رحلة إلى الله

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
رحلة إلى الله
قصة الإخوان المسلمين الدامية


بقلم: د. نجيب الكيلاني

الفصل الأول

خيل إلى «عطوة الملواني» أنه فوق البشر، أن كل شيء طوع يمينه، أصبح لديه المال والرجال والمنصب الكبير والسلطة الواسعة التي حلم بها طويلا، والكلاب الراقية المدربة تدريبا رائعا. إنه يحب الكلاب حبا ملك لبه.

ويشعر بمزيد من الفخر والاعتزاز وهو يرى «لكي» و «توسكا» وذريتهما يتراقصون حوله ويتشممون سرواله ويكادون يقبلون حذاءه ولكما تواثبت الكلاب حوله امتلأ قلبه بالغبطة والسعادة حتى الحيوانات تركع له فما بالك بجنود السجن الكبير... نعم السجن الكبير.. إن عطوة أو البكباشي عطوة هو قائد السجن.. ونزلاء السجن ليسوا من الفئة العادية.. إنهم معتقلون سياسيون يعرفون الكثير عن السياسة والحرب وحقوق الشعب والحريات العامة وشريعة الله.. وعطوة يحلو له دائما أن يسخر من مبادئهم وثقافتهم وأفكارهم إنه لا يكلف نفسه مؤنة التفكير فيما يقولون ولا يحاول أن يناقشهم في معتقداتهم إنه رافض منذ البداية لكل ما يقولون لقد درج في حياته على أن يكون أداة طيعة في يد من هو أعلى منه سلطة.. يؤمر فيطيع عمله منحصر في التنفيذ وهو يكره ما تكرهه السلطات العليا هذه الطاعة العمياء جلبت عليه الخير الوفير، وأغدقت عليه العلاوات والترقيات وجعلته محلا للثقة الكبيرة وأمدته بنفوذ واسع وأصبح اسمه على كل لسان وإن كانت شهرته التي تخطت أسوار السجن وأسوار الوطن إلى العالم الخارجي نابعة من كونه «جلادا» لم يكن يخجل من هذه الصفة أو يشعر بالعار أو تأنيب الضمير كانت مصدر فخر واعتزاز له، وكنت الصحافة وكذلك النشرات السرية التي تهاجمه مصدرا من مصادر الاعتزاز والفخر وكان يتخذها وسيلة لمزيد من التقرب والاندماج مع رجال السلطات العليا في الدولة لقد أصبح واحدا منهم ومصيره ارتبط بمصيرهم وأقدم على فعل أشياء رهيبة دفعته إلى الأبد بكل ما هو شرير وخسيس ولم يفكر في الندم أو التوبة أو التراجع في يوم من الأيام لقد عرف طريقه وسار فيه دون تردد أو خوف إنه من ذلك النوع من الرجال الذين لا يفكرون في مستقبل أو ماض إلا بالقدر الذي يخدم اللحظة التي يعيشها لأن الفترة الزمنية المغلقة التي يعيشها الآن هذه اللحظة التي ليس فيها إلا كل ما يدخل البهجة والرضا على قلبه وماذا يريد أكثر من ذلك؟؟ ها هي الكلاب تتواثب حوله، والضباط يؤدون له التحية في خشوع وخوف والجنود عندما يرونه يتجمدون في أماكنهم ويعلو صوت البوق المميز وتنطلق الصحية المعروفة «كل السجن ثابت» فيقف كل شيء متجمدا تنظر إلى الجميع فيخيل إليك أنك في متحف من متاحف الشمع وبعد لحظات يدب النشاط والحماس في كل الكائنات المتواجدة في السجن ويسود جو من الرعب لا مثيل له ويهتف صوت الجنود «سريعا مارش يا بن الكلب» فتجري طوابير السجناء الأذلاء حليقي الرؤوس والسياط العنيفة تهوي على أجسادهم ووجوههم وهاماتهم ولا تكاد تسمع إلا وقع الخطى المتراكضة أزيز السياط الحاقدة ونباح الكلاب الشرسة التي تطارد الطوابير المرهقة المكدودة «والشمس في قلب السماء ترسل نارا محرقة على صحراء العباسية المترامية الأطراف ورجال المباحث العامة يجلسون في مكاتبهم الأنيقة، وأمامهم المراوح الكهربائية والمفارش الخضراء والمشروبات الغازية المثلجة، أو فناجيل القهوة التركي «سكر مضبوط» وعلب السجائر الأجنبية المهربة متراصة أمامهم وسحابات من الدخان تتبدد سريعا بفعل المراوح، وزجاجات من الويسكي وبضعة كؤوس ومسدسات أنيقة من النوع الفاخر السريع الطلقات وضحكات من القلب تنطلق في تلك الغرف المريحة الجميلة لا تكاد تشعر بأزيز السياط في الساحة الدامية ولا بوق الخطى المكدودة وما تثيره من غبار، ولا بصياح الجنود وهم يقذفون الطوابير بأقذع الشتائم ولا الكلاب التي تنبح وتنهش لحوم البشر مما يطلق صيحات الأنين والصراخ المكتوم...

هذا العالم المنعزل.. البعيد.. الغريب هو دنيا «عطوة الملواني» هو مملكته التي أنس إليها وأحبها...بل عشقها من كل قلبه.. إنه الملك السعيد الذي يعتقد اعتقادا جازما أن كل شيء طوع يمينه ورهن إشارته وهل في الدنيا أعظم من هذا المجد وذلك السلطان؟؟ إن حياة الناس في هذا المعتقل بين أصبعيه يستطيع أن يصدر أمرا بقتل أي سجين دون سؤال أو جواب ودون محاكمة فيتم التنفيذ في الحال هل هناك سلطة أكبر من ذلك؟ ويستطيع أ، يهب الحياة كما يهب الموت .. وعلى الرغم من كل هذه الشراسة وذلك الغرور الذي يتميز به عطوة الملواني في السجن إلا أنه يبدو مهذبا رقيقا في منزله بضاحية مصر الجديدة أو بين أصدقائه من ضباط الجيش وعائلاتهم أغلبهم يقولون عنه إنه لطيف حلو النكتة وفي لأصدقائه وإن كان البعض يؤكد أن له بعض التصرفات الشاذة الغريبة فمثلا سمع أ، في مكان موحش تظهر بعض الأشباح فما كان منه إلا أن أخذ يتردد على هذا المكان في الليل ويظل يتجول فيه ساعات طويلة وذات مرة وضع السيجارة المشتعلة على صدره ليعرف مدى الألم الذي تحدثه النار وهي تحرق الجسم البشري، وحدث أن تبارى مع صديق له في إطلاق النار على رأسه فيضع في المسدس طلقة واحدة وكذلك يفعل زميله ثم يدير الخزانة الخاصة بالرصاص، ويتباريان كل يطلق المسدس على نفسه .. على رأسه.. وبحيلة بارعة استطاع عطوة أن يسقط الرصاصة من مسدسه وأن يملأ مسدس صديقه بالرصاص.. كان أن مات الصديق.. ونجا عطوة وتصرفات أخرى كثيرة وغريبة..

وعطوة رجل متوسط الطول ليس بالقصير ولا بالطويل وإن كان جسمه ممتلئا بعض الشيء أشقر اللون والشعر، في خذه أثر جرح قديم يقال إنه نتيجة إصابة أيام حرب فلسطين التي ذهب إليها عندما دخلت الجيوش العربية لتحريرها عام 1948 ولنظراته بريق خبيث غير مفهوم.

أحيانا تدفق عيناه شرا ورعبا وأحيانا أخرى يخيل إليك أنها تجيش بالمحبة والحنان والصدق كما ينتابه في بعض الأحيان شيء من البلاهة بين أصدقائه وهم يسمرون وقد يجعلونه مادة للسخرية والضحك وخاصة إذا ما دارت الكؤوس وهو لا يغضب من ذلك أو يتمرد أو يحتج إنه يشاركهم الضحك والنكات لدرجة أنه يبدو ساذجا تافها.

ولقد كان ي إمكانه أن يصدر الأوامر للجنود أو للكلاب كي يقوم بدورها في عقاب المسجونين وإسالة دمائهم وإطلاق نداءات الاستغاثة من أفواههم الدامية ولكنه لم يكن يفعل ذلك في غالب الأحيان كان يمسك السوط بيده ويمارس عملية التعذيب والجلد أو يصلب المعتقل على صليب خشبي يطلقون عليه «العروسة» ويربطه بنفسه ثم يتفنن في إيذائه ويتسلى بالدموع والدماء والآهات الكسيرة التي تنطلق في ألم وضراعة وحزن لا مثيل له وبعد أن يؤدي مهمته يذهب إلى مكتبه ثم يشرب القهوة وينفث دخان سجارته في هدوء ثم يدر مفتاح المسجل ليسمع أغنية «شمس الأصيل... » لأم كلثوم .. أو أغنية «يا جمال يا مثال الوطنية» ثم ينظر إلى الصحف في إزدراء ولا يلتفت إلا إلى الصور... ولا يعبأ كثيرا بما يكتب في السياسة لأنه يعتمد في معلوماته السياسية على ما يسمعه من أصدقائه أو ما يلقنه له رؤساءه في الاجتماعات الرسمية وغير الرسمية.

وعلى الرغم من أن عطوة في الخامسة والثلاثين من عمره إلا أنه لم يتزوج بعد... لكنه اقتنع أخيرا بموضوع الزواج عن طريق زوجة لأحد أصدقائه بعد جهد جهيد وبعد أن أحرجوه بقولهم بأنهم جميعا متزوجون وأنه الوحيد بينهم بلا زوجة فوافق في البداية على مضض لأنه كان يأنف من الزاج ويعتبره بلا معنى ولن يضيف إلى حياته جديدا سوى المشاكل والأعباء والقيود، وكان يردد دائما بأنه في وضعه الحالي يشعر بكامل الاطمئنان والسعادة ولا ينقصه شيء وإذا كان الزواج تلبية لنداء داخلي في قلب الإنسان وجسده وفطرته فإنه لا يكاد يسمع صوتا لهذا النداء فضلا عن أنه يرى أن الزواج محصور في اللقاء الجسدي بن الرجل والمرأة وهذا الموضوع في نظره له ألف حل وحل غير الزواج.

لكنه بع أن رأى «نبيلة» شعر بغير قليل من الارتباك واحتقن وجهه وأذناه كما شعر بقلبه يدق كانت قمحية اللون، ناعمة البشرة رائعة العينين ذات وجه مثير ونبرات صوتها آسرة، وعودها الممشوق يوحي بالفتنة والأنوثة والنضرة والعطاء.. لعق شاربه وشفتيه بلسانه ورجفت أهدابه وتمتم «إيه الجمال ده كله»....

قالت نبيلة وهي تضحك وأسنانها البيضاء تلمع خلف شفاه وردية ورأسها الفاحم يتطوح إلى الخلف فيبدو عنقها وأعلى صدرها نابضين بالحيوية والإثارة:

- «نحن لم نتعارف بعد»

- «الكتاب يعرف من عنوانه»

- «ياه.. إذن فأنت تحب القراءة مثلي..»

- «القراءة؟؟ أنا لم أقرأ إلا الكتب المقررة..»

- «ياه هذا غير معقول .. رجل في مركزك ووضعك الرسمي والاجتماعي ولا يقرأ؟؟ أنا لا أصدق..»

- اقرب منها نظرا إلى وجهها في رقة وقال:

- ليس لدي وقت للقراءة أنا أتعلم من الحياة...»

- القراءة هي الحياة... ولسوف نقرأ كثيرا في المستقبل...»

- كان غارقا في فتنة وجهها وجمال عينيها وحلاوة الكلمات التي تخرج من فمها ولم يتابع ما تقول وكان خياله يذهب إلى بعيد وتتلاقى في مخيلته صورة الجسد العاري والكؤوس المترعة، والضوء الخافت والمضاجع الحريرية، والمائدة المكتظة بأطايب الطعام وغمغم وهو يمسك بيدها:

- «سنظل نقرأ معا طول الحياة..»

- «هذا تقريبا ما قلته..»

- «هيا بنا .. اتفقنا»

الفصل الثاني

الشيء الذي يضايق «البكباشي عطوة» أشد الضيق وأعنف هو أن يرفض له طلب، الحياة العسكرية علمته أن يصدر الأمر فيجاب على الفور، والأمر عنده لا يحتاج إلى تكرار، حتى هو نفسه بالنسبة للرتب العالية في الجيش لم يتعود أن يعصي لهم أمرا لقد تمت خطبته لنبيلة وهو يعتقد أنه ربح بذلك معركة كبرى، أو كسب أروع صفقه له في لعب الورق الذي يدمنه لكن الشيء الذي آلمه هو أنها ترفض الاستجابة لعبثه لقد أراد أن يقتصها بسرعة جذبها إلى فنفرت منه حاول تقبيلها فتمنعت جرها إلى السير فانتزعت نفسها منه انتزاعا وهو يلهث صرخ فيها كوحش مفترس...

- «ما معنى ذلك...؟؟»

- «أتسألني أنا.؟؟ أسأل نفسك..»

- «خطيبتك نعم.. لكن لست زوجتك»

- «أنا أكره اللعب بالألفاظ.. أنت لي سواء هذا أم ذاك»

- «الفرق كبير بين الاثنين..»

هدد ككلبه الشرس:

- «أنا لا أطيق الاعتراض..»

- «لنتفاهم...»

- «لم نلتق لنتفاهم..إنك تهددين أجمل أوقاتنا بغبائك...»

- بدا على وجه نبيلة الامتعاض وفكرت في الخروج لكنها تمالكت أعصابها وقالت:

- «أتحب الموسيقى؟؟»

هتف في حدة:

- «لا موسيقى ..ولا زفت..»

- «أنت إنسان متحضر...»

- وابتسمت نبيلة، واتقربت منه محاولة ترضيه، لكنه دفع يدها في غضب وقال:

- «العلاقة بيننا ليست موسيقى .. ولا قراءة ولا كلام فارغ من هذا القبيل .. دعك من الأوهام .. أنا رجل عملي...»

- وبرغم ثورته فقد ضحكت وقالت:

- «نزار قباني عنده حق...»

- قال في سخرية:

- «ومن يكون نزار هذا.؟؟»

- «شاعر»

- دق الأرض بقدمه وقال:

- «موسيقى !! شعر !! كفى تخريفا...»

- نظرت نبيلة عبر النافذة المظلمة ثم هامت بنظراتها في أرجاء الغرفة وقالت:

- يقول نزار

ثوري على شرق التكايا والسبايا والبخور
ثوري على شعب يراك وليمة فوق السرير

قدم نحوها وطوقها بذراعه القوية وأنفاسه تتلاحق وقال:

- «لا أفهم شيئا مما تقولين.. ولا تنطقي بكلمة ثورة وإلا علقوك على (العروسة) أو شنقوك...»

- خلصت نفسها منه برفق عندما رأته يحاول تقبيلها وقالت:

- «أعوذ بالله.. وأنت؟؟؟ ألست من الثوار؟»

- «نعم هو ذلك..»

- قالت نبيلة في فخر:

- «وهذا هو الذي جعلني أحبك...»

- رفع هامته في استعلاء وقال:

- «ثورتنا ثورة رجال.. ولا نضيع أوقاتنا إلا فيما يفيد. .لكنك تفكرين وتتصرفين بعقلية رجعية بحتة..»

- ضحكت نبيلة وقالت:

- «هذا كلام يقال في الخطب للجماهير..»

- «ما معنى ذلك..؟؟»

- «معناه أنك لن تمسني إلا في ظل الشرعية .. يعني على سنة الله ورسوله..»

- وقف مبهوتا للحظات ثم هز رأسه في دهشة، وعاد إلى الخلف ليتناول علبة السجائر ثم أشعل واحدة ونفث دخانه في غيظ وقال:

- «لا أريد أن أسمع كلمة الشرع أو الشريعة أو السنة.. أنا أمقت هذه الكلمات...»

- فغرت فاها دهشة وقالت:

- «أعوذ بالله .. أنت مسلم..وأبوك عالم من علماء الدين .. فكيف تجرؤ على مثل هذا القول..؟؟»

- ذهب إلى مقعد وثير قريب، ثم صب كأسا شربها دفعة واحدة وتجشأ ثم قال:

- «هذه الكلمات أو الألفاظ لها مدلول واحد عندي.. العصيان أو الثورة المضادة ..وأمن الدولة فوق كل اعتبار..»

- ضحكت وأخت تضرب الأرض بقدمها وهمست:

- «أتحسبني من الإخوان المسلمين...»

- بان الغضب في عينه وقال في ضيق:

- «لنترك الحديث في السياسية...»

- «وهل يغضبك يا عطوة أن نؤجل ما نفكر فيه إلى أن نعقد القرآن..»

- هتف في ملل:

- «عقد القرآن مجرد ورقة لا تساوي شيئا..»

- «لكنه الباب الذي يدخل منه الشرفاء...هي التي تفرق بين وضع ووضع ... بين حلال وحرام..»

- صب كأسا ثانية، وهم بشربها لكنها أسرعت إليه وأمسكت بيده وحاولت منعه من الشرب فقال:

- «دعيني وشأني .. الحلال هو ما أريده»

- «لست إلها يا عطوة...»

- نظر إليها طويلا، ثم هز رأسه وقال:

- «يبدو أننا لن نتفق..»

- لم ترد عليه، تناولت حقيبة يدها ثم هرولت خارجة، وهي تقول:

- «لن أعود هنا مرة ثانية إلا بعد أن تقتنع بما أقول...»

- تركته وحده، سحق بقية السيجارة في المطفأة الزجاجية ذات اللون الأزرق، دار بنظراته المجنونة في أنحاء الغرفة ذات الستائر الحمراء وقع بصره على المقعد الذي كانت تجلس عليه، آه.. لقد نسيت كتباها .. قد نحو الكتاب وأخذ يتصفحه، إنه مكتوب بالفرنسية، اول أن يقرأ العنوان فلم يستطيع على الرغم من أنه درس اللغة الفرنسية في المدرسة الثانوية لأربع سنوات، رمي الكتاب على السجادة القاتمة اللون ذات الفراء الأحمر، ثم داسه بقدمه ثم بصق عليهن وتمتم قائلا:

- «لم يزل في هذا العالم كثير من الأغبياء .. نعم أغبياء لأنهم يعيشون بين صفحات الكتب أكثر مما يعيشون في الواقع... هؤلاء الأغنام الذين أسوقهم بالسياط في السجن الحربي، وأمزق في أجسادهم سبب نكبتهم الكبرى أنهم يقرءون ... نعم لقد كنت على حق حينما منعت عنهم الكتب نهائيا.. لكن هذه المجنونة كيف أمنعها من القراءة..؟؟ اللعنة عليها وعلى كلية الآداب التي تخرجت منها.. وعلى مهنة التدريس التي تعمل بها...»

- دق الجرس فدخل خادمه الصامت إنه ليست خادما بل مجرد جندي مراسلة دربه عطوة على سلوك معين يلتزم به «أنا لا أرى ولا أسمع» تلك هي الفلسفة التي التزم بها «عويس» الجندي القادم من أقصى الصعيد، والذي استطاع أن يكون هو الطباخ والغسال والخادم في بيت سيده.. صاح عطوة:

- «أنت يا حمار .. ناد السائق يجهز السيارة...»

- هز عويس رأسه في صمت ثم انصرف بالخطوة السريعة كما عوده قائده، وتوجه عطوة بسيارته إلى السجن الحربي الطريق يعص بالسيارات والمشاة والضجيج، كل شيء ينساب في حركة متداخلة متصادمة وكأن الأمر طبيعي نظر عطوة عبر زجاج النافذة إلى الشارع في ازدراء ولوى شفتيه من هؤلاء الذين يراهم؟؟؟ أنهم حثالة المجتمع ليس فيهم رجل واحد له ثقله هل يعرف هؤلاء البلهاء الذين يسيرون في الشوارع ضاحكين أو صاخبين أو صامتين من يكون «عطوة الملواني» عطوة الذي يركع تحت أقدامه أساتذة الجامعات وكبار الأثرياء، وقدامى الباشاوات والبكوات والوزراء في السجن الحربي وهم يتضرعون إليه طالبين العفو ذارفين دموع الندم؟؟ هل يعرفون من يكون عطوة بالنسبة للسلطات العليا خاصة وبالنسبة لأمن البلاد عامة؟ لو يعرفون من يكون حقيقة لاصطفوا على جانبي الشارع هادرين بالهتاف الصاخب، والتصفيق الحار، ولحنوا رؤوسهم إجلالا واحتراما، ولزغردت النسوة في الشرفات ولأطلق الأطفال والصبية الأناشيد الحماسية للترحيب به ولامتلأت الشوارع بالوافدين من القرى والأقاليم يحيون شخصه الفذ، ويغمغم عطوة في غيظ «ناس أوباش.. بهائم» وفجأة تعترض طريق سيارته فتاة تعبر الطريق لكنها تمرق كالغزال النافر، بينما يضغط السائق بقدميه فتبطئ السيارة في السير وتهتز هزة عنيفة، فيصرخ عطوة في السائق

- «دسها يا حمار..»

- «حرام يا بك..»

- «حرمت عيشتك أنت وأهلك...»

- ثم رفع عطوة يده وهوى بها على قفا الجندي السائق الذي لم ينطق ببنت شفه، واستمر في سيره وقد تبللت أهدابه بنذر دموع وتذكر عطوة نبيلة.. إن خيالها يحاصره أعنف من ذلك الحصار الذي شقي به في «الفالوجا» بأرض فلسطين أيام الحرب الأولى بين العرب واليهود إنه يفكر في مصدر القوة التي تمتلكها «نبيلة»...هي مجرد امرأة لا أكثر ولا أقل، وكم من النساء بعن أنفسهن بالمال، أو أغراهن المنصب والنفوذ أو حملن إليه حملا بالتهديد والوعيد عن طريق رجاله وجنوده، كن هذه الفتاة التي لم تتجاوز عامها الرابع والعشرين تبدو خلقا آخر إنه بشعر أمامها بالعجز والحيرة والغيظ أيضا لقد فكر أن يطردها ويركلها بقدمه لكن نفسه لم تطاوعه، وفكر أن يضربها لكنها من أسرة مثقفة وهم ذات مرة أن يصفعها لكن يده لم تتحرك كأنما أصيب بالشلل وحاول أن ينساها لكنها فرضت نفسها عليه فرضا بحيث لم يستطع الإفلات من سطوتها وسلطانها وهو الذي كان يعتقد في نفسه أنه أقوى الأقوياء، وجبار الجبابرة، فكيف استطاعت امرأة أن تسلبه إرادته، فتملئ عليه شروطها وتحقق ما تعزم عليه بمجرد كلمة أ, موقف عادي.. إنه لا يطيق هذه التصرفات منها لعنة الله على ذلك اليوم الذي عرفها فيه.. أترى تكون قد سحرت له؟؟ إنه لا يؤمن بالسحر ولا بالعفاريت لكن ما يراه من نبيلة يجعله يشك في كل معتقداته وأفكاره القديمة والكارثة أنها تتكلم عن الحلال والحرام، وعن الشرع وسنة الله في هذا العصر.. في إمكاني أيتها المجنونة أن ألصق بك تهمة بشعة، مجرد تقرير بسيط، يقول كاتبه إنك تقومين بنشاط معاد لأمن الدولة.. أو أنك على اتصال بجهات أجنبية.. أو إنك عميلة صهيونية أو أمريكية..

وسرعان ما يقذفون بك في زنزانة حقيرة سوداء لا ماء فيها ولا هواء ولا فراش وثير .. وتعيشين مع الوحدة والعذاب والخوف ولا يكاد يمضي وقت قصير حتى يذهب عقلك إلى الأبد.. ما أغباك..إنك لا تعرفين من أنا...

حسنا .... لسوف آخذك مرة إلى السجن الحربي لتري بنفسك وتعرفي من أنا.. أقسم أن آخذك إلى هناك.. مجرد نزهة بسيطة.. سترين من حولي الكلاب والجنود والمعتقلين والضباط.. وسترين العصا السحرية التي أشير بها فيتحول السجن كله إلى مجزرة هائلة .. أروع مجازر القرن العشرين وسترين المجاهدين في سبيل الله... أبطال الكفاح القدامى الذين أزعجوا التاج البريطاني قديما... وهم يجرون تعساء ممزقين تنزف منهم الدماء والدموع يجللهم الذل والشقاء ..عندئذ تعرفين من هو عطوة الملواني.. وما هي مكانتي بن البشر وفي التاريخ عندما يكتبون التاريخ الذي نصنعه بأيدينا...»

وما أن فتحت البوابة السوداء الكبيرة، المكتوب فوقها «المنطقة المركزية- السجون الحربية» ما إن فتحت حتى نفخ جندي في البوق، وصاح آخر بأعلى صوته:

«كل السجن ثابت»

حتى ران الصمت والجمود وتحولت ساحة السجن إلى متحف من الشمع ولم يعد يسمع غير هدير السيارة وهي تدلف صوب مقر قيادة السجن الحربي، ثم تتوق وينزل منها عطوة والشارات الحمراء والذهبية تحلى قبعته وسترته ويخرج وهو منحن ثم يرفع هامته إلى أعلى فيؤدي الضباط التحية في قوة ونشاط ويخطو عطوة بعد أن يجيبهم كنصف إله.. ويستقبله ضابط المباحث العامة بالتحية والضحكات الأخوية المألوفة . وكلمات النفاق والمرح السمح فيصافحهم ويجلس إلى مكتبه منتفخ الأوداج، ثم يشعل سيجارته ويصمت قليلا ويقول:

هية ..هل اعترف الولد الأزهري القادم من (منية البنذرة)

فيرد أحد الضباط الصغار.

- «أما زلت يا جناب الباشا متذكرا اسم بلده؟»

- «نعم ...واسمه محمود صقر»

- «ما شاء الله يا جناب الباشا.. ربنا يكملك دائما بعقلك المعجزة...»

- وعاد عطوة يسأل:

- «هل اعترف؟؟»

- «لا .. إن رأسة كالحجر...»

- « احضروه إلي .. لسوف أحطمها..»

- «أوامر جديدة بالانتهاء منه..»

قهقه عطوة قائلا:

- «أوامر؟؟ أوامر لي أنا؟؟ كل شيء متفق عليه.. احضروه فورا دون إبطاء..»

- فهرول الضابط ومعه بضعة جنود خارج المكتب...

الفصل الثالث

محمود صقر يرتمي على بلاط الزنزانة البارد بالسجن الحربي رقم أربعة كلما حاول أن يتحرك شعر بآلام رهيبة في كل أنحاء جسمه، السياط قد تركت كدمات زرقاء، وحمراء على وجهه وعلى راسه الحليق وعلى جلده في كل مكان وهناك بعض الجروح المتقيحة أيضا نتيجة لتوالي الضربات أحيان كثيرة في مكان واحد وبسبب نهش كلاب عطوة بك أو نتيجة للحرق السجائر المشتعلة وهو يشعر أن درجة حرارته مرتفعة وحلقه جاف لكم يتمنى أن يشرع جرعة ماء لكن الزنزانة خاوية تماما إنه يجلس عاريا ويرقد عاريا لأن جسده المتورم الملتهب لا يطيق لمس أي شيء إن عينه تغفو أحيانا قليلة.. يخيل إليه أنه هائم في صحراء موحشة محرقة تدهمه الذئاب من آن لأخر، ويرى السراب من بعيد فليعق فمه بلسانه .. الماء .. الرحمة .. لا مجيب...

لماذا هذا العذاب كله؟ المسألة كانت في رأي محمود بسيطة للغاية لم تكن تحتاج لهذا الرد العنيف المميت... كل ما في الأمر أنه يدعو إلى أسلوب في الحياة والحكم يعتقد يقينا أنه أسلوب يحقق العدالة والرخاء وكان يدعو إلى ذلك لإيمانه بأن الدعوة فرض.. ,خاصة ما يفعله أمر إلهي.. هكذا تعلم في الأزهر، ولما قرأ التاريخ وفكر وقارن وراجع ونظر حوله أيقن أن طريق الله هو الطريق وأن المنهج الإلهي أعدل وأكمل من منهج البشر وأن الخالق أدرى بما يحقق السعادة والخير للمخلوق وأي خروج على هذه العقيدة في رأي محمود زيغ وانحراف وتعاسة.. لا شيء في ذهن محمود غير ذلك لكنه، فوجئ ذات مساء بفيلق من الرجال يدهم بيته ومعهم السلاح العنف الصفاقة دفعوا أباه العالم والشيخ العجوز دفعا فسقط على الأرض وسط الظلام وهو يستعيذ بالله ونزعوا الحجاب عن وجه أمه وإخوته البنات وأزعجوا الصغار والكبار في بيت أبيه وقد قرب الفجر استيقظ الأطفال يصيحون وسالت دموع النسوة.. وتجمع رجال القرية الصغيرة ونسوتها حول المنزل ينظرون صامتين.. الرجل المسلحون ينهرون ويضربون ويقذفون أقذع الشتائم.. والرعب يحط بجنابه السوداوين فوق القرية الصغيرة لأول مرة في حياتهم يشهدون هذا المنظر في بيت من أشرف بيوت القرية وأعظمها تاريخا، وأفضلها برا وعطفا وحبا ... وتمتم رجل في الستين من عمره ذو لحية بيضاء «هذا زمن الشيطان.. نحن في آخر الزمان» أما والد محمود فقد رآهم وهم يجرون ولده المدرس حافي القدمين لا يلبس إلا جلباب النوم على اللحم وهز رأسه في حزن عميق وانحدرت دمعة تعسة من بين أهدابه المرتجفة وقال: «الهرج والمرج من علامات الساعة.. كان الله في عونك يا ولدي المسكين..» ومشي محمود معهم كالمبهور لماذا يفعلون كل ذلك؟ حاول أن يتفاهم معهم فلم يستجيب له أحد، سألهم عن السبب فلطمه ضابط على وجهه قائلا «اخرس يا كلب» وعندما سألهم محمود:

- «هل معكم أمر من النيابة بالقبض علي؟»

- رد الضابط ساخرا:

- «أية نيابة يا روح أمك؟»

- «هذا قانون يا حضرة الضابط..»

- «ملعون أبوك وأبو النيابة وأبو القانون»

- لأول مرة يسمع محمود مثل هذه الكلمات ودون تحفظ خرجت منه الكلمات

- «لسنا في غابة .. نحن في القرن العشرين..»

- صفعه الضابط مرة ثانية ثم جره من طوق جلبابه اليتيم، ودفعه داخل سيارة الشرطة وهو يقول:

- «اخرج منديلا واعصب به عينيك..»

- قال محمود في دهشة.

- «لماذا

- «هذه هي الأوامر .. لا تتفلسف..»

- «ليس معي منديل..»

- «اخلع سروالك..»

- «معقول.؟؟»

- وأسرع أحد الشرطة المخبرين وخرج من جيب جلبابه منديلا ملوثا وهو يقول:

- «معي منديل يا سعادة البيك»

- وعصبوا عينيه لم يعد يرى شيئا، العالم كله من حوله ظلام والصمت لا يقطعه إلا أزيز العربة، وصراخ النسوة في القرية يتناهى إلى سمعه ضعيفا واهنان وكذلك صوت الديكة والمؤذن وهو يلقي بعض التوشيحات تمهيدا لأذان الفجر.. .والمجهول كوحش خرافي بشع يفتح فمه الداكن ككهف سحيق مليء بالحيات والعقارب قلبه يحدثه بأن الأمر خطير، ولكنه لماذا هو خطير لهذه الدرجة؟

- «يا سعادة البك.. اعمل معروفا..أريد أن أعرف جريمتي...»

- «الاشتراك في جهاز سري مسلح لقلب نظام الحكم.. هل ارتحت؟؟»

- «التفت محمود صوب مصدر صوت الضابط وقال:

- «كذب ... من قال ذلك؟؟»

- «لا يحق لك أن تسأل نحن الذين سنسألك وسترى..»

- «كيف يكون سريا وأنا أدعو الناس إلى في الشوارع والمساجد والمدارس في إطار مبادئ تعلمها الحكومة ومع جماعة سمح لها القانون بممارسة نشاطها؟؟»

- نظر الضابط إلي الشاب المعصوب العينين وقال:

- «محاولة قتل الرئيس هل سمح بها القانون؟؟؟»

- «لا تسألني إلا عما يخصني .. أنا لم أفكر أو أدبر أو أحاول عملا كهذا»

- قال الضابط:

- «أتظن أننا كنا سننتظر حتى تفعل ذلك؟؟»

- ورد محمود وهو يضغط على أسنانه في ثقة ممتزجة بالضيق:

- «لن يستطيع أحد إدانتي...»

- قهقه الضابط في سخرية وقال:

- «لقد أدنت نفسك»

- «كيف ؟»

- «ألم تعترف منذ لحظات بأنك كنت تدعو الناس؟؟»

- «ليست هذه جريمة..»

- «أعرفكم.. دائما تجيدون الجدل والسفسطة والحكومة ليس لديها وقت لهذا الكلام الفارغ. أتدري إلى أين أنت ذاهب؟؟»

- قال محمود في لهفة:

- «لا..»

- «السجن الحربي يا حبيبي.. أتعرف معنى السجن الحربي؟»

- «لكني مدني ولست عسكريا حتى ترموا بي هناك...»

- «السلطة أدرى بما يصح ومالا يصح»

- «لكن البلد فيها قانون يا حضرة الضابط...»

- «حسنا.. سوف تخرج من رأسك كل هذه الخرافات عندما يتلقفك عطوة بك والباشجاويش ياسين.. هل سمعت عنهما؟؟»

ومرت الساعات كالحلم الرهيب عالم السجن كله مثل جهنم، لا شيء سوى السياط والشتائم المقذعة وإهدار الآدمية، وصراخ المتألمين، وضراعة المستغيثين.. «يا رب..» هي كلمة العزاء الوحيدة وإن كانت تضيع وسط الضجيج والصراخ وأسئلة المحققين المتلاحقة وإصرارهم على أن يعترف المتهم بما يريدونه لا بما حدث فعلا.. إن المحققين في هذا الوادي الرهيب يؤلفون المسرحية، ويضعون الحوار والسيناريو، ويحددون أدوار الشخصيات، ثم يختارون الممثلين ليعلب كل دوره المرسوم له، وينطق بالكلمات المرفوضة عليه وإن كانت لا تمت إلى الواقع أو الحقيقة بصلة، ووجد محمود نفسه على رأس مجموعة مسلحة هذا ما قالوه له.. إنه على استعداد أن يقبل هذه التهمة الملفقة حتى يريح نفسه من العذاب المضني، والسهر الطويل، والظمأ القاتل، والجوع القاسي وما أن بلغ هذا الحد من التفكير حتى شعر بقليل من الراحة المؤقتة إنه يريد وقتا كي يستريح قليلا من العناء ويفكر في هذه الكارثة التي حطت عليه دون انتظار .. وابتسم المحققون هم يستمعون إلى قوله:

«نعم أنا رئيس المجموعة...»

واقترب منه عطوة بك الملواني وقال في رفق مصطنع:

«إذا لماذا كان العناد الذي لا مبرر له؟؟ الم يكن من الأفضل أن تعترف منذ البداية وتوفر على نفسك هذا العذاب كله؟؟

تمتم محمود في يأس:

«آسف يا أفندم»

- «المشكلة الآن أن إخوانك لا يعترفون بأنك رئيسهم»

- «حسنا ... أحضروهم وسوف أقنعهم...»

- «هذا عين العقل...»

- وحضر الشباب الأربعة وأخبرهم محمود بأنه اعترف بأنه رئيسهم فنظروا إليه في استغراب ودهشة، قالوا له إن هذا مناف للحقيقة لكن محمود هز رأسه في ألم، وأخبرهم أنه يعرف جيدا ما هو بصدده، وأنهم يجب أن يستمعوا إلى كلامه... وانظروا إلى جسده الدامي العاري، وإلى وجهه الممزق المتورم، إلى حاملي السياط من حوله، وكذلك الكلاب الذكية التي تنتظر الأوامر، وعطوة بك بنظراته المتوعدة المهددة التي تشبه نظرات الكلاب المدربة إلى جواره، وامنوا على كلام محمود عندئذ تنهد عطوه بك ف ارتياح وجلس فوق مقعد قريب ثم أشعل سيجارة وهو يقول:

- «والآن... أين السلاح؟؟؟»

- كاد محمود أن يصعق أي سلاح يريدون، إنه لم يقتن قطعة سلاح في حياته، ولم يدخل السلاح بيته في القرية ولا أحد من أسرته، والشرطة فتشت البيت تفتيشا دقيقا مزقت الحشايا والوسائد وكسرت جرار المشي والجبن والسمن، وحطمت الخزائن والصناديق، وبعثرت الكتب والمراجع بما فيها كتب السيرة الحديث والمصاحف، وحفروا الأرض.. فلماذا إذن هذا السؤال الغريب؟؟

- وتمتم محمود في انزعاج:

- «أي سلاح؟؟»

- هب عطوه بك واقفا وهدر:

- «أنا أعرفك وأعرف ما يدور في ذهنك الآن..»

- «أقسم لك إني لا أعرف شيئا عن هذا الموضوع!!»

- «أفهمني .. كيف تكون يا محمود رئيسا لمجموعة مسلحة دون سلاح.؟؟

- طفرت الدموع من عيني محمود وقال»

- «أنا لم أعترف برئاستي لهم إلا استجابة لإرادتكم...»

- «تعني أننا نلفق التهم يا كلب؟؟»

- «يا سعادة البك ليس لدينا سلاح..»

- «أنا أعرف الوسيلة التي تجعلك تعترف..»

- وأشار برأسه وانهالت السياط على الجسد المهترئ الدامي.. وجروا أعضاء مجموعته بعيدًا عنه، وطال العذاب، ومحمود لا ينطق إلا بكلمتين اثنتين «آه.. يارب..» وشرطي طويل نحيف دائم السعال يصرخ فيه وهو يمزقه بالكرباج «انطق يا مولانا.. لا .. لا .. لا تتكلم ...لا أريد منك اعترافا .. إن مثلك لا يصح أن يعيش...» وعلى مقربة من محمود رأى شابا آخر تنهشه السياط والكلاب من كل جانب، والمحقق يقف إلى جواره ومعه القلم والورق، وأثناء الهجمة البربرية على الشاب المسكين يقول المحقق:

- «ولما قالوا لك إن حادثة المنشية صنعتها المخابرات العامة، ماذا كان ردك؟»

- «لم أقل شيئًا... دعهم يكفوا عن ضربي حتى استطيع أن أجيب..»

- «مستحيل .. فلتجيب وأنت على هذا الوضع..»

- «حرام يا بك»

- «حرمت عيشتك وعيشة أهلك يا حيوان .. هيه . وأنت هل ترى أن حادثة المنشية تمثيلية...؟؟»

- «أنا لا أعرف عنها شيئا..»

- «لن أتركك حتى تقول.. تمثيلية أم حقيقة..؟؟»

- «حقيقة يا سعادة البك.. ارحمني .. أنا خلصت .. أنا لست من الإخوان . أنا مظلوم...»

ولم يعد محمود يرى شيئا لقد أغمى عليه، ولا يدري أطال الوقت أم قصر، كل ما يعرفه أنه أفاق بعد أن القوا به في حوض ماء كبير وكانت فرصة نادرة انتهزها فشرب حتى ملأ معدته بالماء، ثم وجد الجنود وقد أحضر محقنا وغرزه في جسده وهو يقول:

«حقنة كافور منشطة حتى تصحو...»

ونظر محمود حواليه فوجد عطوه بك يرمقه بنظرات حانقة، وإلى جواره وقف ضابط طيب برتبة صاغ (رائد) واضعا يده في جيب سرواله، وفوق عينيه نظارة طبية بيضاء تعكس الأضواء على وجهه الأبيض البارد الذي لا ينم عن شيء ذل بال.. والمجزرة من حولهم قائمة على قدم وساق..

الصراخ .. والسياط .. والعويل.. ونظر محمود إلى السماء وقد تناثر في ظلمائها النجم وهتف بصوت مبحوح بالبكاء:

- «أين أنت؟؟»

- «وخيل إلى محمود أنه سمع صوتا نديا رقراقا يقول:

- «أنا معك..»

- وهتف محمود بأعلى صوته والدموع مازالت تخنقه:

- «خذني إليك .. فأنا لا أرهب الموت.. خذني منهم فأنت وحدك حبيبي .... يا رحمن يا رحيم.. إن الغيبوبة التي غشيتني كانت رحمة منك.. لماذا يا إلهي لا تجعلها غيبوبة دائمة؟؟ لم يعد في الحياة شيء يستحق الحياة..»

- وغمغم الطبيب:

- «إنه يهذي»

- قال عطوة بك:

- «سأجعله يفيق حالا»

- ثم أشار إلى حملة السياط، لكن الطبيب أشار بيده قائلا:

- «سيموت ولن تستفيدوا منه شيئا..»

- «إن حياته لا تساوي غزه.. عندي تصرحي بالتخلص من كل عنيد...»

- «لكن اعترافه يا عطوه بك أهم من حياته..»

- «وماذا ترى يا دكتور..»

- «خذوه إلى زنزانته اليوم واستكملوا التحقيق غدا..»

ومن ثم جروه إلى زنزانته الخاوية، حيث البلاط البارد والظلام والوحدة والهذيان والأحلام والذكريات، وحيث يتفرس المظلوم في أرجاء ذلك العالم الضيق باحثا عن قطرة حنان.. وفي نفس اليوم ذهب عطوه بك إلى خطيبته «نبيلة» وهو يمني نفسه بليلة حمرا شهية، فكان أن صدته ووضعت له الشروط التي اعتبرها قاسية ومنقصة لكبريائه وإرادته، وما إن ركب سيارته حتى أخذ يزمجر ويزفر في غيظ وهكذا دخل السجن الحربي، وكان أول شيء فكر فيه هو المعتقل محمود صقر.. إنه في رأيه عنيد .. وهو يكره العناد في كل صوره .. وأشكاله .. وعندما يحطم رأس محمود فسوف يشعر بشيء من الراحة لأنه قهر العناد في إحدى الجولات وبقيت الجولة الكبرى .. مع نبيلة.

الفصل الرابع

جلس عطوة بك في انتظار محمود، وصورة نبيلة تحم في مخيلته بكبريائها وثقتها وعباراتها المنمقة ليس فيها سوى عيب واحد يؤرقه هذا العيب هو أنها لا تطيع الأوامر لكن عذرها أنها جاهلة ولا تعرف قدره لا بأس سوف تعلم فيها بعد، وعاد جنديان يحملان محمودا حملا وألقيا بجسده بإهمال متعمد فوق الرمال، ونظر إليه عطوه بك مدققا وهتف بصوت أجش:

- «محمود»

وفتح محمود عينيه في تثاقل فانفرجت أهدابه عن نظرة تائهة سابحة في ملكوت الله، لم يعد يعنيه شيء، سيان عنده الموت والحياة لقد سلم أمره لله والجنود والضباط من حوله كأنهم صبية يلعبون أو سكارى يتطوحون في مسرح عجيب.. وتذكر مسرح العرائس.. خيل إليه أن هناك خيوطا رفيعة تتدلى من أعلى وملتصقة برأس عطوه وفمه وأطرافه وعينيه.. بل بدت السماء كلها خيوطا مدلاة..وهناك في مكان عال يد آثمة سوداء ملطخة بالدماء شيطانية فتتحرك الخيوط.. ويتحرك الممثلون .. أو العرائس المصنوعة.. فتنطلق أصوات وتصدر حركات .. وتنبح كلاب .. وابتسم محمود ابتسامة خفيفة.. وحاول أن يتكلم لكنه لم يستطع ..

وعاد عطوة يصيح:

- «محمود... تكلم..»

لم يستطيع هذه المرة أن يفتح فمه، بل أغلق عينيه، في الليلة الفائتة رأي أمه في المنام، كانت تطعمه بملعقة نظيفة في يدها الحلوة من طبق أبيض ملئ بالقشدة المخلوطة بعسل النحل. لقد شبع..«اقسم بالله العظيم أنني شبعت .. وحتى الآن لا أشعر بأدنى رغبة في الطعام .. نعم .. وجاءت حبيبة قلبي «أمل».. كانت تلبس زيها الشرعي المعروف... الأبيض .. لم أر منها غير وجهها وكفيها .. وجهها كالملائكة.. عيناها تمطران حبا وحنانا فيورق قلبي المجدب.. وضعت يدها الناعمة على رأس الحليق وابتسمت وهي تبكي .. شعرت بنبض الحياة تدب في كل خلية من خلايا جسدي. قلت لها «من الذي أدخلك هنا؟؟» قالت: «الحب» قلت: لها: «يا أمل لقد زارني النبي..» تطلق وجهها بشرًا واحتضنتني في لهفة وهتفت «ليتني كنت معك» وغبنا لحظات عن الوجود.. ثم استطرد: «قلت يا رسول الله.. نحن نعيش في زمن الشياطين.. قال لي: الشياطين في كل زمان ومكان .. قلت له: يا رسول الله لقد اختلطت السبل واضطربت الأفكار قال: لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا... كتاب الله وسنتي .. وأنت تعرف الطريق يا محمود.. » سمعت منه كلمة «محمود » فاقشعر بدني.. الرسول ينطق باسمي يا أمل.. الرسول يعرفني يا أمل .. لقد هانت كل جبابرة الأرض في عيني .. القنبلة الذرية أصبحت لعبة طفل..قلت له: «خذني معك يا حبيبي» ابتسم ابتسامة لم أر مثلها في الوجود وقال: «ليس الآن.» ورأيت على بن أبي طالب يقدم نحونا ويقول: «آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشية الطريق!!» وفهمت يا أمل وابتسمت .. كنت أسعد إنسان في الكون .. ثم ذهب الرسول . وبقيت وحدي وبرغم حزني لفراقه إلا أنني كنت سعيدا.. سعادة من نوع عجيب» قالت لي أمل: «ليتني كنت معك.. » قلت لها أنت معي دائما يا حبيبتي...»

صرخ عطوة بك مرة ثانية، وهو يركل محمودا بحذائه:

- «تكلم يا محمود.. أنا أعرف هذه الحركات.. رأيت أمثالك كثيرين..»

- لقد قطع على محمود أحلامه الرائعة، ودمر عالمه الجميل وفتح محمود عينيه مرة أخرى إنه يعود ليرى مسرح العرائس والخيوط والدمى التي تتحرك واليد السوداء الملطخة بالدماء.. ورأي هذه المرة الطبيب ذا النظارات البيضاء.. الكارثة أن الطيب هو الآخر قد توجته مجموعة من خيوط العرائس، ومع ذلك قال الطبيب:

- «قلت لك يا عطوة بك لابد من نقله إلى المستشفى..»

- «هؤلاء يا دكتور بسبع أرواح مثل القطط»

- «إنه يأكل ولم يشرب منذ يومين يا عطوة بك.. وهذه الجروح المتقيحة قد تسبب له تسمما دمويا.. ولن تستفيدوا من موته شيئا .. لست أدرى لماذا العجلة؟؟ في بحر أسبوع سوف تتحسن حالته إن عاش ثم يعود للتحقيق وقد تحكم معنويا وجسديا ومن ثم يسلس قياده .. أفهمني يا عطوة بك.. ما كل شيء يؤخذ بالقوة...»

نفر عطوة بك وهو يقول:

- «خذوه إلى الزفت... المستشفى.. في ستين داهية..»

- عاد عطة إلى الساحة الحمراء حيث المجزرة البشرية ولمح شابا طويلا أسمر اللون، سوداني الجنسية فاقترب منه عطوة وقال:

- «أأنت رزق إبراهيم؟؟»

- «أنا أعرف أباك.. كان عليك اللعنة من كبار ضباط الشرطة وكان سمجا قليل الأدب.. عبد زربون...»

- قال رزق في أدب:

- «اذكروا محاسن موتاكم يا أفندم.. كان أبي من دعاة الوحدة بين مصر والسودان، وكرمته مصر، ودفن في مقابر الشهداء..»

- اقترب منه عطوة وهو يكز على أسنانه، ثم صفعه على قفاه وهو يهدر في حنق:

- «أتعلمني الأدب يا حقير؟؟» اضربوه خمسين كرباجًا..»

- وفي ثوان انهالت السياط على «رزق إبراهيم» من كل مكان ودون عدد ثم رفع عطوة يده بعد برهة وقال:

- «كفى..»

- ثم التفت إلى ضابط المباحث المحقق وقال له:

- «هل اعترف هذا الكلب..»

- «نعم يا أفندم...»

- اندفع رزق قائلا وعيناه مبللتان بالدموع:

- «كل ما في الأمر أنهم طلبوا مني ربع جنيه لأسرة سجن عائلها فأعطيتهم المبلغ كصدقة..»

- «ولماذا لا تعطي الإعانة إلا لأسر «الإخوان» المسجونين»

- «وأنا أتصدق على كل من يستحق إن تسير لي ذلك»

- «ولكنك كنت عضوا في الجماعة..»

- «نعم...»

- قهقه عطوة وقال للمحقق:

- «ضموه إلى قائمة الجهاز السري المسلح..»

- «طبعا يا أفندم...»

- «صاح رزق إبراهيم:

- «هذا ظلم..»

- اقترب منه عطوة ثانية وقال:

- «سيان كنت في الجهاز السري أم لم تكن .. المهم أنك من الإخوان المسلمين..»

- «وهل الانضمام للإخوان جريمة؟؟»

- «ألم تعرف بعد..؟؟»

- «لقد كان بعض كبار رجال الثورة أعضاء معنا...»

- «نظر إليه عطوة في اشمئزاز واحتقار:

- «معكم أنتم؟؟ لقد هزلت..»

- «بعضهم حارب معنا في القنال.. وفلسطين.. والرئيس نفسه وقف على قبر الإمام حسن البنا في يوم ذكراه وأشاد بكفاحه العظيم ..واثني على الجماعة..»

- دقق عطوة النظر إليه وقال:

- «أفهم من ذلك: أنك كنت من فدائي القنال وفلسطين...»

- «يشرفني ذلك.. لقد أديت واجبي..»

- وهتف عطوة في ابتهاج:

- «حلو.. هذا اعتراف آخر.. سجل في الأوراق عندكم .. أن ماضية أسود مثل وجهه تمامًا.. إنه يستحق الشنق..»

- وأردف المحقق قائلا لعطوة بك:

- «ولا تنس يا عطوة بك التقارير الأخيرة التي وردت الينا وتؤكد أن السودان يريد أن ينفصل عن مصر، وينشئ جمهورية مستقلة...»

- وصاح رزق إبراهيم:

- «أنتم السبب..»

- «هكذا؟؟ أم أنكم تضايقتم من طرد محمد نجيب رئيس الجمهورية لأن أمه سودانية.. خمسون كرباجًا أخرى يا ابن الكلب...»

- وانهالت السياط مرة أخرى على جسد رزق إبراهيم العاري النحيل.. وتركه عطوة وراءه، وانصرف يتجول بين المتهمين والمجزرة قائمة على قدم وساق، ولاحظ وهو يتجول شابا يصيح ويطلب الرحمة، وواضح من لغة الشاب ولهجته أنه ليس مصريا هو الآخر، فاقترب منه وقال:

- «ما اسمك يا حبيبي؟»

- «عبد الحميد النجار يا فندم..»

- «من أي داهية.؟؟»

- «من فلسطين..»

- «وأنت أيضا من الإخوان؟. ألا تكفي مصيبتكم؟؟»

- «لقد شاركتهم الجهاد في فلسطين.. وكنا نهرب لكم السلاح والمؤن والطعام وأنتم محاصرون في الفالوجا .. واستشهد عدد منا بسببكم..»

- احتقن وجه عطوة، تذكر الأيام السوداء التي عاشها في الحصار، وتذكر ليالي الجوع والأرق والخوف، في تلك الفترة سخط على كل شيء سخط على المبادئ والشعارات والقيادات وحقد على كل الناس الذين يستمتعون بالحياة خارج نطاق الحصار، في أي بلد من العالم، لقد حرم في تلك الأيام من الكأس والمرأة والسلطة وعاش كذئب أجرب يلعق العظام، ويلتقط الفتات يومها قرر –إن نجا- أن يعيش لنفسه... لنفسه فقط، وليذهب كل شيء إلى الجحيم.. المبادئ.. التاريخ.. العروبة..

- الإسلام.. لقد خلق الإنسان- حسبما يعتقد عطوة- ليستمتع بملذات الحياة ويحقق ذاته.. وليفعل أي شيء حتى ينال ما يريد.. لقد علمته الفالوجا أن التضحية هراء، والبطولة كذب، والأخوة خداع، والنصر لا يستفيد هو منه شخصيا شيئًا.. فليكن عبدا لمن يحقق له أطماعه، حتى وإن قتل وإن سرق وإن غدر، وهل ينسى عطوة يوم أن حاول اغتصاب فتاة بدوية هناك أيام الحرب فسجنه قائده وجلده ذلك القائد الأحمق الذي أخذ يحدثه عن الخلق والفضيلة ومخافة الله، وعن هتك العرض باعتباره جريمة لا تغفر .يا لها من أيام سوداء!!

- والتفت عطوة بعد أن أفاق من هواجسه:

- «كنت فدائيا إذن يا سي عبد الحميد؟...»

- «نعم يا أفندم...»

- «هذا أكبر دليل على إدانتك..»

- «أكان من اللائق أن أترك بلدي لتنهشها الذئاب؟؟ وكيف أكون مسلما إذن؟»

- «تستطيع أن تكافح من أجل بلدك كيفما شئت، أما أن تنضم للإخوان المسلمين فهذا شيء آخر..»

- «كيف يا أفندم؟»

- «أنا أعرف جيدا يا عبد الحميد أن دعوتكم فوق الوطنية وفوق كل شيء ولذا أعتقد أن الهدف لم يكن تحرير فلسطين وإنما تدريب كواد مقاتلة لتغزو بها البلدان العربية، وتخضعوها لحكم الإخوان فيما بعد...»

- صمت عبد الحميد برهة وقال:

- «نحن نحارب في سبيل الله، ولم يكن في ذهننا هذا التكتيك...»

- «أتعرف كلمة تكتيك أيضا؟؟»

- ثم ألتفت إلى المحقق قائلا:

- «ألم أقل لك إنه ضالع في الفتنة ومن أرباب السوابق..»

- رد المحقق.

- «تمام أفندم»

- قال عبد الحميد مرتبكا:

- «الأمر كله لا يعدو عن كونه مجرد الدعوة إلى حياة أفضل وأوفر عدلا..»

- قهقه عطوة بك وقال:

- «أتريد عدلا أكثر من ذلك؟؟ اضربوه خمسين كرباجا..»

- هتف عبد الحميد والسياط تهوى على جسده:

- «ما ذنبي يا عالم؟؟»

- فأعطاه عطوة ظهره وواصل جولته في ساحة السجن الحربي، والباشجاويش ينبح بأعلى صوته الأجش موزعا السباب هنا وهناك والجاويش أمين يسرسع بصوته الممطوط وهو يدور بسوطه الطويل دورة كاملة في الهواء ثم يهوى به على أحد الأجسام العارية.. وعبد المقصود وعبد الجواد وبيرم وغيرهم من جنود السجن يصولون ويجلون، ولابد أن يثبتوا جدارتهم وإخلاصهم لعطوة بك، كيف لا وهو يعطيهم «علاوة إجرام» ومكافآت من آن لآخر؟؟؟

- ووقف عطوة أمام سجين يتلوى وهو مربوط في «العروسة» الخشبية التي يصلبون عليها المتهمين ومال عليه قائلا:

- «أحب أن أتعرف على (البك)..»

- يا فندم أنا مظلوم !! أناه في جاه رسول الله..»

- «والسلاح يا ابن القديمة؟؟ أعرفك .. من الجيزة..»

- «السلاح كان أمانة وسلمته لأصحابه...»

- «من أصحابه.؟.»

- «سوف أجعلك تنطق..» ومد عطوة يده بالسيجارة المشتغلة كما هي عادته ووضعها أسفل عينه اليسرى وهو يقول:

- «خسارة فيك لم أشرب إلا نصفها..»

- «سأتكلم..»

- «قل يا بهيم..»

- «السلاح كان يخص الرئيس...»

- «يا وقعة أمك سودا.. لا تذكر هذا الاسم الشريف على لسانك القذر..»

- «تلك هي الحقيقة.. أعطوه لي .. وضعته في مخزن ثم سلمته عند طلبه من فترة طويلة..»

- « لقد أبقيت عندك بعضا منه..»

- «أبدأ .. أسألوه..»

- «نسأل من؟؟»

- «الرئيس..»

- «ثاني مرة ... طيب..»

- ثم ألتفت إلى الجنود:

- «خمسين كرباجا وإذا لم يصبح مهذبا في كلامه أعيدوا الكرة..»

- وانصرف عطوة متجها إلى مكتبه بينما انطلق صوت الميكرفون يردد أغنية يا جمال يا مثال الوطنية...» فصاح عطوة بأعلى صوته:

- «كل السجن يعني مع أم كلثوم..»

- وجرى حاملوا السياط هنا وهناك بين جموع المتهمين يلهبون ظهورهم بالسياط ويحثونهم على تردد الأغنية الشهيرة، وامتزجت الآهات بالدموع وبالغناء وبعد دقائق أغلق الميكروفون وصاح عطوة مرة ثانية.

- «استمروا في الغناء يا حيوانات..»

- وانطلق صوت السجناء مرددا الأغنية الوطنية، كان غناؤهم كالعويل أو الندب، وكانت صورة الرئيس وهو يبتسم ويلوح بيده في شموخ تطل على الجميع من فوق الحيطان .. وقال عطوة وهو يقهقه:

- «تعلموا الفن يا بهايم..»

الفصل الخامس

عاد «عطوة» إلى مسكنه الفاخر، على الرغم من وجود الزهور فهو لا يكاد يشم لها أريجا حتى الديكور البديع الذي يضفي جمالا على الصالة والغرف لا يكاد يحس له بمعنى أهم شيء لديه البار وغرفة الطعام وحجرة النوم هناك لوحات قيمة معلقة لفنانين موهوبين، غير أنه لم يفكر مرة في أن يدقق البصر فيها، ويستجلي ما وراءها من إيحاءات ومعان، لعل نظره لا يقع إلا على صورة الرئيس الضخمة وصورته أيضا أسفلها قد حرص عل وضع صورته تحت صورة الرئيس هكذا تعلم في حياته العسكرية وهناك صورة صغيرة في إطار بذهبي اللون موضوعة على لمكتب الخاوي إنها لنبيلة إ،ه يشعر بفارغ قاتل الآن، ترى أيعود مرة أخرى إلى السجن الحربي؟؟ هناك لا يشعر بهذا الفراغ وقته دائما مليء بكثير من «العمل» والمناقشات، وهناك يشارك في صنع الأحداث، وفي تقرير مصير البشر، ويحيي ويميت، سلطته تكاد أن تكون بلا حدود في إطار الأوامر العليا وهي ينسى يوم أن وقف في ساحة الحربي، وطلب من الهضيبي مرشد عام الإخوان أن يقف «كالمايسترو» ويقود جموع المحبوسين وهم يرددون بنشيد مثال الوطنية»..

نعم لقد رفض الرجل في البداية لكن عطوة هدده بالانتقام من ابتاعه وفعلا انهال عليهم ضربا بالسياط حتى استجاب الرجل مضطرا أن يمثل دور المايسترو لينقذ أحبابه من العذاب، هذا المرشد العام الذي كان يحرك الملايين بكلمة أصبح عطوة اليوم يحركه بسوطه.. نعم القوة هي القول الفاصل في كل شيء، ويا ويل من يغرقون – ويغرقون غيرهم- في الجدال والحوار الأجوف، إن رصاصة واحده تحسم الأمر وتعيد الهدوء والاستقرار أصحاب الرأي في هذه الدنيا هم البلاء.. كل هذه الأفكار آمن بها عطوة واستخلصها من تجاربه الخاصة، قال له أبوه العالم الفاضل ذات يوم عندما ضرب أحد الفلاحين وأحدث به كدمات وجروحا:

- «اتق الله يا ولدي.. ألا تخاف يوم الحساب..؟؟»

- يومها كان عطوة لم يزل شابا وفي السنة الأولى بالكلية الحربية، وكان ينظر إلى أسلوب أبيه في الحياة نظرة كلها استهزاء وسخرية وصفاقة، في بذلك اليوم رد عطوة على أبيه قائلا:

- «ألم تعلم أنه مر على وهو راكب حماره؟؟»

- «وماذا في ذلك يا ولدي؟؟»

- «المفوض أن ينزل احتراما لي.. ألا يعرف من أنا..؟؟»

- «أنت عبد من عبيد الله يا عطوة.. وهو كذلك..»

- رد عطوة في غضب:

- «أنا لست عبدا لأحد..»

- «استغفر الله أيها الأحمق وإلا أحرقك بناره..»

- زمجر عطوة غاضبا وهو يولي وجهه شطر باب البيت:

- «إن التساهل مع هؤلاء الفلاحين خطأ كبير.. إنهم لا يسمعون ولا يطيعون إلا بالعصا والكرباج»

- صاح أبوه ولحيته البيضاء ترتجف:

- «أخرج عليك اللعنة..»

- تذكر عطوة الأيام الخوالي، كان يسمع دائما من أبيه بل ومن أخيه طالب الطب، ومن بعض الناس أيضا، أن الحب هو أفضل وسيلة للحصول على رضا الناس واكتساب مودتهم، ولكنه كان يرى في ذلك بلاهة وسذاجة، لأنه بالمال يستطيع أن يشتري كل شيء وبالقوة يمكن إخضاع كل شيء.. أصبح المال والقوة في نظره الهين يعبدان من دون اله لقد عاش فترة طويلة وهو يتلقى العلم بعيدا عن أهله وذويه، وأطلق لنفسه العنان، كجواد جامح، والتقى بمجموعة من الأصدقاء المتحللين ودخل البارات وأماكن اللهو، وعرف الكأس وكثيرات من النسوة المنحرفات لقد تردد قليلا في البداية ولكنه خطا إلى داخل ذلك العالم المليء بالصخب والألوان المتعة والانطلاق وسرعان ما غاص فيه حتى الأعماق كان يحتاج المال أحيانا فيقترض أو يسرق وكان يشعر بالظمأ إلى الكأس والمرأة فيشرب حتى الكحول الرخيص ويعاشر أحط البغايا وكان يجوع فيفترس سندوتشات الفول والطعمية أو يدهم بيوت أصدقائه ليأكل عندهم في نهم، لم يكن عيبا أن يقترض من بواب عماره، أو فراش في المدرسة، أو جرسون في بار، لم يكن أبوه في الواقع يضن عليه بالمال لكنه يعطيه في حدود المعقول وفي حرب فلسطين عام 1948 دخل تجربة جديدة، كان العنف والدماء وموت الرفاق وليالي الخوف والأرق والجوع وحكايات عن الأسلحة الفاسد والترف الخرافي للطبقة العليا التي تحكم وتحرك مقاليد السياسة والاقتصاد والفكر والفن، وترمي بالألوف على موائد القمار، لم يكن آنذاك يفكر في إصلاح الحال أو رسم خريطة لحياة جديدة يسعد فيها التعساء كان فقط يريد أن يكون مثل هؤلاء الكبار سلطة ورفاهية وثراء وسمع عن بعض أفكار ثورية تبشر بالتغير والنجاح فأسرع إليهم لم يكن له فكر ذو قيمة ولم يعرف عنه إبداع أو ذكاء ميزته الأولى الطاعة العمياء واحترام الرؤساء والأقدام على العنف والقسوة إقداما يلفت النظر، قال له أحد أصدقائه ذات مساء:

- «أخاف عليك يا عطوة أن تقع في شر أعمالك..»

- قهقه ساخراً:

- «عطوة لا يقع إلا واقفا..»

- وعندما قامت الثورة، وأصبح له مكان بارز فيها، استطاعوا بفراستهم أن يوظفوه في الدور اللائق به وأتاحوا له الفرصة كي يدرس مع عمالقة رجال «النازية الألمانية» القدامى، ومترفي التعذيب والاضطهاد من العالم الشيوعي وزبانية المخابرات العالميين، لقد أقبل على تفهم مناهجهم وفكرهم في نهم عجيب وقال ذات مرة لأحد كبار المسئولين:

- «في الواقع أنا لم أستفد كثيرا من هؤلاء الخبراء.. لقد أكدوا لي دائما أنني بطبيعتي أعرف الكثير مما يقولون لقد آمنت من قديم أن أي نجاح سياسي لا يثبت ولا يستقر إلا في ظل فلسفة التخويف والإرهاب والقضاء على البعض حتى يعتبر الآخرون ويستسلمون ولن تخسر البلد شيئا إذا قتلنا خمسة في المليون هذه نسبة لا تذكر...» - وعطوة يعتقد اليوم أكثر من أي وقت مضى أنه كان دائما على حق، وجرع كأسا مترعة وهو يقول: «ألا يكفي فخرا أن قد أصبح لي تلامذة في كل مكان.. لا في مصر وحدها.. بل في كثير من البلدان العربية..؟؟»

- «لكن نبيلة لم تأتي لقد تأخرت أكثر مما يجب ووعدت بأنها ستخضر وأنا أكره من يخلف لي موعدا ويا ويل من يخدعني لئنني أمحوه من فوق ظهر الأرض محوا..هيه .. يوم الحساب.!! سامحك الله يا أبي .. معذور لأنك قضيت سنوات عمرك بين دفات الكتب تبحث عن الأحاديث الصحيحة والضعيفة، وتقارن بين التفاسير، وتدعو الناس إلى البر والرحمة، وتفتي في مشاكل الطلاق والزواج والنفقة ونواقض الوضوء والزكاة، لهذا لم تستطع أن تصنع لنفسك مكان مرموقا في الأرض وعشت معلق البصر بالسماء.. لم تعرف القيمة طول حياتك .. وتزعم أن بين جنبيك من اللذة ما لو علمها الملوك لقاتلوك عليها بالسيوف.. مسكين يا أبي!! أية لذة تلك!! وتتكلم عن يوم الحساب.. دائما تفكر فيما وراء الغيب .. لم تعش حياتك كما يجب.. لقد سجنت نفسك في سجن من صنع يدك.. وتردد دائما «أن الدنيا سجن المؤمن» .. وأنا أكره أن أكون سجينا ..ها.. ها...ها..إذ الإخوان المسلمون عندي في السجن الحربي هم في وضعهم الطبيعي الذي أرادته السماء لهم.. هم مؤمنون كما يقولون والدنيا سجن المؤمن كما يقول.. فليبقوا في السجن تنفيذا لمشيئة الله..»

- دق جرس التليفون.. انزعج عطوة.. سرعان ما استعاد هدوءه، وعجب لنفسه كيف يخاف من دقات التليفون.. إن قلبه هو الآخر يدق بسرعة مش متمهلا نحو التليفون تناول السماعة بغير قليل من الهدوء المصطنع.

- «ألو.. هذا غير معقول يا نبيلة..»

- «أنا لست صغيرا حتى تدعيني انتظر على أحر من الجمر..»

- «لن أحضر إليك..»

- «مستحيل. ما هو السبب؟؟»

- «أخاف أن تفترسني...»

- ضحك عطوة عاليا، وانتشت روحه لهذه الصفة التي تسبغها عليه وقال في شيء من الرضا:

- «تعرفين أني أحبك..»

- «حسنا.. سأنتظرك في أي مكان عام...»

- «لا يمكن...»

- «ولم ؟؟؟»

- «تعرفين أني رجل مهم، ولا أستطيع أن أظهر في مكان عام إلا تحت ظروف وشروط معينة..»

- «إذن أولا من المسئولين... ثم حراسة مشددة.. ثم التواجد ي مكان خاص آمن.. وغير ذلك كثير»

- «أتخاف ياعطوة...؟؟»

- «أنا لا أخاف ولكنها إجراءات أمن، لابد منها لحماية كبار الشخصيات..»

- بدا الضيق في صوت «نبيلة» وهو تقول:

- وركوب الجمال والخيال، أو التسلي في حديقة الحيوانات.. أريد أن آكل معك «الصميت بالدقة» والترمس والفول السوداني.. ونجلس على شاطئ النيل.. أو في كازينو الحمام..»

- قاطعها في غضب قائلا:

- «لم كل هذا؟؟ هذه تصرفات الطبقات السفلى .. لسنا سوقة يا نبيلة أنا رجل لي مركزي.. ألا تتركين هذه الخرافات.. يجب أن تصعدي معي إلى حيث أنا.. افهميني يا حبيبتي...»

- «أنا لا أفهم شيئا مما تقول.. كلماتك تكاد تخنقني.. إذن فلا مسرح .. ولا سينما .. ولا فسح.. ما معنى ذلك؟؟»

- قال وهو يهدئ من ثورته:

- «سوف تكون لنا علاقاتنا الاجتماعية الخاصة لا شك في ذلك، سنتزاور مع كبار الأسر.. ستكون لنا عروض سينمائية خاصة، ستغني لنا المطريات في حفلات مقصورة علينا.. وستكون لنا استراحات رائعة.. إنك تتعجلين الأمور»

- قالت نبيلة في أسف:

- «ولكنني أحب الناس العاديين الاختلاط بهم...»

- «إنهم سفلة... لا يتركون امرأة تسير في الطريق إلا وطاردوها بعبارات الغزل السمج..»

- «أتغار منهم يا عطوة؟؟ والنبي دمهم خفيف...»

- «يا باي .. أنا لا أطيقهم...»

- «وابتلع ريقه لحظات ثم قال:

- «ألا تأتين؟؟.»

- «لا أستطيع اليوم...»

- الرفض يؤلمه، حتى لو كان بطريقة مهذبة، أو بنبرة اعتذار وخضوع وعصيان، أوامره جريمة، إنه يكاد ينفجر، ولهذا صرخ بأعلى صوته في التليفون:

- «بالأمر لابد أن تحضري»

- وحملت إلى أذنه سماعة التليفون ضحكاتها اللاهية البريئة وسمعها تقول:

- «أتظن أن نبيلة عسكري مراسلة..؟؟»

- «أنا لا أمزح..»

- «وأنا متظلمة..»

- «قلت لا أمزح..»

- ضحكت وغلقت التليفون وهي تقول:

- «عن أذنك .. أبي قادم..»

- نظر إلى السماعة في غيظ وهتف «ألو.. ألو.. نبيلة..» ولما لم يرد عليه أحد قذف بها فوق التليفون في إهمال وغضب ثم التفت خلفه فوجد عويس واقفا لا يتكلم صرخ فيه عطوة:

- «واقف مثل التيس أعوذ بالله ما الذي أتى بك.؟؟»

- لم ينطق ويس إلا بكلمة واحدة:

- «الغذاء...»

- «غر من هنا يا بهيم.. أنت صنم؟؟»

- وتحرك عويس في وقار وهدوء لم يغضب أو يثر، لقد رأى الكثيرين من أمثال عطوة بك، كان يخدم في قصور الأمراء والحاشية الملكية وبعض الوزراء لم يتغير شيء، المسكن شبيه بمساكن الحكام السابقين، والتصرفات لا تختلف عن تصرفاتهم ... بل ألعن ونماذج الشخصيات التي يراها تدخل وتخرج وتشرب وتأكل وتتحدث.. كلهم من نفس الدولة القديمة... اليوم مثل الأمس والغد يبدو أنه لن يختلف عنهما إن لم تزدد الحالة سوءاً وسفالة وقلة أدب، وتمتم عويس:

- «لا يعرفون الله...»

الفصل السادس

عطوة بك يواجه اليوم مشكلة من أشق وأصعب ما واجه في حياته كلها، المشاكل السياسية لا تعد شيئا بالنسبة لها، وأيام الحرب بما فيها من حصار وقتل وجوع وخوف أمر هين إذا ما قورنت بهذه المشكلة حتى أولئك الرجال الذين يواجههم في السجن الحربي، وما يبدونه من عناد وإيمان وتضحية يمكنه التغلب عليهم بالسياط أو الإبادة، أما المشكلة العويصة اليوم فهي «نبيلة» لأنها لم تستسلم له، ولأنها تريده أن يفكر من جديد والكارثة أنها تحاول جاهدة أن تغير من مفاهيم وأفكاره التي آمن بها، واستقرت في عقله منذ سنوات طويلة وأصبحت من المسلمات التي لا تناقش، الغريب أنها عزلاء من أية قوة، فليس لديها المال الكثير ،ولا المنصب الضخم مجرد مدرسة – ولا الأسرة العريقة، لقد أيقن من زمن بعيد أن «القوة» تحل المشكلة مهما تعقدت، هي لا تملك غير الجمال الآسر، والروح المسيطرة فكيف يقهر هذا الجمال بقوته؟؟

وأخذ يعمل فكره ويدبر . إنه لا يطيق الصبر ولا يعرف الكياسة أن التخطيط الرزين الهادئ البطيء ويحب الحسم والسرعة ويتعجل قطف الثمرة... وضحك.. كان وحده وهو يضحك .. رآه عويس عبر الباب المفتوح.. وسمعه وهو يضحك.. نظر عويس في دهشة هذا المخبول المشوش الذهن لماذا يضحك .. هرول عطوة إلى الخارج اصطدم بعويس الذي كاد سقط على الأرض ذهب «عطوة» إلى أحد أصدقائه «المخلصين» في المخابرات..اختلى به بضع لحظات.. ثم قدم له ورقة بعد أن كتب فيها سطورا قليلة وضحك عطوة كما ضحك صديقه. وتصافحا ف ود بعد أن تعانقا وقال له صديقه وهو يودعه:

- «مع السلامة يا نمس.. دائما أقول عنك الرجل الذي لا يقهر..»

- كانت نبيلة في مدرستها تلقى على الطالبات درسا في التاريخ عن التيار كانت تشرح الدرس كقصة حلوة مسلية وتصف للنبات طبائع التتار وتصرفاتهم الغريبة، وكيف اكتسحوا بقواتهم بغداد والبلدان المتاخمة لها، وكيف رموا بالكتب العظيمة –التراث الإسلامي الرائع- في النهر وعبروا على أجسادها إلى الشاطئ الغربي ثم أفاضت نبيلة في شرح النضال الرائع الذي أبداه شعب مصر والشعوب العربية تحت لواء المبادئ الإسلامية..

- كان البنات يستمعن وكأن على رؤوسهن الطير، وفجأة جاءت ناظرة المدرسة ودقت الباب بيد مرتعشة وهمست والدموع تبلل أهدابها:

- «معذرة . تعالي يا نتبيلة.. أنهم يريدونك...»

- كانت تريد أن تكمل الدرس وكانت الطالبات متشبثات بسماع بقية القصة المثيرة، وما أشد حبهن للقصص والروايات لكن الناظرة حسمت الأمر فتبعتها نبيلة وهي في غاية الدهشة، ولما ألحت في الاستفسار من الناظرة قالت الأخيرة وعيناها تشيان بالخوف الشديد:

- «مخابرات .. ربنا يستر»

- هتف نبيلة:

- «مخابرات ؟؟ لماذا؟.»

- «لا أدري..»

- كان الرجل في غرفة الناظر منتفخ الأوداج وعيناه مصوبتان نحو نبيلة التي قدمت تلفها الدهشة ثم قام وصافحها في برود قائلا:

- «نريدك خمس دقائق . لا وقت عندي»

- قالت نبيلة .

- «من أنت؟؟»

- «من رجال الأمن...»

- ثم وضع يده في جيب سترته وأخرج بطاقة صغيرة ثم قدمها إليها قائلا:

- «حتى تطمئني..»

- لم تستطع أن تقرأ شيئا فقد كانت نظراتها زائغة تائهة، كما أن الرجل لم يمهلها طويلا لقد اضطربت لم تفهم شيئا ما معنى ذلك؟؟ إن المفاجأة ألجمتها عن الكلام.. استجمعت قواها المشتتة وهتفت وهي تكاد تبكي:

- «هل استطيع أن أعرف السبب؟؟»

- «لا مجال للكلام هنا لن يستغرق المقابلة أكثر من خمس دقائق..»

- وأشار إليها في أدب مصطنع بارد يقول فاردا ذراعيه:

- «تفضلي السيارة بالخارج..»

- تعثرت وكادت تنكفي لكن الله سلم سارت وراء ه وهي لا تكاد ترى شيئا أنها لا تكاد تصدق أهي في حلم أم حقيقة؟؟ الكلمات لا تسعفها كي تعبر عما يعتمل في داخلها عادت إلى ذهنها فجأة صورة الفتيات .. البراعم الندية.. وهي تروي لهن عن ملحمة التتار كان في أعينهن الشوق والحب والأمل .. لكن معركة التتار لم تكن قد انتهت بعد حينما أتتها الناظرة .. الاستدعاء العاجل أضاع بهجة اللقاء ولكن لماذا تفكر في ذلك الآن.. ؟؟ نظرت أمامها رجل الأمن يوسع خطاه.. نظرت إلى الأمام ..هناك سيارة سوداء خصوصي وليس مكتوب عليها شيء سوى الأرقام ورجلان ضخمان يقفان إلى جوار السيارة من الخلف..عندما بلغا السيارة أشار الرجل قائلا:

- «اركبي...»

- «إلى أين؟؟»

- لم يرد ضابط الأمن لكن أحد الرجلين الواقفين فتح الباب الأيسر الخلفي ودخل منه بينما أمسك الثاني بذراعها ودفعها إلى الداخل وفي لحظات وجدت نفسها بين رجلين لا تعرفهما في المقعد الخلفي، وفي المقعد الأمامي جلس السائق إلى جواره رجل الأمن وانطلقت السيارة فصرخت نبيلة:

- «هذه عملية خطف.. أنتم عصابة.. أوقفوا السيارة يا مجرمين سوف أصيح وأجمع عليكم الناس..»

- لم يعلق أحد بكلمة، صرخت وهمت بالوقوف، لكن الرجلين جذباها بعنف وأجلساها ونظراتهما تتقد شرارا، وأصدر ضابط الأمن أوامره بإغلاق نوافذ السيارة والانطلاق بأقصى سرعة ممكنة.. كادت تجن .. ندمت على أنها استسلمت... أخذت تقاوم وتصرخ وتضرب الرجلين بيديها نظر إليها ضابط الأمن في غضب ثم أخرج من جيبه قيدا حديديا، ورماه إلى رجل في الخلف أمسكا بها ووضعا القيد في يديها ثم التفت الضابط ثانية وغمز بإحدى عينيه ورنت صفعة قوية على وجهها فأصيبت بالذهول لأول مرة تتلقى مثل هذه الصفعة انهمرت دموعها في ذل. فجأة تذكرته .. نعم تذكرت «عطوة» صمتت برهة ثم قالت:

- «ستدفعون الثمن غاليا أنم لا تعرفون من أنا.. أنا خطيبة «عطوة بك الملواني» قائد السجن الحربي..»

- قهقه ضابط الأمن قائلا:

- «لن تخدعنا هذه الادعاءات عطوة لا يخطب واحدة من أعداء النظام..»

- «ماذا تقصد؟؟»

- «ستعرفين كل شيء في حينه وعندما يعرف «عطوة بك» نشاطك المعادي، سوف يتبرأ منك، وسيهوى بسوطه الشهير على جسدك البض....»

- صرخت في غضب:

- «ما هذا الافتراء؟؟»

- «أعرف النساء ثرثارات دائما خير لك أن تصمتي سوف تحاسبين على كل قول تلفظت به.. إن معنا مسجلا يسجل كل شيء وكلامك ينطبق على ما لدينا من تحريات ومعلومات...»

- تلفتت حولها، نظرت على الرجال الصامتين كالأصنام الحجرية . ثم ضحكت في هستيرية:

- « أيمكن أن ارتكب جريمة دون أن أشعر.. مثل الذين يسيرون وهم نيام في الأفلام الساقطة الني نراها في أيامنا هذه؟؟»

- لم يعلق أحد تذكرت أمها وأباها وأخواتها ...تذكرت البيت الوادع الهادئ والمكتبة الصغيرة.. والاسطوانات والشرائط واللوحات الفنية الجميلة التي انتخبتها حسب ذوقها.. وقصائد الشعر التي تحفظها والبراعم الصغيرة في مدرسة البنات وزميلاتها وهن يتناقشن في الفن والتاريخ والذكريات .. والحياة بكل مناحيها .. تصورت أن انقطاعها عن ذلك العالم البهيج هو الموت بعينه وإلا ماذا يعني الموت؟؟ إنه الفراق الأبدي لمعاني الحياة الحلوة بما فيها من شخصيات وأفكار وفنون وجمادات وحيوانات وزروع وسماء.. وشمس وماء.. إن ما تراه الآن هو الجحيم بعينه تذكرت طائرها الأخضر البديع في قفصه الأنيق، تمنت الآن أن تمتد يد لتفتح القفص وتترك الحرية للطائر السجين يبدو أنها ارتكبت جريمة شنعاء بحبسها ذلك الطائر في القف وغمغمت: آه يا صديقي الطائر الحزين، أنني أبكي من أجلك..»

- همس الرجل الذي يجلس على يمينها حينما رأى دموعها تنحدر:

- «لا تخافي.. العناد وعدم الاعتراف هما اللذان يسببان لك المتاعب.. وإذا تكلمت عن كل شيء بصراحة فسوف يهون الأمر كثيرا..»

- قالت في دهشة:

- اعترف؟؟ ماذا تعنون؟؟

- صرخ الضابط الجالس في المقدمة:

- ممنوع الكلام يا بيومي يا حيوان.

- رد الرجل الجالس علي يسارها:

- لم أتكلم يا سعادة البك..

- كلكم حيوانات .. أقصد سي زفت متولي..»

- رد متولي وهو يؤدي التحية جالسا.

- أمرك يا فندم ..

- نعم انكتم يا لوح..

- حاضر يا فندم..»

- حينما بلغت السيارة المقر الرئيس عبرت الباب الواسع إلى الفناء ثم دارت نصف دورة حتى بلغت بابا جانبيا صغيرا في البناء الشامخ الكبير وفي لحظات انزلها ثم أدخلوها ووجدت نفسها بعد وقت قصير في غرفة بها رجلان أحدهما يجلس خلف مكتب فخم مغطى بغطاء ثمين أخضر وفوق رأسه صورة بالألوان لزعيم العرب «جمال عبد الناصر» وعلى اليسار لوحة سوداء كتبت بماء الذهب «العدل أساس الملك» .. أين رأت مثل هذه اللافتة من قبل.. نعم في المحاكم ... لا .. لا لقد رأتها أيضا في قصر الملك السابق فاروق قصر عابدين في قاعة العرش.. قال الرجل ذو الحيثية الجالس خلف مكتبه:

- «يا نور النبي ما هذا الجمال؟؟ خسارة .. هذه الحلاوة كلها وتورطين نفسك في أمور خطيرة..»

- هرولت نبيلة نحوه وهتفت في ضراعة والدموع في عينيها:

- «اعمل معروفا أريد أن أعرف ماذا فعلت..»

- هز رأسه باسما وأشار بيده وهو يكتب كلمات على ورقة بيضاء وقال:

- «لا تتعجلي. بهوادة.. بهوادة.. نحن لا نظلم أحدا...»

- قالت نبيلة في فرح:

- «هذا ما كنت اعتقده.. إن الثورة الرحيمة لا يمكن أن تظلم المخلصين من أبناء الشعب..»

- رفع الرجل رأسه عن الأوراق وقال:

- «بالطبع»

- شعرت بغير قليل من الارتياح لكنها سمعت الرجل الكبير يقول:

- «غير أن البعض يستغل سماحة الثورة ويلعب بالنار وللأسف النار لن تحرق الثورة.. ولكنها ستحرق يد من يلعبون بها.. بل وتحرق أجسامهم وبيوتهم وكل من يمت لهم بصلة..»

- قالت في ثقة:

- «الجميع يعرفونني.. في البيت والمدرسة والشارع والحي . المجتمع كله يعرفني..»

- سدد إليها نظرات ثابتة واثقة وقال:

- «نحن نعرف أكثر..»

- ثم رمي بالورقة لأحد الرجال الواقفين وهو يقول:

- «خمسة وعشرون..»

- فتلقف الرجل الورقة وضم قدميه كعلامة سبعة بعد أن دق الأرض بقدمه في قوة ثم أدى التحية وسرعان ما جر «نبيلة» وذهب إلى غرفة صغيرة أسفل المبنى ثم دفعها إلى الداخل وأغلق الباب نظرت حولها فلم تجد شيئا كيف تجلس؟ كيف تنام؟؟ لا يمكن أن يكون ما جرى الآن حقيقة.. أنها تحلم .. حلم لا شك . وسرعان ما تستيقظ منه...

الفصل السابع

استعادت نبيلة قدرا من هدوئها وثقتها بالله وبنفسها جلست تفكر بإمعان وروية فيما حدث لها إنها لم تنجرف يوما في تيار السياسة كانت تعتقد أن العاملين في حقل السياسة مزايدون أو مخدوعون، القلة مخلصون، ولهذا لم تلق بالا إلى الحركات الحزبية التي تشتعل في جامعة القاهرة ، سمعت من إحدى زميلاتها في الكلية أن الاشتراكية هي الحل والأوحد لمشاكل الحياة والمجتمع والقضية الوطنية والفلسطينية والصراع عموما مع الاستعمار وأظهر لها بعض النشرات السرية التي فقرأتها في حياد ثم ردتها إليها دون أن تقتنع بما فيها عموما وقالت لها إحدى الزميلات المحجبات إن الإسلام وحده هو السبيل إلى الخالص والحرية وإلى عالم يسوده العدل والمحبة والإخاء هو السبيل إلى الخلاص والحرية وإلى عالم يسوده العدل والمحبة والإخاء، وإن القوانين والدساتير التي وضعها البشر لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتفوق على الشريعة الإلهية التي أنزلها خالق الكون والناس وضربت لها الفتاة المحجبة العديد من التجارب الرائعة التي سجلها التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، وأفاضت في شرح العنت والقهر والكبت الذي يعاني منه الناس وراء الستار الحديدي حيث تبسط الشيوعية سلطانها ومع أن «نبيلة» كادت تقتنع بهذا المنطلق إلا أنها آثرت أن تنصرف عن السياسة ومشاكلها وأن تركز على تنمية حصيلتها الثقافية والفنية والعلمية وأن تخدم وطنها من خلال إخلاصها في عملها كمدرسة تربي الجيل الجديد على الخلق والفضيلة وحب الوطن وسمعت الكثير أيضا عن مبادئ حزب الوفد والسعديين والدستوريين والكتلة وحزب مصر الفتاة أو الحزب الاشتراكي لكنها انصرفت عن ذلك كله ونأت بنفسها عن الصراعات المحتدمة بين شباب الجامعات، ولم يكن معنى ذلك أنها لم تكن تتكلم أو تعلق على الأحداث الجارية وخاصة بعد أن قامت الثورة وان رأيها ينبعث دائما من معتقداتها الخاصة دون ارتباط برأي حزب من الأحزاب القديمة كانت تقول ما تعتقد أنه حق.. ومع كل ذلك التحوط والبعد عن الصراعات إلا أنها وجدت نفسها اليوم في مأزق لم يكن يخطر لها على بال إن اعتقالها لا يمكن أن يكون بلا سبب ترى ماذا فعلت حتى يسوقوها بهذه الطريقة المهينة إلى تلك الغرفة المظلمة الرطبة في مبنى المخابرات العامة؟؟ كانت تسمع في القديم أن الحكومة لها عيون فيكل مكان وأن الإنسان قد يقبض عليه ويقدم للمحاكمة ويرمى في السجن بسبب مزحة أو نكتة تتعرض للرئيس أو للجهاز الحاكم وكانت تسمع أن مجموعة من الناس قد اتهموا بتدبير مؤامرة لمجرد أنهم تناقشوا في السياسة في جلسة عائلية بريئة وتعرض بعضهم للثورة بالنقد الحر النزيه، وتناقل الناس فيما يبنهم قصصا كثيرة عن الاضطهاد والتعذيب بل والقتل أو فصل المواطنين من وظائفهم أو تسريح بعض الضباط من الجيش، أو طرد بعض الوزراء من مناصبهم بسبب نقد عابر، أو نصح سديد لا يروق لأصحاب السلطة لكن نبيلة والحق يقال كانت تكذب هذه الشائعات وترفضها بشدة وتعتقد أن هذا الكلام الذي يدور على ألسنة الناس ما هو إلا تنفيس عن الحق المكبوت وعن غيظ رجال العهد البائد والمستغلين الذين تعرضوا للقرارات الثورية لصودرت أملاكهم أو عزلوا عن مراكز التأثير والسلطة وقرأت الكثير عن الحملة الإعلامية المسعورة التي شنتها الحكومة ضد جماعة الإخوان المسلمين لكنها كانت في حيرة هل تصدق كل ما يكتب أو يقال؟؟ إنها تريد أن تسمع كلام الطرفين حتى تحكم الحكم السلم لا يمكن أن تحكم في قضية وقد سمعت طرفا واحدا هو الحكومة والذي جعلها تشكك في كل ما يقال عن الإخوان إنها رأتهم في الجامعة وهم يدربون كتائب الفدائيين لحرب الإنجليز في القنال وتأكدت من بطولاتهم الرائعة في حرب فلسطين، وخاصة أنها كانت تتبع المحاكمات الشهيرة في قضية «الأوكار وسيارة الجيب» وقرأت شهادات كبار ضباط الجيش عنهم في فلسطين ورأت كيف تحول الشباب بتأثير مبادئهم إلى السلوك الطيب والأخلاق الفاضلة، وأخيرا سمعت بعض ضباط الثورة أنفسهم يعلنون على الملأ فضل «الإخوان» عليهن بل واعترف بعضهم بانضمامهم إلى الجماعة وتعاونهم معها فكيف تتهمهم الحكومة اليوم بالخيانة العمالة والفساد والانحراف؟؟ مع كل ذلك فقد وضعت نبيلة هذه القضية المحيرة على «الرف» والتزمت موقف الحياة أملا في أن يأتي اليوم الذي تظهر فيه الحقائق..

هذا هو فكر «نبيلة» السياسي هو في الواقع «لا فكر» على الإطلاق إنها مجرد متفرجة تتعلق عيناها بالمسرح لترى وتسمع ولا شيء غير ذلك فما السبب في اعتقالها إذن؟؟ هل قالت نكته؟؟ هل علقت بكلمة تسيء أثناء حديثها مع بعض الأقارب أو الصديقات؟؟ أنها لا تذكر مطلقا أنها أخطأت أو قالت شيئا يعرضها لتلك المعاملة السيئة ودمعت عيناها حينما تذكرت الصفعة التي هوى بها المخبر على وجهها. كانت تعتبر وجهها منطقة مقدسة حرام .. لا يصح أن يستبيحها أحد، لكن رجلا تافها حقيرا استباح وجهها وصفعها عليه صفعة قوية لو كان بيدها الأمر لقطعت يده ليس هناك قانون في الأرض ولا في السماء يسمح بذلك، وتذكرت نبيلة تلك القصة التي كانت تحكيها للطالبات عن عدل عمر بن الخطاب، حينا علم أن «جبلة بن الأيهم» أحد أشراف العرب قد صفع أعرابيا فقيرا على وجهه فأصدر عمر حكمه بأن يقتص الأعرابي من جبلة.. لكن جبلة فر إلى أرض الروم تاركا وراءه الأهل والمال والدين والعار أيضا..

يا إلهي!! كم من الصفعات تكال للبشر اليوم على أرضنا؟؟ إذا كنت قد صفعت بلا جريمة أعرفها فما بال التعساء المساكين الذين اتهموا بمحاولة اغتيال الرئيس وبقلب نظام الحكم بالقوة؟؟ لا شك أنهم يقتلون أو يعذبون كما يشيع الناس...»

لم تهتدي نبيلة إلى سبب معروف تغزو إليه ما يجري لها الآن.. إن قلبها ينبض بقوة ورأسها يكاد ينفجر لقد بكت كثيرا وفكرت كثيرا دون طائل وشعرت بالظمأ الشديد بحثت حولها فلم تجد ماء دقت على باب الزنزانة في عنف فلم يستجيب أحد عادت تدق الباب وهي تصرخ فلم يسعفها أحد ارتمت خائرة القوى على بلاط الغرفة القاتمة التي تبدو أمام عينيها كالقبر الموحش المخيف..

انتقلت إلى الركن الشرقي داخل الزنزانة وجلست على الأرض ومدت ساقيها وأسندت رأسها إلى الخلف طال الانتظار القتل وأغمضت عينيها ونامت على الرغم منها هي لا تدري كم من الوقت نامت يبدو أن النوم نعمة كبرى في بعض الأحيان كانت تلك الفترة نوعا من الهروب المريح من آلام الواقع ومرارته لقد قالت لنفسها قبل أن تنام «ليتني أموت» يبدو أن النوم هو الموتة الصغيرة كما يقولون واستيقظت نبيلة من نومها مذعورة على صياح وضجيج وسمعت مفتاح الباب وهو يدور بعنف محدثا صوتا مميزًا..وما إن فتح الباب حتى وجدت امرأة ممزقة الثياب وجها ملئ بالكدمات والجروح حافية القدمين تحاول أن تخفي ثدييها وراء ثوبها الممزق كما لاحظت خدوشا واحمرارا في صدرها وعينيها ويديها وقدميها.. ودفعها المخبر في فظاظة وغلظة فارتمت واهنة القوى على البلاط دارت بنظراتها صوت نبيلة قاست الغرفة الضيقة بعينيها المحتقنتين ثم أجهشت بالبكاء .. هبت نبيلة واقفة وخطت نحها ثم ضمتها إلى صدرها في حنان وحب فازدادت السجينة بكاء وهي تقول: «منهم لله.. ربنا ينتقم . ربنا أقوى منهم .. سلمت أمري إليك يا رب..» وبكت نبيلة هي الأخرى وامتزجت الدموع وبعد دقائق أخرجت نبيلة منديلا صغيرا أبيض، وأخذت تجفف الجراح النازفة لزميلتها التي لا تعرف عنها شيئا . نظرت إلهيا في امتنان بادلتها نبيلة نظرة كلها عطف وحب وتقدير تمتمت نبيلة:

«من أنت؟؟»

- «سلوى أحمد عبد الكريم الصافي »

- «وماذا جرى يا أختي؟..»

- «مثلما يجرى لعشرات الألوف المضطهدين كل يوم..»

- ثم أجهشت سلوى بالبكاء وهي تقول:

- «تصوري. حاولوا هتك عرضي. في أي قانون؟؟ في أي شريعة هذا؟»

- « غمغمت نبيلة:

- «هذا لا يصدق»

- «ألا تعرفينهم؟؟»

- «لم أكن أعرفهم .. لحساب من يجري ها ..هنا.. فوق ثرى هذا البلد.»

- هتفت سلوى في غضب

- «لحساب الشيطان..»

- عادت نبيلة تنظر إلى وجه سلوى وجراحها وثيابها الممزقة وقالت:

- «يبدو أنهم ضربوك كثيرا..»

- «كل ما فعلوه أهون من هتك العرض . حتى الموت أهون...»

- استغفرت نبيلة الله وقالت:

- «لكن لم كل هذا ؟؟»

- «شيء غريب حقا.. تصوري أن كل ذنبي هو أن لي زوجا يدرس الدكتوراه في الهندسة النووية في ألمانيا.. هم يريدون القبض عليه، وأرغموني كي أكتب له الخطاب تلو الخطاب كي يحضر.. وكانوا يتسلمون الرد، هددوه باعتقالي. بل بقتلي إذا لم يسلم نفسه.. لم يكن له جريمة سوى انتمائه لجماعة الإخوان.. رفض زوجي أن يعود لأنه يعرف كل ما يجري هنا...

- الصحافة في أوروبا وأمريكا تكتب التفاصيل الكاملة التي ترتكب في حق الأبرياء والشرفاء هل يقدم زوجي نفسه للموت.. مستحيل .. ولما يئسوا منه اعتقلوني .. انتزعوا ولدي الصغير مني .. عمره ثلاث سنوات.. قذفوا به إلى الشقة المجاورة لشقتنا .. أنا لا أعرف مصيره الآن..

- يا حبيبي يا بني ... يا ترى كيف أنت الآن يا صابر..»

- واجهشت سلوى بالبكاء، أخذت نبيلة تربت على رأسها وظهرها في حنان ودموعها تنسكب في صمت على خديها ...وبعد لحظات التفتت إليها سلوى قائلة:

- «وأنت من تكونين؟؟»

- «نبيلة عبد الله.. مدرسة مواد اجتماعية..»

- «ولماذا قبضوا عليك؟؟»

- «والله لا أعلم .. صدقيني يا أختي...»

- «أتكونين من الأخوات المسلمات ؟؟ لا أظن..»

- «ولماذا لا تظنين ذلك؟؟»

- «معذرة . فإن للأخوات زيهن الخاص.. مثل هذه الطرحة. والثياب الطويلة.. والأكمام الضافية...»

- ابتسمت نبيلة قائلة:

- «الحمد لله . إذن فسأكون بريئة من هذه التهمة..»

- «إذن ألك اتصال بأحزاب شيوعية...»

- «انتفضت نبيلة في غضب وقالت:

- «أعوذ بالله، أنني أكره أسلوبهم ومعتقداتهم التي يخلطون فيها بين المتناقضات..»

- «هذا شيء محير .. »

- وساد بينهما صمت عميق، ثم نظرت سلوى إليها في شك وهمست

- «حذار أن تكوني مجندة من قبل المخابرات الاستدراجي...»

- قالت نبيلة في عتاب:

- «أتظنين ذلك؟؟ لقد بكي قلبي من أجلك..»

- «احتضنتها سلوى وقبلتها وهي تقول:

- «آسفة... نحن في عالم يشك فيه الأب في ابنه. عالم من ذئاب.. لقد انطمس وجه الحقيقة والجمال.. كل شيء قبيح قبيح قبيح.. لم يبق إلا الأمل في الله...»

- تنهدت نبيلة في حسرة وقالت:

- «لم أنضم لحزب من الأحزاب .. ولست ضد أمن الدولة.. ولم أكن جاسوسة.. نحن نجهل الكثير حتى عن أنفسنا...»

- وسمعا ضجة في الخارج، كان الليل قد أقبل ودار المفتاح في ثقب الباب، وانجلى عن وجوه شرسه متبلدة توحي بالمقت والخوف، إنهم أبشع من زبانية جهنم وقال أحدهم في برود:

- «نبيلة عبد الله...»

- هبت واقفة وقالت وقلبها يدق:

- «نعم...»

- صاح صوت أجش:

- «قولي: نعم يا أفندم.. تعلمي النظام وإلا..»

- «نعم يا أفندم»

- «تحقيق...»

- «ماذا؟؟»

- «قلنا تحقيق .. تفضلي...»

- نظرت إلى سلوى تحاملت سلوى على نفسها وأمسكت بيد نبيلة تشد عليها، ثم قبلت رأسها وهي تقول:

- «الله معك..»

- ضحك رجل من الرجال الواقفين ضحكة شيطانية وقال:

- «يبدو أنكما على صلة قديمة..عظيم..»

- قالت سلوى:

- «أبدا والله...»

- صاح الرجل:

- «هيا.. لا تضيعي وقتتا .. كلكن بنات الشيطان..»

- وسارت خلفه، كانت تتعثر في خطاها، تذكرت سلوى والجراح والكدمات ومحاولة هتك العرض، وشعرت لأول مرة في حياتها أنها أقرب ما تكون لله وأنها تحبه ويحبها لن يتخلى عنها، وناجت ربها في ضراعة:

- «علمك بحالي، يغني عن سؤالي... رحمتك يا إلهي...»

الفضل الثامن

وقفت في غرفة التحقيق حائرة، تنظر إلى هذا فلا يكترث لها، ثم تنتقل إلى آخر فلا يعيرها التفاتا، وتحاول أن تسعل أو تتنحنح كي تشد انتباه الثالث فيهملها والناس يدخلون ويخرجون في صمت أو بعد تبادل كلمات مقتضبة كصوت خفيض أنها تشعر بالهوان، كما تشعر بالقلق، كان جمالها يدير الرؤوس وكانت ثقافتها الواسعة تفرض الاحترام لها في أي مجتمع تأتي إليه، ولهذا كان اعتزازها بشخصيتها ورأيها دون صلف أو غرور، ومن ثم أحبت الناس وأحبوها أما هنا فلا قيمة للإنسان الإنسان الذي كرمه الله وأسجد له الملائكة وقال عنه ربه «ولقد كرمنا بني آدم..» يبدو أن العالم قد مسخ دون أن تدري هي والبديهيات التي مارستها وتعلمتها تنطفئ اليوم وتتوارى ويحل محلها قيم جديدة.. ألا ما أتعسها من قيم!!

شعرت بالغيظ، ونفذ صبرها، هذا الموقف المزري لابد أن ينتهي بأي طريقة وبأي ثمن، خطت في ثبات إلى الأمام، وقصدت الرجل الجالس في الوسط، يبدو أنه أكبرهم سلطة،وانحنت برأسها أمامه حينما كان منكبا على أوراق أمامه وقالت:

«معذرة.. أنا هنا منذ الصباح .. ماذا تريدون مني.؟؟»

رفع إليها عينين ساخرتين وقال:

- «فيم العجلة؟؟»

- «إنني إنسانة أحس وأتألم..»

- ابتسم وعاد ينظر إلى أوراقه وهمت أن تقول شيئا، لكن يدا امتدت إليها من الخلف وجرتها إلى حيث تقف في البداية وعندما التفتت وجدت شابا نحيلا يرتدي قميصا أبيض وسروالا ضيقا وقال:

- «تعلمي النظام..»

- «أي نظام، ترموننا كالكلاب دون طعام أو شراب أو حتى مجرد السؤال...»

- قال في ابتسامة سخيفة سمجة:

- «الريجيم يفيدك كثيرًا..»

- رفع الرجل الجالس في الوسط رأسه، وقال:

- «نبيلة عبد الله..»

- «أفندم..»

- «لدينا تقارير تفيد بأنك توجهين نقدا عنيفا للنظام، وتزعمين بأنه لا حرية حقيقة في البلد وأن لك صلاة مريبة بجمعية الإخوان المسلمين وأنك..»

- «كذب..»

- سدد إليها نظرات حادة وقال:

- «لدينا وقائع وشهود أيضا..»

- «فلتواجهني بهم..»

- «لم أنته من كلامي بعد يا آنسة.. ثم إننا كفيلون بأن نجعلك تعترفين بنفسك دون شهود واعتقد أنك رأيت سلوى الصافي التي كانت معك في الزنزانة.. لقد سمعنا كل أحاديثكم من خلا الميكروفونات السرية الموجودة إلى جواركم.. وواضح أنك كنت متعاطفة معها تمامًا.. وهذا أكبر دليل على نواياك...»

- قالت في حدة:

- «في أي عصر نحن؟؟ أنني لم أرها قبل ذلك»

- «نحن في القرن العشرين.. والتصنت على المكالمات التليفونية وأحاديث الناس يحدث في أمريكان نفسها بلد الحرية.. إننا نعرف عنك كل شيء أنت مثقفة فلنختصر الطريق قولي لنا كل ما تعرفين»

- دقت الأرض بقدميها وقالت:

- «أنا لا أعرف شيئا على الإطلاق في هذه الأمور..»

- تنهد المحقق في صبر نافذ وقال:

- «سؤال: لمن تقرئين..؟؟»

- « أقرأ أي كتاب يقع في يدي. اقرأ للعقاد والحكيم وطه حسين وشوقي وحافظ ونزار قباني وسارتر وستوفسكي»

- هز المحقق رأسه في سخرية وقال:

- «من دستوفسكي هذا؟؟»

- «كانت روسي»

- «مصيبة جديدة.. تقرئين لكتاب ما قبل الثورة.. وتقرئين للشيوعيين..»

- «دستوفسكي جاء قبل الثورة الروسية...»

- «وتعرفين تاريخه أيضا..؟؟»

- «نعم هذا لا يعتبر جريمة إنه روائي عظيم.. وحكم عليه بالإعدام ولكن القيصر عفا عنه وهو واقف على عتبة المشنقة...»

- ضحك طويلا ثم قال:

- «ربنا يرزقك بقيصر ينقذك من المصيبة التي وقعت فيها...»

- «نظرت إليه في دهشة لكنه عاجلها بقوله:

- «ما هي هواياتك؟؟»

- «هواياتي؟؟ أهي مقابلة إذاعية أم ريبورتاج صحفي؟ أنا لست نجمة من نجوم الفن..»

- «أجيبي على سؤالي»

- «أحب الأدب والموسيقى والرياضة..»

- «ألا تقرئين كتبا في السياسة..»

- «قليلا..»

- «لأنك سلبية... ألا تسمعين خطب الرئيس؟؟»

- «أحيانا..»

- «ما رأيك فيها...»

- « كنت أصفق له دون رياء..»

- «لا يهمنا التصفيق المهم ما يعتمل في قلبك..»

- «أن لا أصفق إلا إذا اقتنع عقلي ورضي قلبي...»

- «ولكنك كنت تنقدين بعض التصرفات في المرافق العامة والوزارات وبعض الكبار..»

- « قالت نبيلة:

- «لو حدث ذلك فإنه لا غبار عليه، لأنه من صميم حقي كمواطنة شريفة، يهمها أن تتطور

- الأمور إلى أحسن دائما..»

- ابتسم الرجل في خبث وقال:

- «كنت واثقا أنك ستكونين عاقلة وتعترفين... وقد اعترفت»

- فغرت فاها في دهشة وقالت:

- «اعترفت بماذا؟؟ أنا لم ارتكب جريمة..»

- هب واقفا من خلف مكتبه ثم دار حولها واقترب منها وهو يقول في ثورة:

- «هناك خيط رفيع بين النقد والتآمر..»

- «لا أفهم»

- «سوف أفهمك.. إنك تعبئين الرأي العام ضد الحكومة وتزعمين أنه مجرد رأي أو نقد .. وتعبئة الرأي العام تعني التحريض والتحريض يدفع إلى التمرد .. إلى الثورة .. إلى اضطراب حبل الأمن في البلاد.. عندئذ تحترق البلاد وينتشر الدمار وتسو الفتن ويجدها الاستعمار فرصة ذهبية، وكذلك الصهيونية فينقضون على بلادنا الحبية هل فهمت الآن يا حضرة المثقفة الجميلة يا من تربين الأجيال وتعلمينهم الأخلاق»

- صرخت نبيلة باكية:

- «لم يخطر ببالي أي شيء مما تقولي.. إنني حسنة النية تماما وأقسم بالله على ذلك..»

- «حسنا لو اعتمدنا على حسن النية لخربت البلد..»

- «لكن الشعوب كلها تنقد حكوماتها ولم يحدث شيء..»

- «إن الذين يحكمون البلد اليوم رجال مخلصون أوفياء فلا موجب لنقدهم في شيء ...»

- هذا حق لم يعطه الله لأحد ..ولا حتى للأنبياء..»

- ابتسم في مكر وقال:

- اشرحي لنا هذه العبارة.

- قال بهدوء عاصف:

- «كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه كان لا يريد الخروج لحرب الأعداء في غزوة أحد لكنهم اعترضوا وأصروا على الخروج.. وخرج وكان يريد أن ينزل في مكان ما في غزوة بدر فأشار عليه أحد أصحابه أن ينزل في مكان ما في غزوة بدر، فأشار عليه أحد أصحابه أن ينزل في مكان آخر قرب الماء فوافقهم.. وعشرات القصص استطيع أن أرويها لك»

- واجهها بعينين لا تطرفان وابتسامة شاحبة وقال:

- «نفس أسلوب الإخوان المسلمين. كنت واثقا أنك على صلة بهم...

- وهذا دليل جديد»

- «صمتت برهة ثم قالت:

- «أنكم تهولون في الأمر وتضخمون الأشياء»

- «الشك وسوء اضن هو سبيلنا للوصول إلى الحقيقة..»

- صرخت دون وعي:

- «أنكم تدمرون أجمل الأشياء في الحياة...»

- «هذا كلام خطير ونقد مدمر للسلطة..»

- «أين هي السلطة..؟؟»

- «نحن..»

- نظرت إلى صورة الرئيس الضخمة المعلقة في مواجهتها لم تكن الصورة تبتسم هذه المرة ترى أين هو الآن؟ ليته يأتي ليسمع ألم يقل ذات مرة لقد خلقت فيكم العزة. .لقد خلقت فيكم الكرامة.. لقد خلقت فيكم الحرية لعله الآن يجلس ناعما هادئا يقرأ كتابا جديدا أو يتصفح مجلة أو يداعب أبناءه، أو يعقد اجتماعات هاما أو يصدر قرارات ثورية، لكن أليس لديه بعض دقائق يزور فيها هذا المكان والأمكنة المشابهة ليرى بنفسه أنها على استعداد لأن تدفع حياتها ثمنا لشيء واحد تأمل فيه ألا وهو أن تسأله:

- ما رأيك فيما يجري هنا الآن لها ولسلوى والآخرين»

- «لو علم الرئيس بهذا الذي تفعلنه لأخذكم بشدة..»

- ضحك الرجل من الأعماق وقال:

- «اطمئني إنه يعرف كل شيء..إننا مجرد منفذين للخطة..»

- «لا أصدق»

- «وهو يثق فينا ثقة مطلقة.. ونرفع إليه تقارير يومية.. إن سر النجاح الذي يتحقق هو التزامنا حرفيا بالأوامر نحن عسكريون أولا وأخيرا..»

- «وأفاق الرجل من غفلته التي يبدو أنه سقط فيها سهوا وقال:

- «لكن ما الذي جعلني أقول هذا الكلام؟؟ لقد انقلب الوضع وأصبحت أنا المتهم.. أليست هذه مهزلة؟.؟. ومع ذلك فإني غير نادم على ما قلت، لأني واثق أنك ستقتنعين في النهاية بمنطقنا من يدري فقد تصبحين واحدة من رجالنا..»

- شعرت نبيلة بالاختناق أخذت تلتقط أنفاسها بصعوبة ازداد لهاثها احتقنت عيناها أكثر وشعر أيضا بما يشبه الدوار، إنها تكاد أن تسقط إعياء، وسمعت ضجيجا في الخارج يا إلهي أهي في حلم أم أنها الحقيقة إنها تسمع صوته .. إنه مبعثو العناية الإلهية.. هذا صوت عطوة الملواني:

- «ما هذه المهزلة؟ هل وصلت بكم النذالة لحد القبض على خطيبتي من أجل تقرير كله افتراء.. كتبه عميل تافه.. هذه المسألة لن تمر بسلام قسما لأبلغ الرئيس بكل ما جرى..»

- كانت تقف شاحبة ترتجف وصدرها يعلو ويهبط وانهمرت دموعها غزيرة أخذت تتشنج تشنجا عاليا وسمعته يقول:

- «أننت هنا يا حبيبتي .. لسوف أخذ لك بحقك.. هؤلاء الحيوانات سوف ألقنهم درسا لن ينسوه..»

- وقدم نحوها وهو فاتح ذراعيه..

- وسرعان ما ألقت بنفسها بين ذراعيه وهي تنتحب فأخذ يلامس شعرها ويجفف دموعها، ويقبل وجنتها وقد تجمع كل الغضب على وجهه وأخذ يقول:

- «لا تنزعجي يا حبيبتي لقد أخبروني في بيتكم بالأمر منذ ساعة واحدة.. أخبرتهم ناظرة المدرسة كنت مشغولا طوال الصباح بعد الظهر لم أعد إلا متأخرا..»

- أساءوا إلي يا عطوة اخترقوا آدميتي..عاملوني أسوأ معاملة.. لم أكن أصدق أن يحدث هذا في بلدنا الطيب..

- قال في دهشة

- «ولماذا لم تخبريهم أنك خطيبتي؟»

- «قلت لهم فلم يكترثوا..»

- قال المحقق وبدا علو وجهه الجد والاهتمام:

- «وشرفك يا عطة بك لم نكن نعلم..»

- هز عطوة رأسه قائلا:

- «سيكون حسابكم عسيراً..»

- ثم أمسك بيد نبيلة وقال:

- «هيا بنا..»

- هل سنخرج يا عطوة..؟؟»

- «بالطبع هؤلاء الكلاب الذين يزينهم الآن في أمكاني أن أضعهم في السجن لولا جهلهم بحقيقة وضعك..»

- قالت نبيلة في غيظ:

- «كيف يعرفون كل شيء عني ولا يعرفون أني خطيبتك؟

- قال المحقق وهو يحني رأسه في أدب:

- «أقدم عميق أسفي واعتذاري يا أنستي..»

- قالت وقد شردت بنظراتها إلى بعيد:

- «معنى هذا إني إذا لم أكن خطيبتك لقذفوا بي وراء الشمس»

- قال عطوة:

- «بالتأكيد»

- «أليس ها ظلما؟؟»

- «لا تنزعجي يا حبيبتي إن الأخطاء التي ترتكب لحماية أمن الدولة يجب أن نعفو عنها وننظر إليها بعين التقدير وحسن النية.. ولكن أؤكد لك أنك ستأخذين حقك وزيادة .. هيا..»

- ثم رمي أمام المحقق ورقة تفيد السماح بالإفراج عنها موقعة من مدير المخابرات العامة.. مشت إلى جواره ورنت في مخيلتها الكلمة القديمة داخل مفقود والخارج منه مولود..» وتذكرت سلوى .. هذه المسكينة التي تتأوه الآن تحت وطأة الظلام والخوف والإرهاب ترى ماذا يفعلون بها الآن؟؟

- وانحدرت على خدها دمعة غالية..

الفصل التاسع

كان عطوة بك يجلس إلى جوارها في سيارته الخاصة ونسيم الليل يلامس وجهها المحتقن الساخن من أثر الانفعال كان يوقد سيارته في ثقة وسرعة ملفتة للنظر وبدا واضحا أن سلطته أكبر بكثير من جسمه وسنه ورتبته وكان لصوت العجلات صدى تأوه طويل وأخذ يقول:

«عندما علمت بالخبر صدمت هذا يحدث كثيرا . ابن أخت أحد الوزراء حدث له نفس الشيء الأسبوع الماضي ومنذ شهر قبض على شقيق ضابط كبير في مكتب المشير عامر وزير الحربية.. كما قبض على رجل من الصحفيين الذين يعملون مع هيكل رئيس تحرير الأهرام وهيكل له وزن كبير جدا.. عشرات الحوادث المشابهة تحدث يوميا.. إن جهاز الأمن يسيطر على حركة المجتمع سيطرة هائلة تدعو إلى الاطمئنان لقد علمت أن لك ملف كبير بالمخابرات..» قالت نبيلة.. في اشمئزاز:

- «وهذا ما يؤكد لي أكثر أن هناك كثيرا من المظلومين..»

- «لا تقولي هذا الكلام أمام أحد.. ولا حتى أمامي..»

- «أنا أقول الحقيقة..»

- «احمدي الله على نجاتك..»

- «لن أشعر بالاطمئنان طول حياتي..»

- «مد ساعده الأيمن وطوقها في حنان وهو يقول:

- «ما دمت إلى جواري فلا تخافي أحدا.. الرئيس يعلم مدى إخلاصي، ولهذا فهو لا يرد لي طلبا.. إنني على وشك أن أحصل على ترقية استثنائية..»

- قالت وعيناها مغرورقتان بالدموع

- «عطوة..»

- «عيون عطوة..»

- «ألا تستطيع مساعدة سلوى؟»

- «من سلوى هذه؟؟»

- وأخذت تروي له كل ما تعرفه عن سلوى من خلال الفترة القصيرة التي عاشتها معها في ظلام الزنزانة كان يستمع إليها ويهز رأسه وأخيرا قال:

- «يجب أن تنسيها كلية»

- «كيف..؟»

- «الشيء الوحيد الذي لا يقبل فيه الرئيس وساطة ولا شفاعة هو موضوع الإخوان المسلمين..»

- قالت نبيلة وقد التفتت إليه في اهتمام:

- «أهو على علم بكل هذه التفاصيل؟؟»

- «بالطبع إن الذي يتخطى أوامره أو يخرج على السياسة المرسومة ليس له عقاب سوى الطرد والإهانة إن أي غلطة.. أو مجرد تهاون بسيط قد يؤدي إلى كارثة ... إنها حياته، وحياته مرتبطة بمستقبل الثورة والشعب..»

- «قالت في دهشة:

- «لكن مجرد فرد..»

- «لا تقولي هذا الكلام الخطير .. أصابعك ليست متساوية..»

- شردت لحظات ثم قالت:

- «كان عمر ينام تحت ظل شجرة في الطريق ..»

- «ولهذا قتلوه.. أنا أعرف التاريخ أيضا..»

- «لكنه خلد بنبله وعدله نعم ملأ الأرض حبا وحضارة..»

- قال وهو يشعل سيجارة والسيارة تنطلق مسرعة:

- «لهذا قد قدم أحد الخبراء دراسة للرئيس يطلب فيها تعديل مناهج التاريخ الإسلامي لم أكن أفهم الموضوع تماما لكني الآن أدركت أنها فكرة صائبة..»

- «لكن سلوى بريئة.. إذا كان زوجها مطلوبا فما ذنبها هي؟؟»

- «إن سلوى وسيلة من وسائل الضغط ماذا يفعلون غير ذلك..؟؟»

- «لا تزر وازرة ور أخرى» هكذا يقول الله في كتابه أم أنكم تريدون تعديل آيات القرآن كما تحاولون تغيير مناهج التاريخ وأحداثه..»

- «يا حبيبتي.. نحن نفهم الدين خيرا مما يفهمه الإخوان صدقيني..»

- إن رأسها يدور وتختلط فيه أشياء كثيرة لقد اضطربت البديهات والمثاليات أدركت أنها كانت غريرة ساذجة كطفلة تحبو.. لم تكن تفهم الحياة كما يجب ألا ما أشد غفلتها لقد ضاعت أيامها الماضية في تصورات بلهاء وما أن صدمتها صخرة الواقع حتى أفاقت من غفلتها إنها تريد أن تجلس وحدها وتفكر في كل شيء من جديد أحلامها الوردية القديمة تذوي تضمحل تذوب في وهج العذاب النفسي الذي يشتعل في داخلها القانون خرافة والعدل خرافة.. والقيم الخالدة الرائعة كلها أحالها الواقع الأليم إلى خرافة. أيمكن أن يعيش شعب بأسره في ظل تلك الخرافة الكبرى..؟؟ وإلى متى؟؟ كيف كانوا يصفقون ويهتفون ويرددون الأناشيد والأهازيج في موكب الزيف الكبير.. لشد ما تكره نبيلة الحياة..تكرهها بعنف مثلهما أحبتها بعنف في الأيام الخوالي. مجرد ساعات نهار واحد أحالها إلى إنسانة جديدة تمامًا. ترى ماذا يدور في أذهان التعساء الذين يرزحون تحت وطأة العذاب والإرهاب سنين طويلة.. كيف تمتد بهم الحياة.. هل يأكلون ويشربون ويضحكون؟ إنها لا تصدق أن الدمار الذي أحدثته هذه الساعات في روحها دمار هائل يشبه إلى حد كبير ما يسمونه بالقنبلة الذرية احترقت في قلبها الورود والرياحين.. وانطفأت الشموع المقدسة التي أضاءت فكرها وأحلامها فتحولت إلى طاقة كبيرة من السخط والرفض والحقد .. إنها تتصور نفسها زوجة فماذا تلد.؟.؟ لن تلد غير مزق من الأجيال الضائعة التائهة المشردة. .ولن يستطيعوا أن يبنوا حضارة سوف يصنعون حياة شوهاء مليئة بالبثرات والتقرحات المعدية:

- وسمعت عطوة يقول:

- «سوف نقضي ليلة ممتعة تنسيك كل همومك يا نبيلة..»

- «قالت كمن لدغتها حية:

- «أنا؟؟»

- «أنا وأنت»

- «إنني منهارة ..»

- « كأس واحد تعيد إليك بهجتك ونشاطك..»

- «لا أشربها ..»

- «ستشربين من أجلي هذه هي كلمة الشكر التي أطلبها منك»

- «بكت وأخذت تشهق التفت إليها مستغربا وقال:

- «ماذا جرى؟»


- «أنت لا تعلم ما بي..»

- «ماذا حدث ؟ مجرد تجربة ستستفيدين منها في المستقبل..»

- «الليلة أنا لا أصلح لشيء أرجوك دعني استعيد نفسي .. أنا في انهيار عصبي تام. الله وحده يعلم. ثم لا تنسى أن الأسرة كلها الآن في انتظاري...»

- زاد من سرعة السيارة انطلق كالريح في الشارع الواسع.. كان يزفر في حنق وغمغم كذئب جريح جائع:

- هذا التصرف منك لا يمكن أن يكون مكافأة لي على إنقاذك من بين أنيابهم.. » وضعت يدها على ساعده الأيمن وقالت في رقة..

- «عطوة أنت لا تعلم كم أحبك عندما دخلت على هناك غرفة التحقيق شعرت بسعادة لا توصف كنت كالملاك الذي أرسله الله لإنقاذي وأنا على وشك الفناء في صحراء موحشة لا زرع فيها ولا ماء ولا بشر...

- نزلت كلماتك بردا وسلاما على نفسي المعذبة. أقول لك الحق لقد خيل إلي أن مجيئك معجزة من المعجزات وكل أملي أن أرد لك الجميل في الوقت المناسب الليلة أنا لا أصلح لشيء كما قلت لك . أنا مزقة من يأس وعذاب..»

- وقفت السيارة لدى باب مسكنها هرول أبوها العجوز كذلك فعلت أمها المصابة بروماتزم المفاصل لكنها انكفأت وجرى إخوتها الصغار وأولاد أخيها وأختها وهم يغنون في سعادة:

- «أبلة نبيلة.. أبلة نبيلة..»

- انهمرت دموعها وهي تأخذ بيد أمها وتحضنها وبللت يد أبيها بالدموع وهي تقبلهما وجمعت الأطفال بين ذراعيها جملة واحدة، وأخذت تمرغ خديها الغارقين في الدموع في رؤوسهم ثم أجهشت بصوت حزين..

- قدم نحوها عطوة وجذبها في غلظة من يدها وهو يقول:

- «ما هذا الذي تفعلين؟؟ أنظري إلى النوافذ المجاورة.. النسوة يتطلعن في فضول .. هذا ليس في مصلحتنا..»

- ثم التفت إلى أبيها قائلا:

- «يا عمي.. أنت وحدك تستطيع أن تفهمني أكثر.. إن ما حدث لا يصح أن يعرف به أحد.. هناك قضايا سياسية كثيرة تقام بسبب ترويج الشائعات ولن يكون في مصلحة أي منا أن تصرح نبيلة بأية كلمة عما جرى يجب أن ينتهي الأمر عند هذا الحد وكأن شيئا لم يكن..

- هز الرجل الذي أضناه المشيب رأسه في تقبل واقتناع وقال:

- «هذا عين العقل .. عين الصواب..»

- ثم اقترب من نبيلة وأمسك بيدها في حنان وعلى فمه ترتسم ابتسامة الثقة والنصر وقال:

- «مفهوم يا حبيبتي.؟؟»

- «مفهوم..»

- «وموعدنا غدا يا نبيلة..»

- نظرت إليه في ذهول، كانت تحوم بخيالها هناك حول الركن الأسود الذي تنزي فيه «سلوى الصافي» وحول المكاتب الأنيقة في غرفة المحققين، والرجال البلداء الذين لا يعرفون الرحمة أو الحب أيمكن أن يكون لهؤلاء الرجال زوجات وأطفال وأمهات وأصدقاء.؟ وصورة الزعيم تنتصب فوق الرؤوس كأيقونة ساحرة تشع بالثقة والكبرياء والجبروت.رأسها يدور ويدور... هدير الهتافات يكاد يصم أذنيها والتصفيق الحاد الطويل يكاد يدمر كل خلية عصبية في جسدها، وسقطت بين أيديهم فجأة لم تعد تعي شيئا حملوها إلى الداخل صرخت أمها في خوف ولوعة:

- «ماذا فعلوا بها؟؟ ألحقوني بدكتور . بنتي .. حببتي يا بنتي..»

- زمجر عطوة بك في غضب وقال:

- «هذا ليس في صالحها إن الشبهات التي الصقت بها شبهات قوية فلتدخلوا ولتغلقوا عليكم باب بيتكم ولا طبيب ولا دياولو..»

- اقتربت منه الأم وهي تتكئ على كتف أحد أحفادها:

- «أي شبهات يا ولدي... ؟؟ تلفيقة من بوليس الآداب..»

- ضرب عطوة كفا بكف وقال:

- «يا للكارثة!! افهميني يا أمي.. هذه أمور سياسية تتعلق بأمن الدولة..»

- دقت المرأة على صدرها في خوف:

- «سياسية؟؟ نبيلة بنتي؟؟ مستحيل..»

- نظر عطوة إلى الأم في ضيق وهو يقول:

- «اللهم طولك يا روح..»

- حملوها إلى الداخل.. كان جسدها متخشبا تمامًا، وكان تموء بصوت يثير الحزن والشفقة وأصابع يديها منقبضة بشدة، بحيث لا يستطيع أحد أن يبسطها ومن فمها يطفر زبد أبيض ونظر عطوة إلى عينيها المغمضتين، وشفتيها المزمومتين ونهدها النافر، وشعرها المنسدل فوق الوسادة البيضاء، فأخذ بروعة جمالها برغم اللحظات الكئيبة ثم مال على جبينها وقلبها في حنان وهو يقول:

- «تصبحين على خير.. لا تخافوا ستكون على ما يرام.. اطفئوا الأنوار ودعوها تنام في هدوء هذه حالة صرع مؤقت سرعان ما تزول بعد أن تستريح وتهدأ أعصابها إنني أرى مثل هذه الحالات يوميا في السجن الحربي.. لو كان معي حقنة مهدئة لانتهى الأمر ف لحظات وعادت إلى حالتها الطبيعية وسوف أطمئن عليها بالتليفون لو لم يكن عندي مشاغل هامة لقضيت الليلة معكم..»

- ما إن انصرف عطوة وسمعوه وهو يدير محرك سيارته حتى قالت الأم:

- «استدعوا الطبيب على الفور..»

- «ألم تسمعي كلام عطوة؟؟؟»

- «من عطوة هذا؟؟»

- «الذي أنقذ ابنتك من السجن..»

- «ابنتي أولا...»

- «والحكومة هذه قضية سياسية أنت لا تعرفين ما يجري صرخت الأم في غضب..»

- «ملعون أبو الحكومة..»

- «اخفضي صوتك يا امرأة وإلا رحنا في داهية..»

- هل فيه داهية أكثر من هذه لسوف استدعي الطبيب وليكن ما يكون»

- وجرت صوب التليفون في تثاقل لقد نسيت الأم الروماتزمية التي تقعدها، ووجدت تأييدا تاما لفكرتها من باقي أفراد الأسرة، وعلى الرغم من معارضة الأب إلا أنه شعر بارتياح كبير وزوجته تدير قرص التليفون.

- قال الطبيب:

- «هذه حالة انهيار عصبي شديد.. ونوبة الصرع بسبب التوتر البالغ يبدو أنها تعرضت لإيذاء نفسي كبير.. الراحة التامة لمدة أسبوعين على الأقل ويستحسن أن تغادر القاهرة إلى أي مكان آخر طوال فترة النقاهة.. ودواؤها بعض المطمئنات أو المهدئات .. وأقراص فيتامينات وأرجو الاهتمام بالتغذية..»

- هبت نبيلة من سريرها وقد بدا الارتياح على وجهها وقالت:

- «سوف أكتب رسالة للرئيس نفسه أشرح له فيها كل ما جرى لم أزل أشك في أن هؤلاء الكلاب يخفون عنه الحقائق الفاضحة المخجلة..»

- قال أبوها في توسل:

- «اهدئي يا بنتي ولا داعي للمشاكل ..نحمد الله على ما جرى ونغلق علينا بابنا ..وننسى كل ما فات..»

- قالت في إصرار:

- «أعرف أنك مظلومة يا ابنتي قلبي يحدثني بذلك.. لكن لن يفعل لك الرئيس شيئا .. إنهم كلابه الأوفياء.»

- صاح الأب عبد الله في غضب:

- «يا ناس حرام عليكم .. إنكم بهذا الكلام تفتحون علينا باب المصائب ألا تثقون في شيبتي.. لقد خبرت الحياة.. ورأيت الكثير..»

- قال الطبيب وهو يقترب ثانية من نبيلة.

- «اكتبي ما تشائين..»

- «ثم التفت إليها أبيها قائلا:

- «إن الكتابة سوف تخفف عنها الكثير من التوتر والضيق ذلك جزء من العلاج..»

- قال أبوها محتدًا:

- «لتقرأ في كتاب .. لتستمع إلى الموسيقى أو تتسلى بالمسلسلات والأغاني في الراديو .. ألا يكفي هذا؟؟

- نهضت نبيلة من سريرها وأسرعت صوب مكتبتها ثم تناولت الكتب وأخذت تقذ بها عبر النافذة في ثورة أسرع أبوها ليحاول منعها فقال الطبيب:

- «ودعوها..»

- وبعد أن فعلت ذلك عادت إلى سريرها تلهث.

- قال الطبيب:

- «لماذا فعلت ذلك؟»

- «فيها الكثير من الخداع.. مخدرات.. زيف .. ليس فيها من الواقع شيء..»

- ابتسم الطبيب وأخرج محقنا صغير، ثم كشف عن أعلى ذراعها، ودس الإبرة في عضلة الجزء الأعلى للذراع من الخلف وهو يقول:

- «لست معك في ذلك.... هناك كثير من الكتب الشرفاء ما أكثر الكلمات الصادقة..»

- ثم التفت إليها فجأة وقال:

- «ألديك مصحف؟؟»

- نظرت إليه في دهشة ثم أخذت تسحب الكم على ذراعها وهمست:

- «لا..»

- أخرج الطيب من جيب سترته مصحفا صغيرا وقال:

- «تقبلي هذا مني هدية..»

- «تناولته بيد مرتعشة قربته من وجهها قرأت ما عليه، ثم قربته من فمها وقبلته في حب.. وظلت هكذا لحظات ثم التفتت إليه وقد عادت الابتسامة إلى وجهها الشاحب وقالت: - حذار أن تكون من الإخوان

- القرآن موجود قبل الإخوان يقرون .... وهو ليس حكرا على أحد..

- إنه كتاب الله.. لكل المسلمين.. بل لكل البشر..»

- واستطرد وهو يغلق حقيبته:

- «وحدة الإيمان وحده سوف يشفيك عاجلا.. إنه خير من أي عقار في العالم..»

- وضعت نبيلة المصحف على طاولة قريبة وقالت:

- «ألم تهتز أيمانك قط يا دكتور...»

- ابتسم في مرح وقال:

- «كثيرا ما يحدث ذلك.. حقيقة.. بالتأكيد . لسنا أنبياء..»

- «لماذا...؟؟»

- «لأن الإنسان مجموعة من الحالات النفسية وقد يضعف وقد يقوي .. قد ييأس وقد يأمل... ونحن لنا طاقات محدودة. حياتنا كالخط البياني .. صعود. وهبوط.. لكن يجب أن نحذر الضعف والتهاوي لدرجة الصفر.. ولهذا كان الابتلاء وكان الصبر.. وكان تفاوت الناس في القدرات لأسباب كثيرة ولهذا كانت الجنة والنار..»

- نهضت نبيلة من سريرها قائلة:

- «سوف أذهب إلى المدرسة غدا..»

- قال الطبيب في بشاشة:

- «أوامري يجب أن تنفذ بدقة.»

- «لكني أدري بنفسي .. أنا الآن في أحسن حال..»

- «تذكرت أنني جهة اختصاص والخبراء لهم رأي مسموع لدى العقلاء..»

- هزت رأسها قائلة:

- «صدقت..»

- واستأنف الطبيب حديثة قائلا:

- «وخلال فترة الراحة ستعيدين التفكير في أشياء كثيرة.. أعيدي هندسية مخك إن صح التعبير.. لكن تذكري أن الصبر هام.. من ينظر إليه على أنه عبادة يسعد ويطمئن باله.. ومن ينظر إلى الصبر على أنه قيد وسجن سرعان ما يصاب بالتوتر ومضاعفاته.. أتدركين معني كلامي؟؟»

- هزت رأسها في فرح:

- «نعم..»

- «والآن اسمحوا لي بالنصراف..»

- قالت في رقة:

- «هل نراك؟؟»

- «بإذن الله ..ويسعدني أن ألتقي بك في العيادة..»

- مدت يدها مصافحة:

- «مع السلامة..»

- وما أن أنصرف الطبيب حتى جلست نبيلة في مكانها وقالت:

- «إني جائعة.. أريد أن أسمع قطعة موسيقية هادئة .. اذهبوا واحضروا الكتب التي رميتها سأسافر في الصباح الباكر إلى الإسكندرية . .. لا أريد أحدا معي.. ولا تخبروا أحدًا بمكاني..»

- عندما علم عطوة في اليوم التالي بنبأ سفرها هاج وماج وقال:

- «هذه مصيبة من المفروض ألا تسافر إلى أي مكان إلا بعد الاستئذان من المخابرات ..أين ذهبت؟؟»

- قال أبوها:

- «لا ندري.. لقد تركت لنا بطاقة صغيرة ولم تحدد فيها المكان .. وقالت إنها ستعود بعد أسبوعين..»

- رمي عطوة سماعة التليفون في حنق وصرخ:

- «أنا الذي أحرك آلاف الرجال المرموقين بإصبعي أعجز عن التحكم في فتاة لا تزن أكثر من خمسين كيلو ..هزلت والله ..طيب..»

الفصل العاشر

كان عطوة صغيرا حينما حدثت تلك الحكاية إنه لا يمكن أن ينساها، دائما ترد على خاطره، ذات مرة أحضرت له أمه لعبة من اللعب الجميلة، كانت عبارة عن سيارة صغيرة عندما يضغط على نتوء أسود صغير فيها كانت السيارة تنطلق وتلف وتصدر عنها أصوات وجرس صغير يدق، وسائق اللعبة الصغير يحرك يديه ورأسه في براعة... وعطوة الصغير يجلس مبهورا أمام لعبته الفريدة يبدو أنه كان دون الخامسة ومن عمره حاول أن يفهم السر وراء هذا اللغز المعدني المثير فلم يستطع سأل الكبار فأخذوا يشرحون له أشياء لم يفهم منها ذرة وأخيرا اخذ لعبته وانزوى بعيدا ثم أخذ يدقها بحجر حتى تفسخت وخرجت من جوفها قطع صغيرة وأسلاك وصفائح أخذ ينظر إليها في دهشة وأخيرا لم يستطع أن يفهم شيئا وحاول تجميع الأجزاء ورصها من جديد وعندما أراد تشغيل لعبته لم يفلح.. بكي جرى إلى أمه .. وإلى إخوته فقالوا له أتها إنها لم تعد تصلح لقد تلفت تماما...

لكنه يريدها كما كانت قالت أمه:

- «لقد ماتت ...ولست في مقدورنا أن نعيدها إلى الحياة..»

- «بكي يومها بكاء مرا هذه الحادثة مرسومة في أعماق عطوة ترد على ذهنه كثيرا وتطفو السمكة الميتة من أعماق النهر، عطوة الآن لا يدري الصلة التي تربط بين لعبته المحطمة وبين نبيلة لكنه يذكرهما معا الحق أن نبيلة أرهقته وضايقته حتى نفذ صبره، إنه لا يعرف ما يدور في رأسها الجميلة عيناها ممتلئتان برموز لا يستطيع فك طلاسمها آلاف الرموز التي لا يفهمها ماذا يفعل؟ إنه لا يقبل الفشل، ولا يقر بالعجز أيحطم رأسها؟؟ أيسحقها كما يسحق عشرات المعتقلين تحت حذائه، أم يقبض عليها ويعلقها على «العروسة» الخشبية ويظل يلهب جسده الطري بالسياط حتى تركع تحت قدميه، وتأتي إليه مستسلمة صاغرة؟؟

- لكن لماذا يحبها هذا الحب برغم تمردها وعنادها؟؟؟ الدنيا مليئة بالنساء الفاتنات مختلف الأشكال والألوان وكلهن يستجبن لنزواته وشذوذه ألا يمكنه أن ينساها كلية، ويعتبرها كأن لم تكن؟ هو في الواقع لا يستطيع أنه يريدها هي بالذات ولو أتوا إليه بكل نساء الأرض لما أشبعن نهمه، ولما أرضين كبرياءه وفضوله، إنه يريدها وسيحصل عليها، لا كزوجة ولكن كخليلة.. لقد أدرك بعد تفكير وترو أن مسألة الزواج خطأ جسيم إنها أشهى وألذ حراما أما اللقاء الشرعي فهو في نظره ماسخ لا طعم له ولا رائحة ولا يثير شهيته وهو واثق أن نبيلة بعد تعرضها للأزمة السياسية بالأمس سوف تجعلها تلقى سلاحها في النهاية.. وخاصة بعد أن تهدأ أعصابها.

- وتعيد تقيم الموقف ليس هناك إنسان غيري يستطيع حمايتها ورد الاطمئنان. والثقة إلى نفسها...

- كان عطوة يجلس في مكتبه بالسجن الحربي، وعيناه ترقبان المجزرة الدائمة كل شيء يجري في دقة ونظام.. التحقيق.. التعذيب ... تسجيل الاعترافات في الأوراق وعلى أشرطة .استقبال المعتقلين الجدد حسبما خطط هو استقبالا غريبا بالسياط والركل والسب والاحتقار وكان سيل المعتقلين لا يتوقف عن التدفق ودخل أحد جنود السجن الحربي وأدى التحية العسكرية لم يكلف عطوة نفسه مؤنة رد التحية بل قال:

- «هيه..»

- قال الجندي:

- «توسكا تعبانه يا أفندم..»

- هب عطوة من مقعده في ذعر قائلا:

- «ماذا تقول؟؟ توسكا؟؟ والله لأخرب بيتك منذ متى..؟؟ »

- قال الجندي وهو يتماسك:

- «كل الكلاب أكلوا إلا هي..»

- «ولماذا لم يخبرني منذ الصباح..»

- ثم اقترب منه عطوة وصفعة صفعة قوية، فلم يتزحزح الجندي من مكانه، بينما قال عطوة:

- «تكلم يا حمار..»

- «يا أفندم حضرتك لم تكن موجودا...»


- «ولماذا لم تكلمني في التليفون.؟؟»

- «لا أعرف الرقم..»

- «لأنك حمار. لم لم تخبر الضابط النوبتجي.. أنت والبهائم التي كنت تعلفها في بلدكم سواء بسواء .. توسكا برقبتك ورقبة مائة مثلك فاهم يا لوح..»

- قال الجندي في حزم:

- «تمام يا أفندم»

- وهرول عطة خارجا من مكتبه وتبعه بعض الضباط والجنود واستدعى طبيب الحربي في عجل وساد التوتر ووقف عطوة أمام مجموعة الكلاب المدربة التي أخذت تجري حوله تتمسح فيه وتعلقه بألسنتها إلا توسكا فقد بقيت راقدة، وعينها تتوسل في ضراعة وأنفاسها تتلاحق وهتف عطوة في خوف:

- «ماذا أصابها يا دكتور.؟.»

- «وقف الطبيب يتأملها لحظة ثم قال:


- «لا أدري.. يحسن استدعاء طبيب بيطري فأنا لا أفهم في الكلاب...»

- ونظر عطوة إلى الكلبة في أسى وأخذ يمسح على جسدها بيد حانية مرتعشة بينما أخذت الكلبة تئن كانسان يتوجع وفجأة طفرت دمعة من عيني عطوة عندما رأي الطبيب ذلك اقترب منه قائلا:

- «لا تخف يا عطوة بك لأول مرة أراك تبكي..»

- قال عطوة بصوت يبحه البكاء:

- «أنها أعز لدى من أي مخلوق يا دكتور..»

- «لهذه الدرجة؟»

- التفت عطوة إلى الضابط النوبتجي وقال:

- «ابحثوا عن أي طبيب بيطري في المعتقل وإذا لم يجدوا فلتعتقلوا واحدا منهم على الفور..»

- تقدم الأومباشي عبد المقصود من عطوة بك.. وأدى التحية وهو يقول:

- «عندنا معتقل في سجن أربعة اسمه «حامد العجمي» أفندم إنه طبيب بيطري..

- «وماذا تنتظر يا جاموسة؟؟؟»

- «إنه في الحبس الانفرادي.. .من الخطرين ... ويجري معه تحقيق هام..»

- دفعة عطوة في صدره بلكمة قوية وقال:

- «أوقفوا التحقيق... وهيئوا له كل سبل الراحة توسكا أهم عندي من أي شيء أخر..»

- «حاضر يا أفندم..»

- وفي دقائق معدودة قدم «الدكتور حامد العجمي» الطبيب البيطري المعتقل كان شاحب الوجه، مطلق اللحية يرتدي سروالا قصيرا وسترة متسخة والكدمات والجروح تعلو هامته وتخطط يديه ورجليه، وكانت عيناه تبرقان بغير قليل من التوجس والقلق.

- وصرخ عطوة:

- «بيطري يا أفندم»

- أسار عطوة بيده إلى الكلبة تقدم حامد نحوها، سمى باسم الله، ثم وضع يده على جسدها وخاصة بطنها ونظر حامد إلي المخلفات التي تحتها وقال:

- «هل أخذت قبل ذلك الطعم الواقي ضد داء الكلب....؟»

- قال عطوة:

- «نعم بالتأكيد كل الكلاب أخذته أمامي...»

- ثم استطرد عطوة بعد لحظة صمت قصيرة:

- تكلم .. هل عرفت مرضها..

- «اطمئن يا أفندم..»

- «هل أحضر لك سماعة أو ترمومتر..»

- «لا داعي لذلك كله يا أفندم.. إنها حمى بسيطة تصيب الكلاب عادة ولن يستغرق علاجها أكثر من خمسة أيام .. أريد ورقة وقلما..»

- أخرج عطوة بك قلمه «الباركر» وجرى أحد الجنود صوب مكتب القائد وأحضر رزمة من الأوراق البيضاء تناولها حامد في هدوء وكتب بيد مرتعشة بعض العقاقير الضرورية لشرائها م الخارج تناولها عطوة، وكلف أحد الضباط بشرائها في أسرع وقت ممكن.. ثم ألتفت عطوة إلى الطبيب المعتقل وقال:

- «لو جرى للكلبة شيء فسأقطع رقبتك ..»

- ابتسم حامد العجمي في مرارة وقال:

- «اطمئن يا أفندم....»

- أمسك عطوة بكتفه النحيل وقال:

- «حامد....»

- «نعم يا أفندم..»

- «أريد أن أخدمك خدمة لن تنساها طول حياتك..»

- «متشكر يا أفندم..»

- «أريد أن أخدمك خدمة لن تنساها طول حياتك..»

- «متشكر يا أفندم..»

- وانتحى به جانبا وقال:

- «سوف أصدر أوامري بألا يعذبك أحد بعد اليوم وسأخرجك من مصيبة القضية التي رميت بنفسك فيها.

- «والله لا قضية ولا يحزنون يا أفندم..»

- اسمعني يا مغفل . .سوف أضمك إلى المعتقلين العاديين.. صحيح لن يفرج عنك لكن يكفي أن ينجو من القضية وتقديمك للمحاكمة..»

- «متشكر يا أفندم..»

- واستطرد عطوة قائلا:

- «سوف أفرد لك زنزانه خاصة وستعيش الكلاب معك.. كي تشرف على طعامها وشرابها وصحتها ... وسأصرف لك غذاء كافيا .. هو نفس غذاء الكلاب لحم وأرز وخضار .. أظن أنك لم تحلم بهذا الفضل كله..»

- وعاش الدكتور حامد العجمي مع الكلاب فترة طويلة نعم خلالها.

- بالطعام الطيب، وهدوء البال والتنزه مع الكلاب في بعض الأوقات هذا في الوقت الذي كان رفاقه المعتقلون وراء الأبواب المغلقة لا يكادون يرون النور إلا في أوقات قليلة، وهمس أحد المعتقلين لزميله قائلا:

- «يا بختك يا حامد ربنا أنعم عليك من حيث لا تحتسب عقبي لنا..

- وحمد حامد الله بعد أن رأى توسكا قد تماثلت للشفاء..

- وكان عطوة أكثر سعادة ورضا، كان يحتضن الكلبة وعشق ويلثمها بشفتيه في حنان والكلبة تهز ذيلها وكأنها تشكوه على الرعاية الفائقة التي لم يحظ بمثلها أحد وأخذ عطوة بك يناجيها ويداعبها:

- «أخص عليك يا توسكا لقد وقع قلبي من الخوف أنت تعلمين أنني أحبك يا توسكا وأني على استعداد لأن أفديك بكل ما أملك.. أنت أعز لدي من أي إنسان أنت يا توسكا لا تقلين عن الإنسان في شيء إن لم تتفوقي عليه.. أنت يا توسكا الوفاء والولاء والحب وأنت الطاعة والاستسلام التام.. عندما أراك ترقصين لي وتظهرين السعادة للقائي أشعر أنك أبعد نظرا، وأصدق حسا وحدسا من أي إنسان حتى فيما يتعلق بأمن الدولة تنهشين لحوم البشر المتمردين «الخائنين» وتمزقين أجسادهم مثلما أبغى... بل وأكثر مما أبغى .. لو كنت مكان المسئولين لعلقت في رقبتك رتبة لواء ... لا بل رتبة فريق.. ولماذا لا أضع لك ربتة «مشير»؟؟ أنت أحق بهذا وأجدر.

- ويوم أن شفيت توسكا أمر عطوة بك بأن يحتفل بهذه المناسبة احتفالا يناسب مقامها فجمع عددا من مشاهير الشعراء والكتاب والفنانين من بين المعتقلين وأمرهم أيضا أن يؤلفوا على الفور قصائد عصماء وكذلك طلب منهم كتابة الأغاني وتلحينها وأداءها في الطابور ووعدهم بيوم إجازة من التعذيب والطوابير القاسية التي كانوا يظلون الساعات الطوال يجرون فيها، حتى تنهار قواهم ويرتمون لاهثين على جنبات الساحة الواسعة الحمراء.. ساحة التحقيق أو الموت أن صح التعبير وعندما وقف شاعر كبير معتقل ليلقى قصيدته بالأمر لم يجد شيئا يقوله، وتلعثم واضطرب فتضايق عطوة واختطف سوطا من أحد الجنود، ثم هوى به على رأس الشاعر قائلا:

- «أشعر يا ابن الكلب.. لقد كتبت مئات الأبيات ضدي وضد الحكومة أنا أعرف ذلك ألم يقل عنا:

متبلدون، عقولهم بأكفهم
وأكفهم للشر ذات حنين..؟؟

- والآن ترفض أن تتغنى بشفاء توسكا اقسم بشرفي إذا لم تقل شعرا في توسكا فلسوف ألفق لك قضية وأقدمك للمحاكمة ولماذا ملفقة؟؟ إن القصيدة التي كتبتها والتي تقول فيها تقول .. لا أذكر...»

- ثم التفت إلى أحد الضباط وقال:

- ماذا قال هذا الشاعر يا حضرة الضابط.. أنت تعرف ما قال..»

- تنحنح الضباط وقال:

في ليلة ليلاء من نوفمبر
فزعت من نومي بصوت رنين
وإذا كلاب الصيد تهجم بغتة
وتحوطني عن شمال ويمين.


- قهقه عطوة قائلا:

- «حلوة شمال هذه اسمع إذا لم تقل الآن فسأمزق جسدك بالسياط..»

- قال الشاعر المعتقل...

- «يا أفندم الشعر يحتاج إلى وقت..»

- «وحياة أمك؟؟ أتسخر مني..؟؟»

- «ويحتاج لورقة وقلم وهدوء»

- «قلت لك ألف شعرا في توسكا وإذا فعلت كافأتك..»

- قال الجندي أمين المعروف بقسوته وغلظته وعمي قلبه:

- يعني عندك البضاعة والناس جواعة.؟.؟ انطلق يا بهيم..»

- وتذكر الشاعر المسكين قصيدة شهيرة لأمير الشعراء شوقي في مصرع كيلوباترا تلك المسرحية الشعرية الشهيرة، وكانت القصيدة قد قيلت في وداع روما فحاول الشاعر أن يغير بعض ألفاظها ويدس فيها اسم توسكا فهز رأسه وقال:

- «حاضر.. سأقول..»

- فصفق عطوة بيده في طرب وصاح بأعلى صوته في المعتقلين المتراصين في صفوف كثيرة:

- «صفقوا له .. شجعوه .. الكل يصفق..»

- وهدر المعتقلون بالتصفيق الحاد وارتفع صوت أحد المعتقلين فجأة بهتاف كالرعد

- «عاشت توسكا»

- وضج المكان الواسع بالهتاف «عاشت توسكا» وعاد الهاتف الساخر يقول:

- «توسكا توسكا عاشت توسكا»

- وظل هذا المكان يضج بالهتاف المنغم الصاخب، وعطوة يهز رأسه في سعادة ونشوة لا مثيل هلا وقهقه وهو يقول:

- «والله إن هذه الهتافات لأقوى ألف مرة من الهتافات التي تصدر عن الجماهير المحتشدة في ساحة عابدين عندما يطل عليهم الرئيس كم أنت عزيزة علينا يا توسكا..»

- وساد الصمت من جديد.. وانبرى الشاعر المسكين يصرخ في حماس وصوته مندى بالبكاء والانفعال:

توسكا حنانك واغفري لفتاك
أواه منك وآه ما أقساك
توسكا سلام من شريد تائه
في الأرض وطن نفسه لهلاك
العاشقات قلوبهن رفيقة
ما نال قلبك لم يكن لفتاك
أنيابك الحمراء تنزف قسوة
وبرغمنا لابد أن نهواك
لا ذنب دنت حبيبى ورفيق
الذنب ذنب الوغد من رباك

- بطبيعة الحال لم يفهم عطوة بك كلمة مما يقال، كانت تطربه الموسيقى والقافية المكونة من الكاف والمكسورة وهي لها رنيني أخاذ يبعث على الطرب وكذلك الجنود والضباط الذين لم يكترثوا لما يقال، وإنما ارتسمت على وجوههم ابتسامة بلهاء لطرافة الموقف ولابتهاج قائدهم الذي أخذ يصفق في حرارة ورفع عطوة بك توسكا بين يديه فوق رأسه وهتف هو الآخر:

- توسكا توسكا عاشت توسكا..»

- ورد المعتقلون والضباط والجنود الهتاف بصوت راعد وهم يلوحون بأيديهم في حماس مال أحد الضباط على أذن رفيقة قائلا:

- البك شرب زيادة اليوم.

- أعرف .. رأيته بنفسي في المكتب يتناول الكأس تلو الكأس..»

- «هيه.. لن يأخذ أحد من الدنيا شيئا..»

- وضحك الضابط الصديق وهمس:

- «لا سيأخذ قطعة قطن...»

- وانفجر ضاجكين، خلف ظهر عطوة بك الذي قال بعد أن ساد الصمت:

- «انتباه..»

- ووقف الجميع «انتباه» الضابط والجنود والمعتقلون والكلاب أيضا وقال عطوة بك في إيجاز:

- «يسمح لجميع المعتقلين بالفسحة في الحوش وفي دورة المياه لمدة ساعتين ولا مانع من أن يستحموا ويغسلوا ملابسهم ويوزع على كل معتقل قطعة صابون..»

- وصاح أحد المعتقلين:

- «ودورة المياه يا سعاة البك..»

- وكانت دورة المياه لا تفتح عادة إلا لوقت قصير وغير مسموح لأي معتقل أن يبقى داخل المرحاض أكثر من دقيقتين أو ثلاث وكان هذا الأمر في الموضوعات الشاكة التي تسبب كثيرا من المتاعب والمضايقات للمعتقلين وخاصة المصابين منهم بحالة إمساك مزمن وما أكثرهم وقد لقي هذا الاقتراح تأييدا مطلقا وحماسا شديدا بين الجموع فابتسم عطوة بك وقال:

- «وتفتح دورة المياه أيضا لكن بشرط..»

- وعاد الصمت من جديد وأخذ عطوة بك يتجول بين الصفوف ويقول:

- لا أريد أن أسمع صوتا. أي ضجة أو فوضى سوف تجعلني الغي هذه الميزات كلها أنتم تعرفون من أنا.. مفهوم..؟؟»

- وهدر المعتقلون بصوت واحد مرتفع:

- «تمام يا أفندم..»

- وساد الصمت من جديد، وعاد عطوة بك يقول:

- أين فرقة الغناء لنختتم الحفل؟.؟»

- وتقدم مجموعة من المعتقلين كانوا حليقي الرؤوس كالعادة، الشحوب يكلل هامتهم، والعيون السوداء الصافية الصابرة تبتسم ابتسامات ذات معنى عميق هي السخرية أقرب منها إلى الاحتقار وتراص فريق المغنيين، وكانت آلاتهم الموسيقية عبارة عن «سلطانية» أو «قروانة» من الزنك، يستعملونها في استلام الطعام، وأكواب زجاجية بداخلها حصوة أو معلقة وذلك لإصدار أصوات موسيقية، وقد استعملت القروانات كطبلة هذا بالإضافة على الأصوات التي ستصدر عن الفم والتصفيق وأخذ قائد الجوقة يغني ويقول:

- توسكا يا توسكا يا حبيبة عيني

- ياللي سرقتي النوم من عيني

- خير إن شاء الله

- دا بعدك والله

- والله دار بعدك

- دا بعدك والله

- كان على عيني كان على عيني

وأخذ الحماس عطوة بك، فنحى توسكا جانبا وأخذ يرقص على الأنغام في متعة، وازداد التصفيق وترديد الغناء ولم يستطع المعتقلون أن يكتموا ضحكاتهم.. بينما مال أحد الضباط على صديق له قائلا:

- «البك زودها .. ربنا يستر»

- وصاح عطوة بك فجأة:

- «كل السجن ثابت»

- توقف الغناء .. وران الصمت...نظر الجميع بعيون خائفة صوب الأراجوز الذي كان يتراقص منذ لحظات.. وانتظروا الأوامر، ترى هل تراجع عن وعده؟؟ وعاد عطوة بك يقول:

- «أنتم أوباش. قليلو الأدب.. كل كلب على زنزانته..»

- وفي لحظات كانت السياط تلهب الظهور بما فيهم الشاعر الكبير وجوقة الغناء والموسيقى وفي لحظات أقفرت الساحة إلا من عطوة بك ورجاله وكلابه وأغلقت أبواب الزنازين وجلس الشاعر يوسف في ركن زنزانته ساهما، قال له المعتقل السوداني رزق إبراهيم:

- «فيما تفكر يا صاحب القصيدة العصماء؟؟»

- «هز الشاعر يوسف رأسه قائلا:

- «نيرون يغني وروما تخترق»

- أدرك رزق ما يعانيه أخوه في الله من ألم ممض فقال مداعبا:

- «في مصر أمير الشعراء شوقي وشاعر النيل حافظ وشاعر الشباب رامي، والشاعر البدوي الصميم عبد المطلب، وفي لبان شاعر القطرين مطران خليل مطران، وفي الحربي شاعر توسكا الشيخ يوسف...»

- وضج الجميع بالضحك حتى يوسف نفسه.. وعاد يوسف يقول:

- «إن ملحمتي التي كتبتها عن محنتنا في الحرب ستكون يوما ما على كل لسان في العالم العربي ..لدى يقين أننا سنخرج .. وسيعرف الناس الحقيقة..

- إن الرئيس له وجهان وجه نعرفه نحن ونقاسي منه، وهو الوجه الحقيقي المعبر عن شخصيته وفلسفته ووجه آخر يعرفه الناس حينما يخطب الخطب الحماسية ويسب زعماء العالم وأعراضهم ويهتف بالحرية.. الحرية لمين؟.؟. لقد خبرنا بأنفسنا الحرية التي يريدها حرية المتسلطين والكلاب التي تنهشنا الحرية التي ترغمك حتى على الإبداع فتقول الشعر بالأمر وتغني بالأمر .. لقد قلت الشعر من أجلكم خفت أن يصب عليكم غضبه وسخطه بسببي فقلت أي شيء..»

- قال الأخ عبد الحميد النجار الفلسطيني:

- «معقول أن يغني نيرون وروما تحترق.. أما أن يغني أبناء روما والنار تأكل أجسادهم وبيوتهم فهذا هو الغريب...»

- وهز الشاعر يوسف رأسه وقال:

- «كلام عميق...»

- «وتنهد يوسف وقال:

- «تعالوا نقرأ مأثورات رسول الله..»

- وكان المأثورات عبارة عن مجموعة من الأدعية والابتهالات الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتضمنة لبعض آيات القرآن وبعض السور القرآنية مثل سورة الرحمن والواقعة وسورة يس وقصار السور وسمي يوسف باسم الله، وانطلق السبة الجالسون في الزنزانة يقرأون بصوت هامس يرطبه الحنين والطاعة والرضا بقضاء الله وقدره، وتنسكب بعض الدموع والرؤوس تتطوح في حركات محسوبة والقلوب معلقة بالسماء، والعقول تسجد لدى أعتاب الله الملك الحي القيوم الذي لا ينام وأريج مقدس يضوع في جناب المكان وفي الأرواح وبعد ساعة انتهت هذه الجلسة الروحية العذبة وتمتم يوسف، وقد أشرق وجهه بالفرحة الصادقة:

- «نحن في رحلة إلى الله..»

- الطريق شاق طويل والذكريات مريم والأحداث صاخبة رهيبة ورجال يعلقون على أعواد المشانق، وأرواح تزهق دون اكتراث خلف الأسوار.

- والأسلاك الشائكة لا يعلم عنهم أحد شيئا في العالم الكبير والليالي السوداء والحمراء تمر بطيئة متثاقلة يلفعها الرعب والهوان والفارس الأسطوري يحارب الأعداء بالكلمات والشاعرات ويزج بالأبرياء من أبناء الأمة في معارك عشوائية خاسرة ويموت عشرات الألوف في الخارج.. في السجن الكبير ويتوارى الشرفاء والعباقرة وتخرج الثعابين من جحورها لتعزف أغنية الموت، وتعوي الذئاب في جنبات الوادي الأخضر جائعة مسعورة .. تسرق الكروم وتختنق الأطفال، وتحيل جنة الله في أرضه إلى غابة يسودها قانون الوحوش

وتمتم الشاعر يوسف:

«إن أحب الله عبدا ابتلاه..»

الفصل الحادي عشر

مضت أيام ومحمود صقر نزيل «الشفاخانة» هكذا يسمون المستشفى في السجن الحربي وكان المعتقلون في البداية يضحكون لهذه الكلمة إذ أنها خارج السجن الحربي وكان المعتقلون في البداية يضحكون لهذه الكلمات إذ أنها خارج السجن تطلق على المكان الذي يعالج فيه الفلاحون حميرهم وبمرور الوقت أصحبت كلمة «الشفاخانة» مألوفة تماما لديهم وكانت هناك طوابير يومية للمعتقلين لم تكن للرياضة وتعلم النظام وإنما كانت للانتقام إذ يجري المعتقلون ما يقرب من أربع ساعات جريا سريعا أو كما يقولون في الجيش «سريعا مارش» ليس هذا فقط بل أن الجنود يقفون بالسياط حول مسار الطابور ويلهبون الظهور والرؤوس بل والوجوه أيضا بسياطهم مما أفقد بعض المعتقلين عيونهم وكان لابد أن يسقط البعض إعياء على جانبي الطريق وهم يلهثون وبعضهم يقع مغشيا عليه فينزلون فوقهم بالسياط كي يقفوا ويستمروا في الجري لكن أغلبهم كان يستسلم للسياط بسبب عدم القدرة نهائيا على مواصلة المشوار الطويل أما كبار السن والعجزة وذوو العاهات والمصابون بالفالج والعمياء فكان يشكل لهم طابور خاص يطلق عليه «طابور الشفاخانة» ولم يكن من الضروري أن يكون هؤلاء المرضى نزلاء في المستشفى وكان عدد المسجلين في طابور الشفاخانة يزداد يوما بعد يوم وفي أحد المرات كان عطوة بك يتجول في أنحاء السجن الحربي ويتفقد رعايا مملكته التعسة فرأى طابور «سريعا مارش» لكنه وجد «طابور الشفاخانة» بسر في بطء فوقف فجأة وصاح بأعلى صوته:

- «من هؤلاء؟؟»

- فرد الصول ياسين:

- «طابور الشفاخانة يا أفندم»

- «كل هؤلاء شفاخانة..؟؟»

- «نعم يا أفندم»

- «كلام فارغ.. الجميع طابور واحد..«سريعا مارش»....»

- وسرعان ما انتقل إليهم حضرة الصول بكرباجه وأخذ يقول:

- «سريعا مارش يا ابن الكلب أنت وهو...»

- وما هي إلا لحظات حتى انضموا لطابور الأصحاء وكان مشهدا مبكيا أن مرضى القلب والضغط والشلل وذوي العاهات يحاولون الجري.. تلهبهم السياط وبعضهم يسقط أو ينكفئ وامتلأ المسار بالضحايا العاجزين عن مواصلة الرحلة الشاقة وبعضهم أصيب بنوبة قلبية وواحد لفظ أنفاسه الأخيرة، كان ينظر بعين دامعة إلى السماء وصدره يعلو يهبط ويحاول أن يقول بصعوبة بالغة «يا رب» وآخر أخذ يتقيأ دما. وكان منظرهم وهم يهرولون وقد ارتدوا معاطفهم أو جلابيبهم البلدية وعمائمهم يوحي بالأسى والحزن وكان الطبيب يقف إلى جوار عطوة بك واضعا يده اليمنى في جيب سرواله دون أن ينطق ببنت شفة، والتفت إليه عطوة بك ضاحكا وهو يقول:

- «ألم أقل لك إنهم بسبع أرواح مثل القطط؟؟»

- قال الطبيب:

- «هذا يشكل خطرا كبيرا بالنسبة لحياة بعضهم فالقلوب المصابة بالذبحة الصدرية أو الجلطة لا تتحمل هذا الجهد..»

- رد عطوة بك ساخرا:

- «ولماذا تحملت قلوبهم الانضمام للأجهزة السرية، والاستعداد للتضحية بأرواحهم في سبيل الله؟؟ هذا هو سبيل الله.. فليستشهدوا..»

- قال الطبيب:

- «أغلبهم مجرد معتقلين مشتبه في أمرهم وإلا لكانوا قد قدموا للمحاكمة..»

- «لا فرق بينهم يا دكتور.. كلهم إخوانجية أولاد صرمة..»

- «من الناحية الإنسانية يجب أن...»

- قاطعة عطوة بك قائلا:

- «لا تتكلم عن الناحية الإنسانية وحياة والدك .. إنهم حيوانات هيا بنا إلى الشفاخانة لنمر على المرضى هنا.. أخاف أن تكون إنسانيتك تجعلك تبقي فيها من لا يستحقون..»

- ومضى عطوة صوب المستشفى وتبعه الطبيب صامتا..

- عندما دلف عطوة بك للعنبر الأول تجول بنظارته متفحصا الوجوه واقترب من أحد النزلاء ثم دقق في وهتف:

- «من ؟؟ محمود صقر؟؟ الله يخرب بيتك .. صرت مثل الحصان.. أنتم شياطين .. وتأكل أيضا بشهية؟؟ يا بختك يا أخي..»

- نظر إليه محمود بعينيه الصافيتين كان عاريا إلا من سروال قصير حتى لا تلصق الملابس بالجروح، وعدد كبير من الجروح قد التأم والميكروكروم الأحمر المطهر يغطي كل جسده، وتوقف محمود لحظة عن المضغ وظل محملقا في عطوة بك لحظات، ثم أخذ يلوك الخبز والجبن ببطء في فمه، كانت التورمات في وجهه قد خفت إلى حد كبير، ومن ثم اتضحت ملامح وجهه وقال الطبيب هامسا في أذن عطوة بك

- «لقد نجا بأعجوبة نصف ما تعرض له كان كافيا لأن يؤدي بحياته..»

- قال عطوة

- «لا تخف عليهم يا دكتور.. عمر الشقي بقي..»

- ثم اقترب عطوة منه أكثر وقال:

- «على الله تكون عقلت يا محمود يا صقر..»

- لم يرد محمود، وإن توقف عن الأكل ووضع الجزء الباقي من الرغيف وفوقه قطعة الجبن الصغيرة إلى جواره في هدوء وأحنى رأسه واستطرد عطوة يقول:

- «اعتقد أنك الآن قد شفيت ويمكننا مواصلة التحقيق.. أليس كذلك يا دكتور.؟؟»

- دق قلب محمود إشفاقًا هو يعلم معنى كلمة التحقيق إنها السياط والحرق بالنار والركلات والصفعات وسيل السباب والشتائم البذيئة والادعاءات الكاذبة التي لا أصل لها، ليته مات منذ البداية إن العناء الذي يتعرض له يبدو أنه لا نهاية له من أين نبتت فكرة حيازته للسلاح في ذهن عطوة بكل، إنه لا يملك سلاحا وزملاؤه في القضية لم يذكروا شيئا عن ذلك وكل الشواهد والقرائن تبرئ ساحته من هذه التهمة، «يا ويل البريء الذي يدخل السجن الحربي..» نعم صدق محمود فيما يقول لأن المتهم عنده ما يقوله من الاعترافات ومن ثم يستطيع أن يضع حدا للعذاب القاسي الذي يتعرض له ولا بأس بعد ذلك أن يقدم إلى المحكمة ويحكم عليه بالموت أو السجن المهم أن يكون لهذا الإرهاب الدموي نهاية حتى ولو كانت الموت لكن البريء ماذا يقول ؟؟ أيخترع القصص ويؤلف الجرائم ثم سنسبها إلى نفسه زورا وبهتانا..؟

- «إن جلد قدميه منزوع تماما بسبب الضرب والجروح ومن المستحيل أن يمشي على قدميه..»

- قال عطوة باستهتار:

- «بسيطة.. نستطيع أن نحمله على محفة إلى مكاتب التحقيق..»

- رد الطبيب هامسا في آذن عطوة:

- «إن أي إصابات جديدة سوف تقضي عليه..»

- «وماذا في ذلك؟؟ لن تخرب الدنيا بعده.. كلب وخفي..»

- «يا عطوة بك قضيته لا تسحق ذلك كله.. إنها غير ذات موضوع...»

- ابتسم عطوة وقال:

- «أنت طبيب أم محام؟؟»

- «أنت تعرف..»

- «وملاذا لا يعترف ويخلص نفسه..؟؟»

- كانت الشمس تغمر المكان برغم صغر النوافذ والقضبان المتشابكة التي تغطيها وتذكر محمود رحمة الله وفضله عليه، لقد جاء إلى المستشفى وهو في أمس الحاجة إلى بعض المضادات الحيوية وإلا فتكت الميكروبات وسمومها بجسده واعتذر الطبيب لعدو وجود أية حقنة بنسلين وهي أبسط الأشياء، بل لم يجد قرصا واحدا من أقراص السلفا ديازين، وذات يوم فوجئ محمود بالتومرجي يحضر له عشرة حقن بنسلين ستربتوميسين وغمغم محمود لحظتها.

- «من أين؟؟.»

- «اسكت ولا تسأل»

- «بربك .. أريد أعرف..»

- «اشتراها لك إخوانك في السجن الكبير عندما علموا بالأمر.. بل اشتروا لك ولغيرك .. أحضرت مائة حقنة، وأتدري كم ثمنها؟»

- «كم..؟؟»

- «مائة جنيه..»

- «وكيف استطاعوا أن..»

- «لا تسأل قلت لك اشتروها من الخارج .. لقد كلفتهم كثيرا الحقنة التي ثمنها أربعة قروش دفعوا فيها جنيها..»

- «لكن ليس مع أحد من المعتقلين نقود..»

- قال التومرجي في ضيق:

- «اتعالج وأنت ساكت.. هل تجري معي تحقيقا؟؟»

- وتذكر محمود الليالي التي عانى فيها من الحمى والهذيان والأحلام المختلفة بل أن أذنيه التقطتا ذات مساء وصوتا إلى جواره يقول: «إن لله وإنا إليه راجعون.. أشهد أن لا إليه إلا الله، وأن محمدا رسول الله.. أديروه صوب القبلة وتشهدوا عليه جميعا...» لكنه لم يمت لم يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها.. ألا يفكر عطوة بك ورؤساؤه العظام أنهم سوف يموتون يوما ما وسيتركون هذه الدنيا بكل ما فيها من سلطان ومجد ومال؟؟؟

- وأفاق محمود من أحلامه كان الطبيب يقف ساهما وعطة بك يفكر فيما قاله الطبيب وغمغم عطوة بك:

- «في القصر الجمهوري يظنون أن محمود يخفي شيئا هاما..»

- «قال الطبيب:

- «الظن شيء .. والحقيقة شيء آخر..»

- «وماذا أفعل؟؟»

- «تستطيع أن تقنع المسئولين الكبار بوجهة نظرك أنت هنا على بينة من الأمر أكثر منهم..»

- «لا وزن لرأي أن ظنهم فوق يقيننا..ولا عبرة بما تقول..»

- وخطا عطة خطوات بعيدا عن مكان محمود وإلى جواره الطبيب واستطرد عطوة يقول:

- «لا حيلة لي في الأمر .. إما أن يعترف بالسلاح ويدل عليه أو يموت حتى يصبح السلاح بلا يد تشغله..«لا حيلة لي في الأمر .. إما أن يعترف بالسلاح ويدل عليه أو يموت حتى يصبح السلاح بلا يد تشغله..»

- «وإذا لم يكن لديه سلاح يا عطوة بك»

- «هز عطوة كتفيه دون اكتراث وقال:

- «لن نخسر شيئا..»

- «بل سنخسر روحا..»

- «وماذا في ذلك.. مجرد ذرة في محيط.. حبة رمل في كون هائل من التلال الرملية .. لن يختل نظام الكون إذا مات محمود يا دكتور..»

- «قتل النفس بغير حق جريمة..»

- «الحق هو ما يقرره أصحاب السلطة لا نحن هم أدرى بأمن الدولة يا دكتور لا تجعلني أغضب وأضعك في زنزانة أنت الآخر أو على الأقل أطلب نقلك..»

- وعلى الرغم من الطبيب وجد نفسه يقول:

- «يا ليت!!»

- ثم التفت إليه عطوة كمن تذكرا أمرا هاما وقال:

- «أنسيت أنك اقترحت أثناء تعذيبه الإبقاء على حياته، حتى نستفيد منه مستقبلا ولعله يعترف إذا ما بدأنا معه نفس الإجراءات بعد شفائه؟؟»

- «لم أنس يا عطوة بك»

- «ماذا إذن؟؟»

- «لقد فكرت طويلا..»

- «فيم..؟؟»

- أعني أنه ليس هناك إنسان يضحي بحياته كي يخفي قطعا من السلاح إن التعذيب العاتي الذي نعرض له كان كفيلا بأن يجعله يخرج كل ما في جعبته من أسرار ولهذا أعتقد أن كل من ماتوا هنا لم يكن لديهم جديد ليقولوه..»

- وهرول أحد الجنود صوب عطوة بك ودق الأرض بقدمه وأدى التحية وهو يقول:

- «تليفون يا أفندم..»

- كان عطوة بك ينتظر مثل هذا التليفون الهام، ولهذا أسرع خارج ونسي وراءه محمودًا ونسي الطبيب الذي تنهد في ارتياح وعاد الطبيب صوب محمود وأخذ ينظر إلى وجهه الشاحب وعينيه الصافيتين وتمتم:

- «كيف حالك..؟؟»

- «الحمد لله.. أشكرك يا دكتور..»

- «على ماذا؟؟»

- قال محمود والدموع تبلل أهدابه الطويلة:

- «سمعت طرفا من الحديث وما لم أسمعه استطعت أن أفهمه..»

- قال الطبيب في جد وهم يرسم على وجهه علامات البرود القاسي:

- «ماذا سمعت.؟؟»

- دار محمود بنظراته الشاردة داخل العنبر وقال:

- «كان جدي رحمة الله من المتصوفين، وكان يردد أبياتا من الشعر الصوفي في حب الله والوجد الفاني في العبادة والذكر، سمعته مرة يقول:

قلوب العاشقين لها عيون
ترى مالا يراه الناظرونا
أجنحة تطير بغير ريش
إلى ملكوت رب العالمين

- ووضع الطبيب يده برقة وحنان على كتف محمود وقال:

- «محمود أنت شاب لو سجنت عاما أو أعواما فسوف تخرج إلى الحياة إن عاجلا أو آجلا.. ولهذا من الضروري أن تبقي على حياتك.. »

- قال محمود:

- «ماذا تقصد يا دكتور؟؟»

- «لو كنت تعرف شيئا عن السلاح فلتبادر بالإرشاد عنه ثمنا لحياتك..»

- نظر إليه محمود بعينيه الصافيتين؟. قال

- «أنت تعرف الحقيقة..»

- «لكنهم لن يصدقوك يا ابني»

- «وماذا أفعل؟؟»

- هز الطبيب رأسه في حيرة وأسف ولوى شفتيه قائلا:

- «لا أدري ..»

- لو كانت مكاني ماذا تفعل يا دكتور؟ أقسم لك لو كان في استطاعتي أن أخرج واشتري سلاحا ثم أخبئه في مكان ما لفعلت كي اعترف عليه وأرشدهم إليه حتى يكفوا عن تعذيبي لكن ما حيلتي..»

- كاد الطبيب أن يبكي لكنه تماسك وعض على شفته السفلى في عصبية ثم رفع يده عن كتف محمود ومسح بها على رأسه العاري، وغمغم هو ينصرف خارجا:

- «ربنا معاك..»

- أمسك عطوة بك بسماعة التليفون في توتر هتف:

- «ألو .. نعم مفهوم.. في الإسكندرية تقول؟؟ في أي فندق؟؟

- فندق مصر؟؟ آه.. في أي داهية هذا الفندق؟؟ .. متأكد ؟؟ طيب .. بلغ سلامي لعبد المجيد بك.. أشكره كثيرا . اسمع خد بالك .. راقب الفندق بدقة.. سامع؟؟ مع السلامة.. لا تتحرك حتى احضر بنفسي.. آه بنفسي .. باي بابي يا جميل..»

- وضع عطة بك السماعة كان منفعلا لكنه كان سعيدا أخذ يجفف العرق المنهمر على جبينه الأشقر ثم أشعل سيجارة وأخذ يجذب أنفاسها في تلذذ وغرور، وأخرج زجاجة ويسكي في درج المكتب وصب لنفسه كأسا جرعها دفعة واحدة وسمع أحد الضباط المباحث من خلفه يقول

- «من يشرب وحدة ي.»

- قاطعه عطوة قائلا:

- «تعالى اطفح .. أعرفك ..دنيء .. وشحاذ.. وابن كلب..»

- واختلطت الضحكات المسعورة..

- لقد عرف عطوة كل شيء عن «نبيلة» فعن طريق عيونه وجواسيسه استطاع أن يعلم أنها سافرت إلى الإسكندرية وحطت رحالها في مكان مجهول الخبيثة أرادت أن تهرب منه إن قلبه يؤكد له ذلك، كما علم أيضا أن الطيب المعالج أشار بالاستجمام لفترة نقاهة لا تقل عن أسبوعين إن له مع هذا الطبيب حسابا عسيرا فيما بعد.. وعن طريق الاتصال بأصدقائه من رجال المخابرات في الإسكندرية أمكنه أن يدبر الأمر معهم وكانت المشكلة سهلة بالنسبة لهم، مجرد أمر بسيط بتكليف كل صاحب فندق أو بنسيون بالإبلاغ عمن نزلوا عنده.. وهكذا لم يستغرق الأمر يومين أو ثلاثة ووضع يده على المكان الذي ينزل فيه «الغزال الشارد» على حد قوله.. وقرر عطوة أن يسافر فجر الغد في قطار الصحافة ثم عدل عن ذلك وقرر أن يسافر في سيارته الخاصة التي أهدتها له السلطات العليا تقديرا لخداماته وتعبيرا عن الشكر لوفائه والتزامه وعزم على أن يقودها بنفسه وبذلك تكون نبيلة إلى وجواره عندما يتنزهان في النهار وعندما يقضيان سهراتهما الشائقة في الملاهي ودور السينما..

- وفتل شاربه الأصفر وهو يقول:

- «أنا عطوة والأجر على الله.. أن وراءك والزمان طويل..»

- استدعي عطوة بك نائبه قائلا:

- «اسمع لن أحضر للعمل غدا.. أوصيكم بالكلاب.. لو خدش واحد منهم أو مرض فلن أرحم أحدا..»

- قال نائبه:

- «والتحقيقات ...؟؟»

- «تستمر كما هي ولا يغلق أي محضر حتى أعود..»

- «وباقي المعتقلين؟؟»

- «أغلقوا عليهم أبواب الزنازين طوال اليوم..»

- «ألا يخرجوا لدورات المياه والمراحيض..»

- «كلامي واضح لا خروج من الزنازين ولن يحدث لمعتقلين شيء إذا اعتكفوا نصف يوم في حجراتهم..»

- واستطرد ساخرا:

- «وهم يعشقون الاعتكاف ليعبدوا الله...»

- وخرج عطوة إلى الساحة الحمراء نفس المشهد الذي لم يتغير منذ زمن طويل اللهم إلا تغيير الأشخاص إنه لا يكاد يرى شيئا، فخياله ينطلق إلى بعيد حيث الثغر الوادع وماء البحر الأزرق وشارع كورنيش الإسكندرية الجميلة والليالي الحمراء تحت الأضواء الخافتة والدافئة.. إنها أروع بكثير من الشاطئ والمناظر الطبيعية وشعر بقدر غير قليل من الارتياح والثقة بالنفس وثقته بنفسه مستمدة من الإمكانيات الواسعة المسخرة له، لقد استطاع معرفة مكانها وسوف يفاجئها هناك سيحاصرها بسلطانه ونظراته وذراعيه وسيعتصرها اعتصارا ولو استطاع أن يلتهمها لا لتهمها كما تفعل بعض القبائل في المناطق البدائية المختلفة لو لم يكن مصريا لكان واحدا من أكلة لحوم البشر لا شك أن هؤلاء الناس لا يعانون من أية عقدة قد يسيرون عراة وقد يأكلون لحوم البشر. ويفعلون ما يحلو لهم.. أية سعادة تلك ذات مرة رأى جنديا يعذب معتقلا نعم هو يذكر ذلك تماما.. لم يكتف الجندي بالسياط الذي في يمينه.. ورأى عطوة مشهدا غريبا لقد انقص الجندي على أذن المعتقل طالب الطب «محمود الشاوي» ونهشها بأسنانه وسعد عطوة يومها أيما سعادة وأعجب بالجندي إعجابا شديدا، فأسرع إليه وقدم له مكافأة خمسين قرشا، وأمر بأن يرقى إلى رتبة أعلى لقد أضاف إلى ذراعه شريطا وفي اليوم التالي تحول عدد كبير من الجنود إلى «عضاضين» وكانت نكتة طريفة ضحك لها عطوة ورفاقه وأخيرا وضع حد لهذا التصرف بقوله:

- «إنكم أيها العساكر يجترئون على حق كلابي الكلاب وحدها هي المسموح لها بالعض لأنكم لا تتقنون هذا الفن مثلهم أو تتلذذون به» وعاد عطوة في المساء ليعد العدة للرحيل إلى الإسكندرية..

الفصل الثاني عشر

كانت نيلة تجلس في غرفتها بالفندق، والهدوء يغمر نفسها، لقد نامت نوما عميقا وأدت صلاتها قبل أن تشرق الشمس، ثم تناولت إفطارها البسيط المكون من الفول والجبن وكوب الشاي الممزوج باللبن، إن الأيام الماضية مرت وادعة لا يعكر صفوها معكر، ولم تتعرض لأي انفعال طاغ اللهم إلا في اليوم الأول عندما سطرت رسالة بكل ما جرى لرئيس الدولة وانتهت رسالتها بقولها: إن هذا لا يمكن أعني لا يصح أن يحدث في عهدك أنت يا من ثرت على الطغيان وأنهيت حكم المملكة الفاسدة وخطوت خطوات واسعة نحو العدل الاجتماعي الذي ينشده الجميع، فكيف يتفق هذا مع اغتصاب الأبرياء، والقسوة على أبناء الشعب دون مبرر معقول ونحن جميعا إخوتك وأخواتك، وأبناؤك وبناتك، وإذا كان البعض يحلو له أن يبالغ في إجراءات القمع باسم الحفاظ على أمن الدولة وحماية أرواح المسئولين فإني اعتقد أنت لن ترضي بمثل هذه التصرفات التي لن تختلف وراءها سوى الحقد والخوف والسلبية وقهر المواهب وكبت الآراء الحرة، ما دام مجرد الرأي أو النقد البناء سوف يعرض صاحبه للانتقام أو السجن أو الفصل في العمل وأخيار لك يا سيادة الرئيس كل حب وتقدير ودعاء من الأعماق بأن يوفك الله لما يحب ويرضى..» وأطلت نبيلة من النافذة الشرقية حيث تتألق الشمس فتشع الدفء والبهجة كانت سعيدة بهذا الجمال الذي يحيط بها وبالهدوء الذي يسود المكان أين هذا من تلك الزنزانة المظلمة في قلب المخابرات العامة.؟؟.

ووثبت إلى ذهنها صورة المرأة التعسة التي تطفر الدموع من عينها ويمتلئ وجهها الأبيض الشاحب بالكدمات والخدوش «مسكينة سلوى!! ترى ما مصيرها الآن؟؟ ليتها كتبت طرفا من قصتها إلى الرئيس.» وبدا على وجهها طائفة من الحزن ارتسم على ملامحها ونظراتها وتنهدت في حسرة وبدا على وجهها طائف من الحزن ارتسم على ملامحها ونظراتها وتنهدت في حسرة وحاولت أن تنسى فاختطفت جريدة الصباح.. صورة الرئيس حسرة وحاولت أن تنسى فاختطفت جريدة الصباح صورة الرئيس كالعادة على الصفحة الأولى العناوين «أو المانشتات» الحمراء ترفع الشعارات الرنانة ومزيد من القرارات ضد الإقطاع والرأسمالية المستغلة والرجعية المتآمرة مع الاستعمار والصهيونية وبرقيات التأييد التي تتدفق بمناسبة وبغير مناسبة والمحاكمات المستمرة وصورة المتهمين وهو حليقو الرؤوس والاعترافات ومقالات عن السخط الشعبي والصاخب إزاء المؤامرات والمتآمرين وسباب وشتائم ضد الحكومات العربية الأخرى والتي يطلق عليها الدولة الرجعية وبحثت نبيلة عن قصة قصيرة أو قصيدة شعر لتقرأ أيا منهما فلم تعثر إلا على بعض أبيات بالعامية تمجد الثورة والثوار حتى الكاريكاتير الذي تحبه وجدته يعالج موضوعا سياسيا يعني الهجوم على رئيس فرنسا. .وقلبت الصفحة لتقرأ حظها في برج الجوزاء فوجدت كلمات تقول: «أنت على موعد مع الحظ.. لا تدع الفرصة تفوتك الليلة» لوت شفتها السفلى في ازدراء.. ثم جالت في مربعات الكلمات المتقطعة أمسكت القلم وهمت بوضع الحروف لكن الملل ينتابها فكرت في أن تذهب إلى دار للسينما تعرض فيلما أجنبيا شهيرا وانتهت إلى ذلك الرأي ستذهب إلى حفلة الصباح وعادة ما تكون هادئة بعدها سنخرج لتناول طعام الغذاء في محطة «الرمل» حيث الزحام والحركة والحيوية الدافقة والسيارات المتلاصقة وأصوات الباعة عند المحطة الرئيسية للترام، وحيث الكتب الكثيرة التي تغمر الأركان بأغلفتها الزاهية الجذابة لم يزل أمامها بعض الوقت ولذلك أخت ترتدي ملابسها بإمعان ودقة وأخذت تضع اللمسات الخفيفة على وجهها الفاتن.. إن الجو يميل إلى البرودة ولذلك وضعت «إيشارب» على رأسها كما لبست جوربا طويلا وفستانا ضافيا ذا أكمام طويلة وبلوزة صوفية حمراء دق الباب دقتين.

- «ادخل..»

- «لا شك أن الخادم قد عاد لأخذ الأطباق والأكواب الفارغة.»

- «وعندما فتحت الباب رأت صورته في المرأة جمدت في مكانها لحظة ثم هتفت وقلبها يدق من هول المفاجأة:

- «من عطوة؟؟»

- «قهقة ف سعادة وهو يقول:

- «أينما تكونوا يدرككم الموت لو كنتم في بروج مشيدة..»

- «التفتت إليه في دهشة وقد شحب وجهها:

- «أعوذ بالله..»

- خطا إلى الداخل وهو يغلق الباب وقال:

- «مفاجأة ظريفة لا شك.. ألا ترحبين بصديق عزيز..؟؟ لم تكوني تتوقعين حضوري.. لن يستطيع الشيطان نفسه أن يهرب من عطوة..»

- ثم أحاطها بذراعيه قائلا:

- «لا شك أنك سعيدة بمقدمي، فالوحدة قاتلة..»

- «ومال عليها يريد تقبيلها لكنها أفلتت منه بلباقة ودفعته بهدوء وهي تقول:

- «ألا تجلس لتستريح وتشرب القهوة؟؟»

- عبرت سحابة من الضيق على وجهه:

- «هذا الدلال يقتلني»

- «عيب يا عطوة»

- «هل هناك عيب بين رجل وامرأته؟؟»

- «لم نتزوج بعد يا عطوة»

- «لا أطيق هذا الكلام لم أجئ من القاهرة لألعب..»

- «التفتت إليه قائلة:

- «كيف عرفت مكاني؟؟ لم أعط لأحد عنواني بالمرة؟؟»

- «قلبي دليل..»

- قالت في شك:

- «قلبك؟؟»

- «نعم يا روحي..»

- «يقولون إنه لا قلب لك..»

- «لو لم أحبك لما أتيتك متلهفا..»

- «لم يأت بك قلبك...»

- «ماذا إذن؟؟»

- «رغبة آثمة تضج في جسدك..»

- ضحك عطوة وقال:

- «القلب جزء من الجسد .. والدم الذي يتدفق منه.. يسري في كل أنحاء الجسم..هكذا يقول أخي الطبيب.. فالقلب عضلة من العضلات..»

- «الوصف المادي ليس هو كل شيء...»

- «تهربين من الحقيقة..»

- شردت نبيلة بنظراتها وهمست:

- «إذا كان القلوب متشابهة في تكوينها، فلماذا الشر ولماذا الخير؟؟

- لماذا يعشق قلب، ويحقد قلب؟؟»

- قال عطوة في ضيق:

- «القلب يجمع النقيضين معا..»

- «بنسبة واحدة يا عطوة؟؟»

- «لا أعرف..»

- «أنت لا تعرف من الحقيقة إلا القشور»

- «لا أطيق الفلسفة..»

- أطبق عليها بجماع قوية، وضمها إلى صدره في عنف وقال:

- «سأجعلك تنسين كل الفلسفات القديمة الصدئة.. نحن في القرن العشرين حاولت أن تفلت منه فلم تستطيع شعرت بأنفاسه تقترب من وجهها كانت ذراعاه تحيطان بها كأطواق من الصلب تحاصرها بلا رحمة، لامست شفتاه شفتيها حتى كاد يكتم أنفاسها ماءت كقطة توشك أن تختنق سحبت يدها ثم هوت بها على وجهه الأبيض المشرب بالحمرة.. تراجع قليلا بعد أن فك ذراعية وهو يبتسم ويقول:

- «إنني أعبد الشراسة وقلة الأدب..»

- «ليس لك كرامة..»

- «ما صلة الكرامة بما نحن فيه؟؟»

- «اتركني وحدي..»

- «هذه المرة لن يحدث..»

- «سوف أقذف بنفسي من النافذة»

- قال في بلاهة ولعابه يسيل:

- «سيكون ذلك قمة الروعة.»

- صرخت في غيظ:

- «كلب»

- «قولي ما شئت»

- لن تمتلكني بالقوة..»

- «بماذا إذن؟؟»

- «بالسلوك المهذب الرقيق..»

- «لقد فشلت معك كل الطرق يا حبيبتي..»

- «لأنك لا تفكر كإنسان متحضر..»

- «يا بلهاء .. ليس التحضر كما تتصورين..»

- ثم أشعل سيجارة وجلس على مقعد قريب من النافذة ونفخ سحابة كبيرة الدخان وهو يقول:

- «إذن فأنت مصرة على عقد القرآن أولا؟؟»

- «لم ترد عليه بحثت عن حقيبتها وأخذت تدس فيها بعض الأشياء الصغيرة وسمعته يقول:

- «إن من يصفع عطوة يدفع الثمن غاليا..»

- «ومن يحاول اغتصابي لا يستحق إلا القتل..»

- «أنت لي يا حبيبتي.. الاغتصاب يكون لشيء لا نملكه..»

- «لست جارية..»

- «باسم الحب أنت لي..»

- «الحب ليس قهرا واغتصابا..»

- «أفهم من ذلك أنك لم تعودي تحبينني»

- صمتت برهة ثم قالت:

- «عطوة»

- «عيون عطوة.»

- «أرجوك.. إنني في طور النقاهة.. الوقت ليس مناسبا لأن نلتقي لقد أكد لي الطبيب أنني مصابة بانهيار عصبي وتصرفاتك قد تسبب لي نكسة.. دعني بحق اله حتى أشفى.. إنك تقسو على من حيث تعتقد أنك تسعدني.. إن عشرة أيام لا تعني شيئا..»

- «نظر إليها بعينين تتقدان حقدا:

- «معي ذلك أن أعود إلى القاهرة بخفي حنين.. وأنا الذي ظننت أني سوف أفتح عكا..»

- حاولت أن تصطنع جوا من المرح فقالت:

- «عكا.. ؟؟ استولى عليها اليهود من قديم.. تغيرت الأسماء والمعالم والناس..»

- «والله فتحها أسهل منك.»

- «تأدب يا عطوة..»

- قهقه بصوت عالي حتى اغرورقت عيناه..

- قالت: «سأخرج»

- قال: «إلى أين؟؟»

- «السينما هل تأتي معي حتى لا تعدو بخفي حنين؟؟»

- «قلت لك إن مثلي لا يصح أن يدخل الحفلات العامة..»

- أدركة أنه يعاني من أزمة كبرياء حادة وأنه يشعر بجرح عميق أصاب نفسه المتغطرسة ففكرت في حل ابتسمت ثم اقتربت منه، وأمسكت بيده قائلة:

- «سوف تذهب معي الحفل الصباحي..»

- وضحكت وهي تقول:

- «ستكون مثل صبية المدارس الذين يهربون من فصولهم ويدخلون السينما.. لن ترفض دعوتي برغم أنف الحكومة وتعليمات الرئاسة..»

- نظر إلى وجهها الملائكي الطاهر وابتسامتها الحلوة الحزينة وسرعان ما اجتاحته موجة عارمة من اللامبالاة.. وهمس:

- «سوف آتي معك ... فلنجرب..»

- «أشكرك يا عطوة..»

- «قال وهو يقف أمام المرآة والسيجارة في زاوية من زاويتي فمه، ويده تمر على شعره وشاربه المفتول:

- «يا للعار!! نبيلة تجر وراءها عطوة الملواني فيمضي وراءها ذليلا مستسلما كالحمل الوديع..»

- «قالت نبيلة وهي تحاول أن تنسيه هذه المشاعر:

- «ألا تحب الدراما؟؟»

- «ما هي الدراما؟؟»

- «الروايات العنيفة المثيرة ذات الأحداث الباكية..»

- قال عطوة في استهتار:

- «أعيشها كل يوم..»

- «هذه الرواية التي نراها اليوم لون جديد..»

- «ماذا تعنين؟؟»

- «كل إنسان يرى فيها ذاته..»

- «كلنا.. نحن نخدع أنفسنا..»

- «أنا يا حبيبتي لا أجهد نفسي في الغوص إلى الأعماق إنني أرى الأشياء في ظواهرها وهذا يكفي..»

- قالت وهي تمسك بذراعه في شيء من التودد:

- «التعمق يفتح أمامك أبواب عالم رائع ملئ بالأسرار والأعاجيب»

- «هراء..»

- «ذلك العالم الذي يسكن الأعماق هو الحقيقة..»

- «معنى ذلك أن تسعين في المائة من الناس لا يعرفون الحقيقة..»

- قالت:

- «ليس هذا بالضبط ولكن كل إنسان يدرك منها بقدر استطاعته..»

- التفت إليها في غضب:

- «لماذا هذا العناء كله.؟ لماذا لا نأخذ الدنيا ببساطة ويسر؟؟»

- «بالعمق والصدق وحدهما يتميز الإنسان»

- «أحكام طائشة..»

- «يقول الله ﴿وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾ كما أنه يعونا إلى التأمل والتفكير فيما حولنا .. لو لم يكن هذا في صالحنا لما دعتنا إليه السماء..»

- غمغم:

- «نحن في الأرض..»

- «ولماذا لا نتسامى.؟؟»

- «ليس لدينا أجنحة..»

- «بل لدينا..»

- قهقه في ضجر وقال:

- «فلنذهب إلى السينما.. وعندما أعود إلى القاهرة سوف أقول لأصحابي إنني ذهبت إلى السينما عندئذ سيسخرون مني..»

- «قال وهي تتناول حقيبة يدها:

- «وما دخل أصحابك بنا؟؟»

- «إنهم أصحابي . ثم هم عقلاء.. الحياة في نظرهم إنجاز وعمل وغزوات وانتهاز الملذات..»

- «همت أن تقول له إنهم مجموعة من الحيوانات المفترسة لكنها رأت أن ذلك يقد يهدم ما بنته من اتفاق هش، فابتسمت قائلة في حركة دعابة مسرحية:

- «والآن إلى السينما..»

الفصل الثالث عشر

لم يعد عطوة يطيق هذا الأسلوب في المعاملة لم يكن يتصور أن هناك امرأة تتصرف على هذا النحو مع خطيبها المحترم ذي المركز القوي إن أشباهه من الرجال في مراكز السلطة المختلفة يطلبون فتنفذ مطالبهم على الفور فهو يذكر أن إحدى الفنانات قد استعصت على أحدهم فأتوا بها قسرا تحت سمع وبصر أهل بيتها ولم تجد مناصا من أن تستسلم لنزواتهم، وهناك عشرات القصص والحكايات جرت بعلمه وفي كثير من الأحيان كان شاهد عيان.. ولماذا يذهب بعيدا؟؟ أن بعضهم مصاب بالشذوذ الجنسي. هو نفسه يتهمونه بذلك وكل ذلك لا دخل له في الحكم على أقدار الرجال منهم يكفي أن يكونوا مخلصين للحكم وليفعلوا بعد ذلك ما يشاءون لا مانع من أن يرتشوا أو يختلسوا أو يستولوا على أملاك الغير بالقوة أو يتجروا في الأوراق المالية المهربة والتي يطلقون عليها العملة الصعبة، أو يشاهدوا الأفلام الجنسية الصارخة البذيئة في مجالسهم الخصاصة ويطبقون ما يشاهدونه عمليا وسط جو من الانحلال والاستهتار لا يعبأ بشيء، ولماذا نذهب بعيدا؟؟ إنهم يدرسون السم لأعداء الحاكم أو يغتالونهم سواء في الداخل أو الخارج وقد يدبرون اختطافهم في أجولة ويشحنونهم في الحقائب الدبلوماسية أشيئا كثيرة تجري على أرض الوطن وخارجه دون وازع من ضمير أو دين هذه الأمور كلها أصبحت أمرا مألوفا وهي ثمن الإخلاص والتفاني في سبيل الحاكم ولقد كانت هناك فئة قليلة من الرجال تأنف من هذا الأسلوب المنحط ولا تشارك فيه وتلجأ إلى أضعف الإيمان ألا وهو رفض ذلك السلوك بالقلب.. كانوا يرون الأعاجيب تجري أمام أعينهم فينصرفون عنها دون كلمة، وينفذون ما يلقى إليهم من أوامر رسمية دونما إفراط أو تفريط ولقد كان أحد الضباط «الصالحين» يجري تحقيقا مع أحد الإخوان في وجود عطوة وكان ذلك الضابط يمسك مسبحة ويستغفر الله عليها والسياط تنهال على المتهم المسكين الذي يستغيث ولا مغيث ولم يزد على أن قال:

- «يا ابني اعترف حتى تنجو من هذا العذاب. .. هؤلاء ليس في قلوبهم رحمة، ولن يتركوك إلا إذا اعترفت..»

- «يا بك أنت تعرف أني لا أخفي شيئا..»

- «وهو الضباط «الصالح» ذو المسبحة رأسه وقال:

- «أنا لا أعرف شيئا لا شأن لي بك.. أنا أسجل فقط ما تقول..»

- «فلتحمني مهم .. أنا مظلوم..»

- «أنت تحمي نفسك إذا اعترفت..»

- لقد نفذ صبر عطوة ولابد أن يصل إلى نتيجة مهما كان الأمر لقد فكر في خطف نبيلة كما يفعل بعض ذوي السلطة لكنه كان أضعف من أن يفعلها لأن مركزه أقل منهم بكثير، ثم إنه يخاف أن ينكشف الأمر، فيطرد من منصبه الخطير، وهو أشد ما يكون حبا وتمسكا بمنصبه، الخطير، وهو أشد ما يكون حبا وتمسكا بمنصبه لو خرج منه لمات.. كما يموت السمك.. إذا خرج من الماء، ولذلك عزم على أن يتزوجها لأسبوع .. لشهر.. لشهور.. ثم يرمي بها حقيرة ذليلة في الشارع بعد أن يكون قد نال بغيته منها وروي ظمأه إليها، إنه شديد الملل ولا يطيق الحياة مع امرأة واحدة لفترة طويلة ولا مع رجل واحد.. لا شك أن ذلك يعتبر تراجعا منه عن الخط الذي رسمه لنفسه.. لكن الحياة كر وفر لقد تعلم ذلك أبان معركة فلسطين والحياة العسكرية مناورات لقد دخل معها للسينما في الإسكندرية كانت مندمجة تماما في تماما في متابعة الفيلم أمسك بيدها فلم تمانع تشجع وقبل ظاهر يدها في الظلام نظرت إليه بعينين تبرقان في الضوء الشاحب الضئيل ثم عادت إلى مشاهدة الرواية التي استولت على كل مشاعرها أدرك أن يدها باردة كالثلج لا حياة فيها ولا روح.. إنها بالموتى أشبه تململ في مقعده، نظر إلى الشاشة فلم يفهم شيئا من الحوار الساخن الذي يدور بين الأبطال لم يلفت نظره إلا النساء الجميلات وهن يتحركن حركات محسوبة.. ولذلك مر الوقت ثقيلا عن نفسه حتى أخذ يزفر في ضيق تمني أن ينتهي الفيلم في أسرع وقت ممكن عاد ينظر إلى نبيلة إنها لا تكاد تعي شيئا مما حولها بسب اندماجها في وقائع القصة، قال عطوة:

- «ما الذي يعجبك في هذا الفيلم..؟؟»

- التفتت إليه كمن تفيق من حلم:

- ماذا يقول يا عطوة..؟؟»

- «القصة كلها كلام فارغ..»

- «كيف؟؟ إن فكرتها رائعة.. ألا ترى..؟؟»

- «لقد تصدع رأسي..»

- فتحت حقيبتها وهي تقول:

- «معي أسبرين..»

- قال في ضيق:

- «لا تتعبي نفسك.. سوف أشعر بالراحة عندما أخرج من هذا المكان الذي أكاد اختنق فيه..»

- عادت تنظر إليه في دهشة:

- «هذه القصة فازت بجائزة الأوسكار وعشر جوائز عالمية أخرى..»

- هز كتفيه دون اكتراث وقال:

- إن ما يعجب الأجانب قد لا يعجبني..»

- «لكن هناك مستويات رفيعة لا يختلف عليها مجموعة الناس..»

- وعادت لترقب مشاهد الفيلم المثير، أما هو فقد رجع بخياله إلى السجن الحربي عالمه الحبيب تذكر الكلاب إنه قلق عليها، لكن لن يجرؤ أحد على أن يقصر في حقها، وتذكر المعتقلين المنفيين خلف الأبواب المغلقة كاد يدرك في قرارة نفسه أن الضباط المحققين لا يؤدون واجبهم كاملا إلا في وجوده، ولهذا تضاعف قلقه.. يجب أن يذهب على الفور بعد أن يتناول طعام الغذاء مع نبيلة ثم لا يذهب إلى بيته بل لابد من المرور على السجن الحربي أولا حتى يطمئن على سير العمل.. إنه يشعر بالسعادة القصوى وهو جالس خلف مكتبه...

- وأفاق من أفكاره على جسد نبيلة وهو يهتز بصورة ملفتة للنظر كانت تذرف الدموع وتشهق من البكاء قال في ذعر:

- «ماذا جرى..؟؟»

- «إنه شيء رهيب..»

- «لا أفهم..»

- «ألا ترى؟؟ لقد قتل الطغاة حبيبها..»

- «وماذا في ذلك؟؟ الناس يموتون كل يوم..»

- «كان شريفا صادقا.. وأحبها أروع ما يكون الحب.. وعاش كالنبي في قلب مجتمع يقدسه إنها جريمة بشعة..»

- عاد عطوة يمسك بيدها ويقول:

- «هذه قصة خيالية..»

- «لكن أحداثها منطقية.. وتعبر عن واقع الحياة..»

- «هذه أمور للتسلية..»

- «وللتهذيب أيضا يا عطوة..»

- «يا حبيبتي السينما تجارة...يأخذون فلوسكم ويحقنونكم بمخدر لطيف..»

- «ليس دائما..»

- هب من مكانه واقفا وقال بحزم:

- «هيا بنا..»

- «كيف.؟.. لم تنته القصة بعد»

- «لقد مات البطل..»

- «الموتى ليس النهاية يا عطوة.. البطل باق..»

- «باق للدفن..»

- «كلا الناس سيثورون انظر .. لقد أحاطوا بالمجرمين .. ألم أقل لك ؟؟ القصة لم تنته بعد.. والبطل مات جسدا لكن أفكاره حية تفعل فعلها انظر لقد امسكوا بهم.. إنهم يسوقونهم أذلاء . هذا هو الموت الحقيقي.. انظر»

- عاد عطوة للجلوس مرة أخرى، وقبض على يدها في عنف وهو يقول:

- «هل جننت يا نبيلة؟ الناس تنظر إليك..»

- «وها هي البطلة..»

- «قولي الأرملة..»

- «إنها تحمل الراية من بعد زوجها الشهيد..»

- «كوني عاقلة يا نبيلة... هذا لا يحدث..لسوف تبحث لها عن رجل آخر، المرأة لا تعيش بغير رجل خاصة في أمريكا..»

- «أنت لا تفهم القصة..»

- قالتها وهي مركزة بصرها على الشاشة، ضحك عطوة وهمس:

- إنني استطيع أن أتوقع أية أحداث بمجرد مشاهدة الجزء الأول من القصة..»

- القصة في حد ذاتها ليست شيئا .. المهم هو دلالة الأحداث..»

- «ما معنى دلالة الأحداث..»

- لم تجب على سؤاله كانت مشدودة إلى ما يجري أمام بصرها ووجد عطوة نفسه مضطرا لأن يجلس صامتا إلى جوارها حتى تنتهي القصة وتظهر كلمة النهاية عليه أن يصبر ويحتسب فالنساء في رأيه كالأطفال يتشبثن بالأشياء التافهة والأساطير الخرافية ولهذا فهن لا ينفعن لغير السرير والزينة واللهو يخطئ من يظن أن لهن رسالة أو مبدأ ليس لهن إلا المتعة واللعب والثرثرة، يبدن أن درس الاعتقال ليوم واحد لم يعلمها شيئا ذا قيمة، كان يسمع في القرية «اكسر للبنت ضلع يطلع لها ضلعان..» فعلا.. النساء كائنات غريبة قد يصبح م الصعب فهمهن في رأي عطوة أن الشيء الوحيد الذي يفضح الغموض ويكشف الإبهام هو الكرباج. الألم هو المفتاح الذي يفض الأبواب والمغلقة ويميط اللثام عن المجهول الألم أقوى من الموت..

- كانت الساعة قد قاربت الواحدة، وهما يسيران في ميدان «محطة الرمل»

أشهر ميادين الإسكندرية وقد حرص عطوة على أن يلبس فوق عينيه نظارة سوداء أنيقة ذهبية الأذرع ومشى إلى جوارها في أنفة وكبرياء قال لها حينما رآها تهرول وتندس في الجموع:

«يجب أن تسير بوقار وهدوء..»

نحن في الشارع...»

«والشارع يلزمنا بآداب لابد منها...»

«لم تعلق على كلامه بل أشارت بيدها إلى مطعم متواضع وقالت:

- «انظر هنا أتناول طعامي ظهر كل يوم..»

- أبدى عطوة نفورا واشمئزاز ظاهرين وقال:

- «لا يليق..»

- لم تجد ضرورة لأن تناقشه الأمر، واكتفت بقولها:

- «اذهب بنا إلى أي مكان..»

- كان المطعم الذي صحبها إليه من مطاعم الدرجة الأولى، الديكور رائع والثريات المدلاة من السقف جميلة والأرائك مصفوفة في نظام ودقة وأبهة، وغالبية الجالسين من الأجانب وعض وجهاء المدينة، وانتحى عطوة ركنا قصيا بعيدا عن حركة الدخول والخروج وجلسا حول مائدة صغيرة وقدم النادل بقائمة الطعام أعطاها أولا لنبيلة التي اختارت الأصناف التي تروقها ثم تبعها عطوة وقبل أن ينصرف النادل قال:

- «مشروب يا بيك..»

- «طبعا ... ويسكي..»

- كانت تأكل في شي من الكسل والشرود، لم تزل تفكر في القصة التي شاهدتها ومن آن لآخر تتذكر سلوى.. الوجه الشاحب ذا الجروح والكدمات «والوحوش التي تقبع وتعربد هناك في مبنى المخابرات العامة.. والتفاصيل الدامية التي تهز كيانها هزا.. وحانت منها التفاتة إلى عطوة كان يمسك الشوكة والسكين ويمزق اللحوم، ويأكل في شراهة ومن آن لآخر يصب كأسا ثم يجرعها ويقول:

- «ألا تشربين؟؟»

- فتقول كل مرة:

- «الماء فقط..»

- وأخيرا قال عطوة:

- «هذه ماء أيضا.. لو شربت كل يوم كأسين من الويسكي لشفيت من كل الأمراض ولامتلأ قلبه بالسعادة والبهجة..»

- أطالت النظر إليه فضبطها متلبسة فقال باسما:

- «ماذا يدر في ذهنك؟؟»

- «أنت رجل لا تفكر في الغد؟؟»

- «إنك ذو قدرة هائلة في التحكم بعواطفك وعقلك..»

- «ألا تقولون أن المستقبل بيد الله..»

- «هو ذاك»

- «وما دام ليس بأيدينا فلم نفكر فيه.؟؟؟»

- قالت:

- «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا..»

- فأكمل ساخرا:

- «وعمل لآخرتك كأنك تموت غدا..»

- قالت في شرود:

- «هو ذاك»

- «أنا لا أخشى الموت..»

- «لكنه واقع لا محالة يا عطوة..»

- «إنه لا يدخل في دائرة اختصاصنا..»

- وفجأة توقف عن المضغ وقالت:

- «أتؤمن بالله؟؟»

- صمت برهة ثم أغمض عينيه لحظة وقد توقفت يداه الممسكتان بالشوكة والسكين ثم ابتسم وقال:

- «أهو تحقيق..؟؟»

- «لم تجب على سؤالي..»

- «حبيبتي لو كان هناك إله لما انتصر سيتالين ولما قتل حسن البنا..»

- ارتجفت أناملها فألقت بالملعقة بما فيها من طعام وقالت:

- «يبدو أن الخمر لعبت برأسك.»

- عاد إلى الأكل بشراهة وهو يقول:

- «حقيقة .. هذه الأمور لا أفكر فيها...»

- «لكنه موضوع أساسي.»

- «بالنسبة لي... لا .. »

- وساد الصمت وعاد يقول:

- «ومع ذلك اطمئني كان أبي رجلا صالحا مؤمنا . وعلمنا أشياء كثيرة عن الله وصفاته وأوامره ونواهيه... وهذا الموضوع لم أطرحه للمناقشة منذ سنين ومع ذلك فأعتقد أن الله موجود..»

- قالت نبيلة:

- لكن الإيمان يقتضي الالتزام بأوامر الله..»

- «هذه قضية أخرى. وعموما فالويسكي لم يرد تحريمه بالاسم في أي كتاب سماوي..»

- وأخذ يضحك ثم ملأ كأسا أخرى وشرب نصفها وفجأة ظهر رجل قبالتهما وأدى التحية في أدب وقال:

- «أي أوامر يا سعادة البك..»

- قال عطوة باقتضاب:

- «متشكر بلغ تحياتي لعبد المجيد بك..»

- وانحنى الرجل في أدب وعيناه تنظران لدى موطئ قدميه ثم استدار وانصرف وعينا نبيلة تلاحقه، إنه يشبه إلى حد كبير أولئك الرجال الذين انتزعوها بالأمس القريب من بيتها وساقوها على مبنى المخابرات إنه ليس واحدا مهم بالتأكيد ولكنه من طرازهم وقالت نبيلة:

- «من هذا الرجل؟؟»

- «أحد عيوننا..»

- «لعله هو الذي أرشدنا إلى مكاني»

- «قهقه عطوة في سعادة وقال:

- «لن تخرجي من نطاق مملكتي مهما فعلت...»

- قالت في تحد:

- «ملكوت الله أوسع من عالمك الصغير...»

- أشارة بيده قائلا:

- «مهما فعلت، وأينما ذهبت فستكونين بين أصبعي هكذا..»

- تجشأ تم صفق بيديه، فهرول النادر، تمتم عطوة وهو يمسح شفتيه بمنشفة نظيفة بيضاء:

- «الحساب..»

- قدم إليه النادل ورقة صغيرة وقال عطوة وهو يضع يده في جيبه ليخرج حافظة نقوده:

- «أربعة عشر جنيها فقط..؟؟»

- ثم أخرج من الحافظة خمسة عشر جنيها ورمي بها على المنضدة وهو يقول:

- «الباقي بقشيش لك..»

- قال النادل في سعادة:

- «فليمد الله في عمرك .. وعمر الهانم..»

- وما أن أنصرف النادل حتى قالت نبيلة:

- «واجبة واحدة بمرتبي شهرا كاملا..»

- امتلأ قلبه بالغبطة وأخذ كرشه يهتز وهو يضحك وقال وهو يمسك بيدها في نشوة:

- «مليون جنيه في حذائك أنت أغلى عندي من كل كنوز الدنيا..»

- وغمغمت وهي تتناول حقيبة يدها:

- «متشكرة..»

- ركبت السيارة إلى جواره وانطلق بها صوب فندقها ولدى الباب قال لها:

- «لن أطيق الصبر أكثر من أسبوع .. سأنتظرك.. وبعد عودتك بيومين أو ثلاثة سوف نعقد القرآن..ونضع حدا لهذا العذاب.. أريدك لي وحدي .. باي باي..»

- وصرخت العجلات وهو يدور بسيارته ونظرت نبيلة إلى السيارة وهي تنطلق بعيدا في الشارع الطويل وظلت تنظر حتى توارت عن الأنظار..

- وعندما همت بالدخول توقفت فجأة ثم أدارت ظهرها للباب وخطت صوب الشارع لقد شعرت برغبة جارفة في أن تندس وسط الناس وتمتزج بهم وتحادثهم وتنفس عما في داخلها من اضطراب وهموم وقلق.

الفصل الرابع عشر

لقد طالت فترة الاعتقال وكان النزلاء يعانون من قلق بالغ بالنسبة لنسائهم وأطفالهم خارج السجن والحكومة لم تسمح لهم بالزيارة حتى مجرد كتابة خطابات عادية تحت المراقبة لم يسمح لههم بها وهناك عدد كبير من المعتقلين ذوي الأعمال الحرة بعضهم مرتبط بالتزامات وعقود قانونية لتوريد بضائع أو إقامة بنايات أو الوفاء بأعمال متنوعة وبعضهم لديه بعض المتاجر التي أغلقت أبوابها، وأصبحت أسرهم بلا مورد رزق ولقد سمح لبعض الموظفين الحكوميين الذين لم يقدموا للمحاكمة وما أقلهم بصرف مرتباتهم عن طريق كتابة توكيل لأحد الأقارب أما الغالبية العظمى وهم من ذوي المهن الحرة فقد وقعوا في حيرة ولا يدرون ما يفعلون وألح المعتقلون على إدارة السجن الحربي كي يسمحوا لهم بكتابة خطابات يدبرون بها بعض شؤونهم في بيوتهم، ولكن أحد لم يستجب لهم، ولم يجد المعتقلون وسيلة مباشرة كي يحققوا ما يريدون وأخيرا فكروا في تهريب خطابات إلى ذويهم لكن كيف يتم ذلك وهم خلف أبواب الزنازين، أو في الساحة الدامية، تحت التحقيق، أو في طوابير العذاب اليومية فضلا عن أن الجنود لا يسمحون لأي معتقل بالحديث معهم أو مناقشة أي أمر من الأمور فالعلاقة بين العساكر والمحبوسين علاقة أمر يصدر ثم التنفيذ وأي تلكؤ في تنفيذ الأمر معناه العقاب الصارم الذي قد يصل لدرجة القتل وقد تكرر حدوث ذلك..

قال الشاعر يوسف:

-« أيها الأحباب . إن هناك قضية ميراث شائكة مرفوعة أمام القضاء، وقد حان موعد نظرها ولا أدري ماذا أفعل..»

قال المعتقل السوداني رزق إبراهيم وهو طالب بكلية الحقوق:

- «قانونا لابد أن يستدعوك للمحكمة...»

- ضحك الشاعر يوسف وقال:

- «حذار أن تتحدث هنا عن القانون يارزق..»

- أما الأخ الفلسطيني عبد الحميد النجار فقد قال:

- «الحمد لله.. بلدي احتلها اليهود، واستولوا على بيتنا وعلى البيارات المثمرة ولم أترك ورائي غير أريكة خشبية أنام عليها وحشية وبطانية ووسادة وقليلا من الكتب ... ولا دخل لي إلا الإعانات التي يتكرم بها أخواتنا في مصر أو هيئة الأمم وعندكم مثل مصري يقول «أيش يأخذ الريح من البلاط..»

- وكان الضابط «معروف الحضري..» يجلس في ركن قصي من الزنزانة، وهو منهمك في تلاوة بعض آيات القرآن التي يحفظها ومن آن لآخر ينهض ليصلي بعض ركعات نفلا وكان معروف يحظى باحترام الجميع وخاصة الشيخ عبد الحميد النجار، لأن «معروف» بطل من أبطال حرب فلسطين المشهورين، وقد كتبت كبريات الصحف العربية عن تضحياته وبطولاته في عام 1948ومع ذلك فهو رجل عف اللسان في غاية من التواضع والإخلاص والرقة قال معروف:

- «إننا نضع أرواحنا على أكفنا ومن يضحي بروحه لا يشفق على مال أو عقار أو أرض .. كل شيء إلى زوال .. فلنترك الأمر لله وليكن ما يكون..»

- رد الشاعر يوسف قائلا:

- «هذا حق. لكن من نعولهم لهم حقوق تجب المحافظة عليها..»

- قال معروف:

- «ومن يتق الله يجعل له مخرجا..»

- هب عبد الحميد واقفا وقال:

- «سمعت أن أحد العساكر مستعد لتوصيل خطاب للبيت وإحضار الرد عليه مقابل خمسة جنيهات مصرية..»

- قال يوسف:

- «خمسة جنيهات؟؟ هذا مبلغ كبير. ومع ذلك فأنا على استعداد لأنه لا يوجد بديل.. ثم إن هناك من اقترض مني سبعين جنيها ولابد أن أخطر أهل حتى يحصلوها.»

- وتكفل الشيخ عبد الحميد النجار بإجراء الاتصالات اللازمة، واستطاع بالفعل أن يتعرف على العسكري نفسه، وتم الاتفاق أن يتم تسليم الخطابات والفلوس لمعتقل يدعي «قوري» وكان «قوري» هذا يهوديا يعيش منفردا في زنزانة مجاورة وكان يسمح له بالخروج منها لتنظيف غرف الضباط والجنود، وإعداد الشاي والطعام لهم، ولهذا يكاد يكون متواجد أغلب ساعات النهار خارج زنزانته، وكان «قوري» شخصية عجيبة فقد حفظ سورة «يس» وقصار السور لكن الإخوان ضبطوه مرة وقد رسم نجمة إسرائيل على باب الزنزانة من الداخل وكتب كلمات بالعبرية فقام أحد مجاهدي فلسطين القدامى بتلقينه درسا لا ينساه وضربه ضربا مبرحا، ومع أن العسكري المناوب تدخل في الأمر وانتقم من المجاهد القديم إلا أن الأخير شعر بارتياح بالغ.. وعادت الأمور إلى مجاريها بعد ذلك فالمصائب يجمعن المصابين وأخيرا أبدى قوري استعداده لتوصيل الخطابات والنقود للعسكري وكانت حماقة من العسكري الذي خان الاتفاق وأمسك بالرسائل ورمي بها في صندوق بريد واحد بحي العباسية دون أن يضع عليها أية طوابع مما لفت نظر ساعي البريد وكانت هناك رقابة شديدة على البريد في تلك الفترة وما أن فتحوا أحد هذه الخطابات حتى وجدوه صادرا من السجن الحربي وسرعان ما فتحوا باقي الخطابات وكانت كارثة إذ أخطر السجن الحربي والمخابرات المباحث العامة على الفور، وأجري تحقيق رهيب مع أصحاب الخطابات واستطاعت السياط وأفانين التعذيب المتنوعة أن تنتع الاعترافات الكاملة وسيق «قوري» ومعه العسكري وجميع من كتبوا الرسائل إلى الساحة الحمراء كان يوما بالغ الصعوبة وقد تصادف أنه يوم «عيد» ووضع الجميع تحت إجراءات قمع مشددة، وبينهم أيضا الشاعر يوسف والشيخ عبد الحميد النجار ورزق إبراهيم والضابط معروف .. كان الثمن باهظا لكن الحكومة سمحت بعد ذلك للمعتقلين بكتابة خطابات مفتوحة بحيث لا يزيد حجم الخطاب عن ثمانية أسطر وبصيغة تكاد تكون محددة اللهم إلا في حالة طلب أشياء معينه من الأهل ضرورية فتكتب باختصار شديد على أن تعرض على الضابط المختص لمراجعتها..

- وبعد أن مرت الأزمة عاد قوري إلى زنزانته ولم يعد يسمح له بمغادرتها

- كانت زنزانة يوسف الشاعر مثل عنبر المستشفى فجميعهم قد استلقوا على الفراش مجهدين متألمين بسبب ما تعرضوا له من ضرب وكان أكثرهم مرحا برغم الجروح والكدمات الشيخ عبد الحميد النجار، وغمغم وهو يمسك بقطعة قطن مغموسة في مطهر الميركريكروم الأحمر:

- «كله بثوابه يا أحباب.. لا تحزنوا .. لست هذه أول «علقة» ولن تكون الأخيرة لم يكن هناك ضرورة لأن أكتب خطابا.. لكن العدوى انتقلت إلى كما انتقلت لأخينا الكبير معروف...»

- قال معروف باسما:

- «لم أكن حريصا على الكتابة إلى الأهل لكني فقط أردت أن اخترق ذلك الحصار الصارم الذي أقاموه حولنا ظلما وقهرا .. يمكن أن تسموه مجرد تمرد صغير .. أنا عدو الاستسلام..

- قهقه الشيخ عبد الحميد فرد الشاعر يوسف:

- «لماذا تضحك؟؟»

- «أضحك لأنك لم تكتف بالخطاب الهام فأرفقت به قصيدة عصماء فكان أن تسلمت ثلاث سياط لكل بيت الحمد لله أنك لم تكتب ملحمتك الشهيرة الطويلة، إذن لسلخوا جلدك ولعل عقابهم كان سيستمر حتى هذه اللحظة..»

- «وضحكوا جميعا برغم الألم، واستطرد عبد الحميد قائلا:

- «وأخونا رزق سامحه الله كتب مذكرة ضافية عن الوضع القانوني للاعتقال وكان يريد أن تصل على يد النائب العام..»

- قال رزق في حماس وقد برقت عيناه بريقا لامعا ملحوظا في وجه الأسمر:

- «كلمة حق يجب أن تقال..»

- «أردف الضابط السجين معروف قائلا:

- «ادعو النائب العام في حاله فعلى الرغم من أنه مطلق السراح إلا أنه يعيش في السجن الكبير..»

- وعاد الشيخ عبد الحميد يكركر وقد أعطى قطعة القطن لرزق كي يستعملها هو الآخر:

- مسكين قوري.. لقد كان يمؤ كالقطة التي تكوي بالنار..» وكان يتلوى تحت وقع السياط وهو مربوط في العروسة ويهتف: تسقط إسرائيل المجرمة .. يسقط ابن جوريون .. أنا مصري .. ارحموني..»

- وأخذ يوسف يترنم ببعض أبيات جديدة من الشعر يضيفها إلى «نونيته» أو ملحمته الشهيرة وأخذ الإخوان يستعيدون الأبيات كي يحفظوها عن ظهر قلب.

- ولم يقف تكدير المعتقلين عند هذا الحد، فقد قام الضابط والعساكر بحملة تفتيشية ضخمة كانوا يسحقون فيها قطع الصابون ويقطعون الأرغفة ويمزقون الملابس بحثا عن «أجهزة لاسلكي » كي يقولون ذلك بسبب إذاعة أخبار السجن الحربي الرهيبة في بعض الإذاعات العالمية في نفس اليوم الذي حدث فيه التكدير ويا ويل من وجدوا معه قطعة ورق أو قلما صغيرا من الرصاص لا يتجاوز بضعة سنتيمترات..

- وهكذا مرت أيام العيد كأتعس ما تمر الأيام، فلا طعام يذكر ولا نوم ولا مشاعر طيبة يمكن تبادلها فيمثل تلك المناسبة فالساعات تمر وهي خليط من الدموع والآلام والجراح والذكريات التي يوشيها الحزن العميق ..

- وبرغم لحظات المرح الخاطفة التي يجود بها الله من فضله على التعساء إلا أن جو التوتر والقلق والخوف كان يلفع السكون الدامي في جنبات السجن الرهيب الذي فاق البستيل بشاعة وهولا..

- ليس العيد لمن لبس الجديد، ولكن العيد لمن خاف يوم الوعيد.

- علق الشيخ عبد الحميد باسما:

- «الحمد لله نحن في أعياد متصلة..»

- وهب رزق إبراهيم واقفا ومد عوده الأسمر النحيل إلى أعلى متشامخا، ونظر صوب النافذة الصغيرة ذات القضبان المتشابكة، وأخذ يرتل في شجن قصيدة المتنبي الشهيرة التي تقول فيها

عيد بأي حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهمو
فليت دونك يبددونها بيد

- وتبللت الأهداب الدموع الخاشعة الصابرة.

- وحاول عبد الحميد أن يبدد جو الكآبة فقال متصنعا المرح:

- أتبكي يا يوسف وأنت شاعر المحنة الأكبر..؟؟»

- قال يوسف بصوت جريح:

- دموعنا صلوات في محراب الحق..»

- وقال رزق:

- أنا لا أبكي خوفا ولكني أصرخ في وجه عجزي العجز قيد بشع لو واجهوني في معركة متكافئة لمت وأنا سعيد النفس.»

- «وساد الصمت فجأة عندما دار المفتاح في ثقب الباب، ثم أطل العسكري بوجهه الكالح الغاضب فهب الجميع واقفين وأدوا التحية العسكرية حسب التعليمات وهم يهتفون بصوت واحد قوي:

- تماما يا أفندم

- قال العسكري:

- خذا هذا معكم..

- وتطلعت العيون ودخل شاب مهترئ الجسم عار إلا من سروال قصير وعلى جسده سطور قصة عذاب مضنية بشعة كان يخطو في ضعف ووهن حاملا «بطانية» رثة ولا شيء غيرها وعندما أغلق الباب قال بصوت واعش ضعيف :

- السلام عليكم

- وعليكم السلام

- وأفسح كل واحد منهم له مكانا وتناول معروف منه البطانية وهم يتمتم:

- «أجر وعافية يا أخي..»

- هز رأسه شاكرا، ثم جلس وهو يلهث..

- وساد الصمت دقيقتين أو ثلاث ثم قال الضيف الجديد

- «أخوكم محمود صقر من منية البندرة»

- قال معروف:

- «أهلا بك.»

- «ولم يطق رزق إبراهيم صبرا فابتدره قائلا:

- «ما هي قضيتك؟؟»

- «لا قضية ..»

- «وتدخل عبد الحميد قائلا:

- «دعة يا رزق يلتق أنفاسه أولا..»

- «لكن محمودا ابتسم فأضاءت ابتسامته وجهه الشاحب المضني وقال:

- «يعلم الله كم أنا سعيد بوجودي معكم لقد أرهقني الحبس الانفرادي أكثر مما أرهقتني السياط. إنه لضل كبير من الله أن أجد من أتحدث إليهم

أنتم السلوى والعزاء والحب
لو مت بينكم لكنت في أوج الرضى والاطمئنان.

- قال رزق وهو يمصمص بشفتيه:

- «لقد آذوك كثيرا..»

- «كله في سبيل الله يهون . لم أشعر بالآم السياط إلا في البداية.. وبعدها خيل إلى جسدي كله قد تخدر فاستسلمت وماذا كان بيدي أن أفعل إنها لحظات تنظر حولك فلا تجد إلا الله.. عندئذ تقترب منه . تناديه فيرد عليك.. تشكو له فينزل السكنية على قلبك لعلها أروع لحظات الحياة .. إنها أوقات خلوة واعتكاف على الرغم من الشياطين الذين يحاصرونك بالسياط..»

- وسمع صفير عال فساد الصمت وجاءهم صوت العسكري يصيح من بعيد:

- «اثنان من كل زنزانة للتعيين.»

- «وكلمة التعيين تعني الكمية المسموع بها من الطعام للنزلاء ووثب عبد الحميد ورزق ومعهما معروف لكن عبد الحميد قال:

- لتبق أنت يا أخي معروف والله لن تذهب...»

- «فلم يجد معروف مناصا من أن يعود إلى مكانه..»

- كان الذهاب إلى أخذ «التعيين» ضربا من إنكار الذات أو التضحية فالذين يذهبون لأخذ الطعام أو أي شيء لابد أن يتعرضوا لضربات السياط ولذلك كان يعفي منها كبار السن والمرضى وهذا اتفاق أو عرف بين النزلاء وكان معروف يتضايق لأن زملائه يعفونه من أداء هذه المهمة وكان يصر في كثير من الأحيان على الذهاب إذ أنه واحد منهم، ويجب أن يتحمل مثلما يتحملون فالكل شركاء في المسئولية في المصير وهو يعتبر كل ما يتعرض له من عسف وظلم قربات الله الذي كتب الابتلاء على عباده...

- وعاد رزق بعد ذلك يقول:

- أخي محمود!! هل أنت من قادة الجهاز السري؟؟»

- ابتسم محمود وقال:

- أنا مثلك لكنها أرزاق يا رزق..»

- «يبدو أنك رزقك كثير»

- «هذا من فضل الله . أنا نفسي لم أكن أخفي سرا ولم أفهم إطلاقا سبب ما يفعلونه بي أتراني ارتكب جريمة لا أعرفها؟؟ وأخيرا قلت لنفسي: لا تحاول أن تحلل الأمور تحليلا منطقيا وإلا جننت فلا منطق هنا ولا إنسانية ولا قاعدة ولا قانون..»

- وانكب الرجل على أطباق العدس يأكل في شهية وما هي إلا فترة وجيزة حتى اختفت الأرغفة وخلت الأوعية وغمغم الشيخ عبد الحميد:

- «لم أزل جائعاً.. إن رغيفا واحدا لا يكفي..»

- قال رزق في عصبية:

- أحمد ربك يا أخي .. جوعوا تصحوا..»

- وبلل عبد الحميد شفتيه بلسانه وقال:

- ليتني كنت معك

- قال رزق:

- «مع من ؟؟»

- «مع الدكتور العجمي والكلاب..»

- وابتسم الرجل وابتسم محمود أيضا..»

الفصل الخامس عشر

كانت نبيلة مندهشة لتصرفات عطوة أنه أنموذج غريب من الرجال لم تر له مثيلا في حياتها يبدو أنه يمتلك من السلطة مالا يخطر لها على بال وإلا كيف عرف مكانها؟ وكيف أنقذها من براثن الطغيان يوم أن اعتقلوها ثم ما الذي يمده بذلك المال كله؟؟ لقد لاحظت أن حافظة نقوده ممتلئة بالأوراق المالية كما علمت بعد ذلك أنه غافلها ودفع لها بالفندق عشرين جنيها تحت الحساب وتتمنى الزواج منه واليوم أصبحت لا تطيق وجوده إن لم تكن تخافه وهذا تطور لا يشر بخير لقد أخذ يتضح لها أن إمكانية الحياة معه أصبحت شبه مستحيلة لكن كيف تفلت من بين براثنة؟ لقد ضمنها يوم أن أفرجوا عنها وهذه نقطة هامة لا يمكن تجاهلها ثم أنه يستطيع أن يلحق بها وبأهلها الأذى إذا أراد ذلك بسبب السلطات الواسعة التي يتمتع بها ونظرا لصلاته الوثيقة مع علية القوم، وانطلاقا من مبادئه وأفكاره المدمرة التي لا ترحم إن الأمر يحتاج إلى مزيد من الحنكة والصبر والدهاء ولا يفل الحديد إلا الحديد ولم تعد نبيلة تشعر بالاطمئنان والسعادة اللتين سعدت بهما يوم أن وصلت إلى الإسكندرية إن الفندق لم يعد يروق لها ولابد أن تبحث لها عن ملجأ أمين آخر فمن الممكن أن يأتي إليها عطوة في أي وقت ولها غادرت الفندق في منتصف الليل وأخذت باقي حسابها وذهبت إلى إحدى صديقتها في حي «محرم بك» لتقضي بقية الأجازة المرضية هناك والحق أنها سعدت إلى جوار صديقتها وقضت معها أوقات ممتعة لا يعكر صفوها أي شيء اللهم إلا الذكريات المريرة والقلق الذي يتنابها من قوت لآخر بخصوص المستقبل وحان وقت العودة إلى القاهرة كان يوما لقد وجدت عدوة جالسا هناك احتضنتها أمها في حب وأخذت تغمر وجهها بالقبلات أما أبوها فقد قبل رأسها في حنان ودعا بالستر وبقية الأهل والأطفال أخذوا يتسابقون إلى الترحيب بها وإبداء أعظم المشاعر نحوها لقد غرقت في حب خالص يبعث على الرضا والأمل..

أما عطوة فقد بقي جالسا في مكانه يرقب المشهد المثير باهتمام بالغ، ومالت نحوه قائلة:

«كيف حالك يا عطوة..»

قال وهو يشبك يديه ويضعهما تحت ذقنه:

كما ترين طال انتظاري حتى أصابني الملل وخاصة عندما ذهب إلى الإسكندرية مرة أخرى فلم أجدك بالفندق..»

- «بالتأكيد فلم يكن من المقبول أن أتركك هذه المدة دون أن أعاود الاطمئنان عليك..

- طأطأت رأسها قائلة:

- آسفة

- «تحاولين الهرب مني دائما لست أدري لماذا؟؟»

- «لا تظن ذلك يا عطوة أنا لم أكن أقرأ الغيب لو علمت أنك ستحضر لانتظرتك..»

- سدد إليها نظرات غاضبة وقال:

- «تعلمين..»

- «أنت شكاك وكيف أعلم؟؟»

- «بذكائك...»

- أدركت أنها لابد أن تفعل شيئا كي تكسب ثقته ورضاه، حتى تدبر أمرها بهدوء.

- ومن ثم اقتربت منه ووضعت يدها على كتفه وهي واقفة إلى جواره وقالت:

- «أين سنذهب الليلة...»

- ابتسم في سعادة وقال:

- «بالتأكيد لن نذهب إلى السينما...»

- «أعرف..»

- قال

- «إن فندق «مينا هوس» فيه جلسة لطيفة للغاية..»

- لم تكن تحب الفنادق كثيرا أنها تضيق ذرعا بالباقات المنشاة وملابس السهرة ووالحركات المرسومة والأضواء الخافتة والكؤوس وطبقة الأثرياء الذين يمرون الأوراق المالية الكبيرة على الموائد دون اكتراث لا تدري تماما لماذا لكنها تشعر بتأنيب الضمير وبالضيق لكن لابد أن تخطط وتدبر للخلاص منه ولن يتم ذلك إلا إذا جعلته يطمئن إليها تماما ويثق فيها ثقة مطلق وهب عطوة واقفا وهو يقول:

- «لماذا لا نذهب الآن؟؟»

- قالت أمها:

- «يجب أن تستريح من عناء السفر.. ويمكنكم الذهاب في المساء..»

- ودهشت الأم عندما سمعت ابنتها تقول:

- «بل أريد الذهاب يا أمي عطوة وحشني جدا..»

- اتسعت ابتسامته بينما قالت الأم:

- لكن..

- قال عطوة:

- «لكن ماذا يا حماتي؟؟»

- «طأطأت الأم رأسها قائلة في الاستسلام:

- «لا شيء»

- وعلقت نبيلة قائلة:

- «غدا سأذهب إلى المدرسة ولن أفرغ من العمل واستدراك ما فات أسبوع ولذا لابد أن أخرج الليلة.»

- قال عطوة:

- هذه المدرسة كالعقلة في الزور. لماذا لا تستقلين..؟؟»

- «ذلك سابق لأوانه..»

- كانت تجلس إلى جواره في سيارته الأنيقة وبعد مسيرة دقائق قالت:

- «عطوة..»

- «عيون عطوة..»

- «لا أستطيع أن أرد لك طلبا..»

- «أتقسم على ذلك.»

- «وحياتك عندي..»

- وضعت ذراعها حول عنقه وقالت:

- «أريد أن أزور سلوى..»

- «سلوى...؟؟؟ من هذه..؟؟»

- «المعتقلة التي كانت معي...»

- التفت إليها في دهشة قائلا:

- «وما الذي جعلك تفكرين فيها الآن؟...»

- أرادت أن تستثير كبرياءه، فقالت:

- «ولقد وعدتها بذلك وقلت لها: إن خطيبي من الكبار فلم تصدقني..»

- ضحك عطوة وقال:

- «إنه نوع من التباهي والافتخار.. اعرف.. فأنا خبير بمشاعر النساء حسنا فلنذهب إلى السجن الحربي أولا..»

- قالت نبيلة:

- «هل هي هناك.؟..»

- «لن نستطيع أن نعرف مكانها إلا من هناك..»

- إنها في المخابرات العامة..»

- «هذا مكان مؤقت لا يجلس فيه المعتقل إلا وقتا قصيرًا..»

- وانطلق بسيارته عبر «البوابة الكبيرة» الجنود يدقون الأرض بأحذيتهم الثقيلة ويرفعون أيديهم بالتحية، والأبواب المغلقة تفتح على الفور والبروجي ينطلق ونبيلة تنظر إلى كل ذلك في دهشة كان قلبها يدق ترى كيف حال سلوى الآن؟ لقد أحبت هذه الفتاة.. ورق قلبها لها، ولا يكاد يمر يوم إلا وتفكر فيها...

- عندما بلغت السيارة ساحة الحربي صدمت نيلة بما رأت لم تكن تصدق هذا رجل معلق من قدميه ورأسه متدلي إلى أسفل وهناك حبل يمر على بكرة صغيرة يجذبه الجندي فيرتفع الضحية ثم يرسل الحبل فتسقط رأس المسكين في حوض ماء فيتملل وتنبعث فقاعات الهواء إلى سطح الماء ويكاد يختنق وندت عن نبيلة صرخة عالية وهي تقول:

- «ما هذا الرجل سيموت..»

- قال عطوة بصوت أجش:

- «اصمتي لا تفضحينا أنه يأبى أن يعترف ..»

- «هذه وحية أتوافق على ذلك يا عطوة؟»

- «هذه أوامري..»

- «مستحيل»

- الأمر يتعلق بأمن البلاد ومصر محاطة بالأعداء من كل جانب..»

- وحانت منها التفاته إلى الساحة الكبيرة فوجدت المجزرة قائمة على قدم وساق السياط تعلو وتهبط والصراخ والأنين والاستغاثات تملأ المكان والأجساد العارية تنزف دما أحمر .. أطالت النظر لحظات .. ثم سقط مغشيا عليها..

- وقهقه عطوة، وقال وهو يحملها إلى مكتبه:

- «النساء رقيقات القلوب.»

- واستدعى لها الطبيب على الفور..

- كانت الكلاب تنبح وتنهش...

- وأصدر عطوة أوامره بالتوقف.. فساد الصمت والهدوء. وانصرف الجنود وبقى المحققون والمعتقلون في أماكنهم ،وما إن حقنها الطبيب حتى أفاقت بعض دقائق .. نظرت حولها فوجدتا العيون تحاصرها .. هتفت..

- ما هذا الذي تفعلون؟؟»

- قال عطوة:

- هذا يحدث دائما .. في كل عصر ..وكل مكان..»

- «يا لتعاسة الإنسان..»

- ضحك عطوة وقال:

- «من أي فلم سمعت هذه العبارة.. لابد أنك سمعتيها من يوسف وهبي ممثلنا الكبير..»

- ثم أمسكت بذراع عطوة قائلة:

- لماذا تعيش في هذا المكان يا عطوة..؟؟ هل هذا هو عمل الجيش الذي أنت أحد ضباطه..»

- قال عطوة وهو يشعل سيجارة:

- «بالطبع فالجيش اليوم يحكم ويحارب ويحفظ الأمن ويرعى كل نواحي الحياة في مصر . ألم تسمعي عن الثورة..؟؟»

- قالت في استغراب!!

- «الثورة..»

- «نعم.. فالثورة هي تغيير شامل في كل شيء لقد فشل السابقون ونحن نصحح مسار الأحداث..»

- أشارت بيدها إلى جموع الواقفين في الساحة الحمراء وقالت:

- «هؤلاء لم يكونوا حكاما سابقين...»

- «أجل.. لكنهم يعترضون..»

- «وماذا في ذلك؟؟»

- «فيه الخيانة والغدر وضياع البلد..»

- «من قال ذلك يا عطوة..؟؟»

- «نحن »

- «من انتم؟؟»

- «أبناء الشعب المكلفون بحمايته...»

- «هؤلاء التعساء هم أيضا أبناء الشعب..»

- أمسك بيدها وضغط عليها في حب وقال:

- «لو قال غيرك هذا الكلام لذبحته.. لا تقولي هذا الكلام أمام أحد من حسن حظك أن الرفاق انصرفوا فخلا لنا الجو.. حذار أن تشيعي مثل هذه الأفكار المدمرة..»

- أغمضت عينيها وصمتت وجاءها صوته:

- «أتشربين شيئا..»

- متشكره .. أشعر بالغثيان.. هيا بنا...»

- «ماذا؟؟ ألا تريدين رؤية سلوة..»

- «أين هي..

- «انتظري لحظات...»

- وخرج عطوة ليبحث الأمر أطلت عبر باب المكتب المفتوح الأذلاء يقفون منكسي الرؤوس كسيري النظرات يظلهم الحزن والأسى، وبعضهم ملقى على الأرض دون حراك وغمغمت قائلة: «يا إلهي .. أيمكن أن يكون هذا طريق الرخاء والحب والحرية..؟؟ أي مجنون يمكن أن يقول هذا الكلام؟؟

- وكيف يصدق عاقل ذلك؟؟ يخيل إلي أن خيوط مؤامرة كبرى تنسج في هذا المكان ولا يمكن أن يكون الهدف منها سوى تدمير روح الشعب، ودفعه دفعًا للكفر بالمثل العليا.. يا للمصيبة.. لم أكن أعرف شيئا عن هذا كله، وأنا التي تدرس التاريخ للجيل الجديد وتعلمهم معاني الشجاعة والحرية والعدل وتثني على الثوار ودورهم التاريخي الرائع؟؟ أي جريمة كنت أرتكب؟؟ وهل استطيع بعد الآن أن أقف في الفصل وأقوم بنفس الدور؟؟ لقد كنت أعيش في وهم كبير لقد طار النوم عن عيني تخدع الناس والحكام يكذبون وأغلب الناس يضربون في التيه حيارى بعد أن ضلوا الطريق وفقدوا المعالم، وضاع الهدف..»

- ودخل عطوة وهو يقول

- «لن تري سلوى..»

- هبت واقفة في رعب وقالت:

- هل ماتت؟؟

- «لا لقد أفرجوا عنها.. وهذا هو عنوانها..»

- وألقى أمامها بشريط صغير من الورق وما أن أمسكت بالورقة وأخذ تقرأ ما فيها حتى قال:

- «حذار أن تزوريها..»

- رفعت رأسها قائلة:

- «لماذا ؟؟»

- «لأنها موضوعة تحت المراقبة...

- «ما معنى ذلك؟؟»

- «معناه أن كل من يحاول الاتصال بها يعرض نفسه للشبهات والخطر وقد يقبضون عليه..»

- هزت رأسها متفكرة.. ثم فتحت حقيبة يدها ودست الورقة فيها وهي تقول:

- «لكن أحدا لن يمسني بسوء ما دمت خطيبة عطوة..»

- انتشى بهذه الكلمات وقال:

- «بالضبط.. لكن سأقول لهم إنك من أنصارنا..»

- «ماذا تعني..»

- «أعني أنك عين لنا..»

- «قل لهم ما شئت..»

- أمسك بكتفها وقال:

- «ليس الأمر بهذه البساطة، أنك ستدفعين الثمن، سيكون على عاتقك مهمة كبرى..»

- «ما هي؟؟»

- «أن تكتبي تقريرا مفصلا عن كل ما يدور بينك وبين سلوى ستكونين بذلك من جهاز المخابرات الذي يخدم الرئيس..»

- «نظرت إليه وهي لا تكاد تصدق وقالت.

- أترضى أن تكون زوجتك جاسوسة.»

- «قهقه عطوة وقال:

- إنك بذلك تؤدين واجبا مقدسا لخدمة الوطن..»

- نظرت إلى الساحة الحمراء عبر الباب المفتوح الرجال يقفون تحت الشمس شبه عراه هذه صفحة دامية من صفحات التاريخ صفحة كتبت حروفها بمداد الدم وبحبات العيون والقلوب وسمعت عطوة يقول:

- «في البداية يبدو الأمر غريبا شاذا ستجدين صعوبة لا شك .لأنك لم تتعودي مثل هذا العمل ولأنه يرتبط في ذهنك بأحط الخلق والسلوك حسنا جميعنا في أول الأمر كنا هكذا لكن الزمن كفيل بتغير أفكارك وستكونين في منتهى السعادة عندما تتأكدين أنك تؤدين دورا هاما من أجل حماية الرئيس والوطن..»

- تناولت حقيبتها وأخفت دمعة بللت أهدابها وقالت

- «هيا بنا .. أريد أن أنام.. »

- «ومينا هاوس؟؟»

- «لابد من تأجيله للغد..»

- «إنك دائما متقلبة الرأي وهذا يغيظني..»

- «أرجو أن تقبل عذري...»

- «سأقبله لا من أجل خاطرك.. لكن لأن هناك اجتماعًا هامًا سيعقد الليلة على مستوى عال ولابد من حضوري..»

- أمطرت السماء مطرًا خفيفًا كالدموع، وكانت السحب تبدي تجهما واضحا يوحي بالحزن والفراق والوداع، والناس يهرولون في الطريق وكأنهم يفرون من البرودة والمطر اللذان يلاحقانهم أينما ساروا .. وسلوى قابعة في قلبها تبكي وتنظر بعينين خائفتين والرجل معلق من قدميه يتدلى عاجزا مقهورًا يرى الموت أمام عينيه المتورمتين..وهناك الكلاب تنطلق في خفة ورشاقة كرشاقة الجنود والضباط وهم ينفذون الأوامر وتطلعت نيلة عبر النافذة المبللة بالمطر صوب السماء لكن الصورة كنت غامضة متجهمة لا تنبئ عن شيء واضح أو توحي بأمل باسم..

الفصل السادس عشر

لم تكن نبيلة تتوقع ما قالته أمها حينما عادت، لقد أخبرتها أن رسالة عاجلة قد وردت من القصر الجمهوري يطلبون إليها أن توافيهم على عجل لأخذ أقوالها في الرسالة الخاصة التي بعثت بها إلى الرئيس واضطربت نبيلة لعلها ندمت على إرسالها ذلك الخطاب لقد كتبت ما كتبت في لحظة انفعال وضيق وتمرد، يا للكارثة أتذهب مرة أخرى وتدور في دوامة سين وجيم؟ هذا أمر لم تعد تطيقه أو تصبر عليه أتتصل بعطوة مرة أخرى كي يكون على جوارها إنها في مسيس الحاجة إليه الآن يبدو أن أمثاله قد أصبحوا ضرورة من ضرورة الحياة وإلا تعرضت لمشاكل لا حصر لها، أقلها إهدار الكرامة وتهديد الأرزاق ولكن لا لن تخبر عطوة بشيء مهما كان الأمر ستواجه مصيرها بشجاعة وليكن ما يكون أنها مواطنة وقد رأت أوضاعا خاطئة تعتقد أنها ليست في مصلحة الحاكم أو المحكومين وانطلاقا من مبدأ الصدق والأمانة والخوف على مصلحة الوطن أرادت أن ترفع الأمر للرئيس نفسه أعلى سلطة في البلاد ولو أن كل إنسان تقوقع على نفسه واعتصم بالصمت ليبعد عن نفسه المتاعب المتوقعة وليدرأ عن نفسه الشبهات، لسارت الأمور من سيء إلى أسوأ ولتراكمت الأخطاء وأدى ذلك إلى انفجار مروع لا يعلم إلا الله مداه ومن ثم أقنعت نبيلة نفسها بضرورة ما فعلت وبمدى أهميته وأنها على صواب لا شك فيه، وقالت لأمها: «ولماذا لم تخبريني فور وصولي..»

- «كان عطوة موجودا ولم أشأ أن أتكلم أمامه..»

- «وما الحل الآن؟؟»

- قالت أمها:

- «لقد تركوا لنا رقم تليفون للاتصال بهم كي يحددوا الموعد»

- «والتقطت نبيلة الرقم، وأدارت قرص التليفون وقدمت نفسها فعلمت منهم أن الموعد غدا في الساعة الحادية عشرة صباحًا.

- قال أبوها في خوف:

- «لم يكن هناك ضرورة لما فعلت يا ابنتي ..وأرى أن نشرح الأمر لعطوة قبل فوات الأوان..»

- هبت نبيلة محتجة:

- «لا أريد ذلك..»

- «لماذا يا ابنتي؟ ألم ينقذك بالأمس القريب..»

- «أجل لكني هذه المرة إما أن أنقذ نفسي أو أذهب بلا عودة ولماذا أخاف؟؟ أنا لم أرتكب جرما يا أبي..»

- «الناس اليوم يا فتاتي يساقون إلى الموت لمجرد الشبهة..»

- «أنني أوضح أمر خطيرًا.. ولن يصعب على تقديم الدليل...»

- «ابتسم أبوها في مرارة وقال:

- «الدليل..؟؟»

- نعم ما على المسئولين إلا أن يذهبوا إلى المخابرات العامة أو السجن الحربي ليروا كيف تنتهك آدمية الإنسان..»

- ربت أبوها على رأسها في حنان وقال:

- «أتعتقدين أن الجلادين يفعلون ذلك دون أمر عال؟؟»

- «إنه شيء لا يصدق»

- «تنهد الأب في حزن وقال:

- «رحم الله الإمام محمد عبده فقد كان يقول: لعن الله السياسة وساس ويسوس وما اشتق منها..»

- قالت نبيلة في إصرار:

- «نحن لا نعي وراء الستار الحديدي حيث العالم الشيوعي...»

- «دعك من الأسماء والشعارات فإن ما يجري اليوم صورة صارخة للظلم لا مثيل لها في أي مكان...»

- قالت الأم وعيناها مبللتان بالدموع:

- «كنا نعيش في هدوء ما الذي جر علينا هذا الوبال كله يا ربي؟؟»

- علق الأب في استسلام:

- «هذا قضاء الله وقدره، نحن لم نفعل شيئا يوجب كل ذلك..»

- وآوت نبيلة إلى غرفتها كانت على شوق إليها ومع ذلك فقد نظرت إلى أرفف الكتب وكراسات التحضير المدرسي واسطوانات الموسيقى نظرة كلها ملل وعزوف وتذكرت الطبيب وسرعان ما انطلقت صوب التليفون كان الدكتور سالم في عيادته لقد بدا وضحا في صوته أنه سعيد لعودتها وأخذ يستفسر عن حالتها الصحية والنفسية في لهفة، وأخيرا اتفقت معه على زيارته على الفور كانت أمها معترضة وتطلب مها أن تستريح بعض الوقت لكن نبيلة كانت قلقة متوترة، لا تستطيع الجلوس أو النوم أو التسلي بالقراءة أو سماع الموسيقى وفي دقائق معدودة كانت في طريقها إلى الطبيب نظر إليها الطبيب نظرة فاحصة وقال:

- «حمدا لله على سلامتك.. أراك أحسن حالا..»

- قالت وهي تجلس قبالته وتعبث في مقبض حقيبتها بعصبية:

- «لا أظن..»

- «إن الشكل العام يوحي بأنك أفضل من ذي قبل..»

- «لم تزل المشاكل آخذه بخناقي..»

- قال في أسى:

- «يجب أن تتقبليها كأمر واقع وتعايشيها..»

- رددت في دهشة:

- «أهذا هو العلاج؟؟»

- بعضا العقاقير يا آنستي لا توجد في الصيدليات..»

- «استطيع أن أشتريها من الخارج..»

- «لا أقصد العقاقير الطبيبة»


- «ماذا تقصد إذن يا دكتور..؟؟»

- «الأمن النفسي أنه لا يباع .. ولا يشترى»

- هزت رأسها وفهمت ما يرمي إليه واستطرد الدكتور سالم قائلا:

- «لقد خلق الله حقا مباحاً للجميع ..كالماء والهواء لكن بعض الحكام يغلقون عليه خزائنهم ...يسجنونه..»

- قالت في غضب:

- «إنه ظلم وخيانة وتعد على حق الله..»

- أشار بيده قائلا:

- «أرجوك .. الحيطان لها آذان..»

- هدرت في حنق:

- «ولماذا نسكت؟؟»

- «لو سكت الناس لما امتلأت السجون بالشرفاء»

- وأخذت تروي له ما شاهدت في السجن الحربي من أهوال وما فعله عطوة بك بها والظروف الصعبة التي عانت منها طوال الأسبوعين الماضيين، ثم قالت وهي تكاد تبكي:

- «لن أتزوج عطوة..»

- «نظر إليها في دهشة وقال:

- «ستدفعين الثمن غاليا..»

- «حتى ولو دفعت حياتي..»

- «لا يصح أن تدفعي حياتك لأمر بسيط كهذا.. »

- «أنه أبشع من الموت..»

- قال الطبيب بعد أن صمت لحظات مفكرا:

- «لدي حل»

- «هبت واقفة واقتربت منه، وأمسكت بكم معطفه الأبيض الناصع والنظيف وقالت متوسلة:

- «ما هو؟؟»

- قال وهو يلف سماعته على سبابته اليمنى:

- «الرحيل..»

- «إلى أين يا دكتور؟»

- «إلى الخارج. .لفترة تستطيعين فيها أن تسترجعي هدوء البال والاستقرار النفسي المفقود.. وأيضا ستفلتين من عطوة..»

- ودارت نبيلة بنظارتها في أرجاء المكان وأطلت عبر النافذ حيث المباني الشامخة والمآذن والقباب ومداخن المصانع والسماء الرحبة الزرقاء، وغمغمت قائلة:

- «هذه فكرة رائعة..»

- «لابد من موافقة جهة العمل أولا ومكتب الأمن ثانيا»

- «فعلا هذه مشكلة..»

- وطرقع الطبيب بأصابعه قائلا:

- «أليس لديك بطاقة جامعية؟؟»

- «لماذا»

- «لو أن لديك بطاقة لأمكنك أن تسخرجي جواز سفر دون أن تشيري فيه إلى أنك موظفة، بل سيكتبون في خانة المهنة، «طالبة» ولدي صديق بالجوازات يمكن أن يقدم لك بعض المساعدات..»

- قالت نبيلة في فرح:

- «فكرة مدهشة.. فعلا لدي بطاقة جامعية للدراسات العليا..»

- «ممكن أن يتم ذلك إذا لم تعترض جهات الأمن على سفرك..»

- «اعتقد أن عطوة قد محا كل ما يتعلق بهذا الأمر..»

- قال الطبيب:

- «لي قريب في الكويت، وفي الإمكان أن يرسل إليك بطاقة دعوة للزيارة وسوف يتكفل بإيجاد فرصة عمل لك هناك..»

- بينما كانت نبيلة تقلب الأمر على شتى جوانبه، جاءها صوت الدكتور سالم محذرا:

- «لكن لا يصح أن يعلم أحد بالأمر حتى الأهل..»

- هزت رأسها موافقة بينما استطرد الطبيب.

- «أنك لن تستطيعي أن تتخلصي من كل همومك النفسية في هذا الجو المشحون بالأسى والقلق وعلاجك هو السفر إلى الخارج ولا يصح أن تعودي من الخارج إلا إذا ..»

- قالت في هدوء:

- «إلا إذا تغيرت الأحوال»

- ثم هزت كتفيها في يأس وقالت:

- «يبدو أن التغيير بعيد المنال.. أنهم يسيطرون على كل شيء لقد دانت لهم البلد بكاملها...»

- ثم استردت وهي تتطلع إلى القاهرة الكبرى عبر النافذة المفتوحة:

- «ولن أسافر قبل أن أذهب إلى القصر وإلى سلوى..»

- وشرحت نبيلة للطبيب قصة الخطاب الذي بعثت به إلى الرئيس والموعد المضروب غدا وضرورة زيارتها للمسكينة سلوى التي تم الإفراج عنها قريبا، فأوصاها الطبيب بالحذر التام، وبضرورة اكتساب ثقة عطوة حتى تنجح الخطة، وتنجو من بين براثنه وبينما كان الدكتور سالم يقدم لها نصائحه الثمينة قفز إلى ذهنها سؤال:

- «لماذا لا تسافر أنت الآخر يا دكتور؟؟»

- «كان في إمكاني أن أفعل لكني اعتذرت..»

- «ألا تخاف على نفسك؟؟»

- ابتسم ابتسامة ذات معنى وقال:

- «حسنا.. كيف تكون حال البلد لو هاجر منها كل الأحرار والشرفاء سيبقى ملايين من الناس لا يجدن من يقف إلى جوارهم أنا باق هنا لأودي رسالتي في الطب وغير الطب.. ألا تعليمن أ لي أخا قد صدر ضده حكم بالأشغال المؤبدة من محكمة الشعب..»

- هتفت في انبهار:

- «أخوك..»

- «نعم لا توجد أسرة إلا وأصابها قدر من ظلم أو هوان..»

- وبدأ الطبيب أمام عينيها عملاقا أسطوريا أقوى من الخوف والموت وجبروت الحاكمين وأيقنت أن الاستسلام الشعبي الظاهر وراءه نار تحت الرماد لن تخمد جمراتها بعد وأن الصمود في أحلك أيام اليأس التعسة هو أروع آيات البطولة فهتفت في إصرار

- «لن أسافر»

- اقترب منها الطبيب وقال:

- «مستحيل»

- «ولماذا أنت تبقي؟؟»

- «كل له مكانه ودوره»

- «ودوري أنا الهروب..»

- «أبدا سوف تجدينهم في الخارج لا يكفون عن العمل ليل نهار من أجل قضية الحرية سيكون لديك المال والقلم وحرية الحركة والوقت مناسب دونما ضغوط أو تهديد.. وكل ميسر لما خلق له.. أنا هنا.وأنتم هناك لابد أن تستقيم الأمور على هذا النحو.. هل أقتنعت؟؟»

- هزت رأسها قائلة:

- «نعم..»

- وشرد الطبيب بضع لحظات وقال:

- «وبعد فترة طالت أم قصرت سوف تعودين وسترين راية خضراء تخفق في السماء مكتوبا عليها بأحرف من نور: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين..»

- غمغمت:

- «تمنيت أن أسافر الآن أنني أتخيل عالما من الحرية والحب والسلام لا رقابة فيه ولا سياط ولا كلاب ولا عطوة ولا معتقلات .. أنه عالم الأحلام المليء بالورود والرياحين والكلمات الحلوة والكرامة..»

- قال الدكتور سالم محذراً:

- «لكن لا تنساقي وراء الأحلام الوردية.. وتذكري أن عليك واجبا وأن على أرض الوطن ملايين يساقون كما يساق الأغنام وأبشع..»

- «أعرف»

- «وكما أن الرسول لم ينتصر على أعدائه بالدعاء والصلوات وحدهما بل بالعمل والجهاد والعرق والدماء .. فكذلك في كل عصر لابد من التضحيات..»

- «أعرف..»

- «بالطبع فأنت مدرسة تاريخ..»

- عادت تتطلع إلى النافذة وتقول:

- «التاريخ كنت أقرؤه كقصة طريفة شائقة حلوة. وكنت أطرب لما فيه من أحداث أما اليوم فقد تيقنت أن التاريخ شيء آخر.. أنه تجربة حية مشتعلة لم تخمد ألسنة اللهب فيها برغم مرور القرون لم يكن التاريخ أحداثا متسلسلة تتواكب في هدوء بل كان صراعا داميًا مريرًا ومقدمات ونتائج وتغيير جذري في واقع الحياة..»

- ابتسم الطبيب قائلا:

- «المرضى ينتظرون»

- «سأنصرف لقد أخذت الكثير من وقتك الثمين.. لكن يجب أن تكون سعيدا لقد قدمت لي الدواء الناجح.»

- «أرجو ذلك..»

- وصافحته وانصرفت خرجت من عيادته خلقا جديدًا لقد مرت تجربة القلق والعذاب والانصهار وبعدها تم التشكيل والتكييف ولماذا تخاف نبيلة؟؟ إن أقصى ما ينتظرها هو الموت، وهي لم تعد تخاف الموت، لقد اكتشفت نفسها وعرفت طريقها وهذا أروع ما كسبته في حياتها.

- دقت الباب وبعد دقيقتين انفرج عن وجه تعرفه أنها سولى لقد ذهبت الكدمات والجروح وصار وجهها الشاحب صفحة نقية من الطهر والنقاء والرضا وهتفت سلوى وقد تدفقت الفرحة في عينيها:

- «أنت»

- وأدخلتها على الفور وعادت سلوى تقول:

- «لقد أخطأت خطأ كبيرا بحضورك إلي..»

- «لماذا؟؟»

- «إنهم يراقبون البيت..»

- «كنت حذرة لم أر أحدا يحوم حول البيت..»

- تنهدت سلوى قائلة:

- «أنت طيبة القلب ..البقال يراقبني والكواء أيضا من يدري؟ ربما يكون بعض الجيران يقومون بنفس المهمة أنا لا أزور ولا أزار»

- قالت نبيلة:

- «سلمي الأمر لله .. كيف حال صابر»

- «نائم..»

- «وزوجك..»

- «لم تعد ترد منه رسائل يبدو أن الحكومة تستولي على الرسائل والشيكات التي يرسلها إلي»

- «ولماذا لا تسافرين إليه»

- «كان هذا هو المتفق عليه لكن المسئولين منعوني..»

- «بأي حق؟؟»

- نظرت إليها في حزن وقالت:

- «وهل يجرؤ أحد على سؤالهم..»

- «وكيف تعيشين إذن؟؟»

- «أخدم في البيوت. .. أغسل أكنس أطبخ أي شيء..»

- قالت نبيلة في حنق:

- «إجرام منهم.»

- زفرت سلوى في ألم:

- «ليس هذا فحسب بل إنهم طاردوني أينما ذهبت إذ سرعان ما يطردني أصحاب البيوت بتحريض مهم لست أدري ماذا تريد الحكومة مني وأنا لست طرفا في النزاع..»

- فتحت نيلة حقيبة يدها وقالت وهي تمسك ببعض الأوراق المالية:

- «خذي هذا»

- «مستحيل»

- «إنه حقك.. ولا تحملي هما بعد اليوم.. سأتكفل بك منذ الساعة..»

- قالت سلوى وهي ترجع إليها النقود:

- «أنت لا تفهمين أنهم يفتشون البيت من آن لآخر، وإذا وجدوا معي مالا فسوف يشكون في أن أحدًا من الإخوان يقدم لي بعض الإعانات..»

- قالت نبيلة..

- «وماذا في ذلك؟ الناس يساعد بعضهم بعضا»

- ابتسمت سلوى في مرارة وقالت:

- «سوف يسألونني عن مصدر التمويل وإذا لم أخبرهم تكفلت السياط بإنطاقي وأنا امرأة ضعيفة لا أتحمل السياط لمدة طويلة.. قد أعترف عليك وأسبب لك المتاعب.. فوفري على نفسك ووفري علي»

- أعادت نبيلة إليها المبلغ قائلة:

- «اعترفي علي .. لا يهمك... لسوف أسافر ولن يستطيعوا أن يصلوا غلي وبعد أن أسافر سأدبر لك الأمر بطريقة بعيدة عن الشكوك.. اطمئني..»

- أخذت سلوى النقود ثمك دمعت عيناها واحتضنت نبيلة في عاطفة جياشة وأخذت تقول من بين دموعا:

- «أتدرين لماذا أفرجوا عني؟؟ لكي يتتبعوا خطواتي: ويكشفوا أية حلقة للاتصال بيني وبين زوجي جعلوا مني مصيدة لأهل النخوة والخير.. إنهم يريدون أن يحيلوا البلاد إلى غابة للضباع والضواري منهم لله..»

- وعادت نبيلة إلى بيتها منهوكة القوى، تشعر برغبة جارفة في النوم.

الفصل السابع عشر

كانت نبيلة تفكر في الأحداث المتلاحقة التي مرت بها في الأيام الماضية، إن هذه الأحداث قد رفعت الغشاوة عن عينها إن أبسط وصف لها هو أنها كانت تعيش في غفلة ، لم تكد تدري حقيقة ما يجري حولها كانت تعمل وتأكل وتشرب وتنام وتقرأ الكتب وتسمع الموسيقى وتفتح قلبها للحياة والحب ولا تشعر بقلق أو ملل كانت حياة هادئة جميلة لا يعكر صفوها شيء ويوم أن عرفت عطوة انقلب كل شيء رأسا على عقب لقد اكتشف علما آخر غريب غاية في الغرابة عالما كعالم الليل بما فيه من غموض وغدر وخوف وأحلام مزعجة لا شك أنها كانت بالأمس سعيدة في غفلتها أما بعد أن انزلقت قدمها إلى العالم الشائك المثير الجديد، فقد فقدت معنى الراحة والاستقرار وعرفت القلق والعذاب النفسي والتفكير المضني إن المعرفة بذلك العهد الجديد قد خلقتها خلقا آخر وجعلتها تستشعر واجبات والتزامات لم تكن تخطر لها على بال والعجيب أنها ليست نادمة أو ساخطة على كل ما جرى أنها تعتبر ذلك ثمنا للمعرفة إن التجربة مرة، لكنها مفيدة ومثيرة ومبهظة لكن الذي ألمها حقيقة أنها جرت أهلها إلى المشاركة في هذه التجربة القاسية وقد كانت حريصة كل الحرص على حماية أمها المريضة وأبيها العجوز وأسرتها السعيدة التي تنعم بالحب والاستقرار وفكرة في هذه الليلة بالذات أن تقتل عطوة وأخذت تفكر وتدبر وتعد العدة للساعة الفاصلة وقضت وقتا طويلاً من الليل في دراسة هذا الموضوع لأن زيارتها للسجن الحربي قد أقنعتها أن عطوة ورفاقه مجموعة من القتلة الأوباش وأنهم قد تجردوا من كل إنسانية ورحمة مهما كانت المبررات والأسباب فلو فرضت أن الإخوان المسلمين مجرمون وهذا فرض جائر فلو فرضت ذلك لما كان من العدل أن يعاملوا هذه المعاملة التي لم ير لها الشعب مثيلا في تاريخه سواء من الإنجليز المستعمرين أو الصهيونية العالمية المنحرفة فما بالك بإخوة في الوطن يفعلون تلك الأفاعيل الشنيعة لكنها أيقنت في النهاية أن قتل فرد أو أكثر لن يغير في الواقع شيئا أنه نظام بأكمله قد أتخذ الظلم طريقا والتصفية الجسدية والنفسية أسلوبا ومثل هذا النظام يستطيع أن يجند الألوف لارتكاب الجرائم المتنوعة في حق الأبرياء والشرفاء فالتنافر دائم بين الخير والشر وبين العدل والظلم والمعركة أزلية منذ قابيل وهابيل والوباء إذا حل بأرض لن تجدي معه عزل مريض أو عشرة ولكن التغيير الشامل هو القوة الحقيقة الضاربة التي تستطيع أن تعيد الاتساق والإشراف إلى وجه الحياة إن عطوة مثل قطعة السلاح العميلاء التي يستوردونها من الخارج وهو أداة يحركها الظلم حسبما يهوى ويصوبها إلى الهدف الذي يريد ولو قطعت الأيدي الغاشمة المتوحشة التي تحمل الموت والدمار وتسدد قذيفتها إلى صدور الأبرياء، لا تنفي الشر وسقط عرش الظلم وكل نظام فاسد حسبما تعلمت من التاريخ يحمل في ثناياه عوامل فنائه وانهياره والشر قوة وكلمة وتنظيم، ولن يقهر إلا بسلاح القوة والكلمة والتنظيم .. لكن السيل الجارف الرهيب يتدفق في سرعة مذهلة حاملا شروره ومآثمه ولا يمكن في الوقت الراهن تجنب كارثة مروعة ستحدث حتما هكذا يحدثها قلبها.

ونهضت نبيلة من سريرها وهي أشد ما تكون إرهاقًا وأسى لكن عليها أن تتماسك وتذهب إلى الموعد المضروب في القصر الجمهوري عليها، أن تعتصم بالكياسة واللين والدهاء وإلا فتحت على نفسها بابا من المشاكل قد يعوق تحركاتها في المستقبل فتحرم من السفر وتبقى بين براثن الشيطان إلى الأبد فيفترسها عطة ويدمر أحلامها وأمنياتها في المستقبل الوارف الوادع الذي تنشده.. وقبل الموعد بربع ساعة كانت هناك ... استقبلها أحد الرجال هناك.. قال لها:

- «خيرًا.. ماذا تريدين..؟؟»

- «أريد مقابلة الرئيس..»

- «هكذا دفعة واحدة...»

- « أنه زعيم الشعب ..وأنا واحدة من هذا الشعب ولقد قال أن بابه مفتوح دائما..»

- قال الرجل:

- «بالطبع .. لكن ..»

- «لكن ماذا؟؟»

- «أريد أن أعرف السبب أولا..»

- «سأقوله له..»

- «حسنا.. لا يمكن أن تقابلية إلا إذا سجلت ما تريدين في ورقة وأدخلناها له .. تلك هي الأوامر .. وإلا فلا مقابلة..»

أخرجت نبيلة ورقة وسجلت عليها موجز لما تريد أن تحادث الرئيس فيه تناول الرجل الورقة وقرأها متمعنا ثم قال:

- «تقولين إنك من المخلصين للثورة والرئيس.»

- «بكل تأكيد..»

- «لكن إيمانك بالرئيس يفرض عليك التزاما..»

- «ما هو..؟؟»

- «أن تثقي في سلامة تصرفات القيادة تقبليها دون مناقشة..»

- «لكني اعتقد أن أوامر الرئيس تنفذ بطريقة خاطئة وبأسلوب مبالغ فيه..»

- ابتسم الرجل في ود وقال:

- «لا يجرؤ أحد على فعل ذلك..»

- «لكنه يحدث دائما .. هل زرت الحربي؟؟ هل دخلت يومًا مبني المخابرات العامة..؟؟»

- «بالطبع. فنحن دائمو الاتصال بهم..»


- «إذن تعرفون ما يجري هناك..»

- «لا شك..»

- نظرت إليه نبيلة في شيء من الدهشة قال: «وللعلم فقد قرأ الرئيس نفسه رسالتك بإمعان ووضع خطوطا حمراء تحت بعض فقراتها أنه لا يهمل أية رسالة ترد إيه وهو يرحب بأي رأي يقرؤه أو يسمعه أيما ترحيب، ويستفيد منه بطريقته الخاصة.. أنت لا تعرفين ماذا كان في نية الإخوان المسلمين كانوا يريدون قتل الرئيس وتدمير البلد.. والاستيلاء على السلطة .. والاستناد إلى التعصب الأعمى والجمود والفوضى أكنت تتوقعين أن أوروبا وأمريكا أو روسيا سوف ترضى بأن يثبوا إلى الحكم ؟؟ أن نجاحهم كان معناه القضاء على حرية الوطن، والسقوط في أيدي استعمار لا يرحكم وليس من المعقول أن أعامل بالرفق واللين من أرادوا قتلي..»

- قالت نبيلة:

- «ولماذا لا يحاكمون محاكمة عادية..»

- «في حالة الحرب الأهلية .. أو تعرض أمن البلاد للخطر لا تجدي المحاكمات العادية..»

- «لم تكن هناك حرب أهلية..»

- «لقد أجهضناها.. لم يكن من المعقول أن ننتظر حتى تحدث..»

- «لكن هناك أبرياء.. أنا أعرف..»

- «بطبيعة الحال لأن مثل هذه الفتن قد تعصف ببعض الأبرياء . لكن الأمور سوف تتضح فيما بعد..»

- تململت نبيلة في مجلسها وأخذت تفرك أصابعها في توتر ثم قالت:

- «ولماذا لا نناقش أفكارهم؟؟»

- «أفكارهم في مظهرها مقبولة هم يريدون تطبيق الشريعة الإسلامية ولا يستطيع أحد أن يقول لا ..»

- «إذن هم على حق..»

- «ليس الأمر بهذه البساطة.. هناك اعتبارات عديدة لا يمكن تجاهلها..»

- «هل أستطيع معرفتها؟؟»

- «ابتسم الرجل وقال:

- ليس هذه هي القضية..

- «ما القضية إذن؟؟»

- «التمرد المسلح نحن لا نسمح به لأي سبب ولهذا نحن نقاوم الأسلوب الخاطئ أو الجانب السياسي في حركتهم كلنا مسلمون أليس كذلك..

- أدركت ما في كلام الرجل من تحريف وزيف وكذب فهي تعلم أن الإخوان لم يبدءوا بالعدوان وتعلم أن الرئيس كان له علاقة سابقة بهم وأنهم وضعوا أيديهم في أيدي الثورة في البداية بل كان لهم أعضاء بارزون في مجلس القيادة الأول وكان هذا التعاون على أساس إطلاق الحريات للشعب، وفتح الطريق أمام عزله الدستور الإلهي كي يحكم ويسود، حتى تتحقق العدالة للجميع، لكن الثورة غدرت بهم. اعتقلتهم مرارا .. ضيقت عليهم الخناق وحاربتهم في أرزاقهم كممت أفواههم دبرت لهم المكيدة تلو المكيدة تلو المكيدة كما ثبت من التحقيق أن المرشد العام لم يكن يعلم شيئا عن حادث المنشية وأن باقي التنظيمات والقيادات لا علم لها بشيء وأن الحادث مقصور على بضعة نقر أسرعت الحكومة بمحاكمتهم وشنقهم دون أن تنجلي الحقيقة فالحادث يشوبه غموض كبير، وعلى أسوأ الاحتمالات فإن هذه المجموعة الصغيرة إذا كانت قد دبرت ذلك الحادث فعلا فلا معنى لهذه الحملة الشرسة التي عمت الجميع ولا تلك الإبادة الشاملة التي هزمت أعمدت الحق والحرية في قلب مصر بل وفي قبل العالم الإسلامي كله بل إن صحافة العالم الحر وإذاعاته قد أدانت ذلك التصرف إدانة تامة لما أقدم عليه حكام مصر من قسوة بالغة وعنف لا مثيل له ثم إن أفكار الجماعة لم يسمح بمناقشتها السليمة، وأصبح المتهم لا يجد فرصة للتعبير عن وجهة نظره..

- أدركت نبيلة كل ذلك وأكثر منه، لكنها شعرت أن بينها وبين السقوط في هوة هؤلاء الظالمين شعرة، ولهذا أعادت حساباتها بدقة وسرعة وذكاء ثم ابتسمت ابتسامة عريضة مصطنعة وقالت:

- «الآن فهمت..»

- «أرجو أن تكوني قد اقتنعت..»

- «تمام الاقتناع...»

- «هذا لا يكفي..»

- قالت نبيلة في اهتمام:

- «ماذا بعد؟؟»

- «أنت من جيل الثورة وعليك مسئولية كبرى ويجب أن توضحي الأمور لكل من لك بهم صلة..»

- «فقهقهت فنظر إليها الرجل في دهشة وهتف.

- «لماذا تضحكين؟.؟»

- مالت على أذنه هامسة:

- أنا ضمن التنظيم الشعبي الذي يحمي الثورة .. وأتعاون مع المخابرات..

- قهقة الرجل هو الآخر وقال وهو يصافحها..

- ولماذا لم تقولي ذلك منذ البداية؟؟

- ألم يخبركم عطوة؟؟ أنه خطيبي..

- ابتسم الرجل وغمز بعينه قائلا:

- نعرف كل شيء .. ولقد علم الرئيس بما يجري لك.. وسوف يعاتب عطوة عتابا مرا .. إن ما جرى لك مجرد مزحة ثقيلة..

- توترت أعصابها ونظرت إليه في اهتمام قائلة:

- «ماذا يعني؟؟»

- «هذه لعبة من عطوة.. بعد أن تمنعت عليه.. أراد أن يلقنك درسا حتى تستسلمي له فدبر لك مع أصدقائه من رجال المخابرات الذين قبضوا عليك لقد ضحكنا كثيرا لما حدث عطوة أحمق ومخه ضق.. نحن نعرفه ولذلك لا نحاسبه على حماقاته بل تكن عادة مادة للضحك والتسلية..»

- أغمضت عينها، دارت رأسها لم تكن تصدق ما تسمع لكنها يجب أن تكمل المسرحية حتى نهايتها ففتحت عينيها وقالت:

- لا أسمح لك أن تسخر من خطيبي..

- أنا لا أسخر منه وسوف نلتقي معا وستكونين معنا وسنقضي ليلة ممتعة ونحن نستعيد ما حدث منه بالنسبة لك إنه ظريف برغم كل شيء والرئيس يحبه..»

- كظمت دمعة كادت تفلت من بين أهدابها وغمغمت بصوت غير مسموع «كلب.. حقير..» كان الرجل مشغول آنذاك بالرد على مكالمة تليفونيه وعندما عاد اقترب منها وربت على كتفها في مودة وقال:

- «والآن ما رأيك؟؟»

- «ألن أقابل الرئيس ؟؟»

- «ممكن بعد ثلاثة أيام.. لأنه غير موجود.. لكني أعتقد أنه لا مبرر لذلك وستكون في المستقبل أمامك فرصة كثيرة للقائه فأنت زوجة أحد الرجال المخلصين .. المرموقين..»

- ثم ضحك وهو يقول:

- « والمشاغبين الرظرفاء...»

- «أنها فرصة العمر .. يسعدني أن أراه..»

- قال الرجل وهو يضغط على زرار في جهاز صغير:

- أتريدين أن تسمعي صوتك؟؟»

- وكم كانت دهشتها عندما سمعت كلامها مسجلا بحذافيره وعلى الرغم من سخطها وغضبها إلا أنها قالت:

- «لم أكن أعرف أن صوتي جميل إلى هذه الدرجة..»

- قال الرجل:

- «وسوف يسمعه الرئيس نفسه..»

- قالت في توسل:

- «أريد أن أضيف بعض الكلمات.»

- «تكلمي..»

- تنحنحت وانتظرت حتى أعد الجهاز وقالت

- «إن الرئيس هو الأمنية التي خفقت بها قلوب الملايين منذ فجر التاريخ وهو الأمل الذي داعب خيال التعساء والمحرومين والمظلومين منذ مئات السنين سر أيها الزعيم الخالد ونحن وراءك قلوبنا ترعاك .. وشفاهنا تلهج بالدعاء لك فأنت أول حاكم مصري صميم يحكم البلاد منذ آلاف السنين..»

- «ولم تستطع أن تكمل فقد انهارت باكية، كانت تريد عكس ذلك بالضبط كانت تريد أن تندب المحزونين المقهورين في المجزرة الهائلة بالسجن الحربي وتريد أن تبكي ضيعة الحق وحياة العبيد وعالم النفاق والكذب

- الذي يساق إليه الناس سوقا كما يحدث لها الآن

- وقال الرجل:

- لقد جرفك الحماس فعلا سوف يسعد الرئيس لسماعك.. وأنا واثق أنك سوف تنالين منصبا كبيرا في أقرب فرصة ولا تنسي الحلاوة..»

- «وقالت نبيلة وهي تجفف دموعها

- «أرجوك ألا تخبر عطوة بشيء فلم علم بما جرى لتخلى عني..»

- «لن يستطيع..»

- «كيف؟؟»

- «يخاف من غضب الرئيس عليه..»

- «هل سيبقى على علاقته بي..»

- «لا شك في ذلك..»

- وأشعل الرجل سيجارة من نوع «الكنت» وقال:

- «ومع ذلك فسوف أحقق لك ما تريدين لن أخبر عطوة..»

- «لا تجعله يعرف أنني كشفت مزاحة في المخابرات..»

- «هذا أمر متروك للرئيس نفسه ..أما بالنسبة لي فلن أتكلم..»

- هبت واقفة قالت وهي تلوح بيدها:

- «باي...باي..»

- كانت تمضي على غير هدى شعرت برغبة جارفة في السير على قدميها الرصيف مكتظ بالبشر وواجهات المحلات التجارية مرصعة بأفخم الطبائع وأغلاها والسيارات تملأ الشوارع بالضجيج وكلمات الغزل تطاردها حتى من الصبية المتسولين النائمين جوار الجدران بأرديتهم المتسخة، وشعورهم الرثة المتشعثة وأقدامهم الحافية أماما جرى منذ لحظات كان أمرا عجيبا لقد كان كلامها خليطا من التمرد والنقد الشديد، ومن الاستسلام والتوسل وكسب الثقة، اضطرب كل شيء في ذهنها وتشعر أن ساقيها لا تكادان تحملانها لكنها تتماسك وتسرع الخطى وكأنها تفر من وباء يطاردها أيمكن أن يكونوا قد بعثوا خلفها بمخبر يتجسس عليها ووجدت سيارة «أتوبيس» واقفة أمام أشارة المرور وتوشك أن تتحرك وقذفت بنفسها أمامها ثم عادت وانحرفت إلى اليمين، وأمسكت بعمود الباب، يلاحقها احتجاج السائق الذي انطلق مسرعا وهو يقول:

- «ما الذي تفعلين؟؟ كدت أدوسك..»

- «معذرة..»

- وفي زحام محطة تالية، تسللت وسط الجمع الغفير من الناس، وغاصت في الزحام، ثم دلفت إلى شارع جانبي تلفتت حولها فلم تجد أحدا وظلت سائرة طريقها حتى عثرت على «تاكسي» أخذها إلى عيادة الدكتور سالم.. وهناك ألقت بجسدها المنهك على مقعد أمامه وهي تشهق باكية..

أسرع بإعطائها حقنة مهدئة للأعصاب، ثم أخذ يستمع إليها، أدرك أنها نادمة على أنها لم تواجههم بالحقيقة كاملة، ولم تصرخ في وجوههم قائلة أنكم ظلمة قساة.. خونة.. وتركها الدكتور سالم حتى نفثت عن ألمها المكبوت.. وركنت إلى حال من الهدوء النسبي والاطمئنان ثم قال:

«هذا أمر طبيعي..»

- «كيف؟؟»

- دار بنظراته في جو الغرفة الوادع وقال:

- «عندما جاء أحد الصحابة إلى رسول الله يبكي، ويعتذر له عن إرغام المشركين له وتعذيبهم إياه، وإكراهه على سب الرسول تبسم محمد صلى الله عليه وسلم وقال: «وإن عادوا فعد..» أنت يا نبيلة في حالة إكراه وقلبك لم يزل ينبض بالحب والخير والإيمان ولا عليك مما قاله اللسان..»

- أخذت تجفف دموعها وتقول:

- «لقد تضاءلت أمام نفسي خيل إلي أنني مخلوق تافه حقير يخاف من التهديد وقسوة القضبان من أذن يستطيع أن تقول كلمة الحق..»

- قال الدكتور سالم بصوت صارم:

- «أنت..»

- «كيف؟؟»

- «بعملك..»

- وخلع السماعة عن عنقه واستطرد:

- «إن الذي يعزم على فعل الخير سيجد أمامه عشرات الأبواب المفتوحة والجهاد بالكلمة أسهل أنواع الجهاد..الكلمات تساعد على صنع التغيير لكنها ليست كل شيء ولم لم تتحول الكلمات إلى سلوك أو فعل فستبقى الأمور على ما هي عليه..»

- «هل أعددت أوراق السفر؟؟»

- نظرت إليه بعين حزينين وقالت:

- «سأبدأ اليوم بإذن الله..»

الفصل الثامن عشر

جلس نزلاء الزنزانة 47 بالسجن الحربي وقد أطبق الليل وقال الشيخ عبد الحميد النجار وهو يلتف بالبطانية الرثة المتسخة:

- «أتدرون لماذا انضممت إلى الإخوان المسلمين؟؟»

- نظر إليه الضابط معروف، ولم ينطق بينما انطلق رزق إبراهيم قائلا:

- «لماذا؟؟»

- «لأني رأيت فيهم الأمل لتحرير فلسطين..»

- تدخل الشاعر يوسف قائلا:

- «الهدف الأسمى هو تحكيم كتاب الله وشريعته..»

- التفت رزق إلى يوسف قائلا:

- «لا تعارض بين الاثنين..»

- رد يوسف:

- «أنا مصر على ما أقول فعندما تسود عدالة الله الأرض، فلسوف يندحر الظلم، وتتحقق الحرية للجميع.»

- كان الضابط معروف يستمع إلى الجميع باهتمام وكان قليل الكلام كثير الصمت وكان دائما ينصح إخوانه باللجوء إلى كتاب الله وتدبر معانيه، وقضاء الوقت في العبادة والاستغفار وكان مؤمنا أن من يتمعن في كتاب الله، يجد الحلول لكل المشاكل وتتضح أمامه السبل وينجلي كل غموض وإبهام لأنه يثق ثقة مطلقة أن المؤمن الحق يرى بنور الله، وأن صدق النية، وقوة العزيمة يبعثان على الأمل، ويحققان الهدف المنشود وخرج معروف عن صمته قائلا:

- «أيها الإخوان العالم كله ليس فيه حرية هذه هي عقيدتي التي لا تتزعزع .»

- قاطعه طالب الحقوق رزق إبراهيم قائلا:

- «يجب أن نحقق أولا مفهوم الحرية..»

- «في كلمات قصار أقول هي أن تقول ما تشاء وتفعل ما تشاء دون تعد على أوامر الله ونواهيه..»

- وسادت فترة صمت قال معروف بعدها:

- «في هذا الإطار تستطيع أن تنطلق فتبدع وتنتج وتحقق السعادة لنفسك وللآخرين، من كل لون ودين، ومن ثم تصل إلى الهدف الأسمى ألا وهو رضاء الله..»

- ولم يعترض أحد، لكن النزيل المريض محمود صقر أردف:

- «وهل هذه مهمة هينة..»

- «في كل العصور كانت رسالة شاقة تتطلب التضحيات الجسام.» وأراد رزق أن يوضح أبعاد القضية فقال:

- «الشرق الشيوعي يهدد إنسانية الإنسان ويرتكب الجرائم البشعة ويلقم الضحايا التعساء لقمة العيش والغرب مع أمريكا يطلبون الحرية لهم ولا مانع لديهم من استعمار الشعوب وإذلالهم ونهب ثرواتهم إنها عنصرية نوع مقيت حتى الحرية في بلادهم يتحكم فيها رجال المال والأعمال ولهذا انحسرت الحرية في فحش القول وسعار الجنس، والانفلات من قيود الفضيلة والدين قل لي بربك من هناك يملك الصحف والإذاعات وغيرها أنا أعترف بأنهم حققوا قدرا من العدالة الاجتماعية وحرية الفكر والعلم وهناك رواد أصلاء لكن الحرية الحقيقة هي التي تعن بني البشر وتفك الإنسان من إسار الحاجة وتسلط مراكز القوة السياسية والاقتصادية والفكرية..»

- واستمر الجدل حول هذه النقاط كلها، وكان رزق يستشهد بنصوص القانون الدولي وهيئة الأمم ويحاول يوسف أن يقدم من آن لآخر آية في آيات القرآن أو حديثا صحيحا من أحاديث الرسول، أو قولا لفقيه من الفقهاء وعاد الحوار يدور حول قضية فلسطين فأخذ معروف يشرح لهم صعوبة الموقف حيث أن أمريكا وأوربا متحالفة مع الصهيونية ذات التأثير البالغ النفوذ في حياتهم السياسية والفكرية كما أن روسيا تؤيد إسرائيل وتدعمها وحكام العالم الإسلامي أضعف من أن يواجهوا هذا التيار الجارف وهم على ما هم عليه من تأخر وانهيار وتفكك فضلا عن أن شعبنا كشعب مصر بما له من ثقل مادي معنوي لا يستطيع أن يؤدي واجبه والسياط تلهب ظهره، والاستبداد يشل حركته عندئذ قال عبد الحميد النجار:

- «لهذا كنت أقول دائما أن الأمل منوط بالإخوان لأنهم الجهة الحية الوحيدة التي لا تخضع لشرق أو لغرب ولا تأتمر لحاكم من الحكام ألا وهي أن نكبتنا تلك التي نعاني منها وراءها أصابع خفية أصابع حلف الدنس للشيوعية والصهيونية والاستعمار الانجلو أمريكي أنهم جميعا أعداء الإسلام الذي سوف يهدد مصالحهم إذا ما نهض وأظل الناس برايته..»

- ولم يستطع عبد الحميد أن يستطرد في حديثه فقد صوت العسكري المناوب يصرخ في جوف الليل:

- «المعتقل عبد الحميد النجار المعتقل عبد الحميد النجار اخبط على الباب يا ابن الكلب.»

- هب عبد الحميد مذعورا وجرى صوب باب الزنزانة بحركة تلقائية وأخذ يدق الباب بقبضته المتشنجة ويقول:

- «زنزانة 47 يا أفندم»

- وساد الصمت الممزوج بالخوف واشرأبت الأعناق نحو الباب المغلق وغمغم عبد الحميد وهو يقف خلف الباب «خير يارب» وتمتم يوسف «أيام الهوان لا نهاية لها» أما رزق فقد هدر: «يا لضيعة حقوق الإنسان في هذا الكون الجهنمي» أما محمود صقر فقد قال بصوت واهن:

- «وادعوا لأخيكم بالستر والتوفيق...»

- وبقي الضابط معروف صامتًا وعيناه مصوبتان إلى الباب السميك الصلد برغم الظلام وفتحك الباب فهب الإخوان واقفين وأدوا التحية العسكرية قائلين..«تمام يا أفندم» وظل معروف جالسا مكانه يرقب المشهد بأسى، عندئذ نظر إليه العسكري في حنق وصوب نحوه ضوء منظاره الكاشف وصاح:

- «أنت يا حيوان.. لماذا لا تقف؟؟»

- قال معروف دون أن يتحرك من مكانه:

- «اخرس . قطع لسانك..»

- وتوقع الجميع أن ينهال العسكري عليه ضربا بالسوط لكن الذي حدث كان غريبا غاية الغرابة لأن المعتقلين لم يألفوه من قبل لقد أخذ العسكري يتراجع في غير قليل من الخوف ثم صاح لعبد الحميد:

- «أنت عبد الحميد..؟؟»

- «نعم .. هيا »

- ثم أغلق الباب وبعد لحظات سمعوا الجندي يأمر بعد الحميد «سريعا مارش» واستطاعوا أن يسمعوا أزيز السياط وهي تهوى عليه وسيل الشتائم التي يقذفها العسكري في بذاءة وقحة لا نظري لها..

- قال معروف:

- «فلنقرأ شيئا من القرآن ولندع الله له..»

- أخذوا يقرءون وأخفى الظلام دموعا تسربت فوق الوجوه الشاحبة، كانت صورة عبد الحميد عالقة بأذهانهم وقلوبهم تنبض في قوة، لكأنما انتزعوا عضوا من أعضاء جسدهم إن أجزاء منهم هناك.. معه، وبقية منه مازالت مرافقة لهم .. كيان واحد يتمزق بلا رحمة وبعد أن انتهوا من القراءة ورف يوسف يديه صوب السماء وأخذ يدعو لعبد الحميد دعوات صادقة مؤثرة وهم يؤمنون على دعائه..

- وقال معروف وهو يعد العدة لكي ينام:

- «إن ما يجيرني هو أن الإنسان لا يتعظ أبدا بأحداث التاريخ ..» ولم يعلق أحد وبعد لحظات وبعد لحظات قال يوسف:

- «وهل تستطيع أن تنام؟؟»

- قال رزق:

- «سننتظر حتى يعود..»

- قال محمود صقر بصوت واهن:

- «قد يعود بعد يوم أو يومين أو ثلاثة..»

- وقال يوسف:

- «بعضنا لم يعد على الإطلاق..»

- أما معروف فقد قال وهو يتصنع النوم:

- «باسمك اللهم وضعت جنبي وبك أرفعه اللهم إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين.

- فتش عبد الحميد في ذهنه عن شيء يمكن أن يكون موضع مساءلة فلم يجد إن حياته التعليمي والاجتماعي والسياسي وحتى العاطفي يمر بسرعة خاطفة لعل عبد الحميد يستشف منه أمرا يتعلق به وهو، لكن بدون فائدة خير للإنسان ألف مرة أن يكون قد أتى فعلا معروفا يحاسب عليه أما أن يذهب إلى مكاتب التحقيق وهو لا يعلم من أمر جريمته شيئا فهذا أمر قاتل لقد كان عبد الحميد يواجه اليهود في المعارك الدامية بقلب من حديد كان يصول ويجول وكأنه يمارس عملا عاديا من أعمال الحياة لابد أن ينجزه لكنه لأول مرة يقدم على مواجهة المحققين وهو واجف القلب مضطرب الفكر إن اليهود أعداء وهذا أمر واضح محدد قد استقر في ذهنه هم مغتصبون معتدون ظالمون غرباء ومن ثم فلا مجال للتردد، أما اليوم فهو يواجه أخوة له يفعلون فعل اليهود في عدوانهم وظلمهم وقسوتهم وهذا أمر على نسفه في المعارك الضارية التي تزهق فيه الأرواح وعندما وصل إلى الساحة الحمراء حيث المجزرة الدائمة نظر إليه المحقق وقال:

- «ضمه مع أفراد قضية سوريا.. أغني منشورات سوريا..»

- ولم يفهم عبد الحميد من عبارة الضابط شيئًا، ما المقصود بمشورات سوريا، وما ضلته هو بذلك؟ ووجد عبد الحميد نفسه وسط مجموعة من الرجال لا يعرف واحدا منهم حاول أن يلتفت إلى جاره فعاجله العسكري بضربات سوطه قائلا:

- «عبد الحميد»

- «نعم يا أفندم.»

- «لا أحب اللف والدوران..»

- «نعم..»

- «من الذي هرب المنشورات السورية يا عبد الحميد..؟؟

- «أية منشورات؟ لا أعرف عنها شيئا..»

- «أقسم بالله أني لا أعرف عنها شيئا..»

- «الإنكار لا يفيدك..»

- «والله لا أذهب إلى سوريا طول حياتي..»

- «عبد الحميد افهمني يا بابني .. لقد وزعت هذه المنشورات في الأزهر..»

- «قال عبد الحميد..

- «الأزهر يا بك فيه عشرات الألوف..»


- «لكن أليس هناك سوى عبد الحميد واحد..»

- «ولم أنا بالذات؟؟»

- «تحرياتنا تقول إنك ضالع في الجريمة.»

- «وما هو الدليل..»

- صفعه الضابط على وجهه قائلا:

- أتسألني عن الدليل يا لاجئ يا بن ال..؟؟»

- نظر إليه عبد الحميد في حزن وقال:

- «لأنني يقينا لا أعرف شيئا..»

- «بلغ المحقق ريقه، وتنهد في صبر نافذ وقال:

- «حسنا الفتاة قالت أنها سمعت طالبين أزهريين يتحدثان عن المنشورات في الترام..»

- «ومن هما؟؟»

- «لا نعرف ياسي عبد الحميد لو كنا عرفناهما لانتهى الأمر..»

- «ثم التفت الضابط ناحية اليمين وقال:

- «تعالى يا وفاء..»

- جاءت الفتاة ترتجف قال الضابط.

- «لا تخافي يا بنتي .. نحن لا نريد إلا الحقيقة أتعرفين هذا الرجل»

- هزت رأسها قائلة:

- «الكذب حرام يا بك.. أنا لا أعرفه..»

- وأشار الضابط بيده فأحضروا أكثر من خمسة عشر نفرا كانوا متراصين جوار عبد الحميد ووجوههم للحائط وأياديهم مرفوعة إلى أعلى ومروا على عبد الحميد واحدا واحدا للتعرف عليه فلم يعرف أحد..

- وغمغم الضابط:

- «هنا التفاهم لا يحل المشكلة ولا يلقى الضوء على أية قضية الكرباج وحده هو الحل الحاسم..»

- «وانهالت السياط في وقت واحد على أجساد المجموعة بما فيهم وفاء التي كانت تصرخ بطريقة تمزق نياط القلوب كان مشهدا مؤلما لعبد الحميد النجار، تذكر أخته التي تتعلم في جامعة بيروت، أنها في عمر وفاء من يدري؟؟ قد لا يرحمون وفاء، وقد يأمرون «العسكر الأسود» بهتك عرضها فتعيش جريحة ناقمة يائسة طول حياتها فعل اليهود ذلك في بعض الأوقات، وهنا يفعلها حسبما سمع العساكر الجهلاء لا حد للحماقة والظلم لق وهب عبد الحميد يوما ما حياته فداء لوطنه ونذر نفسه لله، كان من المتوقع أن يستشهد على ثرى أرضه وهو يدافع موجات الغزو الصهيوني الغادر وعندما آمن بمبادئ الإسلام وانخرط في سلك الإخوان المسلمين كان يعلم أن معركته في سبيل المبادئ لن تقل شراسة وخطرا على معركته في سبيل الأرض لماذا لايفعل شيئا لينقذ هذه المجموعة التي اختاروها اعتباطا ويحمي عرض هذه الفتاة بالذات ومستقبلها وصاح عبد الحميد بأعلى صوته:

- «كفى سأقول الحق»

- وهرول الضبابط صوبه وهو يشير لحملة السياط كي يكفوا عن الضرب «قال عبد الحميد أنت رجل صادق وشجاع أن الشجاعة هي أن تعترف بالحقيقة لا أن تصمد للتعذيب لأن التعذيب لا يليق إلا بالحمقى والحيوانات وأنت رجل تربيت في أحضان الدين وتعرف الله..»

- نظر إليه عبد الحميد طويلا وابتسم في مرارة

- صاح الضابط:

- «تكلم»

- «أنا الذي هربت المنشورات حقيقة أنا لم أذهب إلى سوريا لكن الذي أرسلها لي هو «وليد عبد الحميد»

- التفت إليه الضابط في اهتمام وقال:

- «ومن هو وليد؟؟ وأين يسكن؟؟ وكيف التقى بك؟؟»

- «وليد زميل لي في معركة الفدائيين مع اليهود أنه سوري الجنسية ومن الإخوان ومن سكان حلب على ما أذكر أرسلها إلى بالبريد..»

- «هز الضابط رأسه في ضيق قائلا:

- «بالبريد؟.؟»

- «نعم»

- «وأين هي المنشورات؟؟»

- «وزعتها كلها..»

- «أين؟؟»

- صمت عبد الحميد برهة وقال:

- «في الشوارع في الترام والأتوبيسات وفي معاهد الأزهر..»

- «ألا تعرف عدد هذه المنشورات..»

- «مطلقا»

- «ألم تعط أحد من أصدقائك في الأزهر..»

- «فكرت في ذلك لكني لم أفعل»

- «لماذا ؟؟»

- «مخافة أن يقبض على أحدهم فيتعرف علي..»

- وغمغم الضابط:

- «شيطان أنت إرهابي ضليع..»

- وأخيرا قال الضابط:

- «ألم تحتفظ بمنشورات من هذه المنشورات..»

- قال عبد الحميد في خبث مصطنع:

- «لم يكن من المعقول أن أحتفظ بشيء يدينني في المستقبل..»

- ومع ذلك فقد استدعى الضابط على الفور أحد زملائه وكلفه بإرسال إشارة عاجلة لوزارة الداخلية كي تقوم بتفتيش مسكن عبد الحميد النجار ومساكن أصدقائه حسب التحريات السابقة، على أن يكون التفتيش غاية الدقة.

- ثم عاد الضابط إلى عبد الحميد ليقول له:

- أرجو أن تذكر لنا كل ما كتب في المنشورات بأمانة..»

- «نعم..»

- وصمت عبد الحميد برهة إن القصة كلها مخترعة من وحي خياله أراد أن ينقذ هؤلاء المظلومين حتى يعودوا إلى ذويهم وأن يستخلص هذه الفتاة المسكينة وفاء من بين مخالب الذئاب التي لا تعرف الرحمة ولا الشرف ولا العدل، حتى اسم صديقه السوري أيضا كان اسما مخترعا ولا وجود له في عالم الحقيقة وما دامت قصة المنشورات كلها قصة مصطنعة فكيف يدلي بمضمونها؟ أنها مهمة شاقة لكن عليه أن يتصرف وأن يبلغ بالتضحية إلى منتهاها هو يعمل أنه يكذب لكنه كذب الشرفاء الذين يضحون بأنفسهم من أجل إنقاذ المظلومين لأن يظلم عبد الحميد وحده، أخف وطأة من أن يساق هؤلاء الأبرياء إلى العذاب أو الموت فالمحققون لابد أن يخرجوا بنتيجة حتى ولو كانت على حساب الشرف وقدسية الحياة لكن ماذا يمكن أن تتضمن هذه المنشورات؟ وصرخ الضابط:

- «تكلم يا عبد الحميد.. تكلم حتى تنقذ هؤلاء المساكين.»

- «أؤكد لك يا حضرة الضابط أن هؤلاء جميعا مظلمون وليس لأي واحد فيهم صلة بالموضوع.»

- «أعلم .. أعلم..»

- «تنحنح عبد الحميد وقال:

- «المنشورات يتحدث عن انحراف الثورة وبطشها بالأبرياء وانسياقها وراء القوى الاستعمارية والصليبية المعادية للإسلام ويتحدث عن ضياع الحريات العامة وانتهاك الدستور وقتل عدد كبير من الإخوان دون محاكمة وعن الفساد الذي استشرى في كل مرافق الحياة في مصر وإحالة الشعب إلى جواسيس واضطهاد أساتذة الجامعات وفصل بعضهم من مناصبهم وإرهاب معظم المفكرين والكتاب الأحرار، واللجوء إلى أخس الوسائل وأحطها للتعامل مع كل صاحب فكر إسلامي أو رأي حر وملئ المساجد والنقابات ومعاهد العلم برجال المباحث والمخابرات..»

- وصمت عبد الحميد برهة فقال الضابط:

- «ألم يقولوا شيئا عن محكمة الشعب..»

- عاد عبد الحميد إلى ابتسامته الساخرة وقال:

- «قالوا أنها مثل حكم «قراقوش» وأنها غير دستورية وأن قضاتها فئة من المنحرفين والشواذ»

- غمغم الضابط قائلا:

- «الله. .. الله.. وماذا أيضا؟؟»

- «وأن الأحكام مسبقة وموضوعة قبل المحاكمة..»

- «حلو وكيف عرفوا ذلك أولاد الزانية..»

- وأن الصحافة لم تصور القضية تصويرا عادلا بل اندفعت إلى تشويه الإخوان وصفحات نضالهم توشيها مقصودا وألصقت بهم الصفات الذميمة والتهم الباطلة زورا وبهتانا..»

- احتقن وجه الضابط في غيظ وقال:

- «ثم ماذا؟؟»

- «ثم دعت الشعب إلى الثورة على الظلم والفساد وتلقين المسئولين درسا حاسما وقالت إن النصر لا شك آت وأن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة..»

- قال الضابط وهو يصر على أسنانه من الغيظ:

- «أبقي شيء؟؟»

- «لا.»

- وأمسك الضابط بأذن عبد الحميد وجره في عنف وقال:

- «أتجرؤ على نشر مثل هذا الكلام بين الناس يا ساقط يا لاجئ يا ابن الكلب.؟؟»

- «هذا ما حدث..»

- «الإعدام قليل عليك..»

- «لله الأمر .. ما شاء يفعل..»

- «لا تتكلم عن الله..»

- «ليس لي غيره..»

- «أنتم إخوان الشياطين..»

- وسادت فترة صمت قال الضابط بعدها:

- وتجمع المتهمون حوله وفيهم وفاء .. قال الضابط لهم:

- «أنني آسف لكل ما جرى لكم.. لكن الذنب ليس ذنبنا ولا ذنب الحكومة هذا الوغد السافل المدعو «عبد الحميد النجار» هو سبب كل بلية لقد سمعتم كيف اعترف بحيازته للمنشورات وتوزيعها بين الجمهور، إذن فالجريمة واضحة أمامكم والمجرم هاهو يقف بينكم وعليكم أن تلقنوه الدرس الذي يستحق..»

- ثم أخذ السياط من العساكر وسلم كل مهم سوطا، ووضع عبد الحميد في مركز الحلقة التي كونها منهم، وقال:

- «عليكم أن تضربوه..»

- ولما لم يتحركوا صرخ فيهم الضابط:

- «إذا لم تضربوه فسنضربكم أنتم هيا..»

- ورفع المتهمون سياطهم وأخذوا يضربون عبد الحميد وهو يبتسم في ألم لكن الضابط صاح:

- «ما هكذا يكون الضرب..«ثم تناول سوطا، وانهال على عبد الحميد دون شفقه ثم مال صوب المتهمين وأخذ يضربهم في جنون حتى يوسعوا عبد الحميد ضربا مبرحا حسبما يريد، فلم يجدوا مناصا من انفعلوا ما أراد الضابط وعبد الحميد يتلقى الضربات صامتا مستسلما وألقت وفاء بسوطها على الأرض وأمسكت بخناق عبد الحميد وهي تقول:

- «لماذا فعلت ذلك حرام عليك..أيعجبك ما جرى لنا سببك؟؟أنت لا تعرف ما عانيته طوال الساعة الماضية لقد كاد عقلي أن يذهب منك. لله..»

- وأفلتت دمعة من بين أهداب عبد الحميد وهو يقول:

- «آسف يا آنسة وفاء لقد فعلت كل ما وسعي لإنقاذك أعني إنقاذكم..»

- «أليس عندك ضمير؟؟ كيف حفظت القرآن إذن؟؟»

- «آنسه وفاء كل ابن آدم خطاء وأحب الخطائين إلى الله التوابون..»

- «منك لله يا شيخ»

- وأشار الضابط بيده كي يكفوا عن الضرب والصياح حينما وجد عبد الحميد قد سقط على الأرض مغشيا عليه..

- «احملوه إلى الفسقية أولقوا به في الماء حتى يفيق ونستكمل التحقيق»

- وبعد أن حملوا عبد الحميد قال الضابط وهو يخفف عرقه:

- حسنا سوف نفرج عنكم أن تحرياتنا ونتيجة التحقيق قد أكدت لنا أنه لا علاقة لكم بتنظيم الإخوان المسلمين وأن المجرم الحقيقي هو عبد الحميد النجار، ويجب أن تعلموا أن هذا الآثم ضالع ف صلته بالاستعمار والصهيونية وأنه لا شك ضمن شبكة رهيبة تهدف إلى قلب نظام الحكم في البلد ولا شك أن أصابع المخابرات المركزية الأمريكية تحرك هذه الخيانات وستقرأون كل هذه التفاصيل في الصحف عندما يفرج عنكم قالت وفاء ودموع الفرح في عينها:

- «هل سيفرج عني..»

- «بالتأكيد..»

- «اليوم»

- «ليس اليوم..»

- «لماذا؟؟»

- قال الضابط وقد اجتاحته موجة مفاجئة من السعادة

- «لابد أن يعترف عبد الحميد بكل الأشياء التي حدثتكم عنها ثم يقفل باب التحقيق ولا تنسوا أنه لا يمكن الإفراج عنكم وآثار الضرب على أجسادكم ماذا تقول الناس عنا؟ لابد أن تلتئم الجروح أولا وتزول الكدمات وجميع الآثار..»

- قالت وفاء في ضراع:

- لن أخرج من بيتي ولن يراني أحد.. ولن أقول حرفا واحدا مما جرى»

- «بالطبع لأن من يتكلم يعود إلى هنا مرة ثانية..»

- «صاحت وفاء في هستيرية:

- مستحيل مستحيل لا أريد أن أعود إلى هنا أبدا لو حدث فسوف أموت..»

- «اطمئني يا آنستي وستكون صلتك بنا في المستقبل قوية ستكونين عينا من عيوننا هذا إذا أردت أن يفرج عنك..»

- «ماذا تعني؟؟»

- «قال وهو يعطيها ظهره منصرفا:

- «ستعرفين كل شيء في حينه..»

- وبعد أن مشى الضابط خطوات عاد واستدار صوبها قائلا:

- «سوف ترحلين إلى سجن القناطر الخيرية تمهيدا للإفراج عنك هناك سجن النساء أما زملاؤك فسنقلهم إلى القلعة إعدادا للإفراج»

- وأخذ الجميع يتبادلون القبلات والعناق ونسيت وفاء نفسها وفعلت مثلما يفعلون وبينما هم غارقون في نشوتهم التي أنستهم السياط المؤلمة جاءهم صوت أحد العساكر الواقفين:

- «وجهك للحائط يا ابن الكلب أنت وهو وهي..»

- «وفي لحظات كانت نظراتهم مركزة على الجدار الكاحل الأصم، وعاد العسكري يقول:

- «ارفعوا أيديكم..»

- «وشدت الأذرع الشاحبة صوب السماء.

- وقال أحد العساكر لزميله هامسا:

- «أرأيت ؟؟ لقد ظهر أنهم جواسيس..»

- رد زميله قائلا:

- «يهيأ لي أن الولد «عبد الحميد» لابد أنه يهودي شكله يقول ذلك والله كان في نيتي ألفت نظر حضرة الضابط يا خبر أسود شياطين ورب الكعبة ربنا ينصرك عليهم يا جمال عبد الناصر..»

- وغمغمت وفاء بينها وبين نفسها:

- «لسوف أعيش طول حياتي لا أرى شيئا ولا أسمع شيئا سوف أطبق فمي إلى الأبد لقد سمعت الطالبين يتحدثان في الترام عن بعض المنشورات السورية أبلغت أحد أقاربي الضباط ظننت أنتي سوف أنال مكافأة لكن للأسف لم يقابلوني بغير السياط واللعنات والمساخر وسألت عن قريبي الضابط فلعنوه ولعنوا أباه وأمه. وجدت نفسي فجأة معلقة من ضفائري والسياط تلهب جسدي وأنا الذي أقمت الدنيا وأقعدتها و أنا طفلة في الابتدائي حينما صفعتني المدرسة صفعة خفيفة وثار أبي وثارت أمي وشكوها إلى وزير التربية والتعليم ليتني لم أتكلم ألا يمكن أن يكون أصحاب المنشورات على حق؟ أن نظرات عبد الحميد توحي بالبراءة والحب والشجاعة وكان لابتسامه معنى غريب لم أفهمه إن قلبي يحدثني بأن هذا الرجل يخفي شيئا أنع عالم من الغموض والقوة حتى عندما اعترف لم يكن منهارا كان يتكلم بثقة اتزان الجميع هنا يعرفون وهم في أشد حالات الوهن والضعف أما هو يسقط مغشيا علي وأضمد له جراحه وأسقيه ماء كان يبدو ظمئا لكنه كان صابرا ثابتا حتى عندما سقط لم أر على وجهه علامات الألم أو الخوف لكن لماذا فعل ماذا تجدي المنشورات إزاء هذه القوة الباطشة العاتية.. الورقة لا تصنع شيئا أمام المدفع والسياط»

- وصحت وفاء من أحلامها على صوت خلفها يقول:

- «آنسه وفاء..»

- «نعم..»

- «هيا..»

- «إلى أين.؟؟»

- «ستعرفين فيما بعد..»

- وفي مكتب عطوة بك وجدت قريبها الضابط الذي شمعته يقول:

- «الله يخرب بيتك يا عطوة ماذا فعلت بالبنت يا متوحش قال عطوة في خبث:

- «لزوم الشيء»

- «أليس في قلبك رحمة؟؟»

- «الرحمة مسألة نسبية أنها أمامك حية ترزق..»

- وتضاحكا..

- واقترب الرجل من وفاء قائلا:

- «لا تحزني إن إجراءات الأمن سخيفة بعض الشيء لكن ثقي إنك قدمت للعدالة خدمة وطنية كبرى وأؤكد لك أنك سوف تكافئين عليها..»

- قالت وفاء والدموع في عينيها:

- فقط اتركوني لحالي..»

- قال قريبها:

- «ستقضين أسبوعين في سجن القناطر للنساء وبعدها تخرجين..»

- علق عطوة في سجف:

- «أسبوعان هذه فترة طويلة..»

- لابد أن لديك موعدا هاما..»

- نظرت إلى وجهه الشرس وابتسامته المقيتة ثم أرخت أهدابها في استسلام وناجت ربها بصوت لا يسمع:

- «يا رب أنت وحدك تعلم ما بي..»

- ونظرت إلى ركن في الغرفة فوجدت عبد الحميد جالسا لا يستطيع النهوض لكثرة ما لاقى من عناء تمنت أن ترمي بنفسها فوقه وتقبله وتذرف الدموع على قدميه الشريفتين لكنها وقفت كالمشلولة وسمعت الضابط يقول له:

- «سوف تعود إلى زنزانتك الآن حتى تستريح بضع ساعات وتأكل وتنام وبعدها تكمل التحقيق..»

- قال عبد الحميد:

- «أما زالت هناك بقية..»

- قال الضابط مقهقها:

- «كثير جدا ياما في الجراب يا حاوي!!»

الفصل التاسع عشر

عاد عبد الحميد إلى زنزانته مهدما يكاد يسقط إعياء ألقى السلام على الإخوان وهو يحاول أن يبتسم لكن ابتسامته كانت بيتا من الشعر المعبر في صدق عن ذكريات ليلة طويلة لم ينم له فيها جفن، وأدرك الجميع ما يعانيه أخوهم من كرب وأسى وهو يتذرع بالصبر والرضا وارتمى إلى جوار محمود صقر لاهثا كانت ثيابه ملوثة بالدماء وخطوط سوداء تسجل على رأسه وجسده قصة العسف الذي لا يرحم وامتد الصمت والقلق احتراما لآلام إنسان لكن رزق إبراهيم عادة لا يطيق والصمت ولا الصبر أما معرفو فقد فهم كل شيء بعد نظرة شاملة، وعادة إلى التمتمة وقراءة القرآن بينما أغمض محمود عينيه وهو يتذكر أيام التحقيق الرهيبة والشاعر يوسف كانت عينها تدوران في محجريها وتكادان تثقبان السقف قال رزق:

«ثيابك مبتلة..»

رد عبد الحميد..

- أغرقوني في الفسقية حتى أفيق..»

- «لهذه الدرجة..»

- «إنهم عادة يفعلون ذلك لمن يعمى عليه..»

- «أعرف لكن ماذا أقول؟؟ لقد انتهى التحقيق معك منذ فترة طويلة..»

- قال عبد الحميد وهو يكز على أسنانه من الألم:

- «ملحمة كتبها الله علينا وهل لتحقيقاتهم نهاية؟

- «هذا أمر غجيب..»

- «يا رزق قصتنا معهم قصة الحياة والموت نحن أو هم هكذا يتصورون لأمكان لكلينا في الدنيا أنهم لا يريدون أن يسمعوا من أحد كملمة لا»

- «وأخذ عبد الحميد يروي لهم قصة المنشورات السورية بكاملها وكيف أن استدعاءه كان مجرد احتياط إذ أن المنشورات وزعت في دور العلم الأزهرية وهو طالب بالأزهر ثم شرح لهم تطورات التحقيق وكيف قرر أن يضحي بنفسه لإنقاذ الأبرياء المساكين وخاصة الفتاة وفاء التي جازوها جزاء سنمار وكان الجميع مشدودين إلى روايته المثيرة التي لا تكاد تصدق وغمغم عبد الحميد في نهاية حديثه قائلا:

- وهكذا أصبحت على رأس تنظيم سري جديد وعلى رأس مجموعة تخطط لقلب نظام الحكم في البلاد الأمر الذي لم أفكر فيه في يوم من الأيام..

- كان معروف مستغرقا في سماع القصة وهو مضطجع على فراشه وفي النهاية اعتدل في جلسته وقال:

- «لا أوافقك على هذا يا عبد الحميد..»

- قال عبد الحميد وهو ينظر إليه في حيرة:

- «إننا بذلك نعطيهم ورقة ليعلبوا بها ويدينونا أمام الرأي العام بالتأكيد سينشرون ذلك اليوم في الصحف وسيضيفون عليها من وحي خيالهم ما يثير الناس..»

- «ليفعوا ما شاءوا فسيان عندي أن أكون مجرد معتقل مشتبه في أمره أو متهم تثبتت إدانته وحكم عليه بالسجن ولا شك أن الذهاب إلى السجون المدنية عقب الحكم علينا أفضل من البقاء هنا.. وعندما يريد الله لهذه الغمة أن تنجلي فسوف تشمل عفوه المعتقل والمحكوم عليه بالسجن والحقيقة أن الحكومة لا تؤمن بفرق بين الاثنين.

- قال معروف وهو يشير بسبابته:

- «الأمر ليس كما تتصور..»

- «كيف يا معروف..»

- «لا يصح أن نقول سوى الحقيقة..»

- ابتسم عبد الحميد في شيء من الضيق:

- «لقد اعتبرته تضحية..»

- «إني أختلف معك..»

- «لقد أرادوا يا معروف هتك عرض وفاء..»

- «ليست مسئوليتك..»

- «والتعذيب كاد يودي بحياة البعض..»

- وما ذنبك أنت يا عبد الحميد.؟

- «أحسست أن الله يرضى على عملي..»

- «علم هذا عنه وحده أعرف أنك شريف النية والأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى لكن الصمود في وجه الافتراء واجب كان يجب أن تصمد..»

- «وإذا مات أحدهم أو مت أنا؟؟»

- «الأعمار بيد الله..»

- «وران الصمت على الجميع كانت العيون مضطربة قلقة والرؤوس تغلي بالحيرة والغضب والثورة ورزق إبراهيم لم يطق الجلوس بل ظل واقفا طول الوقت يروح ويجئ في الزنزانة الضيقة ومن آن لأخر يتوقف ثم ينظر إلى معروف تارة وإلى عبد الحميد تارة أخرى.. - وعاد معروف يقول:

- لقد فعل محمود صقر ذلك تمسك بالحقيقة ماذا لو اعترف بحيازته للسلاح أعتقد أنهم كانوا سيدسون السلاح في بيته، وينسبونه إليه زورا يجب أن نصفعهم بالحقيقة مهما كانت النتيجة..»

- قال عبد الحميد في حيرة.

- وماذا أفعل الآن؟؟»

- قال معروف:

- «الأمر واضح..»

- «كيف..»

- «أن تسحب كل أقوالك تنكرها جملا وتفصيلا والسبب بسيط وهو أن ذلك لم يحدث وأنك ما قلت تحت وطأة الخوف والتعذيب ولك أن ترفض التوقيع على المحضر حتى لو شنقوك..»

- «قال عبد الحميد في شيء من عدم الاكتراث:

- «الاعتراف تحت الضغط والإكراه البدني أو النفسي لا قيمة له قانونا »

- رد عليه الشاعر يوسف قائلا:

- دعك من القانون والزفت يا رزق..

- وابتلع يوسف ريقه ثم قال في شرود:

- «إن الإنكار يعني الحيرة بالنسبة لهم سوف يدركون أن هناك مجموعة من الناس تعارضهم وتوزع المنشورات المعادية لهم وهذا يبعث الرعب والخوف في قلوبهم لأنهم لم يضعوا أيديهم على ذلك التنظيم إن صح التعبير..

- دعهم يتعذبون بالحيرة والقلق والخوف مثلما نتعذب..»

- «إذن فالتحقيق لن ينتهي وقصة العذاب ستطول»

- قال معروف في يقين:

- «ومن قال أنهم سيكفون عن ارتكاب المظالم؟ إن ماضيهم الأسود وتماديهم في المظالم يدفعهم دائما إلى مزيد من الحماقات إنهم لم يتراجعوا عن خطتهم لأن تراجعهم قد يقضي عليهم وهو لا ينظرون إلى الأمر على أنه حق أو باطل بل ينظرون إليه من حيث نفعه لهم أو إضراره بهم قوم بلا ضمائر..»

- قال عبد الحميد وقد تنادى جبينه بالعرق:

- «ليكن ما يكون قدر الله وما شاء فعل..»

- قال معروف:

- «يجب أن تتخذ قرارك منذ الآن..»

- «لا مجال للتردد إنني مقتنع بما تقول..»

- وفجأة دق الباب هب الجميع واقفين اقترب رزق إبراهيم من الباب سمع صوتا يعرفه جيدا أنه صوت أخيهم إسماعيل أحد المعتقلين الذين يسمح لهم بالتجول في أنحاء المعتقل للقيام بخدمة العساكر بدلا من قوري اليهودي، وقد كان إسماعيل ذكيا بارعا يستطيع أن يجذب إليه أي إنسان لحسن تصرفه وقوة شخصيته وسرعة بديهته كما كان قادرا على اكتساب الثقة في أقصر وقت قال إسماعيل:

- «يا إخوان»

- رد رزق قائلا:

- «نعم»

- «استمعوا إلي جيدا.. لقد علمت اليوم أن رجال الأمن قد ألقوا القبض على تنظيم إخواني جديد قوامه ستمائة فرد. أننا على أبواب مزيد من المحن استعينوا بالله واصبروا والعاقبة للمتقين..»

- حاول رزق أن يسأل ليعرف مزيدا من المعلومات لكن إسماعيل كان قد فر إلى زنزانة أخرى ليحمل إليهم النبأ المثير حتى يأخذوا حذرهم ويستعدوا لما يحدث عادة في مثل هذه الظروف وقال رزق:

- «لم كين هناك داع لمثل هذه التنظيمات الجديدة الآن ..أنها سوف تجلب علينا مزيدا من الوبال أعني الكوارث..»

- قال معروف باسما:

- «كان البعض يظن أن الإخوان المسلمين انتهوا إلى الأبد.. ورأيي الشخصي أن القافلة تسير وأن المعركة مستمرة وأن الصراع قائم ما قات الحياة فعلى الرغم مما أتوقعه من عنف وظلم بالنسبة لنا إلا أنني أشعر بغير قليل من السعادة»

- وهز الشاعر يوسف رأسه قائلا:

- كتب الله لأغلبن أنا ورسلي تلك آية من القرآن أكدها الله وقال أيضا: «وكان حقا علينا نصر المؤمنين ..» الشرط الوحيد للنصر هو الإيمان ويا له من شرط!!

- والواقع أن الإخوان في السجون والمعتقلات قد قابلوا هذا النبأ بمزيج من الدهشة والإشفاق والأمل أيضا أنه يعني حسبما قال معروف أن المعركة دائرة، ولم تكتب السطور الأخيرة فيها بعد، وهذا يؤكد للطغاة أن التمادي في العنف قد يخلق مزيدا من الأعداء ومزيدا من المقاومة.

- وعلى الرغم من الآلام التي يعاني منها عبد الحميد لا أنه أراد أن يبدد غيوم القلب والأسى التي أظلت الإخوان وفي نفس الوقت أراد أن ينسى نفسه ما سوف ينتظره من دعوة إلى التحقيق وما يجره عليه من أحزان لهذا قال:

- «لو قدر لي الإخلاص لتزوجت من وفاء على الرغم من أنها صفعتني على وجهي..»

- قال رزق في حدة:

- «أتتزوج من صفعتك؟»

- ضحك عبد الحميد وقال:

- «هذه هي الطريقة الوحيدة التي تجعلها تعتذر لي...»

- قال الشاعر يوسف موجها الحديث لرزق إبراهيم::

- «أتعتقد أن هناك من تجرؤ على الزواج من «إخواني» في مثل هذه الظروف؟

- قال رزق في إصرار:

- «النساء يعشقن البطولة..»

- رد يوسف:

- «لكن الحكومة تسميها خيانة..»

- «دعك من أكاذيب الحكومة..»

- «الناس يصدقون ما يكتب في الصحف..»

- «أنت لا تعرف النساء يا يوسف إلا من خلال أوهام الشعر إن لهن منطقهن الخاص والحب لديهن لا يقوم على أسس مفهومة أنا مثلا أحبتني فتاة بيضاء كاللبن الحليب على الرغم من سواد وجهي الزائد..»

- وضحك الرفاق ضحكة وقورة إلا معروف فقد أخذ يقهقه بصوت عال، عندئذ قال رزق إبراهيم:

- «لم تضحكون؟؟ أقسم بالله أن ذلك قد حدث لقد كانت تطاردني في كل مكان..»

- قال يوسف:

- ولماذا لم تتزوجها..؟؟

- لم تكن محجبة ثم إن فتاتي في السودان..

- قال يوسف:

- سوداء؟؟

- نعم..»

- «أهي جميلة..؟؟»

- «منتهى الجمال ومتعلمة أيضا بل ومحجبة وأبوها من رجال طائفة الختمية المشهورين..»

- قال يوسف مداعبا:

- «أخاف أن يطول بك المقام هنا، وعندما تخرج تجدها قد تزوجت ولعلك تجد على كتفيها طفلين أو ثلاثة وربما تسمى أحداهما جمال أو عطوة..»

- «انقلبت سحنة رزق فقلب عينيه وأخذ يهز رأسه في غضب وقال:

- «نساؤنا لا يفعلن ذلك..»

- قال يوسف في سخرية:

- «بل يفعلنه في كل مكان على ظهر الأرض..»

- تدخل معروف قائلا:

- لا تنزعج يا رزق فالنساء مختلفات فيهن الوفية المخلصة وفيهن الغادرة وعلى العموم فقد أعطاهن الشرع الحق في الطلاق إذا طالت غيبة الزوج لفترة طويلة مخافة الفتنة وهذا فهم واقعي معقول لطبائع النفوس..»

- وجلس رزق وكأنما هبط من السماء كان يحلق فيها مختالا سعيدا ثم وضع رأسه بين يديه وقال في أسف.

- «أنني أكاد أرها كل ليلة في منامي..»

- قال معروف:

- «إن أصحاب المبادئ يضحون بأشياء كثيرة غالية لأنهم باعوا الدنيا وأملا في عفو الله ورضاه.»

- قال رزق في شيء من الخجل:

- «اسمح لي يا معروف ..وزوجتك أنت؟»

- ابتسم معروف وقال:

- «قلبي يحدثني أنها قد تكون ضمن التنظيم الجديد الذي قبضوا عليه حديثنا أنها تكاد تشبهني في العقيدة والسلوك نحن شركاء في الحياة والمصير..»

- وأغفى عبد الحميد وانبعث غيظه رتيبا هادئا وأدرك الإخوان ذلك قال معروف:

- «كفوا عن الحديث إن أخاكم لم ينم أمس يبدو أنه قد تعب كثيرا فلنعطه الفرصة للراحة أمامه صراع طويل في مكاتب التحقيق.. فليحفظه الله..»

- وعاد الصمت المشحون بالقلق يغلف المكان من جديد..

الفصل العشرون

لم تكد تمر عدة أيام حتى كانت «نبيلة» قد استعادت اتزانها ورباطة جأشها ومن ثم استطاعت أن تعود إلى مدرستها وهي تحاول دائما أن تظهر بالمظهر العادي وكأن لم يحدث شيء لقد استقبلتها الطالبات بتصفيق وحماسة بالغة أحست أن القلوب الصغيرة تحبها وتقف إلى جوارها، وأنها لم تتخل عنها لحظة واحدة وهذا وحده رصيد كبير قد لا يملأ جيوبها ولكنه يغذي روحها وقلبها أنها لم تفقد الأمل مطلقا في هذا الجيل الجديد أما الناظرة سامحها الله فقد قابلتها بشيء من الخفاف لم تعهده فيها بل حدثتها في شيء من الثورية واللباقة عن ضرورة النقل إلى مدرسة أخرى لأن المدرسة تعيش قديم في هدوء وسلام ولا دخل لها بمشاكل المبادئ السياسية، وقد تضايقت «نبيلة» من هذا التلميح الذي فهمته لأول وهلة وقالت وهي تبتسم: «لن يجرؤ أحد على نقلي من هذه المدرسة وأنا واثقة تماما مما أقول» نظرت إليها الناظرة في دهشة ثم اعتصمت بالصمت أما المدرسات فغالبيتهن لم يشرن إلى الموضوع من قريب أو بعيد وإن كانت نظراتهن تشي بالفضول الذي يغمر قلوبهن قليلات أولئك اللاتي أخذن يحاصرنها بالأسئلة الكثيرة وكانت نبيلة تجيب في إيجاز إجابات عائمة لا تشفي الغليل وعلى الرغم من خوفهن إذا أقمن علاقات وطيدة معها إلا أنها حظيت بمزيد من الاحترام أما «عطوة» فقد كان يطاردها مطاردة رهيبة حتى يتم الزواج في أقرب فرصة ممكنة وكانت نبيلة تجارية في لهفته فتصطحبه لشراء المجوهرات والملابس وخاصة فستان الفرح وتبدي مزيدا من الاهتمام به وتمنيه بأحلى الأماني وهو غارق في أحلامه الجنسية التي لم يستطع إروائها بعد ومع ذلك فقد كانت تعد أوراق السفر إلى الكويت وتلتقي مع الدكتور سالم بل وصل بها الدهاء لدرجة أن أخذت خطابات توصية من عطوة لمدير الجوازات وللمسئولين عن السماح بالسفر بحجة مساعدة إحدى قريباتها كما أنها استطاعت الحصول على إذن خروج ولهذا أشرعت بحجز مقعد لها في الطائرة الكويتية دون أن يعرف أحد من أهلها أو زميلاتها في العمل بعزمها على السفر والحق أن الدكتور سالم قد ساعدها مساعدات ذات قيمة وزودها بالتوجيهات اللازمة وخطابات التوصية التي تيسر لها الإقامة هناك والحصول على العمل المناسب بل أعطاها مبلغا من العملة الصعبة التي لم يكن من السهل الحصول عليها في تلك الفترة وعزمت نبيلة على زيارة سلوى قبل أن ترحل بيوم واحد ولم تكن خائفة فلو فرض وشاهدها أحد المخبرين فسوف تلمح له أنها من معاوني رجال الأمن ويكفي أن تذكر اسم عطوة فيفتح لها الباب على مصراعيه تسللت إلى هناك حوالي الثامنة مساء كان قلبها برغم شجاعتها واطمئنانها يخفق كالعادة، إذا كانت هي في هذه الحالة من القلق والاضطراب فكيف تكون سلوى المسكينة ودقت الباب وبعد فترة وجيزة لاح لها الوجه الذابل الشاحب وقد غارت العينان أكثر من ذي قبل والأهداب مبللة بالدموع والرعب ينشر ظلاله على الملامح المرهقة الحزينة والطفل النائم الهزيل على كتفها

هتفت نبيلة:

«كيف حال صابر»

- «كما ترين تفضلي بالدخول بالله عليك لا تمكثي طويلا..»

- دخلت نبيلة وهي تقول:

- «هل جد جديد..»

- قالت سلوى وهي تجلس وقد فاضت دموعها فجأة

- «السجن كان أهون من هذه الحياة..»

- « ما معنى ذلك.؟؟»

- أخذت سلوى تجفف دموعها وتقول:

- «أنهم يأتون إلي كل يوم والضباط المسئول يطلب مني طلبا غريبا ..»

- «غمغمت نبيلة هؤلاء الكلاب الأقذار لا يكفون عن الرذيلة والعبث..»

- وعادت سلوى تقول:

- «تصوري لقد طلبوا مني أن أرفع قضية طلاق ضد زوجي..»

- «مستحيل..»

- «هذا ما حدث مرارا وتكرارا والضابط يقول أنه معجب بإخلاصي ووفائي ويقول إن زوجي لا يستحق هذا الوفاء كله لأنه خائن لوطنه لا يفكر في مستقبل أسرته ويؤكد لي أنه قد تزوج من ألمانية وأنجب منها طفلا وقدم لي صورة تضم زوجي وزوجته الجديدة والطفل بل يدعي أن «أبو صابر» يشرب الآن الخمر ويراقص النساء والأعجب من ذلك أن الضابط عرض علي الزواج..»

- كانت نبيلة مذهولة مما تسمع، وانطلقت تقول:

- «لا تصدقي حرفا مما قال..»

- قالت سلوى

- «والصورة..؟؟»

- «مزورة»

- «كيف؟»

- «الخدع التصويرية أمر معروف ما أسهل أن يضموا صورة إلى صورة وبشيء قليل من الحيل والرتوش مع إعادة التصوير يمكن أن نستخرج الصورة التي نريد..»

- قالت سلوى..

- «ولماذا يفعلون ذلك؟

- «أسلوب من أساليب تدمير حياة الناس والقضاء عليهم .. ... التعذيب البدن وسيلة والتمزيق النفسي حيلة خسيسة وبذر الشكوك بين الناس يضعف من قوة الروابط الإنسانية وينزع الثقة من القلوب وهكذا يسيطرون بأبشع الطرق.»

- «يا لحيرتي ماذا أفعل يا ربي..»

- قالت نبيلة في قوة دون تردد:

- «الصمود..»

- «الصمود؟؟» كدت أنهار..»

- «لن يستطيعوا أن يفعلوا لك شيئا..»

- قد يجرونني إلى السجن..»

- «ألم تقولي إن السجن أرحم مما أنت فيه؟؟»

- «هذا هو شعوري الحقيقي لولا صابر ليتهم يسمحون ببقائه معي.»

- هزت نيلة رأسها في أسى بالغ وقالت وهي تصر على أسنانها

- «الكلاب..»

- «وما قيمة الشتائم؟ أنها لن تهدم عروشهم..»

- أجل

- رفعت سلوى رأسها إلى السماء وقالت:

- «ليس لنا سواه..»

- «غمغمت نبيلة..

- «ونعم بالله..»

- وسادت فترة صمت قالت بنيلة بعدها:

- «وقد أغيب عنك فترة طويلة ستكونين في بالي دائما علم الله أني لم أكن أرغب في البعد عنك.. لكن ثقي أن الفرج قريب ولن أتخلى عنك مادمت حية هذا وعد..»

- قالت سلوى وهي تخطف يد نبيلة وتقبلها.

- «أين ستذهبين ؟؟ علم الله كم أحببتك منذ أن رأيتك لأول مرة في تلك الزنزانة القاتمة..»

- احتضنتها نبيلة وقد سالت دموعها هي الأخرى وقالت:

- «ستعلمين كل شيء في حينه.. وفراق الأجساد قد يكون غير ذي قيمة المهم أن تلتقي الأرواح ثم لا تحمل هما من الناحية المادية سوف أدبر كل شيء..»

- وهامت نيلة بنظراتها في الأفق الصغيرة وقالت:

- «وستلتقين بزوجك يوما ما .. وستنسيك حلاوة اللقاء مرارة الفراق القديم وسيكون الماضي مجرد ذكرى... وستكون أسطورة الكفاح الشريف أحلى أغنية تترنمان بها..»

- وعادة نيلة إلى هيامها مرة أخرى وقالت:

عين فابكي من بغي أو من طغي
علل الظلم بشتى العلل
علل الظلم بشتى العلل
إنما الناس على أيامنا

- هم كما كانوا بعصر الجمل

لا أعرف قائل هذا الشعر أنه شاعر مجهول لكن كلماته تلمس شغاف قلبي لا شك أنه شاعر ذاق مرارة الألم والحرمان والظلم ..

وأخت سلوى تجفف دموعها وتقول:

«كانت الحياة حلوة رائعة وكنا سعداء نصلي لله شاكرين ونمرح ونأكل ونحلم وفي يوم كالح مشئوم انطفأ المصباح عبثت به ريح مجنونة فسقطنا في هوة العذاب..»

قالت نبيلة:

- «الشياطين تحرق الحب..»

- «لماذا؟؟»

- «لأنهم شياطين..»

- «هذا حرام..»

- قالت نبيلة

- «إن استطاعوا أن يطفئوا المصابيح فلن يطفئوا الشمس أبدا..»

- واختطفت نبيلة حقيبتها وهي تغالب انفعالاتها ثم احتضنت سلوى في قوة وهي تقول بصوت بيحه البكاء:

- «إلى اللقاء»

- ثم قبلت صابر النائم، وانصرفت مسرعة...

- سارت في الشارع الطويل المليء بالحفر والبرك والمطبات، كان ضوء المصابيح الكهرباءية عليلا يكاد يحتضر وبعض تلك المصابيح قد أتلف وأصيب بالعمى، وكانت نوافذ البيوت مغلقة يجاهد الضوء في التسلل خلالها والسماء من فوقها تمتد كصحراء غطاها ضباب أسود ومن بعيد يتناهى إلى سمعها صوت مذيع يقرأ الكلمات في حماسة جوفاء الحية امتلأت بالزيف والخواء والأسى، ومع ذلك فهي عاشقة لهذه البلاد تحبها برغم ما يحتدم فيها من صراع دام ومظالم طاغية تحب حزنها الوقور الذي يدثره الجلال والصبر تحت صمودها الصامد الذي لم يتفجر بعد، ترى من بعيد بشائر الفجر الفضي المقدس والمآذن العالية الخالدة تصدح بالتكبير والتهليل كل شيء إلى زوال، ولا يبقى إلا وجه الكريم الذي لا يقهر ولا يموت، ما أتفه غرور الإنسان إنه مجرد ذرة مجنونة في هذا العالم الواسع اللانهائي ومهما جنت البذرة فماذا تستطيع أن تفعل؟؟ أيمكنك أن تدمر ملايين الكواكب التي تبعد عنا مئات الملايين من السنين .. عطوة وأمثاله مجرد بصقة مصدور على وجه الإنسانية لشيطان مريض.. وصرخت بأعلى صوتها دون وعي:

- «يسقط الظلم ..»

- أفاقت من هواجسها وجدت.رجال أعمى يتوكأ على عصاه توقف الأعمى ومال بوجهه المجدور صوبها وقال:

- «مظاهرة؟؟»

- نظرت إليه كان على وشك أن يخوض في بركة قذرة من الماء اقتربت منه وأمسكت بيده تدله على الطريق النظيف هتف:

- «من»

- «قالت في اقتضاب:

- «مظلومة..»

- قال هو يهز رأسه:

- «ربنا يستر عرضك يا بنتي..»

- ثم تنحنح وقال

- «هناك مظلوم غيري..»

- قالت:

- «يا ما في السجن مظاليم..»

- السجن أهو فيه يأكل الإنسان ويرب وينام..»

- قاطعته قائلة:

- «وقد يقتل..»

- «حياتنا بالموت أشبه..»

- عادت تقول:

- «كيف تعيش؟؟؟»

- «اقرأ القرآن على القبور وأحيان أتسول»

- فتحت حقيبتها ثم أخرجت ورقة مالية دسته في يده قائلة:

- «خذ هذا...»

- تلمسه بيده جيدا وهتف في دهشة:

- «ما هذا جنيه؟؟»

- ولما لم تجب رفع الجنية إلى شفتيه وقبله شاكرا وهو يقول:

- «هذه كرامة أنت ملاك من السماء لا شك يقول الناس عني أنني صاحب كرامات بالتأكيد أنت ملاك لقد قدمت عشرات الالتماسات للرئيس ولوزارة الشئون الاجتماعية وللأوقاف دون جدوي...»

- ثم هتف بأعلى صوته:

- «حي.. قيوم..»

- ومضى في طريقه وهو ينشد:

لا تظلمن إذا كنت مقتدرا
فالظلم شيمته يفضي إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه
يدعو عليك وعين الله لم تنم

وانسابت دموعها وهي تسارع الخطى في الشارع الطويل أين هذا الشعر من شعر نزار وكبار الشعراء في عصرنا أن شعرهم أشبه المساحيق الزائفة على وجه المتصابيات من العجائز ترى من قال هذا الشعر؟؟ أيه أيضا شاعر مجهول على الأقل بالنسبة لي..

عليها أن تأخذ تاكسي قبل أن يغلق الدكتور سالم عيادته لابد أن تلقى عليه كلمة الوداع وتشكره على ما قدم لها من عون وفي وقت قصير أمكنها أن تصل إلى هناك الجو هادئ ساكن بارد صعدت الدرج في لهفة قلبها أيضا يدق لماذا يدق في هذه الأيام بالذات؟؟ دقت الجرس استقبلها «التومرجي»

في شيء من الفتور قالت:

- «هل ذهب الطبيب إلى بيته.؟؟»

- نظر إليها في حزن وصمت وبقى جامدا في مكانه هتفت في خوف:

- «تكلم»

- قال في جفاف:

- «غير موجود»

- «أين هو»

- «لا أدري..»

- أمسكت بخناقه وهتفت في عصبية.

- «يجب أن أعرف»

- «اعملي معروفا لا تخربي بيتي»

- «ما معنى ذلك؟؟»

- «أخذوه كان يفحص مريضا أخذوه هو المريض..»

- «اعتقلوه..»

- هز رأسه وقال:

- «كما اعتقلوا أخاه من قبل..»

- تجمدت الدموع في محجريها ظلت واجمة برهة جاءها صوت التومرجي يقول في توسل:

- «انصرفي قبل أن يراك أحد..»

- قالت وهي تلهث:

- «وأنت ماذا ستفعل؟؟»

- «لا أدري رزقي ورزق عيالي على الله..»

- أخرجت خمسة جنيهات من حقيبتها ودستها في يده، وأسرعت تهبط الدرج وهي تتلفت يمنه ويسره وعادت إلى الشارع رأت من خلفها رجلا فارغ القامة يلبس معطفا رمادي اللون أمسك بيدها وقال:

- «البطاقة..»

- أخرجت البطاقة في هدوء وأعطتها له فأخذ ينقل منها بعض البيانات قالت له:

- «لماذا كل هذا ؟»

- «ماذا كنت تفعلين في العيادة؟»

- «مثلما يفعل أي مريض..»

- «وماذا قال لك التومرجي..؟؟»

- «قال إن الطبيب مشغول..سافر .. ولا يعرف متى يعود هذا إهمال كبير كيف يسافر طبيب دون سابق إنذار ويترك مرضاه هكذا في حيرة؟»

- ابتسم المخبر وقال:

- «البلد مملوء بالأطباء..»

- «متشكرة . هذا صحيح..»

- ومضت ملهوفة الخطى الأرض ترتجف بالرعب والثعابين هنا من نوع غريب ولا يعرف لبيات الشتوي إنها تفح طول العام وألقت تحية المساء على أهل البيت الساهرين ثم ذهبت إلى غرفة نومها ثم أغلقت الباب ..

- قالت الأم وهي تتململ إلى جوار المدفأة:

- «مسكينة يا نبيلة لست أدري ماذا جرى لها..»

- تنهد الأب في ألم وقال:

- «أنها تتصرف بطريقة غريبة في هذه الأيام»

- ثم قال بعد صمت قصير:

- «من يدري لعلها تتحسن بعد الزواج»

- قالت أمها في ثقة:

- «لا أظن أنها ابنتي وأنا أعرفها كان هذا الزواج شؤما عليها وعلينا ربنا يلطف ..»

- هدر أبوها غاضبا:

- «ماذا تريد أكثر من ذلك؟؟ عطوة لدية المركز المرموق والمال والصحة أنه كالثور.»

- قبل أن تنام نبيلة أعدت حقيقة ملابسها وأوراقها وتأكدت من حقيبة اليد ولم تنس المصحف الصغير الذي قدمه لها الدكتور سالم هدية قبلت المصحف تذكرت وجه سالم الواثق الباسم المؤمن وقادها استرسالها إلى التفكير إلى حيث هو الآن...ترى ماذا سيفعلون به؟ الصورة الكئيبة تلح على ذهنها السياط العروسة الدماء الصراخ المحققون.. ترى هل ستنطفئ ابتسامته الواثقة في هذا الأتون المشتعل بالحقد والكراهية والدمار؟؟ وألقت بوجهها على الوسادة وهي تشهق باكية وتقول:

- «يا إلهي هذا كثير لماذا لا تحرق الظلم والظالمين هذا ليس بكثير عليك وأنت القاهر القادر..»

- وفي الرابعة صباحا نهضت من فراشها دون أن تذوق للنوم طعما واغتسلت وصلت الفجر ثم مشت بهدوء وخفة وفتحت الباب وأمام البيت وقفت تنتظر التاكسي كان البرد يثلج الأطراف لكنها كانت تشعر بقدر كبير من الثقة والاطمئنان إن الله لن يخذلها لقد نسيت أن تودع أمها وأباها وأهل منزلها لا بأس فهم في قلبها دائما وقد تركت لهم رسالة كما تركت رسالة أخرى موجهة إلى عطوة الملواني قائد السجن ومر الوقت وكأنها تحلم دخولها المطار ومرورها من باب الجوازات وعيون الضباط التي تتفحص كل مسافر وتدقق النظر في جواز سفره التفتيش الجلوس على المقعد في الطائرة كان الوقت يمر بطيئا ثقيلا مرهقا للأعصاب الدقائق كأنها سنوات هي لا تصدق أن الطائرة سوف تحلق بها في السماء الشاهقة يحبو عليها ضوء الشمس الوليد.. وكأنها لعب صغيرة والطريق كالخيوط السوداء الرفيعة لم تستمع جيدا لما قالته المضيفة من خلال مكبر الصوت عن تمنياتها للركاب بالرحلة السعيدة ولم تكترث للإرشادات التقليدية من عدم التدخين وعن ربط الأحزمة وعن سترة النجاة وقناع الأكسوجين.

- وغاصت الطائرة في قلب السحب تنهدت في ارتياح غريب شعرت بسعاة لم تر لها مثيلا في حياتها الطائر الحبيس قد انطلق من قفصه إلى الآفاق الشاسعة الحلوة الحرية والصفاء أشرق النور فجأة فملأ رحاب روحها وجسدها عيناها تترعان من ذلك النور الإلهي ولم يعكر صفو هذه الأحلام الجميلة إلا صورة سلوى في بيتها الحزين وصابر على كتفيها وصورة سالم ومعطفه الأبيض وقد شاب بياضه بقع الدماء الطاهرة والحيوان عطوة وحوله الكلاب وبيده السوط ذلك الكابوس المرعب يطاردها وهي في قلب السماء بين السحب البيضاء على أجنحة الحب الكبير الطائر إلى الآفاق الرحبة..

الفصل الحادي والعشرون

اهتزت الأسرة كلها عندما اكتشفوا بكت الأم بكاء مرا، وكذلك بكى الأبناء والبنات وخاصة الأطفال أمسك أبوها الخطاب تركته له بيد مرتعشة وأخذ يقرؤه للمرة الخامسة أو السادسة: «أبي ..أمي أخواتي الأحباء..

تلك إرادة الله لم أكن أتصور في يوم الأيام ما حدث كنت أعيش في هدوء بال أقرأ وأكتب واسمع الموسيقى وأعلم البنات لم أكن أعرف أن للحياة جانبا آخر مجهولا تماما بالنسبة لي وعندما قادتني الصدفة البحتة إلي ذلك الجانب فوجت نعم فقد رأيت عالما جديدا قارة موحشة مليئة بالغابات والضواري والعذاب رأيت فيها الشر يعاملون معاملة أبشع من معاملة الحيوانات رحلة مرعبة برغم قصر المدة صدمت في البداية صدمة عنيفه فقدت اتزاني وكدت أفقد عقلي لم أكن أتصور أن هذا ما يحدث في القرن العشرين ولم أكن أتصور أيضا أن يكون هذا هو ثمن الولاء والحب والتأييد الواسع الذي منحناه للثوار في البداية عن طيب خاطر.. كان بالإمكان أن تزدهر الثورة وتثمر أعظم الثمار إذا رويناها بماء الحب والحرية والأخوة الصادقة لكن الغرور الإنسان والأنانية وسوء الخلق المتأصل قد وضع أقدارنا في أيدي جاهلة حمقاء قاسية لا ترحم ولا تعرف القيم العليا الشريفة للإنسانية التي كافحت عبر القرون من أجل إرساء دعائمها وهكذا أراد الله أن أرى في السجن الحربي وفي مبنى المخابرات العامة وفي مكاتب رئاسة الجمهورية ما تشيب لهوله الولدان رأيت أقواما صابرين تعساء يلاقون من العنت والعذاب مالا يحتمله بشر ولا حيوان.. ورأيت عبيدا بأيديهم السياط وأدوات القهر والظلم وهم يحيون ويميتون وكأنهم حاشا لله قد اغتصبوا الحق الإلهي في التحكم بأعمار البشر الحق أنني في البداية لم أكن أصدق أن هذا يحدث فعلا كنت أظن أنني نائمة وأن ما أراه ما هو إلا كابوس أو حلم رهيب أنها الخيانة والغدر والانحراف بأبشع معانيها لم يكن هناك حل للخلاص من هذا العناد كله أو من بعضه على الأقل إلا أن أرحل إما إلى القبر أو إلى حياة جديدة أستطيع أن أعيش فيها كإنسانة وأن أفكر ثم أعمل شيئا لعلي أقدر على تحطيم هذه الأغلال التي تكبل الناس أعترف بأنني ضعيفة وأن صوتي واهن لا يستطيع أن يخترق هذا الهدير الصاخب من الإعلام الكاذب، والادعاءات الباطلة لكني واثقة وعلى يقين تام أن مجموعة الأصوات والواهنة قد ينشر بين الناس في مختلف أنحاء العالم قصة الغدر الأكبر أو على الأقل سطورا منها والعالم لم يزل فيه بقية من خير وأمل.. «أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون»

وقد تطول غيبتي أو تكثر وقد أنجح أو لا أنجح المهم أن أفعل شيئا لأنني برغم ضعفي وصوتي الواهن أشعر بمسئولية كبرى أمام الله وأمام الأجيال المقبلة.. وأما التاريخ الذي نصنعه بعرقنا وكفاحنا وتضحياتنا المتصلة.

أمي الحبية قبلة على جبينك الطاهر صورتك معي لن تفارقني أخواتي وأخواني الصغار .. ستظل أذني عامرة بأصواتكم الندية بتغريدكم الحلو..وسأدعو لكم الله أن يجعل غدكم أفضل من حاضرنا وأن يوفقكم إلى طريق الحب والسلام والإخاء .. وإلى اللقاء..» نبيلة..

وكاد عطوة أن يفقد صبره عندما جاء بعد الظهر لإجراء اللمسات الأخيرة على تنظيمات الحفل المزمع إقامته لعقد القرآن، وعندما أخبروه أن نبيلة قد سافرت إلى «الكويت» اعتبر الأمر مجرد مزحة سخيفة، وأخذ يقهقه في هستيرية وعندما سلموه الخطاب المغلق الذي تركته له، فضه في عصبية وأخذ يقرأ..

إن نشوة النصر التي تنعم بها يا عطوة ما هي إلا وهم كبير.. وإن عساكرك وكلابك ورؤسائك لن يحصنوك دائما ضد الفشل والخيبة والهزيمة.. والنياشين التي على صدرك ليست إلا وصمة عار.. لأن ثمنها قذر... هي مصدر للخزي والعار وليست رمزا للنصر والفخار إن امرأة ضعيفة مثلي استطاعت بقليل من التفكير والإصرار والإيمان بالله أن تمرغ كبرياءك في الوحل أن تجعلك تشعر بمهانة الحرمان والذل والغيظ المشتعل أنت لا تعرف من هو الإنسان لأنك لم تجرب مرة واحدة أن تكون إنسانا ثقتك في كلابك أقوى من ثقتك بمن تعاشر من الأهل والأصدقاء ورفاق العمل يا عطوة أنت حيوان أحمق كلب مسعور لن تجد في يوم من الأيام المرأة التي تحترمك.. أوصلت بك النذالة لدرجة أن تحرض علي شياطين المخابرات وتخرجون ذلك المشهد التمثيلي الرخيص ثم تأتي أنت لتنقذين من المأزق الذي دبرته لي؟؟ أي انحطاط وأي حيوانية إذن فالقصة هكذا؟؟ ومبادئكم هي هذه؟؟ يا لتعاسة شعب تحكمونه بهذا الأسلوب المدنس وبهذه الفلسفة السوداء المنحرفة لن تطولني يدك النجسة بعد اليوم يا إلهي كم كنت أشعر بالضيق والغثيان حينما كنت ألتقي بك إن مثلك لا يمكن أن يكون له أسره وأبناء.. لأنك لا تعرف معنى الحنان والحب لأنك قاس شاذ نعم شاذ وأنت تعلم ذلك والناس يتحدثون عنه في كل مكان بل أن بعض الصحف العربية والعالمية أشارت إليه عندما تقرأ هذه السطور أكون أنا بعيدة عن مخالبك الخضبة بدماء الشهداء الأبرار الذين سقتهم إلى ساحة الموت عامدا متعمدا وكأنك تلعب دورا من أوار الشطرنج الذي تهزم فيه دائما كما علمت من قريبتي التي قدمتك إلي سأكون بعيدة لكني سأحمل قلمي وأسدد إليك وإلى سادتك سهامه القاتلة.. ولست في عجلة من أمري فالأيام بيننا والطريق طويل وأن لم أزل في ريعا الشباب وثقتي في الله كبيرة بأن يمد من عمري حتى أراك أضحوكة أعين عبرة لكل الطغاة الصغار قد تسخر من كلماتي لأن كل القوى في أيديكم والنصر ينعقد لواؤه لكم لكن تذكر أنه لو دامت لغيرك لما وصلت إليها وتذكر أنك لست أقوى ممن خلقك يا عطوة أنك من سنين كنت طفلا تبول على نفسك وتحبو على الأرض كجرو حقير وكان مدرسوك في المدرسة يضربونك على مؤخرتك بالعصا لغبائك ومحاولتك الغش ألم يفصلوك عاما من الدراسة عندما أمسكوا معك «بالبرشم» أثناء الامتحان ؟؟ لقد فكرت أن أدعو لك بالهداية لكني أعتقد وليسامحني الله أن مثلك لا يهتدي أبدا لأنك لا تريد ذلك، ولا تفكر في السعي إليه بل إنك تعتقد أن الحياة التي تعيشها هي عين الصواب ولب الهداية عليك اللعنة أنت لا تعرف فرحة الأسير وهو يفر من أسره ويحلق في السماء قرب السحاب أنها لسعادة كبرى تؤكد للإنسان أن الحرية أروع ما في الوجود أنا لم أجرب ذلك حتى كتابة هذه السطور ولكني أحلم به، وعلى يقين كامل بأنك لن تستطيع اللحاق بي مت بغيظك وهزيمتك ولتجرب أن تبصق على وجهك امرأة تعرف الله.. وتقدس الحرية وتصر على مواصلة الجهاد كي تعيش الناس في حب وسلام آمنين على دمائهم وأموالهم وأعراضهم ولك مني كل اللعنات تعبيرا عما يعتمل في قلوب المحرومين والمظلومين الذين اكتووا بنيران غدرك ولا سلام..» نبيلة.

دارت الأرض بعطوة ارتمى لاهثا على أقرب مقعد العرق يتقاطر على جبينه المحتقن عيناه تتحركان في هستيرية دق الأرض بقدمه ونبح:

«إن عطوة يعرف كيف ينتقم..»

قال أبوها في توسل:

«صبرا يا عطوة بك لكل شيء حل..»

نظر إليه بعيون تتقد حنقا وغيظا:

«هل قرأت ما كتبت؟؟»

«ليس لي الحق في ذلك..»

هب عطوة واقفا وصرخ:

«أنتم على علم بكل ما كانت تدبر..»

خطا الوالد العجوز نحوه وشاربه الأبيض يرتجف:

«والله يا ابني لقد فوجئنا تماما مثلك بكل ما حدث..»

أخذ عطوة يضرب الحائط بقبضته المتشنجة ضربات متتالية ويقول:

«كيف خرجت من البيت؟؟ هل كنتم نائمين؟؟ كيف استخرجت جواز السفر.؟؟ كيف ؟؟ كيف؟؟ أنني لست ساذجا ستدفعون الثمن غاليا أرني الخطاب الذي تركته لكم.»

كانت يد العجوز ترتعش وهو يقدم له الكتاب اختطفه عطوة وأخذ يمر على سطوره بسرعة وتوتر وأخيرا قال هذه أدلة كافية لمحاكمتها..

- «محاكمتها؟»

- قالها الأب في دهشة فرد عطوة في إصرارا:

- «نعم.. حتى ولو كانت محاكمة غيابية.»

- «يا ولدي أنها مجرد نزوة لها ما يبررها وسرعان ما تثوب إلى رشدها عندئذ تحمل حقائبها وتعود.. سوف أكتب إليها بل في إمكاني أن أسافر إلى حيث ذهبت ولا أرجع إلا بها ليبقى الأمر سرا بيننا يا عطوة ونحاول حله بالعقل...»

مد عطوة عنقه صوب والد نبيلة وقال:

«لم يعد لدي ذرة عقل سوف نطلب من الحكومة الكويتية رسميا تسليمها للسلطة المصرية لمحاكمتها...»

- «وهذا هو الدليل..»

- ثم أخذ عطوة يجفف عرقه، وهو يلهث قائلا:

- «وإن فشلت الطرق الدبلوماسية فسنأتي بها في جوال مهرب أننا نفعلها كثيرا وإن فشل هذا أيضا فسوف نقتلها أو ندس لها السم إن رجالنا ونساءنا في كل مكان في العالم يجب أن يفهموا ذلك..»

- وساد الصمت العاصف، وجاءت أم نبيلة وهي تتوكأ على عصاها والدموع تغمر خديها الشاحبين وقالت:

- «عطوة يا ولدي إن ما تقوله لن يحل المشكلة لنلجأ إلى الحيلة..»

- قال عطوة:

- «لا يلجأ للحيل إلا الضعفاء أما نحن فنستطيع أن نفعل أي شيء يمكننا أن نغير نم الحكم في الدول وأن نشعل الثورات الشعبية ضد الحكام الذين لا يسيرون في فلكنا أننا نهز أعمدة البيت الأبيض في أمريكا والكرملين في روسيا أنعجز عن التعامل مع حشرة تافهة تدعى نبيلة أقسم بشرفي لأشربن من دمها..»

- اقتربت المرأة منه وحاولت أن تربت على كتفه لكنه دفع يدها في غلظة وقال:

- «وستحاكمون أنتم أيضا..»

- قال العجوز وقد شحب وجهه:

- «وما ذنبا يا ولدي؟؟»

- «التستر على الجريمة..»

- «أية جريمة؟؟؟»

- «ألم تعرف بعد؟؟»

- «أنها سافرت خارج الوطن ومن حق أي مواطن أن يفعل ذلك»

- قهقه عطوة كشيطان ونظر إلى والد نبيلة قائلا:

- «تستطيع أن تقول مثل هذا العبث في التحقيق...»

- ثم لوح بالخطابين اللذين في يده قائلا:

- «وهذا؟؟ ألا يعد طعنا صريحا في نظام الحكم وسبا علينا بخط يدها في حق أشخاص لهم لهم وزنهم وتاريخهم الثوري العريق؟؟»

- وخطا عطوة صوب الرجل وقال:

- «بل وسوف يحاكم كل من ساعدها في استخراج جواز السفر وتأشيرة الخروج البلد ليست فوضى نحن نحكمها بيد من حديد..»

- وعاد عطوة أدراجه صوب باب الشقة عازما على الخروج وقال قبل أن يغلق الباب في غيظ.

- وعندما تعلم نبيلة وهي في الكويت أن أباها وأمها وكل أفراد أسرتها قد سيقوا إلى الموت الأحمر في السجن الحربي عندما تعلم ذلك فستأتي بنفسها إذا كان لديها ضمير حي أو تفقد عقلها وتنتحر إذا لم يتخذ ذلك القرار بالعودة ولن يكون هناك مخرج إلا هذا..»

- وما أن أغلق عطوة الباب حتى سقط الأب وهو يضع يده على صدره قائلا:

- «فليفعل الله ما يشاء..»

- وبدا على وجهه أنه يتألم ويلهث والعرق البارد قد ندى جبينه الشاحب وقال بصوت واهن

- «أم نبيلة جرعة ماء..»

- قالت الزوجة بعد أن رمت بالعصا التي تتوكأ عليها انحنت صوبه:

- «ماذا بك يا حبيبي؟؟»

- «أشعر بالألم هنا وبالاختناق أسرعي بالماء..»

- صاحت بأعلى صوتها مستنجدة فقدم أهل البيت في ذعر وأسرعوا بالاتصال تليفونيا بأحد الأطباء كان الوقت يمر عصيبا مشحونا بالخوف والقلق ومن آن لآخر كانت أم نبيلة تبكي في مرارة وتقول:

- «قتلوك يا حبيبي منهم لله هو المنتقم الجبار ليس لنا سواه لنلجأ إليه يا رب لأجل خاطري يا رب من أجل الأطفال يا رب احفظه أنت الشافي وبغيرك لن نستجير..»

- عندما جاء الطبيب وفحص الأب وقال

- «لا تنزعجوا أنها نوبة قلبية غير خطرة من أثر الانفعال لابد من الراحة التامة وتعاطي العلاج بانتظام ومن المفيد استخدام جهاز استنشاق للأكسوجين ولذا أعتقد أن الأصوب نقله إلى المستشفى لمدة ثلاثة أو أربعة أسابيع ليلقى الرعاية الكافية أكرر مرة أخرى لا تنزعجوا..»

- قالت الأم باكية:

- «يا حبيبي ليتني كنت أنا!! منهم لله..»

- ابتسم الأب في هدوء وإيمان:

- «لا تبكي يا أم نبيلة فالأعمار بيد الله..«لا تبكي يا أم نبيلة فالأعمار بيد الله.»

- وعاد يقول محاولا المرح

- «عمر الشقي بقي يا امرأة..»

- أما عطوة فقد انطلق إلى مبنى المخابرات العامة والتقى بأحد أصدقائه وشرح له الأمر بتفاصيله ثم قدم له الخطابين اللذين كتبتهما نبيلة بخط يدها قال الصديق:

- «حسنا وماذا نفعل يا عطوة..؟؟؟»

- «صالح بك أنت تعرف ما يجب عمله..»

- عاد صالح ينظر إلى الأوراق ويقول:

- «هذه السطور تدين نبيلة دون شك لكن الكويت والسعودية يرفضون تسليم الإخوان المسلمين...»

- «مستحيل..»

- «هذا هو الواقع يا عطوة..»

- «بأي منطق؟؟»

- «اسمعني جيدا هذا الموضوع يا عطوة قد فحصناه جيدا أنهم في هذه البلاد يعتقدون أن اللاجئ السياسي الذي ينزل بلادهم لا يصح أن يسلموه لنا هذه عاداتهم وتقاليدهم العربية لا يغدرون بالضيف عندما يرغبون عنه يطلبون منه أن يختار بلدا آخر.. لكن من المستحيل أن يسلموه لنا ثم لا تنسى أننا بدورنا نؤوي لاجئين سياسيين من المناوئين لبعضهم ولا نسلمهم..»

- قال عطوة في حماقة:

- «فلنسلمهم واحدا في مقابل نبيلة..»

- «هذه سياسة عليا يا عطوة لا نتدخل فيها أنت تعرف..»

- هب عطوة من مقعده واقفا وقال:

- «فلنقبض على أهلها كوسيلة للضغط أننا نفعل ذلك كثيرا ..

- سدد صالح إليه نظرات صارمة وقال:

- «عطوة»

- «تحت أمرك..»

- «لن أستطيع أن أفعل..»

- «أنك تفعل ما هو أخطر وأكبر..»

- «أعرف لكن هذا الموضوع بالذات لا يمكن»

- «لماذا؟؟»

- «لأن الرئيس نفسه علم بالتمثيلية القديمة...»

- «ماذا تقصد»

- «أقصد حكاية اعتقال نبيلة..»

- دق عطوة بقبضته على المكتب قائلا

- «مستحيل من أخبره بذلك؟؟»

- «لا أدري لكنه كان يضحك لطرافة الأمر ومع ذلك فقد عتب علينا عتابا مرا..»

- «هذا عجيب كيف عرف؟؟ أكاد أجن..»

- قال صالح دون اكتراث:

- «أنه يعرف كل شيء البلد فيها مائة جهاز وجهاز يا عطوة هل تجهل ذلك؟ ثم أنك مفلوت اللسان..»

- قال عطوة وهو يشير بإبهامه إلى صدره:

- «أنا؟؟»

- هز صالح كتفه في امتعاض وقال:

- «الله أعلم..»

- أخرج عطوة سيجارة وهو منفعل فهم صالح بك بإشعالها له، وعاد عطوة يقول في تذلل:

- «لماذا لا نجرب ونفعلها دون أن يعلم الرئيس؟؟»

- «اعقل يا عطوة»

- «نحن إخوة يا صالح..»

- «لكن لا تخرب بيوتنا..»

- «في السر»

- «والأجهزة المنبثة في كل مكان.؟؟»

- «يا صالح أننا نتبادل الخدمات دائما..»

- «لكل شيء حد اعذرني..»

- شرد عطوة بضع لحظات ثم قال

- «أترضي أن تهزمني امرأة لا يزيد وزنها عن خمسين كيلو جرام؟؟»

- «يجب أن تتعلم »

- «أتعلم ماذا؟؟»

- «الصبر والدهاء ما كل شيء يؤخذ بالقوة..»

- «جربت وفشلت..»

- «لأنك يا عوة عدو الزمن تريد أن تسبقه..»

- عاد عطوة يدق الطاولة بقبضة يده ويقول:

- «أريد حلا حاسما..»

- «الصبر»

- «الصبر ليس حلا إنه مجرد مخدر لا يمكنني إدمانه..»

- «دع الأمر لي..»

- «إلى متى؟؟»


- «مرة أخرى لابد من الصبر..»

- «إذن سيسخر مني أهلها سيعتبرون تهديداتي مجرد كلمات جوفا لا معنى لها وسأعيش أكتوي بنيران العجز والهزيمة وأنا عطوة الذي يعرفه الناس وستفضحنا نبيلة في الخارج وتدبج المقالات وتنشد القصائد في مهاجمتنا وستعود المظاهرات...»

- ثم التفت إلى صالح قائلا:

- «قل لي بربك هل هذا في مصلحة الرئيس أو مصلحة الدولة؟؟

- ماذا جرى لعقولكم أن تهاوننا في هذه الحالة يعتبر خيانة..»

- قال صالح بك في حزم:

- «الرئاسة وحدها هي القادرة على أن تزن الأمور وتتخذ القرار..»

- قال عطوة وهو يزمع الخروج:

- «وأنا بدوري سأعرض الأمر على الرئاسة..»

- «لن يكون في مصلحتك..»

- عاد عطوة إلى مقعده وجلس وقلبه يدق من الخوف وقد ساد الشحوب وجهه الأشقر:

- «كيف؟؟»

- ولما لم يجب صالح عاد عطوة يقول:

- «لم أفعل طوال خدمتي مع الرئاسة ما يشكك في إخلاصي وتفاني أنت تعرف ذلك جيدا ما حدث قط أن خالفت أمرا وهم أيضا يعرفون..»

- قال صالح:

- «دع الأمر لي وسأتدبره بكل اهتمام وقد نفعل ما يريحك فهنض عطوة وانقض على رأس صالح وأخذ يقبله وهو يقول:

- «طول عمرك شهم أنا أعرفك يا صالح وحياة والدك تخدمني..»

- ابتسم صالح ولم ينبس.

- لكن عطوة بدا قلقا في مقعده وشرد بضع لحظات ثم قال:

- «أفهم من ذلك أن الرئاسة غير راضية عني تماما؟؟»

- ضحك صالح في خبث وقال:

- «يا راجل لا تشغل بالك..»

- «تهمني الرئاسة بالدرجة الأولى أنها كل حياتي »

- «لا تخف..»

- لكن كلامك يعني أمورا خطيرة..

- «أنت شكاك وتحب تأويل الكلمات البريئة لم أقصد شيئا من هذا..»

- وسادت فترة صمت قصيرة قطعها صالح قائلا:

- «أنا مشغول وأنت أيضا ألم يقبضوا على تنظيم سري جديد للإخوان المسلمين؟؟»

- هز عطوة رأسه قائلا:

- «نعم سأذهب .. وسأصب جام غضبي من نبيلة على رؤوسهم على رؤوس كل الإخوان دون تفريق وسأجعلهم يدفعون الثمن غاليا..»

الفصل الثاني والعشرون

أصبح من المألوف في الأيام الأخيرة أن يندلع العنف الدموي في السجن الحربي، فيساق المعتقلون إلى الساحة في الصباح بعد تناول طعام الإفطار ثم يبدأ الطابور القاسي، الذي يقطع الأنفاس بالإضافة إلى سياط الزبانية وسيل الشتائم الذي يتدفق من أفواههم دون حساب وانطلاق الكلاب المدربة خلف التعساء لتنهش لحوم البعض أو تنشب أظافرها في أجساهم مع ما يبعثه النباح من توتر وهياج في صفوف العساكر ومن ثم يتبارون مع الكلاب في القسوة وفي وسط الساحة يقف عطوة بكل الملواني بشعرة المنتفش الأصفر واضعا يديه في جيوب سترته ومن حوله تنطلق طوابير العذاب وكأنه مركز الدائرة وبالطبع فإن هذه الطوابير اليومية عامة لجميع المعتقلين تضم المتهم في قضية وغير المتهم وفيها من اعتقل ظلما ومن اعتقل بسبب انتسابه إلى الجماعة في يوم من الأيام أما الذين يقفون في المساء في ساحة التحقيق فلهم عقاب آخر بالإضافة لما يلاقونه في الصباح مع باقي المعتقلين وكان من المعروف أن زيادة العنف واتساع نطاقه في الآونة الأخيرة راجع إلى ما يطلقون عليه التنظيم الجديد وهو في الواقع ليس تنظيما سياسيا أو دينيا بالمعنى الدقيق ولكنه عبارة عن مجموعة من أهل الخير قاموا بحصر الأسر التي سجن عائلها وتركها دون مورد رزق ومن ثم أخذوا يجمعون بعض التبرعات في الخفاء ثم يقدمونها سرا إلى ربات البيوت المساكين حتى يستطيعوا الأنفاق على أطفالهم فيوفروا لهم لقمة العيش الضرورية ومصاريف المدرسة، وإيجار السكن واستهلاك الكهرباء وهي أشياء لا يمكن تأجيلها وقد فوجئ المحققون بعدد غير قليل من تلاميذة المدارس الذين كانت تتراوح تبرعاتهم شهريا بين خمسة قروش وعشرة كما لم يثبت أن بينهم من تآمر أو أعاد تشكيل الجماعة المنحلة ولهذا أطلق المحققون على هذا التنظيم «الجهاز التمويل» وقد كان رد الفعل لهذا التنظيم لدى الحكومة عنيفا وصارما وكان غضبهم لأحد له وعندما أخذ أحد المتهمين يشرح لهم كيف أن هذا العمل البريء هو إنساني محض، ولا صلة له بأية مؤامرات ولا تدبير انقلابات أو مجرد نوايا مبيتة، سخر منه المحققون وأفهموه أن للحكومة رأيا آخر إذ أن هذا التجمع يعني أن هناك عاطفة ما تربط بين الأفراد وأن هذه العاطفة التي تعني الترابط والحب والإبقاء على الود القديم لها خطورتها ومن ثم فإن التجمع قد يتطور ويتحول إلى تنظيم سري مسلح بستري السلاح ويدبر المؤامرات ويسفك الدماء وقال آخرون من المتهمين ليس هناك قانون لا في مصر وحدها- بل في جميع أنحاء الدنيا يدين جامعي التبرعات بالخيانة العظمى وخاصة أنه قد ثبت اشتراك غير المسلمين في دفع هذه التبرعات لمن يعرفونهم من أسر إخوان ومن ثم عوامل أعضاء التنظيم الجديد معاملة بشعة لا تقل عن مثيلاتها في بداية محاكمات الإخوان بعد حادث المنشية وبعد إعدام عدد من المتهمين وإذا كانت المحاكمات الأولى شبه علنية وينشر عنها في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة بطريقة متعمدة لطمس الحقائق والمبالغات إلا أن هذه المحاكمات الجديدة كانت سرية تماما وتجرى وسط ثكنات الجيش دون جمهور أو محامين.. كان «القاضي..» الشهير «اللواء صلاح حتاتة» يجلس وعلى الجانبين عضوان ثم هناك إلى جوار المنصة يجلس الكتبة ومن الأمام يجلس بعض المتهمين وخلفهم الحراس الذي قاموا من بعض مواقع الجيش ولا يعرفون شيئا عما يجري أمامهم فلم يكن يسمح لهم بالكلام مع أحد أو الرد على أي استفسار.

في هذا الجو المكفهر بالسجن الحربي كانت تحدث أمور محزنة، لقد كان المعتقلون بدون محاكمة يظنون أن أيام العنف والعذاب قد ولت بعد تلك الفترة التي قوها وراء الأسوار، ولهذا فإن تجدد التعذيب والإيذاء بصورة لا تقل قسوة عن الماضي قد تسبب في خلق مصاعب جديدة لهم فهناك بعض المعتقلين لم يتحملوا ذلك العنت كله ومن ثم ظهرت حالات مرضية من نوع جديد فالمعتقل «نور الدين» قد أصيب بالمعمى وقد شخصه طبيب السجن على أنه «عمى نفسي» والسجين «سعد زهران» قد أقعده الشلل النصفي فلم يعد يستطيع السير أو النهوض ولم تفلح السياط في جعله يتحرك من مكانه وقد شخصه طبيب السجن أيضا على أنه «شلل نفسي» وهكذا زادت حالات الصرع والتشنجات العصبية والجنون والانهيار مما جعل عددا آخر يتمنى الموت العاجل للخلاص من هذه الضغوط النفسية والجسدية والهائلة ولم يعزل هؤلاء المرض في مستشفى أو حتى في أماكن خاصة بهم بل تركوا في زنزاناتهم وسط المعتقلين ليضيفوا إلى همومهم آلام أخرى من نوع جديد وعلى الرغم من الصمود العام العجيب الذي أبدته غالبية المعتقلين إلا أن نفرا قليلا منهم رأى أن الأزمة قد استحكمت وأن الأمور تنتقل من سيء إلى أسوأ وتساءل هؤلاء: لماذا لا نتفاهم مع الحكومة؟؟ ووجد هذا التساؤل استنكارا من الغالبية العظمة ورفضوا ذلك المبدأ مهما كانت دوافعه النبيلة التي ترمي إلى إنقاذ البقية الباقية ووقف مهرجانات التعذيب المحزنة وإنقاذ المرضى من الضياع الأبدي وكذلك حماية الأسر من الضياع والانهيار الأبدي لم يكن هذا التيار الرامي إلى التفاهم برغم صغره قد يئس من الخلاص أو ضعفت لدية قوة العزيمة أو تراخت قبضته على المبادئ التي تشبث بها وإنما الهدف هو لون من المهادنة حتى تخف وطأة العنف ويستجمع المحبوسون شتات فكرهم ويلتقطوا أنفاسهم وقد دارت المناقشات الحامية خلف الأبواب المغلقة ليل نهار لكن معروفا قال في يقين:

أيها الإخوان .. أنتم واهمون.. فالحكومة سوف ترفض أي تفاهم لأنها في موقع السيطرة والقوة وواضح أن تصرفات المسئولين تعني شيئا واحدا هو القضاء علينا سواء قضوا علينا بالتصفية الجسدية أو بالتدمير النفسي أو بذر بذور الشقاق بين صفوفنا أو إثارة الاضطراب الفكري لدينا حتى نتنكر لعقيدتنا وماضينا النضال في سبيل الله تلك هي خطة الحكومة ولن تتخلى عنها مهما فعلنا وليس أمامنا سوى الصبر واللجوء إلى الله والتمسك بمبادئنا مادمنا على طريق الحق الذي رسمه الله ورسوله وللجوء لغير الله شرك فاستعينوا بالله واصبروا والعاقبة للمتقين ولا تنظروا إلى نتيجة المعركة اليوم من خلال الصعاب والهزائم التي منينا بها ليست معركة المبادئ يوما أو شهرا أو عاما أو أعواما أنها معركة دائمة ونتيجتها لم تظهر بعد إن أعتى النظم قد تنهار في ساعات .. والحكام الباطش الجبار قد يلفظ أنفاسه وهو جالس يضحك أو يلعب الشطرنج أو يوقع قرارات هامة فالأعمار بيدي الله ثم من نحن؟؟ نحن نتحرك في حيز زمني محدود في الدنيا قد يتسع هذا الحيز وقد يضيق لكنه على أية حالة محدود ففيم الانشقاق والوجل واللهفة؟ إن زلزالا واحدا يدمر عشرات الألوف من البشر والمباني في ثوان.. فلنترك أمر الحياة أو الموت لله ولنترك أيضا أمر الرزق لله وصدق حبيبنا رسول الله إذ يقول: «لا راحة في الدنيا.. ولا حيلة في الرزق ولا شفاعة في الموت..» أو ما معناه لقد كنا نقوم بتبليغ الرسالة ونحن خارج الأسوار ونحن الآن في هذه العزلة المريرة نؤدي نفس الرسالة بصورة أروع..»

لم يفكر أحد في أن يرد على معروف كان رزق إبراهيم يستمع إليه في لهفة ويتابع كل كلمة بقولها وكان الشاعر يوسف رشاد في الظاهر لكن عبارات معروف كانت تتجسد في خياله شخوصا وأحداثا وموسيقى أنها بناء خالد لقصيدة من الشعر الذي تظل الأجيال تردده عبر القرون وكان عبد الحميد برغم الجروح والكدمات والآلام يتمثل الحروف والكلمات أما محمود صقر الذي شفيت جراحة أو كادت فهو الآخر يجلس صامتا وابتسامة من نوع عجيب ترتسم على محياه الشاحب وفي عينيه يلمع بريق سحري يشد إليه القلوب والأرواح وطال الصمت وأخذ كل يسبح في عالمه الخاص محمود صقر يتذكر أمل أنه ظمآن والكأس المتلألئ في يديها يفيض بالري وعب الحميد يتذكر المسكينة بعذابها وارتياعها أثناء التحقيق في منشورات سوريا إن قلبه يخفق لذكراها: «آه عندما أخرج إلى الدنيا من جديد فلسوف أذهب غليه يا ربي أنني لا أعرف عنوانها هذا لا يهم أنني أتصور أن بإمكاني أن أعثر عليها وقلبي سوف يدلني عليها لكن أيمكن أن تتزوج من طالب علم فقير ولا جئ فلسطيني قد يطرد من مصر إذا خرج؟؟ ومتى يخرج هاهو الباب القائم مغلق تماما وخل الباب أسوار وأسلاك شائكة وأبراج عالية يقف فيها الحراس متيقظين بمدافعهم الرشاشة ونداءاتهم التقليدية تتابع واحد تماما .. اثنين تمام.. ثلاثة تمام... وهكذا .. أنهم لا ينامون لكي حبيبة القلب هناك بعيدا وهو يشعر أنها قريبة منه وتعيش معه في قلبه..»

من فضل الله علينا أنهم لا يستطيعون اقتحام عالم الأحلام وإلا لأقاموا ضد كل واحد منا ألف قضية وقضية ثم ما هو الفرق بين الواقع والحلم؟؟ إن كلا منهما نوع من المعايشة مثلا... قلبي كان يدق في محضرها وها هو يدق الآن لمجرد تذكرها أين الخط الفاصل إذن بين الواقع والحلم؟؟ إن الحلم واقع هأنذا استطيع أن أراها.. ألمسها . وأكلمها وتكلمني ونختلف ونتفق كما يحدث في واقع الحياة لست مجنونا لكني حقيقة لا أجد فرقا كبيرا بين الواقع والحلم كلما استدعيتها في خيالي جاءت كل شيء نستدعيه في خيالنا يأتي توا ..دون حاجة إلى بساط الريح أو خاتم سليمان .. يا قلبي أيها المعجزة الجارفة من أي شيء خلقت أنت معجزة من معجزات الخالق..» وانطلق الصوت من الخارج:

- «المعتقل عبد الحميد النجار . المعتقل عبد الحميد النجار دق الباب يابن الكلب..»

- في ثواني كان عبد الحميد يقف خلف باب الزنزانة ويدقه في عصبية:

- «عبد الحميد النجار يا فندم.. زنزانة 47 يا فندم»

- كانت أقدام العسكري تدق الأرض خارج الغرفة وبدأ عبد الحميد مستسلما راضيا بقضاء الله وعيون الإخوان تنظر إليه في إشفاق وقلوبهم تدعو له، ومعروف يمسح خفية دمعة انحدرت على وجنتيه وغمغم معروف وهو يتصنع الشجاعة وعدم الاكتراث:

- «الله معاك يا عبد الحميد»

- ونصب رزق إبراهيم عودة الفارع الأسمر وقال:

- «شد حيلك..»

- والشاعر يوسف غمغم:

- «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا..»

- أما محمود صقر فقد بقي صامتا والابتسامة الغريبة تضيء محياه الشاحب والنظرات الصافية تتألق في الظلام كان عبد الحميد يقرأ «آية الكرسي» وارتفع صوته قليلا عندما بلغ عبارة «من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه » ثم عاد للقراءة بصوت غير مسموع إلى أن دار المفاتح في ثقب الباب السميك ..

- وخرج عبد الحميد ثم أغلق الباب مرة أخرى وبعد هنيهة جاءهم صوت معروف:

- «فلنقرأ المأثورات .. هيا..»

- عندما وصل عبد الحميد إلى الساحة وجدها مكتظة بالبشر، صفوف متلاصقة من المتهمين أو من يمت إليهم بصلة خاصة الأوامر تتلاحق والصيحات تختلط وأساليب متنوعة وعجيبة في فن الإيذاء والتعذيب هذا عصر التخصص ولا عجب في أن يصبح التعذيب فنا قائما بذاته له خبراؤه وفلاسفته وله أصوله المدروسة التي استخدمت فيها التكنولوجيا وعلم النفس شعر عبد الحميد بالضياع والشتات في ذلك الجو الصاخب لكن العسكري من خلفه يأمره «يمينا سر... شمالا سر.. للخلف در. للخلف در.. سريعا مارش..» لكن هناك نداءات متشابهة وعبدا لحميد لم يعد يستطيع أن يفرق بين أوامر سجانه وغيره من السجانين الآخرين وسمع عبد الحميد أحد العساكر يقول: «الجهاز الجديد أطار برجا من رأسي» رد زميله: «برجا واحد.. ؟؟ يبختك!!» وأخذ عبد الحميد يلف ويدور كالسكران وأدرك العسكري ما يعانيه عبد الحميد من حيرة وشتات فأمسك بذراعه في غلظة وقال له وهو يشير بسبابته:

- «أترى ذلك المكتب؟؟ هناك على الشمال.. أجر..»

- وطوقه بضربة سوط شديدة فجرى عبد الحميد صوب المكتب ووصل إلى الباب وهو يلهث كان نفس الضابط الذي أجرى معه التحقيق السابق جالسا خلف مكتبه وذهل عبد الحميد إذ سمعه يقول في رقة:

- «تعالى يا عبد الحميد يا ابني ..اجلس..»

- تردد عبد الحميد في الجلوس فالكرسي نظيف ومريح وأنيق وثيابه متسخة ملوثة بالدماء القديمة وقال الضابط المحقق الذي يلبس الزي المدني وهو يحاول أن يبدو مداعبا خفيف الظل:

- «والله أتعبتمونا يا عبد الحميد الله يتعب قلوبكم .. أنا لا أستطيع أن أفهمكم .. شياطين؟؟ جن؟؟ مجانين؟؟ أبعد هذا كله تشكلون جهاز سريا جديدا؟؟ لقد كنا على وشك الإفراج عنكم لكن ماذا نفعل؟؟ تأبون إلا أن تفسدوا كل شيء بتصرفاتكم الخرقاء.. لماذا لا تجلس يا بني ؟؟ أجلس ولا تخف..»

- جلس عبد الحميد في طرف المقعد خائفا وقلبه يدق، وجسده كله يرتجف أنه مقدم على محنة جديدة فإنكاره للواقعة السابقة والاعترافات التي أدلى بها قد يقضي عليه، في الزمن القديم كان مدرسه في الابتدائية يقول له «الصدق منج» لكنه يرى الآن العكس تماما، الصدق معناه الموت هذا عالم الأكاذيب والظلم وانقلبت الحقائق والبديهات رأسا على عقب وحانت من عبد الحميد التفاتة إلى الخارج فوجد عطوة بك بنفسه يمسك سوطا وينهال على أحد المتهمين الجدد يا إلهي إن عبد الحميد يعرفه، هذا هو الطالب «سليمان حجر» في معهد التربية الرياضي العالي بالهرم ترى ماذا فعل أنهم يكادون أن يقتلوه.

- وفجأة سمع عبد الحميد صوتا يقول له:

- «نحن نشكرك يا عبد الحميد على ما قدمته من عون للعدالة..»

- فالتفت عبد الحميد إلى الضابط المحقق فوجده صامتا لا يتكلم ومنهمكا في تصفح بعض الأوراق مم يعني أن غيره هو الذي يتكلم ودار عبد الحميد بنظراته في جنبات غرفة المكتب فرءاه لأول مرة رجلا جالسا خلف مكتب آخر وأمامه ضوء مبهر ينبعث من «أبجورة» مكتب وكان اتجاه الضوء صوب عبد الحميد وكان من القوة بحيث لم يستطع عبد الحميد أن يتبين ملامحه جيدا وعاد الصوت الرجل الضعيف يقول:

- «لم يبق أمامنا سوى شيء واحد يعتبر في غاية الأهمية بالنسبة لنا، وأعتقد أن بإمكانك معاونتا فيه وأعدك بشرفي أن نفرج عنك فورا..»

- ابتسم عبد الحميد عندما سمع كلمة «بشرفي» دائما يقولون ذلك ودائما لا يوفون بالقسم أنها مجرد حروف خاوية لا معنى لها أو عملة زائفة لا قيم لها قال عبد الحميد:

- «لا أفهم ما تريد»

- خرج المحقق الجديد من خلف مكتبه واقترب من عبد الحميد قائلا:

- يجب أن نعرف حلقة الاتصال بين الإخوان سوريا وإخوان مصر وكذلك الأردن والعراق والضفة الغربية والسعودية والكويت إن أمكن..»

- ابتسم عبد الحميد وقال:

- «يبدو أنكم لا تعرفون من أنا»

- أنت عبد الحميد النجار البطل الفدائي..

- أنا لست مرشدا عاما للإخوان المسلمين ولا عضوا في مكتب الإرشاد ولا في الهيئة التأسيسية أنا مجرد فرد عادي فكيف أعرف هذا كله؟؟»

- قال الرجل وق كشر عن أنيابه

- عندما تريد الحكومة شيئا لابد أن تحصل عليه مفهوم..»

- وقف عبد الحميد وسدد إلى المحقق نظرات ثابتة وقال:

- «القصة كلها مخترعة»

- اكفهر وجه المحقق ونهض المحقق الأول هو الآخر من مقعده ودار نصف دورة واقترب من عبد الحميد وعيناه تتقدان شررا:

- «ماذا تقول؟»

- «أقول أن المنشورات السورية لا أعرف عنها شيئا..»

- «إن المكتوب فيها أنت الذي قلته وقد سجلناه بصوتك أتريد أن تسمعه مرة أخرى؟»

- ابتلع عبد الحميد ريقه وقال وشفتاه ترتجفان:

- لقد أكرهتموني على تلفيق ما قلت..»

- «أكرهناك؟ ممن تعلمت هذه الكلمة..»

- «لقد أردت أن أنجو من الضرب..»

- جره المحقق من طقه وهزه في حنق قائلا:

- «قل غير هذا الكلام»

- «لا أعرف شيئا من هذه المنشورات..»

- «من الذي حرضك على هذا الإنكار بعد الاعتراف الكامل؟؟»

- طأطأ عبد الحميد رأسه قائلا:

- «لا أحد لسبب بسيط..»

- ما هو

- «كان يجب أن أقول الحق..»

- «أي حق.. كلام الأمس أم اليوم..»

- «لقد اخترعت القصة بأكملها حتى أستريح وأجد فرصة للنوم..»

- صفعه المحقق صفعة قوية وقال:

- «وماذا نقول لرئاسة الجمهورية لقد أرسلت إليهم اعترافاتك كاملة وأبدوا اهتماما بالغا بالأمر»

- ودخل عطوة الملواني ووقف برهة يستمع للحوار الدائر بين عبد الحميد والمحققين وأدرك على التو أن المتهم ينكر ما سبق أن أعترف به وقال عطوة:

- «اتركوه لي، وسوف أجعله يعيد اعترافاته ويسجلها بخط يده، بل ويضيف عليها جديدا»

- وقال المحقق الأول

- «لا حل غير ذلك وإلا فضحونا وسخروا منا في الرئاسة..»

- وأشار عطوة إلى عبد الحميد وهو مكشر عن أنيابه..

- «قدامي .. لسوف أعلقك كالذبيحة حتى تعترف أو تموت..»

- وقال المحقق الثاني:

- «أرى أن تستدعوا رفاقه في الزنزانة حتى نستجوبهم فقد يكونا أحدهم قد حرضه على الإنكار..»

- وبعد دقائق كان عبد الحميد معلقا من قدميه عاريا كما ولدته أمه والسياط تنهال عليه من كل جانب بإشراف عطوة نفسه كان عبد الحميد يئن يصوت واهن، وقد أسلم أمره لله وأصبح الموت بالنسبة له أمرا غير ذي بال بل أصبح أمينة إن عبد الحميد يستغفر الله فالحياة هبة أو نعمة من نعم المولى عز وجل ولا يليق بالمؤمن أن يتخلص منها لأنها من الله ولله وما عليه إلا أن يصبر ويصمد اقترب منه عطوة وانحنى إلى أسفل حتى بلغ أذن عبد الحميد وقال:

- «ستموت يا عبد الحميد تكلم قبل فوات الأوان..»

- قال عبد الحميد بصوت باك:

- «أينما تكونوا يدرككم الموت، ولو كنتم في بروج مشيدة..»

- «لقد سمعت مثل هذه الكلمات من قبل أنها تزيد من ثورتي..»

- «وكيف أثبت أني مظلوم؟.؟»

- «نحن لا نظلم أحدا..»

- «أنا؟؟»

- صرخ عطوة:

- «أنت ابن كلب ..كذاب..»

- «الله وحده يعلم ما بي..»

- «لا شأن لله فيما نحن فيه..»

- قال عبد الحميد:

- «استغفر الله يا عطوة بك..»

- عادة عطوة يصيح:

- «اضربوه..»

- الأنين والألم الذي لا يحتمل اللحظات الطويلة الرهيبة ورأسه إلى أسفل لم يعد يستطيع أن يرى شيئا هناك غشاوة على عينيه رأسه تكاد ينفجر شعر بقطرات ساخنة من الدم تتساقط من أنفه أنه ينزف أهذه هي النهاية عبد الحميد واثق أن الله الآن وفي أي وقت يرى ويسمع كل شي اختلطت الأشياء في ذهنه المتعب المكدود لكن حقيقة واحدة تتألق في رأسه هذا وقت الصلاة ليتهم يتركوني كي يؤدي الفرض آه أن لديه فكرة لماذا لا يصلي وهو هكذا «الكعبة من أمامي نويت الصلاة الله أكبر » وأخذ يتمتم والسياط تهوي على جسده وهو لم يعد يشعر بشيء وتمتم في النهاية «إنك حميد مجيد .السلام عليكم..»

- واقترب منه عطوة:

- «ألن تتكلم؟؟»

- لم يرد:

- «من أي شيء خلقت؟؟»

- قالت عبد الحميد:

- «من طين..»

- «يا وسخ»

- «سامحك الله..»

- وصاح عطوة في غيظ لمن حوله من العساكر:

- «اتركوه»

- ثم عاد يقول بعد لحظة:

- «فكوا وثاقه.»

- وبعد دقيقتين أو ثلاث كان عبد الحميد ملقى على الرمال يئن ومن بين أناته يهتف في ضراعة: «يا رب.. يا رب.. يارب..»

الفصل الثالث والعشرون

حين دوهمت الزنزانة رقم 47 بعدد من العساكر القادمين من مكاتب التحقيق أصاب الذهول أفاردها لو أنهم ساقوا فردا واحدا منهم لأصبح الأمر طبيعيا أما أن يؤخذ الجميع بهذا العنف ويلاحقونهم بالسياط من الزنزانة جميعا وحتى مكتب التحقيق فليس لذلك سوى سببين: أولهما أن تكون الإدارة قد اتخذت سياسة جديدة إزاء المعتقلين القدامى، بتأثير الجهاز الجديد الذي تم اعتقال أفارده بحيث يعم الإيذاء جميع المستويات التنظيمية في الجماعة دون استثناء كأسلوب من أساليب الانتقام والتأديب والسبب الثاني قد يكون متعلقا بموضوع عبد الحميد بالذات إذ لا شك أن إنكاره قد أزعجهم وأفزعهم وهذا الرأي الأخير هو الذي كان يميل إليه معروف لقد اقتنع بهذا عقليا وقلبيا وما أكثر ما يحدثه قلبه في هذه الأيام فيصدق فهو لم يشعر بأنه أقرب ما يكون إلا الله في يوم من الأيام مثلما يشعر بذلك الآن وما إن بلغوا ساحة التحقيق حتى تراصوا أمام الجدار بحيث كانت وجوههم في مواجهة الأحجار الصلدة وأقفيتهم في مقابلة العساكر وأذرعهم مرفوعة إلى أعلى وحانت من معروف التفاته إلى الجهة اليسرى فوجد عبد الحميد ملقى على الأرض كأنه يحتضر حاول معروف أن يفهم شيئا من نظراته أو حركاته لكن عبد الحميد لم يكن بقادر على أن يأتي بحركة أو إشارة ولم يطل الوقت فقد حضر المحقق الأول والثاني وقال المحقق الأول لمعروف وهو يشير إلى زميله:

«اسمع يا معروف . فريد بك قادم من رئاسة الجمهورية..»

انزل معروف يديه، ثم قاس الرجل بنظراته وقال:

- «نعم أعرفه يا يحي بك..»

- ابتسم فريد وصالح معروف في شيء من التعالي وغمغم:

- «كنا زملاء لكنها الأيام...»

- وعاد يحي بك يقول:

- «زميلكم في الزنانة عبد الحميد النجار قد أوقعنا في ورطة ربما تسيء إلى شخصيا..»

- وأردف فريد بك قائلا:

- «أنت زميل قديم، وتستطيع أن تقدر هذه الظروف الحرجة.»

- هز معروف رأسه وقال:

- «ما هي المشكلة بالضبط؟؟»

- «أدلى باعترافات تتعلق بمنشورات سورية وكان أن أبلغنا الأمر للرئاسة وأفرجنا عن المتهمين المشتبه فيهم ثم جاء بعد ذلك وأنكر كل شيء..»

- وفكر معروف مليا في الأمر، ما معنى استدعائه هو وزملاؤه؟؟ هل يفهم من ذلك أن عبد الحميد بسبب ما تعرض له من تعذيب قد أفهمهم أن معرفو هو الذي أوعز إليه بالإنكار؟؟ ولهذا استعان بالله وقرر أن يلقى أمامهم الحقيقة كاملة حتى يضع حدا للعذاب المتوقع لكن هناك احتمال أن يثيرهم تصرفه فينقلبوا كالشياطين ويتصرفوا دون عقل ومع ذلك فقد كان معروف ميالا لقول الحقيقة وسمع معروف يحي بك يقول:

- «ما رأيك يا معروف ؟؟ أنت زميل وكلنا كنا دائما نحترمك ونجلك نحن نعرفك برغم ما أنت فيه اليوم من وضع سيء»

- قال معروف في هدوء:

- «أتريدون أن تتأكدوا من الحقيقة أم ترغبون في تأييد شكوككم..؟؟»

- قال فريد بك باسما:

- «بالطبع الحقيقة..»

- قال معروف:

- حسنا عندما جاء عبد الحميد وأخبرني بكل شيء وعلمت أنه ابتكر القصة من أولها إلى آخرها أقول الحق. لقد عتبت عليه قد تغضبون من تصرفي هذا لكني رأيت أن خديعتكم أمر خطير فمعنى ذلك أنكم لن تعرفوا أبدا من أتى بالمنشورات ولن تعرفوا موزعها الحقيقي أتظنون أن ذلك سيكون ي مصلحتكم ومصلحة البلد؟؟»

رد يحي بك وهو يكتم غيظه:

«أيها الثعلب أنت السبب إذن؟؟»

«أنا لا أقول إلا الصدق..و..»

قاطعة فريد بك:

«أعرفك صاحب مبادئ طول عمرك..»

«المهم أن تثقوا في كلامي.»

قال يحي بك مهتاجا:

«وكيف نواجه الرئاسة..؟؟ء175

- «وكيف نواجه الرئاسة؟؟»

- «بقول الحق.»

- «إن هذا يفتح علينا بابا من الشقاء لا مثيل له..»

- «لماذا؟؟؟»

- «لأنه يجب أن نعثر على الفاعل..»

- «وعبد الحميد ليس الفاعل يا يحي بك..»

- وصمت معروف برهة ثم قال:

- أم تريدون أن يكون المسكين كبش فداء ثم تقفلون المحضر وتستريحوا أنتم ويساق عبد الحميد إلى الموت أو الأشغال الشاقة المؤبدة ظلما؟؟»

- رفع يحيي بك يده وصفع «معروف» في ثورة وهو يقول:

- «نحن لا نلفق التهم..»

- قال معروف في سخرية:

- «واضح»

- ثم التفت إلى فريد بك قائلا:

- «أتوافقه يا فريد بك..»

- واستطرد معروف في انفعال:

- «حرام عليكم يقول الله في كتابه العزيز: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى.»

فكيف تقابلون الله؟؟ ولن يكون في مصلحتكم ولا مصلحة الدولة أن تلفق الأمور على هذا النحو»

كان معروف يدرك أن الأمر ليس سهلا فإقناع هؤلاء الشياطين الذين لا يرحمون أمر صعب غاية الصعوبة والتفاهم معهم بالعقل والمنطق فيه كثير من المشقة إن كل واحد منهم يريد أن يبعد المسئولية عن نفسه ويبدو نشطا مخلصا في عمله حتى يرضى رؤسائه والأساس الأول الذي يبنون عليه تصوراتهم وفلسفتهم هو أن الإخوان جميعا خطر وبلاء وفساد ويستوي في ذلك الرئيس والمرؤوسين والمتهم والبريء والغاية هي القضاء عليهم أو الزج بهم في السجون أطول مدة ممكنة حتى يأكلهم الملل ويدمرهم الإرهاب الطويل خلف الأسوار، ومن يخرج منهم بعد ذلك يخرج بائسا فقيرا مأزوما لا يصلح لشيء ومع ذلك فقد أصر على موقفه الذي شرحه الإخوان بالأمس القريب في الزنزانة حينما اعترضوا على تصرفات عبد الحميد فلابد من قول الحق مهما كان الثمن ولابد من الصبر والصمود حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، «ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك..» وذهل معروف ولم يصدق أذنيه حينما سمع فريد يقول:

- «اسمع يا يحي بك أنا مقتنع بم قاله معروف اقفل المحضر وسجل أقوال عبد الحميد الجديدة ودعه يوقع عليها .. وأنا بدوري سألغي محضر التحقيق القديم ثم دعهم يذهبون إلى زنزانتهم.. »

- وصافح فريد بك معروف في شيء من الود وقال:

- «تعرف يا معروف إننا جميعا نحزن لأجلك.. ليتك تتنازل عما في رأسك وتترك هوس المبادئ .. لو فعلت لضمنت لك الخروج من المعتقل فورا.. إن ورقة صغيرة تعتذر فيها وتكتب التماسا للرئيس ستنهي كل شيء ولن تعود للجيش لكن ستتسلم وظيفة كبيرة تليق بشخصك وتاريخك في إحدى الشركات الهامة..»

- ابتسم معروف وقال:

- «متشكر يا فريد بك.. هذا قدري . ولن أنسى لك هذا الفضل..»

- وقال فريد وهو ينصرف:

- «متشدد أنت دائما.. أهناك من يرضى بهذا الهوان مهما كان السبب؟؟»

- وغضب عطوة الملواني وثار ثورة عارمة عندما علم بالإجراء الذي اتخذه مندوب الرئاسة فريد بك وقرر أن يحبس معروف في زنزانة انفرادية بعيدا عن باقي الإخوان لخطورته وأن يعامله المعاملة القاسية التي تليق بغروره وحماقته وعدائه للنظام لكن فريد بك قال:

- «عطوة اسمع الكلام..»

- «هذا غير معقول..»

- تنهد فريد بك وأشعل سيجارة وقال:

- «لقد أنقذ معروف حياتي وعشرة من جنودي في حرب فلسطين لولاه لكنت الآن راقدا تحت الرمال عند منطقة «سور باهر» دنيا . لو أن معروف اكتسب شيئا ن المرونة واللباقة وفكر في مصلحة نفسه لكان الآن واحدا من كبار رجال الثورة المرموقين..»

- هتف عطوة بك في غضب:

- «هذا يدينه..»

- «عطوة لا تنسى أنني أتكلم باسم الرئاسة نحن أدرى بالأمور منك..»

- وعاد الرفاق إلى الزنزانة وما أن وصلوا حتى قال معروف:

- «تيمموا بالصعيد الطيب لا يوجد ماء للوضوء ولنصل ركعتين شكرا لله ولندعوا جميعا الله كي يعود إلينا عبد الحميد هو الآخر سالما..»

- وأمهم الشاعر يوسف في الصلاة وجلسوا متحلقين، كانوا يشعرون بالسعادة وقد أنقذهم الله من هذا الموقف الصعب وكانت القضية التي تشغل أذهانهم هي ما فعله فريد بك إن ما أقدم عليه شيء نادر الحدوث في مثل تلك الأوقات العصيبة، وعلق رزق إبراهيم قائلا:

- «هذا رجل فيه بقية خير..»

- وغمغم يوسف بآية من القرآن:

- «ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما»

- أما محمود صقر فبرغم اعتصامه بالصمت أغلب الأوقات فقد قال:

- «عجيب أمر الإنسان يقوى ويضعف يعدل ويظلم صعود هبوط الدوام لله وحده..»

- وضحك معروف بصورة لفتت الأنظار إليه وقال:

- «في الأمر سر..»

- زحفوا نحوه وسددوا نظرات متلهفة وقال رزق:

- «ماذا؟؟»

- قال معروف: «هل فيكم من يحفظ السر أم أن السياط تنسيكم العهد؟؟»

- مد رزق يده السمراء النحيلة وقال:

- «نعاهدك على الكتمان..»

- قال معروف:

- «ليس من شيمتي أن أفشي سرا..»

- قال رزق:

- «لقد عاهدناك..»

- فأردف معروف قائلا:

- «لكن هذه المرة لي هدف..»

- وأنصتوا لما يقول في اهتمام فجاءهم صوته:

- «كان فريد في مجموعتي..»

- صرخ يوسف

- «من الإخوان؟؟»

- «نعم»

- استمر معروف في حديثه:

- «ويوم أن وقعت الواقعة جاءني وقال لي: «يا معروف لا يعلم السر إلا أنا وأنت » فهمت كل شيء عاهدت الله ألا يعلم بالأمر أحد حتى ولو مزقوني إربا إربا.. كنا أخوة في الله.. ورفقة في السلاح والجهاد تأكدوا أيها الإخوان أن هناك ألوفا مثل فريد في كل مكان هذا ما أردت أن أطمئنكم به ولهذا أذعت السر لكم أنتم وليس للحكومة.»

- قال رزق وقد احتقن وجهه الأسمر:

- «ولماذا يتعاون مع الحاكم الظالم؟؟»

- قال معروف وهو يتنهد:

- «هذا سؤال لا يمكنني الإجابة عليه..»

- «من يجب إذن؟؟»

- «هو لكل إنسان وجهة نظر..»

- «الأمر واضح يا معروف..لقد خاف من سوء المصير.»

- قال معروف باسما:

- «هل السجن وحده هو المحك الحقيقي للصمود والشجاعة؟؟»

- «لا أفهم..»

- قد تكون الشجاعة أن تتراجع وقد تكون في الإقدام قد تكون في الظهور ربما تكون في التخفي.. ليس من السهل الحكم في مثل هذه القضايا»

- قال زرق في إصرار:

- «هذا الأسلوب يناسب السياسيين المحترفين..»

- هز معروف كتفيه قائلا:

- «ربما لكن إدانته أمر صعب..»

- تدخل الشاعر يوسف متمثلا بقول الرسول:

- «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان..»

- وتمتم محمود صقر:

- «الله وحده يعلم..»

- ودار المفتاح في عقب الباب وما أن انفرج حتى هب الحضور واقفين كان اثنان من العساكر يحملان عبد الحميد ثم دخلوا ووضعوه يوسط الزنزانة كان في حالة من الإعياء شديدة ونظروا إلى وجهه المشوه في خوف وقال معروف:

- «لماذا لا تأخذونه إلى الشفاخانة؟»

- لم يرد عليه أحد وسرعان ما أغلق الباب..

- وكم كانت دهشة الإخوان حينما رأوا عبد الحميد يبتسم ويقول:

- «أنا الذي طلب ذلك رفضت دخول المستشفى لم أستطع فراقكم..»

- قال رزق:

- «لكن حالتك خطرة..»

- «إذا مت بينكم فسأكون سعيدا الحمد لله..»

- «وما هو الحل الآن؟؟»

- وسادت فترة صمت قال رزق بعدها:

- «وجدتها..»

- نظر إليه معروفا مستفسرا فاستطرد رزق:

- «العجمي .. أقصد الدكتور العجمي..»

- صاح يوسف قائلا:

- «ماذا تقصد»

- «أعني أن لديه كمية من العلاج يحتفظ بها في غرفته غرفة الكلاب، وفي الإمكان الاستفادة منها..»

- وأخذ يوسف يداري ابتسامة كادت ترتسم على محياه بينما قال معروف:

- «فكرة صائبة إن لديه بنسلين وسلفا وقطن وشاش ومطهرات أعتقد أننا لن نحتاج على أكثر من ذلك..»

- كان عبد الحميد برغم جراحه يشعر بقدر كبير من السعادة لم يكن يتصور أنه سيخرج من ذلك المأزق بسهولة بل لعله كان يظن أن نهايته قد قربت فالاعتراف ثم الإنكار أمر غير مألوف ولا يقابل إلا بمنتهى الحزم والقسوة ومن فرط سعادته أخذ يشرع بأن آلامه تختفي رويدا رويدا، وداخله يقين قوي بأنه سوف يشفي برغم سوء حاله، وغمغم عبد الحميد حتى يبدد سحب الخوف والكآبة.

- «الدكتور العجمي طيب بيطري..بيطري بيطري ... لا مانع نحن هنا في مرتبة دون الحيوانات الأمر طبيعي أيها الإخوان..»

- ولم يتمالكوا أنفسهم من الضحك.

الفصل الرابع والعشرون

لقد ترك موضوع «نبيلة عبد الله» في قلب عطوة الملواني جرحا لا يندمل، لقد نظر إلى الأمر من زاوية خاصة لم يخطر على ذهنه أنها إنسان له الحق في أن يحب أو لا يحب نسي أن نبيلة شخصية مستقلة تستطيع أن تسافر أ ولا تسافر ويمكنها أن ترفض أو توافق هذه الاعتبارات كلها لا وزن لها في نظره، إن سنوات العنف التي عاشها والسلطات المطلقة الواسعة التي أعطيت له والحياة العسكرية الجافة، والماضي الشائن الأسود الذي لطخ سنوات عمره، هذه الأشياء مجتمعة جعلت منه كائنا متوحشا شرسا لا يطيق أن يرفض له طلب، ولا يقبل أن يستسلم للأمر الواقع لكن الطائر قد حلق في الأجواء العالية وانطلق بعيدا إلى آفاق بعيدة لا سلطان له عليها وبدا له الحصول على الطائر المهاجر نبيلة أمرا شبيها بالمستحيل، والذي حز في نفسه أكثر أنها من خلال الرسالتين اللتين قرأهما لقد اتضح انحيازها التام لجانب الإخوان المسلمين أليس هذا شيئا عجيبا شاذا لا يمكن تخيله؟؟ أم أن الله يريد أن ينتقم منه في صورة هذه المخلوقة التي أصبحت كالثمرة الشهية المحرمة عليه؟؟ وشعر عطوة بقدر ضئيل من الارتياح حينما تذكر أن أباها قد أصيب بالذبحة الصدرية لا شك أنها ستتألم ألما شديدا لأنه يعلم مدى رهافة إحساسها ورقة شعورها وحبها لذويها وماذا ستفعل عندما تعلم أن أباها قد مات وأن أمها قد أصيبت بالشلل أو أن أحد أخوتها قد سيق إلى السجن؟ من أجل ذلك فإن عطوة يفكر ليل نهار في ألحاق الأذى بأهلها وإذا لم يمت أبوها فهو قادر على أن يدس له السم، بذلك قد يشفي غليله ويحقق خطوة في طرق الانتقام الذي يحلم به ولا يمل التفكير فيه ولذلك عندما سمع أحد مرؤوسيه من ضابط السجن الحربي يقول:

«لقد علمت أن مصر ستشتري السلاح من أحد الدول الشيوعية..»

نظر إليه عطوة دون اهتمام وقال:

«أنا لا أفكر في مثل هذه الأمور..»

قال الضابط في دهشة:

- «كيف إن الأمر خطير ومعناه التحول من مسار خط الدولة السياسي..»

- مط عطوة شفته السفلى في ازدراء وقال:

- «شيء لا يخصنا..»

- «يخص من إذن؟؟»

- «الرئيس بالطبع..»

- وأخرج عطوة زجاجة الويسكي وأخذ يصب لنفسه كأسا ويقول:

- «أتشرب؟؟»

- قال الضابط:

- «شكرا..»

- ثم ابتسم الضابط في مرارة وقال:

- «ويسكي من الغرب..وسلاح من الشرق..»

- ثم اختطف علبة السجاير «الكنت» الموضوع أمام عطوة وتناول واحدة منها وهو يقول:

- «وسجائر من أمريكا..»

- وبعد أن أشعل السيجارة استطرد قائلا:

- «وخبراء للتعذيب من ألمانيا..»

- وبعد أن نفث دخانا كثيفا من فمه قال:


- «الواقع أن بلادنا أصبحت مفتوحة لكل خيرات العالم وخبراته وهذا يشير بخير كثير..»

- وهب عطوة واقفا بعد أن شرب الكأس الثالثة وقال:

- «محمود صقر إما أن يعترف بعدد قطع السلاح ومكانها أو يموت..»

- قال الضابط:

- «ولعله سلاح إنجليزي.»

- «انجليزي عفريت لا يمهني..»

- اقترب الضابط منه وقال:

- «أنا واثق أن هذا الشاب لا صلة له بأي سلاح. »

- «أن لا أثق إلا فيما أظنه..»

- ابتسم الضابط وقال:

- «بعض الظن إثم يا سعادة البك..»

- «الإثم هو أن يوجد على ظهر الأرض مثل هؤلاء الأوباش..»

- قال الضابط شاردا:

- «لماذا تكرههم يا عطوة بك؟؟»

- «لم أسأل نفسي مثل هذا السؤال..»

- «لماذا.؟.»

- «الأمر لا يحتاج »

- «كيف؟؟»

- «لو ناقشنا شيء لما فعلنا شيئا..»

- وانطلق عطوة خارجا من مكتبه كانت الساحة هذه المرة مكتظة أكثر من أي وقت مضى بالمعتقلين أعضاء التنظيم الجديد «التمويلي» وبعض أعضاء الجهاز التنظيمي القديم وصوت الصراخ والعويل السياط يغطي على كل شيء وما أن ظهر عطوة في الساحة حتى هتف أحد العساكر بأعلى صوته «كل السن ثابت» فحط الصمت الكئيب بأجنحته السوداء على الساحة الحمراء وأخذ الطاغية الصغير يتجول بين الرعايا التعساء منتفخ الأوداج محتقن الوجه وعيناه يتطاير منهما الشرر ويتطوح يمنة ويسرة وكأن العالم كله قد دان له. - وأثناء ذلك الصمت الرهيب الدامي فتح المذياع فجأة وانطلق صوت الميكروفون يجلجل وصوت المقرئ الندي الرقراق يقول:

- «... إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى..»

- واكفهر وجه عطوة وصرخ بأعلى صوته:

- «اقفل الراديو يا بهيم..»

- وفي لحظات كان صوت القرآن قد قطع وبعده جاء صوت أم كلثوم وهي تغني أغنية «يا جمال يا مثال الوطنية..» وسرعان ما انفجرت أسارير عطوة ثم ابتسم ثم قهقه وعاد يصيح.

- كل السجن يغني مع الست

- وابنعث ثوت السجناء واهنا دامعا حزينا يردد المقاطع مع أم كلثوم لكن الشيء العجيب أن صدى آيات القرآن الكريم التي كان يرتلها المقرئ لم تزل ترن ي أسماع الواقفين وتصل إلى قلوبهم المكبوتة، أما صوت الأغنية العالي فقد كان يبدو وكأنه ينبعث من وادي عميق كمجموعة من الضجات والضوضاء المشوشة..

- وقال عطوة لمن حوله من رجال المباحث:

- «أين محمود صقر؟؟»

- وأشار أحدهم على ركن قصي ثم خطا عطوةة صوبه وسدد إليه نظرات تشع مقتا وكراهية كان محمود يقف شاحبا مرتجفا بعد أن جف عوده ونحفت عنقه وغارت عيناه الصافيتان ولون وجهه أشد صفرة من الرمال التي يقف عليها وأثار الجروح لملتئمة محتقنة بعض الشيء وابتسم عطوة كأفعى وقال:

- «لقد بعثت من جديد يا محمود»

- نظر إليه محمود بعيون حزينة ولم يتكلم»

- قال عطوة:

- «لقد أمهلناك طويلا..»

- ثم قبض عطوة على كتف محمود الأعجف وهزه في عنف وقال:

- «إذا كان صقرا فأنا نسر لقد أخطأ أهلك في تسميتك كان يجب أن يسموك محمود غراب محمود بومة محمود قرد»

- وأخذ عطوة يقهقه في بلاهة وشاركه الضباط والعساكر الواقفون في الضحك مجاملة واحتراما حتى محمود نفسه ابتسم «لخفة دم القائد الهمام» وتضايق عطوة إذ رأى النظرات الضافية المؤمنة في عيني محمود إنه لا يطيق ذلك ورفع يده ثم أهوى بها على وجهه في قوة تطوح محمود وكاد أن يقع لكنه تماسك بعد لحظات وعاد إلى وقفته وطأطأ رأسه في أسى دون أن ينطق. بينما استطرد عطوة:

- «اسمع يا ابن الحلاق . السلاح أو الموت ليس لدي وقت أضيعه معك أكثر من ذلك .. انظر ألا ترى المئات التي تنتظر التحقيق؟؟ ليس لحياتك قيمة .. أنت مجرد واحد من ملايين الشعب ولن تخرج الدنيا لو مت أتفهمني؟؟ أنا لا أمزح..»

- دق قلب محمود حاول أن يتطلع إلى السماء لكنه خشي أن يرفع رأسه وقال في ضراعة:

- «السلاح شيء لم أعرفه طول حياتي كانت دعوتي بالكلمة والموعظة الحسنة..»

- قال عطوة ساخرا:

- «أعرف .. أعرف..»

- ثم ألتفت إلى الزبانية وقال لهم:


- «إما أن يعترف بالسلاح أو تحضروه لي جثة هامدة مفهوم وقف سجان شهير أمام عطوة بك وأدى التحية وهو يقول:

- «تمام يا فندم.»

- إذن فقد صدر الحكم أصدره عطوة الملواني ببساطة وهدوء وهو نصف سكران، وأدرك محمود بشاعة الموقف أخذ يفكر بسرعة لو كان لدي أحد من أقربائه سلاح أي سلاح حتى ولو كان مرخصا لأرشد عنه حتى ينقذ حياته وتمنى محمود في هذه اللحظات أن يكون لديه سلاح حتى يعترف به لكن ما الحيلة وهو لا يعرف شيئا عن هذا الموضوع؟؟ كان محمود تائها عن كل ما حوله لم يعد يستطيع أن يعد يستطيع أن يفهم شيئا أو يميز ما يقولون فقد انهالت السياط عليه دون رحمة حتى التأوهات أو كلمات الاستغاثة لم يعد قادرا على التلفظ بها انتهى كل شيء وسلم أمره لله. لم يعد يرى شيئا تحول العالم من حوله إلى ظلام دامس ماذا رأى بعد ذلك؟؟ ماذا سمع؟؟ السر عند بارئ الأرض والسماء لعله رأى من جديد قبسا من ضياء أو لعله رأى أمه وهي تطعمه ومسح العرائس وأمل حبيبته الحلوة الدامعة العينين وهاتف من وراء المنظور يناديه لا أحد يعرف هذه المرة ماذا جرى بالضبط له أحد العساكر قال إنه رآه يبتسم وهو ملقى لا حراك به وذكر أيضا أن عطوة بك قدم ليلقي عليه النظرة الأخيرة وهو راقد كالجثة ورأى الابتسامة فجن جنونه وأخذ يركله بقدمه في وحشية لكن الابتسامة برغم كل ذلك لم تنطفئ..

- وأسدل المساء أستاره القاتمة على السجن وطنين خافت خلف أبواب الزنزانة المغلقة ينبعث واهنا مندي باسم الله والصلوات على رسوله وقبيل منتصف الليل تململ معروف الحضري في فراشه وغمغم:

- «أخوكم محمود صقر لم يعد..»

- كان يظن أن أحد لن يجب على كلماته فهذا وقت ينامون فيه عادة لكنه فوجئ بهم جميعا ينحون الأغطية ويجلسون قلقين وقال عبد الحميد النجار:

- «الله معه..»

- وعاد معروف يقول:

- «لقد طالت غيبته..»

- رد عبد الحميد:

- «الزحام هناك كيوم الحشر والتحقيق على قدم وساق والضباط يأخذون أجرا إضافيا في مثل هذه الأحوال..»

- وعلق الأخ السوداني رزق قائلا:

- «ويأخذون مكافآت تشجيعية..»

- «لزيادة الإنتاج وتحقيق أرباح كبيرة.»

- وظلوا يتحدثون ويرددون المأثورات أو يقرأون القرآن حتى موعد صلاة الفجر، لم يقرب النوم أجفانهم وكان واضحا أنهم يعانون من توتر وقلق بالغين يا لها من أيام وفتحت أبواب الزنازين كالعادة حوالي الرابعة صباحا كي يذهب المعتقلون إلى دورات المياه في الطابور الصامت جلسوا محزونين ومن آن لآخر يهوى عليهم السجانة بالسياط دون سبب ظاهر ثم يجلسون ويعاودون الكرة كل فترة حتى تنتهي طابور دورة المياه طابور العذاب الدائم وعند انصراف معروف الحضري إلى زنزانته اقترب منه «الأخ إسماعيل» الذي حل محل «قوري اليهودي» في خدمة المكاتب وقال بسرعة:

- «معروف .. البقية في حياتك. .محمود صقر مات..»

- تسمر معروف مكانه وأصابه ذهول مباغت وهتف

- «ماذا؟»

- قال إسماعيل:

- «ودفنوه في صحراء العباسية وكتبوا أمام اسمه في الدفاتر والسجلات كالعادة كلمة «فرار» ادخل بسرعة لا تخبر أحدا..»

- وفي ثوان كان إسماعيل قد اختفى وبقي معروف وحده واقفا وقد تجمدت الدموع في عينيه وقلبه يدق ويكاد يحطم قفصها الصدري ولم يفق إلا على كرباج نزل على رأسه في عنف، وكلمات انصبت في أذنيه:

- «ادخل زنزانتك يا ابن الكلب..»

- لم يشعر معروف بألم خطا في بطء إلى زنزانته وقف في وسطها كالتائه والعتمة تجسم على صدره كجبل المقطم ودخل الإخوان فوجدوه على هذه الحال صاح رزق:

- «ماذا جرى..»

- وجاءهم صوت معروف جادا آمرا مبللا بالدموع:

- «أقيموا الصلاة.»

- وبعد انتهت صلاة الفجر قال معروف:

- «أيها الإخوان .. كلنا ودائع لله والله يسترد وديعته حيثما يشاء ولكنا إلى هذا المصير ذاهبون صلوا على أخيكم الشهيد صلاة الغائب فقد دفنوه دون أن يصلي عليه أحد صلاة الجنازة»

- صرخ رزق في ذعر:

- «من..؟؟»

- «محمود صقر فليرحمه الله..»

- انفجروا باكين وانتظر معروف بضع دقائق ثم أخذ هو الأخر يجفف دموعه وتذكر أيام المعارك الدامية في حرب فلسطين عام 1948 وكيف كان يموت الأبطال كل يوم وتذكر كيف يسيطر على جنوده في المواقف الصعبة الرهيبة كي يواصل المعركة عندئذ صرخ في ثقة وقوة كقائد حازم:

- «قوموا للصلاة على روح أخيكم..»

- وتراصوا لأداء الصلاة..

- ونظر معروف بعد الصلاة إلى الفراش الخالي بالأمس كان يجلس هنا محمود صقر ويأكل وينام كان يجلس كالغريب أو المسافر الذي سوف يزمع الرحيل أو كعابر سبيل شعور غريب كان يداخل معروف منذ أيام..

- هذا الطائر الأبيض الملائكي سوفي يفرد أجنحته وينطلق إلى السموات العلى حيث الآفاق العذراء التي لم تبلغها قذارات البشر ولا أدخنة المصانع ولا ضجيج مكبرات الصوت.. عالم الحب والسلام الأبدي .. حيث تلتقي أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء حيث لا مكان للظلم والحقد والأنانية والغدر..

- وقال الشاعر يوسف:

- إن القلب ليخشع أو يجزع..

- وإن العين لتدمع ..

- وإنا لفراقك يا محمود لمحزونون..

- ولا نقول سوى القول الخالد: «إنا لله وإن إليه راجعون ..»

- وبعد فترة صمت وجيزة قال رزق إبراهيم:

- «سمعت بعض المعتقلين الذين حضروا التحقيق يقولون إن ثلاثة من الإخوان قد قتلوا..»

- وعاد معروف يقول والدموع تبلل أهدابه:

- «كل نفس ذائقة الموت، ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون .. »

- وتمتم الجميع:

- «صدق الله العظيم..»

الفصل الخامس والعشرون

كان شعور نبيلة وهي تهبط في أرض الكويت شعور المهاجرة وفوجئت هناك بعدد كبير من النساء والرجال في استقبالها كأن الأمر غريبا غاية الغرابة فهي لم يسبق لها معرفة أحد منهم، من هؤلاء يا ترى؟ وأدرك صديق الدكتور سالم الذي تكفل بأمرها منذ البداية ما يعتمل في رأسها من تساؤلات، وهمس قائلا:

«هؤلاء جميعا إخوة وأخوات في الله.»

- «كيف عرفوني..؟؟»

- «ستعرفين كل شيء في حينه..»

- والأعجب من ذلك كله، أنها شعرت بالارتياح الكبير حيالهم حتى لكأنها تعرفهم منذ سنوات طويلة، وابتسم الأستاذ عبد العزيز السيسي وهو صديق الدكتور سالم وقال:

- «الأرواح جنود مجندة يا أختاه .. ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف أنهم يسيرون في نفس الطريق..»

- غمغمت في ارتياح:

- أجل

- كانت سعيدة غاية السعادة وهي تسمعهم يناقشون الأمور بحرية تامة، ويتبادلون بعض الكتب والمطبوعات الممنوعة في مصر، والتي يحاكم ويسجن كل ما يمسك متلبسا بحيازتها وأخذت تتصفح بعض المجلات العربية والعالمية أنها كلها تكتب بأسلوب غير الأسلوب الذي الفته في مصر، فبعضها يوجه نقدا لاذعا لحكام مصر وبعضها يعرض تحليلا موضوعيا لمجريات الأحداث دون خوف فيزيح الستار عن أشيا محزنة وفاضحة كانت تعتبر ضربا من البطولات في الصحافة المصرية ومن جانب آخر كانت هناك صحف أخرى تنحاز انحيازا تاما لحكام مصر وسياستهم بل أن نبيلة سمعت ورأت بعض المتحمسين لعبد الناصر وشيعته حماسا كبيرا بعضهم من الفلسطينيين أو السوريين أو اللبنانيين أو الكويتيين لعلها تضايقت كثيرا من هذا الاتجاه المتحمس للثورة المصرية وتبادر لذهنها منذ البداية أن هؤلاء إما مخدوعون أو مأجورون لكن الأستاذ عبد العزيز السيسي قال لها بهدوئه المعهود:

- هناك مؤيدون عن عقيدة وأيضا تجدين معارضين عن عقيدة لكل وجهة نظر وأنا أعيش هنا منذ سنوات والحوار دائم بيننا وبينهم وهذه التيارات المتصارعة تخوض معاركها بالطرق السلمية وليست هناك سياط تسوق الناس إلى الرأي الواحد..»

- واستغرقت نبيلة في الاطلاع على مختلف الكتب الصادرة التي تناولت قضية الإخوان والثورة وقوائم الشهداء الذين سقطوا في طريق الجهاد الأعظم وأساليب التصفية الجسدية والفكرية التي يلجأ إليها الطغاة والمخططات الاستعمارية والصليبية والشيوعية التي تريد أن تقضي على حركة التجمع الإسلامي المتزايدة، وحينما قارنت بين ما شهدته بنفسها وبين ما تقرؤه في الكتب أيقنت أن كل شيء يكاد يكون معروفا وهذا ما أثلج صدرها، لكنها في نفس الوقت كانت آسفة لأن الكثيرين لم يقتنعوا بإدانة الطغاة كانت الخطب الرنانة من إذاعة القاهرة والشعارات الجذابة في «صوت العرب» والمؤتمرات الشعبية الصاخبة على موجات الأثير والبطولات الغريبة التي تنسبها الأبواق المخدوعة للزعامة الجديدة كانت هذه الأشياء كلها تبدو في صورة قاهرة لا تهزم ولا تشوه وراودها شيء من الإحباط والأسف، لكن عبد العزيز السيسي قال لها:

- «المعركة طويلة الباطل مدعم بقوى خفية وظاهرة من الداخل والخارج وليس أمامنا سوى العمل الدائب والصبر..»

- قالت نبيلة:

- «إلى متى؟؟»

- «هذا في علم الله..»

- «والنتيجة..؟؟»

- «على الله... إن علينا أن نواصل جهادنا، هذا هو المطلوب قد يتحقق النصر غدا وقد لا يتحقق إلا على أبنائنا..»

- قالت نيلة في شيء من الضيق الذي بدا جليا على وجهها الجميل:

- «وكيف نطيق الحياة في ظل سنوات الهوان الطويلة؟

- وماذا نفعل..

- «نقتل ... ندمر .. ننتقم إن عشرات ماتوا غدرا داخل السجون، فلماذا لا نموت بثمن ..نقتل ونقتل .. بذلك يكون لتضحيتنا معنى..»

- ابتسم عبد العزيز وهز رأسه قائلا:

- «إنني أختلف معك إن موت واحد أو عشرة أو ألف لن يغير من الواقع شيئا بل قد يدفع الطغاة إلى مزيد من الحماقة وسفك دماء الآلاف من الأبرياء القضية قضية نظام بأسره هذا النظام لا يمكن تغيره أو تقويمه إلا بالدعاء إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة التغيير يجب أن يبدأ من عقول الناس ووجدانهم يجب أن يقتنعوا أولا عندئذ تتهاوى قلاع الفساد وتنهار حصون الظلم ويختفي من الوجود «عطوة الملواني..» وأمثاله.. وتظهر صحافة جديدة ويخرس صوت النفاق...

- شردت نبيلة، وبدا الابتئاس على وجهها تذكرت والوجود الشاحبة الذابلة في أوراق السجن الحربي، والإنسان المعلق من قدميه والأجساد التي تدمي من أثر التعذيب والصرخات المؤلمة وتذكرت سلوى ونظراتها الخائفة القلقة والطفل صابر على كتفها ومحفظة عطوة الملواني المتخمة بالأوراق المالية وقصتها الغريبة مع المخابرات والرجل الأعمى في طريق الليل الممطر، والدكتور سالم الإنسان النبيل والإرهاب الذي ينشر أجنحته السوداء فوق الملايين وحياة الكذب والنفاق التي تحكم الأمور في أنحاء الوادي الأخضر الذي تشعل فيه الشياطين الحريق والرعب.

- وأفاقت نبيلة من أحلامها الدامية على صوت عبد العزيز يقول:

- «يجب أن تكتبي تجربتك الخاصة لنشرها على الناس إن هذا سوف يخفف عنك الكثير..»

- قالت نبيلة..

- «والضحايا هناك ماذا يستفيدون من الكتابة؟؟»

- «سيستفيدون الكثير.»

- «ظني أن الطغاة سيزيدون جرعة العذاب لهم..»

- «لقد طفح الكيل.. ومعرفة الحقيقة هي بداية الطريق..»

- قالت متألمة:

- «ضاعت الحقيقة بين غبار الشبهات وزوابع الإعلام الكاذبة لقد زعموا أننا كما سنقتل الكتاب والممثلين وننسف الكباري ومرافق المياه والكهرباء ودور السينما والجامعات وتختطف القادة والضباط أثاروا علينا كل فئات الشعب ورمونا بكل نقيصة وأطلقوا علينا اسم «إخوان الشياطين..» وانتزعوا الفتاوى من بعض العلماء الحاقدين والمخدوعين لقد سمموا الرأي العام من حولنا واستغلوا في ذلك كله الإمكانيات الضخمة التي تحت أيديهم واشتروا العديد من الصحف والمجلات في أنحاء العالم العربي والإسلامي نحن أمام طوفان جارف من العداوة والاستعداء بل زعموا كذبا أننا ننوي شرا بإخواننا المسيحيين ورموا قادتنا بالتهم البذيئة والانحرافات كيف نمضي في هذه الظلمات المدلهمة؟؟»

- ابتسم عبد العزيز في مرارة وقال:

- «قالها الله في كتابه العزيز»

- «ماذا قال؟؟»

- «وقل اعملوا..»

- وطال الحوار وتشعب وأخيرا أخبرها عبد العزيز بأن زوجته سوف تصحبها في الصباح إلى بيت المدرسات المغتربات حيث ستعيش معهن كي تبدأ العمل كمدرسة في إحدى مدارس البنات كما أخبرها بأنه قد حصل لها على تصريح من وزارة التربية بالحضور إلى منزله كل خميس لقضاء عطلة الأسبوع مع زوجته وأولاده ومع بعض الأخوات المسلمات اللاتي يعمل أزواجهن في الحكومة والمؤسسات الكويتية المختلفة وبالفعل بدأت نبيلة حياتها العملية في المدرسة المذكورة، كانت تتحسس طريقها في بداية الرحلة الجديدة في دار الهجرة أنها تعايش مجتمعا عربيا لكن له طباعه الخاصة وضايقها كثيرا تلك التحذيرات والنصائح التي تصدر عن صويحباتها ومعارفها يجب ألا تصطدمي بواحدة من الفتيات هذه بنت فلان.. وتلك بنت فلان .. والضرب ممنوع لا داعي للكلام في السياسة وكذلك انتقاد الأوضاع الاجتماعية عليك أن تقابلي بعض التصرفات الطائشة من الفتيات بصبر وروية وهدوء أعصاب لا تفكري في عقوبة إحداهن أحيلي الأمر إلى مديرة المدرسة لا تتدخلي في الأمور الإدارية ليس عليك سوى تنفيذ الأوامر دون اعتراض لا تفكري في شيء سوى عملك الفني تقيدي بالمنهج الذي أعدته الوزارة أنت مسئولة تامة عن النتيجة آخر العام مهما كان الأمر وقت الحضور والانصراف مقدس بصرف النظر عن أي اعتبارات آخر.. هناك صراعا بين مختلف الأجناس المصري والفلسطيني والعراقي السوري الكويتي ...إلخ.. لا دخل لك في شيء من هذا كله إذا انتقدت زميلة لك إحدى زميلاتها أو وجهت لوما لإدارة المدرسة فلا تردي عليها كوني حذرة فقد تنقل ما سمعته منك المسئولين فتسبب لك المشاكل لا تقولي لمديرة المدرسة «لا» إلى غير ذلك من النصائح العديدة التي كانت تنصب في آذن نبيلة وبنيلة في دهشة بالغة من كل ما تسمع شعرت أن قيودا وأغلالا جديدة توشك أن تكبل انطلاقها وحريتها في التعبير والعمل هذا شيء لم تألفه من قبل لكن الأستاذ عبد العزيز السيسي وهو مدير شركة كبيرة قال لها في هدوء كالمعتاد:

- «لكل مجتمع طبيعته الداعية إلى الله يجب أن يكون كيسا فطنا صابرا ولكل مقام مقال ولن تعدمي العناصر الصالحة ولا القلوب الطيبة إن سلوكك وحده قادر على أن يجلب لك الاحترام والحب ونحن هنا لسنا سجناء ونستطيع أن ننطلق في أرض الله الواسعة في مختلف قارات العالم ولن نموت من الجوع المهم ألا ننسى الرسالة التي وضعها الله في أعناقنا لأننا بها ومن أجلها نعيش وكل شيء في سبيل الله يهون.

- قالت نبيلة:

- «لكن يجب ألا ننسى أن كرامتنا فوق كل اعتبار وهي جزء من عقيدتنا»

- «بكل تأكيد»

- لم توافق أية دار من دور النشر على طبع مذكرات «نبيلة عبد الله» في الكويت وقد ثارت نيلة وأبدت استنكارها لهذا الموقف لكن الإخوان أفهموها أن الأمر يجب أن ينظر إليه من زاوية أخرى وبشيء من الموضوعية والحيدة، فالمسئولون هنا لا يريدون الدخول في معركة إعلامية أو غير إعلامية مع السلطات الحاكمة في مصر وطبيعة الأمور في الدولة هنا تقتضي ذلك ويكفي أن الكويت قد فتحت صدرها للمهاجرين من الظلم، وأعطتهم فرصة العمل والحياة الشريفة كإخوة وأكد لها أن الكثيرين يتعاطفون مع قضية الإخوان المسلمين لكنهم لظروف خاصة لا يريدون التصريح بذلك وقال لها أنه بالإمكان طبع أي كتب خارج البلاد في بيروت مثلا وسوف يسمح بتداوله هنا وبذلك يتحقق الهدف.

- وقال عبد العزيز:

- «هل أنت مصرة على وضع اسمك على غلاف الكتاب؟؟»

- «بالتأكيد أنني لا أوافق على تلك الكتب الصادرة مع إغفال اسم المؤلف..»

- «قد يسب لك ذلك بعض المتاعب..»

- «ليكن ما أعد أخاف شيئا لقد نذرت نفسي لله.. لقد استطعت أن أقرأ الكثير من مؤلفات الشهيد حسن البنا أول مرشد عام للإخوان، ومؤلفات أخرى لبعض كتاب الإخوان الحقيقة أنني أكتشف أشياء جديدة لم أكن أتصور تلك العظمة المعجزة في النظام الإسلامي أن المدارس لم تكن تعلمنا إلا القليل عن الدين وفي النهاية آمنت أن الموقف الوسط ضعف وهروب ونقص إيمان.. إما أن أكون مسلمة حقا أو لا أكون.. ولهذا سأكتب وأنشر وأتحمل المسئولية كاملة لم أعد أرهب الموت.»

- هز عبد العزيز السيسي رأسه قائلا:

- «هذا جميل لكن ما هي أبعاد المسئولية التي تتحدثين عنها؟؟؟»

- «المسئولية الكاملة..»

- «لو كان الأمر في حدود شخصك لهان الأمر قد يضحي الإنسان بنفسه بإيمان وثقة لكن هناك مئات الألوف مصيرهم مرتبط بما تفعلين وتقولين أنت ونحن مسئولون عن هذا أيضا..»

- طأطأت رأسها قائلة:

- «أجل»

- ومرت الأيام ونبيلة غارقة في طوفان الحياة الجديدة، وفي التغيير الذي يطرأ على حياتها وتفكيرها منذ وفدت إلى تلك الديار تألمت غاية الألم عندما جاءها نبأ مرض أبيها والمحن والتهديدات المتلاحقة التي يثيرها عطوة الملواني وأجهشت باكية وهي تتخيل والدها الشيخ المسكين وهو طريح الفراش يبكي فراقها ويعاني من آلام القلب ولا شك أنه كان يتمنى ألا تكون خاتمة حياته على تلك الصورة الفاجعة وأخذت نبيلة تقول بنبرات باكية

- «يا حبيبي يا بابا.. ما ذنبك أنت؟؟ أنا السبب؟؟ أنا السبب... ماذا أفعل يا ربي؟؟»

- وأخذت تجفف دموعها وحيدة في غرفتها بسكن المدرسات ورأسها يغلي بالغضب والثورة أن الظلم نار تحرق لا تفرق بين طفل وشيخ ولا بين الجاني والبرئ، ولا الظالم أو المظلومين لقد اضطربت الرؤية وتاهت معالم الطريق واختلط الحق بالباطل وأصبح العالم في نظرها غابة موحشة يسودها الرعب والفساد وعلى الرغم من اندماجها في العمل وقضاء وقت الفراغ في تسجيل أفكارها وذكرياتها وقراءة بعض الدراسات الإسلامية والسياسية والأدبية إلا أنها لم تستطع أن تبعد عن ذهنها شبح والدها المريض المسكين والواقع أن شخصية الدكتور سالم كانت ترافقها أيضا في سفرها الذي لا يعرف له نهاية ابتسامته الطبيبة المؤمنة وإشعاع عينيه الواثقتين ومعطفه الأبيض الملائكي ومنطقه المحدد الواضح حتى لكأنه يعرف بداية كل شيء ومسيرته ونهايتة وكأنه يقرأ سطور المجهول في عالم السياسة والفكر لكما تذكر سالما آمنت أنه هو الرجل القوي المؤمن الذي لا يهزم مجرد شعور يسيطر عليها ويقنعها بهذه الحقيقة قالت لنفسها: «إنني لا أخاف عليه الوحيد ممن عرفتهم الذي يتقبل ما تأتي به الأقدار عن رضا ويقين وثبات لكن هذا الصنف من الناس لا يروق لعطوة الملواني وزبانيته ترى هل سيعرضه ذلك للخطر؟ قلبها يؤكد لها أنه سيخرج يوما ما وستراه وسيكون كالعهد به قويا أسطوريا كراهب الليل وفارس النهار هذا هو السوبرمان أو الإنسان الأعلى الذي تحدثت عنه كتب الفلسفة الكمال لله وحده لكن سالم يشرب من نبع النبوة وقد نهل من العلوم المختلفة العالم المؤمن المجاهد هو المثل الأعلى في عالمنا .. حماك الله يا سالم...»

- وألفت نبيلة البيئة الجديدة أو كادت ولم تعد تنكر أنها تشعر بقدر من السعادة لا بأس به وخاصة عندما أمسكت بكتابها الجديد المطبوع أخذ تنظر إلى اسمها المنقوش عليه في فخر ثم قربته من فمها وقبلته في حنان كأنها تقبل أباها وأمها وإخوتها وأخواتها الكتاب قطعة مها بعض من ورحاها وعقلها بل هو في نفس الوقت سوط ألهبت به رأس الطغيان وجسده.. ولعله أحد من السيف وألم من السوط كادت تطير من الفرح تمنت أن تكون اللحظة في شوارع القاهرة ثم تجري وتجري. .وتوزعه على الناس بالمجان في كل مكان تمنت أن تبعث بنسخة منها إلى الرئاسة..

- وهبت واقفة وأخذت تفكر لماذا لا تبعث فعلا بنسخة منه إلى القصر الجمهوري إلى الرئيس بالذات؟؟ ولماذا لا ترسل عددا من النسخ إلى عطوة الملواني؟؟ عطوة لا يقرأ كثيرا لكنه بالتأكيد سوف يقرأ هذا الكتاب بالذات.. على الأقل ليعرف ماذا كتبت عنه وراقتها الفكرة وأخذت تضحك من أعماقها وهي جالسة في غرفتها ماذا سيقول عطوة عندما يقرأ تحليلها لشخصيته وأفكاره وتصرفاته الشاذة؟؟

- أنها شاهد عيان يروي طرفا من المأساة كما حدثت فليشهد التاريخ وليقرأ الناس لأول مرة تشعر أن كلماتها أصبحت لها قيمة ولمست نيلة في كل من قرأ كتابها التحمس والاقتناع ثم السخط على كل ما يجري من عسف وعاشت نبيلة منشية بحلمها الجميل ما يقرب من أسبوع لم تكن تستطيع النوم كانت تمسك الكتاب وتقرأ فيه وتظل تقرأ من البداية إلى النهاية حتى لكانها لا تعرف عنه شيئا أو أنه من تأليف إنسان غيرها لم تكن تتخيل هذا الحب كله بينها وبين كتابها أيمكن أن تقوم مثل هذه العلاقة بين الإنسان والورق؟؟ لقد أدركت الآن مدى السعادة الهائل التي يعيشها الكاتب أو الفنان وهو يرى نتاج عقله وروحه واقعا بين يديه والناس يتداولونه.

- وذهبت نبيلة في زيارتها الأسبوعية لمسكن عبد العزيز السيسي واستقبلتها زوجته بالحب والترحيب المعهودين تبادلا القبلات وأبرزت نبيلة بعد أن جلست نسخة من كتابها وكتبت عليه إهداء وقدمته لها، فتقبلته شاكرة وهي تبتسم في شيء من الألم وقالت .

- «لقد قرأته.. لقد أعجبني جدا.. لكنه ألمني...»

- قالت نبيلة في حماس:

- «من الضروري أن نتألم..»

- ودخل عبد العزيز شاحبا لاهثا كان المسكين يشكو من مرض قديم بصمامات القلب وكان أدنى انفعال يسبب له الألم وضيق التنفس ولعل حياة الهجرة والمطاردة التي عانى منه السنين الطوال قد سببت له بعض المضاعفات مما يجعله يتناول عقاقير القلب بانتظام وصافحها عبد العزيز بيد باردة ندية..

- هتف: «ما بك؟؟»

- تنهد في ألم وقال:

- «الحمد» لقد تعاطيت الدواء وسرعان ما تهدأ الحالة..»

- «شفاك الله..»

- تململ في مكانه وهم بالحديث لكنه سكت قالت نبيلة وقد داخلها هم غامض لا تعرف له سببا:

- «أتريد أن تقول شيئا؟؟»

- قال عبد العزيز وهو يخفي نظراته بعيدا عنها:

- «لا تنزعجي.»

- هبت واقفة هتفت في إشفاق.

- «هل مات أبي؟؟»

- قال وقد وقف وأعطاها ظهره:

- «أبوك بخير.»

- «ماذا إذن..»

- «السفير المصري..»

- اقتربت منه في لهفة قائلة:

- «ما شأننا به؟؟»

- قال عبد العزيز:

- «لقد قدم احتجاجا لدى خارجية الكويت..»

- «لماذا؟؟»

- «بسبب الكتاب..»

- صرخت:

- «الكتاب؟؟»

- «نعم..»

- وساد صمت قال عبد العزيز بعده:

- «كان من رأيي ألا تكتبي اسمك عليه..»

- «أليس هناك حرية رأي...»

- «هناك يا نبيلة مجاملات دولية وعلاقات معينة وظروف وملابسات لا نعرفها نحن ولا أنت الحيطة واجبة..»

- توترت أعصابها كادت أن تبكي لكنها تمالكت نفسها..«قد يطلبون منك مغادرة البلاد إا ثبت أن الكتاب من تأليفك..»

- صرخت محتجة:

- «مستحيل..»

- قال وهو يتصنع الهدوء هذه المرة:


- «إذا أجرى معك تحقيق يمكنك أن تنكري أن الكتاب من تأليفك وهذا سوف يساعدنا كثيرا ومن حسن الحظ أن الكتاب لم يطبع هنا بل طبع في لبنان، والنشار اللبناني من أصدقائنا ونستطيع أن يعاوننا في ذلك ولن يمسه أحد بسوء لأن الوضع في لبنان يكاد يكون متحررا تماما..»

- قالت نبيلة وقد تندى جبينها بالعرق:

- «لكني أرسلت نسخة للرئيس ولعطوة الملواني..»

- استدار نحوها عبد العزيز في دهشة وقال:

- «غير معقول...»

- «هذا ما حدث..»

- «لقد أخطأت خطأ جسيما.. أننا هنا لا نتصرف تصرفات فردية الإخوان هنا منظمون ولهم مسئولون ولا يصح أن يتصرف أحد إلا في إطار السياسة المرسومة حتى لا نفقد رقعة الأرض الصغيرة التي نعيش عليها، وننظم منها معركتنا الأمور دقيقة وحساسة لقد أوقعتينا في ورطة..»

- طأطأت رأسها وقالت:

- «أني أعتذر عما بدر مني بحسن نية وأعدك بالالتزام بالنظام مستقبلا..»

- وصمتت برهة ثم عادت تقول:

- «وماذا أفعل لو أمرت بمغادرة البلاد؟؟»

- «اطمئني .. لقد رتبنا كل شيء.. فلو حدث ذلك ..لا قدر الله- فسوف تسافرين إلى السعودية وستجدين هناك إخوانا مخلصين أو تذهبين إلى لبنان وسنكفل لك كل ما تحتاجينه..»

- بكت نبيلة بحرارة، ومن بين دموعها كانت تقول:

- «لقد كنت سعيدة بوجودي معكم أنتم أهلي ومستقبلي لقد وجدت بينكم نفسي التائهة عالمكم هذا هو المدينة الفاضلة التي كنت أحلم بها...»

- قال عبد العزيز وهو يغتصب ابتسامة باهتة:

- الأمر لم يصل إلى درجة السوء بعد .. وقد نجد له حلا...»

- ثم ضرب بيده فجأة على منضدة قريبة وقال:

- «هل كتبت شيئا بخط يدك على النسخ التي أرسلت إلى القاهرة ..»

- فكرت نبيلة برهة ثم قالت:

- «لا »

- «والعنوان..»

- «كتبته على الآلة الكاتبة ما كان يصح أن أكتب للرئاسة بخط يدي..»

- ابتسم عبد العزيز:

- «هذا توفيق كبير من الله وسوف يساعدنا كثيرا..»

- «أعتقد ذلك؟؟»

- هز كتفيه قائلا:

- «فلنعتمد على الله.. إن هنا كثيرا من العناصر الخيرة التي قدمت لنا مختلف ألوان العون والتأييد..»

- تنهدت نبيلة في حيرة وقالت:

- «لقد أجهضوا فرحتي..»

- قال عبد العزيز وهو يبلع قرصا آخر من الدواء:

- «الطريق شاق طويل فليرزقنا الله الثبات على الحق والصبر على المكاره لله..

- وأسلمت نبيلة أمرها لله. وأخذت تنظر ما يجد من أحداث لكنها علمت أن أحد الإخوة المصريين سوف يسافر القاهرة ويعود بعد أسبوع وهو إنسان ثقة وغير معروف بميوله الإخوانية لدى أجهزة الأمن وسئلت نبيلة عما إذا كانت تريد شيئا من هناك فتذكرت على الفور سلوى وصابر وشرحت الأمر لعبد العزيز وأفهمته أنها تريد أن ترسل إلى صديقتها المسكينة بعض المال وتطمئن على حالها وسلمت المال والعنوان لعبد العزيز كما طلبت أن تعرف كل ما يمكن معرفته عن أبيها وأمها وذويها لأن مرض أبيها كان يقلقها كثيرا وسلاح التهديد المسلط فوق أعناق الأسرة يجلب لها لقلق والألم..

الفصل السادس العشرون

السحب السوداء تتجمع في أفق حياتك يا نبيلة من جديد والأرض تهتز تحت أقدامك يا مسكينة حتى لكان أديم الأرض بركان يوشك أن ينفجر والنوم يا نبيلة أصبح قليلا.. متقطعا .مرهقا .. مليئا بالكوابيس والأحلام التي تنهك القوى والروح العالم برغم رحابته قد أصبح ضيقا مملا لا راحة فيه ولا سعادة وملايين الكتب يا نبيلة تلك التي تغرق الأسواق أغلبنها لا حركة فيه ولا حياة والخوف يسيطر على الحروف والأقوياء في هذا العالم يا نبيلة حفنة من الأشرار أو العصابات وكأن بينهم جميعا حلفا باركه الشيطان لشن حرب شعواء على الخير والعدل والفضيلة ولا خلاص لهذا العالم إلا أن يولد من جديد..»

هذا ما كانت تحدث نبيلة به نفسها بعد الأزمة الحادة التي تهدد حياتها اليوم وفي اليم التالي عادة إلى عبد العزيز السيسي تقول:

- «لكأني بالعالم قد عاد إلى جاهليته وأصبح في حاجة إلى نبي جديد..»

- ابتسم عبد العزيز كعادته قائلا:

- «وماذا سيقول هذا النبي للبشر؟؟»

- «يقول الحقيقة..»

- استغفر الله.. الحقيقة ماثلة في كتاب الله وهو الرسالة الأخيرة للبشر، وموضحة في سنة نبيلة محمد صلى الله عليه وسلم كل ما يمكن أن يقال إن الناس في غفلة وجهل وما عليهم إلا أن يعودوا إلى النبع الصافي بعد أن أرهقهم التيه وكاد يقتلهم الظمأ هم في حاجة إلى الصدق إلى الإيمان.»

- توترت أعصابها وأخذت تفرك أصابعها ثم غمغمت:

- «القضية الأولى هي الحرية..»

- «بل الإسلام..»

- «وكيف ندعو إليه ونحن محاصرون بالأسوار والسلاح وعصابات السياسة..؟؟»

- قال عبد العزيز:

- «تدعين إليه بين زميلاتك وطالباتك وأسرتك تستطيعين فعل ذلك دون أن تتكلمي..»

- «كيف..»

- «بالسلوك يا أخت نبيلة. .السلوك الصحيح هو أعلى صوت إعلامي عرفه تاريخ الدعوة الإسلامية...»

- «والكلمة..؟؟»

- «لابد أن تقال في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة..»

- قالت نبيلة في إصرار:

- «إذا تحققت الحرية، استطاع كل فرد أن يقول ما شاء.. ونحن بدورنا سيفتح الطريق أمام دعوتنا وتصور أن الحروب التي خاضها المسلمون في الأوائل كانت من أجل تحرير الناس حتى يسمعوا دعوة الله..ولهم الحق في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا لا إكراه في الدين..»

- قال عبد العزيز وقد أسره منطقها:

- «كلامك فيه الكثير من الصحة الحرية التي نريد لابد أن تكون لها إطار أي أن تكون من خلال التصور الإسلامي لكل نواحي الحياة..»

- وسادت فترة صمت قال عبد العزيز بعدها:

- «عندما نقول «الحرية.» سوف يتساءل الناس: أية حرية تقصدون؟؟ العالم الرأسمالي ينادي بالحرية والشيوعيون يهتفون للحرية واليهود يقولون الحرية الحرية في كل مكان وهكذا يا أختي الفاضلة ترين أن الحرية لا تنبت من فراغ أنها جزء من كل أنها وليد شرعي للمبادئ الخالدة أو البناء الفكري المتكامل والباب الرئيسي لدخول هذا البناء هو الإيمان...»

- هبت نبيلة واقفة وقالت:

- «وكيف ندعو وعدونا يواجهنا بالسياط والرصاص؟»

- «بالحكمة والموعظة الحسنة..«بالحكمة والموعظة الحسنة..»

- هتف:

- «الحكمة مع من؟؟ مع القتلة السفاكين؟؟»

- «نعم مع كل الناس...»

- «إذن لماذا رفع الإسلام سيفه؟.؟»

- «بأمر الله وفي ظروف معينة..»

- تململت في وقفتها تلك وهتفت:

- «لا علاج للسرطان سوى الاستئصال.»

- «العلاج الحاسم هو الجراحة..»

- «ومع ذلك فالجراحة مقصود منها أن يشفى المريض..»

- «أنا أقصد استئصال السرطان نفسه..»

- «أعرف..لكن في إطار المفهوم الذي نعرفه عن القصاص: العين بالعين..»

- كانت هناك جهود مكثفة تبذل من أجل إبقاء نبيلة بالكويت والتغلب على مشكلة مغادرتها للبلاد بشتى الوسائل وكانت نبيلة تنتظر على أحرمن الجمر لكن أمرا هاما قد فتح ثغرة للفرح في قبلها ألا وهو كتابها لقد أثار ضجة أكبر مما كانت تتصور وتم توزيعه بسرعة غريبة بل وطلب الناشر إذنا بإعادة الطبع كما طلب السماح له بنشر عدد أكبر من النسخ إن الناس قد استقبلوا كلماتها بما يستحق الناس متعطشون للحقيقة هي لا تنكر أن هناك من ثاروا ضدها وحاولوا تفنيد كتابها بل اتهموها بتزييف الحقيقة والجنوح إلى الخيال والافتراء وادعاء البطولة بل أن بعض الصحف هاجمتها بشدة سواء في بيروت أو الكويت أو الشام، وأباح لنفسه البعض أن يريمها بتهمة الخيانة والعمالة وزعموا أن وراءها جهات أجنبية أمبريالية ترمي على تشويه سمعة الزعيم ومجلسه الموقر لشد ما تألمت نيلة في البداية لكنها قالت: «هؤلاء الذين يحاربونني إما مأجورون أو مخدوعون.»


- والغريب أن بعض هؤلاء المعلقين طالبوا بطردها من البلاد لأنها لم تحترم أصول الضيافة ولا طبيعة العلاقات الدولية والمجاملات الدبلوماسية وهكذا احتدمت المناقضات وفكرت نبيلة أن ترد على هؤلاء وتكيل لهم الصاع صاعين لكن الأستاذ عبد العزيز السيسي نصحها أن تعتصم بالصبر لأن نقطة الدفاع الوحيدة هو إنكارها لنسبة الكتاب إليها حتى يستطيعوا أن يوقفوا الإجراءات الخاصة بمغادرة البلاد كان عبد العزيز يفكر في إنقاذها بأية طريقة ولا يعتقد أن ذلك خطأ يذكر وخاصة أن الكتاب قد صدر، وبلغ الهدف المقصود أما هي فقد كانت تري أن الصدق يجب أن يقال مهما كان الثمن وأنها لابد أن تتحمل كل ما كتبه الله عليها من تضحيات وتتقبل المخاطر والمسؤولية بشجاعة وتتحدى إرادة الضغط والإكراه والخوف والمجاملات لأن الخائفين لن يحققوا نصرا ولهذا قالت نبيلة في حدة:

- «أستاذ عبد العزيز.. اسمح لي. نحن هنا نأكل التفاح ونركب المرسيدس، ونرتدي أفخر الثياب المستوردة ونخاف على مراكزنا وأموالنا وأمتنا الاجتماعية. ثم نزعم أننا نخوض المعركة..»

- قال عبد العزيز في ثقة:

- «نحن نؤدي التزامات نحو المعركة ولا ضير بعد ذلك أن نأكل ونشرب وننام فالحياة مستمرة والصراع واقع لو احتج الأمر أن نأكل القديد ونرتدي أبسط الثياب لفعلنا أن هناك اعتبارات عديدة يجب أن نضعها في الحسبان وخاصة أن لنا تنظيما يجب الالتزام بتوجيهاته..»

- وخرجت نبيلة من قلقها وهواجسها وآلامها كالمعدن النفيس بعد أن تخلص من شوائبه في وهج النار لم تعد تخاف هي الآن سعيدة أنها تستمتع بجهادها وهي على استعداد لأن تدفع الثمن من راحتها ومستقبلها بل من حياتها أن التضحية أروع ما تكون عندما تصبح خالصة لوجه الله والأرزاق على الله والآجال مكتوبة ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها..

- وكم كانت دهشة عبد العزيز عندما فتح الصحف في أحد الأيام فوجد في إحدى الجرائد المحايدة صورة لنبيلة عبد الله وحديث طويل لمندوب الصحيفة دق قلبه المريض في عنف تقاطر العرق على جبهته شعر بضيق في التنفس أخذ يجري على السطور في لهفة يقرأ شيئا ويغفل شيئا آخر يا إلهي ماذا تقول:

- «إنني واحدة من آلاف البشر المعذبين لم أكن من الإخوان المسلمين أنني أدعو المتحمسين للثورة وبعض رجال القضاء والمحاماة في العالم العربي أن يشكلوا وفد منهم ويطلبوا من الحكومة المصرية السماح لهم بزيارة المعتقلين في المعتقلات والسجون وفي السجن الحربي وسجن القلعة بالذات ومقابلة.. المسجونين سياسيا إنني أتحدى أن توافق الحكومة المصرية كا أدعو منظمة العفو الدولية ولجنة حقوق الإنسان للتدخل وإعلان الحقيقة أمام الناس ن القضية ليست قضية الدعوة الإسلامية فحسب ولكنها قضية إنسانية كبرى لا تصدقوا كل ما يقال في الصحافة الرسمية وأجهزة الإعلام المختلفة أنا لا أخاف شيئا ولست أملك سوى عقيدتي وقلمي وذكرياتي المريرة...وأرض الله واسعة لقد وهبت نفسي لله ومرحبا بأي شيء أقدمه في سبيل مبدئي إن الأمر لا يعلق بشخصي ولا بوطني فالإسلام وهو ديننا وقضايانا مع الأعداء قضايا خطيرة ومصرية ولن نستطيع أن نخوض معركة حاسمة مع أعداء العالم العربي والإسلامي إلا إذا كنا شعبا شريفا كريما حرا مؤمنا ومدرسة الإرهاب في أي مكان من العالم لن تصنع رجالا شرفاء سوف يتخرج منها الخائفون والمنافقون والأنانيون وستصدر لمجتمعنا الإسلامي جراثيم الفساد والعفن الأخلاقي والموت المعنوي هذه صرختي أطلقها على الملأ قبل فوات الأوان أنا التي ألفت الكتاب أنني أطلب من الإنسان مهما كان لونه وجنسه ودينه ومبادئه على كل أرض أن يدافع عن حق الإنسان وأن يعلن رفضه لكل الإجراءات الاستثنائية والسلطات المطلقة كونوا أنصارا للحق والحقيقة....»

- راتجفت يده وهو يقرأ دمعت عيناه أنها تقول الصدق هي أشجع منا جميعا فلا نحن نأكل التفاح ونركب المرسيدس ونجامل أصحاب القرار والسلطة وتكتفي ببضع نشرات وكتب بلا مؤلف ونرسل بعض المال لأسر الشهداء والمسجونين القضية أكبر من ذلك أترى تكون نبيلة على حق ونحن قد حصرنا جهادنا في أضيق الحدود؟؟

- ومع ذلك فقد استقبلها بشء من عدم الرضا في اليوم التالي وقال

- «التصرفات الفردية مضرة وفيها خروج على الالتزام الجماعي»

- «هناك حقوق للجماعة على لكن هناك أشياء أخرى تخصني كفرد»

- «ماذا تعنين؟؟»

- «حياتي ملكي .. وقد نذرتها لله وسأرحل قبل أن يقولوا لي ارحلي ..»

- قال عبد العزيز شاحب الوجه:

- «قد يغتالونك في مكان آخر. في بيروت مثلا أو أوربا نحن أدرى بأساليب مخابراتهم المنبثة في كل مكان..»

- قالت في إصرار:

- «فليكن..»

- «ليس هذا قرار سهلا إن قضيتنا واحدة والحفاظ على أرواحنا في هذه الفترة أمر ضروري..»

- «إنهم يقتلون السجناء العزل في الحربي بكل بساطة..»

- «لكننا هنا ولسنا في الحربي. .نحن الألسنة التي تدافع عن الشرفاء المحتجزين..»


- «الأمر يحتاج إلى شيء أكبر من ذلك ما سمعت ولا قرأت في تواريخ العالم في معارك بلا دماء ولا نثر بدون تضحيات الخوف مقبرة الأمل..»

- نظر عبد العزيز إليها طويلا . كان وجهه شاردا جامدا في البداية ثم انفرجت أساريره وابتسم ثم ضحك وضحك..

- قالت:

- «ماذا؟؟»

- قال وهو يجفف دمعة أفلتت على الرغم منه:

- «أنت على حق..»

- وصمت برهة ثم أخرج قرصا سرعان ما وضعه في فمه وتبعه بجرعة ماء بعد أن سمى الله وحمده وقال:

- «المهمات الكبرى كنا نكلف بها الرجال القادرين..»

- «ولماذا لا تشارك النساء..»

- «لكن دوره ولم يحن الوقت بعد لكي نكشف لك عن كل شيء حقا نحن نأكل التفاح ونركب المرسيدس وجهادنا دون المطلوب لكن..»

- قاطعته قائلة:

- «إنني آسفة. .لم أكن التجريح كنت ثائرة...»

- «لا بأس نريد أن تتحكمي في ثورتك دائما الأحداث علمتنا الحذر والخبرات التي هزتنا في عنف وأرهقت شبابنا قد مدتنا برصيد هائل من المعلومات إذا كنا نأكل التفاح اليوم ونركب المرسيدس فلا ننسى أننا أكلنا حبوب الحنطة الجافة وحشائش الصحراء ونحن نحارب الصهيونية في فلسطين والانجليز على ضفاف قناة السويس وسرنا حفاة على الشوك حتى دميت أقدامنا وخضنا مجاري المياه في أشد الليالي برودة وكان الموت يترصدنا في كل لحظة..»

- وبدأت الدموع في عينيها فابتسم عبد العزيز قائلا:

- «ألا تقرئين قول الله: «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟؟»

- وعاد الشحوب إلى وجهه مرة أخرى وشرد قليلا ثم قال:

- «اسألي زوجتي أم أيمن ذات مساء شعرت بأن السرير الذي أنام عليه مريح وناعما ولين تذكرت إخواني وهم نيام على بلاط السجن يأكلون العدس والخبز فتسللت من الفراش وألقيت بجسدي المريض على أرض الغرفة لماذا لا أ:ون مثلهم لكن آه ماذا أقول؟؟ هناك أشيا أخرى غير المظاهر إن نومي على البلاط لا يعني مطلقا أنني أصبحت مثلهم هناك أشياء أخرى لا يحسها إلا السجين الذي يعيش تحت جناح الموت الأسود والإرهاب والسخريات المريرة والقلق كيف أعايش هذه الأحزان وأنا آمن مطمئن بين زوجتي وأولادي، وجيوبي عامرة بالمال وأستطيع أن أنام وأستيقظ وأقبل أطفال وأخرج والتقى بالأصدقاء؟؟

- طأطأت نبيلة رأسها في أسى قالت:

- «أكرر تأسفي..»

- «لا عليك يجب أن نتكلم بوضوح لقد تعلمت في حياتي الكثير من التجارب والكتب لكنك تجربة جديدة حية أقوى من أي كتاب دبجته يراع كاتب لقد تعلمت منك الكثير..»

- قالت في خجل:

- «العفو»

- «تلك هي الحقيقة..»

- وأصبح موضوع نبيلة عبد الله مادة مثيرة في الصحف في تلك الفترة بعضهم أيدها ف آرائها وبعضهم عارضها بشدة وآخرون كتبوا مطالبين بخروجها من البلاد والواقع أن الأستاذ عبد العزيز السيسي استطاع بذكائه وصلاته القوية مع بعض الشخصيات الطيبة أن يصلوا إلى حل وسط ومن ثم اتفقوا أن تسافر فعلا لمدة شهر في أي مكان ويعلن عن ذلك رسميا ثم يمكنها بعد ذلك أن تأتي خفية دون ضجيج أو إعلان وفعلا شدت نبيلة الرحال إلى استامبول وتركيا حسبما نصحها الإخوان..

الفصل السابع والعشرون.

قرية «منية البندرة» بلدة صغيرة تنام في سكون على صدر الأرض الخضراء التي تخترقها خط للسكك الحديد وسكانها قوم طيبون يحترفون الزراعة وتربية المواشي شأنها شأن آلاف القرى في وادي مصر وأغلب الناس فيها يعيشون كأسرة واحدة متلاحمون دائما في السراء والضراء يجتمعون في أيام الأفراح ويتبادلون العزاء في مناسبات المآتم ويتراصون إلى جوار بعضهم البعض في المساجد ويتعاونون في مواسم الزراعة ويعطف الفقراء منهم على الأشد فقرا وجيل الشباب الذين يتلقون العلم في المدارس يحلمون دائما بحياة أفضل يسودها الرخاء والعدل فعلى مقربة منهم توجد اقتطاعيات الباشوات وبعض الأمراء لكن البون شاسع بين هؤلاء وأولئك ويوم أن سيق محمود صقر إلى المعقل حزن الرجال وأغلب نساء القرية كن يذرفن الدموع واحتشد عدد منهن في بيت أم محمود يواسينها ويدعون للعزيز السجين بالفرج القريب فمحمود هو ابن القرية كلها يكتب لهم العقود والرسائل وأوراق البيع والشراء والقروض والإيجارات ويفتي للناس مثل أبيه في أمور دينهم ويعطي الأطفال الدروس الأولية كي يلتحقوا بالمدارس أو المعاهد الدينية ويجمع لهم التبرعات كي يرمموا المساجد الآيلة للسقوط أو يساعد المحتاجين منهم ويرافقهم لدى السلطات الحكومية لحل مشاكلهم المختلفة ويجلس معهم..على المصاطب يناقشهم شئون دينهم ودنياهم ولهذا كان أمر اعتقاله أمرا مؤثرا في نفوسهم لدرجة كبيرة كان يؤمن أن الخطب والشعارات وحدها لا تكفي لإصلاح الحال واللجوء إلى العمل الجاد المخلص في إطار الثقة والتعاون يؤدي في النهاية إلى حلول واقعية برغم الإمكانيات الصعبة المتاحة وانشغال الحكام بأمور أخرى غير مشاكل الجماهير المطحونة بالفقر والقلق والعذاب وفوجئت القرية بعدد كبير من رجال الشرطة يدهمونها ماذا جرى مرة أخرى؟؟ لقد أخذوا محمود قبل ذلك، فمن يريدون هذه المرة؟؟ أنه زمان عجيب وتراص الناس على جانبي الطريق يرمقون الضباط والعساكر وهم يدقون الأرض بأحذيتهم الثقيلة ويثيرون الغبار مدججين بالسلاح، وعلق «قباني » القرية قائلا:

- «ماذا جرى؟؟ هل اختبأ في قريتنا جواسيس أو تجار مخدرات..؟؟»

- وقالت امرأة عجوز:

- «ما هذا الزمان.»

- ورجل من فقراء الصوفية يهتف في شوق:

- «وحدوه هو الباقي كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام يا حي تب على كل حي..»

- وساد الهرج والمرج وعمدة البلدة يهرول مرتديا جلبابه الصوفي وعمامته البيضاء وإلى جواره الخفراء يشقون الطريق المزدحم إلى بيت محمود صقر كان الناس في حيرة من أمرهم لا يكادون يفهمون شيئا الجميع يعرفون أنهم قبضوا على محمود قبل ذلك فماذا يريدون هذه المرة؟؟ هل يريدون اعتقال أبيه أو أمه أو أحد من إخواته؟؟

- ودخلوا بيت محمود وقلبوه ظهرا لبطن، وقال مجموعة من الناس؟؟

- «ماذا حدث يا حضرة العمدة..»

- رد الرجل المرهق الخائف قائلا

- «لقد هرب محمود من السجن يا بهائم..»

- وسرعان ما انتشر النبأ في حارات القرية الضيقة وسادت الناس موجة من الفرح لا توصف وزغردت بعض النسوة وقهقه رجل معروف بإدمانه بعض المخدرات وقال:

- «عفارم والله عفارم يا محمود.. تعيش البطن إلي ولدتك ورب العزة رجل ابن رجل والنبي بطل أشجع من أدهم الشرقاوي..»

- وهمس رجل كان معروفا بميوله حزبية قديمة ومن عشاق الوفد المصري وزعيمه النحاس باشا همس:

- «هذه الأيام السوداء لم نر مثلها مطلقا كان أيام الإنجليز أرحم..»

- أما الشيخ العجوز أحمد صقر والد محمود فقد انهمرت دموعه وقال:

- ولدي لا يهرب من قضاء الله أنا أعرفه..»

- رد عليه قائد القوة المسلحة:

- «الحكومة لا تكذب وكلامك فيه خداع وكذب..»

- «حاشا لله يا ولدي.. ابحثوا كيف شئتم قلبي يحدثني أنه لم يهرب..»

- جذبه الضابط في غلظة قائلا:

- «تكلم أين محمود؟؟»

- «أقسم بالله لا أعرف عنه شيئا منذ أخذتموه.. أنتم مسئولون..»

- ضحك الضابط ساخرا:

- «أتحاكمنا؟؟»

- «وهل فينا من يجرؤ على ذلك..»

- «حسنا فلتخبرنا عن أسماء جميع الأقارب والأصدقاء هنا أو في أي بلدة أخرى..»

- «لماذا؟؟»

- «لنبحث عنه لديهم..»

- ابتسم الشيخ في مرارة وقال:

- «قريتنا كلها أقرباء..»

- «أتسخر منا؟؟»

- «وأصدقاء ولدي كثيرون..«وأصدقاء ولدي كثيرون..»

- وصمت الشيخ برهم ثم قال:

- «حاولت مرارا أن أزوره في سجنه فلم يسمحوا لي في أي شرع هذا؟؟»

- «أنتم لا تسحقون الرحمة، أنسيت ما فعله ابنك؟؟»

- «أقسم أني لا أعرف شيئا«أقسم أني لا أعرف شيئا»

- نظر الضابط في احتقار إلى الشيخ وقال:

- «كان يريد قتل الرئيس..«كان يريد قتل الرئيس..»

- «ولدي يقتل؟؟ مستحيل لقد تعلم منذ نعومة أظافره أن المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله..مسلم حرام دمه وعرضه وماله..»

- قال الضابط:

- «اسمع كلامك أصدقك وأرى أفعالك أستغرب..»

- ثم التفت على العساكر

- «جروا هذا الرجل إلى السيارة..»

- قال الشيخ أحمد:

- «أنا لماذا؟؟»

- «سوف نجري معك تحقيقا حول هروب ابنك ثم تعود »

- «أمري لله..»

- وسار الشيخ في الموكب المسلح يتوكأ على عصاه والدموع تتساقط على لحيته البيضاء وتقدم رجل من أهل القرية وقال في حماس:

- «خذوني مكانه الرجل رجله في القبر..»

- ورنت على وجهه صفعة الضباط الحانق وانهال العسكر ركلا ولكما حتى طرح على الأرض والناس في ذهول مما يجري وانصرف رجال الشرطة وصرخت عجلات السيارات وأخذ الناس يتجادلون ويثرثرون وقالت امرأة تطل من نافذة قريبة:

- «نحن في آخر الزمان..»

- وقال أخرى في بيت مقابل:

- الشيخ أحمد من رجال الله.. هو خير القرية وبركتها يا ويلنا من بعده..»

- وغمر القرية حزن عميق كانت الصبايا يملأن الجرار في صمت وكان من عاداتهن قبل ذلك أن يترنمن بالأهازيج والأغاني الشعبية وذهب الفلاحون إلى حقولهم غارقين في الأسى والكمد، وأصدر العمدة أوامره لأهل القرية بألا يتحدث أحد في السياسة على الإطلاق أو يذكر موضوع محمود صقر على لسانه وحذرهم من السخط أو إظهار أي شعور عدائي لأن الأوامر صريحة بالقبض على كل من تسول له نفسه الدخل في أحاديث تمس هذا الموضوع من قريب أو بعيد وأي «مشاغب» سوف يبلغ عنه ومن ثم يلحق بمحمود وأبيه...

- وعاد الشيخ بعد يومين كأيبا حزينا حليق الذقن وتهامس الناس «حليق الذقن ؟ يا للكارثة..» وارتسمت على وجوههم علامات الاستفهام ولم يجرؤ على سؤاله أحد سوى زوجته التي ضربت على صدرها في استغراب وقالت «يا ندامتي.!! لماذا فعلت ذلك يا أبو محمود؟؟» سالت الدموع على الخد الأعجف المغضن وتمتم الشيخ: «لا حول ولا قوة إلا بالله ..أمروا أحد المخبرين السريين بحلقها لي رغم أنفي.. قلت له هذا حرام هذه سنة عن رسول الله وأنا رجل كبير ولم يكترث لتوسلاتي قال لي هذه «فقهنة..» شعرت على الفور أنهم قوم لا يستحون من الله ولا يحترمون كرامة الإنسان ويكرهون الرجل المؤمن الشكوك تساورني يا أم محمد أخذوني إلى جميع الأقرباء ليفتشوا عن محمود الهارب لاحظت أن التفتيش لم يكن جديا كان مجرد إجراء شكلي بحث قلبي يحدثني أن ما يفعلونه مجرد تمثيلية رخيصة ساقطة تساءلت ما معنى ذلك؟؟ قلت لنفسي أن وراء الأمر سرا لا أعرفه وكيف يهرب محمود من السجن الحربي وحوله الأسوار العالية، والأسلاك الشائكة والجنود المدججون بالسلاح ليل نهار؟ أنه أمر محير الله وحده يعلم أنا لا أفكر في لحيتي الآن فغدا ينبت شعرها من جديد لكن ما أفكر فيه هو محمود

- ووضعت الأم المسكينة يدها على خدها المبلل بالدموع، وأخذت تنظر إلى الفضاء اللامحدود، ولا تكاد ترى أمامها سوى شبح محمود الغالي الحبيب الذي كان دائما مطيعا صالحا لكل الناس وغمغمت بحزن:

- «أشعر أنه قريب مني أحيانا أراه أمامي أعرف أنها خيالات وأوهام لكنه لا يفارقني أنني أعتقد لا أدري لماذا أن محمود قد ترك السجن الحربي قد يكون مختبئا في الحقول أو لاجئا لأحد المساجد أو لعله هنا في البيت أم تراه في مخبأ سري تعرفه..«أمل؟؟» لماذا لا نسأل «أمل» ..ما رأيك...؟؟

قال الشيخ وهو يجفف دموعه:

«مازلت تحلمين..»

وسادت فترة صمت قالت الأم بعدها:

«يا شيخ أحمد اسمعني لماذا لا تذهب إلى الرئيس نفسه وتشرح له الأمر لعل قلبه يرق لحالنا وهو لو عرف حقيقة محمود لوضعه فوق رأسه أنه زين الشباب..»

«أنا لا ألجأ لغير الله..»

«أعرف .. لكن الله لم يسجنه.. الذي سجنه هو السلطان..»

قال الشيخ:

- «استغفري الله.. كل شيء بأمر الله..»

- «وهل يرضى الله أن يظلم محمود؟؟»

- «الله اسمه العدل فكيف يرضى الظلم لعبيده..»

- «لم أعد أستطيع أن أفهم الأشرار يحكمون ويمرحون والأحياء يساقون إلى ظلمات السجون فكيف تفسر هذا؟

- هب واقفا وشد عوده المنحني ودق الأرض بعصاه وقال:

- «وإذا أحب الله عبدا ابتلاه..»

- قالت:

- «لماذا؟؟»

- قال:

- «امتحان..»

- «امتحان؟؟»

- نعم ومن ينجح يدخل الجنة والدينا رحلة عابرة لحظات حلم نائم ثم يأتي بعدها الحياة الأخرى الحقيقية حيث الخلود والنعيم لعباده المؤمنين فلماذا نخاف الأخرى الحقيقة حيث الخلود والنعيم لعباده المؤمنين فلماذا نخاف وتزيغ قلوبنا؟؟ الدنيا بكل ما فيها لا تساوي عند الله جناح بعوضة قومي إلى صلاة العصر يا امرأة فليس لنا من عدة أو سلاح سوى التقرب إلى الله بطاعته ومحمود وديعة بين يدي من لا تضيع عنده الودائع..»

- وأجهش الرجل باكيا من جديد..

- قالت الأم وهي تنظر على زوجها في دهشة:

- «لماذا تبكي..»

- «لا أعرف كل ما يمكنني قوله هو أنني اشعر بحنين طاغ إلى لقاء المولى عز وجل من عرف الله حق المعرفة أشتاق للقياه»

- ثم أخذ الشيخ يتطوح برأسه يمنة ويسرة وقد أغلق عينيه الدامعتين ويترنم بأبيات من الشعر منسوبة لرابعة العدوية:

فليتك تحدو الحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب
ويا ليت ما بيني وبينك عامر
وببني وبين العالمين خراب
فإن صح منك الود فالكل هين
وكل الذي فوق التراب تراب

- وأطلقت الأم صرخة عالية وهي تقول:

- «ولدي مات..»

- لم يلتفت الشيخ إليها وظل يكرر الأشعار مغلق العينين والدموع على خديه وهرول الناس من كل صوب عند سماعهم صرختها وملئوا ساحة الدار وهرول الناس من كل صوب عند سماعهم صرخاتها وملئوا ساحة الدار الواسعة وتجاوبت مع الصيحة طيور البيت وحيواناته وبدت الحيرة في العيون وقال «القباني؟» المعروف بذكائه ودهائه وإطلاعه على الصحف اليومية.

- «هل جاءت أخبار جديدة..»

- لكن الشيخ أحمد لا يجب أنه ما زال يطوح رأسه يمنه ويسره ويردد الأشعار الصوفية:

أحبك حبين: حب الهوى
وحبا لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك لي الحجب حتى أراكا

- وساد الصمت المقدس وخيم جو من الحزن غريب وغمغم رجل طب «الشيخ واصل» وفهم الحاضرون ما تعنيه هذه الكلمات من شدة القرب من الله وصفاء الروح والانسلاخ عن مفاتن الدنيا وبهارجها أما القباني..

- فقد همس: «أخاف أن يكون الشيخ قد أصابه مس من الجنون إن الكارثة لا تحتمل لقد عرفت أن من يقتلوه في السجن يزعمون أنه هرب.. اللهم أكفنا شر مصائب هذا الزمان. أنها فتنة لا يعلم إلا الله مداها..»

- ووقف الناس حائرين، أنهم لا يدرون ماذا يفعلون هل يقدمون العزاء كيف؟ ليست هناك أخبار مؤكدة هل ينصرفون؟؟ لكن الرجل المسكين الذي ظل يعلمهم ويرشدهم ويفتي لهم طوال ستين عاما في حالة يرثى لها، فكيف يتركونه على هذه الحال؟؟

- ولم يخرجهم من حيرتهم إلا صوت شيخ الخفراء الذي قدم مهرولا وقال بصوت أجش آمر:

- « انصرفوا إلى بيوتكم والله لو علمت الحكومة بما يحدث الآن لأشعلت النيران في القرية وأبادتها عن آخرها استحوا يا أخل «منية البندرة» وكونوا عقلاء»

- ولما لم يتحرك أحد، عاد شيخ الخفراء يقول:

- «إن كنتم تحبون الشيخ أحمد وتريدون أن تفرجوا عن محمود فلتطيعوا الأوامر فالضرر أولا وأخيرا لن يصيب غيره..»

- ونظر المحتشدون إلى شيخ الخفراء أنه واحد منهم ويرون على وجهه علامات الأسى المكبوت ويدركون عن يقين أن قلبه معهم وإن كان يحمل سلاح الحكومة وينفذ أوامرها الطائشة وتسرب الناس واحدا إثر آخر..

- وخلا البيت أو كاد ولفه سكون غامض يشع رهبة وعذابا..

- وتوقف الشيخ عن الإنشاد ثم جفف دموعه وحوقل واستغفر الله ثم نظر بعينه الكليلة إلى زوجته قائلا:

- «لقد مات..»

- «صرخت في ذعر:

- «ولدي؟؟؟»

- أسرع قائلا:

- «لا .. إن ولدك لا يموت الذي مات هو الشيطان..»

- وبتلع ريقه قائلا:

- «إن من يستبيح دماء الأبرياء والحرمات ويتحدى إرادة الله المولى يصبح في عداد الأموات ون كان يدب على الأرض ويأكل ويشرب ويخطب على المنصات العالية وتصفق له الحشود..»

- قالت الزوجة في غضب:

- «ليذهبوا جميعا إلى جهنم فأنا أسأل عن ولدي..«ليذهبوا جميعا إلى جهنم فأنا أسأل عن ولدي..»

- «هو حي يرزق..»

- «الله يطمئن بالك يا شيخ..«الله يطمئن بالك يا شيخ..»

- وأخذ الشيخ أحمد يتلو:

- «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون..»

- حاولت أن تفهم ما يقول فلم تستطع أن الأمور تزداد غموضا وإظلاما أمام ناظريها وشعرت أم محمود بالإنهاك والتعب فاضطجعت على حصيرتها لكنها تذكرت أن زوجها لم يقرب الزاد حتى هذه اللحظة، قالت بصوت خفيض:

- «ألا تأكل؟؟»

- «تكفيني جرعة ماء..»

- «هل أطعموك هنا.. في دار الحكومة..»

- «أطعموني ؟؟ نعم شربت الكأس حتى الثمالة كما يقولون وخير الزاد التقوى يا امرأة..»

- ونامت القرية الصغيرة في ضوء القمر كانت ترقد على صدر الخضرة كبقعة سوداء ونعب بومة يمزق السكون والديكة كفت عن الأذان.. وامتلأت السماء بالخفافيش والذئاب تعوي جائعة وسط الحقول المترامية وصفير القطار ينطلق في الأوقات المحددة وقبيل الفجر انطلق صوت الصوفي الفقير نديا مؤثرا في الحارات والأزقة:

يا نائما كيف المنام يطيب
الموت حق والفراق صعيب

- وخرج الشيخ كعادته عند مطلع الفجر ليؤم الناس في الصلاة ..

- لكن الشيء الغريب الذي حدث ستبقى تردده القرية عشرات السنين.. فقد نوى الشيخ للصلاة وكبر ثم أخذ يتلو فاتحة الكتاب، ثم تبعها بآية الاستشهاد وصمت وطال الصمت ولاحظ الواقفون في الصف الأول أن الشيخ جلس فجأة دون أن يركع ثم مال على جانبه الأيمن وأخذ يستشهد تقدم نحوه بضعة نفر ثم نظروا في وجهه وقال واحد منهم:

- لا حول ولا قوة إلا الله لقد لقي الرجل مولاه وهو بين يديه يؤدي الصلاة..»3

- وساد الهرج والمرج على ضوء ذبالة الضوء الواهنة التي تضيء المسجد الصغير واختلطت التكبيرات بالبكاء وعمت الدهشة الحضور وقال. القباني

- «لقد ودع الشيخ عالما التعس وهو في أشرف بقعة في ضيافة الرحمن يا أهل منية البندرة أقيموا للرجل الصالح صريحا واكتبوا على شاهده «هذه بقية السلف الصالح..»

- وصحت القرية عن بكرة أبيها وغص المسجد بالناس كل يريد أن يقبل الشيخ ويلتمس البركات ويلقي النظرة الأخيرة وسرى النبأ إلى القرى المجاورة وتدفق الناس في كل صوب وحدب وكأنهم في موكب للحجيج وانسالت أفواج الطرق الصوفية حالة البيارق الخضراء والأعلام يدقون الطبول وينشدون الأناشيد الصوفية وأصبح في القرية حشود هائلة لم تحدث في تاريخا الطويل وهرع الناس إلى أجمل بقعة وسط الحقول وأخذوا يشقون الأرض بالفؤوس ويضعون أساس بناء الضريح، لم يكونوا يفكرون أن الأضرحة ليست من السنة، كان ما يفعلونه مجرد تعبير عفوي عن الحب والولاء لرجل عشقوه بمحض إرادتهم وهو لا يملك مالا يذكر ولا سلطانا ماديا ولم يتقلد طول حياته منصبا حكوميا بارزا، بل عاش واعظا فلاحا ومات واعظا فلاحا لكن حبهم له كان أقوى من كل الدنيا:

- وفجأة سمعت أصوات الطلقات في أجواء القرية وتلفت الناس لقد جاءت حشود كبيرة من العسكر وأخذوا يلهبون الخلق بالسياط وقبضوا على البعض وساقوهم إلى عرباتهم الحكومية وسرعان ما تفرق الناس في كل الأنحاء وانطلقوا في الحقول الخضراء الواسعة وعادة الرهبة والسكون والغضب المكبوت وحمل نعش الفقيد أربعة من الخفراء يحرسهم العسكر ودفن الشيخ أحمد في مقابر الأسرة كانت جنازة عسكرية بحتة..

- وانطلقت الشائعات في كل مكان عن كرامات الشيخ وأخذ الناس يرونها ويتناقلونها في إعزاز وإعجاب والصوفي الفقير أخذ هو الآخر يؤكد أنه رأى المعتقل محمود صقر يشارك في حمل أبيه لوضعه في النعش وبعضهم يؤكد أن أقواما غرباء أحاطوا بالميت من كل جانب ويفسرون ذلك بأنهم لا شك من ملائكة السماء لأنه لم يستطع أحد أن يتعرف على شخصياتهم وكان الزائرون يفدون كل مساء لزيارة القبر ويقبلون ترابه ويسكبون الدموع مما اضطر السلطات لفرض حراسة عليه لمدة أسبوعين وكانوا يسوقون كل من تسلل زائرا إلى حجز القسم كي يتلقى العقاب الرادع ثم يفرجون عنه..

- ولم يعد الناس يذكرون اسم الشيخ أحمد صقر إلا ويسبقونه بلقب «ولي الله..»

الفصل الثامن والعشرون

ومرت الأيام والليالي على السجن الحربي وهو يطفح بالأسى والعذاب والشهداء يتساقطون واحدا إثر آخر والزبانية قد ألفوا العسف وأجادوا استعمال السياط كانوا يتفننون في الإيذاء ويتسابقون في إلحاق الأذى بكل معتقل وعطوة الملواني يزداد جحودا وتحيرا وفي كل يوم يأتي إلى السجن إيراد جديد والغيان يستشري ويمتد وانتشرت أخبار الإرهاب العسكر في كل مكان وانعكس ذلك كله على تصرفات الناس وسلوكهم في كل مدينة وقرية وكان أغلبهم يعتصم بالصمت ويخاف أن يناقش ذلك الانحراف مع أسرته أو أصدقائه وأصبحت خطب المساجد توزع من قبل الحكومة على الخطباء الرسميين حتى لا يتناول أحدهم موضعا من الموضوعات المحرمة وما أكثر تلك الموضوعات وامتلأت كتب المناهج الدراسية بالتسبيح باسم الحاكم وبطانته ولقن الصغار الأناشيد الحماسية التي تمجده وتضعه في مصاف الآلهة وأنشى للحكومة حزب جديد، احتشد فيه خلاصة المنافقين والانتهازيين والمخدوعين كما ضم إليه خلق كثير بحكم وظائفهم أو خوفا من اتهامهم بالسلبية أو انتمائهم للثورة المضادة كما سارع إليه آخرون لحموا مكاسبهم ويحافظوا على أوضاعهم الاجتماعية والسياسية أو الوظيفية، واختفى من الساحة السياسية كل من حام حول شك أو تجرأ على إبداء رأي معتدل برئ وطفح على صدر الصحف أسماء جديدة لا تتصف بأية أصالة فكرية أو سابقة جهاد قديمة ضد الصهيونية والاستعمار لقد تشوه وجه الحياة ي مصر واختلت القيم والمعايير وأصبح الاعتصام بالمبادئ الأصيلة والقيم العليا ضربا من الهوس والحماقة والسذاجة ولجأ الناس إلى سلاح النكتة الشعبية يعبرون بها عما يعتمل في نفوسهم من حنق ورفض وكانت النكات تتناقلها الألسن خفية وكأنها مخدرات أو عملة صعبة يحرم تداولها وكان الناس يضحكون من أعماق قلوبهم وهم يستمعون لهذه النكات اللاذعة وكان هذه هو الشيء الوحيد الذي عجزت الحكومة عن مقاومته ولجأ كثير من الناسي إلى الاعتزال والوحدة اتقاء لشر الفتنة وكان الله وحده هو الذي يستطيعون أن يتجهوا إليه بشكواهم ودعائهم وظلماتهم وحاول البعض أن يهرب بعقيدته إلى خارج البلاد سواء في أوربا وأمريكا أو في بعض البلدان العربية وبعضهم ذهب في بعثات إلى الخارج ولم يعد أو سافر ليؤدي فريضة الحج ثم هرب إلى دنيا الله الواسعة واشتد الضيق بالناس وكانوا يرددون دائما لا ملجأ من الله إلا إليه..

أما والد نبيلة عبد الله فقد عاد إلى بيته بعد أن خرج من المستشفى على أن يغير من أسلوب حياته بعد النوبة القلبية الأولى التي مرت كان عليه أن يأكل طعاما معينا وأن ينام مبكرا وينأى بنفسه عن الأعمال المجهدة والانفعالات النفسية الحادة وإلا تعرضت حياته للخطر وأصبح أهلها وذووها في خوف دائم بعد الكتاب الذي نشرته عن مدرسة الإرهاب الذي يجثم على قلب مصر ووضعت الأسرة كلها تحت المراقبة وأصبح استدعائهم لمبنى المباحث العامة والمخابرات أمرا مألوفا في أي وقت كما منعوا من الاشتراك في أي نشاط اجتماعي أو سياسي وطبقت عليهم قوانين «العزل السياسي» التي طبقت على الكثيرين من أبناء الشعب وخاصة أولئك الذين حفلت حياتهم بالعمل الوطني المشرف أو حققوا نجاحا مرموقا في عالم الفكر والاقتصاد وبعض أقارب نبيلة فصلوا من الكليات العسكرية دون ذنب جنوه ولم يرتكبوا وزرا سوى قرابتهم التي لا دخل لهم فيها من أسرتها حتى أخذ الناس يتبرؤون منهم ويهربون من لقائهم ولا يقبلون زيارتهم حتى لكأن منزلهم أصبح مستعمرة للجزام..

وحينما ذهب مبعوث نبيلة وعبد العزيز السيسي إلى مصر أخذ يبحث عن سلوى وأبنها صابر لكنه لم يعثر لها على أثر في بيتها وأخذ يجمع المعلومات من هنا وهناك حتى صدم بالحقيقة المؤلمة لقد أجبروها على طلب الطلاق من زوجها وأرغموها بأن تكتب الافتراءات والأكاذيب عن وجها وفرقوا بينها وبين ولدها صابر ولاحقوها بأبشع التهم والأكاذيب الافتراءات وأشاعوا عنها الخيانة والإثم والفجور ولم يتركوها في يوم من الأيام دون تفتيش أو اعتقال أو تعذيب حتى أصابها اليأس ولم تعد تستطيع النوم وعافت الطعام والشراب فكان أن انهارت أعصابها وأصيبت بحالة يرثى لها من الجنون فكانت تمشي في الشارع تحدث نفسها وتبكي وتضحك ولم تعد تهتم بمظهرها فتلبس الثياب الممزقة القذرة وتمشي حافية وتترك رأسها عارية وشعرها مهملا وذات صباح قدمت سيارة حكومية ثم نزل منها اثنان وألبسوها «قميص الجنون» وهو بلا أكمام ثم ساقوها إلى عالمها الجديد وهي تقهقه وتبكي وتهتف باسم صابر فشيعها الناس بالدموع الصامتة الخفية..

وعندما فكر مبعثو نبيلة في زيارتها بمستشفى الأمراض العقلية أفهمه بعض المخلصين أن في ذلك مخاطرة كبيرة لأنها تحت الحراسة المشددة هناك، وكل من يزورها يجب أن يأخذ تصريحا من وزارة الداخلية وفي ذلك ما فيه من مغامرة خطرة قد تؤدي بصاحبها إلى السجن..

قالت أم نبيلة لزوجها وقد انتصف الليل ونام كل من في البيت:

«لماذا لا نرحل عن هذه الديار؟؟»

قال عبد الله وقد اغرورقت عيناه:

- «الوطن غالي يا زوجتي..»

- «ما معنى الوطن ؟؟ أنعيش في ذل ورعب ثم تحدثني عن الوطن..»

- «اهدئي يا امرأة فإن ما يحدث اليوم خلل طارئ لا دوام لشيء إلا لوجه الله الحاكم يقوي ويتمرد ويفرض سلطانه مؤمنا أن ذلك هو الصواب لكنه ينسى أن سنة الحياة تجري عليه وأنه سيشيخ ويموت وينسى أن الصواب لي حكرا على فرد وأن الله وحده هو الحق وأن هناك ملايين من البشر قد أوتوا عقلا أكثر منه عمقا وصدقا ويا ويل من يقع بين براثن الغرور..»

- قالت الزوجة في امتعاض:

- «أصابني الملل..»

- «الصبر جنة المظلومين..»

- «لقد قاطعنا الناس..»

- ابتسم وشرد بنظراته إلى بعيد وقال:


- «أقسم لك أن الناس يشدون على يدي في حماسة وحب ويقولون بلغ السلام لست الكل نبيلة حماها الله ورعاها تصوري أن هذه الهمسات هي أروع وسام نضعه على صدورنا.»

- لوحت بيدها في غضب قائلة:

- «وما قيمة هذه الهمسات؟؟ ولماذا يفعلوا مثلها.»

- طأطأ رأسه في أسى وقال:

- «الناس يعانون من مصائب جمة وليسوا على استعداد لمزيد من الكوارث..»

- ودارت الزوجة بنظراتها في أنحاء الغرفة الهادئة وقالت:

- «كثيرا ما ساءلت نفسي: ما السبب في كل ما جرى؟؟»

- «الصراع أبدي دائم يا امرأة»


- «لا أنني أقول بأن معرفتنا بعطوة الملواني كانت هي بداية المتاعب...»

- «وهل كل المضطهدين عرفوا عطوة؟؟»

- «لا أعرف..»

- «هز رأسه كحكيم أرهقته الأحداث والسنون وقال:

- «من يري لعل هذا بداية الخير..»

- أشاحت بيدها مستنكرة وقالت:

- «والنبي تسكت خير من أين يأتي الخير..»

- «السماء لا تمطر والأرض تجود بالزرع والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة..»

- وسادت فترة صمت قالت الأم بعدها:

- «الوطن هو الحب والأمن والأمل والعدل وعندما تختفي هذه الأشياء فلا معنى لكلمة الوطن..»

- سعل ثم قال:

- «لا تتعبي نفسك فلن يسمحوا لنا بالرحيل إلى أرض لقد أصبحت أسرتنا بكاملها في «القائمة السوداء»

- قالت في دهشة:

- «وما معنى القائمة السوداء..»

- «معناها المشبوهون الممنوعون من السفر خارج الدولة..»

- «بأي قانون؟؟ بأي حق؟..»

- «لا تتحدثي عن الحق والقانون.. لقد طلبت السفر للحج فقالوا لا تتعب نفسك ممنوع...»

- دقت على صدرها في فزع وقالت:

- «حتى بيت الله؟ الفريضة هذا افتراء»

- «مصلحة أمن الدولة فوق كل اعتبار..»

- بصقت في ازدراء وقالت:

- «لا تذكر هذه الكلمات فإنها تصيبني بالغثيان..»

- لكنه أمسك بيدها في سعادة وقال:

- «لقد أرسلت خطابا لنبيلة ردا على خطابها.»

- «مع من»

- «مع الرجل القادم من الكويت الذي لم يفصح عن اسمه والذي سلمنا رسالتها في الأسبوع الماضي..»

- دمعت عينا الأم وقالت:

- «يا حبيبتي يا ابنتي ... وهل تغني الرسائل عن مشاهدة وجهك الحلو..»

- «لا تحزني فغدا نلتقي..»

- «متى »

- «الجواب عند الله..»

- «ثم استدار إليها فجأة وقال:

- «هل مزقت خطابها؟؟»

- «أنا؟؟ كيف ؟ أنه قطعة منها فكيف أمزقه؟؟»

- قال:

- «اعقلي يا امرأة لو أمسكت به المباحث لوقعنا في مصائب لا حصر لها ..»

- «اطمئن فلن يعثر عليه أحد

- «وما قيمة هذه الأوراق لا تتمسكي بأشياء تجلب علينا المتاعب.. فلو أمسكوا به لقالا من أوصله وكيف وصنعوا من ذلك قضية جديدة سموها خيانة وطنية وجاسوسية وتآمر..»

- «لا تتعب نفسك فلن يعرف مكانه الجن الأزرق..»

- اضطجع على سيره واسترخى ثم أغفى وبقيت أم نبيلة جالسة تفكر ومن آن لخر ترفع أكف الدعاء إلى الله وتشكو إليه ظلم العباد، وفساد البلاد، والطغيان الذي لا يرحكم وأفاق عبد الله من إفاءته فجأة ونظر حواليه وهو يتمتم: «خير إن شاء الله . خير إن شاء الله.» ونظرت الزوجة إليه وهو يمسح على وجهه ولحيته وهمست:

- «وماذا»

- قال وهو يشير بيده مؤكدا:


- «لكأنه حقيقة أي والله يا أم نبيلة ..رأيتها ي منامي تعانقني في حرارة وتقبل رأسي ووجهي ويدي وكنا نبكي من شدة الفرح والفرح في المنام تفسيره الفرج يا أم نبيلة.. وتكلمنا كثيرا..»

- وتنهدت الأم وقالت:

- «وكيف عبرت الحدود والشياطين يقفون لها بالمرصاد؟؟»

- عاد يهز يده في حماسة:

- «لا تسخري مني يا امرأة..»

- «دائما نحلم حياتنا كلها أصبحت أحلاما»

- «هذا من رحمة الله يا أم نبيلة.. أقسم لك أني صحوت من نومي وأنا أشعر بكامل السعادة لقد ارتويت كنت أشعر بظمأ شديد لرؤياها..»

- وقفت ثم توكأت على عصاها وقالت:

- «عطوة الملواني يهددنا دائما ويقول أننا سندفع الثمن غاليا..»

- «لماذا تفكرين في هذا المجرم؟»

- «إنه لا يقتل إلا السجناء العزل..»

- «وابنتك ماذا تلك من سلاح..»

- «تملك الآن الحرية والكلمة الشجاعة وبهذا تستطيع أن تفتك..»

- خطت إلى الخارج في تباطؤ وهي تردد:

- «ما زلت سادرا في أحلامك..»

- وتألمت الأسرة أشد الألم عندما علموا بنبأ مغادرة نبيلة الكويت ورحيلها إلى تركيا لقد بلغتهم الخبر خفية بواسطة رسالة تسلمتها إحدى صديقات نبيلة من زميلة لها تعمل في الكويت واستبد القلق بالأب المسكين وبكت الأم في حرارة لقد أدركوا أن طغيان الظلم يستطيع أن يمد يده إلى بعيد.. خارج الحدود وأن يلاحق أعداء النظام بالمنغصات والمكائد لقد ظنوا في البداية إفلات ابنتهم من يدي الجهاز البوليسي القاسي سوف يضمن لها الراحة ويحقق له الأمن، وها هي النتيجة أيمكن أن يكون الصدام مع الفساد ومجابهة الظالم بكلمة الحق حماقة من الحماقات..

- وعادت الأم للبكاء والنحيب وركن الأب للصمت لكن إلى متى يظل صامتا يجب ان يقول شيئا على الأقل لتهدأ الأم المسكينة ويرتاح بالها ولو لقدر بسيط تنحنح ثم قال متصنعا الجد:

- «يا زوجتي لا تنزعجي .. إن ابنتك ليست وحدها.»

- «من يواسيها في غربتها يا عبد الله.»

- قال بصوت قوي:

- «خالقها سبحانه كلنا عبيده..»

- ولما لم تجب استطرد قائلا:

- «وابنتك معها خلق كثير من الرجال الأشراف أصحاب المبادئ وهم منتشرون في كل أنحاء الدنيا..»

- «حتى في تركيا يا عبد الله...»

- «نعم في تركيا أنسيت أنها كانت بلد الخلافة الإسلامية الزاهرة..»

- لا أعرف شيئا عن ذلك ولكنهم حسب ظني يتكلمون بلغة غير لغتنا وليس لنا فيها أقرباء ولا معارف ولا...»

- قاطعها قائلا:

- «ابنتك متعلمة وناضجة وتعرف كيف تتصرف..»

- «شردت إلى بعيد وقالت:

- «الدنيا واسعة يا عبد الله والغربة غدارة والوحدة مرة ولا تنسى أنها ليست رجلا هي بنت يا حبة عين أمها..»

- قهقة عبد الله عاليا وهو يقول:

- «أفيقي يا امرأة النساء الآن يحملن السلاح ويخضن الحروب ويتقلدن مناصب الوزارات صدقيني قد تكون هناك امرأة بألف رجل النساء اليوم غيرهن في زماننا الغابر»

- تمتمت قائلة:

- «رحم الله أيام زمان مضى المرأة للبيت ولا دخل لها بالسياسة ولا المتاعب ليتها كانت مثلي..»

- «هذا أمر لا حيلة لنا فيه يا امرأة والدنيا تطور دائم والعلم نور..»

- «ولم يجلب علينا علمها غير الأحزان.»

- وأذن الفجر في مسجد قريب وسارا صوب دورة المياه للوضوء كان السكون يغلف المكان والقلوب تضرع إلى الله وبعد دقائق قليلة كان عبد الله يؤم زوجته في الصلاة وعند القنوت كانت الدعوات تنطلق خالصة صادقة تدق أبواب السماء والأم تردد من خلفه كلمة «آمين» مبللة بالدموع المقدسة..

الفصل التاسع والعشرون

قال رزق إبراهيم والكمد الشديد يرتسم على وجهه الأسمر اللامع:

- «لقد طفح الكيل ولا يمكن أن تمضي الأمور على هذا النحو لأمد طويل..»

- قال عبد الحميد النجار وقد بدا عليه التحسن بعد أن استعاد شفاءه الجسدي والتأمت جراحه الكثيرة..

- «دع الزمن الآن..»

- «لماذا»

- «لأن الصراع قد يطول..»

- شرد رزق إبراهيم وقد نصب طوله الفارع وشد عنقه صوب النافذة الصغيرة داخل الزنزانة وهتف:

- «إنني واثق إن شاء الله أنه سيأتي اليوم الذي يساق فيه عطوة الملواني وزبانية إلى هذه الزنازين نفسها لكنهم لن يكونوا مثلنا..»

- رد عبد الحميد قائلا:

- «كيف..»

- «نحن ندافع عن قضية عادلة ولنا مبادئ تظللنا بظلها الحنون في أوقات الهجير الحارقة أما هم..»

- قاطعه عبد الحميد مردفا:

- هم أيضا يعتقدون أنهم أصحاب مبادئ..»

- «مستحيل. هم فئة من المرتزقة وعندما يسقطون ويحاسبهم قضاة الشعب الحقيقيون سيدركون على الفور أنهم انطلقوا من فراغ سيعذبهم الضياع ويؤرقهم الندم وهذا أبشع من الموت نفسه ولا عجب أن ترى بعضهم آنذاك يلجأ إلى الانتحار..»

- وتمتم معروف الحضري الذي لوحظ اعتصامه بالصمت في الآونة الأخيرة:

- «دم محمود صقر وإخوانه لن يذهب هدرا..»

- رد الشاعر يوسف:

- «إنهم في رحاب الله وقد لاقوا الجزء الأعظم وهم ينظرون الآن إلى الدنيا وأهلها نظرة إشفاق..»

- وتراص الرجال في ساحة الحربي الواسعة ووقفوا طوابير ثلاثية منظمة وحضر المدعي العام وعطوة الملواني وغيره من الضباط والعساكر والكلاب ووقف عطوة خطيبا وشرح لهم كيف أن المحاكمات سوف تبدأ بعد غد، وأن كلا منهم سوف يتسلم الادعاء المقام عليه وسيقوم كل مهم بالتوقيع على محضر التحقيق من جديد وحذرهم من الامتناع عن التوقيع أو إنكار أي كملة مكتوبة في محضره وكل من يحاول أن يذكر للقاضي أن الاعترافات قد نزعت منه بالإكراه أو يزعم أنه قد عذب فسوف يلقى الجزاء الرادع ثم أن ذلك لن يغير من النتيجة في شيء فالأحكام موضوعة مسبقا وحتى القاضي نفسه لا يستطيع أن يغير فيها كما افهمهم أنه لا مجال لتوكيل محامين للدفاع عنهم فالمحاكمة سرية وسريعة ولا داعي لضياع الوقت والمال دون فائدة وبطبيعة الحال أكد لهم أن الحكومة لا تظلم أحدا وأن الرئيس يوصي دائما بأن يعطي كل ذي حق حقه وعاد يؤكد على أهمية سرعة المحاكمة حسب الأوامر العليا فلن تستغرق محاكمة كل فرد أكثر من بضع دقائق قليلة لأن كل شيء محدد ومعروف والاعترافات جاهزة والباقي مجرد مسألة روتينية بحتة، وبعد صدور الأحكام سوف يصنف المتهمون إلى فئات البراءات في مكان وأحكام الشاقة مجموعة منفصلة والإعدام في زنازين انفرادية ويجب أن يفتح كل متهم أذنيه جيدا حتى يسمع الحكم الصادر في حقهن وبعدها سوف يرحل المحكوم عليهم بالسجن والأشغال إلى السجون المدنية ولن يبقى في الحربي إلا المعتقلين دون محاكمة وكذلك البراءات وأحكام إيقاف التنفيذ الذين سينضمون إلى المعتقلين لأنه لن يفرج الآن عن أي واحد..

- وأخذ أحد الضباط ينادي المتهمين فردا فردا، ثم يسلم لهم الادعاء أو الاتهام الموجه ضده وبعدها يوقع على المحضر ثم يوقع مقرا باستلام الادعاء وهناك توقيع آخر يقر فيه المتهم بأن الاعترافات جاءت بمحض إرادته دون إكراه نفسي أو بدني وكان بعض المتهمين لا يستطيع التوقيع بسبب إصابات جسيمة في أيديهم فيمسك «الصول» بأيديهم العاجزة بعد أن يضع القلم بين أصابعهم ويحرك اليد واضعا الاسم.

- وعاد المحبوسين إلى زنازينهم وكل واحد يحمل الادعاء المقام عليه كانت الادعاءات تكاد تكون متشابهة أغلبها يقول:

«إنه في غضون شهر كذا عام كذا أتى أفعالا ضد نظام الحكم بالقوة وفي ادعاءات أخرى كان مكتوبا: «شترك في جهاز تمويل سري بقصد الإضرار بمصالح البلاد وقلب نظام الحكم بالقوة..»

مع أن الأمر لم يكن يعد وجمع بعض التبرعات لأسر المعتقلين أو المسجونين الذين فقدوا مصادر رزقهم وخاصة التجار وأصحاب المهن الحرة الأخرى وقد كانت هناك ادعاءات طريفة أخرى حوكم أصحابها بسبب نكتة قالوها أو نقد عابر لوضع من الأوضاع السياسية أو تمني موت الرئيس أو زيارة أسرة من أسر الإخوان وعرض العون الأخوي عليهم..

وتفرق الأحباب في أماكن مختلفة رزق إبراهيم صدر ضده حكم بالسجن عشر سنوات، ومعروف الحضري أخذ حكما مع إيقاف التنفيذ وعبد الحميد النجار عشر سنوات والشاعر يوسف براءة وتعانق الإخوان في حرارة أنها لحظة الوداع وسالت الدموع الطاهرة في صمت..

وقال الشاعر يوسف وهو يتصنع الابتسام:

«على العموم السجون المدنية خير ألف مرة من السجن الحربي، ستجدون الراحة هناك والمحكوم عليه بالبراءة باقون جميعا في قبضة السجان برغم اختلاف المكان ويوم أن يريد الله الفرج فسوف نخرج جميعا..»

وغمغم معروف الحضري:

«البلد كلها سجن كبير..»

«طالبت بتوكيل محامي للدفاع عني وإخطار السفارة السودانية بأمري فرد القاضي قائلا:

«بلاش فلسفة..» وأخذ يسخر مني ويقول: «مصر والسودان بلد واحد»

أما عبد الحميد النجار فقد أردف:

«قلت لهم أعيدوني لفلسطين كي أشارك مع الفدائيين بدلا من سجني هنا وهناك قد أموت وأريحكم مني»

رد رزق قائلا:

«وماذا كان الجواب؟؟»

«تبادل الجالسون الابتسامة على منصة العدالة ثم جرني العسكري من قفاي إلى الخلف..»

وغمغم عبد الحميد قائلا:

«كانت المحكمة تكاد تكون خاوية القضاة والمدعي والكتبة والحرس لم يرنا أو يسمع بنا أحد من الشعب..»

رد معروف قائلا:

«كان الله معنا وهو أقوى الأقوياء»

وانطلقت الصفارات وحمل كل متاعه الضئيل وذهب كل إلى مكانه الجديد حسب التصنيف وفي فجر اليوم التالي حشروا في سيارات حكومية مغلقة نقلتهم إلى السجون المدنية في «طرة» و «قرة ميدان» أو سجن مصر والقلعة والواحات وأسيوط والمنيا وبني سويف وتحرك الركب المقهور مكبلا بالأغلال في حراسة الأسلحة الأوتوماتيكية الرشاشة من ناحية «مقابر الخفير » والشمس لم تكن قد أشرقت بعد، وفجأة هتف أحد الإخوان

«الله أكبر ولله الحمد..»

فانطلقت وراءه الأصوات الهادرة دون وعي مرددة الهتاف بينما ذهل الحراس الخارجون من السجن الحربي واستمر الهتاف يشق الفجر الساكن ويتصاعد إلى السماء الصافية:

الله غايتنا

والقرآن دستورنا

والموت في سبيل الله أسمى أمانينا..

لا إله إلا الله

ولا نعبد إلا إياه

مخلصين له الدين ولو كره الكافرون..

يسقط الظلم ..

الحرية .. الحرية.. يا أعداء الإنسانية..

الحرية .. الحرية.. يا أعداء الروحانية..

وساد الصمت بعد فترة كان في عيون بعض العساكر دموع أنه لأمر عجيب وأطل عليهم من الخلف ضابط مكفهر الوجه بيده مدفع رشاش وقال وهو يرتجف:

افهموا جيدا أنه لا قيمة لهذه الهتافات ولن تعود عليكم إلا بالضرر أنتم من السجن وإلى السجن وما زلتم في قبضة الحكومة وليس لحياتكم ثمن لدي أوامر صريحة أن أحصدكم بمدفعي هذا لكني مشفق عليكم وأخاف عليكم..

وركن الجميع إلى الهدوء وأخذ السجناء يتطلعون من خلال ثقوب العربات وشقوقها إلى الناس والمقابر والبيوت والأشجار أنهم لم يروا هذه المشاهد الغالية منذ فترة طويلة وبدت مآذن القاهرة وقبابها شامخة صامدة صابرة تحت غيش الصبح، وأخذت الحياة تدب في المدينة الكبيرة والطيور تمرح في جو السماء وتبعث بأنغامها المميزة وبدا جيل المقطم كصدر ضخم حنون يحتضن المدينة المتثائبة..

وعندما وصلت مجموعة منهم إلى سجن «قرة ميدان» القريب من القلعة فتح الباب ودلفوا إليه واحدا أثر آخر يحيط بهم العسكر المدججون بالسلاح ثم أغلق الباب عليهم وتنهد قائد الشرطة بعد أن ابتلعهم السجن في ارتياح وقال:

«الحمد لله»

ثم التفت على عساكره وقال:

«اسمعوا يا أولاد حذار أن يفتح أي واحد منكم فمه لقد انتهت مهمتنا ولا دخل لنا بشيء»

قال جندي من شرطة المحافظة:

«والله العظيم مساكين يا بك قلبي يتقطع شباب مثل الورد يا خسارة!!»

صاح الضابط الكبير:

«انتباه يا عسكري..»

وانتفض العسكري كمن أصابه مس كهربائي وشد عوده، وأدى التحية في حزم، وهتف:

«تمام يا فندم..»

«قلت لكم ألف مرة أنا عبد المأمور ولا دخل لنا في السياسة وما تعلمه الحكومة هو الصحيح نحن وراءنا مسئوليات ولنا عيال حرام عليكم يا حيوانات..»

وأشعل الضابط سيجارة ثم لوح بيده في ضيق وقال

«انصراف..»

وعاد يقول:

«قفوا أنتم هنا حتى أسلمهم السجناء في الداخل وأجعل مدير السجن يوقع بالاستلام الله لا يعيد مثل هذه المأمورية مرة أخرى أعوذ بالله وارتدى السجناء بدل السجن الزرقاء وسجلوا أسماءهم ووظائفهم السابقة وعناوينهم وسلموا أماناتهم وهي عبارة عن قروش قليلة وقطع ملابس محدودة ثم ساروا في طابور طويل صوب الزنزانة المعدة لهم وتمتم رجل منهم:

ما قدر يكون وليس من المكتوب هروب.. وسجننا خلوة فاللهم أقبله منا قربانا في سبيل دينك يا مالك السماء والأرض..»

وكان من نصيب عبد الحميد النجار ورزق إبراهيم أن ذهبا إلى سجن أسيوط المركزي والطريق من القاهرة إلى أسيوط بالقطار طويل وفي كل محطة من المحطات يقف فيها القطار بالوجه القبلي أو الصعيد كانت توجد حراسة مشددة من بلوكات النظام وكانت هتافات المسجونين السياسيين كما يسمونهم تشق عنان السماء مطالبة بالحريات العامة معلنة سخطها على أسلوب الحكم وداعية إلى العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله والناس يقفون خلف «كردون» العسكر ملوحين لهم والدموع تترقرق في عيون الكثيرين، وما أن وصلوا إلى السجن قال أحد الإخوان الزجالين منشدا:

ودورنا على سجن أسيوط

ولبسونا بدلة وزعبوط..

وجابوا لنا الشاويش عطعوط

ربنا يقبل مننا

ونخش الجنة كلنا

ورد عليه زجال آخر:

وردونا على سجن قنا

والصبر حادي ركبنا

زودوا في الدعوة حبنا

ربنا يقبل مننا

ونخش الجنة كلنا

وقال الزجال الأول:

ودخلونا «قرة ميدان»

مظاليم والله في كل مكان

وشخط فينا الشاويش سمعان

ربنا يقبل مننا

ونخش الجنة كلنا..

وأخذ السجانة يستمعون إلى الأزجال وهم يخفون ابتسامتهم ودهشتهم ومصمص أحدهم بشفتيه قائلا:

لا حول ولا قوة إلا بالله أول مسجونين أراهم في حياتهم يدخلون السجن وهم يضحكون ويغنون يبدوا أنكم لا تشعرون بالمصيبة التي حلت بكم يا خسارة على شبابكم..»

واحتشد كل عشرين في زنزانة كبيرة وألقوا بأجسادهم المرهقة من طول السفر على جسده ونام رزق إلى جوار عبد الحميد النجار وهمس:

- «فيم تفكر..»

- قال عبد الحميد:

- أفكر كيف يأتي أهلي من «غزة» إلى هنا لزيارتي أنه سفر طويل للغاية ألا تعتقد أننا يا رزق سببنا لأهلينا الكثير من المتاعب..»

- «قال زرق.»

- «سوف ينالهم ثواب كبير أنهم يشاركوننا أحزاننا»

- وتنهد عبد الحميد قائلا:

- ترى كم عاما سنبقى هنا؟؟»

- كله بثوابه..»

- «يخيل إلى في بعض الأحيان يا رزق أنني سأقوم وأحطم جدران السجن وأنطلق إلى الدنيا الواسعة وأنعم بالحرية السجن شديد الوطأة يا رزق والأيام ستمر علينا ثقيلة قاتلة..»

- وسمعهم أحد السجناء غير السياسيين وكان يجلس قبالتهم فتدخل قائلا وهو يبتسم في هدوء:

- «في البداية ستتألمون لكن الأيام ستمر وستتعودون على السجن وتألفونه وعندما تذهبون إلى ورش النسيج للعمل في الصباح وتنتهون منها في المساء سوف لا تشعرون بمرور الوقت أنا سجين منذ عشر سنوات مرت سريعة على الرغم من أني قاتل..»

- صرخ رزق قائلا:

- «قاتل؟؟»

- «نعم أخذت بثأر أخي..»

- ودارت المناقشات بين المسجونين العاديين والمسجونين السياسيين وكانت هذه المناقشات بمثابة تعارف بين الطرفين وما هي إلا ساعة حتى أخلد الجميع للنوم.

الفصل الثلاثون

شعرت نبيلة بوحدة مؤلمة وهي تهبط أرض تركيا في «اسطنبول» أنها لا تعرف أحدا وقصدت تلوها أحد الفنادق المتواضعة لتقيم فيها كما نصحها سائق التاكسي الذي يتكلم الإنجليزية بصعوبة وعاشت في الفندق أيام، كانت تجد خلالها مشقة كيرة في التفاهم مع العاملين والنزلاء وبمحض الصدفة اكتشفت أسرة عراقية صغيرة تقيم في ذات الفندق وكان فرحها بالتعرف عليهم لا يقدر والحقيقة أن هذه الأسرة التي قضت بالفندق حوالي أسبوع قد قدمت لنبلة بعض النصائح الهامة فاشتر تب بتوجيه منهم كتابا عن «كيف تتعلم اللغة التركية..» ولذا استطاعت أن تحفظ فيه العبارات والكلمات التي لا غنى عنها في التعامل مع الناس ومن ثم أمكنها أن تزور بعض المتاحف القديمة حيث آثار الخلفاء العثمانيين ومخلفاتهم الأثرية وعجائب تاريخهم العظيم كما زارت مسجد أيا صوفيا الشهير وغيره من المساجد الأثرية وكم كانت دهشتها عندما وجدت تشابها كبيرا بين تلك المساجد ومسجد القلعة في القاهرة وغيره من المساجد الأخرى، حتى المطاعم في شوارع اسطمبول تقدم وجبات غذائية وحلوى شبيهة بما تقدمه مطاعم مصر بل أن بعض الأغاني الشهير في تركيا قد استعارت ألحان محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم وفيها الطابع الشرقي المميز وانتشت نبيلة وهي تشم عطر التاريخ القديم فهنا قامت إمبراطورية إسلامية من أضخم الإمبراطوريات التي عرفها تاريخ العالم وقد اجتاحت دول أوربا الشرق والنمسا وغيرها ولكن للأسف ها هو الشعب التركي لا تكاد تعرف فيه من يعرف اللغة العربية حتى الكلمات العربية الصميمة يكتبونها بالأحرف اللاتينية إذ هم يقطعون بذلك العلاقات الوثيقة بين التراث الإسلامي العظيم وبين الحضارة وغمغمت في حسرة «لماذا فعلت ذلك يا كمال أتاتورك أنها جناية كبرى..»

وانتهزت نبيلة الفرصة وقامت بزيارة خاطفة إلى قبرص و «اثينا وروما وبعض البلدان الأخرى في كل مرة كانت تنزل مدينة من المدن تبعث برسالة موجهة إلى عطوة الملواني قالت في إحدى هذه الرسائل:

«لن تطولين يدك الملوثة بدماء الضحايا أيها الوغد أنا هنا أتجول في أنحاء العالم المتحضر وأرى كيف يعيش الإنسان في أغلب المدن التي أزورها وهو يستمتع بالحرية وينعم بالحب والصفاء وأنت أيها المجنون تقضي نهارك ومعظم وقتك تتعبد في محراب الشيطان بصب العذاب فوق رؤوس الأبرياء أي حيوان أنت..

مت بغيظك فسوف يأتي اليوم الذي تحاسب فيه حسابا عسيرا فأنت إنسان ضائع تافه لا معنى لحياتك ولا تعرف روعة المبادئ ولذة العارفين بقدرة الله..

ولا تنس أن تحمل خابي هذا لرجل المخابرات حتى يتسلوا بخيبتك وحقدك الصبياني أيها الطفل الكبير..

كان عطوة يقرأ هذه الرسالة وهو يكاد يجن وكان يحملها فعلا لجهات الأمن كي تضم إلى ملفها الضخم وليحشد ضدها الدليل تلو الدليل على أمل أن يقتنعوا برأيه ويقبضوا على أبيها ويذيقون العذاب ألوانا وبعد مرور الشهر في تركيا وصلت رسالة من عبد العزيز السيسي يدعو فيها نبيلة لمقابلة في بيروت بعد أسبوع ولم تجد نبيلة كبير مشقة في الذهاب إلى بيروت والالتقاء بعبد العزيز في إحدى دور النشر الكبيرة هناك وهي دار متخصصة في طبع الكتب الإسلامية وفي الأيام الأولى التي قضتها نبيلة في بيروت التقت بأعداد كبيرة من الإخوان المهاجرين نساء ورجالا وأسرا بكاملها كما التقت بأعداد أخرى من اللاجئين السياسيين من مختلف الأحزاب والجماعات وانبهرت نبيلة نحو الحرية في مجال الكتابة والحوار والندوات في بيروت لكن خوفا غامضا كان يسكن قلبها إن هذه الحرية جميلة لا شك لكن حوادث الخطف والغدر والاغتيالات هي الأخرى ترتكب من آن لآخر مع ذلك فقد أدركت أن حصيلتها الثقافية تزداد يوما بعد يوم وأن الصحافة العالمية برغم ما فيها من تناقضات تكتب على كل شيء وتتناول بالتحليل الأحداث الجارية ولست هناك موضوعات يحرم الاقتراب منها حرية العبادة موجودة وحرية الجنس والتجارة والعنف والفن الساقط والفن السامي إن رجال الله وأتباع الشيطان يعيشون جنبا لجنب لكن سلطان المادة خطير والناس ينحدرون إلى مستنقعات تفوح منها رائحة العفن والفساد والفجور هذا النوع من التحرر يخيفها ويجعلها تشعر بذلك القلق المبهم أو الخوف الغامض أنها تحلم بعالم نظيف آمن حر تكون العلاقات الإنسانية فيه مبرأة من الخداع والنفاق لقد تألمت وهي تسمع أن بعض الصحف تتبع نفسها لمن يدفع أكثر ومن تهاجمه اليوم قد تدافع عنه غدا ورأت بعض المطبوعات تؤله الطغاة بينما البعض الآخر يصب اللعنات عليهم أي تناقض مريع هذا؟؟ قالت للأستاذ عبد العزيز السيسي

- في أي عصر نعيش...؟؟

- في النصف الثاني من القرن العشرين..

- نظرت إليه فوجدته بتسم فظلت على استغرابها وقالت:

- «أيمكن إصلاح هذا الركام الهائل من المفاسد..»

- قال بهدوئه المعهود:

- «ولم لا ذكري يوم خروج الرسول بدعوته ورأى العالم كله ينضج بالإثم والعار والشرك..»

- قالت نبيلة:

- «لم تكن الجاهلية القديمة على هذا النحو من التعقيد والخبث..»

- عاد يبتسم ويردد في ثقة:

- «الناقة أصبحت طائرة والسيف صار قنبلة ذرية والشرك القديم أصبح ماركسية ووجودية وشاعر القبيلة صار إذاعات وصحف وتلفزيونات وسينما ومسارح لا جديد تحت الشمس والفتاة التي كانوا يدفنونها حية اليوم تمشي في الشوارع عارية مثيرة وقد فقدت كل مقومات الشرف فهي جثة وإن كانت تتأود وتضحك وتقارع الكؤوس..»

- وصمت عبد العزيز برهة فسمع نبيلة تقول:

- «ثم ماذا»

- «لم يخل عصر من الآفات..»

- هزت رأسها قائلة:

- «وعطوة الملواني والطواشي أو الجلاد القديم..»

- «بالضبط»

- غمغمت في شرود:

- «أين الطريق؟؟؟»

- قال عبد العزيز مرتلا آية من القرآن.

- «قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن وسبحان الله وما أنا من المشركين..»

- همست:

- «صدق الله العظيم..»

- ثم عادت تقول:

- «الظلام كثيف»

- «أعلم»

- «وقد طالت غيبة الأحرار خلف الأسوار»

- «لا نصر بلا تضحيات..»

- «ونحن هنا نسبح في الدنيا طولا وعرضا وهم يعيشون في زنازين ضيقة..»

- «هم أفضل منا»

- «بالتأكيد»

- «فلماذا الحزن؟؟»

- «هم إخوتي في كل مكان هم أخوتي..»

- «ما أروع هذا الشعور؟؟»

- وشردت بضع لحظات ثم قالت:

- «كان الدكتور سالم يستطيع أن يسافر أن يهاجر ويتحرر مثلنا من ظلمهم لكنه رفض وأثر أن يبقى في المعركة وأن يصارع الوحش الأسطوري ودخل السجن راضيا»

- ثم التفت إلى عبد العزيز:

- «لماذا لم أفعل مثلة؟؟»

- قال عبد العزيز:

- «ساحة المعركة واسعة..»

- «ماذا تعني؟؟»

- «جنود في الداخل وجنود في الخارج وصفوة أمامية وأخرى خلفية ومحاربون بالبنادق وآخرون يشهرون أقلامهم المعركة على امتداد رقعة الكرة الأرضية لا تظني أنها في مصر وحدها إن أصابع الشيطان في أوروبا وروسيا وأمريكا والبلدان العربية تمتد خفية إلى جميع أطراف الدنيا سالم هناك يجاهد بطريقته الخاصة ونبيلة هنا تؤدي واجبا آخر أنه نوع من التكامل لابد منه ففيم الحزن؟؟

- ولما لم تجب اقترب منها قليلا وقال:

- «نحن بشر وطاقتنا محدودة ولن نستطيع أن نغير الكون بين يوم وليلة..»

- قالت:

- «أصبت هذا ما يعذبني لا أطيق الصبر على هذه المهازل...»

- «لو كانت المهازل رجلا واحدا لقضي عليه الناس واستراحوا لكن الأمر كما ترين»

- واستطاع عبد العزيز أن يحل إشكال نبيلة في الكويت فقد أتفق مع المسئولين أن تعود لكن الحكومة لا توافق على عودتها إلى أي عمل في الوزارات وتم الأمر بهدوء، ورجعت نبيلة مع عبد العزيز إلى مدينة الكويت والتحقت على الفور بإحدى دور النشر وهي مؤسس أهلية تقوم بتوزيع الكتب ونشر بعضها وتجري بعض الدراسات في موضوعات أغلبها علمي أو ديني وتساعد الباحثين في بحوثهم بتقديم قوائم بأسماء الكتب والمؤلفين الذين تناولوا موضوع البحث.

- وفوجئت به نبيلة ذات يوم يأتي إليها في مكتبها كان الحرج يبدو في حركاته وكلماته أدركت أنه وراء الأمر شيئا تشاغلت في تصفح أحد الكتب بينما أخذ هو يفتح صحيفة وسرعان ما يلقيها جانبا ثم يتناول أخرى وأخيرا تنحنح وابتسم وقال:

- «أنا أحب الصراحة..»

- «نظرت إليه في ود»

- «لا داعي للمقدمات..»

- «لابد من الحيثيات.»

- هزت رأسها ونظرت إليه وبدا الاستعداد عليها لتسمع ما يقول:

- «أنت مثل ابنتي وحياة الهجرة التي نحياها فيها الكثير من الملل والألم والشرود والإنسان في مثل هذه الظروف مهما كان الأمر في حاجة إلى من يشاركه حياته أليس هذا صحيحا؟؟»

- أرخت أهدابها وأدركت على الفرو ما يرمي إليه أنه لا شك يريد أن يعرض عليها الزواج من أحد الإخوان المهاجرين الذين تعرفهم وتحققت توقعاتها حينما سمعته يقول:

- «أنت تعرفينه والزواج نصف الدين..»

- أحمر وجهها خجلا قال:

- «أهو أمر..»

- قال مؤكدا:

- «كيف إن موضوعا كهذا ليس فيه أمر على الإطلاق والزواج اختيار حر ورغبة من الطرفين..»

- هي لا تدري لماذا تذكرت سالم في هذا الوقت بالذات لقد انتصب في خيالها بعوده الفارع ومعطفه الأبيض وابتسامته الصافية الحلوة هتف على الفور والدموع تبلل عينيها:

- «كيف تقيم الأفراح والرجال خلف الأسوار يتعذبون؟؟»

- كان ذكيا لذا رد قائلا:

- «لا تعارض بين الاثنين هكذا الحياة الناس يموتون والأطفال يولدون كل لحظة وموكب الحياة يسير»

- وعندما لاذت بالصمت وارتسم الارتباك على ملامحها وحركات يديها قال:

- «أهناك رجل آخر؟؟»

- «أجل »

- «متأسف والآن لنتقل إلى موضوع آخر..»

- ومرت الأيام متوترة حزينة إن الأحداث لا تتوقف وتيارها الصاخب يهدر في عنفي والصراع الدائر يتوهج ويملأ الأفق بالدخان الأسود ومع ذلك فقد صدرت قرارات ملفتة للنظر في مصر لقد صدر الدستور المؤقت لعام 1956 وأفرج عن المعتقين الذين لم تصدر ضدهم أحكاما المسجونون من أمثال رزق إبراهيم وبعد الحميد النجار، فقد ظلوا خلف الأسوار يعانون جفاف الحياة وقسوتها ومرارتها ومع ذلك فقد دخلت الفرحة بعض البيوت إن خروج المعتقلين إلى الحياة من جديد أمر يبشر بالخير على الرغم من الشروط القاسية التي وضعتها المباحث العامة للمفرج عنهم فغير مسموح لهم بالانتقال من بلد إلى بلد إلا بعد إخطار المباحث رسميا بذلك، ولا يحق لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين المنحلة الالتقاء أو التزاور مع بعضهم البعض كما صدرت قرارات نقل للكثيرين من الموظفين منهم إلى جهات نائية مع التنبيه بعد توليهم المناصب القيادية كما صدر قانون العزل السياسي بحرمانهم من حق التصويت أو الترشيح للانتخابات العامة وعدم دخول أبنائهم الكليات العسكرية أو الالتحاق بالسلك الدبلوماسي وغير ذلك من الوظائف الحساسة بالإضافة على تشديد الرقابة عليهم وضرورة التدقيق على كل ما يؤلفه كتابهم قبل طبعه..

- وروجت الصحافة المصرية للدستور الجديد المؤقت وأجريت التحقيقات الصحفية المصورة مع كبار الممثلين والفنانين والراقصات عن مشاعرهم عند صدور الدستور وعند اختيار الرئيس كأول رئيس جمهوري منتخب في الاستفتاء الكبير وأشاد المحررون بحياة الحرية والكرامة والاستقلال..

- لكن الشيء الذي لم يخطر لنبيلة على بال قد حدث فعلا كانت تسير في غبش الليل قبيل العشاء عائدة من مكتبها وكانت تسير مسرعة كعادتها ورأسها يدور بالعديد من الأفكار لقد دأبت على إدمان الحوار الداخلي بينها وبين نفسها بعد أن اندمجت في القراءات المتنوعة وكانت تسارع بتسجيل خواطرها وأفكارها في دفاترها الخاصة وكلما تعمقت في القراءة لكما وجدت نفسها في حاجة ماسة إلى المزيد إن حياة الفكرة رحبة لا نهاية لها..

- وفي أثناء سيرها في ذلك الشارع الجانبي الذي تسكن قرب منتصفه أفاقت من شرودها على طلقات رصاص متتابعة وقفت لحظة ودارت بنظراتها في خوف ووجت شبحا يتوارى مسرعا أدركت على الفور بغريزتها أن شيئا خطيرا يحدث جرت بأقصى ما تستطيع من قوة وما أن دلفت إلى الداخل وهي تلهث حتى أخذت تتحسس جسدها لم تكن تصدق أنها قد نجت كيف لم تصيبها رصاصة؟؟ تقاطر اعرق على جبينها ودخلت غرفتها في الطابق الثاني شابة كانت أنفاسها تتلاحق قالت الأرملة التي تسكن معها هي وأولادها الثلاثة:

- «ماذا جرى لك يا ست نبلة. »

- قالت وهي تقذف بحقيقتها وأوراقها على المكتب الخشبي الصغير

- «لا شيء»

- ثم ألت بجسدها على المقعد وسرعان من انفرجت باكية:

- هرولت نحوها السيدة وداد هي وأولادها في ارتباك:

- تكلمي يا ابنتي هل حاول بعض الشباب الطائش اختطافك؟؟

- جففت نبيلة دموعها واستعادت رباطة جأشها ثم قالت:

- «أشكرك كوني مطمئنة لم يحدث شيء مما تفكرين فيه..»

- وبعد دقائق تناولت التليفون ثم طلبت عبد العزيز السيسي وسرعان ما عاد الرجل مع زوجته واصطحباها للخارج وفي بيته روت له نبيلة القصة كاملة كان الأمر خطرا ومحيرا واضح أنها مطاردة سياسية خبيثة في ظل الدستور الجديد وهذا يحدث في بعض الأحيان في كثير من الدول لكن المشكل أن «نبيلة.» لم تستطع أن تدلي بأية أوصاف للرجل الذي حاول اغتيالها وبعد ساعة عقد اجتماع عاجل في بيت عبد العزيز حضره نخبة من الإخوان الثقاة وبعد أن تدارسوا الأمر اتخذوا بضعة قرارات أهمها عدم إبلاغ السلطات الداخلية عن الحادث فقد يكون لذلك أثره في تغيير سياسة الحكومة إزاء السياسيين المهاجرين عموما إلى الدولة لأهم في الكويت لا يريدون أن تحدث مثل هذه الأمور في بلدهم ومن القرارات أيضا انتقال نبيلة إلى مسكن آخر وتكليف أحد الإخوان بحراستها في المكتب وأثناء تنقلاتها وعدم السمح لها بالتنقل وحدها مع اتخاذ باقي الاحتياطات الأمنية اللازمة وعمل التحريات اللازمة نحو ذلك «الشخص المجهول»

- عندما جاء موسم الحج توافد عدد غير قليل من الحجاج المصريين إلى الكويت وكان من بنيهم عدد من الإخوان الذين سبق اعتقالهم استطاعوا بجهودهم الشخصية وبعض الوساطات أن يأخذوا موافقة للحج فانتهزوا الفرصة وتحولوا إلى عدد من الدول العربية ورفضوا العودة إلى مصر وكان لهؤلاء الإخوان الكثير من الأخبار والتقارير التي استقبلها عبد العزيز السيسي ورفاقه بكثير من الاهتمام وعلمت نبيلة بالأمر، فكانت جد مشوقة للالتقاء بهؤلاء الإخوان والاستفسار منهم عن مجريات الأحداث بعد سفرها..

- وأثناء عملها في الفترة المسائية كانت تقرأ كتاب «الإسلام في القرن العشرين» للكاتب الكبير عباس محمود العقاد وكانت تسجل بعض الفقرات في بطاقات صغيرة كانت نبيلة مشدودة بقوة إلى تلك الصفحات التي يتحدث فيها الكتاب عن الإسلام كقوة غالبة وقوة صامدة والأخيرة تصور صمود الإسلام أمام تيارات العداء العالمي والتاريخ الرهيبة وازدياد أنصاره برغم كل ذلك.. وجاءها صوت يقول:

- «السلام عليكم»

- ورفعت رأسها وجدته واقفا قبالتها بهامته الشامخة وابتسامته الصافية هزت رأسها ثم فركت عينيها وهتفت وهي تكاد تتهادى:

- «من الدكتور سالم؟؟ غير معقول.»

- سالت الدموع على خديها صافحا في ود لم تستطع أن تتكلم أدرك أن الموقف قد أغرقها في طوفان من المشاعر الهادرة حاول أن يخفف وطأة المفاجأة فأخذ يقول:

- «دعوت لك الله في البيت الحرام وعلى صدر جبل «عرفات» الحنون وأنا أصلي المغرب والعشاء قصرا في المزدلفة وفي المشاهد الخالدة في كل مكان طاهر مقدس..»

- يبدو أن كلماته أتت بنتيجة عكسية فقد انفجرت باكية بحرقة حاول أن يمزح فقال:

- «وكنت أقذف الشيطان بالجمرات وصورة عطوة الملواني وسادته الطغاة تنتصف في خيالي خيل إلى أن إحدى الحصوات ارتدت وأصابت عينه..»

- وأخذ يضحك وأخذت هي الأخرى تضحك والدموع في عينيها وسادت فترة صمت دقت نبلة الجرس ودخل أحد العاملين بالمكتب حاملا القهوة ثم قالت نبيلة:

- «كيف حال أبي..»

- بدا الألم على وجهه حاول أن يهرب من نظراتها فلم يستطع وحاول مرة أخرى أن يقول كلمات غير حقيقية فلم يطاوعه لسانه وفي لحظات قرأت كل شيء على وجهه هبت واقفة خلف مكتبها ثم استدارت نحوه وأمسكت بكتفه قائلة:

- «أريد أن أعرف الحقيقة..»

- غمغم:

- «كلنا في نفس الطريق سائرون والبقاء لله وحده..»

- ولم تدر نبيلة ماذا جرى لها بعد ذلك وعندما فتحت عينيها وجدت الموظفات العاملات بالمكتب إلى جوارها والدكتور سالم واقف بالباب، وكانت الزميلات يمسحن على وجهها ورأسها ويخففن دموعها..

- بعد أسبوع التقت نبيلة بالدكتور سالم الذي شغل وظيفة طبيب بمستوصف حولي بالكويت كانت الساعة قد شارفت الثانية بعد الظهر، وركبا سيارته الجديدة قال ببساطة وهو ينطلق مسرعا:

- «شكرا للأستاذ السيسي فقد أقرضني ثمن هذه السيارة..»

- ثم التفت إليها قائلا:

- «على فكرة لقد دعاني على مائدة الغداء اليوم وأخبرني أن أحضرك معي ولهذا كلمتك في التليفون..»

- وسادت فترة صمت كان جسدها يرتجف برغم الحر الشديد وبأسلوبه البسيط نفسه استطرد:

- كلمت أباك قبل أن يختاره الله إلى جواره..»

- «فيم»

- ابتسم ثم قال:

- «قال لي لا مانع لدي بشرط أن توافق نبيلة..»

- «لا أعرف عما تتحدث..»

- وفجأة أخذ يقهقه وشاركته نبيلة الضحك ومال نحوها قائلا:

- «ألا تقبلين الزواج مني.»

- قالت:

- وكيف أتزوج معزولا سياسيا؟؟

- قال:

- «وماذا يفعل المعزول السياسي؟؟»

- قالت:

- «لا أدري»

- «يتزوج معزولة مثله.

- وأخذا يضحكان من جديد

- وقال سالم:

- «وعبد العزيز السيسي في مقام أبيك وأبي..»

- طأطأت رأسها قائلة:

- «أجل»

- عاد يقول:

- «وسنبدأ معا من جديد رحلة أخرى»

- ردت قائلة:

- «لقد بدأنا منذ التقينا أول مرة..»

- «وأنا لا أخف المستقبل الخوف من الغد موت وعذاب لقد أسدل الستار على فصل واليوم نبدأ قصة جديدة»

- هزت رأسها قائلة:

- «نعم فالأسوار والأسلاك الشائكة لم تزل هناك والكلاب المسعورة تنبح وصراح الضحايا مازال صداها يطن في أذني..»

- غمغم:

- «الأيدي التي بنت الأسوار تستطيع أن تهدمها والكلاب عمرها قصير وهي ليست مشكلة لأنها حيوانات مسخرة أما الضحايا فهم أحياء عند ربهم يرزقون وإيمانهم بالنصر كإيماني بالله لأنه سبحانه هو الذي وعدنا به...»

- «أشعر بجوع شديد..»

- قال وهو بيتسم:

- «وأنا أيضا..»

- تمت

شخصيات القصة

- عطوة الملواني: قائد السجن في الخامسة والثلاثين من العمر.

- نبيلة عبد الله: مدرسة تاريخ – خطيبة عطوة- في حوالي الرابعة والعشرين من العمر

- محمود صقر: شاب معتقل في الإخوان المسلمين في السجن الحربي.

- الباشجاويش ياسين: سجان بالحربي..

- أمل: الفتاة التي يحبها محمود.

- رزق إبراهيم

- معروف الحضري.

- دكتور فتحي العجمي.. معتقلون بالحربي..

- يوسف

- عبد الحميد النجار

- سلوى أحمد عبد العزيز الصافي: زوجة إخواني مطلوب القبض عليه يدرس الدكتوراه في ألمانيا.

- عبد الله: رجل على المعاش والد نبيلة

- زكية: أم نبيلة.

- الدكتور سالم: طبيب بأحد أحياء القاهرة .

- طبيب السجن الحربي.

- قوري: معتقل يهودي.

- وفاء: فتاة وضعت رهن التحقيق بالحربي.

- ضباط مخابرات ومخبرون سريون.

- فريد بك: محقق من ضباط الرئاسة لكنه كان من الإخوان في صدر شبابه.

- يحي بك: محقق ضابط بالسجن الحربي.