، والأمين هيكل الواصل للخزائن والوثائق يؤكد لنا : أن أول من طرح هذا الشعار في مصر بل في الوطن العربي هو الزعيم عبد الناصر الذي قال لـ: . ك ( اختصار ريتشارد كروسمان) الذي بدوره قال لـ ب .ج ( إشارة إلى بن جوريون) وهذا وحده دليل أكيد على صحة الرواية قال الزعيم إنه " لا يشغل نفسه بإسرائيل ، وإنما يركز على التنمية الداخلية في مصر وأنه لذلك خفض ميزانية القوات المسلحة بخمسة ملايين جنيه عن السنة الماضية".

حتى ابن جوريون " هرش شعره المنكوش" لما سمع ذلك" وتمتم بصوت خفيض وهو يهز رأسه : هذه أنباء سيئة .. أنباء سيئة جدا".

ولا أظن أن هناك مجالا للشك بعد هذا الوصف الدقيق للطريقة التي تصرف بها ب. ج عند سماع الخبر.. فهو أولا كان منكوش الشعر كما وصفه شاهد عيان وأخبر هيكل، وهو ثانيا هرش شعره هذا المنكوش ولم يمسح عليه أو ينتفه تماما.. قم تمتم لم يهمس ولا صرخ.. إنما تمتم وبصوت خفيض ..كل هذه الأدلة تجعلنا نصدق انزعاج بن جوريون لأن عبد الناصر غير مشغول بإسرائيل ويعمل على إنقاص قدرات مصر العسكرية.

وهى حالة معروفة بين العشاق.. حتى أن ام كلثوم تشكو" حتى الجفا محروم منه.. يا ريتها دامت أيامه" والأغاني المصرية حافلة بمثل " خلينى ع البال يا خلى البال" ولا شك أن بن جوريون كان يعانى من هذه الحالة التي للأسف هيكل هو المصدر الوحيد للإعلام عنها..

دعنا من الجزء الخاص برأس بن جوريون ومشاعره.. المهم أن عبد الناصر – وهذه واقعة مؤكدة بخفض الميزانية وبخطب الرئيس وبمسلكه- كان يرى عدم التحرش بإسرائيل ، عدم الانشغال بها، والتركيز على مشاكلنا الداخلية.. فلماذا يهاجم " هويدى" هذا الموقف وينسبه للسذج والمغرضين إلا إذا كان قد قرر الانضمام إلى " جوقة عدم الوفاء" وتشويه سيرة الزعيم الخالد؟

أو لم يقل حمروش أنه بقبول مصر قوات الطوراىء لتكون حاجزا بينها وبين القوات الاسرئيلية حتى لا تتكرر الاشتباكات تحققت أفكار عبد الناصر وهى : " ليس هناك محل للحرب من سياستنا الإنشائية التي قررناها لتحسين مستوى الشعب". وهو أيضا الذي جزم وقدم أدلة:" مما يظهر أن عبد الناصر لم يكن ضد إسرائيل ولم يكن من دعاة تدميرها " خريف عبد الناصر ص 33 .

على أية حال بعد سطر واحد اندفع أمين هويدى يثبت أن مصر لم تتحرش قط بإسرائيل .. وأنها فعلا كانت تود لو أن بينها وبين إسرائيل جبلا من نار فلا يصلون إليها ولا تصل إليهم .

إذ يقول :

" ولكن هل تحرشت مصر بإسرائيل حينما قامت بغارتها الوحشية في غزة وأتبعتها بغاراتها في مناطق عديدة بعد ذلك؟ هل تحرشت مصر بإسرائيل حينما انضمت الأخيرة إلى بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي".

والجواب على الفور: أبدا.. لا تحرشت ولا كشرت ، بل ونضيف ولا فكرت أو قدرت مواجهة مع إسرائيل خلال 15 سنة من الثورة إلى النكسة.. 15 سنة وسياسة الحكم المصري تدور حول تجنب المواجهة مع إسرائيل ، والاطمئنان إلى التأكيدات الأمريكية ، والالتزام بالوعود والاتفاقات مع الأمريكان بتجنب تصعيد الموقف.. وخمسة عشر عاما لم تتوقف المؤسسة الإسرائيلية عن التفكير والتدبير والتنفيذ للقضاء على الوجود المصري المؤثر في الشرق الأوسط.

وبعد أن يؤكد أمين هويدى إن التحرش كان من جانب إسرائيل حتى عام 1956، يؤكد أن " أبسط قواعد الأمن القومي تشير إلى أن فلسطين هى من ضرورات الأمن المصري، منذ عصور الفراعنة، ووجود دولة معادية هناك تهديد قاتل لأمن مصر، إذن فسلامة فلسطين من ضروريات الأمن المصري".

وهذه بديهة لا نعرضه في حرف منها.. وأن كانت السنوات التي تلت عام 1952 اتسمت بالعمل على إخفاء هذه الحقيقة عن المصريين، ونجحت تماما في تجهيل المصريين بها.

ولا يمكن القول بأن وعى جيل أبريل 1967 بهذه الحقيقة كان أفضل أو حتى مماثل لوعى جيل أبريل 1948.

هذه قضية تحتاج إلى " بحث مستفيض" . وإنما نسال السيد هويدى ، هل التزمت الناصرية بهذا الاقتناع ؟ هل خدمت الأمن المصري بإزالة " الدولة المعادية"؟

النتائج ولا النوايا تعزز القول بأن الناصريين فهموا هذه الحقيقة، وإلا فقد فهموها وعلموا أو أنجزوا عكسها تماما.. فلا مجال للمقارنة بين قوة " الدولة المعادية" وحجمها عام 1952 وما وصلت إليه، وما أصبحت تحمله من تهديد لأمن مصر الوطني في سنة 1970.

لقد زحف خطر الدولة المعادية من رفح حتى وصل إلى القنطرة والناصريون الذين تسلموا الحكم ومصر تدافع عن أمنها القومي في قلب فلسطين (غزة) تركوا الحكم والإسرائيليون أقوى دولة في المنطقة، بل أقوى من دول المنطقة مجتمعة. ممتدة من البحر إلى النهر ومن الجولان إلى القنطرة.

ومدافعها دكت أجمل ثلاث مدن مصرية وسيناء بأكملها أو ثمن الوطن، بمواطنينا هناك تحت الاحتلال الاسرائيلى.. والقطاع الذي تسلمه ثوار يوليو أمانة سلموه لليهود هزيمة..

ولم يحدث منذ الاحتلال البريطانى أن كان أمن مصر في أضعف وأخطر مراحله مثلما حدث على يد الناصريين .

هذا من ناحية الواقع، ما تحقق بالفعل، وهو ما تجرى المحاسبة عليه في السياسة، ومع ذلك سنقبل طلب الرأفة ونحاسب على النوايا.

هل يمكن تقديم دليل واحد على أنه في الفترة من 1952 إلى 1967 كان " أمن مصر القومي" بهذا المفهوم الذي طرحه- عن حق- أمين هويدى، أي سلامة فلسطين ومنع قيام دولة معادية فيها.. هل من دليل واحد على أن هذا الفهم كان المسيطر حقا على تفكير أو إستراتيجية الناصرية؟

هو بنفسه اعترف بأنه حتى عام 1956 لم يقع أي تحرش بإسرائيل .. بل إسرائيل هى التي كانت تلح باعتداءاتها لإيقاظ القيادة الناصرية من غفلتها وتذكيرها " بالخطر القومي" والأمن المهدد.. أو بالأحرى لعجم عودها والتأكد من فقدانها لإرادة القتال، ولتدريب جنودها على الاستهانة بالعدو المصري.

ولكن القيادة المصرية ظلت تقف خلف الأشباح وتندفع إلى جميع المعارك في شتى الميادين إلا معركة الأمن الوطني. وحتى بعد 1967 بعد أن أصبح الخطر الوطني يطل على بور سعيد والإسماعيلية والسويس.

يطلب أحدهم من الرئيس عبد الناصر سحب الجيش المصري من اليمن للدفاع عن القاهرة فيرد الرئيس: " وأخللى البدر يدخل اليمن

منع البدر من دخول اليمن، أهم عند رئيسنا من دخول إسرائيل سيناء، أهم من تهديد إسرائيل للقاهرة أو دمشق وعمان؟

ثم تتحدثون عن أمن مصر وتتباكون على قميص فلسطين متى فكرتم فيها؟

وأنتم مشغولون بمحاربة الرجعية والبعثية والشيوعية، وتحرير الكونغو والانتصار في باندونج؟ ..

متى؟

اذكروا لنا واقعة واحدة تؤكد إيمانكم فعلا بأن إزالة هذه الدولة المعادية هى الضرورة القومية أو الوطنية الأولى هل تسليم الجيش لقيادة هزمت في حرب 1956 في أول مواجهة شاملة مع إسرائيلي ، ورغم اقتناع الرئيس التام بعجزها العسكري الفاضح، ثم يسلمها بجميع أفرادها من الصاعقة إلى الطيران إلى القائد العام، يسلمها مرة أخرى قيادة الجيش، دليل اقتناعه بأن إسرائيل هى الخطر القومي القاتل الذي يجب أن يتصدر قائمة الأهميات، وقائمة الولاءات؟

ألم يكن من الواضح لأبسط الناس أن القيادة التى هزمت في 1956 والتي عجزت عن مواجهة النحلاوى والكزبرى.

لابد أن تنهزم أمام إسرائيل .. ؟ فماذا يعنى تسليم القيادة العسكرية لها مرة ثانية والدخول بها في حرب أخرى، معروف سلفا أن العدو فيها أكثر قوة؟

المغرضون سيقولن إن الناصرية أرادت الهزيمة، ومن ثم وضعت نفس العناصر المنهزمة في مركز القيادة..

ولكن تمسكا بحسن النية ألا يكون أفضل التفسيرات هو أن هذه القيادة الناصرية لم يكن يعينها أمن مصر القومي، أو لا تدرك أبسط قواعد الأمن القومي بتعريف هويدى.. أو كانت لا ترى تهديدا لأمن مصر من ناحية إسرائيل ، ومن ثم لم تهتم بتوفير قيادة عسكرية في مستوى هذا الخطر معتقدة أن تصفية الإقطاع في كمشيش أهم، وأن مكاسب توزيع شقق الحراسة وتحديد إقامة كمال الدين حسين وعزل بغدادي تبرر وضع عامر وصدقي محمود وجلال هويدى والغول وعلى شفيق وشمس بدران وبقية النخبة الاشتراكية على رأس جيش مصر ولو كان الثمن هو ما دفعناه؟

جميل أن يتحلى هويدى بالوفاء، وأن يتصدى للدفاع عن الناصرية، ولكن بشرط يلتزم بالناصرية الحقيقية التي نعرف وقائعها، لا أن يخترع لنا ناصرية جديدة.

الوقائع الثابتة التي تعززها النتائج، تثبت أن حركة 23 يوليو لم تكن مهتمة بأمن مصر الوطني، ولا كانت إسرائيل على قائمة الأولويات .. وأول دليل هو موقفها من الجيش عندما وصلت إلى السلطة إذ كان اهتمام القيادة الأول هو تأمين سيطرتها عليه حتى ولو كان ذلك على حساب قدرته القتالية .. ومن ثم اتخذت هذه الإجراءات:

1- تسريح كل من هو فوق رتبة بكباشي وهى رتبة جمال عبد الناصر .
وما من "وفى "للناصرية، مهما بلغ تنطعه يستطيع القول أن هذه الرتبة تشكل حدا وطنيا وطبقيا من تجاوزها ولو قبل الثورة بيوم واحد فهو رجعى، ومن كان تحتها فهو في النعيم مع الأبرار لمجرد مصادفة أن قائد الانقلاب بكباشي..
وهكذا خسر الجيش المصري في قرار واحد ولحظة واحدة كل قياداته الفعلية.. وإذا كان هيكل يبرر منع الطيارين من الدفاع عن وطنهم في حرب 1956 بأنهم لو ماتوا فسنحتاج إلى عشر سنوات حتى نخرج طيارا.. وهو تهجيص.. فكم نحتاج حتى نخرج اللواء أو الفريق أو حتى العميد؟
ولكن المذبحة لم تتوقف بل فصل خلال الثلاثة شهور الأولى من الانقلاب " أكثر من خمسمائة ضابط".
الثورات الحقيقية تحل الجيش القائم، باعتباره جزءا من الدولة والنظام ، ليحل محله فورا الجيش الثوري الجديد المكون من قواعد الثورة الطبقية وعلى روح جديدة.
وقد يضم بعض الكفاءات التي كانت في ا لجيش القديم التي تنضم عن وعى أو بالدافع الوطني، ولكنه غالبا يعتمد على الروح الثورية، وأحيانا على الخبرة القتالية، إذا كانت الثورة قد وصلت إلى الحكم على يد جيشها الخاص.
المهم أن معنويات الجيش تبدأ من القمة، فهو جيش الثورة، ومن ثم يسهل جدا كسب الكفاءة القتالية والخبرة الفنية، إذا ما توافرت له القيادة الصالحة.
وخلال فترة التكوين هذه، يغطى النقص المؤقت بالروح المعنوية العالية لما يتميع به أفراده من مساواة وانضباط بل تقشف وصوفية ثورية، واحترام لكرامة الفرد، وطهارة القيادة، واتضاح أهليتها للمسئولية.

ولكن ما جرى في مصر كان مختلفا تماما، فقد بقى الجيش الملكي بتكوينه وتركيباته ومسلكيته وعلاقاته الاجتماعية والطبقة داخل صفوفه، مع انهيار كامل في مستوى قيادته.. بل وسلمت قيادات ومراكز حساسة لعناصر من خارج تشكيل السادات، بل من عناصر كانت فاضحة العمل في خدمة الملك والنظام السابق.. ثم تتابعت إجراءات تكسيحه وتحطيم معنوياته ، وتمزيق ترابطه.. فقد رأينا كيف عزل كبار الضباط بالرتبة وليس بالموقف الفردي لكل ضابط ، وما في ذلك من ظلم، وما يخلفه من مرارة وهلع في نفوس الباقين ، فضلا عن الحرمان من الخبرة التي أشرنا إليها..

ثم فصل خمسمائة ضابط بلا محاكمة، ولا حتى مجالس عسكرية، وأغلبهم لم يعرف تهمته حتى اليوم..ونستطيع أن نتصور معنويات بقية الضباط خلال لتلك المحنة فباستثناء التسعين ضابطا أعضاء تنظيم السادات ، كان كل ضابط خارج هؤلاء التسعين يتوقع أن تكون رأسه هى التالية على القائمة السوداء.. فينشغل بحماية هذه الرأس ولو بالوشاية أو التزلف أو الافتراء.. ثم كان الإذلال المهين والوحشي والأول من نوعه في تاريخ مصر ( باستثناء الأيام الأولى للاحتلال البريطانى) للضباط المصريين وهو في الزى الرسمي، في أشرف مهمة وأشرف موقع.. فالجندية وظيفة إنسانية ن شديدة التعقيد ، يتم فيها إقناع إنسان عاقل بتعريض نفسه للقتل من أجل أن يحيا الآخرون من مواطنيه حياة أفضل وأكثر أمنا..

ومن ثم لابد من توافر نفسية شديدة الخصوصية ، تدور حول إيمانه بـأنه ارتداء البدلة العسكرية أصبح في مستوى خاص وله قدسية خاصة لا تمس ما دام لم يسيء على شرف هذا الزى.. وهذا الاقتناع لا يمكن تصوره في ذليل مهان، خائف متلصص دساس .. وقديما قال المصري :" قالوا للكلب انبح وهز ذيلك قال ما اٌدرش على الشغلتين " فالنباح الذي هو رمز للقوة والحراسة، واليقظة والمبادرة ، لا يتفق مع هز الذيل تملقا وتذللا..

وقد جاءت الثورة بأول تعذيب وحشي للضباط العاملين عندما ضرب البكباشي حسن الدمنهوري ورآه زملاؤه" أثناء التحقيق والضرب ينهال عليه والدماء تسيل منه. ثم نقل إلى السجن الحربي مقيد اليدين والرجلين بالحديد وهو بملابسه الرسمية . وكان أول حكم بالإعدام يصدر على ضابط بالجيش المصري بتهمة أخرى غير الخيانة العظمى".

وتستمر شهادة أحمد حمروش الذي كان شاهد عيان. لأنه هو أيضا كان مسجونا..

يقول:

" وكان هذا التعذيب هو بداية التصرفات الهمجية الوحشية من جانب ضباط القيادة ضد زملائهم في السلاح". " وكان اعتقال ضباط المدفعية والتحقيق معهم بواسطة أعضاء المجلس كلمة النهاية في وجود تنظيم " السادات" . لأن أعضاء مجلس القيادة وجدوا السادات تنظيما يمكن أن يشاركهم ويضع تصرفاتهم تحت مجهر النقد والمحاسبة".

وفى مذكرات محمد نجيب :" ضرب صلاح سالم بحذائه ضابط مخابرات شاب اسمه محمد وصفى، أثناء التحقيق معه، حتى نزف الدم منه ومات".

بالطبع امتدت نار الإرهاب والتصفية إلى التسعين ، وحل تنظيم السادات ، وقد اعترف شمس بدران للمؤلف( جلال كشك) أنه كلف من عبد الناصر وعامر بتصفية تنظيم السادات.

وهذا قانون معروف في كل النظم الديكتاتورية إذ لا يمكن أن تتوقف التصفية حتى لا يبقى على القمة من الذين قاموا بالانقلاب إلا الزعيم وحده..

وحتى بعدما أخرج من الجيش كل الضباط الذين كانوا ضد 23 يوليو الضباط الذين قاموا بحركة 23 يوليو .. هل ترك الجيش يستعيد روحه القتالية..؟

أبدا..

وهذه شهادة الناصري:" استبدلوا بالتنظيم ( السادات) تنظيمات خاصة أخرى تعتمد على الضباط المحيطين بهم القريبين منهم المكونين للشلل الخاصة الذين تسرب إليهم عدد لم يكونوا من ألأحرار أصلا ، وإنما أظهروا براعة في مخاطبة الغرائز الشخصية لأعضاء مجلس القيادة، ووضع في مراكز القيادة نوعان من الضباط:

" إما أهل الثقة الكاملة المرتبطون بأعضاء مجلس القيادة ارتباطا شخصيا وثيقا. وإما الضباط الذين لا رأى لهم ولا يهتمون إلا بمصالحهم الخاصة.. ولا ينفى هذا وجود بعض الاستثناءات".

مؤكد .. وإلا فمن أين جاءت البطولات التي لمعت كالنجوم في ليل الهزيمة، الذي صنعه النوعان المكونان للظاهرة العامة لضباط الجيش ى عهد الثورة.. هذه الاستثناءات هى التي صنعت نصر أكتوبر 1973.

المهم أنه ما بين 1952 إلى 1956 كانت القيادة في الجيش من نصيب دلاليل أعضاء مجلس القيادة، أو الذين لا رأى لهم ولا يهتمون إلا بمصالحهم الخاصة.. أصبحت الكفاءة والوطنية والاهتمام بالمصلحة العامة هى الاستثناء .

هل هذه هى نوعية القيادات التي يمكنها قيادة الجيش في مواجهة إسرائيل ؟

وهل الذي يعين أو يقصر القيادات على مثل هذه النوعية، يفكر في أمن مصر القومي ويجعله الهدف الأول، واسمي الواجبات؟ لا .. بل هذه مسلكية من رأى أمنه وأمن سلطته هو أمن مصر القومي .. ولو سقط نصف تحت الاحتلال الأجنبي. . تماما كما قال" الدوبلير " مايلز كوبلاند؟

يتابع حمروش شهادته:

" كانت شخصية السادات تستمد قبل الحركة من ارتباطهم بالتنظيم واستعدادهم للنضال والتضحية، ولكنها أصبحت بعد ذلك تستمد من رضا القيادات عليهم واستعدادهم للخضوع والمسايرة".
الخضوع والمسايرة ومخاطبة الغرائز الشخصية للمسئولين .
أستحلفك باله وبالوطن يا حاج أمين هويدى.. وما أعلم عنك والله إلا كل خير من ناحية الدين والخلق والوطنية .. وما آخذ عليك إلا محاولتك التذاكي أحيانا، وهو خارج قدراتك.. أسألك : هل يحسن العبد الكر والفر؟

هل يحرر مصر ويواجه إسرائيل ضابط يجيد الخضوع والمسايرة؟ .. هل هذه هى الصفات المطلوبة لتحقيق هدف:" بناء جيش وطني قوى" ؟ هل هذا سلوك يهتمون بأمن مصر الوطني؟ هل التحقت بالكلية الحربية وساهمت في انقلاب 23 يوليو لتحسين الخضوع والمسايرة؟

ولكن أهل الثقة ، وأهل الوفاء، والناصريون الجدد لديهم شمعة ممتازة يعلقون عليها كارثة الجيش، وهى الزعم بأن عبد الحكيم هو الذي لم يكن كفؤا.. وأن عامر هذا استقل بالجيش فلم يعد للزعيم سلطة عليه..

عظيم ولكن لماذا عين عبد الناصر عبد الحكيم عامر في هذا المنصب؟ من أجل كفاءاته في قضية " أمن مصر الوطني" وما توسمه فيه من قدرة على بناء جيشه وطني قادر فعلا على التصدي للعدو، ولكنه خب آماله.. وعجز عن تغييره؟

نقرأ ما يقوله المدافعون:

" كان عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة غير مؤهل في شخصيته لتولى هذا المنصب الخطير، ولكن جمال عبد الناصر عينه فيه خلال أزمة التناقض مع محمد نجيب ليضمن السيطرة على الجيش لثقته من ولاء عبد الحكيم له باعتباره صديق عمره والذي كان يسكن معه في سكن واحد قبل الزواج.ولذا فإن مواجهة عبد الحكيم عامر للعدوان لم تكن ايجابية ولا ديناميكية .. وشخصيته الطيبة للخطط ، رغم استعانته حتى ذلك الوقت في مكتبه بعدد من خيرة الضابط أركان الحرب، لم يكن متناسبا مع خطورة الموقف، فأصدر أمرا لمحمد رياض محافظ بور سعيد بتولي قيادة القوات المسلحة في بور سعيد وهو مدني متخرج من كلية الحقوق، كما أن مساعده قائد القوات الجوية محمد صدقي ترك طائراته فريسة للهجوم وهى رابضة على الممرات الجوية دون تحليق. مما أدى إلى تحطيمها فعلا في يوم واحد، رغم أن خطة المعتدين قد قرت لذلك يومين ".
حمروش هنا غير منصف لصدقي محمود، فحسب رواية الأمين على التاريخ كان ترك الطائرات على الأرض بأمر صريح من الرئيس عبد الناصر وخطة مدروسة وبالطبع العدو قدر يومين على أساس الاشتباك ولكن تحطيم طائرات أو أوز رابض على الأرض مقصوص الجناح لا يحتاج إلا إلى ساعة واحدة..

ولكن ليس هذا أخطر ما في شهادة حمروش.. فهو يشهد أن :

1- عبد الحكيم عامر غير مؤهل لمنصب القائد العام.
2- عبد الناصر اختاره لعلاقته الشخصية به وسكناه معه في شقة واحدة قبل الزواج..ولكي يضمن سيطرته على الجيش من خلاله.. هل هذه هى المؤهلات التي تعين بها " الثورات" قادة الجيوش؟ هل هكذا تحمى الأوطان؟

الملك فاروق أراد أن يعين صهره وزيرا للحربية وليس قائدا عاما للجيش والأول منصب سياسي والثاني فني.. فقامت عليه القيامة..

أستحلفك بالله يا حاج أمين.. هل هذا سلوك من يعتبرون إسرائيل هى الخطر الدائم والداهم على أمن مصر القومي والوطني؟

يقول بغدادي:

" وكنت معتقدا أن جمال عبد الناصر لم يرشح عبد الحكيم لتولى قيادة الجيش إلا لغرض سياسي، وأنه يهدف إلى أن تصبح له السيطرة السياسية دون باقي المجلس .
وذلك عن طريق مساندة الجيش له، وأن الذي يضمن له ذلك هو تعيين عبد الحكيم قائدا عاما له معتمدا على قوة الصداقة المتينة والتفاهم بينهما.

كما كنت أخشى أيضا من تولى عبد الحكيم أمر الجيش أن يصبح الجيش في المستقبل أداة تدخل في السياسة العامة ومدى خطورة هذا على مستقبل البلاد.

لذا رأيك أن أعترض على اقتراح جمال مبينا أن الجيش أنه من الأفضل أن يتولى أمر الجيش ضباط محترفون للتفرغ له والابتعاد به عن السياسة ، وذاكرا أن الجيش إذا تدخل في السياسة فسد الجيش وفسدت السياسة أيضا.

ولكن جمال عبد الناصر تمسك باقتراحه مبينا أنه من المستحيل أن يوكل أمر الجيش لشخص غريب وليس منا فيتحكم في رقابنا على حد تعبيره.

وموقفا هذا من تعيين عبد الحكيم خلق حساسية منه نحوى لم أعلم بها إلا فيما بعد منجمال سالم".

ويستمر بغدادي : " أصبح لا هم لكثير من الضباط إلا التقرب من عبد الحكيم وجمال عبد الناصر أو إلى من هم قريبين منهما طمعا في منصب أفضل أو خدمة تؤدي لهم .

وأصبح الجيش مع مرور الوقت أداة قوية في يد جمال وعبد الحكيم وانعزلنا نحن نهائيا عنه .

ونتج عن هذه السياسة فساد الجيش مما ترتب عليه نتائج وخيمة عسكرية وسياسية كما سيتضح للقارئ من خلال هذه المذكرات " :

فهذا عضو مجلس ثورة وأهم في الثورة مني ومن هويدى وهيكل يشهد أن سياسة عبد الناصر أدت إلى فساد الجيش . أفمن يفسد الجيش يوصف بأنه منشغل بأمن مصر الوطني ؟.

ويروي عبد اللطيف بغدادي قصة الضابط العظيم اللواء حسن محمود قائد سلاح الطيران , فهو الوحيد الذي اعترض على تعيين عبد الحكيم عامر قائدا للجيش , واتخذ موقفا يثبت جدية اعتراضه ومبدئيته .. فقد رفض أن يكون مرءوسا لصاغ .. وقال كلمته المشهورة العامرة بالوعي والتجرد : " عينوه بقوة الثورة رئيسا للجمهورية أو وزيرا للحربية أو حتى ملكا وسنطيع ,ولكن الجيش لا يقوم إلا على الضبط والربط .. يقوم على الخبرة والأقدمية والرتبة .. ومحال أن يوجد جيش يخضع فيه اللواء للصاغ .. وخرج من الجيش مرفوع الرأس ..

وعينوا من مكانه . .
محمد صدقي محمود ..
ما غيره .

ودفعت مصر الفرق بين أهل الرأي والخبرة والشجاعة وبين أهل الثقة والخضوع والمسايرة .. دمار سلاحها الجوي مرتين .

والغريب أنه رغم معرفة بغدادي بأن تعيين عامر يفسد الجيش والسياسة , بل وقبل بغدادي الاستمرار في عملية الإفساد هذه 12 سنة .. على أية حال إذا اختلف الثوريان ظهرت الحقيقة .

ما دمنا قد وجدنا الشجاعة لننقد كفاءة عامر وإعلان أنه غير مؤهل فيجب أن نتحلى بشجاعة أكبر لنقد المسئول عن هذا التعيين .. لا بهدف الإدانة .. فقد مات الجميع , ولكن لأن إثبات عدم كفاءة عبد الحكيم عامر أقل أهمية من تحليل وإدانة الأسلوب الذي أوصل عامر لهذا المنصب , والذي لم يكشف ويدان وتحصن البلد ضده يمكن أن يأتي لنا بحكيم آخر .

وكيف يستقيم تاريخ أو منطق , كيف يصلح مستقبل إذا كنا جميعا نتفق على أن سياسة عبد الناصر أدت إلى إفساد الجيش ثم نعتبرها ساسة وطنية ثورية استهدفت أمن مصر القومي ؟.. ماذا يفعل حاكم يهودي للإضرار بأمن مصر ووطنها أكبر من إفساد الجيش ؟.

ولنفرض كما قلنا أن كل هذا كان كافيا على القيادة السياسية , وأنها فوجئت فعلا بما جرى في 1956 من أكمل نصر عربي جعلها تبكي في شوارع الإسماعيلية .. لماذا لم تغير الوضع ؟.

قائد الجيش غير كفؤ , وتصرف تصرفات لا تليق أثناء المعركة , وقائد الطيران ترك الطائرات تضرب على الأرض ..؟ فهل من المعقول أن نجد نفس القائد العام ونفس قائد الطيران في مواقعهما بعد عشر سنوات ليكررا نفس الخطأ ولكن بحجم أكبر ورتب أعلى ,

هل هذا معقول ؟

لو أن عمدة كفر البطيخ سلم أمن دوار العمودية لغفير لا يتمتع بأية موهبة إلا ثقة العمدة وسكناهما في شقة واحدة .
فسرقت الدار ونهب ما فيها , واعتدى على حرمتها .. فكافأه العمدة برفع رتبته وزيادة اختصاصه وثبته في موقعه حتى نهب الدوار مرة أخرى بل وأقام فيه .
اللصوص 13 سنة .. فأين يكون العمدة من حركة التاريخ .. وهل يليق بأهالي كفر البطيخ أن يختصوا الغفير باللوم والعمدة بالثناء ؟

نسأل الحاج أمين هويدى فيقول :

" إن العلاقة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية كانت واضحة ومحددة في حرب السويس وحتى حدوث الانفصال " .
عظيم . إذا يجب أن تتحمل القيادة السياسية مسئوليتها كاملة في هزيمة 1956 فقد كانت القيادة العسكرية خاضعة ومنضبطة لتوجيهات القيادة السياسية .
وهذا واقع تؤكده الحقائق التي وردت عن إرغام عبد الحكيم عامر على الانسحاب وصدور الأوامر بتوقيع عبد الناصر , والأمر بمنع اشتباك الطيارين مع العدو .

ولكن الحاج هويدى لا يفسر لنا لماذا " عجزت " هذه القيادة السياسية عن عزل صدقي محمود ؟

الأمر يحتاج لخبرة " القراد والحاوي الطروب " لإيجاد مخرج من هذا المأزق , فإذا كان عبد الناصر مسيطرا على الجيش في 1956 فكيف سكت على المتسببين في الهزيمة , الحل حاء به الحاوي الطروب هيكل : لم تكن هناك هزيمة بل أكما نصر .. والطيران لم يضرب , بل انبطح أرضا عن خطة موضوعة حتى ضربوه وماتوا بغيظهم ..

فلماذا التغيير ؟

الحاج أمين لم يصل إلى هذا المستوى , والحمد لله , ولذلك لم يشر إلى الهزيمة ولا النصر , وإنما جعل الفساد يدب بعد 1956 .. قال :

" وأدرك عامر أنه يستمد سلطته من القوات المسلحة فوثق صلته بقادتها وظل يواصل العطاء والمنح لكل من يطلب وأصبح للمشير أظافر وأنياب .
وكان من الواجب حسم مثل هذه الأمور عند بدايتها , ولكن إهمال ذلك أدى بالقيادة العسكرية لكي تشكل بروزا ورميا خطيرا أصبح من الصعب استئصاله وأصبت القيادة السياسية ينقصها القدرة ـ ولا أقول الرغبة ـ لإزالة هذا الورم , وهنا اهتزت كل الأمور فتغيرت طبيعة العلاقات داخل القيادة العسكرية فهبط ميزان الكفاءة ليحل محله ميزان الولاء وأصبح التأمين الذاتي وليس الأمن القومي هو محل الرعاية والاهتمام ".
الحمد لله . ها أنت قلتها .. " وليس الأمن القومي محل الرعاية والاهتمام " فهل تصنفهم في " السذج " أو المغرضين إذا كنا لا نزال نذكر بداية الحديث ... أم المفرطين المقصرين إن لم نقل الخونة المتآمرين .. وأي خيانة أكبر من ألا يهتم ولا يرعى الحاكم الأمن الوطني بشهادتك أنت ؟
على أية حال إن المسئولية من حجم لم يتمكن معه أمين هويدى من الاعتذار عنها أو تناسيها فدار حولها وأخفى رأسه في رمال الوفاء , أو في قوله " والله أعلم " نعم الله أعلم ونعم بالله .. ولكنه سبحانه وتعال أمرنا ان نتعلم ونسأل أهل الذكر ..

يقول :

" وهنا يتساءل الكثيرون ـ وأنا معهم ( أي هويدى ) لماذا لم تعالج القيادة السياسية الموقف , ربما يكون ذلك لعجز في القدرة بعد اختلاف موازين القوى بين القيادتين , وربما تكون القيادة السياسية قدرت أنه لتصحيح الأوضاع لابد من صدام ولكنها لم تكن مستعدة لهذا الصدام إلا على الأرض الملائمة وفي الوقت المناسب .
ولكن يبقى سؤال قائم . ولماذا لم تعالج القيادة السياسية الموقف قبل أن يستفحل ؟ والإجابة على السؤال صعبة وربما يرجعها البعض إلى عامل الصداقة , وربما يرجعها البعض الآخر إلى تغلب عامل التوازن بين اتجاهات أعضاء مجلس الثورة القديم .. والله أعلم "

مرة أخرى : نعم .. الله أعلم .. ولكن تعال نناقش بعض الذي علمته أنت وسجلته .

الزعيم الخالد رأي الجيش المصري يقد صفاته القيادية , وسكت على ذلك من " أجل الصداقة " .

ألم نقل لك إن أية محاولة للاعتذار عن هذه " الخطيئة القاتلة " لن نأتي إلا " بالعذر الذي هو أقبح من الذنب " .. ومتى كان عبد الناصر يقيم وزنا للصداقات ؟ ومتى كانت زعامة سياسة تضحي بالوطن وبالأمن القومي , تضحي بالجيش في سبيل صداقة مع قائد الجيش .. هذا ما لم نسمع به ولا في عهد الثنائي مراد وإبراهيم ..

أليست هذه التفسيرات العقيمة هي التي أعطت المجال لتفسيرات هستيرية تدعى أن قيادة النظام الناصري لها جذور يهودية ومن كان يعنيها أن يحدث ما حدث لمصلحة إسرائيل , وهذا ما جعل مصريا دارت به الدنيا بعد النصر الإسرائيلي 1967 يقترح على توفيق الحكيم إقامة تمثال لعبد الناصر في إسرائيل ؟

معذور ... ما دام أمين هويدى يقول بعد مباشرة :

" لم يكن عبد الناصر يؤمن بالمبدأ الإصلاحي في معالجة الأمور , ولكنه كان قائد ثورة ثم أصبح زعيم أمه أعطته ثقتها في الانتصارات والهزائم على حد سواء .

ولا شك بعد كل هذا الذي قلناه فإن عبد الناصر كان شجاعا إلى أقصى حدود الشجاعة وهو يواجه كل الضغوط التي وجهت إليه , فلم يتردد في خوض معركة تلو الأخرى .. وبحكم طبيعته واجه التحديات بإجراءات حاسمة وبطريقة مباشرة لا تعرف الالتواء .. الأسود أسود والأبيض أبيض .. " ولعل السرعة الخاطفة التي اتسمت بها ضرباته ترجع إلى وضوح الرؤية والتحضير المسبق " .

هذه شهادتك في صفحة 135 فكيف تريد الشاب المصري العاقل , أن يصدق تفسيرك في الصفحة المقابلة تماما ( 134 ) أن عبد الناصر هذا الشجاع الذي لا يؤمن بالمبدأ الإصلاحي بل بالبتر الثوري الذي لا يعرف " بين بين " بل أبيض وأسود.. والذي يواجه التحديات بالإجراءات الحاسمة وبطريقة مباشرة .. وكيف تريده أن يصدق أنه ترك الجيش يتعفن ، واستقلال الوطن يتعرض للخطر خوفا من مواجهة شمس بدران وعلى شفيق أو سكت على ذلك حرصا على صداقة عبد الحكيم عامر وذكريات الشقة؟.. أو أنه فضل الالتواء والانتظار ومسك العصا من النصف تحينا " للأرض المناسبة والوقت المناسب" لخوض معركة هذا المشير، ففاتنا تخير الوقت المناسب وأرض المعركة مع إسرائيل لأن قيادتنا كانت منشغلة بتحضيرنا لمقاتلة زوج برلنتي؟
ألا يعزز هذا في ظن بعض المتسرعين، التفسير العجيب الذي يقول بأن عبد الناصر زج بالجيش في معركة خاسرة لكي تتوافر الأرض المناسبة والوقت المناسب للقضاء على عبد الحكيم عامر؟

هل كان عزل صدقي محمود عام 1956 يسقط النظام؟

هل كان الزعيم الذي يسقط حلف بغداد، ويعلق " نورى السعيد" في المشنقة ويطرد جلوب ويحاصر سلوين لويد في البحرين .. عاجزا عن إقصاء صدقي محمود عن الطيران.. ؟هل كان يعجزه أن يصدر مرسوما بإقالته ويفاجئ به عامر ثم يصطلحان، وخاصة أن هويدى يشهد أن الورم لم يبدأ إلا بعد 1956..؟
هل كان صدقي محمود أقوى من محمد نجيب ومن البغدادي وجمال سالم وصلاح سالم والنحاس والتنظيم السري للإخوان والشيوعيين ؟
الذين ضربوا رئيس مجلس الدولة، وخطفوا رئيس الجمهورية.. كان يعجزهم إخفاء صدقي محمود لو أرادو..؟

هل كان عامر سيقوم بانقلاب في 1956 على الزعيم من أجل صدقي محمود ؟ألم ت كن سلامة الطيران المصري، وتأكيد سلامة الجيش تستدعى المخاطرة بإغضاب صديق العمر وشريك شقة العزوبية؟

إن تعيين عبد الحكيم عامر قائدا للجيش كان خطوة محسوبة ومعروفة النتائج، وهى السيطرة على الجيش لحساب لعبة السلطة، ولم يكن في خاطر الذين اتخذوا هذه الخطوة أي اهتمام جدي بالجيش كقوة مقاتلة ضد الخارج.. أو هذا ما اتفقت عليه جميع المصادر الناصرية .. واليسارية.

ولم يكن ناصر وأعضاء مجلس الثورة وحدهم الذين يعرفون سرا اختار عبد الحكيم عامر، بل عامرا أيضا كان يعرف وهذا هو مفتاح اللعبة، فإذا كان المطلوب منه هو تأمين الجيش للسلطة أو لعبد الناصر بذالات بصرف النظر عن كفاءته القتالية ضد العدو الأجنبي، فهو بدوره بحاجة إلى تأمين مركزه في الجيش بضباط مرتبطين به أوفياء له بصرف النظر عن كفاءتهم القتالية.الخ.

وهو الذي ساهم وضمن تصفية محمد نجيب ويوسف صديق وخالد محيى الدين وجمال وصلاح سالم وبغدادي وكمال الدين حسين، يعرف أن هؤلاء جميعا تمت تصفيتهم لأنهم فقدوا وزنهم العسكري في الجيش ومن ثم لا يمكن أن يقبل عزله عن الجيش، لا بترقيعه إلى منصب أعلى يرفع قدميه عن الأرض كما في الأسطورة اليونانية ، ولا بتغيير أركان حربه بعناصر أقل ولاء أو ارتباطا به.. إذا كنا نريد أن نحاسب اليونانية عبد الحكيم عامر على انه رفض أن ينتحر قبل 11 سنة فهذه قضية أخرى، وعلى أية حال فقد فعل لما فقد الجيش..

وهذا هو التفسير الذي يطرحه هويدى على استحياء وينسبه للبعض وهو أن سكوت عبد الناصر على تخريب عامر للجيش المصري، وما ترتب على ذلك ، كان بفعل : " تغلب عامل التوازن بين اتجاهات أعضاء مجلس الثورة القديم".

وهو التفسير الأقرب للعقل أو بصراحة الذي يمكننا من الاحتفاظ بعقلنا، فلا نجنح لتفسيرات التمثال إياه..

كان دمار الجيش على يد عامر هو الثمن الذي دفعه عبد الناصر أو بالأحرى دفعته مصر واضطر عبد الناصر لقبوله مقابل ضمان عامر وبالتالي الجيش إلى صفه، ضد خالد وجمال سالم وصلاح سالم ثم بغدادي وكمال الدين حسين وزكريا.. الخ. أي من أجل الانفراد بالسلطة وتصفية رفاق الانقلاب، ثم لمنع أية محاولة انقلابية ، أو ثورية شعبية.. .

وهكذا ضحى بالأمن القومي..

وقد قال كوبلاند إنه سئل مرة إذا خير عبد الناصر بين التنازل عن السلطة أو دمار مصر فماذا يختار؟ " فقلت بلا تردد سيختار البقاء في السلطة".
لقد عبد المصريون العجل يوما.. ولكن لم يعرف تاريخهم عبادة العار والهزيمة أو تقديس التفريط في الوطن..
وضل بنو إسرائيل أربعين عاما في التيه لما عبدوا العجل لما رأوا خواره.. ونحن فتنا بالخوار ثلاثين عاما دون أن نرى حتى العجل .. فانتقلنا من التيه إلى الضياع، يشردنا في الآفاق ويطوف بنا خوار العجل على جيف الأماني نحسبه زئيرا فنفر منه إليه..

ويقول هويدى إنه" من سوء حظ الأمة العربية أن القدر لم يمهله حتى يتم إزالة آثار النكسة فمات"

ولا شك أنه من سوء حظه كما قرر هويدى لأنه مات مهزوما، ويضرب المثل بوفاة ستالين مثلا خلال حصار ستالينجراد قبل أن يطرد الألمان من الاتحاد السوفيتي وأن ذلك لو حدث لحملوه مسئولية الإهمال في الاستعداد.. وهذه طبعا فيها قولان: الأول أن ستالين لم يهمل، بل كان يحاول إزالة آثار نكسة الثلاثينات، وستالين لم يهاجم ألمانيا ولا تحرش بها وهو يعرف أنها أقوى منها، ولكنه فعل المستحيل حتى أجل الحرب سنتين، كانت حاسمة في نقل المصانع وتعزيز الدفاعات ولو استطاع لبقى خارج الحرب حتى يستنزف الرأسماليون أنفسهم ثم يضرب ضربته، وستالين استطاع أن يستفيد من هذه الحرب بين الأعداء فاحتل نصف بولندا وفنلندا مما مد خطوط الروس وجعل هذه الدول تتحمل الصدمة الأولى.. أما أن هتلر استطاع أن يصل على ستالينجراد فلم يكن ذلك لعيب خاص في الجيش الروسي أو ستالين، فأداة الحرب الألمانية كانت متفوقة على نحو لم يعرفه تاريخ العالم..

ولنذكر كيف التهم هذا الجيش الألماني غرب أوربا حتى الساحل.. وستالين كان وطنيا وفى مستوى المسئولية، أعاد الكنيسة وأعاد الوطنية الروسية وأخرج الجنرالات من السجون وأعادهم للخدمة العسكرية وقال لهم أترككم لوطنيتكم.. وناصر اعتقل محمد نجيب واستمر يدبر المعركة بعامر وشمس.. وفى المرة الثانية لم يهتم حتى بالرد على رسالة بغدادي وكمال الدين حسين ولو من باب المجاملة.

القول الثاني أن ستالين عاش وأزال آثار العدوان حتى برلين وحقق لروسيا أكبر وأكمل نصر في تاريخها، ومد الإمبراطورية إلى حدود لم يحلم بها أشد القياصرة جنونا .

فماذا فعل به الروس عبدوه؟ . منعوا انتقاده ؟ لا.. بل أخرجوا جثته من تابوت المجد ونبذوه في العراء وحاسبوه على شبه التقصير؟

وما دمت ترى أن الروس كان يحق لهم محاسبته واتهامه بالهزيمة لو مات قبل النصر فلماذا تحرم ذلك على المصريين؟ إذا كنت قد سمعت أو قرأت ما قالوه عن ستالين وما فعلوه به وبتاريخه لأنه أهدر حرية الفرد فما معنى المثل الذي ضربته ولماذا تريدنا أن نسكت على طاغية قزم منهزم؟

" إزالة آثار النكسة"؟

حتى الوزير أمين هويدى يظن أن عبد الناصر كان سيزيل آثار النكسة بالدبلوماسية كما قيل أنه فعل في عام 1956.
أما القول بأنه لو عاش فكان سيزيلها بالحرب، فهذه فرضية لا يوجد أي دليل عليها.. ولا يمكن مطالبتنا بالمراهنة على فرضية لرجل في ذمة الله، والتخلي عن حقيقة أنه عاش بيننا 18 سنة فلم يحقق في الصراع مع إسرائيل ، إلا النكسة تلو النكسة..
كيف يطلب منا التخلي عن حقيقة أن حياته صنعت النكسة، ونقبل فرضية أنه لو طال به العمر لانتصر.. بل ويطلب منا باسم هذه الفرضية أن نتابع المتاجرين باسمه هل استبدال فوزي بعامر كان سيحول النظام الذي لم ينتصر في معركة عسكرية واحدة، ولا حتى في اليمن .. إلى نظام يهزم إسرائيل ما بعد 1967؟

بل إن هويدى أورد قائمة لانتصارات عبد الناصر الإستراتيجية واستشهد بها على أنه لم يكن يتبع سياسة قصيرة النفس أو رد فعل كما يتهمه الحاقدون وأصحاب المنفعة من أيتام لجان الحراسات .. الخ.

هذه القامة شملت 15 هدفا حققها عبد الناصر، ليس من بينها " الهدف القومي والوطني في محاربة إسرائيل " كان هويدى أشرف من أن يزور أو يدعى النصر في تلك المعركة أو هذا الهدف الذي فضلا عن أنه يجب الأهداف الأخرى، إلا أنه أيضا هدف واضح لا مجال للادعاء فيه.. فنصره واضح كالصبح، وهزيمته واضحة كئيبة بشعة مذلة فاضحة مفضوحة.

ولسوء حظ الأمة العربية ومصر في طليعتها أن ههذ المعركة هى التي لا يجوز أن يعلو حديث بنصر آخر على حديثها.. وستظل كذلك إلى زمن نرجو ألا يطول..

من 1952- 1954 لم تكن إسرائيل على قائمة اهتمامات عبد الناصر باعترافه هو في أكثر من خطاب، وبشهادة هيكل وقد بلغ منعدم الانشغال بإسرائيل ، أن بن جوريون كما رأينا هرش في رأسه وغمغم بأن هذا مؤسف للغاية..؟

عقد اليهودي الذي عانى الإهمال قرونا طويلة.. إسرائيل أيضا لم تحاول التحرش بالثورة لا خوفا منها ولكن للتفسير الذي يطرحه د. عبد العظيم رمضان وهذا هو حرفيا بصرف النظر عن تعليقه الشائق وتحليله..

قال:

" ويعتبر تتبع العلاقات بين إسرائيل وثورة 23 يوليو من الأمور الشائقة فلم تكن إسرائيل عند قيام هذه الثورة قد استشعرت الخطر من جانبها لأسباب كثيرة، ربما كان على رأسها أن القوى الوطنية قبل الثورة كانت قوى شديدة العداء للصهيونية ، فهي التي أمرت جيوشها بدخول فلسطين لتحريرها من العصابات الصهيونية ، وهى التي احتلت جزيرتي تيران وصنافير، وهى التي فرضت الحصار على البحر الأحمر وحرمت إسرائيل من الاستفادة من ثمار الغصب والنهب الذي ارتكبته.
ولما كانت علاقة الثورة بالولايات المتحدة علاقة ود وتفاهم في ذلك الحين ، فمن هنا توهمت إسرائيل أنها سوف تلقى على يد الثورة معاملة أفضل مما تلقته على يد القوى الوطنية القديمة وعلى رأسها الوفد"
هنا يطرح الدكتور فرضية ويبرهن عليها بالوقائع ولكن الدجال يطرح فرضية مضادة تماما وهى أن الوضع قبل الثورة كان على هوى إسرائيل بعكس ما حدث في 1952 ثم لا يقدم دليلا إلا أن مصر كانت فقيرة؟

يقل د. رمضان:

" وهذا يفسر انحياز إسرائيل إلى صف الثورة في صراعها مع القوى الوطنية القديمة ( الوفد والشيوعيين والإخوان المسلمين ) فعندما أصدر الوفد برنامجه يوم 23 سبتمبر 1952 وفيه :" التمسك بعروبة فلسطين وجامعي الدول العربية ، وتأييد شعوب أفريقيا في جهادها لنيل استقلالها، ودعم مجموعة الدول الإفريقية الآسيوية، وإنهاء الاحتلال المشترك من أراضى مصر والسودان وتحقيق الوحدة بينهما" – علق راديو إسرائيل على هذا البرنامج غاضبا بقوله: إن حزب الوفد " ما زال حزب التطرف السياسي والتعصب الأعمى في أكثرية المسائل الى لا تخص المصريين ولا تتعلق بحياتهم وظروف معيشتهم" وأن هجومه على النظام الجديد ( الثورة) جاء في شكل كلام مزوق وتعابير منمقة، وعواطف جياشة حول التمسك بأماني مصر القومية والعمل على تغيير الأوضاع في الديار المقدسة وما شاكل ذلك".

وسيجل محمد نجيب في مذكراته فخورا: " أن ديفيد بنجوريون أدلى بتصريحات يتمنى فيها النجاح لثورتنا وأعلن سياسة جديدة للانفتاح على مصر الجديدة وتحديث " هاآرتس" عن فرص الحل السلمي مستندة على إمكانيات وضحت في اتصال على ماهر بزعماء الوكالة اليهودية خلال الفترة بين 1936 و 1942 وغلى بعض تصريحات ا لدكتور محمود فوزي سفيرنا في لندن، والذي أكد على إمكانية التعايش السلمي بين العرب وإسرائيل ".

إذا فقول الدجال إن إسرائيل لم تكن مهتمة وأنه نبح حسه مع بيفان لكي يجعلهم يهتمون، كذب، فإسرائيل كانت مهتمة وممتنة.

ونود أن نضيف إلى أرشيف الدكتور رمضان بأن التعاون أو التفاهم وصل في تلك الفترة إلى أن أصدقاء الثورة في المخابرات الأمريكية في مصر طلبوا من أمريكا أن تطلب من إسرائيل مدح الإخوان المسلمين في إذاعتها العربية لتشويه سمعتهم وقد حدث ذلك بالفعل..

أما عن موقف الثورة فإن الدكتور رمضان يلفه لنا في قطعة سكر فهو يقول:

" ومن ناحية الثورة فإن انشغالها بالصراع الداخلي ومعركة الجلاء مع الإنجليز، قد حجب عن ناظريها الخطر الكامن في وجود إسرائيل على الحدود المصرية، ومن هنا حين أنشأت قيادة الثورة هيئة التحرير في 15 يناير 1953 كتنظيم سياسي يسد الفراغ الذي سوف ينشا من حل الأحزاب القديمة، ونشرت ههذ الهيئة التي تمثل الثورة ميثاقها وأهدافها القومية ومناهجها في السياسة الداخلية والخارجية- جاء هذا البرنامج خاليا من أية إشارة إلى فلسطين"
ونحن لا نملك إلا الاعتراض على الأعذار التي أوردها الدكتور رغم اقتناعنا بأنه يشاركنا الرأي وأنه اضطر على وضع هذه الملطفات بحكم ظروف النشر ولكي لا يفزع ذوى القلوب الضعيفة. مثل وصفه هذه العلاقة بأنها من الأمور " الشائقة" بدلا من أن يقول " الشائكة" أو " الشاذة" أو " الشائنة" لأن الثورة التي جاءت إلى الحكم بحجة الهزيمة في حرب فلسطين لا يمكن أن يسقط من برنامجها " سهوا" قضية فلسطين وهو البرنامج الذي تناول الثورة وميثاقها وأهدافها في السياسة الخارجية والداخلية.. كل هذا لا يتسع لإشارة إلى قضية فلسطين في برنامج حركة ثورية بدأ تجمعها خلال حصار الفالوجا عل أرض فلسطين.. وحول حكاية الأسلحة الفاسدة.. الخ.
وإذا كنت ناسي أفكرك.. إذا كانت هيئة التحرير ومجلس الثورة نسيا في زحمة الشغل فلسطين وأمن مصر الوطني، أما كان برنامج الوفد الذي ظهر جديرا بتذكيرهما؟

وماذا تعنى الصلة الحسنة بين الأمريكان والثورة " لإسرائيل " إلا إذا انعكست في مثل هذا الموقف، وهو إزالة الموقف الوطني للقوى الرجعية بشطب قضية بل اسم فلسطين من برنامج وميثاق وأهداف هيئة التحرير ، وحل الحزب الذي ذكرها وسجن وشنق من قاتلوا على أرضها..؟

بل وأكثر من ذلك، فات الدكتور أن يلاحظ مطالبة برنامج هيئة التحرير بالسلام مع إسرائيل في المادة التاسعة:" سلام إقليمي يهدف زيادة فاعلية الجامعة العربية" فكان أول برنامج سياسي غير شرعي يطالب بسلام إقليمي.

ألم يكن هذا كافيا لكي تنحاز إسرائك إلى جانب الثورة في صراعها ضد القوى الوطنية القديمة؟ وأية قوى جديدة هذه التي ينحاز إلى صفها الإسرائيليون والمخابرات الأمريكية ؟

وبعكس ما هو المفترض والشائع، وهو أن النظام الثوري يكون الأكثر تصلبا والأكثر عداء لإسرائيل والأبعد احتمالا في الصلح معها، بالعكس من ذلك نجد أن توقعات الأمريكيين للنظام الناصري مخالفا تماما..

وإليك بعض الوثائق التي لا يراها هيكل:

من وكيل الخارجية الأمريكية إلى الوزير
30/12/1952
سرى

" أبلغ كافري أن السلم مع إسرائيل هو هدف نظام الجنرال نجيب ولكن خطوة متسرعة في هذا الاتجاه يمكن أن تدمر ما نحاول القيام به"

ويقول محمد نجيب في مذكراته :" وفى الحقيقة كنت أتوقع في ذلك الوقت أن يتقدم الإسرائيليون بمعاهدة سلام، وربما قبلنا هذه المعاهدة في ذلك الوقت" وقد قلت في ذلك الوقت 1953 " أنه لكي تكون إسرائيل دولة معترفا بها ولكي تكون دولة معتمدة على نفسها يجب أن تشترك في تجارتها السلمية مع الدول العربية لصالح الجميع".

لا يمكن تفسير هذا الموقف إلا بالرجوع إلى المعامل "س" .. الاتفاق الذي تم بين الولايات المتحدة ورجال العهد الجديد قبل الوصول للحكم وبعد الاستيلاء عليه، وهو تجميد قضية فلسطين، والتركيز على المشاكل الداخلية وإتاحة فرصة للولايات المتحدة لإيجاد حل سلمى دائم.. وإسرائيل لا تتوهم ولا تنتظر أن تلقى على يد الثورة معاملة أفضل.. وإنما إسرائيل تدرس وتخطط وتحلل .

وهى تعرف أن النظام القديم لا يمكن أن يتهادن معها، وقد رأينا باعتراف رمضان نفسه أنه كان أي هذا النظام القديم" شديد العداء للصهيونية " خاض حربا شاملة ضدها، عسكريا بالهجوم في 15 مايو 1948 واقتصاديا بإغلاق قناة السويس والمبادرة الناجحة بسد خليج العقبة والحكم بالشلل والموت على كل مشاريع إسرائيل عبر البحر الأحمر وإيلات.. وبوضع قوانين المقاطعة الاقتصادية بل والإصرار على أن تشمل المواد الغذائية رغم معارضة الدول العربية وخاصة التي كانت تبيع وتستورد من إسرائيل .

فلم يكن لدى إسرائيل عواطف أو أوهام نحو النظام القديم ولذلك لمتمن ترغب في أي تحرك يخدم هذا النظام أو رجاله، فالتحرش بمصر في هذه الفترة كان سيضعف العسكر حديثي العهد في السلطة ويكشف عجزهم العسكري وهذه كانت أوقى ورقة في يدهم والأمل الذي راهنت عليه الجماهير بعد هزيمة 1948 التي نسبت إلى السياسيين، فإذا ثبت أن العسكر أضعف، وأقل قدرة على المقاومة، فإن الجماهير ستكشف فداحة الخطأ عندما ضحت بالديمقراطية النسبية بأمل أن يكون المقابل هو القوة الوطنية.. من هنا كانت التنظيمات العقائدية شبه العسكرية، التي كانت قضية فلسطين تحتل مكانا بارزا في تفكيرها وبرامجها مثل الإخوان المسلمين ومصر الفتاة.. الخ.. أو الوفد الحزب الشعبي ذو التاريخ الديمقراطي والمكانة الدولية البارزة لدى حركات التحرر البرجوازية في آسيا وإفريقيا، والذي أثبت عداوته المؤثرة ضد إسرائيل .

وإذا مضينا خطوة أبعد في أوهام إسرائيل، فلا شك أنها كانت تتوقع وأثبتت الأيام صدق نظرتها، أن النظم العسكرية هى الأكثر مسالمة مع الخارج.. والأقل قدرة على القتال، كما لعلها كانت تعتقد وكل الظواهر كانت تؤيد هذا الظن، أن مصر لو دخلت في الحكم العسكري فستبدأ دوامة الانقلابات والإعدامات والتصفيات، الأمر الذي يستنزف قواها ويشل جيشها عن أي تحرك خارجي..

يضاف إلى ذلك كله الضغط الامريكى الذي طالبها بإعطاء فرصة للمعتقلين الجدد لكي يمكن تحقيق التسوية.. وبالطبع لم تكن إسرائيل لتستجيب لهذا الاتفاق إلا لما رأته من عوامل أخرى لصالحها..

وقد انتهت هذه المرحلة، بسحق التنظيمات السياسية في مصر وتدمير جمعية الإخوان واستقرار الحكم العسكري ونجاحه في فرض اتفاقية الجلاء رغم كل القوى المعارضة.. عندئذ بدأت إسرائيل المرحلة الثانية من الإستراتيجية وهى استفزاز العسكر ودفعهم إلى معاداة الولايات المتحدة والغرب لفسخ الاتفاق الامريكى- الناصري.. ونسف "علاقة الود والتفاهم بين الثورة والولايات المتحدة".

أما غير المقبول على الإطلاق، ولا نملك معه المعالجة أبدا، فهو قول الدكتور رمضان " على أنه لم تكد تستقر الأمور في يد الثورة- عبد الناصر بالذات- بعد أزمة مارس 1954 حتى كان يهدد بتطبيق ميثاق الضمان الجماعي العربي في مواجهة أي اعتداء يقع من جانب إسرائيل بالقوة".

هل يفهم من هذا أن علاقة الود بين الأمريكان والثورة كانت على يد محمد نجيب؟
هل ميثاق هيئة التحرير وبرنامجها وضع بدون علم عبد الناصر؟

لا .. ليس من مصلحة أحد أن نحول عبد الناصر إلى " ملك" أو أمير مؤمنين تؤخذ الدنيا باسمه وهو ليس له من الأمر شيء.. إذا كانت هناك سياسة تتعلق بإسرائيل في الفترة من 1952 إلى 1954 فهو مخططها وهو منفذها ، أما إذا سئل في مهرجان جماهيري ماذا يفعل إذا ما اعتدت إسرائيل ؟..وليس ماذا سيفعل هو ابتداء لتحرير فلسطين.. فيرد سنطبق ميثاق الضمان الجماعي العربي.. فهذا أضعف الإيمان ولو أنه لم يطبقه قط..

وقد فات الدكتور رمضان أن يؤرخ التغير الذي حدث في الموقف من المقاطعة لإسرائيل في ظل عبد الناصر، ما دام قد سجل موقف حكومات ما قبل الثورة..

وسدا لهذا النقص.. نقول: تبين أن هؤلاء الضباط الذين زعموا أن الثورة ولدت في نفوسهم خلال حرب فلسطين، هم أقل فئة من المصريين اهتماما بفلسطين أو عداوة لإسرائيل .. فهم ألغوا قرار حكومة الوفد بمنع مرور البضائع من وإلى إسرائيل عبر قناة السويس.. فانطلقت تجارة إسرائيل عبر قناتنا، وإذا عرفنا أن الخليج وقتها كان ممنوعا على إسرائيل ولم تكن إيلات قد أصبحت بعد ميناء اقتصاديا، ومن ثم كان غلق القناة، يخنق الاقتصاد الاسرائيلى في المهد، وفتح القناة هو الذي مكن هذا الاقتصاد من الحياة والانتعاش..

أليس من العار للفكر المصري ألا يرصد كاتب واحد أو مؤرخ هذه الحقيقة فضلا عن التعليق عليها؟..

اقرءوا الوثائق ما دمتم تحبون الوثائق:

ولأن المصداقية انعدمت بعد كل ما زوره هيكل وأمثاله من الناصريين والمتأمركين فهذه شهادة شاهد من أخلهم:

تقرير امريكى عن محادثة مع الجنرال محمود رياض
10/10/1954
وزارة الخارجية الأمريكية

وقلت : إنني أعلم أن كثيرا من البضائع المتجهة إلى إسرائيل قد جرى السماح بمرورها في قناة السويس.. وهنا قاطعني جنرال رياض قائلا:" ليس الكثير بل كل البضائع" وأخبرني أنه هو شخصيا يحتفظ بقائمة دقيقة للبضائع التي جرى شحنها من وإلى إسرائيل عبر قناة السويس خلال عدة شهور.. ولم تتدخل الحكومة المصرية طالما كان الشحن يتم في سفن لا تحمل العلم الاسرائيلى، ولكنها – أي الحكومة المصرية- لا تستطيع أن تسمح بدخول سفينة تحمل العلم الاسرائيلى في مياهها الإقليمية ( على الأقل في ميناء السويس أو بور سعيد لكي تصل للقناة ).

" وصرح عزمي في مجلس الأمن يوم 14 أكتوبر 1954: أن مصر منذ مارس 1954 امتنعت عن أي تدخل في حركة السفن التي تحمل البضائع إلى إسرائيل أو القادمة من مواني إسرائيل عبر قناة السويس " .

يجب أن يضاف ذلك إلى قرارات مارس الثورية الله الله في دم الإخوان وسائر الوطنيين الذين بدأت اعتقالاتهم ومحنتهم ومصارعهم في نفس التاريخ الذي فتح فيه الثوار القتلة قناة السويس لسفن إسرائيل هل تريدون المزيد..؟

مجلس الثورة أجرى اتصالا في الأيام الأولى( سبتمبر 1952) مع إسرائيل يطمئن إلى نواياه.. وربما يكون ذلك ضمن التعهدات السرية التي تعهد عبد المنعم أمين بتقديمها باسم المجلس.

من السفير الامريكى في إسرائيل إلى وزارة الخارجية
تل أبيب 17 سبتمبر 1952
سر وعاجل

أبلغني شاريت وزير الخارجية عصر هذا اليوم أن القائم بالأعمال الاسرائيلى في باريس قد تسلم ما يعتبر ردا على اقتراح حكومة إسرائيل اللقاء مع ممثل للنظام الجديد.

فإن شخصا يصف نفسه بأنه يحمل رسالة مباشرة من نجيب، صرح بأنه مخول بأن يقول إن النظام الحاضر ليس له أي نوايا عدوانية إزاء إسرائيل وإن أي تصريحات مخالفة لذلك لا يجوز أخذها على محمل الجد.. وأن نجيب الآن مشغول بالقضايا الداخلية وأنه سينتهز أقرب فرصة ممكنة لإيجاد اتصال لمناقشة أمور معينة لم يحددها. وحيث إن الرسالة سلمت ما بين 6 و 7 سبتمبر فإن شاريت استنتج أنها لم تمر عبر على ماهر.

وقد ناقش وزير الخارجية الأمر مع الملحق الاسرائيلى في باريس ودخوله الرد شفويا كالآتي:

1- التعبير عن الترحيب بالرسالة حيث لم تكن غير ودية.
2- أن إسرائيل تتابع بعطف واهتمام لتحسين الأحوال في مصر.
3- وإبلاغهم أنهم إذا شاءوا الاستفادة من خبرة إسرائيل في إنشاء المستوطنات الزراعية فإن حكومة إسرائيل مستعدة للتعاون فنيا "أو على مستوى آخر يرونه مفيدا".

" الملحق الاسرائيلى في باريس قابل الملحق المصري وأعطاه رسالة مهمة كتابة كطلب المصريين. كما طلب المندوب المصري في لجنة الهدنة الاجتماع على انفراد بالمندوب الاسرائيلى" 25 أغسطس 1952".

وهل تعرف أن حكومة الثورة، تماما كحكومة حسنى الزعيم وافقت على توطين اللاجئين بعكس قرارات الجامعة العربية، وحقوق الشعب الفلسطيني في العداوة إلى وطنه؟.. وأن حكومة الثورة المصرية وافقت فعلا على توطينهم في سيناء.ز لولا أن إسرائيل – على ما نعتقد- إن المطامع الأزلية في سيناء ما كانت لتقبل حتى هذا الحل لمشكلة اللاجئين فعجلت بتأزيم الموقف بغارة فبراير 1955..

خذوا ههذ الوثيقة:
سرى جدا
7 فبراير 1953

أبلغني وزير الخارجية ( محمود فوزي) الليلة الماضية، أنه يفكر في إمكانية عقد اتفاق مع إسرائيل . وهو يعي أن اللاجئين لن يعودوا أبدا إلى إسرائيل بأعداد كبيرة.

وأنهم يجب أن يوطنوا في البلاد العربية، وقال :" نحن نرغب في أخذ اكبر عدد ممكن إذا ما استطاعت " الأونرا" ( هيئة اللاجئين) أن تجد مشاريع لتشغيلهم في سيناء".

وأضاف السفير في برقية تالية أن وزير الخارجية المصري طلب يوم السبت من " بانش" ( رالف ممثل الأمم المتحدة) أن يبلغ شاريت ( وزير خارجية إسرائيل ) أن مصر راغبة في تحرى تسوية مع إسرائيل على أساس إعادة التوطين والتعويض للاجئين وبعض تعديلات في الحدود.

وقد أبلغ بانش شاريت ذلك يوم الأحد وبعد مشاورات مع حكومته رد بأنه يرحبون بحرارة بهذه المبادرة" ( 10 فبراير 1953).

وننتقل على معلومات السفير الامريكى في إسرائيل الذي أبلغ حكومته أنه أجرى محادثة خاصة مع بانش الذي وصل إسرائيل يوم 7 فبراير يحمل رسالة مصر أو رسالة محمود فوزي فقال بانش للسفير الامريكى على انفراد:" إنه ذهل من حقيقة أن نجيب لم شر في حديثه معه إلى مشكلة فلسطين بحرف، ولو أن إسرائيل جاء ذكرها في حديثه مع فوزي الذي نقل على لسانه( لسان وزير خارجية عبد الناصر) "إنه لا يرى سببا يمنع مصر من التحرك نحو عقد السلام مع إسرائيل إذا ما توافرت بعض الشروط".

برقية السفير من تل أبيب
9 فبراير 1953

ونتابع التقليب في وثائق هذه المرحلة:

8 أبريل 1953:

بايرود قال عن السفير المصري في باريس اقترح أن تصبح إسرائيل من الدول الموقعة على اتفاقية اسطنبول لسنة 1888 الخاصة بالقناة.

17 نوفمبر 1953

كتب ايريك جونستون أنه استطاع أن يحصل على وعد من الحكومة المصرية باستخدام نفوذها في العالم العربي لإنجاح مساعيه حول مياه الأردن".

10 أبريل 1954:

" رياض (محمود رياض) أكد أن حوادث الحدود في غزة من فعل الفلسطينيين وأن السلطات المصرية سحبت السلاح من المدنيين في القطاع".

القاهرة 17/6/1954

إنى أغادر القاهرة مشبعا بالآمال في الحصول على موافقة العرب تنمية وادي الأردن.

إن الدور الذي لعبه المصريون في توفير قيادة متعاطفة فعالة بناءه، كان بالغ الأثر ومن الواضح أنه انبعث من رغبة صادقة في مساعدة الولايات المتحدة وقد أصبح واضحا الآن أنه لا حاجة لمباحثات مع العرب إلا في القاهرة".

" وبالنسبة لإمكانية الاتفاق بين إسرائيل والبلاد العربية فقد صرح السفير أبا إبيان لوزارة الخارجية الأمريكية أن مصر تشكل أكبر احتمال في هذا الشأن"

16/6/1954

تعميم من وزير الخارجية الأمريكية :

22/11/1954

" إننا نعتقد أن الخطوة الأولى ( لتحقيق سلام بين العرب وإسرائيل ) يجب أن تبدأ بمصر لأن :

1- مصر أقل الدول العربية اهتماما بإسرائيل والأقرب احتمالا للتحرك.
" إن مصر قد تعبر الحدود في محاولة عقد صلح شامل مقبول للعرب، ولكنها لن تحاول ذلك في وجه معارضة عربية. وعلى أية حال إنهم مشغولون الآن تماما، في تصفية الإخوان المسلمين ".
كافري 11/12/54

ثم ننتقل لمفاجأة الغارة على غزة في 28 فبراير 1955 وسنلاحظ إجماعا عربيا في جميع المصادر الناصرية أو المتصلة بالناصرية في تلك الفترة، أو المؤرخة لتلك الفترة، هى الدهشة والمفاجأة التي قوبلت بها الغارة من جانب السلطة المصرية.. والحديث عن الوهم الذي انقشع .. و" ما لم يكن في الحسبان" و" الاستيقاظ" على الحقيقة".

يقول حمروش: "تم هذا الحادث ( اقتحام الحدود المصرية وقتل 38 جنديا داخل معسكر الجيش المصري.. ) في وقت لم تكن فيه العلاقات المصرية- الإسرائيلية في حالة من التوتر الشديد، بل كانت هناك فرص للتفاهم لم تقبلها المؤسسة العسكرية في إسرائيل ".


ويقول بغدادي :

" فوجئنا بغارة عسكرية من الجيش الاسرائيلى على معسكر لنا بالقرب من مدينة غزة، وكان الهجوم ليلا، وبعد عودة بن جوريون على ا لحكم بعدة أيام قلائل فقط وكان عدد القتلى من جنودنا سبعة وثلاثين جنديا في مقابل ثمانية جنود إسرائيليين".

وتخون بغدادي الذاكرة فيقول:" إن تلك الغارة كانت بداية لسلسلة من الغارات المتبادلة بين إسرائيل وبيننا".

وليس في السجلات غارة واحدة شنت على إسرائيل في عهد عبد الناصر من 1952 على 1967.

كل ما حدث هو أنه سمح للفدائيين بالعمل من قطاع غزة أو من الأردن، وقد اشترك مصريون ولكن على شكل فدائيين ولم تقم مصر بغارة بقواتها النظامية أبدا.. بل يقرر حمروش أنه بعدما تحرشت إسرائيل بعبد الناصر في عدوان 1955 " كانت ردود الفعل عند جمال عبد الناصر هادئة ، أوق عمليات الفدائيين في غزة تحاشيا لاستفزاز الإسرائيليين وخلق مبرر للهجوم" ( بل وسحب جيش التحرير الفلسطيني من الحدود وأعلن حظر التجول في قطاع غزة).

وقد فهم بغدادي أو تصور- على حد تعبيره وقتها- أن إسرائيل تريد إضعاف نظامهم الوليد، " لما كانت الغارة قام بها الجيش الاسرائيلى نفسه وضد قواتنا النظامية أيضا.

فقد جعلتنا نتصور ونعتقد أن الغرض منها هو العمل على إضعاف نظامنا الورى الوليد" ويؤكد هيكل تفسيرنا بل ونجاح المخطط الاسرائيلى، الذي كانت بدايته غارة 28 فبراير 1955 وهو نسف العلاقات الأمريكية- المصرية ودفع مصر على أحضان الاتحاد السوفيتي فيقول:

" وكانت هذه الغارة هى الدافع المباشر الذي جعل جمال عبد الناصر يستدعى السفير الامريكى في القاهرة هنري بايرود ويقول له:

" إذا لم تبع لي الولايات المتحدة ما احتاج إليه من السلاح للدفاع عن الأمن القومي لمصر فلسوف أطلب السلاح من الاتحاد السوفيتي"

ويورد د. رمضان فقرة غير مفهومة عن أن عبد الناصر كان تحت تأثير وهم غريب، هو الربط بين الشيوعية والصهيونية إلا أن هذا الوهم انقشع مع انقشاع سحابات دخان الغارة الإسرائيلية الوحشية على غزو يوم 28 فبراير 1955.

وقد عبر عبد الناصر بنفسه عن ذلك في خطبته يوم 22 يوليو 1957 فقال:

" إن دخان الغارة على غزة في 28 فبراير 1955، انجلى ليكشف حقيقة خطيرة، تلك هى أن إسرائيل ليست الحدود المسروقة وراء خطوط الهدنة، وإنما إسرائيل في حقيقة أمرها رأس حربة للاستعمار، ومركز تجمع لقوى اخطر من الاستعمار ، وهى الصهيونية العالمية".
ويؤكد لنا الدكتور أن عبد الناصر كان يعي خطورة الوجود الصهيوني في خليج العقبة وأنه طالب بإخلاء إسرائيل للنقب في 13 سبتمبر 1954.
وهذا يؤيد ما نقوله من أن حذف إسرائيل من برنامج هيئة التحرير ومن اهتمامات قيادة الثورة، لم يكن عن جهل بخطر إسرائيل .. بل لسبب آخر.. كذلك لا نفهم المفاجأة في عدوان فبراير 1955 إلا لأنه كان هناك اعتقاد ما.. أو تصور ما.. أو اتفاق ما، يتعارض مع ههذ الغارة.. وإلا لو كانت العلاقة عادية، فأية غرابة في عدوان إسرائيل .. والصهيونية؟ وقاعدة الاستعمار كما وصفها المصريون 1917.. وليس 1955..
المفاجأة بسبب الارتباط أو الوعد الذي تم بين قيادة الثورة وبين الأمريكان بتجميد قضية فلسطين والوعد بأن إسرائيل لن تتحرش بالعهد الجديد ولن تدخل في حرب معه.. وكما قلنا من قبل : إن غلطة النظم العربية أنها تتصور علاقة إسرائيل بأمريكا كعلاقة مستعمرة بالدولة الحامية الكبرى.. وأن أمريكا تستطيع أن تتحكم باستمرار في سياسة إسرائيل بالاتصال الهاتفي أو بتعليمات يبلغها السفير.. والعلاقة الأمريكية – الإسرائيلية كما شرحنا أكثر تعقيدا من ذلك، وإسرائيل ليست عملية لأمريكا كما يجنح البعض للتبسيط المخل.. فلها قراراها المستقل وخططها الخاصة المتناقضة في أكثر من موقع مع السياسة أو حتى المصالح الأمريكية ..
وصحيح أن الولايات المتحدة، لو أرادت ، تستطيع وإلى اليوم أن تجبر إسرائيل على الرضوخ لإرادتها، ولكن المشكلة في العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية هى أن الولايات المتحدة ليست مطلقة اليد في التعامل مع إسرائيل ، بل إن المواجهة معها تتحول إلى حرب أهلية داخل أمريكا، بمعنى مواجهة بين الإدارة الأمريكية ومركز القوة( اللوبي) الاسرائيلى داخل وحول هذه الإدارة في قلب أمريكا.. فالعلاقة عكس العلاقة المعتادة بين الدولة الكبرى والدولة الصغرى التي تعتمد على حمايتها، ففي هذه الحالة تملك الدولة الكبرى مفاتيح قوى داخل الدولة الصغرى تلعب بها لتوجيه سياستها وفق إرادتها دون حاجة على استخدام عضلاتها بشكل علني أو مباشر، بينما في حالة أمريكا وإسرائيل ، فإن إسرائيل هى التي تملك مفاتح توجيه السياسة الأمريكية في داخل المؤسسات الأمريكية . ومن هنا كان حرص الإدارة الأمريكية على تجنب المواجهة العلنية مع إسرائيل إلا في الضرورة والقصوى..

على أية حال مرت علاقة الثورة بإسرائيل في عهد عبد الناصر بثلاث مراحل :

1-مرحلة التآمر المشترك ، والواسطة فيه هى الولايات المتحدة، حيث تم الاتفاق بين المخابرات الأمريكية والتنظيم الناصري على استبعاد قضية فلسطين، وتبريد الوضع على الحدود. وهذه المرحلة استمرت من جانب النظام الناصري إلى 1956..
أما من ناحية إسرائيل فقد كانت من ناحية تحت ضغط امريكى مكثف ، إذ كانت الولايات المتحدة تراهن عل النظام الجديد في مصر، من أجل الحل النهائي لمشكلة إسرائيل .. ومن ناحية أخرى كان كل ما يجرى في مصر على هوى إسرائيل.. تصفية النظام الليبرالي ، وضرب الأحزاب والحركات الوطنية وقيام نظام عسكري.. وإفساد الجيش وتجريده من الكفاءات القتالية بل وروح القتال ومن ثم تركت الأمور تمضى في مجراها.
2- مرحلة التحرش وفصم التحالف .. وبدأت نهاية 1954 أو بعد ما تأكد خروج البريطانيين ، وبدأت المحاولات الأمريكية الجدية في فرض التسوية ولم تكن لتتم في ذلك الوقت إلا على حساب الأراضي المحتلة من إسرائيل ، وعلى حساب الأراضي المطلوب احتلالها، ولذلك تحركت إسرائيل لمنع هذه " الكارثة" وذلك بالتحرش بمصر وسوريا، لتأزيم العلاقات مع أمريكا ، وفسخ التحالف أو الارتباط المصري- الامريكى ودفع البلدين إلى محالفة الروس، وقد بدأت المرحلة بمحاولة سخيفة هى المعروفة بعملية " لافون" ويبدو أن المخابرات الإسرائيلية تأثرت أو تشجعت بنجاح المخابرات سى آى ايه في مصر فأرادت أن تنافسها بتخطيط وتنفيذ سياسة إسرائيل ، ولما فشلت فشلا ذريعا، أعيدت إلى مهمتها الأصلية. وتولى ساسة إسرائيل والمؤسسة العسكرية التحرش بالنظام المصري ، وكانت غارة فبراير 1955 ثم غارة 31 أغسطس 1955..
إذ " قام الجيش الاسرائيلى بمهاجمة مركز البوليس في خان يونس بقطاع غزة ، كما هاجم مواقع مصرية أخرى، وكان عدد القتلى من جانبنا نتيجة هذا الهجوم حوالي خمسة وثلاثين قتيلا وخمسة عشر جريحا" ولم يقتصر الأمر على استفزاز وإحراج النظام الوليد بالاعتداءات وإنزال الخسائر بالقوات المصرية، بل تجاوزها إلى ضم الأراضي.. ففي " 20 سبتمبر 1955 احتلت قوات إسرائيل منطقة العوجة المنزوعة السلاح. والمتحكمة في عدة طرق، وكلها تؤدى إلى داخل الأراضي المصرية".
3- وبعد توقيع معاهدة الدفاع المشترك مع سوريا " شنت إسرائيل غارة على سوريا قتل فيها أكثر من خمسين جنديا سوريا".

وانحصرت ردة الفعل في الصراخ بطلب السلاح من الأمريكان، أو الاتصال بالروس، ولم يخطر ببال القيادة الثورية أن تقوم بإجراء عسكري مضاد، ويصعب تصور أن مصر كانت عاجزة حتى عن حماية مواقع الحدود، ودعنا من الحرب الشاملة ومع التسليم بما أنزله النظام الثوري بالجيش من تصفيات، وفرض المرضى عنهم بدلا من المقاتلين والكفاءات العسكرية، وما نتج عن ذلك من إضعاف للروح المعنوية، إلا أن الموقف السلبي للقوات المصرية كان موقفا سياسيا ، ينبع من الارتباط بالأمريكان، ومن الخوف أو الرغبة الشديدة في تجنب المواجهة الشاملة مع إسرائيل.

ولو حدث رد فعل مصري مناسب. لاشتعل الموقف ولانضم إليه كل العرب، ولربما .. ربما.. توصلنا إلى تسوية أفضل بكثير مما كان يرجو عبد الناصر بقبول القرار 242 ومبادرة روجرز .. أو على الأقل لخلقنا مناخا عربيا ضد إسرائيل .. ولكن السياسة المصرية ومستشاريها فضلوا تفجير القومية العربية من خلال معركة حلف بغداد.. فكان أن حملت مرض الطفولة معها إلى أن ماتت بالسكتة في كامب ديفيد.

وقد وقع حدثان عجلا بإنهاء هذه المرحلة:

صفقة السلاح التي تصرف الأمريكان إزاءها بتعقل فلم يعارضوها، مما أدى إلى نزع الفتيل الذي كان يهدد العلاقات المصرية - الأمريكية ، وفى نفس الوقت زرع الديناميت الذي سيفجر ههذ العلاقات.
ولكنهم خرجوا مؤقتا من مأزق الخيار بين إغضاب اللوبي الاسرائيلى بإعطاء عبد الناصر السلاح، أو منع السلاح عنه وتدمير كل ما بنوه في مصر.
وهذه هى كلمات السفير الامريكى في مصر هنري بايرود:" إن كل ما بنيناه في مصر مهدد بالانهيار" وذلك بشهادة أو نقلا عن هيكل..
الأمريكان كانوا يبنون في مصر طوال الفترة 1952 على 1956 ونحن كنا نسجن والبعض يشنق بتهمة تعطيل مجهود الثورة في تصفية قواعد الاستعمار في مصر..

ثم إنقاذ الموقف بصفقة السلاح وبدأت أمريكا مساعيها لطرح تسوية سلمية، أو مشروعات تهدئة ، وتعاون مشترك تخفف التوتر وتفتح المجال الأكثر شمولا..

الحدث الثاني: هو تأميم القناة وقرار بريطانيا وفرنسا الحرب ضد مصر وما كانت إسرائيل لتفوت هذه الفرصة أبدا لفتح خليج العقبة وتحطيم الجيش المصري وتجميد أو تحييد مصر لفترة كافية لبناء قدرة إسرائيل لتحقيق أهداف المرحلة الثالثة.

ويقول موشى ديان إنهم في منتصف 1955:" أرسلنا وحدة متطوعين لاكتشاف طريق برى إلى شرم الشيخ، وهذا سهل مهمة اللواء الاسرائيلى المدرع الذي احتلها بعد عام ونصف".

ومخطط إسرائيل من فتح خليج العقبة كممر مائي لإسرائيل تنافس به وتزيل دور مصر كحلقة الوصل المائية بين الشرق والغرب.. قديم منذ التفكير في إسرائيل ، ومنذ مشروع التقسيم، والإلحاح الذي تم على " ترومان" واستجابة المتهالك على إرضاء الصهيونية حتى طلب من الوفد الامريكى تليفونيا ضم الساحل لدولة إسرائيل في مشروع التقسيم المعروض وقتها على الأمم المتحدة.

ولكن التطور الجديد عجل تنفيذ هذه الخطة، فقد كانت – بحق- فرصة العمر.. فإسرائيل كما قال موشى ديان" لا تضيع أية فرصة لضرب مصر" أو كما قال بن زوهار: " كانت أزمة السويس أزمة طارئة وهى لم تغير خطط إسرائيل التي كانت ستهاجم مصر على أية حال ولكنها سهلت لنا أهم مشكلتين : السلاح والحليف" . وهكذا قررت إسرائيل المشاركة في الغزو وتنفيذ هدفها في فتح الخليج..

حتى وإن كان ذلك قد أدى إلى توتر مؤقت في العلاقات مع الولايات المتحدة سرعان ما عالجته القيادة المصرية بحملتها على مشروع ايزنهاور..

ونقف هنا لحظة عند رواية غريبة ينسبها هيكل للرئيس، تجعلنا لا ندرى أحقا يريد هذا الرجل تمجيد عبد الناصر وتبرئة ساحته أمام الرأي العام العالمي، أم العكس؟ وخاصة أنه أورد هذه الرواية في كتابه" عبد الناصر والعالم" الذي صدر بالإنجليزية : الرواية تقول إن الرئيس ايزنهاور بعث روبرت أندرسون إلى القاهرة في عيد الميلاد ديسمبر 1955 وكانت مهمته قد أبلغت إلى جمال عبد الناصر على أساس أنها " محاولة أمريكية للبحث عن أساس للسلام في الشرق الأوسط " يقوم بها مبعوث خاص يمثل الرئيس ايزنهاور وكان قد أخطر أيضا بالرغبة في إبقاء هذه المهمة سرية، حرصا على توفير فرص النجاح.

" وكان اللقاء الأول بين الاثنين في بيت جمال عبد الناصر، وطار أندرسون بعدها إلى تل أبيب والتقى بن جوريون ن وتكررت رحلاته ثم عاد يوما بمشروع للاتصال البرى بين المشرق والمغرب في العالم العربة يقضى بإعطاء طريق علوي قرب إيلات للعرب يمرون فوقه من سيناء على جنوب الأردن ونظر جمال عبد الناصر إلى خريطة قدمها أندرسون وفيها رسم للطريق العلوي الذي يستعمله العرب، وتحته الطريق العادي الذي تستعمله إسرائيل إلى إيلات.

وهز رأسه وقال لأندرسون إن المشروع لا ينفع، وراح جمال يفند عمليا عدم جدوى ذلك الاقتراح ثم أضاف ضاحكا:" لنفرض أن أحد رجالنا أحس بنداء الطبيعة وهو يمشى فوق الطريق العلوي، وترك الطبيعة تأخذ مجراها.

قم نزل الرذاذ على سيارة عسكرية إسرائيلية تصادف مرورها على الطريق السفلى فماذا يحدث.. هل تقوم الحرب"؟

لم يشأ هيكل أن يقول الأسباب العملية الأخرى، واكتفى بتلك القصة التي تقول لقرائه من الأمريكيين والغربيين، إن الرئيس المصري" شخ" على اقتراح المبعوث الشخصي لأكبر رئيس امريكى، والرئيس الوحيد الذي وقف ضد إسرائيل وأجبرها على الانسحاب من سيناء في خمسة شهور.

وهكذا نكسب الرأي العام..

وبالهجوم الاسرائيلى بدأت المرحلة الثالثة، والتي كانت في جزء منها امتدادا للمرحلة الثانية، فيما يتعلق بهدف نسف العلاقات المصرية- الأمريكية، وهو ما تحقق بنجاح رائع عشية 1967 .. كما تم تحييد مصر في المواجهة العربية- الإسرائيلية بإقامة " حاجز" القوات الدولية، وما ترتب على ذلك من تمزق الجبهة العربية.. وأضاع عبد الناصر فرصة العمر في الهجوم على إسرائيل من ثلاث جبهات.

ومن 56 إلى 67 أتيحت في هذه الفترة لعبد الناصر أكثر من فرصة لضرب إسرائيل ، سواء للتحرير أو للتحريك أو حتى التسخين.. ولكنه لم يفعل ..

لم يفعل عندما كانت الجمهورية العربية المتحدة كالطوق أو الكماشة حول إسرائيل .. ولكن إسرائيل المطمئنة لاستحالة إقدام النظام المصري على خوض حرب ضدها، ما دامت هناك فرصة واحدة لتجنب ذلك مهما كان الثمن، اطمئنانا لذلك لم تقصر إسرائيل في التحرش والاستفزاز والضرب والكسب بل قامت بهجوم على سوريا في معركة التوافق،واكتفى عبد الناص بطمأنة الأمة العربية بأن السوريين " ما يحبوش هزار" وأنهم ردوا على إسرائيل فورا.. واحتفظ هو للجيش المصري وحده بحب الهزار..

كانت فرصته لشن هجوم من سوريا حيث الجيش المصري والسوري كانا جيشا واحدا، وفرصة لسحب قوات الطوراىء وغلق خليج العقبة لأن إسرائيل معتدية..

ولكن المواجهة مع إسرائيل لم تكن يوما ما في خاطر عبد الناصر.. وظلت الجمهورية العربية المتحدة أو الكماشة قائمة ثلاث سنوات سقط خلالها نظام نورى السعيد، وكان الجيش العراقي في الشهور الأولى على أتم الحماسة والاستعداد لخوض الحرب المقدسة لو فعل عبد الناصر ولكنه لم يقدم بل لم يفكر .. مع أن الصحافة الغربية فسرت ثورة العراق على الفور بأنها تعنى" زوال إسرائيل " ..

وتخيل هجوما على إسرائيل في عام 1958 أو مطلع 1959 من الإقليم الشمالي والجنوبي والعراق عبر سوريا أو حتى الأردن.. هل كانت بقية الدول العربية ستتأخر ؟.. وهل كانـ أمريكا ستحارب العرب أجمعين وهم في قمة التفافهم حول زعيم الأمة العربية؟.. وجماهير تلك الأمة- وكاتب هذه السطور منهم- على استعداد لتقديم حياتهم في سبيل صلاح الدين ورهن إشارته، أو كما كان عبد الحليم يغنى له" جماهير الشعب تدق الكعب تقول كلنا حاضرين"..

ولكن المارد العربي تفرغ للبحث عن جمال عبد الناصر في ثورة العراق وتأمين الشواف وتتبع إنباء رفعت الحاج سرى.. وتدبير مؤامرة على إمام اليمن وسب خرشوف وايزنهاور معا.

ثم تحطمت الكماشة ، لأن الفكر الثوري اكتشف أن تحرير الشعب السوري من الشركة الخماسية أفضل وأهم من تحرير فلسطين من النجمة السداسية.. وهكذا كان الانفصال من سوريا التي حملت جماهيرها " صلاح الدين" بعبرته على الأعناق؟..

وفى سنة 1964 وصل التوتر العربي- الاسرائيلى إلى إحدى قممه، عندما أكملت إسرائيل مشاريعها للاستيلاء على المياه العربية، وكانت فرصة إذا شاء عبد الناصر أن يوحد الصف العربي مرة أخرى على الأرض الطبيعية للوحدة العربية.. أرض المواجهة القومية والمصيرية ، وخاصة أن الحكم في العراق كان قد انقلب مرة أخرى على ظهره الوحدوي.والسوريون هم الذين سعوا يطلبون النجدة أو الإحراج..

فماذا فعلت القيادة المصرية؟

أخرجت من جعبة الحاوي فكرة مؤتمر القمة العربي.. أو المبادرة التي استجاب لها الحكام العرب.. بعد كل ما كيل لهم من تهم وسباب .. مما جعل كاتبا عربيا يسجل ذلك " كعار التاريخ"
إلا أن هذه الاستجابة تؤكد أنه كان يتمتع بنفوذ لا مثيل له، وقدرة غير محدودة في تجميع الإرادة العربية ضد إسرائيل لو شاء.. ولكن المواجهة الحقيقية كانت دائما غير واردة في برنامجه أو تفكيره .
بل لا نرفض مقولة، أنه كان يستخدم زعامته العربية لمنع المواجهة مع إسرائيل .

وهكذا كان مؤتمر القمة حلا بارعا لتنفيس الموقف لا تفجيره ولا حتى مواجهته، واستطاعت هذه الضربة البارعة إعطاء العرب ثلاث سنوات يلهون فيها بمؤتمرات القمة، بعضها ينعقد بالإجماع ويفرح العرب ويغنون، وينشد لها اليمنيون الأشعار.. وبعضها يتغيب عنه هذا أو ذاك ويأسف العرب ويتصلون به لتطييب خاطره.. حتى وصلنا إلى النهاية وإسرائيل تضع اللمسات الأخيرة لضربتها الشاملة، ونسى تماما نهر الأردن ومياهه وأعلنت القيادة المصرية فشل مؤتمرات القمة، ورفض حضورها لأنها تحولت إلى مظلة للرجعية تقيها من شمس القومية العربية الحارقة..

الدعوة للقمة والدعوى ضد القمة لم تكن إلا تكتيكات في إستراتيجية دائمة هى تفادى المواجهة مع إسرائيل . . وقد نجحت هذه التكتيكات نجاحا لا مثيل عليه.. حتى قررت إسرائيل وقت ومكان المواجهة فاستدرجتنا إليهما..

وفي 1967 حشدنا كل الجيش المصري والاحتياطي في سيناء، وتسابقت الدول العربية تطلب تذكرة في قطار المجد.. وقال عبد الحكيم : رقبتي يا ريس ووضع خطتين للهجوم واحدة يوم27 مايو 1967 بما عرف باسم الضربة الأولى، والثانية في شكل عملية محددة تستهدف الاستيلاء على إيلات والنقب الجنوبي.. ورفض الرئيس الاقتراحين وقال: إن " قدرنا" هو أن نتلقى الضربة الأولى التي ثبت أنها الضربة الأخيرة.. ومن يدلنا على ميزة واحدة ممكنة لمصر، في تلقى الضربة الأولى، ورفض خطة عامر في البدء بالهجوم فمن حقه أن يحرقنا فوق كتابنا هذا .

قرر هيكل بعد ذلك أنه سواء ضربنا أم انضربنا فهي خسرانة.. أي أن هزيمتنا كانت محتومة، ورغم ذلك، أم هل نقول وبسبب ذلك ذهبنا إلى الحرب وسعينا إليها سعيا أو بالأحرى وفرنا لإسرائيل كل مقومات الادعاء بأنها أجبرت على الحرب التي أرادتها هى.

وبعد 67 .. دخلنا في حرب الاستنزاف، وهى كما يجمع كل المؤرخين اليوم كانت لأهداف سياسية، وأدت إلى استنزاف مصر، فالمعركة كانت تدور فوق مصر وليس في أرض إسرائيل .. معركة بين مدن مصر مصانعها ومدارسها وبين المدفعية والطيران الاسرائيلى خسرنا فيها ثلاث مدن مصرية وعشرات المصانع وخزانا وعددا غير معروف من القتلى والجرحى المصريين.. وقد بذل الرئيس عبد الناصر جهدا أثر على صحته في إقناع الروس ببناء حائط الصواريخ حتى يتوقف الطيران الاسرائيلى عن اختراق المجال الجوى المصري خارج سيناء المحتلة، ونجح فعلا.. ولكن ماذا كانت الخطوة التالية؟ .. هل صعد المواجهة بعدما أمن على الجبهة الداخلية من انتقام إسرائيل ؟

أبدا.. قبل وقف إطلاق النار وقبول مبادرة روجز أي قبول الدخول في سرداب المفاوضات من موقع المهزوم.. ومات ووقف إطلاق النار ساري المفعول.

ومن هنا فإن " البعض" الذي يقول بأن عبد الناصر لم يفكر قط في شن حرب ضد إسرائيل وأنه عاش ألف سنة لما فكر في ذلك، يستندون إلى واقع 18 سنة..أما الذين يقولون إنه لو عاش لشن الحرب على إسرائيل فإن العامة المصريين يقولون "لو" حرف تمحك..

".. مصر تطبق الخطة الدفاعية المصدق عليها من سنة 1966 واسمها " قاهر".. الخطة الدفاعية لا تعنى قيامنا بأي ضربات جوية أو غيرها.

أي أن الرئيس عبد الناصر ملتزم بالخطة الدفاعية ويرفض الخروج عنها. إذن قيامنا بأي ضربات يعتبر خارج الموضوع ."

الفريق أول
محمد فوزي
قائد جيش عبد الناصر
والذي كان سينفذ الخطة بزراميت ( جرانيت)
( الوطن العربي)
ظهر الغلاف