ذكرياتي مع البنَّا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الحاج "محمد نجيب": ذكرياتي مع البنَّا


• هكذا استقبله أهل (زفتى) بالهتافات والزغاريد.

• اجتذبهم "البنا" للدعوة بقصة الصحابي "سعد السلمي".

• "الهضيبي" كان قريبًا إلى قلبه ومستودعًا لأسراره.



الإمام الشهيد حسن البنا


الحاج "محمد نجيب" أحد مَن عاصروا الإمام الشهيد "حسن البنَّا"، يرحمه الله، ومِثل معظم مَن عاصر الإمام، فإنه يحتفظ بمعِينٍ لا ينضب من الذكريات المتألِّقة والمتجددة، وفي هذا الحوار لموقع (إخوان أون لاين. نت)، الذي أُجري معه يكشف الحاج "محمد نجيب" النقابَ عن ذكرياتٍ تُروَى للمرة الأولى عن الإمام الشهيد.. وهذا نصُّ ما قاله: "فكرة أن نحتفل بذكرى استشهاد المرشد "حسن البنا" فكرة طيبة وعطرة، وكل إخوانه وأبنائه وتلاميذه ورجاله وجنوده تُسعدهم هذه الذكرى، ويجب على كل منهم أن يذكر له وقفًا أو توجيهًا أو مقالاً..


يحضرني مثلاً أنه عندما جاء (ششتا) في (زفتى)، ورَغِبَ أناسٌ كثيرون في دعوته لزيارتهم، وكان يعلمهم أن كل بلد يحتاج إلى دراسة، فقد كان يحتاج إلى بعض الرجال و(الفتوَّات) في تلك البلاد؛ لكي يستطيع أن يحمي سير الدعوة، وكان على رأس (ششتا) في ذلك الوقت رجل له مكانته ورياسته، وأعلى من السلطة والعُمدة.


وهكذا أرسل أهل (زفتى) جميعًا في مناسبة دينية خطابات له (للإمام)، لكنَّ إخوة (زفتى) عملوا له أولويات.. فلانٌ أهمُّ من فلانٍ، فلما جاء الشيخ "مرسي أبو حسين" دعاه فقبل منه الدعوة ووعده أنه يوم 15 من الشهر سوف يزور (ششتا) فبدأت البلد تستعد، وبدأ بعض دعاة وإخوة (زفتى) يسهرون معنا، وبدأنا نفكر في الشُّعبة لكي يفتتحها الإمام "البنا"، وبدأت البلد كلها، وكان لها سمتٌ خاصٌّ، كما كانت بلدًا طيبًا، ولها سمعة طيبة في البلاد كلها، فانتظرنا هذا اليوم، وأصبحنا نتصوَّر أن الشيوخَ (بتوع) الإمام "البنا" و(البهوات) مع الأستاذ "البنَّا" و(الأفندية)، والناس اللي في صحبة الأستاذ "البنا"؛ ولكن الذي أذهل الناس أن الأستاذ "البنَّا" أرسل قبل حضوره رهطًا من الجوَّالة، وكان رهطًا قويًّا جدًّا، فلما جاء رأينا رهوطًا أخرى، فكانت الناس تتساءل: إيه معنى العسكرية مع (الإخوان)، يعني معنى كده أن الإمام "البنَّا" جاي شايف الأمة الضعيفة حتى يعود بالخلافة، ويعود بالحكم بما أنزل الله، فكانت مفاجأة عظيمة جدًّا، وطبعًا كنَّا داعيين أهل البلاد التي حولنا، فكان حفلاً كبيرًا وعظيمًا جدًّا، وكانت الحاجة الوحيدة التي أذهلتهم حكاية الجوَّالة أو الجنود والقوات، وأذرعتها القوية، وكانوا يهتفون: (الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا).. فكانت الناس تُردد وراءهم تلك الهتافات، والنساء على الأسطح تزغرد وتردد خلفهم، وكانت فرحة هزت الجهة كلها، وكان الناس فرحين بلقاء الإمام "البنَّا"، وعندما التقى بهم في الحفل بدأ يخطُب فيهم، وشبَّه في خطبته المسلم بالوردة والنَّخلة، ومضى يضرب أمثلةً كثيرةً، لكن كان أهم ما رواه للشباب قصة "سعد السلمي".



قصة "سعد السلمي":

كان "سعد السلمي" من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- لكنه كان قصيرًا وفقيرًا ودَميمًا، فذهب إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقال له: يا رسول الله، أدَمامَتي هذه تمنعني من دخول الجنة؟ فقال: "لا يا سعد! ولكنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم"، فقال: يا رسول الله، لقد عرضتُ نفسي على كل أصحابك فلم يقبلْني أحدٌ؛ لكنَّ رسولَ الله- صلى الله عليه وسلم- كان حريصًا على إرضاء "سعد"، فقال له: يا سعد، اذهب إلى بيت عمرو بن وهب.. أقرئه مني السلام، وقل له: زوجني ابنتك"، وكان "عمرو بن وهب" رجلاً حديث عهد بالإسلام، وكان لقبيلته وزن في الجزيرة العربية، فلما ذهب إليه "سعد" تحيَّر الرجل مع أن النبي قال له: "أقرئه مني السلام، وقل له: زوجني ابنتك"..


فلما رآه الرجل وسمعه ارتبك، ولم يعرف بماذا يردُّ عليه، فلما رأته الزوجة قالت: لماذا تصمُت؟ هل هناك شيء؟ قال: نعم، لقد أرسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "سعد السلمي" ونحن نعلم أنه قصير وفقير ودميم، وابنتنا على جانبٍ كبيرٍ من الجمالِ، وكل الناس يتمنَّون أن يخطبوا وُدَّها، فقالت له: استأذِن منه، وقل له سوف نفكر في الموضوع، حتى تخرج من المأزِق، وقد كان، واعتذر الرجل، وقال لـ"سعد": سوف نُفكِّر في الأمر، وسنأتي إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم جاءت ابنتهم، فقالت لهما: فيمَ تتهامسان؟! فقالوا لها: لقد أرسل لنا النبي- صلى الله عليه وسلم- سعدًا لخِطبتك؛ ففرحت جدًّا، واستبشرت بأن النبي اختارَهم من القبائل، وأرسل إليهم سعدًا، فقالا لها: إن سعدًا هذا فقير، قالت: لكن النبي هو الذي أرسل هذا الـ"سعد"، فقالوا: يا ابنتي، كيف نقبل هذا، وأنتِ محطُّ أنظار القبائل كلها، وكيف تتزوجين بشابٍ فقيرٍ قصيرٍ؟! فقالت: بماذا رددتما عليه؟ قالا لها: قلنا له كذا وكذا، فقالت لأبيها: اذهب إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يفضَحَنا الوحي، فأسرع الرجل وذهب إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- ووصل إليه مع "سعد"، فقال الرجل: رضينا يا رسول الله بما يُرضيك، ففرِح النبي- صلى الله عليه وسلم- واستبشَر، وفرح "سعد"، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- له: "ما مهرها يا سعد؟"، فقال: يا رسول الله ليس معي مهر.. فقال: "ولو خاتمًا من فضة!" فقال: يا رسول الله، والله ليس معي خاتم من حديد، فنظر الرسول إلى أصحابه وقال لهم: "مهروا سعدًا"، فجمعوا له المال الكثير، وأخذوا سعدًا ليجهز مستلزمات العروس.


وعندما حضر السوق سمع نداءَ الجهاد: حيَّ على الجهاد، يا خيلَ الله اركبي، ففرِح بهذا النداء والجهاد؛ لأنه كان محرومًا منه- لأنه كان فقيرًا ليس معه ما يستعين به على تجهيز نفسه للجهاد، وكان قربه من النبي يكفيه، وكان النبي يأخذ من القادرين، فكان غيرُ القادرين يرجعون باكين في ألمٍ وحزنٍ- لكن سعدًا أصبح في ذلك اليوم يملك أن يقاتل، ويملك أن يُستَشهد، ويملك أن يلقى الله- سبحانه وتعالى.


إن سعدًا اليوم يملك ثمن تجهيز نفسه؛ فقد اشترى فرسًا ورُمحًا وسيفًا، وجهَّز نفسَه على أتمِّ ما يكون الفارسُ المقاتلُ، وعندما نهض بفرسه بدأ يهمِس له الشيطان، فقال "سعد": "لا.. لن تُفسِد عليَّ هذا العِزَّ"، فتلثَّم حتى لا يعرفه أحد، وعندما دخل إلى ساحَة القتال قال أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم-: "إنَّا لنرى الملائكة تقاتل معنا، يقصدون سعدًا القصير الصغير الذي تتطاير أمامه الرءوس قبل أن يصل إليها سيفه؛ لأنه كان حريصًا على أن يلقى الله، وكان يعيش طول عمره من أجل هذا، أما الزواج فكان قبل أن يأتي موعد الجهاد والفتح؛ ولكن الله تعالى أنعم عليه بأنه جمع المال وحضر للقاء الأعداء، ثم بعد أن انتهت الحرب بدأ النبي- صلى الله عليه وسلم- يتفقَّد الجرحى والشهداء، ولما انتهى أصحابه إليه كشفوا عنه، وقالوا: هذا الذي كنا نحسِبه من الملائكة جاءَ ليساعدنا يا رسول الله، لكنه بشرٌ، فكشف النبي وجهَه فإذا به "سعد"؛ فبكى النبي عليه وأصحابُه حُزنًا عليه، وعندما وقفَ النبي- صلى الله عليه وسلم- فرح وضَحِك، فقالوا: يا رسول الله، ما أبكاك؟! قال: "بكيت لفراق سعد"، قالوا: وما أضحك؟ قال: "ضحكت عندما رأيت الحور العين يتنافسْن عليه".


هذه القصة عندما يسمعها الشباب يعرف دورَه بأنه خُلِق ليكون جُنديًّا، وفي الطريق يمكن أن يتزوَّج؛ لكن الأمل والغاية والمُنى أن تكون عند الله شهيدًا.



حفل طنطا.. والجمعية الشرعية:

لقد بدأ الأستاذ "البنَّا" دعوتَه من (الإسماعيلية)، وكان له دور عظيم في المسجد والمقهَى، وكان يأخذ ويسمع ويجنِّد مَن على المقاهي والمساجد، وكان له دورٌ؛ لأنَّ روَّاد المقاهي كان عندهم وقت.. أمَّا المسجد فكان به كبار السنِّ، وأغلبهم مشغولٌ بالجدل والكلام، وتضييع الوقت، وقضية الشافعية والحنفية... إلخ.


وهكذا كان يختار بعض المساجد الكبيرة، وأذكر أني حضرت له حفلاً في عام 1946م في (طنطا)، وكان معه أحد رجاله، وكان (الإخوان) يقدِّمون ورقةً ليستفسِروا منه، فقال الأخ لهم: إنَّ كل هؤلاء (بتوع) الجمعية الشرعية، فقال لهم "البنَّا": أنا أنصح (الإخوان) أن يداوموا على الصلاة في الجمعية الشرعية؛ لأنه أفضل المساجد وأنظفُها، وقال لهم: تجمَّلوا، فإن هذه المساجد طيبةٌ، حتى بعض الإخوة قال: "نحن مدرسة"، فقال لهم: "الجامعة والكلية مساجد الجمعية الشرعية"، فكان "البنَّا" حريصًا على أن يعيش الناس في المساجد.



زواجه من ابنة "الصولي":

وكان من ضمن مساجد الجمعية الشرعية مسجد لأحد رجال الإسماعيلية الصالحين الشيخ "الصولي"، وكان الرجل مشهورًا، ومن البيوت الطيبة؛ بل كان عالمًا، وكان يستضيف الإمام "البنَّا"، فقال له في مرة: يا أستاذ "حسن"، أريد أن أشير عليك في موضوع؛ أنا عندي بنت، لكنها غير بقية البنات؛ لأنها حافظة وواعية، وعندها حال ورؤية، وهذا الكلام لا يصح أن أقوله لأحد إلا لكَ، وكان خُطَّابها كثيرين، لكنها إنسانةٌ عظيمةٌ، ولها مواقف وأبعاد ونورانية، فأدرك الأستاذ "البنَّا" أنه المقصود بالعرض، فقال له: إن شاء الله سيرزُقُها الله مَن يحافظُ عليها ويوقِّرها ويحفَظُها، وأصرَّ الشيخ على الإمام "البنَّافقال له "البنَّا": والله يا شيخنا أنا ليس شاغلي الآن إلا الدعوة، والدعوة لها دور كبير جدًّا، ووهبْت نفسي وحياتي لهذه الدعوة، فقال له: عندما تتزوج إنسانةً عظيمةً وفاهماك ستُساعدك على دعوتك، فقال له: يا فضيلة الشيخ، إن مرتَّبي كذا، وأبعث منه لوالدي وإخوتي، وما بقي أصرف منه على مواصَلاتِي!


قال له: يا أخي، هذه البنت عندها رؤية وفهم، ولن تكلِّفَك شيئًا، ولن تشغلك عن دعوتك، وقال له: اعتبرها (خديجة) لك، فاقتنع الإمام "البنَّا" بقوله، وبعث لوالدته التي جاءت ورأتْها فأعجبت بها، وبحسن قراءتها للقرآن، ولمحت على وجهها الحُسن والنور والبَهاء، فقالت له: "يا حسن، يا ابني هذه زوجة طيِّبة، وفيها كل ما تحتاج إليه.. وعلى بركة الله".



أ. [[سيف الإسلام حسن البنا]]

وعقب استشهاد الإمام "البنَّا" أرسلوا لـ"سيف" مَن يقول له: "إن "جمال عبدالناصر" مهتمٌّ بك ويشتري وُدَّك، ويمكِن أن تكونَ في يوم من الأيام نسيبه، لكنَّ أمه بدأت تطرق عليه الباب أكثر من مرة، وقالت له: أنا ضائقة بضيفك، وغير مرتاحة له، وقالت له: اخلَص من هذا الإنسان؛ لأن نفسيتي تعبانة من هذا الضيف، فقال: اصبري يا أماه حتى نقدِّم شيئًا له، فقالت له: لا تقدِّم له شيئًا، حتى ملائكة البيت غير راضية عنه!



الإسماعيلية ركيزة أساسية:

أما عند وجود الأستاذ "البنَّا" في الإسماعيلية فقد ترك أثرًا كبيرًا جدًّا، وبدأ يأخذ بعض (الإخوان) من على المقاهي، وبدأوا يقولون له: لن ننتظرك على طول يجب أن تقعد معانا.. فالمعروف مهمٌّ جدًّا لكنه لم يبدأ بالمنكر؛ لأن المكان مكان منكر؛ لكن تغاضَى عنه، وكلَّم الناس وجمَعهم على المعروف وأخذوا شعبةً، وهو أول من درَّب هؤلاء الشباب، وعلا بهم فوق الجبال وأصبح يدرِّبهم التدريب الرياضي العادي، وكذلك درَّبهم كيف يدافعون عن أنفسهم، وكما سمعت.. فقد وجد الناس في حالة ضعف وهزال وضائعين بين قوة الاستعمار الإنجليزي وقوة الاستعمار الفرنسي في هيئة (القنال).. لكن الإمام لم يخرج من (الإسماعيلية) إلا بعد أن جيَّش أبناء الإسماعيلية، وأصبحوا ركيزةً أساسيةً لدعوة (الإخوان المسلمون).


وقبل استشهاده كان مع الأستاذ "البنَّا" أحد الرجال الصالحين، وهو "منير بِك دلَّة"، وكان له سائق لسيارته داخل القاهرة؛ لكن عندما اشتدَّ الأمر مع أعداء الدعوة أرسل الإمام "البنَّا" إلى "حسن عشماوي"، وكان في ذلك الوقت نائب المدعي العام- وهو ابن "محمد عشماوي" باشا وزير المعارف العمومية- فأخذ يتنقَّل معه؛ لأن "منير بك دلَّة" كان بدينًا؛ لكن أنا شخصيًّا عرفته على أنه السائق، ولم أكن أعرف أن له هذا المركز الكبير!


ونظرًا لوجوده الدائم معه، بدأ الأستاذ "حسن عشماوي" يعرف الحاجات المهمة للأستاذ المرشد قبل اغتياله، فقد قال له: أنا الآن الشاغل لي قضية أبناء المعتَقَلين؛ لأنه في عام 1948م بعد حلِّ الجماعة، وبعد مقتل "النقراشي" بدءوا يقطعون المرتبات عن (الإخوان)، فكانت مهمة الإمام "البنَّا" أن تصل المرتبات للبيوت التي قُطعت عنها مرتباتُها، فكان يتحدَّث مع الأستاذ "[[حسن عشماوي]]"، ويقول له: أنا لا أستطيع أن أسير من الحراسات، وأتمنى أن أخرج إلى خارج مصر ما دمت لا أستطيع أن أتحرك من غير الحصار الأمني.. وهكذا، كما ربَّى الإمام جنودًا ربَّى- أيضًا- وُجَهَاءَ الأمة ممَّن كانوا يساعدونه.



"البنا" و"الهضيبي":

لكن الوقت كان ضيقًا، وكان الإعلام يحاصره، والأمن يحاصره، وكان الناس خائفين، فقال: والله يا "حسن"، أنا ما فيش حاجة شغلاني.. أنا عايز أمشي عشان أدير العمل التكافلي لـ(الإخوان) والبيوت، وهذا ما يشغلني، فقال: ماذا تراه؟ وماذا أعددت لهذا الموقف؟ قال: توجد حاجات كثيرة خلصتها وجاهزة، وأودعتها في رأسٍ واعية، فقال له: ومن صاحب هذا الرأس؟ قال: صاحب هذا الرأس المستشار "حسن بِك الهُضيبي" .



أ. حسن الهضيبي

هذه المقولة قالها الأستاذ "حسن عشماوي" عندما بدءوا يرشحون الإمام "الهضيبي" بأن يتولى إدارة الدعوة، فكان يعتذر، ويقول: أنا مريض.. ولم يكن معروفًا؛ لكنه كان- في الحقيقة- مقرَّبًا من الإمام "البنَّا"، كان في كل عام يجالسه الشباب، ويجدون عنده أفكارًا عن الدعوة، داخلية وخارجية، وكان يطرح عليهم بعض الأسئلة؛ لكن في عام 1942م، وجد الشباب عنده فكرًا جديدًا، فقال لأبنائه: الشباب فتَّح مرة واحدة.. قالوا له: لأن (الإخوان) فتحوا عندنا شعبة. قال: هذا الموضوع مهم بالنسبة لي، لابدَّ أن أرى الأستاذ "البنَّا"، فعندما رجعوا ليؤدوا دورهم في الإجازة ذهب إلى الأستاذ "البنَّا" في يوم الثلاثاء، فوجد الحضور القويَّ وفرحة (الإخوان) ببعضهم فجلس (يتفرَّج) عليهم، ويقول بعد ما تحدث الإمام "البنا": "البنَّا رجل ملك مفاتيح القلوب"، ويقول: "إنه ملَكَ قلوب سامعيه ورجاله وأبنائه، حتى ملك قلبي، وكل الناس انصرفت، وكلٌّ أخذ قلبه إلا أنا، أصبح قلبي بين يديه حتى التقيتُ به حتى اتفقتُ معه فبايعتُه".. هذا كلام "الهضيبي".


فالإمام "البنا" كان يعرف أنه يملك قلوب أبنائه ورجاله وجنوده، وأثبتت الأيام أن الإمام "الهضيبي" كان مقرَّبًا من الإمام "البنا"، حتى إنني قابلت الحاجة "زينب"، وقالت لي: إنني قابلت الإمام "البنا" في بداية الأربعينيات فقال لها: يا "زينب"، اتركي الناس اللي معاك وتعالي اشتغلي معنا، وتعالي لوحدك، فقالت له: بعد ما لمِّتهم وتعبْت فيهم، وبقى لنا رأيٌ ووجود يا فضيلة المرشد، فقال لها: فكِّري.. فلما فكَّرَت وجدَت أن من الخير لها أن يكون لها تفاعلٌ صحيحٌ، وأن يصل صوتها إلى الله، وتبقى في مأمن من غضب الله، فذهبت له قبل الأحداث فقالت له: يا فضيلة المرشد، أنا فكرت وتدبرت، وأريد أن أعمل معك؛ لأنه في بُعدي عنك لن أكون موفقةً أبدًا إلا إذا كنت أعمل بين يديك، وسأستغني عن الجمعية، فقال لها: لا تتركيهم.. وقتَ الحضورِ تعالي وهاتِهم معاكي، فلما أتى الإمام "الهضيبي" وسافرت هي للسعودية وبقي لها دور وقابلتْه أفهمها أنه على علم بالبيعة بتاعتهم، قال: أين أنت يا حاجة "زينب".. أليس لنا عليك بيعة؟! قالت: هل قال لك الإمام "البنا"؟ قال: نعم.. يعني كان "البنَّا" يدع عنده كل الحاجات التي لها عنده قيمة، والحاجات التي تحدُث، فكان دائمًا يعطي ويمدُّ الإمام "الهضيبي" ببعض المهمَّات والضروريَّات.


أما موضوع اختيار الإمام "الهضيبي" فالدعوة بقيت سنتيْن؛ مما أعطى مجالاً لأعداء الإسلام والدعوة وأصحاب القلوب المريضة أن تعمل ضد الدعوة، وبعض الحكام مثل "جمال عبد الناصر" بدأ يحتك بالشيوخ، فقال لهم:" نحن أصحاب حركة.. وسنعمل كذا"، وذلك بعد ما رجعوا من أرض فلسطين.


وبدأ المشايخ يبعدون عن مجال الإمام "الهضيبي"، وحتى الأستاذ "حسن عشماوي" يقول: إن بعض (الإخوان) مثل "صالح عبد القيم" و"صلاح شادي" و"عبد القادر حلمي" قالوا له: نحن نسألك بصدق.. "محمد عشماوي" باشا يجب أن يكون مرشدًا، أم "حسن الهضيبي"؟! فقال لهم: "كل واحد منا ليس عنده أعزُّ من أبيه.. أما حاجة الدعوة فالمنقِذ لها، ومَن هو أهلٌ لها هو الأستاذ "الهضيبي".


وأذكر قصةَ صحفي كان يضايقه، ويقول له: إزاي تيجي والأستاذ "البنَّا" كان يعرف الأخ ويعرف أباه وأهله وأولاده بعد خمس سنين، وكانوا يضربون المثل على أن الإمام "البنَّا" أنه لما كان يتعرف على رهط من الجوالة ويروح عندهم البلد بعد سنة وأكثر يناديهم بالأسماء، فالصحفي (الرذل) قال له: أنت لا تعرف (الإخوان).. أنت حديث عهد.. أنت بتسلم عليهم دلوقت بتعرفهم إزاي.. قال: والله الأخ يضع كفه في يدي، فأنظر في عينيه فأجد قلبي ينشرح له؛ فأعرف أن هذا رجل من (الإخوان المسلمون).


وكان له مواقف عدة، كما كان له دور كبير في الصبر على الدعوة، والأستاذ المرشد بنى هذه الدعوة على الحب والطاعة، فلما جاء وجد عندهم استعدادًا، كما شهد "الهضيبي" (الإخوان) وانتصارهم في فلسطين، وشهد قضية السيارة (الجيب)، و(القائد العسكري للجيوش العربية)؛ وهو يشهد لجنود (الإخوان المسلمون)، وشهد رئيس المحكمة المستشار الكبير بأن لا ينطق بالحكم.. وبعد شهادة "فؤاد باشا صادق" علَّق القضية إلى الحكم، ويوم أن جاء للحكم انسحب فانشغل الناس، فقالوا: إنه انسحب عشان الملك أو عشان الإنجليز، لكن اضطُّر بعض المخلصين من الصحفيين، فقالوا له: أنت عملت لنا مشكلة، ولازم تقدم شيئًا.. تقول عشان إيه انسحبت.. فقال: والله أنا من سنتين أدرس هذه القضية، وآخر حاجة سمعتها من القائد الأعلى للجيوش العربية أن هؤلاء الرجال كانوا الوحيدين الذين أخافوا اليهود، واليهود لم يخافوا إلا منهم، فلما سأل "فؤاد باشا صادق"، وضرب "فؤاد باشا صادق" المثل باستيلاء ([الإخوان]) على التبة 86 بعد ما جمعوهم ووضعوهم في معسكرات.. بينما الجيش المصري لم يقدر على حماية التبة 24 ساعة، فلما ذهب إلى (الإخوان) وجدهم مستعدين وواقفين للدفاع، وعارفين أن (التبة) ضاعت، فقال لقيادات (الإخوان)- وعلى رأسهم الصاغ "محمود لبيب" و"أحمد عبدالعزيز" والمشايخ والرجال وعدد كبير من قيادات الإخوان- فقالوا له: نحن نعرف أن (التبة) ضاعت، ونحن مستعدون لردها كما كانت، فقال: ما المطلوب مني؟ قالوا: نريد السلاح الثقيل، فخرج معهم، وبعث لهم الأسلحة الثقيلة، وقال: مشيت وراءهم خوفًا عليهم بعد ما قدمت لهم التحذيرات والتوصيات، فقالوا لي: اطمئن، وكان على رأس هذه المجموعة اليوزباشي "محمود عبده"، وهو يشكر فيه ويقول: إن الرجل كان فيه نورانية، كأنه أحد أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم.


ويقول: لما ذهبوا ما فيش ساعات إلا وسمعت تكبيرات (الإخوان)، فعرفنا أنهم استولَوا على التبة 86، وطبعًا (مسكوا) اليهود ومعداتهم، وأسَرُوا الجميع، ورجعوا سالمين، فيقول: أنا بعد ما عرفت هذا من شهادة اللواء "فؤاد باشا صادق" عرفت قيمة الدعوة، وعرفت قدر الدعوة، وعرفت أن "البنَّا" كان صاحب دعوة عظيمة جدًّا، وعرفت أنه لولا أن أعداءه قتلوه، وربنا عوضهم بمن هو عوض، فأنا لم أقدر أن أحكم عليهم؛ لأنه بعدما درست هذه الدعوة وجدت أن هؤلاء الناس هم رجال هذه الأمة، ونصحاء هذه الأمة، وحراس هذه الأمة، وأبطال هذه الأمة.. وهو القاضي الذي قال: "كنت أحاكمهم فأصبحت منهم"، وأصبحت مقولةً مشهورةً.


المصدر :إخوان اون لاين