رسائل من السجن

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
رسائل من السجن


سمير الهضيبي

إهداء

- إلى الذين حطمت قلوبهم تصاريف الحياة………….

- إلى الذين يحملون كنوز هذا العالم في قلوبهم، ويعيشون بين الناس لا يدري بهم أحد... لا يعرفون إذا حضروا ولا يشار إليهم بالبنان........

- إلى الذين استضعفوا فهان أمرهم على الناس وقال مستكبروهم إنما هم أراذلنا بادي الرأي.

- إلى الذين تمتلئ قلوبهم بأحلام النقاء والطهر والفضيلة والسعادة.

- إلى الذين شرفهم خالق هذا الكون بأن يعيشوا بأفكارهم وأحلامهم وصلواتهم معه كثيرا من لحظات عمرهم.

- إلى منكسري القلوب..لعل فيما كتبت بعض العزاء.

.....أما الجلادون والجبارون فقد سامحتهم وغفرت لهم..لعلهم يستشعرون التوبة والندم عما اقترفت أيديهم لكي يعرفوا طعم السكينة والأمن والسلام...

سمير الهضيبي.

الرسالة الأولى

مريم.......أيتها الحبيبة

يا حلم طفولتي وصباي وشبابي..أحقا قد كبرت الآن، وأصبح يأتي إلى بيتكم الخطاب؟

...آه.. لم يزل ليلي بعيني طفلة

لم تزد عن أمس إلا إصبعا

...هالني أن أسمع بأن الأهل يبحثون الأمر بجدية، كأن شيئا كهذا يمكن أن يحدث كأنهم لا يعرفون بحبي لك، أو كأن حبي لك أمر غير ذي بال يمكنهم أن يتجاوزوه، وأنت كيف تسمحين لهم بذلك؟ أعلم أنك ترفضين خطيبك ولكن كيف سمحت من البداية أن يأتي لزيارتكم؟ أن يجلس معك؟ أن يتعلق بك؟ أن يوافق على كل طلبات أهلك ورغباتك؟ ثم تقولين إنك ترفضينه!!

... ألا تعرفين يا حبي، أنك لا تغيبين عن خاطري، كلما رأيت فتاةً، أو حلمت بفتاة؟ كنت أنتي التي تملئين خيالي.. كلما ارتديت لباسا جديدا أو جميلاً تمنيت أن تريني، كطفل لا يحس بالفرحة إلا بعد أن يراها في عيني أمه! كلما خلوت إلى نفسي، أو هجعت إلى فراشي. كنت رفيقة أحلامي وآمالي.. لم أعرف أحلاما تخلو منك... لم يكن لي آمال إلا كنت جزءا منها .. أصبح حبك أمرًا بدهيًا يفرض وجوده على حياتي منذ الصغر، حتى أصبحت أنظر للأمر على أنه من المسلمات، كأنك قد أصبحت لي فعلاً!!

... وهأنذا اليوم أصحو على حقائق تفزعني، توقظني من أحلامي، فأنت قد كبرت وأهلك يطلبون لك الزواج، وأنا أقف بعيدا تملؤني الحسرة لا أملك حتى أن أقف بجانبك، أتركك تقاومين التيار وحدك.

... مريم .. أيتها الحبية.

أريد أن تتأكدي من حبي لك.. أنت تسيطرين على أفكاري .. تشعلين في قلبي نارًا من الشوق تتحول إلى بحار من الفكر.. تجعلين روحي تحلق بحثا عن أشياء خالدة.. لا يصبح لصغائر الحياة معنى يستحق أن أقاتل من أجله.. حبك يجعلني أبحث عن شيء باقٍ لا يزول.. يدفعني للتأمر، للبحث للمعرفة، يصنع بي شيئا لا أدرك أبعاده، ولكنه يكشف لي أحيانا عن جانب مأساوي في الحياة.

.. أكتب لك أيتها الحبيبة للمرة الأولى، رغم أن حبي لك مضت عليه سنوات كثيرة، حتى أني لا أذكر متى ولا كيف بدأ كل ما أذكره أنني منذ طفولتي وأنت تحركين شيئا في قلبي!!

..أكتب لك محاولا أن أتشبث بك، فلا حياة لي بدونك، كل ما أطلبه منك أن تنتظريني لا تتعجلي الزواج، فما زلت صغيرة .. كان علي أن أنتهي من دراستي هذا العام وأتقدم لخطبتك، ولكن أرجوك أن تلتمسي لي بعض الأعذار...

.. هل تذكرين يوم أخبرتك بحبي أول مرة؟ ... كنت جالسة وحدك في حجرتك، وأنا أنطق بكلمة الحب لأول مرة، وأنت تنظرين إلى بعينيك المنبهرتين، وأنا ألتقط صورتها لأحتفظ بها في قلبي، وأخذت بيدك أقلبها كنت متأثرا بقصة الفرسان الثلاثة وما شابها دائما كنت أعايش ما أقرأ، وأستغرق فيه وأتمثله، لم يكن عمرك يومها قد تجاوز الثالثة عشرة.. أتعرفين من كان ينتظرني تلك الليلة أسفل بيتكم لأحكي له قصة اعترافي بحبك؟ أنه صديقي يحي، صديقي الذي تلومونني في صحبته، صديقي الذي كان اكتشافه أحد المنحيات الهامة في طريق حياتي...

.. دعيني أحدثك عن حياتي.. تعرفين أنني قضيت فترة الدراسة الثانوية في إحدى مدن الوجه البحري، كان لي مجموعة أصدقاء هم أبناء شارع لطفي، فقد كان أبناء كل شارع يشكلون جماعة مميزة، وكثيرا ما تحدث معارك صغيرة بين بعض أبناء الشارع وأبناء شارع مجاور فنسرع جميعا لنجدتهم .. لم يكن يشغلنا إلا الاهتمام بالقوة البدنية والقدرة على المشاجرة والانتصار في هذه المعارك، لذلك فقد مارست الرياضة في سن مبكرة لأعوض صغري في السن، فقد كنت أصغرهم سنا وأضألهم حجمًا، وكانت أفكار المراهقة هي شغلنا الثاني، فكنا نغار على بنات الشارع، ونعيش قصص حب وهمي معهن، وكانت أفلام العنف والبطولة هي مرتع أحلامنا. كان هذا هو عالمنا صداقة تنم عن طيبة وأصالة المجتمع الذي نشأنا فيه وجهل وضيق أفق يعبران عن تخلف شعب وتأخره.

... كنا صغارًا تبهرنا المعارك بين الكبار من أولاد الحي، فكم كان كبيرا في أعيننا ابن الشارع الذي ضرب وحده مجموعة من الشباب، وقد دخل بعدها المستشفى لإصابته بارتجاج في المخ، وكنا ننظر بإعجاب لقوة رفيق آخر وضخامته ونحكي أنه عاد للبيت متأخرًا جائعًا، فكأكل حلة أرز كاملة، كانت أمه قد أعدتها لغداء اليوم التالي.

.. كانت هناك تيارات سياسية ولكنها كانت بعيدة إلى حد منا عنا، فقد كان أحد أقربائي يأتي لزيارتي في المدرسة ويستدعيني من الفصل ليتحدث معي عن الإخوان المسلمين ، وأنني يجب أن أذهب إلى الشعبة، لكي أصلي وأسمع الأحاديث وأمارس لعبة البنج بنج، وقد ذهبت بالفعل عدة مرات، ولكني لم أتأثر بشخصية قريبي هذا، فقد كنت انظر إليه كرجل ريفي طيب.

- وهو الآن هارب من مصر فقد حكم عليه بالسجن المؤبد في محاكمات الإخوان ويعيش حاليًا في سوريا.. في المدرسة كانت تدور معارك كبيرة بين الطلبة والشرطة، وأحيانا بين شباب الوفد وشباب الإخوان.. كان البعض يتعاطف مع الإخوان والبعض مع الوفد، وجماعة أخرى انضمت إلى هيئة التحرير، ولكن كما قتل لك كانت هذه التيارات السياسية بعيدة إلى حد ما عن شارعنا لذلك فقد ظللت أعتقد بعد أن فكرت في ذلك مليًا، أن شارعنا كان يمثل الشارع المصري أصدق تمثيل.

.. حينما بدأت اعتقالات الإخوان جاء ضابط وبعض المخبرين إلى بيتنا، ليفتشوا عن أسلحة لصلة أبي بمرشد الإخوان وطبعا لم يجدوا شيئا، وقد كانوا مهذبين جدًا، ذلك أن والدي –يرحمه الله- كان شخصية ذات هيبة، وكان بعيدًا عن السياسة وقد لا تعلمني أن قد دخل المعتقل سنتين في مطلع شبابه، حينما كان يدرس بالجامعة لاتهامه الاشتراك في تنظيمات ضد الإنجليز وقد خرج من المعتقل وقد طلق السياسة تمامًا، لما لاحظه من فرق كبير بين لمعاملته في معتقل مصر ي، لا قيمة فيه لكرامة الإنسان، وبين ما لقيه من كريم المعاملة بعد أن انتقل إلى المعتقل الإنجليزي الذي كانت تقدم له فيه لائحة ليختار نوع الطعام الذي يريد تناوله فخرج من المعتقل، وهو يعتقد أن المشكلة ليست في وجود الإنجليز ولكن في انعدام الأخلاق عندنا، وعدم احترامنا لأنفسنا وكان هذا أول درس تعلمته في السياسة.

.. أحببت أصدقائي، ولكن كان هناك حاجز في أعماقي يفصلني عنهم يمنعني من أن أكشف لهم عن دخيلة نفسي، كانت تصدمني لمحات قسوة تبدو أحيانا في سلوكهم فقد كان يحلو لبعضهم أحيانا أن يسخر من فلاح جاء للمدينة يوم السوق فيخطفون غطاء رأسه ويتقاذفونه فيما بينهم بين حيرة الرجال وذلته، أو قد يحلو لهم أحيانا أن يضايقوا أحدهم مستضعفين له حتى يكاد يبكي بينهم، كان القوي يتباهي بقوته والغني لا يخجل أن يفتخر بغناه شاهدت أحدهم مع امرأة ساقطة يمارس معها الحب في شارع خلفي مظلم وهما واقفان، فبدا منظرهم لي أشبه بزوج من القردة.. كان في شارعنا مبنى مهجور كثرت حلوه أحديث الجن والعفاريت والأشباح لذلك كنت أشعر بخواء روحي ولا أجد متعة حقيقية إلا في قراءة قصص المغامرات والفروسية والقصص البوليسية، كنت أجد كذلك راحة في الصلاة، ولكن لا أدري لماذا لم تنظم صلاتي في هذه الفترة كثيرًا.

.. ثم قابلت يحيي.. شابا فريدا من نوعه، في مثل سني تقريبا وإن كنت أسبقه في الدراسة كان نمطًا جديدًا، هادئ الطباع، شغوفًا بالقراءة، يتكلم في السياسة وفي الدين، شديد التأثر بشخصية «حسن البنا» يتكلم عن الإصلاح وعن التاريخ.. وجدت فيه الصداقة التي أنشدها أكتمل لروحي جناحيها الحب والصداقة، شاركني أحلامي عن الفروسية والبطولة، وجدتني أحدثه عن حبي لك، أكشف له عما في قلبي، كان يحب أن يستمع إلي، كان هناك شيء ما يبهره في تصرفاتي، سمعت منه أن أحد الشباب يضايقك، دلني عليه، ظل يرقبني في سعادة وأنا أضربه لم يكن هو قد تشاجر مع أحد من قبل كان ثقافته وظروفه المادية الصعبة تعطيانه شعورا بالاستعلاء على أقرانه، ولكنني لمست فيه فيلسوفا صغيرا ما زال في سن الأوهام والأحلام.. كنا كغريبين التقيا في أرض غربة فأتنس كل منهما بالآخر، كان هناك نوع من التواصل الخفي بين روحينا كم قضينا من أمسيات نتحدث عن عظماء التاريخ ونحلم بالمستقبل.

كنت يا حبي شريكتي في كل أحلامي لم أتصور مستقبلا أعيش فيه بعيدًا عنك، تطل صورتك على من كل مكان يتملكني حبك ويملك على حواسي.

.. أكتب لك لعلك تلتمسين لي عذرا فيها جنيت، كان علي أن أنتهي من دراستي هذا العام لكي أتقدم لخطبتك، ولكنني تعثرت في دراستي بالجامعة كان علي أن أكثر من زيارتكم وأن أعلن للجميع حبي لك، وأن أكتون مقنعًا للأهل عندي وعندكم في مطلبي بالزواج، ولكن ماذا حدث؟ تعثرت في دراستي وأنا ي خلاف دائم مع أمي بسبب سهري خارج البيت وإتلافي للمال وعدم اهتمامي بدراستي وانشغالي بالأصدقاء..

لم أعد الشاب الناجح الذي ينتظره مستقبل مشرق، فأنا في نظرهم أركب المخاطر وأتكلم بعظائم فأخوض في السياسة وأرفض الواقع وأتكلم عن التغيير في الحياة والمجتمع والحكومة.. وهذا ما لا يحمد عقباه.. ..أعرف يا حبيبتي أن ما أنا فيه يباعد بيني وبينك، فأنا أعرفك حفيظة على التقاليد، يؤثر فيها ما تسمعه من الأهل والأصحاب يصعب عليها أن تسلك سلوكا لا يقره مجتمعها تريد من حبيبها أن يكون مقبولا من المجتمع ينال حب الناس واحترامهم يمكنك أن تتجاهلي عواطفك وترفضينها إذا ما تعارضت مع ما تطلبينه.. تذكرينني بليل العامرية التي رفضت قيسا لأنه شبب بها، ومجتمعها يعتبر زواجها عارًا بعد ذلك التشبيب.

.. ولكني صدقيني يا حبي، أنني عاجز عن أن أفعل ما يرضيك، أنا عاجز عن أن أشق طريقي في هذا المجتمع وتحت هذه الظروف.

.. قد لا تدركين مدى انزعاجي من الحكم البوليسي الذي ابتلينا به فقد بدأت أدرك ذلك عندما طلبت إلى وزارة الداخلية ليسألني الضابط عن أحد الأصدقاء ثم نزلت إلى بدروم الوزارة وصاروا يصورونني عدة صور أمامية وجانبية، كما يفعل عادة بالمجرمين. .. كان هذا الصديق زميلا في الجامعة وهو شاب سوري، ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين ، عرف اسمي فجاء لمقابلتي ليخبرني أن قريبي الهارب من مصر ، يعيش بينهم في سوريا وأنه يريد أن يزور أهله فأخذته إلى بلدتنا وعند عودته قابله أحد المرشدين السريين ولما كان صديقي «مروان حديد» شابا شديد التدين، تتملكه روح دينية عالية، ورغبة جامحة في طلب الشهادة، لم يكن يهاب أحدًا وكان يتكلم مع الجميع عما يؤمن به، لذلك فقد وجد المرشد ما يكتبه لرؤسائه عن مروان، وسرعان ما قبض عليه، ولولا أن كان أهله من علية القوم في سوريا، لم تدخل السفير السوري فورًا للإفراج عنه بعد ثلاثة أيام.

.. قد تقولين: وما الذي يزج بك أنت في مثل هذه التيارات؟ أقول لك: إن ذلك قدري، فإنا أرى الشباب العربي الذي يدرس معنا بالجامعة يتكلمون في السياسة بلا خوف، والشباب المصري يهرب من مثل هذا الحديث كما يهرب من الطاعون، كطفل أو ذي إيذاءً بالغًا على أمر فعله، فأصبح يخاف من مجرد تذكرته به.

.. قدري أن أدرك أن «جمال عبد الناصر » الذي يعتبره الجميع بطلا وزعيما عملاقًا ليس سوى دجال كذاب جبان استطاع أن يخدع أصحابه، ويتخلص منهم واحدًا بعد الآخر، قد ساعدته المخابرات الأمريكية والصهيونية على ذلك أعلم أنني أتلكم بعظائم في نظرك ونظر الناس، ولكن صدقيني أن هناك كثيرين يرون ما أرى. ... حبيبتي مريم.. أرجو أن تتريثي.. لا تفقدي إيمانك بي..أنت ما زلت صغيرة، لا تتعجلي الزواج.. سأحقق لك كل الأحلام.. خطيبك شخص عادي، لن تأنسي به، ستلقين بنفسك في الشقاء بسبب لحظة يأس قد تمرين بها.. وما زال الأمل أمامنا مشرقا يا حبي لن تجدي من يحبك مثل حبي الكبير سأكتب لك ثانية، دعواتي لك أيتها الحبيبة.

ع. م.

مصر الجديدة يوليو سنة 1960

الرسالة الثانية

حبيبتي مريم... أكتب إليك وفي قلبي ألم يوجعني أشعر بالإحباط، لا أدري ماذا يمكنني أن أصنع؟ كأنما كتب علي أن تكوني أنت عذابي، لا حيلة لي في الأمر كأنني غريب بين أهلي، ولدت في غير زماني.. أنا لا ألومك، ألتمس لك كل الأعذار، أعرف أن في أعماقك شك في أنني سأكون لك يومًا تظنين أنه يصعب عليك أن تكوني المرأة التي أريدها.

ولكنني أعرف أيضا أنه لا سعادة حقيقية لك إلا معي، قد يكون مستقبلنا محفوفا بالصعاب، ولكن روحك العظيمة لا يمكن أن ترضى بحياة رتيبة صغيرة تافهة، روحك تطلب من الحياة الأشياء الكبيرة والعميقة، وإن كانت تلفها المأساة.

... انظري خيوط المأساة في قصتنا، أهلك يتجاهلون حبي لك، يطلبون مني أنا أن أقنعك بقبول الخطبة، وأنا أنفرد بك لأعرض عليك الزواج مني، فيبدو الأمر كأنما أفعل ذلك لأنقذك، فتردينني شاكرة، كأنك لا تعلمين بمدي حبي لك، كأنك تعاقبينني على تخاذلي وضعفي، كأنك تقولين لي بقسوة: اترك مسألة في قصتنا، أهلك يتجاهلون حبي لك، يطلبون مني أنا أن أنعك بقبول الخطبة، وأن أنفرد بك لأعرض عليك الزواج مني فيبدو الأمر كأنما أفعل ذلك لأنقذك، فتردينني شاكرة، كأنك لا تعلمين بمدى حبي لك، كأنك تعاقبينني على تخاذلي وضعفي، وكأنك تقولين لي بقسوة: أترك مسألة الحب جانبًا، هل أنت جاد في الزواج؟ وماذا أعددت له؟

..أنا يا حبيبتي لا يمكن أن أتزوج بهذه الطريقة أنا محتاج أولا أن أشعر بإيمانك بي، وحبك لي قد تأخذين على أمورًا كثيرة، قد لا يرضيك ما أنا فيه، ولكن هل كنت أطلب ذلك إلا من امرأة عظيمة مثلك؟.

صدقيني أنا في آلام المخاض، أمر بصراع فكري عنيف، نفسي كبر كان مضطرب، ولكن سيكون كل شيء على ما يرام يوما ما، صدقيني أن طموحي كبير يحقق كل ما تحلمين به وأكثر ولكن كيف تصدقين؟ إن كلامي في نظرك مجرد أوهام.

دعيني يا حبيبتي أفتح لك باب قلبي لتلفحك النار المشتعلة بداخله، لتعرفي كم أتعذب! روحي في صراع عظيم بين أحلام القوة والكبرياء، والسلطة والإرادة، وبين أحلام العظمة والسلام والحب والألم.. بين أن أحمل مشعلا للنور يضيء الطريق للآخرين، وآخذ بيد المنسحقين لكي يواصلوا سيرهم على الطريق.

... أستغرق في أحلامي الشريرة، فأحلم «بنابليون» وكيف كان حبه الشديد لذاته، سر إرادته التي لا تعرف المستحيل في سبيل تحقيق ما يريد، أحلم به وبعشيقاته وانتصاراته، والمجد الذي أعطاه له الناس.. أثارتني شخصية «هتلر» أحسست أنني لو سرت في طريق الشر سأكون مثله . في نوع من أحلام اليقظة جاء إلى الشيطان وأغراني أن أصبح زعيما «كهتلر» قال لي: أنت لا يمكن أن تكون «كنابليون» لأنه من النوع المتمرد، الذي يعبد ذاته ولا يقيم وزنا للشرائع والقوانين...

ولكنك تشبه «هتلر» في أعماقك نار محرقة، لهيب متقد، شقاء روحك يمكن أن يلهب حماس الجماهير يمكن أن يحرق العالم.. إن أعظم زعماء التاريخ أثرا هم الأشقياء، الذين دفعهم شقاؤهم العظيم إلى إحراق العالم إلى التغيير قلت له: ولكن أني لي بشعب كالشعب الألماني، يملك مثل هذه القدرات الكبيرة على التصدي للعالم؟ فالشعب العربي الذي أنتمي إليه.. شعب مريض في مرحلة تاريخية شبيهة بالنعاس، كلماتي مهما كانت محرقة لن تكفي لإيقاظه فضا عن أن تملأه بالحماس قال لي الشيطان: لا أنا أعرف ما تقول سأذهب بك إلى الصين وستنضم إلى الحزب الشيوعي الحاكم، وما هي إلا سنوات ويبزغ نجمك، سأساعدك، ستجد من الشعب الصيني كل الحماس الذي تريده، ستقف به أمام العالم كله.

..أفيق من أحلامي الشريرة، فأرى «هتلر» رجلا حقودًا، ضعيف النفس فاضت روحه بالشقاء على كل من حوله، ما كان أجدره وهو الذي يملك إحساس الفنان، أن يملأ قلبه بالحب، ويصبر ويغفر لمن حوله، ليضيء الطريق لنفسه ولهم.. هل تعلمين يا حبي أنك المنارة التي أهتدي بها في طريق حياتي؟ هناك تواصل خفي بين روحي وروحك، أعرف أن روحك تنفر من أمثال «هتلر» مثله لا يثير اهتمامك، لا يجد منك إلا الاحتقار، أنت تريدين رجلا بسيطا قويًا، له سلطان حتى وهو بعيد عن السلطة يعجبك رجل كالمسيح، وأنا شديد الإعجاب به، يسألونه باستهزاء أنت ملك اليهود فيجيب: أنت تقول:

.. كان ملكًا أعظم من كل الملوك، سر إعجابي الشديد به أنه بعث إلى قوم أشبه ما يكونون بقومنا، قوم سحقهم ضعف نفوسهم وحرصهم على الحياة أي حياة قوم عبدوا القوة والسلطان المادي فضلوا «باراباس» على المسيح.

.. من كثرة هذا الصراع يا حبيبتي ..أحسست يوما أن قلبي قد مات، قلت ذلك لأصدقائي، فسخروا مني وقاموا يعزونني في الفقيد، وأنا أبتسم ولكني أحس فعلا أن قلبي قد مات، وأنه ليس بي أي رغبة في الحياة . انكببت على القراءة قرأت مذكرات «نهرو» وأعجبت بقصة تجاربي مع الحقيقة «لغاندي» فصمت سبعة أشهر لأتناول إلا الخبر والجبن رغم أطايب الطعام التي أراها أمامي وقد ذاع جنوحي هذا بينكم ولا شك.. لقد أعجبت كثيرا «بغاندي» وروحه العظيمة، ولكن لم أستطع أن أستسيغ حياته، أحسست أن هناك نقصًا ما، رأيت فيه روحًا سلبية، فكل ما يعجز عن والوصول إليه يجبر نفسه على الاستغناء عنه، إنه لم يحاول أن يغير من طبيعة الناس والمجتمع من حوله، ولكنه قادهم ليتكيفوا مع العالم المحيط بهم، محققًا لهم ما حققه لنفسه من حرية أن تستعبده الشهوات والأشياء ولكنني أدرك أن هذا لا يؤدي إلى انبثاق حضارة، فشتان ما بينه وبين المسيح.. المسيح يقول: ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا.. المسيح أشعل عشق النور والسلام والمحبة في نفوس أتباعه، فلم تكن رسالتهم أن يتكيفوا مع الحياة بل أن يغيروها وإن ذهبت حياتهم فداء لذلك.

تلك هي يا حبيبتي.. المعادلة الصعبة.. أن تكون طيبًا وقويًا.. قال لي قريب في مناقشة حول عبد الناصر: دعك من هذا ألا ترى إلى الرجل يتكلم بقوة، ويفعل كل ما يريد إنه مثال للقائد العظيم إنني لا أحب الكلام أحب الأفعال.

... انظري... الجميع يعبد القوة، يحب «باراباس» في السينما يصفقون ويبتهجون لملك الترسو، فريد شوقي لأنه مثال للمجرم القوي البلطجي يثير إعجابهم بقدرته على فعل الشر رغم أنهم يفرحون في النهاية لانتصار الخير .. شعب طيب ولكنه يملك عقلا فاسدًا ضعيفا.. ألتمس بعض العذر لقول العقاد اللاذع: لو عرض على الشعب المصري في سوق الشعوب لاشتريته بمليمين، واعتقدت أني مغبون.

.. حبيبتي مريم.. أنت أميرتي المسجونة في قلعة عالية تحرسها الشياطين، وأنا على إنقاذك لأنقذ نفسي من الضياع.. آه من الضياع !!

أشعر بالضياع وفقدان الذات أفكر كثيرًا بالموت . بعد قراءتي «هاملت» ذهب إلى المقابر، كان معي رجلا من القرية، جعلته ينتظرني عن بعد، وبحثت عن مقبرة مفتوحة رأيت مقبرة جديدة لم تستخدم بعد، فدخلت فيها وتمددت متصورا الموت كان الصمت والظلام يلفاني في هدوء مخيف هل يمكن حقا أن تكون هذه هي النهاية؟

وحيدًا يتحلل جسمي تمتصه دواب الأرض حاولت أن أستشعر هذا المعنى بعمق .. هل هذا ما حدث لأبي، ولكل من فقدتهم من معارف وأحباب؟ هل هذه هي نهاية كل الآباء والأجداد والأنبياء والزعماء والأغنياء والفقراء؟ ما هذا العبث؟ هلي الحياة مسرحية نمثل فيها أدوارنا ببراعة ثم يسدل الستار؟ أحقًا هذا هو مصيري بعد يوم أو أيام أو سنوات؟ ستكون هذه نهايتي لا محالة.. كيف؟ لم أستطع أن أدرك ذلك الإدراك الذي يتناسب مع الحقيقة الوحيدة التي لا يختلف عيها أحد لعل نور الحقيقة أكثر إبهارا مما تحتمله عيوننا الضعيفة.

أذهلتني هذه التجربة، زادتني بعدًا عن الواقع صرت أكثر التفكير فيما بعد الموت، توقف «هاملت» عند الموت فرأى أفعال الناس دنيئة خالية من الشرف لا تتناسب مع النهاية التي تنتظرهم فظل يبكي على الشرف المفقود والفضيلة الغائبة، والمروءة الضائعة، ويلعن شرور الناس ومفاسدهم.. ولكنني لم أستطيع أن أتوقف عند الموت، أفكر كثيرا فيما بعد الموت، أي عذاب يمكن أن يعيشه الإنسان إذا أدرك أن حياته كلها عبث في عبث؟ وأن الموت نهاية كل شيء ولا شيء بعد ذلك. وأنه لا جديد تحت الشمس وكل شيء هو قبض الريح، وما نحن إلى شخوص تتكرر عبر الأجيال.. آه يا له من ألم حارق ينتابني لمثل هذه الأفكار! .. نقلني التفكير في الموت، إلى قضية أخرى، لابد من وجود إله، خالق لكل هذا الكون يعرف كل الحقيقية، يعلم كل الأسرار.. ولكن كيف يمكن أن يتحقق لي الإيمان بالله؟. أنا أعرف كما يعرف الناس أن هناك إله، هذا شيء لا ينكره الناس عادة حتى الكفار ﴿ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله... ﴾ ولكن!! المسيح يقول لتلاميذه: «لو كان في قلب أحدكم مثال ذرة من إيمان يقول لهذا الجبل تحرك يتحرك» معنى هذا؟ معناه ما أحس به الآن كلنا يتحدث عن الله وعن الآخرة وعن الجنة والنار؟ ولو أن أي فرد منا يصدق حقا أنه سيموت بعد حين، وأنه بعد ذلك إما خالدًا في نار تحرقه، أو في جنة له فيها كل ما يشتهي لكان له سلوك في الحياة مختلف تمامًا.


.. ألم أقل لك: إن قلبي قد مات؟ إنني مقتنع تمامًا بسلامة تفكيري، ولكنني عاجز تماما أيضا عن الإيمان أو من فقط بعقلي: أنه لا بد من وجود إله، لا يمكن أن يكون الإنسان ولا الكون خالقًا لنفسه، لابد من وجود قوة خالقة، مدركة حكيمة، يعجز عقل الإنسان عن تصورها، هي التي تقف وراء كل هذا.

أكتب لك هذا لتعرفي مدى عذابي وفي أي بحار متلاطمة الأمواج أعيش..أدرك أن ما أنا فيه قد يبعدني عنك، ولكن أملي أن عقلك الراجح الكبير سيجد سبيلاً يلتمس لي فيه الأعذار في محنتي .. أعدك يا حبي أنني سأخلص مما أنا فيه، منبثق منه، كل ما نعرفه من حب وحنان ورحمة ورأفة وشفقة، وهو مصدره، لذلك أطمع أن يرحمني ألا يتركني لعذابي طويلا.

حبيبتي مريم.. ألا يمكن أن تضعي حدًا لهذه المهزلة.؟ أن تسدلي الستار على تمثيلية الخطبة هذه، تحرقني الغيرة وأنا أتصورك جالسة مع هذا الخطيب تتبادلان أي حديث أعرف أنه رجل طيب، خاضع لكل ما تطلبين، ولكن بالله عليك كفي عن ذلك، كفي ما يسببه لي ذلك من آلام ..أنا أحبك ولا يمكن أن أعيش محرومًا منك أنا روح هائمة لا يربطها بالحياة إلا أنت لا يردني إلى الواقع إلا حبك.

..أحبك، أحبك فيك المرأة الفاضلة، صدرك ينطوي على تدين كبير، تختزنين الدين ككنز في أعماقك، تتنفسينه، ترين الحياة من خلاله، حب الله في قلبك شيء فطري، واقع لا يحتاج إلى تفكير أو بحث، حرارة تدفئ قلبك.. أحس كأنك قديسة ضلت طريقها إلى هذا العالم البائس فهي غريبة حتى بين أهلها.. أحس أنك جارية مستعبدة، تتعذب روحها في الأسر فتحلم بأرض جديدة تجد فيها ما تستحق من تقدير، تعيش فيها كملكة بين وصيفاتها.

...أتعرفين يا حبي، أنني أحلم بأنني الفارس الذي جاء لإنقاذك؟ جاء ليحملك إلى مملكته، لينصبك ملكة عليها، لتنحني لك رؤوس الرعية، يا ملاكي الطاهر، يا رمز الفضيلة والعفاف، يا حلم الطهر والنقاء لن يضيعنا الله أبدا...انتظريني سآت إليك.. قد أتأخر قليلا ولكنني آت لا محالة. يا حبي.. قلبي ميت ولا يصلني بالحياة إلا خيط واحد و أنت، هو حبك، بالله عليك لا تخذليني، اصبري قليلا فسيكون كل شيء على ما يرام.

مصر الجديدة أغسطس سنة 1960

الرسالة الثالثة

مريم أيتها الحبيبة....

أهنئك على خطوبتك .. أتمنى لك حظًا سعيدا، وأن تعيش مع زوجك في سلام.. أما أنا فلم أعد أهتم بشيء . الحياة كلها تبدو لي عبثا مضحكا .. أصبحت إنسانا منهزمًا.. كيف أطلب منك أن تؤمني بي، وقد فقدت أنا إيماني بنفسي، لقد حطمت نفسي عن عمد. كأنما كرهت كياني الذي صنعه مجتمعي، حطمت الصورة التي حلم بها أهلي لي، كرهتها، أنا أبحث عن شيء آخر.. كنت طالبًا متفوقًا في دراستي الثانوية، وانتظر الأهل دخولي كلية الطب لأصير طبيبا، ولكن القدر تدخل فمرض والدي قبل الامتحان بشهرين، وكانت هذه الفترة هي أهم فترة لدى الطالب، ليستعد فيها للامتحان حيث نتوقف عن الذهاب إلى المدرسة ونذاكر الليل والليل والنهار، أصبح البيت مزارًا للأهل يعودون والدي المريض، والأم أصبحت في حالة يرثى لها، فالأب فاقد للوعي وحالته خطيرة حتى نصحني الأهل بعدم دخول الامتحان ولكنني دخلت وحصلت على مجموع صغير لا يؤهلني إلا إلى دخول كلية الزراعة وقد حاول خالي أن يقنعني بالسفر إلى ألمانيا لدراسة الهندسة، ويغريني بالمستقبل العظيم الذي ينتظر العائدين من هناك، ولكنني فضلت البقاء مع أمي وإخوتي الصغار وأبي المشرف على الموت .. لم أكن بطبعي أقيم وزنا كثيرًا للمستقبل المادي الذي بشرني به، أو لعلني لم أكن أفهم الحياة كما يجب .. كانت روحي تنمو بسرعة وبصورة مبكرة، وكانت بكل أوجاعها تتطلع إلى الحب، حب المرأة كأنما تبحث عن غذاء لديها .. وكنت أنت حبي، فأحببتك من كل قلبي، لقد صادفت قلبًا خليا فتملكته.

أصبحت أنا كل شيء في حياة أسرتنا الصغيرة بعد ذهاب الأب، وكأنما أحسوا بغريزتهم مدى تعلقي بك، وأنك تخطفينني منهم، تمتلكينني، ورحي موزعة بين صداقتي ليحي وحبي لك، لذلك أحسوا نفورًا منكما حارباني في شخصيكما، أتظنين أنني لا أدرك مدى ما تعانينه وأنت تجلسين بينهم؟ صراع خفي صامت يدور بينكم، وأنت تريدين مني أن أقف إلى جانبك، أن أهب لنجدتك تدينين صمتي كأنني أستمتع بالمعركة الدائرة بينكم، أو كأنني عاجز عن حمايتك ولكن الحقيقة يا حبي أنني أحس بأنك امرأة سلبية، نهمة إلى حبي، كأنما تريدين أن تملئي نفسك بالحب، لتداري نقصا ما في شخصيتك لو كنت تحبينني حقا، لاقتحمت حياتي، لفرضت نفسك واحتللت مكانك في عالمي، ستؤلمك صراحتي ولكنني تعودت أن آخذ حقائق الحياة بمرارة ... شيء كبير يفصل بيننا، افتقادي للقوة وافتقادك للإرادة.

... هذا قدري وقدرك. نفسي لا ترى في الحياة إلا قبحا ودمامة... أغلقت المحل الذي فتحته، زهدت في المال، لم أعد أصلح للتجارة، ولا للتعامل مع الناس كلهم خنازير تأكل كل شيء وأي شيء .. الكرم عندهم سفاهة، والبخل شطارة، والشجاعة تهور والجبن حكمة، الفضيلة رجعية، والرذيلة تقدمية لقد نصحني رجل من الأهل فقال: إذا أردت أن تعيش في مصر سعيدًا هانئًا فكن كرجل أجنبي لا يفكر إلا في مصلحته، ولا يهتم إلا بحياته ومستقبله وعمله، لا تهتم بالآخرين هذه هي فلسفة الناجحين في هذا الزمان كل شيء يشعرني بالغثيان، لا أدري كيف يضحك الناس ملء قلوبهم على كلام سقيم، العبث يدب بجذوره في كل مجال المجتمع كله ينحدر إلى الإسفاف، برنامج ساعة لقلبك الذي يضحك الجميع أكبر مثال على ما فيه الناس، يعلمون الجيل الجديد أن الكذب ذكاء، وأن البلطجة قوة وشطارة، ينزعون من عقولهم كل مقدرة على التفكير الجاد يجرونهم إلى الضياع، الخالعة تنشر شراعها على كل شيء، على الأغنية وعلى لباس المرأة وسلوكها، على الأفلام والمسرحيات، وقصص الحب الجسدي البذيء والبلد تحكمها عصابة، قد كممت أفواه، غير مصرح لأحد أن يتكلم إلا في التفاهات، فليعبث الشباب كما يريد، فليعبث الشباب كما يريد شريطة ألا يفكر ألا يتأمل ألا يبحث عن الحقيقة، ألا يسأل عما يدور حوله، فقط عليه أن يعيش بحثا عن ملذات سريعة.

سمعة العصر الذي نعيش ه هي الانحدار التحلل من القيم الموروثة، إطلاق العنان للشهوات، التحرر الذي جاء به الدجال للمرأة، هو أن تبتذل وترقص وتدخن وتفقد احترامها لذاتها حينما انتقلنا للقاهرة منذ سنوات، لم يكن من الممكن أن تصعد امرأة إلى الأوتوبيس وتظل واقفة كان لابد أن يقوم أحد الشباب لتجلس مكانه، والآن ماذا يحدث؟ تتزاحم لتقف بين الرجال دون حياء، لم يعد يحترمها أحد....

كنا نغار على بنات شارعنا، والآن لا يغار الفتى على أخته، ولا الرجل على زوجته، دخلت البيت منذ أيام فوجدت رجلا غريبا يمسك شريطا ويضع يده على خصر إحدى إخوتي ويمد الشريط على ساقها أدركت أنه الخياط، لم أماسك نفسي شددته بقوة، هويت عليه ألطمه، دفعته خارج البيت وركلاتي تتبعه حتى كان أن يتدحرج على السلم.. عدت وعيناي تقدح شررًا تسمرت أخواتي وأمي ودخلت غرفتي وأنا أكاد أنفجر من الغيظ غاظني أنني لم أصرخ فيهن بما تعتمل في صدري غاظني أنهن لا يدركن معنى ثورتي، الأمر عندهن طبيعي ومقبول الجميع يذهبن إلى الخياط سلوكي عندهن غريب وغير طبيعي..

.. قال لي أحدهم ونحن نتناقش: أنت عندك كبت فقلت له: وما عيب ذلك؟ أنا فعلا عندي كبت، شاب مثل في عنفوان شبابه، تثيره المرأة المتبرجة، هذا أمر طبعي، أنا أعتقد أن هذا دليل على الصحة النفسية سمة عصرنا إثارة الشهوات، وأنا أكبت هذه الشهوات وأشغل نفسي بالقراءة والرياضة فما الضير في هذا؟ جيل فاقد للوعي حولي، الرذيلة مسيرة وطريق الفضيلة كله عقبات، لست ملاكا، ولكنني رجل وما يجيش بصدري يحرق بلدة بأكملها وأنا أكبت هذا .. قريب لي سلط على امرأة متزوجة تغازلني بالتليفون، كأنما يعز عليهم أن يروا شابا يتطهر، يحافظ على بكارته. لعل هذا هو سر حبي لك، معك أحس بأن روحي تتألق، أعيش في عالم من النور، تنطفئ الشهوة، أسمع أنغامًا علوية يرقص لها قلبي أمنحك حبًا روحيا عذريًا يموت الجسد أحبك كراهية قديسة، أعطيك ما يمكن أن يعطيه صوفي لراهبة متصوفة.

ولعل هذا هو الذي باعد بيننا فرغم يقيني بأنك تعتزين بهذا الحب العذري الرائع وأنك مسئولة إلى حد كبير عنه، فنظرة الاشتهاء توجعك، حديث العشق يضنيك تلميحات الجسد تملأ نفسك اشمئزاز ورغم ذلك يخامرني شك أنك أحيانا تتحسرين على الحب الآخر، على أن حبنا لا يأخذ الشكل المألوف لا يصلح أن يكون بين زوجين، فالزواج حب واشتهاء، لا يكفي فيه حب الروح، حب الجسد يجعلنا نعيش حياتنا، نمارس واقعنا، ولكن من المسئول عن ذلك أنا أم أنت؟

...عقلي مشوش، أفكاري تزعجني، قلبي يملؤه الألم يعزيني قول شوقي:

وتفردت بالألم العبقري
وأنبغ ما في الحياة الألم

أذهبي وأتمي عرسك، فأنا في شغل عنك، في عقلي أفكاري تشغلني مائة عام، أمامي أسئلة حائرة، أبحث لها عن إجابات ترضيني من أنا؟ أين أعيش؟ كيف بدأت؟ إلى أين أنتهي؟ هل أنا مخلوق؟ من الخالق؟ هل يمكن أن أتصل به؟

..اذهبي وتزوجي مارس حب الجسد، أنجبي أطفالاً، لا تشغلي بالك بهذه الأفكار، لا تتعبي عقلك، استمتعي بحياتك، مالك أنت وما أنا فيه من شقاء، لكم أحسدكم على سعادتكم الرخيصة هذه، وأتساءل ما الجدوى حقًا من أن يتعب المرء عقله ما دام كل هذا إلى زوال؟...

أضحكتني نكتة سمعتها عن معرض أقيم في أوروبا للعقول الحية، وقد عرضت فيه نماذج لعقول فرنسية وألمانية ومصر ية وغيرها وحينما دخل رجل مصري إلى المعرض أسعده أن يجد العقل المصري هو أغلاهم ثمنا، فسأل عن ذلك، فقيل له: لأن هذا العقل لم يستعمل، مات صاحبة ولم يستخدمه قط.

... تسخرون من شقائي، تقولون: إن حقائق الحياة بسيطة، فنحن مخلوقون لنعيش حياة طيبة وبعد الموت سيحاسبنا الله والله أمرنا ألا ننسى نصيبنا من الدنيا، فما دام المرء لا يقتل ولا يسرق ولا يزني ولا يظلم فعليه أن يهل من مسرات الحياة ما أمكنه.. ولكن عقلي لا يقبل منطقكم، أراكم كالفريسيين لا ترون من الجريمة إلا المظهر المادي لها، أليس ضياع الفقير واليتيم بيننا قتل لهما؟ رفض الشباب المحب لفقره ألا يقتله؟ التقاليد التي تدفع بالفتاة إلى العنوسة غير عابئة بمشاعرها ألا تقتلها؟ ضغط المجتمع على الأرملة الصغيرة لكي تعيش لصغيرها، متجاهلين ما يعتمل في قلبها من نار الشوق والوحدة أليس هذا قتلا بطيئا لها؟ الجندي أو العامل الذي يظل حياته يبجل ويخدم من لا يستحق ذلك ألا يسحق ذلك روحه؟ ألا يعد كل ذلك قتلا لروح الإنسان. أما السرقة فهي عندكم فقط أن يدخل لص ليسرق من بيوت الناس، رغم أن المجتمع كثيرا ما يكون مسئولا عن ذلك؟ أما السرقة في البيع والشراء أما السرقة في أكل حقوق الناس أو التهرب من الضرائب أو الجمارك، كل هؤلاء اللصوص الكبار الذين يشار إليهم بالبنان، لا أحد يحاسبهم، أو يستنكر ما يفعلون.. أما الزنا فالشباب يفتخر بذلك والمجتمع لا يستنكر ذلك منه، والكل يزني بعينه أو بلسانه أو بأذنه، والمرأة من يأسها تبيع جسدها لزوج لا تحبه، زوج لا يربطها به غير الجسد، بيوتهم كالمقابر.. أما الظلم فحدثي ولا حرج، الظلم شيء يتنفسه الناس، لا أحد يتورع عنه، العلاقات كلها قائمة على ظلم واضح، يكفي أن تنظري إلى الخدم في البيوت وما يلقونه من معاملة لا إنسانية إن ما يحدث لهم مثال على ما يحدث في كل موقع عمل، لا قيمة للإنسان إطلاقا، لذلك سلط الله على هذا الشعب من يظلمه دائما، فكما تكونوا يول عليكم.

الخادم الذي عندنا، أحضرت له سريرا لينام عليه، واشتري له ملابس جديدة، وهذا أمر طبيعي، ولكن للأسف يثير تعجب الناس من سلوكي، يقولون: إن مثله قد تعود أن ينام أرضا وأن يلبس قديما مثله انظري للتعبير، كأنه ليس أخا في البشرية، كأنه ليس من أبناء آدم وحواء، وإذا قلت: إن هذا هو جوهر الدين أيها الناس لووا رءوسهم، ألم يقل رسولنا (صلى الله عليه وسلم): «إنما خولكم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس وإذا كلفه بما لا يطيق أعانه»... أليس هذا هو جوهر الدين، أن تحب لأخيك ما تحبه لنفسك؟.

نحن كما يقول أشعياء النبي: «كل الموائد امتلأت قيئا وقذرا ليس مكان لمن يعلم معرفة، أو يفهم تفهيما . الكاهن والنبي ترنحا بالمسكر ابتلعتهما الخمر، تاها من المسكر ضلا في الرؤية، قلقا في القضاء» ضلا في الرؤية قلقا في القضاء» أنا لا أبرئ نفسي أنا الكاهن الذي ترنح بالمسكر أود لو أغيب عن الوعي أدخن بشراهة أستغرق في أفكاري فلا أشعر بما حولي .. بالأمس كنت أحب أن أسمع شيئا في الإذاعة، وكان موعده الساعة الثالثة، ففتحت (الراديو) من الساعة الثانية والربع، واستغرقت في أحلامي، ولم أنتبه إلا على صوت أذان العصر، غبت عما حولي فلم أسمع شيئا رغم أن صوت (الراديو) كان قويا أهرب كثيرا من واقعي لأعيش مع أحلامي.

... وأنت يا حبي لا تفارقني أحلامي.. أنت قدري وأملي..أنت تمثال صنعته بنفسي للفضيلة... رمزا للنصر.. علامة على صدق الإلهام.. أملا في النور والمحبة والسعادة.. ترانيم صلاة علوية مملوءة بالسكينة والسلام ...

لا أعرف هل يمكن أن تستمر حياتي لو فقدتك.؟ أيمكن أن أعيش واقعي بلا أحلام؟ أيمكن أن تخلو حياتي لو فقدتك.؟ أيمكن أن أعيش واقعي بلا أحلام؟ أيمكن أن تخلو حياتي من إشراقة حب من بهجة الروح من رشفة سعادة؟ .. أيمكن أن أحرم من نظرة عينيك؟ من أن أغوص في أعماقك لأتطهر من أن يرقص قلبي طربا وأنت أمامي، من أن أسمع ألحان صوتك التي تأتي من عالم علوي أنا لا أعرف طعمًا للحياة بدونك كطفل لا يعرف من الحياة إلا أمه، أنت ماء الحياة الذي يروي ظمئي أنت عزاء روحي، بهجة أحلامي.

.. ولكن كل هذا لا يجدي رائحة الموت تلفني، الضياع يحيط بي، عالمي ينهار، الحياة تقهرني بحقائقها أشعر أني منهزم أمامها يشلني العجز.

وماذا يقول العاجزون إذا ابتلوا يقولون: هذا حكم الله يا نفسي فاصبري امضي أنت في طريقك أفعلي ما يحلو لك، لم أعد أعرف ما أريد أدعو الله أحيانا أن يخلصني من حبك، إن كان حبك لا يرضيه، أو إن كان إلهامي وهما دسه على الشيطان.. أنجي بنفسك من موج حياتي المتلاطم اركبي مع الناس سفينة الحياة لم أعد أعرف هل سأغرق أم سيكتب لي النجاة .. لم أعد قادرا على أن أؤكد لك أحلامي، أن أعدك بتحقيق آمالي فليرحمني الله قلبي لا يطاوعني أن أقول وداعا فليفعل بنا الله ما يشاء.

ع.م

مصر الجديدة ديسمبر سنة 1960


الرسالة الرابعة

حبيبتي مريم:

لا أكاد أطيق كل هذه السعادة كانت أحلى مفاجأة أن أفتح الباب لأجدك أنت واقفة، وعلى وجهك ابتسامة عذبة تسمرت في مكاني، كدت أدفعك إلى أحضاني، زال كل ما في قلبي من أفكار، لم يبق إلا حبك، لابد أن الجميع شعروا بذلك، ثم أنت تحملين البشرى، لقد تركت خطيبك، كنتن أعرف أن هذا سيحدث، لم أصدق أبدًا، أننا سنفترق، كنت دائما أعزي نفسي بقول الشاعر:

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن ألا تلاقيا

.. تقولين إنك جئت إلى القاهرة لتعرفي نتيجة الامتحان وقد نجحت وانتقلت للسنة الثانية، ولكنني أعرف أنك جئت لتزفي إلي البشرى، لتمسحي عن قلبي الأحزان، وقد نجحت أنا الآخر وانتقلت إلى «البكالوريوس» لم يبق أمامي غير عام واحد، يمكنني بعدها أن أتقدم إلى أهلك، يا أجمل عروس، يا زهرة الحياة.

صورتك، صورتك، ضحكاتك لا تفارق خيالي، .. حديثك. آه من صوتك كأنه موسيقى عذبة تصدح في الجنة.. ضحكتك كأنها شلال سعادة ينهمر على جسدي فيغسل عنه الشقاء.. تضحكين فتضحك لي الدنيا كلها.. سعادتي كلها منك يا نور حياتي يا بهجة أيامي.. ما هذا الذي يحدث لي وأنا أتأملك تتكلمين، وتهمسين وتضحكين وتغضبين!! .

.. طفل أنا يعيش في عالم أمه الدافئ الحنون.. أنا أبنك وأخوك وأبوك وأمك، أنا أهلك وعشيرتك وقومك.. ستكونين لي ليس في هذا العالم فحسب بل في كل العوالم الأخرى التي سننتقل إليها.. سأحارب شياطين الأرض وكل القوى الخفية التي يمكن أن تبعد روحي عن روحك.. ..آه يا حبي .. ستحكي قصتنا الأجيال كم أحب أن أراك سعيدة، كأنني أنا المسئول عن سعادتك وعن شقائك أقل لمسة ألم في عينيك تضنيني، تملؤني بالشقاء، والفرحة في عينيك ترقص في قلبي تملؤني بالنشوة أنت لا يمكن أن تدركي مدى الرقة والانكسار اللذين يتدفقان في قلبي عند رؤياك، أعجز عن أن أغضب منك، ألتمس لك الأعذار، أنت دائما على حق، الجميع لا يعرفون قدرك، أنت ملاك، صديقة هبطت من الجنة، هذا ما يراه قلبي، ولا تملك عيناي إلا أن تصدقاه... أراك أجمل امرأة في الوجود، يذوب قلبي لسماع صوتك، تملؤه السعادة . هل يمكن أن يكون الجنة أكثر من هذا؟

مريم أيتها الحبية الغالية.. أخبار كلها طيبة.. حياتي تملؤها البشري .. اشتركت مع بعض أولاد العم في مصنع لإنتاج مستلزمات النجارة والمعمار، وبه مسبك لمنتجات الألومونيوم، والنحاس والأمور على ما يرام.... هذا لن يشغلني عن الدراسة ولكن أنا كما تعرفين لا أحب الوظيفة وأفضل الأعمال الحرة.. وأفكاري أكثر استقرارًا هذه الأيام... تغذيني أفكار «مالك بن نبي» وهو الفيلسوف الجزائري الذي حدثتك عنه .. .لم يشبع عقلي مثل أفكاره، فهو يعطيني تصورا كاملا لحركة التاريخ... يرى «مالك بن نبي» أن تاريخ البشرية على هذا الكوكب هو سلسة من الحضارات المتعاقبة يقول: «وما الحضارات المعاصرة. والحضارات الضاربة في ظلام الماضي، والحضارات المستقبلة، إلا عناصر للملحمة الإنسانية منذ فجر القرون إلى نهاية الزمن، فهي حلقات لسلسلة واحدة، تؤلف الملحمة البشرية منذ أن هبط آدم على الأرض إلى آخر وريث له فيها. ويا لها من سلسلة من النور!! تتمثل فيها جهود الأجيال المتعاقبة في خطواتها المتصلة في سبيل الرقي والتقدم»

ويرى مالك بن نبي أن عناصر تكوين الحضارة وهي الإنسان والوقت والتراب موجودة دائمًا، ولكن الذي يجعلها تتفاعل لتنطلق شرارة الحضارة هي الفكرة الدينية أو الروح الدينية، فكل الحضارات عنده بدأت بفكرة دينية عظيمة أدت إلى انطلاقها.

يقول «مالك بن نبي» لو أن زائرا جاء من عالم آخر لزيارة كوكبنا فماذا سيلاحظ؟ سيرى في الشمال حركة ونموا وازدهار وعمرانًا وحياة، وسيري في الجنوب خمولاً وتأخرًا وفقرًا ورثاثة... سيدرك أن الشمال يعيش حضارة مزدهرة، أما الجنوب والذي يشمل العالم الإسلامي كله.. فهم يضم شعوبًا فقدت حضارتها.

.. «فمالك» يرى أن الحضارة التي تشمل أوربا وأمريكا وحتى روسيا ما هي إلا حضارة مسيحية، بدأت بغلبة الفكرة الدينية في وقت ما على أفكار الناس تلك الفترة التي ظهر فيها أمثال «مارتن لوثر» والتي توهج فيها الفكر الديني في أوربا.. ويرى أن الحضارة تمر منذ بدايتها إلى نهايتها بمراحل ثلاث: مرحلة الروح، ثم مرحلة العقل ثم مرحلة الغزيرة... بتحرر الغريزة وانطلاقها، وبين البداية والنهاية عصر النهضة المادية، والتكالب على مباهج الحياة، حيث تضعف الروح تدريجيًا وتتحرر الغرائز تبعا لذلك.

فحضارتنا الإسلامية بدأت بغلبة الروح الدينية وتحكمها في سلوك الناس، حيث يتحرر الفرد جزئيا من قانون الطبيعة الذي يفرضه على الجسد فبلال وهو يتعذب ويقول: «أحد.. أحد» لم يكن صوت الغريزة هو الذي يتلكم، ولا صوت العقل أيضا، فالألم لا يتعقل الأشياء، أنها صيحة الروح التي تحررت من إسار الغرائز وقد استمرت هذه الروح حتى نهاية عصر الخلفاء الراشدين... ثم تلاها في عصر الأمويين والعباسيين عصر النهضة، حيث ساد العقل وبدأت الروح تخفت تدريجيا فتصرف الخلفاء كالملوك يوطدون أركان ملكهم، ويجمعون الأموال والضياع، ويسوسون الدول والجيوش، ويتصارعون على السلطة حينئذ بدأت الغرائز تتحرر من قيودها تدريجيا مع ضعف سلطة الروح، فانتشر شعر العزل الحسي، والتغني بالخمر والمجون، وهكذا تدريجيا بدأ يعلو صوت الغريزة، حتى تحررت تماما، فبدأت المرحلة التي سادت فيها الغريزة، حتى تحررت تماما، فبدأت المرحلة التي سادت فيها الغريزة، وكشفت عن وجهها وذلك منذ قرون عم فيها الظلام على العالم الإسلامي وما زلنا نعيش عصر سيادة الغرائز.. وفي انتظار أن يشرق علينا فجر حضارة جديدة.

.. فنحن عنده يا حبيبي الرواد والمبشرون بالحضارة الجديدة القريبة، استمعي إلى قصيدته التي كتبها بالفرنسية يقول فيها:

أي صديقي

• لقد حانت الساعة التي ينساب فيها شعاع الفجر الشاحب بين نجوم الشرق.

• وكل من يستيقظ بدأ يتحرك وينتفض في خدر النوم وملابسه الرثة.


• ستشرق شمس المثالية على كفاحك الذي استأنفته، هناك في السهل، حيث المدينة التي نامت منذ أمس ما زالت مخدرة.

• ستحمل إشعاعات الصباح الجديد، ظل جهدك المبارك، في السهل الذي تبذر فيه بعيدا عن خطواتك.


• وسيحمل النسيم الذي يمر الآن البذور التي تنثرها يداك... بعيدا عن ظلك.

• أبذر يا أخي الزارع.. من أجل أن تذهب بذورك بعيدًا عن حقلك في الخطوط التي تتناءى عنك في عمق المستقبل.


• ها هي ذي بعض الأصوات تهتف. .. الأصوات التي أيقظتها خطواتك في المدينة، وأنت منقلب إلى كفاحك الصباحي... وهؤلاء الذين استيقظوا بدورهم، سيلتئم شملهم معك بعد حين.

• عن يا أخي الزراع.. لكي تهدي بصوتك هذه الخطوات التي جاءت في عتمة الفجر، نحو الخط الذي يأتي من بعيد..


• وليدو غناؤك البهيج.. كما دوي من قبل غناء الأنبياء، في فجر آخر، في الساعات التي ولدت فيها الحضارات.

• ولملأ غناؤك أسماع الدنيا أعنف وأقوى من هذه الجوقات الصاخبة التي قامت هناك.


• ها هم أولاء هؤلاء ينصبون الآن على باب المدينة التي تستيقظ، السوق وملاهيه، لكي يميلوا هؤلاء الذين جاءوا على أثرك، ويلهونهم عن ندائك.

• وها هم أولاء قد أقاموا المسارح والمنابر للمرجين والبهلوانات لكي تغطي الضجة على نبرات صوتك.


• وها هم أولاء قد أشعلوا المصابيح الكاذبة لكي يحجبوا ضوء النهار ولكي يطمسوا بالظلام شبحك، في السهل الذي أنت ذاهب إليه.

• وها هم أولاء قد جملوا الأصنام ليلحقوا الهوان بالفكرة.


• ولكن شمس المثالية ستتابع سيرها دون تراجع، وستعلن قريبا انتصار الفكرة، وانهيار الأصنام كما حدث يوم تحطم هبل في الكعبة.

آه يا حبيبي كم يملؤني شعره بالنشوة، ويملأ قلبي بالأمل... أحس كأنه يغني لنا، وكأن الكون من حولنا يمتلئ بملائكة من نور تشاركه غناءه، فرحة بمولد حضارة جديدة على الكوكب التعيس إن ما نعانيه يا حبيبتي ليس عبثا، إننا آباء الحضارة الجديدة، ولابد للآباء أن تتعذب لتمهد الطريق للأبناء لتكشف لهم دروب الحياة، لتجنبهم ويلات الليالي والأيام.

إن أفكار «مالك بن نبي» تعطي لما نلاقيه معنى، تفسير لي سر ما نعانيه... كان يقول لي في إحدى الأمسيات: يا بني لابد لكي نبدأ الحضارة الجديدة من أن تتم عملية تصفية للأفكار الموروثة لكي يمكننا أن نتلقى فكر الحضارة الجديدة... أتعرفين يا حبيبتي، أن هذا ما يحدث لي إن ما كان وما يزال يعتمل في عقلي من تشوش وصراع، إن هو في حقيقته إلا صراع فكري عظيم، يحاول أن يهدم فكرا باليا ليحل مكانه فكر جديد، فكر مستنير فكر يلائم حضارة جديدة، إنني لا أثق في أي فكرة موروثة، أناقشها بعقلي أحللها أبحث عن أبحث عن جذورها أقبلها أو أرفضها.. سأضرب لك مثالا منذ فترة اختلفت مع بعض الرفاق حول قضية هامة، ترجع أهميتها في نظري إلى أنها تحدد نظرة المسلم إلى العالم من حلوله... كنت أتساءل هل في زماننا هذا، وبعد أن أصبح الإسلام غريبا، حتى بين أهله، هل يمكن أن ندع بأن أهل الكتاب مشركون ومصيرهم إلى النار مهما صلحت أعمالهم بينما المسلمون لنطقهم بالشهادتين مصيرهم إلى الجنة مهما فسدت أعمالهم، حتى ولو دخلوا النار فترة لذنوب اقترفوها فما لهم في النهاية إلى الجنة؟

... وكان جواب كل من سألت، أن هذا ما فهموه من القرآن، واستشهدوا بقوله عز وجل ﴿ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾ فقلت: وما معنى يبتغي؟ إنها كلمة تعني الإرادة تعني أن شخصًا عرف الإسلام وأدرك حقيقته ثم هو يبتغي غيره وهذا لا ينطبق إلا على بعض المستشرقين أما أن يكون كل إنسان مطالب أن يبحث في الأديان ليكتشف الإسلام فهذا شيء غير منطقي، بل إن حال المسلمين الآن يشكل حاجزا أمام أي عقل حر، لتفهم حقيقة الإسلام.

واستشهدت لهم بقوله عز وجل: ﴿ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به ولا يجد له من دون الله وليًا ولا نصيرا، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا﴾.. فقالوا باستنكار كمن وجد دليلا يؤيد حجته: انظر وهو مؤمن أي أن الإيمان بالإسلام شرط فقلت متعجبا!! كيف يكون المقصود الإيمان بالإسلام والخطاب موجه إلى المسلمين وأهل الكتاب معا؟ هذا شيء لا يقبله عقل .. ثم قلت لهم: وما رأيكم في هذه الآية: ﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ فقد جعل الله الإيمان به وبالآخرة والعمل الصالح هم شرط القبول عنده... وهذا هو الذي يقبله العقل فلا يمكن أن نطالب البشرية كلها بأن تؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن تعرفه، لذلك فنحن مأمورون بأن ندعو بالحكمة والموعظة الحسنة، لنتألف القلوب حتى يمكن أن تقترب من فهم حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، ومحمد صلى الله عليه وسلم نفسه، صبر على قومه حتى أدركوا صدق دعوته، فعمر بن الخطاب ظل سنوات على عناده حتى أدرك الحق وأصبح من جنوده، وخالد بن الوليد حارب الرسول كثيرا حتى فهم ما غاب عنه فانضم لصفوف المسلمين .. إن هذا يزيل التناقض الذي يمكن أن يدخل إلى عقل من يقرأ عن الأعمال العظيمة الطيبة، والحياة الصالحة لبعض أهل الكتاب الذين كان لهم فضل كبير على البشرية جمعاء.

وهكذا ترين يا حبيبتي .. أن ما يشغلني ليس هوسًا ولا جنوحا، ولكن هو أمر عظيم، هو محاولة لتصفية أفكار تراكمت عبر قرون من الظلام والانحطاط، سادت عالمنا الإسلامية حيث توقف العقل عن التفكير، وملئ بالخرافات، وسادت الغرائز، ونحن لكي ننطلق إلى حضارة جديدة، لابد لنا من أفكار جديدة، أو فلنقل (أفكارا) صالحة، فما أظنها أفكارا جديدة على البشرية.

إننا يا حبيبتي نصنع شيئا عظيما لم يعرف الناس قدره بعد.. لو أن زائرًا من كوكب آخر يجهل حالنا على الأرض قدر له أن يرى فلاحا يأخذ البذور التي يطعم منها صغاره ثم يرميها على الأرض، ويدفنها تحت التراب، لأنكر عليه ذلك، ولكن لو ظل حتى يراها تنبت وتعطي محصولا جديدا لفهم حكمة عمل الفلاح ولو قدر لمن يلومني اليوم أن يرى ما سوف يحدثه الفكر من تغيير في عقول الناس ومناهجهم، لعرف أن ما نحن فيه أمر يستحق العناء.

يا حبيبتي الغالية.. سيغشانا النور.. سيغمرنا الحب... ستحتضننا السعادة معا وأبدا.. سأرى ضحكتك تضيء الدنيا، وصوتك العذب يشدو أعذب الألحان.. ستلتصقين بي كقطة صغيرة أليفة، لأداعب خصلات شعرك في سكينة وسلام.. ستتحقق كل الأحلام .. وحتى أراك فليغمرك الأمل بنوره.

ع. م

مصر الجديدة يوليو سنة 1961م.

الرسالة الخامسة

حبيبتي مريم.. يا أخت العذراء:

يا قديستي الجميلة، يا حبي العذري الطاهر.. أعتذر إليك ما أنا إلا بشر دمي يتوهج أحيانا، وتملأ صدري نار الشوق يبدو ذلك في عيني أحسست أنك لاحظت ذلك، ولكنك تجاهلته، كأنما تنتابك نشوة روحية، تغلبك حميتك الدينية ترتفعين إلى سماء علوية، ذلك يعيدني إلى صوابي يجعلني عنينا أمامك يملؤني سعادة روحية، يزول ما أعانيه من عذاب وتمزق أحس كأنك تتمنين أن أعانقك شرط ألا تثور رغبتي فيك، أنت يا حبي يا كنزي، أنت تريدين قديسا، تريدين مسيحا، وسأكون مسيحك.

.... لست أدري يا حبيبتي ماذا يعتريني؟ .... أصبحت عصبي المزاج، تظلني سحابة كآبة لا تكاد تمر حتى، تتلوها سحب أخرى.. أعرف أن الكآبة عدوي، كتاباتي قد تنقل إليك كآبتي، أو هي على الأقل لن تجلب لك السعادة، ولكن الحب عندي يتطلب المعرفة لابد أن أعرف عنك كل شيء، وأن تعرفي عني كل شيء كذلك لذلك أكتب لك لتعرفي ما أعانيه، هذا قدرنا معا ..أنت تحلمين برجل تنتمين إليه تنطوين تحت جناحه، تجدين معه السكينة والسلام .. ولكن أنا!! من أنا؟ شخص تائه حائر تتلاطمه الأمواج.. أريد أن أصل إلى حقيقة الإيمان أن أشعر بالسلام مع نفسي، ومع الكون الذي أعيش فيه.

أعرف أن هناك إلها، ولكن عقلي يعجز عن إدراك أن إلهي بلا بداية وبلا نهاية، عقلي محدود لا يمكنه أن يتصور شيئا بلا بداية وبلا نهاية... أشعر بعجزي واستسلم... ما العقل البشري إلا جهاز محدود جدا، يستقبل من حواس محدودة كذلك، فنحن لا نسمع كل الأصوات التي حولنا فهناك حيوانات كثيرة تسمع ما لا نسمعه، ونحن لا نرى كل ما حولنا، لا نرى (الكهرباء ولا الأشعة الفوق بنفسجية ولا تحت الحمراء، ولا أشعة ألفا، وبيتا، وجاما، ولا الموجات الصوتية.. إلخ) ولا نشم كل الروائح، نحن لا نحس بكل ما حولنا، نحس فقط بما تلتقطه أجهزة الاستقبال عندنا نحن جهاز محدود، صنع ليتلاءم مع رسالتنا على هذا الكوكب .إذن أنا مخلوق، ولكن من الخالق؟ إنه الله الذي أرسل الرسل ليعلمونا كيف نعيش.

.. أعرف كل هذا... ولكن لا أحسه .. لا أعيشه .. لا أستشعره.. المعرفة العقلية وحدها لا تكفي .. نحن نعرف أننا سنموت ولكن لو أحسسنا بذلك؟ لو عايشناه؟ لكان الوضع مختلفا تماما، ألا ترين من يفقد عزيزا كيف يذهل؟ كأن الموت ليس بحق على الجميع .. نتكلم عن الموت ولكن حينما يذهب حبيب أو صديق أو قريب تختلف ردود الفعل عندنا .. كذلك أنا أعرف أنه لابد أن هناك إله ولكن هل أومن بذلك؟ هل سلوكي يتوافق مع هذه الفكرة؟ لو أنني أعرف حقا لو أنني يملؤني اليقين لتركت كل شيء واتجهت إليه أسأله: ماذا يريد منى أن أفعل؟ لطلبت منه كل ما أريد، لاكتفيت به عن هذا العالم الموحش.

آه يا حبيبتي. لو اكتشف الإنسان أن له إلها خلقه، لكانت هذه أعظم حقيقة يتوصل إليها.

.. تصوري لو أن طفلا يتما محروما مشردا، يكتشف فجأة أنه ابن لرجل ثري عظيم، ألا تكون المفاجأة مذهلة، ألا يشعر بالفرح والأمان؟ سيكون ذلك شعورا طبيعيًا لأن الأب شخص محسوس يراه ويرى فرحته بابنه، ويشعر بحنانه وقدرته.

أنا لي إله خالق، رب قادر ألوذ به، ألقي بأحمالي عليه أنا إنسان ضعيف أفكاري تعذبني زاهد في الحياة أعرف أنها قصيرة وأنها إلى زوال، أجزع من فكرة الموت والتحلل في التراب.

وكأنه لا تكفيني هموم نفسي فأجدني مشغولا بهموم بلدي وشعبي، الدجال يسوقهم إلى الخراب، كخراف ضالة، كان يخطب بالأمس مرتديا، أفخم أنواع الصوف الإنجليزي، وأمامه علبة سجائر مستوردة، وهو الذي ينادي بمقاطعة البضائع الأجنبية والناس تصفق فاقدة الوعي، لم يعد لأحد حق الاستمتاع بالحياة إلا هو وحاشيته، هم وحدهم لهم حق السفر للخارج، وسكني القصور والفلل وركوب السيارات الفارهة، والحسابات المفتوحة في البنوك، كل ذلك باسم الثورة والحفاظ على الثورة.

المشكلة أن الناس من حولي يجرفها التيار، الأهل لا يقنعهم كلامي، لا يدركون ما بي، دائما يعبرون عن احتجاجهم على سلوكي، لم يجدوا وسيلة للتعبير عن رفضهم لما أنا فيه، سوى تجاهلهم لحبي لك حتى أخفيت مشاعري عنهم، أخاف أن ألمح نظرة استنكار للحب المقدس بيننا، حينئذ سيصعب على العيش بينهم، هم وأنا نعرف أن هذا هو الخط الأحمر، الذي لا يجوز الاقتراب منه، لذلك نتبادل الصمت حول هذا الموضوع والشيء الثاني الذي يحاربونني فيه هو صداقتي ليحيي فاستعلاؤه ليس له ما يبرره عندهم، فهم يرونه أقل مكانة اجتماعيا وماديا أنا أعرف أنه مسئول إلى حد ما عما يثيره في نفوس الآخرين، لأن هذا يحدث حتى مع باقي الأصدقاء.. ولكن صدقيني هو لا يتكلف استعلاء، ولكنه مدرك لنفسه ومواهبه، وهو يعيش في عالم أرقى وأرحب يعيش أغلب ساعاته مع الكتب مع فحول الأدب العربي، مع الزعماء والقواد والخلفاء والشعراء لذلك فهو يعزف عن مشاركة الأصدقاء في لهوهم، فلهوه برئ لا يحب أن يشاركهم مجنونهم هم يحسدونه ويخافونه بل ينفرون منه أحيانا، وهو بطبعه يبادلهم ذلك.

ولكن أني لي أن أجد صديقا مثله في علو همته وكبريائه وطموحه؟ حقا هو مثلك لا يستوعب كثيرا من أفكاري وما يشغلني بل قد يعتبره شططا لا يفهمه، هو واقعي مثلك، أتعرفين؟ هذا ما يزيدني حبا له، لأنه مثلك في هذا يشدني للواقع يربطني بالحياة، يصدمني بأرضيته وعقلانيته فيعيد إلي رشدي إن روحي ليست من هذا العالم، هو تهفو دائما إلى عوالم أخرى، لذلك فهي تحبكما، لأنكما لستما من هذا العالم، أنت الفضيلة وهو الشرف، لو أنصف المجتمع لكنتما في عليائه، ولكنه مجمع يحمل قمامة حضارة اندثرت، ولكن من يدري؟ قد يتحقق قول الشاعر:

تفني البرايا ويفنى الخلق كلهم
ليخرج الدهر تاريخا من الرمم.

لولا كما على لضلت روحين لما عرفت طريقها على هذا الكوكب، أنتما تلجمان جموحها، تستكين إليكما كلما شردت، تردانها إلى العقل والصواب.

.. حبيبتي مريم.. تعرفت على مجموعة من الأصدقاء أمرهم غريب جدا، هم مصريون ولكنهم يتحدثون عن شيء عجيب.. عن نبي ظهر في الهند منذ حوالي مائة عام أو أقل يطلقون عليه أو هو الذي يطلق على نفسه خاتم الخلفاء والمجددين، أحمد المسيح الموعود.. وقد أروني له بعض الكتيبات من تأليفه من بينها الخطاب الجليل الذي ألقاه في مدينة لاهور في مؤتمر مجمع الأديان (1896) وهم ينظرون للخطاب بتقديس، رغم أنني حينما قرأته لم أجد فيه شيئا ذا قيمة كبيرة، فكله كلام بسيط لا يخرج عما كتبه الكثيرون من قبل ومن بعد الإسلام وتعجبت من ذكائهم وقدرتهم على الجدل ومع ذلك يؤمنون بشيء كهذا . ولهم حجج طريفة تثير الضحك أكثر مما تثير التفكير .. .فحين سألتهم: أأنتم –أقصد الأحمديون أو القاديانيون- مسلمون مثلنا؟

قالوا: نعم بكل تأكيد...

قلت: وهل تؤمنون بالقرآن وبمحمد. قالوا: نعم فالقرآن هو كتاب الله ومحمد أعظم المرسلين وخاتم النبيين.

قلت: فكي يكون محمد خاتم النبيين، ونبيكم هذا يدعي النبوة الآن؟

قالوا: ارجع إلى القاموس إن كلمة خاتم تأتي بمعنى زينة ومحمد هو زينة النبيين.

قلت: أليست شريعة محمد وقرآنه كاملين محفوظين .. قالوا: نعم.

قالوا: فما ضرورة أن يأتي نبي بعده؟ .. قالوا: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه"لتحذون حذو بني إسرائيل حذو النعل بالنعل. حتى لو كان فيهم كذا لكان فيكم كذا .إلخ"؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"؟ قلت: نعم.. قالوا: وهكذا كان علماء الإسلام يشابهون أنبياء بني إسرائيل وحيث إن المسيح كان هو آخر أنبياء بني إسرائيل، فكذلك لابد أن يأتي مسيح لأمة محمد يكون على منوال المسيح، وله مثل شخصيته.. ثم أضافوا وإذا شئت فاقرأ في الأحاديث الصحيحة للرسول صلى الله عليه وسلم عن مجئ المسيح آخر الزمان.. و "ميرزا" هو المسيح المنتظر الذي جاء للأمة الإسلامية بعد محمد بثلاثة عشر قرنا، كما جاء عيسى بعد موسى بثلاثة عشر قرنا.

قلت: أنا معكم إن علماء المسلمين يقومون بنفس الدور الذي قام به أنباء بني إسرائيل في مجتمعهم، ولكن لم نسمع أن أحد علماء المسلمين ادعى النبوة.

قالوا: ليس مهما أن نقول عن أحمد المسيح الموعود عليه السلام إنه نبي، لأنه في درجة أعلى من الأنبياء، ولكن ألا ترى معنا أن نزول المسيح عيسى بن مريم من السماء كما فهم الناس من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أمر لا يقبله عقل؟ لأنه إما أن يكون مسيحيا أو مسلما فكيف يكون مسيحيا وقد أتى ومعه القرآن؟ وكيف يكون مسلما ويحمل القرآن، وهو لم يعرفه ولسانه ليس عربيا. وقد كان هو على شريعة موسى؟

قلت لهم: أنا فعلا لا أفهم ما تعنيه هذه الأحاديث، ولا استسيغ فكرة نزول المسيح من السماء كذلك لأن كل نبي يأتي بلسان قومه.. ولكن إذا كان ميرزا غلام أحمد" هو المسيح، فإنه قد مات ولم يفعل شيئا فكيف يستقيم ذلك؟

قالوا: إن المسيح عيسى بن مريم قد مات ولم تنتشر دعوته، ولم يظهر أثرها، إلا بعد ثلثمائة عام حيث اعتنقها أعظم إمبراطورية.

وأصبح هي ديانة أوربا حتى اليوم. فقلت: بعد ثلثمائة عام!! وضحكت كثيرا لطرافتهم وقلت في نفسي يالهم من حمقى سيعيشون ويموتون وهو ينظرون وهما كبيرا.

.. الغريب في الأمر، أن لهم مراكز في أوربا وأمريكا، وآسيا، وأفريقيا، ولهم أتباع كثيرون وعندهم قدرة كبيرة على المناقشة والجدل ليالي طويلة، لا يكلون ولا يتعبون، حتى تذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم "ما ضل قوم من بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" .. وكلما أحرجتهم حجة قوية، جاءوا بعد أيام بكلام متشابه وأولوه وفسروه، بما يوافق هواهم محاولين دحض هذه الحجة.. ولكن الشيء الذي انتفعت به من جدالهم، هو بحثي في موضوع ظهور المسيح والمهدي المنتظر، وهل سيكون ذلك بالشكل ذلك المسرحي الذي يفهمه كثير من الناس . أم أن هذه مجرد رموز تشير إلى بعث الحضارة الإسلامية الجديدة، حيث تتجدد فيها عقول المسلمين، كما فعل المسيح مع بني إسرائيل ولقد كان لفكرة المهدي المنتظر كما تعلمين تأثير كبير في تاريخنا المعاصر: فكثر الذين يظهرون مدعين ذلك، وقد نجح بعضهم مؤقتا كمهدي السودان.

.. أطلت عليك يا حبيبتي وأثقلت عليك بأفكاري وهمومي ولكنني أحس دائما أنني يجب أن أكون لك كتابا مفتوحا تقرئينه، يجب أن تعرفي كل ما يدور في عقلي من أفكار وينتابه من هواجس .. فالمشكلة يا حبيبتي أنني أشعر بالغربة بين الناس... هذا الجيل يرفض الفروسية، يعتبرها ضربا من الجنون. .وفروسيتي يا حبيبتي من نوع عظيم، أنا لا أخوض حربا محدودة، أنا لا أكتشف قارة جديدة، أنا أبحث عن سر الخلود، أكتشف عوالم جديدة، أقهر الظلام أبحث عن النور أبحث لك ولي عن ينبوع السعادة الأبدي، عن عالم لا تدب فيه عوامل الفناء .. فروسيتي من نوع فريد، أنا أحارب الأشباح، أحارب آلاف الشياطين التي تمنعنا من الوصول إلى بر الأمان، إلى الحب والسلام، أنا أغوص وراء الأفكار في محيطات مخيفة مظلمة متلاطمة الأمواج، مليئة بالوحوش المفترسة.. شجاعتي ليست إلا في مواجهة الحقيقة بكل مرارتها وقسوتها وعنفها، ثم أحاول بعد ذلك أن أقولها للناس، ولكن للأسف يا حبيبتي، لا أحد يفهم ما أقول، لا أحد يدرك ما أعانيه، حتى أنت، حتى صديقي يحيي، قدري أن أكون وحيدا في صراعي المرير.

.. حبيبتي ونور أيامي، وفرحتي وأنا بين ركام أحزاني.. أكتب لك هذا لعلك فقط تدركين أن ما بي ليس ضعفا ولا خبلا ولا فشلا.

استحلفك بالله ألا تقارنيني بأقراني، ألا تعجبي بهم دوني لا يغرنك مظاهر الأمور، المظاهر خادعة، هذا جيل لا يعرف أقدار الرجال أبشرك بأن النصر لي، بأنني الذي سيضحك في النهاية ليمتلئ قلبك بالأمل فأنا أقسم لك أنني أسير في طريق عظيم، لا يمكن أن تكون نهايته إلا الخير.

حبيبتي مريم... أكرر كلمة الحب التي أعرف أنك مللتها، ولكني ماذا يربطك بي غير هذا الحب ما دمت لم أصبح بعد شيئا تؤمنين به، ما دام قلبك لم يقسم بعد على الإخلاص لي، أخاف أن ينقطع الخيط الذي يصلني بك. .ليس عندي ما أقدمه لك الآن غير الحب.. يا حبيبتي الغالية.

ع. م

مصر الجديدة ديسمبر سنة 1961

الرسالة السادسة

حبيبتي مريم:

لماذا كتب علي أن أعيش بعيدا عنك؟ محروما منك؟ أشقى لبعدك وتتألمين لحالي... لست أدري أتحبينني حقا؟ أم تشفقين علي؟

في عينيك دائما عتاب ولوم صامت.. كأنني أنا المسئول عن ضياع الأحلام والبعد والفراق.. لا أستطيع أن أشرح لك كل أبعاد القضية.. لا أستطيع أن أجيب سوى بأن هذا قدري، هذا قدرنا.. يعلم الله كم أشتاق إليك، وأنك باب السعادة الوحيد الذي يفتح لي حين ألقاك، أو حتى حين أفكر وأحلم بك.

لو كان مهرك أن آت لك بكنوز الأرض لكان أهون علي مما أنا فيه... لو كان مهرك أن أبذ أقراني علما وثقافة لفعلت.. لو كان مهرك أن أسعى لأعلي المراكز الاجتماعية لما قصرت. ... ولكن !!.. ولكن مهرك يا حبيبتي أن أصنع لك علاما تنتمين إليه، عالمنا تسود فيه المحبة والخير والأمان، عالما أظل فيه أنا إنسانا.. إنسان كبير وبسيط، متواضع وطيب القلب، ثم ذو مكانة ونفوذ بين الناس وسلطان.

مهرك أن أجمع المتناقضات في عالمنا اليوم... أن أكون كبيرا ومتواضعا، قويا وعادلا.. ولكن انظري: القوي اليوم مستبد ظالم، والناس لا تحترم الرجل الصالح، الناس تخاف القادر الذي يضر وينفع كيف أكون قادرا وقويا في هذا الجيل الشرير؟ لن يسمحوا لي بذلك، إنه سلطان الظلمة، أي شخص شريف قادر يزجونه من طريقهم لا يسمحون له بالبقاء بينهم... يطلقون على ذلك عمليات التطهير، كل يوم نسمع عن عمليات تطهير في الجيش وفي الشرطة وفي كل وظائف الحكومة، الشرفاء يضعونهم في السجون أو يتخلصون منهم...إنهم لم يدعوا أمثالي يعيشون إلا لأننا في نظرهم ضعفاء غير قادرين على شيء.

... نفكر أنا والأصدقاء في عمل تنظيم سري يهدف إلى تغيير المجتمع ونظامه ليس بالعنف، ولكن بتكوين مجموعات من الشباب الطيب الراغب في تغيير وجه الحياة إلى ما هو أفضل فإذا ما اتسع نطاق هذه المجموعات كان لها فعالية في تغيير النظام... سيكون بالطبع تنظيما إسلاميا، لأن الشيء الوحيد الذي يدفع الشباب لتحمل هذه المخاطر في ظل هذا النظام البوليسي الذي يحكمنا هو العقيدة.. ولكنني يا حبيبتي غير متحمس لهذا .. .لي رأي مختلف ونظرة أراها أشمل للقضية.

.. فمصر في نظري، كفتاة أغواها شاب (بلطجي) مستهتر، أسرها فأحبته وهربت معه قطعت كل جسورها، لا يمكنها العودة ولا التوبة، وما زال سلطانه عليها قويا، هي تشتهيه وتنطلق أحاسيسها معه تورطت معه في رذائله، قد تحقد عليه ولكنها تخضع له، أصبح هو عالمها لم يعد لها غيره، وطنت نفسها على أن تشاركه حياته، زلت معه فارتبط مصيرها بمصيره.. فإذا قابلت يوما رجلا صالحا ينصحها فلن تسمع له، بل قد تكرهه، خاصة إذا رأت فيه مثل ضعفها، إذا رأته يخاف مثلها من عشيقها.

والآن ما الحل؟ أمنا العزيزة قد سقطت، عاشت الرذيلة واستمرأتها، لا أرى حلا واقعيا، لا أرى إلا الأحلام أحلم برجل«كيوحنا المعمدان» يصرخ في الناس: «يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، اصنعوا ثمارا تليق بالتوبة» .. رجل يتوب الناس على يديه يغتسلون بين يديه في ماء النيل كما اغتسل اليهود في نهر الأردن بين يدي «يوحنا» علامة على التوبة والاعتراف بالخطيئة.

... ولكن كيف يأتي رجل كيوحنا قابض على الشريعة؟ يلبس وبر الإبل وعلى حقويه منطقة من جلد طعامه الجراد والعسل البري صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب: زاهد في كل متع الحياة لا يخاف الملوك على عروشهم وهم يهابونه.. يجمع الناس كبيرهم وصغيرهم على أنه رجل الرب تخافه العامة وتهابه الخاصة .. كيف يأتي رجل كهذا؟ وهل يسمح له مجتمعنا بالظهور؟ قرأت عن شخص يتخيل عودة المسيح في هذا الزمان، وكيف سيتقبله الناس، وقد توصل في النهاية إلى أن العلم المسيحي هو الذي سيضطهده ويسجنه.

وهكذا يا حبيبتي ترين أنه لا ينقذني إلا الأحلام، والواقع يطؤنا بأقدامه الثقيلة المتسخة، ويقضي على كل الآمال القريبة.. حتى حبك أعتقد أحيانا أنه ليس سوى جزء من الأحلام .. أشك أحيانا في طبيعة هذا الحب أنا أحلم بحبك أنت لي، أن أصبح أنا كل حياتك، كل سعادتك، كل عالمك.. ولكن الواقع أنني أن الذي أقدم لك الحب، كأنما استجدي حبك لي، أحاول أن أكف عن هذا ولكن أخاف أن أفقدك، أخاف أن أفقد الحلم الذي يعطيني مبررا للحياة، مبررا للصبر على ما أعانيه، وهكذا ترين أن صورة حبنا مقلوبة، أنا الذي كان من المفروض أن أتلقى الحب، أقدم لك حبي دائما.. قد تقولين ولكنك في حالة لا تسمح بتلقي الحب، أنت تكاد تكره نفسك فإذا قلت بذلك فقد صدقت .. ولكن لا بأس سأنتظر حتى تحل مشكلتي الأيام، سيأتي يوم أعيش فيه في سلام مع نفسي سأكون حينئذ مستعدا لتلقي حبك، ستجدين سعادتك في قربي، أعدك بهذا، لعل هذا هو ما أصارع من أجله!!

.. تعرفت على شخص يدعى «وديع فرج» يحمل دكتوراه في اللاهوت من أمريكا، جاء إلى مصر ليبشر بدعوة جديدة... كان ذلك في أثناء سيرنا في الطريق، حين مررنا بكنيسة كتب عليها الأدفنتست (السبتيون) وقد علق إعلان عن محاضرة بداخلها، فدخلنا وكان هو المحاضر، وقد تكلم بكلام طيب عن موسى وعيسى وعن المحبة والإيمان، ثم في نهاية المحاضرة عزفت ترانيم جميلة صرنا نرددها معهم.. شدتني هذه الترانيم، كان فيها معنى الحلم «إلى كنعان موطني... تسيل دمعتي»... « سنعيد عهد موسى والخروف (عيسى عليه السلام)..» المهم أننا تعرفنا عليهم، وعلى أفكارهم التي كان أ÷مها أن رجال الكنيسة هم الذين بدلوا كثيرا من تعاليم المسيح، فمثلا المسيح يقول: «ما جئت لأنفض بل لأكمل» أي أن المسيح يقول: إنه لا ينقض شريعة موسى.. ولذلك فالكنيسة هي التي جعلت يوم الأحد يوم الراحة بينما شريعة موسى قررت أن السبت هو يوم الراحة، لذلك سموا أنفسهم (السبتيون).

شدني إليهم أنهم قوم حالمون مثلي فصرنا نتبادل الزيارات، ونحضر محاضراتهم، ونرنم معهم ترانيمهم الجميلة وقد انطلق لساني للتحدث بالإنجليزية بعد أن تكررت زيارات مسز «إميلي» لي وهي امرأة مسنة رقيقة طيبة، جاءت من أمريكا ولا تعرف العربية، وقد أهدوا إلينا بعض الكتب كالكتاب المقدس، وهو يحوي العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل) وكذلك كتاب الآباء والأنبياء «لإلن هوايت» تشرح فيه قصص الأنبياء منذ بدء الخليقة وقد رأيت تشابها لحد التطابق أحيانا في قصص الأنبياء عندهم وعندنا، ولعل هذا هو الذي دفع «النجاشي» ليقول بعد أن سمع القرآن «والذي نفسي بيده إن هذا وما جاء به عيسى ليخرجان من مشكاة واحدة».

لقد استفدت كثثرا من قراءتي المكثفة والمتكررة في الكتاب المقدس، إن تاريخ بني إسرائيل وما حل بهم من كوارث وتألب الأمم عليهم، وأنبيائهم، وفسادهم وبعدهم عن الشريعة وتوبتهم، وحركات الإصلاح عندهم، كل ذلك بشبه إلى حد كبير ما حل بالأمة الإسلامية.

أعجبت كثيرا وتأثرت بشخصية المسيح وحفظت كثيرا من كلماته، وأمثلته ومواعظه، وأحسست أنني أفهم شخصيته، وأعرف سر آلامه.. يلومني أصحابي لتأثري الشديد بالمسيح، ويقولون: إن محمدا هو قدوتنا. وقد توقفت مليا لأفكر في هذا .. حاولت أن أتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا أعلى ولكنني عجزت، فهو شخصية جامعة، نراه في مواقف، أبا روحيا له رقة ورحمة المسيح ونراه محاربا فارسا شجاعا نبيلا تتملكه روح الشباب، عنيفا، حكما وقاضيا، ونراه غيروا محبا، حنونا، مصارعا مقاتلا قائدا، مشرعا. شخصية لم ولن تتكرر هو خلقه القرآن، أي الكمال.. نرجع إليه إذا اختلفنا على شيء أما الشخص الذي يمكن أن يتخذه المرء مثلا أعلى .. فهو شخص تحس بأن بينك وبينه تشابها في الدوافع والتفكير والملكات.. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» لا يمكن أن يلومني شخص لحبي وتأثري بالمسيح، فقد رأيته جاء إلى قوم يشبهون قومنا، يؤمنون بالله بأفواههم وتأبى قلوبهم يدعون الإسلام وهم يبعدون عنه، كبعد المشرق عن المغرب قوم يحملون ركام حضارة تحطمت، ملأتهم العلل والأمراض، مرضت قلوبهم، والتوت نفوسهم .. قوم يحتاجون إلى مسيح يشفيهم، يستل أحقادهم.

حبيبتي مريم.. حاولت أن أتوقف عن حبك، أن أعطيك الفرصة لتكتشفي حبك لي ولكنني لم أستطيع أحبك كطفلة أخاف عليها ألا تعرف طريقها قلبي يهترئ حنانا وصبابة لرؤياك .. سأكون كما تحلمين، قويا قادرا تحتمين به تلوذين إليه تتركين عالمك لتعيشي في عالمه آمنة مصونة راضية. مجتمعك يرفضني يظن أنني شخص حالم يسبح عكس التيار، يبدد ماله ووقته ومستقبله، ولكنني سأثبت له أنني غير ذلك، كل ما أطلبه منك أن تصبري قليلا. وحتى نلتقي لك أطيب الأمنيات.

ع. م

مصر الجديدة مارس سنة 1962

الرسالة السابعة

حبيبتي مريم.. مريم يا أخت العذراء

.. كطفل أخطأ فهو يلتمس رضى أمه، ويخاف عقابها .. عقابك لي أن أشعر أنك غير اضية عني.. أعدك أن أنجح في العام القادم وأحصل على «البكالوريوس» . كنت منهمكا في القراءة قرأت كثيرا هذا العام.. المصنع الذي أعمل به مع أبناء العم يفلس لسوء إدارته من ناحية وللظروف الاقتصادية في البلد من ناحية أخرى لنا شريك فاسد، والمحاسب مخمور دائما، والموزع يأخذ البضاعة ويأتي لنا بكمبيالات لم يسدد أغلبنها أعادها لنا البنك وعليها البروتستو مشاكل العمال لا تنتهي الحكومة أممت كل شيء تحارب القطاع الخاص ويسرق رجالها القطاع العام لذلك فأنا أجلس في بيتي أقرأ قرأت ثلاث قصص في الحب أعجبتني «بول وفرجين» و «ما جدولين»، و «آلام فيرتر» وأعجب لماذا يعرض شباب هذا الجيل عن قراءة مثل هذا الأدب، لماذا يعرض عن الحب العفيف وعن الشاعرية، ما أسهل ما يقولون: هذه «رومانتيكية»!!

... يسود الأدب الحسي، يقرءون لإحسان عبد القدوس ونزار قباني كنا عند العقاد وسأله أحدهم عن رأيه في «نزار» فقال: أتحدى أن هذا الرجل مخنث يحمل مشاعر امرأة.. قال له سائله: هل سمعت قصيدته التي تغنيها نجاة الصغيرة «حتى فساتيني التي أهملتها فرحت به...» ألا ترى أن أهذا صدق في التعبير؟.. فثار العقاد وقال: لو أن كل تعبير عن الأحاسيس يعتبر فنا صادقا، فأحسن من نزار وأشعر تلك «الغزية» التي كانت تغني «.. شد شعري وأقرصنى واتفل في فمي وقل لي يا قحبة» فضح الجميع بالضحك.

لست أدري حتى متى هذا الانحدار الذي ينزلق فيه المجتمع؟.... أم كلثوم وعبد الوهاب بعد أن تخطي عمرهم الستين عاما وبعد غنائهم للقصائد ذات المعنى، أصبحا يغنيان أشياء مبتذلة لم يكونا ليغنياها في شبابهما، هل ذوق الناس قد تغير عما مضى؟ .. . الصحفيون الذين كان لهم ماض في المقالات السياسية، تركوا ذلك ليتكلموا فيما غث من الأمور.

الأدباء والكتاب ماذا جرى لهم؟ لماذا خفت صوتهم أفضلهم العقاد الذي لزم بيته يقرأ ويكتب وترك مسرح السياسة خاليان لم يكن يعجبه ظلم الحكام في عهد الملكية، فما باله صامت على القهر في هذا الحكم العسكري؟ تثور حرب كحرب اليمن، دون إرادة ولا رغبة من الناس، ويموت آلاف من أبنائنا، ويمنع الناس حتى من إقامة المآتم لموتاهم القتلى على أرض اليمن، ولا أريد أن أقول الشهداء، فأي شهادة هذه ولا أحد يتكلم!! لا صوت يعارض!.. نسمع عن مؤامرات يتم إحباطها وإعدام القائمين بها سرا ولا تعليق!! جميعنا يعرف كل ذلك شعبنا ذكي يدرك كل ذلك بفطرته، بتجاربه العريقة الممتدة عبر التاريخ.. ولكنه مقهور، ولا يجد متنفسا إلا في نكتة يطلقها، تذكرين عندما تفرد الدجال بالسلطة، وأظهر سطوته، شاعت نكتة تقول بإذنه دخل أحد دور السينما، فعرضت في البداية جريدة الأخبار وظهرت صورته، فضج الناس بالتصفيق فامتلأ زهوا وغرورا لحب الناس له، وبالطبع هو يصفق، فلكزه جاره وقال له بإشفاق: صفق وإلا ذهبت في داهية.

إن إرادة الشعب مسلوبة، ولا يطفو على السطح إلا الفارغون... كيف يمكنني أن أحصر اهتمامي في المذاكرة والنجاح في الامتحان، أنا ابن هذا الشعب تفرحني أفراحه، وتحزنني أحزانه، بل أنا أحمل همومه أينما ذهبت.

ذهبت إلى أصدقاء الشارع في المدينة التي شهدت صباي ومطلع شبابي، وجدتهم ينحتون الصخر ليحصلوا على الشهادة الجامعية، التي هي رخصة هذا الجيل للحصول على الوظيفة الحكومية المحترمة نوعا والتي هي جواز المرور للزواج من بنات الناس. ذهبت إلى صديق يستأجر شقة في شارع قريب بجوارنا كانت الليلة هي ليلة الجمعة الأولى من هذا الشهر، موعد سهرة أم كلثوم الشهرية، كان قد فرض الأرض كلها وأظلم المكان إلا من بعض شمعات قليلة، وجلس هو وأصدقاؤه أرضا يدخنون سجائر الحشيش وصوت الساحرة يلف المكان وهي تتأوه في ضنى والجميع يتمايل فبدا الأمر كله كمناحة الكل فيها يبكي على حب ضائع، أو أمل مفقود، أو جرح مازال ينزف... والغريب أن بيت صديقي هو صورة لعشرات الآلاف من الاجتماعات التي تعقد على شرف هذه السهرات. .. آه يالضيعة هذا الجيل..

.. الكل يعرف أن القائد العام للقوات المسلحة وجنرالاته، وكبار رجال الحكومة حشاشون، ثم نقرأ في الصحف أن الحكومة تحارب الحشيش، وهل يمكن أن يدخل إلى البلاد حشيش إلا بمباركتهم وعن طريقهم .. لا أحد يستطيع أن يتلكم أو ينطق بالحقيقة .. تنتشر الشائعات عن «صلاح نصر» رجل المخابرات القوى، وكيف يضع أعداءه في حوض به حامض قوي فيذوبن ولا يبقى لهم من أثر فتمتلئ قلوب الناس رعبا.. لم تشهد مصر فرعونا كهذا منذ عهد موسى، يستعبد الناس، يذبح أ،باءهم، ويستحي نساءهم في السجون والمعتقلات وفي حروب يعلنها لأطماعه، وفي قيم يدمرها، وبيوت مصونة يهتك سترها.

مريم أيتها الحبيبة.. لو أني أعرف أن مطلبك منى هو النجاح لنجحت، فما أسهل ذلك على أنا لا أفتح كتب الجامعة إلا ليلة الامتحان ولا أحضر أغلب المحاضرات، صدقيني لو صممت أن أنجح لنجحت، ولكن هناك ما يشغلني، ما هو أهم عندي من ذلك. أنا عرف ما تطلبينه مني، حتى وإن عجزت أنت عن إدراكه التعبير عنه.. أنت تريدين مني أن أكون شيئا، شيئا تنتمين إليه، الشهادة وحدها لن تحقق لي ذلك، سأكون موظفا حكوميا مطحونا مثل الآلاف... أنا فعلا يا حبيبتي شيء كبير تفخرين بالانتماء إليه ولكن كيف أثبت لك ذلك؟ شاعر يعرف أنه شاعر، ولكنه لم يكتب قصيدة بعد.

عالم يعرف أنه عالم ولكن لم يظهر من علمه للناس شيء بعد ملحن تدور بخاطره أعذب الألحان ولكنه لم يكتب لحنا بعد. نبي تطمئنه الرؤى والإلهام ولكن لم تثبت نبوته بعد كيف يمكن لأحدهم أن يكون الرؤى والإلهام ولكن لم يثبت نبوته بعد كيف يمكن لأحدهم أن يكون أمام الناس مقنعا.. تعذبني أفكاري، أقول كما قال نبي بني إسرائيل: «حقواي امتلأت وجعا، وأصابني مخاض كمخاض الوالدة»... مجتمعنا لا يرى الحب، كتربة قاحلة لا ينبت فيها غير الأشواك، قرأت قصة حب طريفة من أدبنا العربي سأحكيها لك لترى كيف كان المجتمع غنيا بالخير، يرعى الحب، ويحرس المشاعر الطاهرة ويحميها الكبار ليسوا أشرارا، والأغنياء ليسوا بخلاء تسود فيه قيم النبل والشهادة تقول القصة:

قال إسحق ابن إبراهيم الموصلي: لما دخل الرشيد إلى البصرة حاجا، كنت معه، فقال لي جعفر بن يحيي البرمكي يوما: يا أبا محمد، قد وصفت لي جارية مغنية حسناء تباع وذكروا أم مولاها ممتنع عن عرضها إلا في داره، وقد عزمت أن أركب متخفيا فأراها، أفتساعدني؟

فقلت: السمع والطاعة، فلما انتصف النهار حضر النخاس. فأعلم بحضوره، فخرج جعفر بعمامة وطيلسان ونعل عربية وأمرني فلبست مثله، وركبنا حمارين قد أسرجا لنا سروج التجار، وركب النخاس معنا، حتى أتينا دارا ذات باب يدل على نعمة قديمة فقرع النخاس الباب وإذا شاب حسن الوجه عليه آثار ضرباد، وعليه قميص ففتح وقال: انزلوا يا سادة، فدخلنا بدهليز ودار قوراء خربه، فأخرج لنا الرجل قطعة من حصير كبيرة خلق ففرشها لنا، فجلسنا عليها وقال له النخاس:

أحضر لنا الجارية، فقد حضر المشتري فدل البيت وإذا بجارية قد خرجت في القميص الغليظ الذي كان على الفتى بعينه، وهي فيه (مع خشونته) كأنها الحلي والحلل لحسن وجهها وفي يدها عود، فأمرها جعفر بالغناء فضربت بالعود ضربا حسنا، واندفعت تغني غناء جميلا ثم غلبها البكاء حتى منعها من الغناء، وسمعنا من البيت نحيب الفتى، وقامت الجارية تتعثر في قميصها حتى دخلت البيت فارتفعت لها ضجة بالبكاء والشهيق، ثم خفتا حتى ظننا أنهما قد ماتا، وهممنا بالانصراف فإذا بالفتى قد خرج ولعيه القميص بعينه، فقال: أيها القوم أعذروني فيما أفعله وأقوله فقال له جعفر: قل: فقال: أشهد الله وأشهدكم أن هذه الجارية حرة لوجه الله تعالى، وأسألكم أن تزوجوني بها فتحير جعفر أسفا على الجارية، ثم خاطبها فقال: أترغبين أن أزوجك من مولاك؟ قالت: نعم فزوجها به.

وأقبل جعفر على الفتى فقال له: يا هذا ما حملك على ما فعلت؟ فقال: أنا فلان ابن فلان، وكان أبي من وجوه هذا البلد ومياسيره، وهذا يعرف ذلك وأشار إلى النخاس وأنه أسلمني للمكتب، وكانت لأمه صبية وسنها قريب من سني وهي جاريتي هذه وكانت معي في المكتب تتعلم ما أعلم وتنصرفي معي (انظري كيف كانوا يعاملون العبيد وكيف نعامل نحن الخدم الأحرار!!) ثم علمت الغناء، فكنت أتعلمه منها ثم خطبني وجوه أهل البثرة لبناتهم (انظري كيف كان الناس يشترون الرجال) فخيرني أبي، فأظهرت له الزهد في التزويج، ونشأت متوفرا على الأدب، متقلبا في نعمة أبي غير متعرض لما يتعرض له الأحداث، ورغبة أهل البلد تزدا في وعندهم أن عفتي لصلاح، وما كنت إلا لأنسي بالجارية، وأن رغبتي لا تتعداها، وبلغت الجارية في الغناء ما قد سمعتموه، فعزمت أمي على بيعها، وهي لا تعلم ما في نفسي منها، فأحسست بالموت، واضطررت إلى أن صدقت أمي، فحدثت أبي، فأجمع رأيهما على أن وهبا الجارية لي، وجهزاها كما يجهز أهل البيوتات بناتهن (انظري إلى الخير في نفوس الناس) وجليت على وعمل العرس الحسن، فنعمت مها دهرا، ثم مات أبي فلم أحسن أن أربي نعمته، فأسأت تدبيرها، وأسرفت في الأكل والشرب وغيرهما من المتاع، إلى أن تلفت النعمة، وأفضت الحال إلى ما ترون، فأنا على هذا منذ سنين.

فلما كان هذا الوقت بلغني الخليفة ووزيره ومعهم الكبراء إلى البصرة ،فقلت لها: يا أختي، إن شبابك يبلى، وعمرك في الدنيا ينقضي والله ما في نفسي رغبة في بيعك، فأني أعلم أني تألف متى فارقتك، ولكن أوثر تلفي مع وصولك إلى نعمة ورفاهية، فدعيني أعرضك، فلعله يشتريك بعض هؤلاء المياسير، فكوني معه في رغد العيش، فإن مت بعدك فتلك أمنيني، ويكون كل واحد منا تخلص من الشقاء، وإن حكم الله عز وجل علي بالبقاء، صبرت لقضاء الله، واضطربت في معاشي بثمنك.. فبكت من ذلك وقلقت، ثم قالت: أفعل.

فخرجت إلى هذا النخاس، وأطلعته على أمري وقد كان يسمع غناءها في أيام نعمتي، وعرف حالها وحالي، وأعلمته أني لا أعرضها أبدا إلا عندي، فإنها والله ما تسلقت عتبة هذه الدار قط، وأردت بذلك أن يراها المشتري وحده، ولا تمتهن بسوق، ولا بدخول إلى بيوت الناس.

وإنه لم يكن لها ما تلبسه إلا قميصي هذا، وهو مشترك بيننا ألبسه إذا خرجت لأبتاع القوت وتتشح هي بإزارها فإذا جئت إلى البيت ألبستها إياه واتشحت، أنا بالإزار.

... فلما جئتما خرجت إليكما فغنتكما، فلحقني من البكاء والقلق أمر عظيم، ودخلت إلى وقالت لي: يا هذا ما أعجب أمرك أنت مللتني وآثرت فراقي، وتبكي هذا البكاء علي! فقلت: يا هذه والله لفراق نفسي أسهل علي من فراقك، وإنما أردت أن تتخلصي من هذا الشقاء فقالت: يا مولاي لو تملكت منك ما تملكته مني ما بعتك أبدا، وأموت جوعا، فيكون الموت هو الذي يفرق بيننا، فقلت: لا عليك! أتريدين أن تعلمي صدق قولي؟ قالت: نعم قلت: هل لك أن أخرج الساعة إلى المشتري فأعتقك بين يديه وأتزوجك، ثم أصبر معك على ما نحن عليه إلى أن يأتي الله بفرج، أو موت، وراحة؟ فقالت: إن كنت صادقا فافعل هذا، فما أريد غيرك فخرجت إليكم وكان مني ما علمتما فاعذراني.

قال إسحق: فقال جعفر: أنت معذور ونهض، فنهضت معه والنخاس، فلما قدمت الحمير لنركب، دنوت منه فقتل: يا سبحان الله مثلك في جودك يرى هذه الفاقة، ولا ينتهز الفرصة بها (انظري إلى التعبير) والله لقد تقطع قلبي على الفتى: فقال: ويحك وقلي والله لكن غيظي من فوت الجارية منعني من التكرم عليه فقلت: فأين الرغبة في الثواب؟ فقال: صدقت الله ثم التفت إلى النخاس فقال له: كم كان الخادم سلم إليك عند ركوبنا لثمنها؟ قال: ثلاثة آلاف دينار.

قال: فأين هي؟ قال: مع غلامي، فقال لي وللنخاس: خذاها ادفعاها للفتى وقولا له: يكتسي ويركب ويجيئني لأحسن إليه واستخدمه فرجعت إلى الفتى أنا أبكى فقتل له: قد عجل الله عز وجل لك بالفرج إن الذي خرج من عندك هو الأمر جعفر البرمكي، وقد أمر لك بهذا، ويقول لك كذا، وكذا.. فصعق حتى قلت قد تلف، ثم أفاق أقبل يدعو ويشكرني، فركبت فلحقت بجعفر، فأخبرته فحمد الله عز وجل على ما وفقه له، وعاد إلى داره وأنا معه... .. فلما كان العشاء جئنا إلى الرشيد، فأخذ يسأل جعفر عن حاله في يومه، وهو يخبره بالأمور السلطاني، ثم قص عليه حديث الفتى والجارية، فقال له الرشيد: فما عملت؟ فأخبره، فاستصاب رأيه، وقال وقع لي برزق لسلطاني في رسم أرباب النعم، في كل شهر كذا وكذا، واعمل بعد ذلك ما شئت.. فلما كان الغد جاءني الفتى راكبا.

بثياب حسنة، وهيئة جميلة فإذا هو أحسن الناس كلاما، وأتمهم أدبا، فحملته معي إلى جعفر، وأوصلته إلى مجلسه، فأمر بتسهيل وصوله إليه وخلطه بحاشيته، ووقع له عن الخليفة بما كان رسم له، وعن نفسه بشيء آخر وشاع حديثه بالبصرة وفي أهل العسكر، فلم يبق فيهما متطرف إلا أهدى إليه شيئا جميلا، فما خرجنا من البصرة إلا وهو رب نعمة صالحة!

حبيبتي مريم.. إذا ما قيست هذه القصة بمقياس العصر الإسلامي الأول، قد نرى ضعفا في همم الشباب، وتغيرا في معاييره، ولكن لو قسناها بما نحن فيه اليوم فأي مروءة كانت بين الناس وأي فضل كانوا عليه وأي رحمة سادت بينهم! أتعرفين؟ أنا أرى بقية من هذه الرحمة في هذا الجيل متمثلة في أمك إنها ترحمني وترجو أن تكوني لي، ولعلها ترحمك أيضا، فقد تكون قد رأت منك ميلا كم أحب أن أراه...أن أمك تشجعني تعدني بأن الأمور ستكون على ما يرام، ما أطيبها وأرحمها!! إنها امرأة من المتطهرين، ذات صرامة، أعطت قلبها لكم، وهو أعظم ما تعطيه الأم لأبنائها.

حبيتي مريم.. أغار عليك من أفكارك .. أخشى أن تعجبك الأصنام أن تستخفك أضواء الملهى.. وصوت المعازف والدفوف.. أخاف أن تقولي كما قال الشاعر:

وما أنا إلا من غزينة إن غوت غويت
وإن ترشد غزينة أرشد

أخاف عليك من سحرهم فهو شديد .. أخاف عليك من اليأس فهو ظلام للقلوب.. أخاف عليك من الأوهام والأحلام أن تخدعك... أغار لأني أعرف أن سلطان المجتمع عليك عظيم .. أنت لا تلبسين ما يعجبني بل ما يعجب الناس.. لا تتزينين لأراك، بل ليراك الناس... ترددين أفكارهم وأحلامهم... تبهرك الحياة.. ولكن لو أعلم أنك حقا كما وصفتك ما أحببتك فما هذا إلا قشرة ومظهر لا يطولان جوهرك.. جوهرك أيتها الحبيبة ملاك في غربة، ملاك يبحث عن موطنه الذي جاء منه، يحلق أحيانا ليسمع ترنيمات الملائكة في السماء، ثم يشده جو الأرض الخانق الساحر.. .ملاك بيدي عن وجه، في قطرات دمع تنسكب من عينيه، من ضحكة صافية جاءت كنسمة الربيع، من حزن وألم تنطق به العينان بلا سبب مفهوم.

ملاكي أنا على حبك باق إلى الأبد، وال أملك لك اليوم إلا الدعاء أن يعمر قلبك بالأمل والحب والإخلاص.

ع. م

مصر الجديدة يوليو سنة 1962م.

الرسالة الثامنة

مريم...

تقولين إنك توقفت عن حبي منذ سنوات.. حسنا.. وتقولين إنك تعرفين أنني أحبك، وأنك سمعت مني ذلك مرارا... حسنا وماذا بعد؟ أنا الذي أسرفت في تدليلك.. صدقيني إذا قلت لك إنني لا أبحك كما تتصورين . أنا أحبك بطريقة مختلفة قلي لم يتعلق بك، ولمنه يذوب حنانا لمرآك.. قلبي متعلق بما هو أكبر، متعلق بالحقيقة.

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواها» والمسيح من قبل يقول في وصيته الأولى: أن تحب الرب إلهك من كل قلبك.. قلبي ليس فارغا كما تعتقدين ليملأه حب امرأة.. لا.. كل ما في الأمر أنك المرأة الوحيدة التي يرق لها قلبي تسكن لها نفسي أشعر كأنما هي قطعة منزوعة من ضلوعي وإذا لم يعجبك كلامي هذا أيضا فسأكف عنه ، لن تسمعي مني كلمات الحب ثانية سترتمين يوما تبللين بدموعك قدمي، أيتها العصية العنيدة، جارية أنت تعصي سيدها.. ولم لا تعصين وهذا عصر العصيان.. الجميع في عصيان .. سمة العصر (العصيان) الجميع متمرد يتمردون على الشريعة على التقاليد، على العادات، على الأخلاق، يتبجحون بكلمة رجعية أي التزام عندهم رجعية كل ما نزل من عند الله وجاء به محمد سيد الأنبياء وحفظته الأجيال والآباء عبر القرون، صار عندكم يا أشباه القردة رجعية.

آه.. أين أنت يا «أرمياء» النبي .. أردد كلماتك «قال لي الرب: هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل انطلقت إلى كل جبل عال، وإلى كل شجرة خضراء وزنت هناك فقلت بعدما فعلت كل هذه ارجعي إلى فلم ترجع فطلقتها وأعطيتها كتاب طلاقها، لم تخف الخائنة يهوذا أختها بل مضت وزنت هي أيضا وكان من هوان زناها أنها نجست الأرض وزنت مع الحجر ومع الشجر..» آه يا أرمياء ماذا لو رأيت عصرنا!

مريم.. لو أعلم أنك مثلهن ما بكيت عليك ولقلت: لتلتهم «إيزابيل» الكلاب. ولكني أعرفك مجبولة على الفضيلة أنت تبدين مضحكة، وأنت تلبسين لباس الغواني.. كل من يعرفهن يعرف أنك غريبة عنهن.

أتعرفين يا مريم وأنا أرى العاهرات في العصر، تفتح لهن الأبواب، كلماتهن مسموعة، وطلباتهن أوامر، حكامنا يبجلونهن ويرفعونهن على رؤوس الناس، أحلم بأن أجعل للعفيفات قلاعا حصينة، تشخص العيون إجلالا لفضيلتهن أحلم بمجتمع تكن أنتن سيداته، أرمكن مطاع وجانبكن مهاب، وشرفكن مصون، أحلم أن أرى العاهرات يملؤهن الخزي يتوارين مذلة.

ولكن إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله تهرب الخراف من الراعي وتذهب للذئاب ملحمة تتكرر عبر الأزمان هل أكتب لك أم أكف عن الكتابة؟ ولكن كيف أكف عن الكتابة؟ ومن أين أحصل على السلام؟ «أحشائي.. أحشائي يوجعني، جدران قلبي يئن في قلبي لا أستطيع السكوت».

صدقت يا رسول الله «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» كلهم يصرخون، ويغضبون، ويئنون، تمتلئ حياتهم بالحسرة على شعبهم الضال، تفتحت عيونهم على الحقيقة فهالهم ما وصل إليه حال الناس. امتلأت قلوبهم بحب الناس فبكوا لهم وعليهم ما الذي جعلهم يصرخون مخدرون ومنذرون والألم يعتصر قلوبهم؟ أليس هو الحب.

حب الرجل الصالح لقومه وعشيرته ولكن هذا من مجيب؟ هل من مصغ؟

لن أكف عن الكتابة إليك هذا قدري أنت قدري وأنا قدرك وأنت أمامي إحدى اثنتين إما كما أظن فلابد أن أكتب إليك أو لست كما أظن، فلا يضيرني أن تزعجك كلماتي.. مزقي خطابتي، ولا تقرئيها افعلي بها ما شئت ولكنني مدفوع للكتابة، مسير إلى أن أكتب لن أتوقف كأنما أقوم بواجب، أزيح عن صدري حملا ثقيلا أشعر بقليل من الراحة أتخفف من بعض أحمالي لذلك سأكتب لك.

لعل القدر يريد أن يرسم نهاية لقصتنا لا نعرفها نحن مدفوعون إليها بلا وعي منا.

مريم.. أنا لا أطلب منك ما يطلبه الرجل عادة من المرأة، أنا أطلب منك الفهم والتقدير ما أجمل كلمات خديجة وزوجها عائد من غار حراء مكروبا مهموما خائفا، بعد رؤيته لجبريل وهي تداويه بحنانها وتقول: «أبشر والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الدهر» صديقة تحس مما يعانيه حبيبها تؤمن به وتثق بمعنى آلامه وأحزانه.

آه يا مريم.. كم يزعجني تمردك .. تزوجي من شئت ما دمت لا ترغبين في اسعدي بالحياة كما يحلو لك لكن لا تحطمي الصورة التي أحلم بها الرمز الذي أعشقه، لا تقطعي الخيط الذي يصلني بعالمكم.. إن كان هذا يرضيك فلنكن أصدقاء هذا يكفيني فقط أريد أن أراك كما أحب رمزا للفضيلة، أنتم البقية الباقية من الخير في هذه الأمة لا تصدميني لا تجعليني أيأس من ظهور الفجر الجديد.

صديقتي.. صديقتي. أتعرفين أن مشكلة العالم أنه يجهل حقيقة الإسلام، الإسلام هو البناء الكامل الذي يوافق فطرة الناس ويأخذ بيدهم إلى الحياة الصالحة إنه تتويج لكل جهود الأنبياء عبر التاريخ، إنه الحلم الذي طالما داعب خيال كل البنائين للمجتمع الإنساني في قراءتي للتوراة والإنجيل أو ما بقي لنا من ذكراهما رأيت نبوءات كثيرة عن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به.. اكتشفت نبوءة في سفر «أشعياء» عن هجرة الرسول وعن موقعة بدر التي جاء بعد الهجرة بعام، وقتل فيها أبو جهل وأمية بن خلف وأغلب زعماء قريش تقول النبوءة «.... حي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب، تبيتين ياقوافل الدادانيين هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض «تيماء» وافوا الهارب بخبره فإنهم من أمام السيوف قد هربوا من أمام السيف المسلول ومن أمام القوس المشدودة، ومن أمام شدة الحرب.

فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يغني كل مجد قيدار، وبقية عدد قس أبطال بني قيدار تقل لأن الرب آله إسرائيل قد تكلم».... ثم نجد في التوراة أن الله قد وعد إبراهيم أن يجعل من نسل ابنه إسماعيل أمة عظيمة «.. فقال الله لإبراهيم.. لأنه بإسحق يدعي لك نسل، وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها مالك يا هاجر، لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو قومي احملي الغلام وشدي يدك به لأني سأجعله أمة عظيمة وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهب وملأت القربة ماء وسقت الغلام وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس وسكن ف برية «فاران» وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر ».... ونحن نعرف أن الأمة العربية لم تصبح أمة عظيمة غلا بالإسلام وبرسوله محمد، وما أنزل عليه من قرآن.. ولعل هذا يحقق ما تقصده النبوءة التي أوحيت لموسى وبني إسرائيل، «يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوانك مثلي له تسمعون».. فإخوة بني إسرائيل هم العرب.

ولكن النبوءة الأوضح هي ما جاء في إنجيل «يوحنا» من بشارة المسيح بمجيء محمد يقول: «بهذا كلمتكم وأنا عندكم وأما المعزي الروح القدس الذي يرسله الأب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قتله لكم» ويقول: «لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي ولكن إن ذهبت أرسله لكم ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطيه وعلى بر وعلى دينونة أما على خطيه فلأنهم لا يؤمنون بي وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضا وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين»

.. ونحن نعرف أنه وبعد أن مضى عشرون قرنا على وفاة المسيح، أنه لم يأت أحد لبكت العالم غير محمد خاصة بني إسرائيل الذي هم قوم المسيح فنسمع في عشرات الآيات تبكيتا شديدا لهم مثل «أحرص الناس على حياة.. جعلنا منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.. المغضوب عليهم.. كمثل الحمار يحمل أسفارا.. كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث... يحرفون الكلم عن مواضعه... نسوا حظا مما ذكروا به. فما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم. لفاسقين.. كلا بل ران على قلوبهم.. فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.. وقتلهم الأنبياء بغير حق.. إلى آخره»...

حبيبتي مريم.. ستظلين حبيبتي رغم ما تبدين من جفاء أنا لا أثقل عليك، ألف امرأة تتمنى أن تأخذ هذا الحب ليس لي مطالب عندك.

كل ما اعرفه أنني مدفوع إلى حبك بقوة لا أعرفها إلهام يتملكني أنك صديقتي أول من سئمن بي، تمثال أصنعه لأنعم به، أرتكن عليه أفتح لهي قلبي، أناجيه، أبثه آلامي وأحزاني وأفراحي.. كم مرة دعوت الله أن يصرفني عنك ويصرفك عني، ولكن يزداد حبك في قلبي تأكدت أن حبي لك ليس وهما إنه إلهام يملأ قلبي الحياة كلها حلم كبير.

أحيانا يختلط أمامي الماضي السحيق بالحاضر بالمستقبل كأن كل ذلك رؤيا نحن بشر مساكين على هذا الكوكب هذا الكوكب الصغير وسط سكون كبير من حولنا حبي لك حقيقة كبيرة تتملكني أراها تعيش في قبلي وفي عقلي.. أدعو الله أن يملأ قلبك بالحب والخير، وأن يبعد عنك وساوس الظلام واليأس فأنت خلقت لعالم النور والحب والسلام.

ع. م

مصر الجديدة أغسطس سنة 1962م

الرسالة التاسعة

حبيبتي مريم:

غمرتني الفرحة في لقياك. أستنكر من نفسي كل هذا الفرح استكثر على قلبي كل هذه السعادة نظراتك العاتبة تملؤني غبطة، تشعرني بالاهتمام تقربني إليك، تلقى بك في أحضاني ألم أقل لك: إن القدر يجمعنا. يصنع منا عناصر الملحمة قصتنا سيحكيها الناس، دائما أفكر وعيناي على التاريخ وهل الإنسان إلا سيرة، وحكاية تروي، كل يوم يمضي من عمرنا نقول عنه: كنا وكان، وما العمر إلا أيام.

حبيبتي.. إن للحب أشكالا ومظاهر كثيرة... مطالبنا في الحب مختلفة قد نقترب ممن نكره، وقد نبتعد عمن نحب بل قد نكون شديدي الحب لمن يبدو للناس أننا نكرههم، أو شديدي البغض لمن يبدو للناس أننا نحبهم أغلب الناس لا يفهمون حقيقة مشاعرهم نحن جميعا أطفال نظل نتعلم وكلما مرت بنا تجربة جديدة، اكتشفنا أننا كنا نجهل الكثير، ويستمر ذلك ما دمنا أحياء..

.. حبيبتي. .قلت مرة: إنك توقفت عن حبي، ألا ترين أنك كنت تخدعين نفسك أو تخدعينني حبيبتي قد تجفو المرأة أباها أو أخاها أو ابنها تحت ظروف خاصة، تحت ضغط الواقع، وعلى كره منها، ولكنها لا يمكن ن تكرههم الجفاء شيء والكره شيء آخر الجفاء حالة مؤقتة تحدث نتيجة عوامل نفسية، قد تسببها ضغوط خارجية، أو يسببها الرغبة في اختيار الممكن نحن بشر، وأنت خاصة ابنة مجتمعها تتأثر به، تحمي تقاليده تدافع عنها وتتبناها.

.. حبيبتي.. مهرك أعرفه أن آتي إليك يحرسني المجد، يبجلني أهلك، تشخص إلى أعينهم منبهرة، يحسدك النسوة، يملؤك الفخر.. اعذريني إذا تأخرت في جمع مهرك، فأنا أجمعه من سوق مفلس، من حياة قاحلة أشخص ببصري إلى السماء استنجد بكل القوى الطيبة، في جميع العوالم التي يمكن أن تسمع صوتي، أن تصلها استغاثتي أن يطرق سمعها استغاثاتي.

ولكنني أقسم لك أن يوم مجدي آت، ستتغير الأيام، سيستجيب الله لدعائي، لن تستمر هذه الملهاة، فالحياة لم تخلق عبثا، الشعوب التي لا تفيق تدمر، سينكشف يوما سحر الدجال، سيعرف الناس حقيقته، سيعلو صوت الحق، سيجهر بالحق أصحابه دون خوف، سيعلن الناس الدجال في الشوارع دون خوف، سينكمش أعوانه وتخرس ألسنتهم، سيتعجب الأبناء كيف سكت الآباء على كل هذا!! كيف جبنوا!! كيف فقدوا وعيهم كيف باعوا شرفهم! كيف أصبحوا كالنعاج!! إنهم يرون هذا اليوم بعيدا، وأراه قريبا، فليقرءوا التاريخ، كل طاغية إلى زوال يكفي فقط أن يتغلب الناس على خوفهم ليزول الطاغية.

قرأت مسرحية الطاعون تقول بأن رجلا اسمه الطاعون نزل مع سكرتيرته إلى مدينة وذهب إلى قصر الحاكم، وطلب منه أن يرحل هو وأتباعه ويتركوه يحكم المدينة، وحينما أرتفع صوت معارض له، أمر سكرتيرته أن تشطب على اسمه في كشوف تحملها بها أسماء جميع أهل المدينة، فوقع ميتا، وهكذا كلما أبدى أحدهم معارضة، يشطب على اسمه فيقع ميتا، فتملكهم الخوف وأخذوا ما خف حمله وغلا ثمنه وهربوا وتركوا له البلدة.. فمشى في الأسواق يأمر سكرتيرته بشطب أسماء من يقف في وجهه حتى دب الرعب في المدينة، وسلس له قيادها، وخضع الجميع له، إلا شاب عذبه حبه لابنة القاضي، حتى أصبح لا يجد للحياة قيمة إذا فقد حبه، وهان عليه كل شيء، وتحرر من خوفه، فواجه الطاعون ولعنه، فأشار الطاعون إلى سكرتيرته لتشطب اسمه، حتى يسترد هيبته بين الناس. ولكن السكرتيرة اعتذرت وقالت: هو لن يموت لأن قانوننا يقول: إن الذي لا يخاف لن يموت، يموت فقط الخائف حينئذ تحرر الناس من الخوف.. ويعلق المؤلف بأنه يكفي أن يتغلب رجل واحد على خوفه، حتى تندك عروش الطغيان.

...أنا أعرف يا حبيبتي أن الريح غير مواتية، وأن القضية عندنا تبدو مختلفة، وإلا لصرخت في كل مكان ضد الظالم، فأنا لا أخاف أقسم لك أنني لا أهاب الدجال ولا كل من حوله، ولكن هل يجدي ذلك؟

يقول «مالك بن نبي» إن العالم ينتظر مولد حضارة والحضارة لا تنبثق إلا باشتعال الروح الدينية ولم يعد كتاب قادر على أن يبعث هذه الروح في أتباعه إلا القرآن وأنا أضيف أنه إذا كان للحضارة الإسلامية أن تولد من جديد، فلن يكون ذلك إلا في مصر ، لظروف: سياسية، وجغرافية، واجتماعية، وفكرية، ودينية، أعجز عن شرحها لك الآن.

المهم يا حبيبتي الآن.. أن يمتلئ قلبك بالأمل ألا يتطرق اليأس إلى قلبك في مصر قبل حركة الجيش، كان الناس يلعنون الظلم، الصحف تشتم الملك والحكومة، الشباب يتطلع على التغيير، ويسخر من الفساد.. مصر مهد حضارات قديمة، شعب استوعب آلاف المحن، ومهما تعرض للسحق والاضطهاد، كانت فيه دائما بقية تنهي عن الفساد في الأرض تحارب الظلم، وتقف أمام الظالم، وتتطلع إلى التغيير وها نحن أولاء الآن وقد بدا للعقلاء أنه لا أمل، وأن الشعب كله قد فقد وعيه واستكان ومع ذلك فأنا أقول: إن الأمل مازال كبيرا ولا أدل على ذلك، من أننا نحن مجموعة من الشباب لم تفقد الوعي تركت الاهتمام بمصالحها الدنيوية، وشغلت نفسها بمهموم وطنها، فلا حديث لنا إلا عن التغيير، نرى كذب الدجال وأتباعه واضحا، ونسخر منهم ومن شعبنا الذي يصدقهم نرى أن إسرائيل قادرة على هزيمتنا، ورغم ادعاءات المشير، ولولا أن الدجال يخدم مصالحها ويفعل بالشعب المصري مالم تكن تستطيع هي أن تفعله لو حكمت مصر ، لما تركته يعيش ويتبجح، إنها تتركه يقوم بتكفير الشعب المصري، سيجعل المصري يكفر بوطنه، ويكفر بدينه، ويكفر بأهله، وبقيمه، وبكل مقدس ورثه عن الآباء كل شيء محسوب ومدروس وموجه من قبل القوى الكبرى الشريرة، التي تحكم العالم... إنهم يتركونه يعبث لأن عبثه في مصلحتهم.

أليس من حمق الشعب أن يعتقد أن حركة الجيش طردت الإنجليز من مصر دون قطرة دم. ألم يكن الجيش الإنجليزي الذي خاض الحرب العالمية الثانية ببسالة بقادر على سحقهم، ناهيك عن وجود الملك وحاشيته والحرس الملكي، ورجاله بالجيش و (80) ألف جندي إنجليزي بالقنال هل يصدق إلا أحمق أن هذا البكباشي ورفاقه، الذين لم يظهر على أحدهم أي ملامح للنجابة والشجاعة العسكرية، قد طردوا جنود الجيش الإنجليزي والملك وأتباعه من مصر !! طردوا جيش «تشرشل، ومونتجمري» بهذه البساطة!!.. من المضحكات أن مونتجمري في زيارته لمصر ، قابل المشير فوجده يحمل أثقالا من النياشين، فابتسم ساخرا في أدب وقال: أتعرف؟ أنا لا أملك نصف هذه النياشين، ويا لها من سخرية لو كان عند مشيرنا بقية حياء أو كرامة لترك الجيش بعدها فورا..

أحب أن أوضح لك يا حبيبتي أن الإنجليز تركوا مصر بناء على مخطط عالمي، أحد عناصره أن تقوم إنجلترا بالانسحاب من كل مستعمراتها بعد الحرب العالمية الثانية، لأنها أصبحت عاجزة عن دفع نفقات السيادة الباهظة، ولكي تعطي للاستعمار الاقتصادي الأمريكي الفرصة ليحل مكانها، ويحمل هو تبعات الزعامة ألا ترين إنجلترا تنسحب حتى من المستعمرات الغنية كمحميات الخليج كما نسمع هذه الأيام، وحكام هذه المحميات هم الذين يطالبونها بالبقاء حتى يكتمل استعداهم لمواجهة التيارات العالمية المحيطة بهم؟

.. ولكم أعتب على أمريكا التي أحببناها بوصفها المعسكر الذي يحمي العالم من طغيان الحكم البوليسي، كم أعتب عليها لتحالفها مع حكام طغاة عسكريين جهلة، تأتي بهم إلى السلطة ليحققوا ما تعتقد أنه مصالحها، ولكن يبدو أن مخابراتها المركزية يسودها الآن الجناح الفاسد.

وإلا فكيف يعقل أن دولة الحريات وزعيمة العالم الحر، تساند النظم «الديكتاتورية» توصي بضرب الديمقراطية؟ حتى أنت يا أمريكا! يا من شغل صبانا ومطلع شبابنا أبطالك في السينما، نصفق لهم ونحبهم يسلبون لبنا، بكلماتهم العظيمة عن العدل، والحب، والحرية، والفروسية، والبطولة والدفاع عن الحق والشرف.

بعض أصحابي لا يحبون أمريكا، وأنا أعذرهم لأنهم لم يفهموا التاريخ جيدا، لم يقرءوا مذكرات تشرشل عن الحرب العالمية الثانية، ليدركوا فرحة العالم الحر بدخولها الحرب لترجح بذلك كفة الحرية والديمقراطية على شهوة الطغيان المسعور، وكيف كان رصيد العالم من قوة الخير في أمريكا ما أشبه موقف إنجلترا وأمريكا في هذه الحرب من موقف مصر والشام في عهد السلطان قطز، وهما ينقذان العالم من موجة التتار الشريرة المدمرة!

أقول لهم سأضرب لكم مثلا بسيطا: لو أن صاعقة أو زلزالا كبيرا أو أي كارثة أزالت الولايات المتحدة من الوجود، ماذا يصبح مصير العالم؟ ألن يلف الظلام أرجاء المعمورة تحت ستار حديدي يفرضه الاتحاد السوفيتي والصين؟ ألن ينقلب الناس عبيدا تحت قبضة حزب حاكم؟ أليس هذا ما نعاني منه الآن؟

حبيبتي مريم أتعرفين أن رؤيتي لكنيدي وجاكلين تبهجني، كل مظاهر الحب والنضارة تبهجني، اشعر بأن الخير ما زال موجودا في هذا العالم، أحبك يا بهجة أيامي، يا أنضر ما في الوجود، يا روح الفضيلة أحبك.

ع. م.

مصر الجديدة نوفمبر سنة 1962م

الرسالة العاشرة

حبيبتي مريم:

مسكين هذا الإنسان.. أشياء صغيرة تسعده، وتعمره بالضياء تجعله يحلق في النور، قلبه يطير فرحا، الدنيا لا تتسع له، الكون يضحك من حوله، لا يغضبه شيء يتسامح ويغفر ويعطي كل ما عنده في سرور، سكران هيمان، بخمر كخمر الجنة تبهج ولا تكدر، تنعش ولا تفقد الوعي، تزيل الهموم والأحزان، تترك قلوبنا كقلوب الأطفال، طاهرة نقية، الضحكة من القلب تنير الوجه.. يقول المسيح لليهود الذين قست قلوبهم بأنهم إن لم يعودوا فيصبحوا في براءة الأولاد فليس لهم مكان في ملكوت الله.. تغمرني فرحة طفل.. منذ سمعت وعد أمك التقية بأنك لي، ومنذ طلبت مني أن أنجح هذا العلام وقلبي تغمره الفرحة أعدك بالنجاح فما أهون ذلك علي! .. كل هذه الساعات الطويلة وأنا أجلس معك في صفاء أملأ عيني من صورتك، وأملأ خاطري من صوتك، من ضحكاتك.. لابد أن سعادتي تحسدني عليها الملائكة حتى الملائكة التي عرفت أحزاني واستمعت لآهاتي.. هكذا يا حبيبتي يأتي العزاء الذي تكلم عنه الأنبياء .. مساكين أولئك الذين تحكمهم المادة، وتسيطر على تفكيرهم إنهم يهتمون بالكم وليس بالكيف .. أنا يمكنني أن أشقى عاما كاملا لأحصل على مثل هذه السعادة يوما واحدا، أعيش على ذكراه.. لابد أن الشهداء الذين ضحوا بحياتهم كانت تناديهم أطياف نورانية كهذه لا يمكن أن يكون الإنسان جسدا فقط لابد أن الروح باقية الروح مخلوقة أطياف نورانية علوية، الجسد رداء يناسب مناخ الأرض كالحلة التي يصنعونها لرجال الفضاء ولتناسب جو القمر... عدت من عندك، فأخرجت كتب الجامعة لأدرسها، ما أهون أن أنجح أنا أقرأ أكثر من كل هذه الكتب أحيانا في أسبوع واحد. سأنجح أعدك بذلك.. هل تعلمين أن زواجي منك علامة أنتظرها، رمزا لانتصار الحب.. أحس أنني سأولد من جديد، سيتدفق من قلبي ينبوع نور وحكمة يفيض على الجميع الناس في حاجة إلى الأمل ليوقظهم، لينعشهم، ليضيء أمامهم الطريق لينتشلهم من تعاستهم الأمل الذي لا يكلف شيئا يمكن أن يعوض الإنسان عن كثير من شقائه، أن يعينه على تحمل أعباء الحياة بصبر، أن يشفيه من مرضه، أن يغمره بالسعادة أن يساعده على الغفران، أن يدفعه إلى فعل الخير .. أغني لهم لحنا ملائكيا، يرفعهم فوق مشاكل الحياة، كالذي سمعه شهداء المسيحية والإسلام وأصحاب الأخدود، لحن يربطهم بعالمهم الحقيقي، عالم السماء عالم النور والمحبة الأبدية.

.. لي ابن عم يخطب قريبة له، وقد وضع شرطا لزواجه منها أن تتحجب، قلت له: أنت تبحث عن المظهر، المهم الجوهر، لو رضيت بك فهي جوهرة فاحرص عليها فلن تجد مثلها، كنت بينها رسول محبة، وقد فرحت بخطبتهما .. وصديق آخر يحب ابنة خاله وهي تحبه، كانت بينهم عقبات كثيرة وضعها الأهل، كلها عقبات مادية، حطما العقبات كلها. فرحت كثيرا لزواجهما لانتصار الحب، بعدها صنع لنا وليمة عظيمة، كان الطعام كثيرا جدا وفاخرا، كان كريما، اجتمع الأصدقاء وأكلنا حتى امتلأت البطون، ثم فككنا الأحزمة من البطون واستمر الأكل، الحديث يدور بيننا ظريفا ممتعا ونحن نأكل فقلت له ألا ترى أننا قد تجاوزنا الحد في الأكل؟ فقال:

ليس هذا أكلام هذه قلة أدب. ضحكنا كثيرا، يبدو أن ما فعلناه قد تجاوز كل توقعاته، ولعل خجل من عروسه وأهلها. أخذنا نضحك ويضحك معنا ... ما أجمل الصداقة نحن لا يربطنا عمل أو مصالح مشتركة ولكن سعادتنا في جلسة تجمعنا، نتبادل فيها الحديث كأنما نقطف أزهارا من حديقة، نتحدث عن التاريخ في الأدب والشعر، قد يبدأ أحدنا بيت من الشعر ثم نأخذ آخر حرف من البيت ليكون بداية لبيت جديد الجميع يقرأ وكل يحكي عما قرأه، قصة أو معلومة أو طرفة أو خاطرة مرت به.. كأنما نتصيد اللؤلؤ.

الحب يا حبيبتي قوة جذب خفية تجمع بين الناس، والحقد قوة تنافر تفرق بينهم لذلك فالحب يصنع المجتمعات والحقد يهدمها. قبل حركة الجيش كان هناك قدر من الحب بين الناس .. ما زالت أمي تزور جيرانا لنا تركناهم منذ سنوات طويلة الجار كان مثل الأهل.... في القرية كانت هناك محبة بين الناس رغم الفقر، رغم الظلم أحيانًا كان لرمضان بهجة بين الناس فالرجال يفطرون سويا خارج منازلهم، لكل أسرة مكان خاص يجتمع فيه الرجال والشباب، ويتبادلون الزيارات مع الأسر المجاورة، لكل أسرة كبيرة يرجعون إليه ويحكم فيهم، كان في القرية رجال ذوو فضل وهيبة ومكانة، كلمتهم مطاعة ويحترمهم الجميع، يحكمون بين الناس، وقلما كانت قضايا القرية تصل إلى المحاكم حتى في المدينة، في المدينة التي شهدت صباي، كانت هناك عائلات ورجال كبار لهم كلمة مسموعة، يحلون كثيرا من المشاكل التي يعجز القضاء عن حلها حاليًا، فهم يحكمون بالعرف والتقاليد يحكمون وهم مدركون لكل ظروف وملابسات القضية ومنذ أن رفع الدجال شعار الحقد الأسود، والكل حاقد يبحث عن حقوق يتوهمها، ولا أحد يفكر في أداء واجبه.. وظل الظلم يتراكم، أصبح مالك العقار يحقد على ساكنيه وهم يبادلونه وصاحب الأرض يحقد على مستأجريه وخم يلعنونه الموظف لا يؤدي واجبه ولا يحترم رئيسًا، والعامل لا يفكر إلا فيما يمتلكه الآخرون وكيف يحصل عليه لا يفكر في أداء عمله، فهو يتساءل دائمًا لماذا هم يملكون ولا أملك؟ فراتبه لن يجعله مالكًا لشيء أبدًا، وهو لا يفكر في الطريق الصحيحة التي يمكن أن تجعله مالكاً لما يريد.. أصبح العامل لا يهتم بعمله، فكل ما يمكن أن يعاقب عليه من رؤسائه هو أنه لم يخرج لاستقبال الدجال، أو لم يكن عالي الصوت وهو يهتف ويمجد الثورة.

تفجرت الأحقاد.. الحكومة ترفع في وجه أعدائها شعار من أين لك هذا؟ وهكذا أصبح الجميع يشغلهم من أين لك هذا؟ وهكذا أصبح الجميع يشغلهم من أين أتى الآخرون بأموالهم... لذلك ليس عجيبًا أن تموت روح الوطنية في هذا الجيل، أن نصطدم دائما بكلمة: وما شغلي أنا؟ هل سأصلح أنا الكون؟ أو حين تحدث أحدهم عن مصر ، فيقول: تنحرق البلد. أي مصير لهذا الجيل التعس؟

أنا أعرف أن شعبنا أصيل وعريق في الحضارة وأن هذا الذي يحدث هو رفض سلبي للواقع ولكن ما يحدث خطيرا جدا فنسيج المجتمع يتفكك ببطء، والأخطاء التي تحدث يصعب تداركها، فكيف يمكن أن تعود العلاقة حسنة بين الناس؟ بعد أن تخاصم الجيران ورفع الصغير صوته على الكبير، وساءت العلاقة بين الرئيس والمرؤوس، بين المالك والمستأجر وانعدمت الثقة بين الناس .. أذكر أن أحد تجار بلدتنا خسر كل أمواله بسبب ارتباطه بكلمة شرف على سعر القطن الذي يتاجر فيه، فقد اشترى بسعر أعقبه انخفاض حاد في سعر القطن بالبورصة، بين التجار سيف قاطع والآن ماذا نرى؟ لا أحد يلتزم بشيء لا يخجل رجل محترم حينما تذكره بكلمة الرجولة التي ارتبط بها من أن يقول لك: أنا لست رجلا أنا طفل ابتعد عني.. ما هذا العار الذي يستسيغون مضغة؟

حينما أفكر في كل هذا تظلني سحابة يأس لا يكشفها عني، إلا فكرة قيام الحضارة الجديدة، فلعل ما يحدث هو هدم للبناء القديم، قبل قيام البناء الجديد.. لعل الله أراد لهذه العصابة أن تنجح في الوصول للحكم لتهدم بناء قد دبت فيه العفونة، وتترك الأنقاض ليزيلها البناءون ويقيمون مكانها صرحا جديدًا للفضيلة والنور والمحبة.

حبيبتي مريم.. أنا لا أحب أن أعمل في الظلام. الأفكار الهدامة كلها تعمل في الظلام.. ولكن إذا كانت الحكومة ظالمة غاشمة، تمنع الكلام والتفكير فلابد من العمل السري الرسول بدأ دعوته سرًا، ولكن الذي يحيرني ويشغلني هو ماذا يجب أن نعمل؟ كنا في جلسة عند «مالك بن نبي» وبعد أن أفاض علينا بعصارة فكرة وتجربته عن التاريخ والمستقبل وتاريخ الحضارات والطريق إليها، إذا بأحد الأصدقاء وهو أقلنا وعيا لما سمع- يسأله: ولكن نحن نريد عملا يا أستاذ؟ فانفجر الرجل غاضبا وهو يقول: عمل عمل ما نحن فيه هو العمل.

وأنا كما قلت لك .. حركة الجيش لم تأخذ مصر قسرًا .. مصر لم تغتصب ولكنها خدعت، ومازالت مخدوعة، مسحورة، فاقدة الوعي، مصر أعطت قلبها للدجال وأنا لا أريد إلا قلبها، قلبها أ÷م عندي من الجسد، لأن القلب مضغة في الجسم إذا صلحت صلح الجسد كله.

بعض الأصحاب لا يعجبهم هذا ينظرون للأمر من زاوية ضيقة، يقولون: أقطع رأس الأفعى أولا وأنا لا أؤمن بهذا في حالتنا هذه قد أحترم قولة حق عند سلطان جائر، إذا كانت مخلصة، ولتكن الشهادة بعدها تاجًا لصاحبها .. ولكن لا أوافقهم على رأيهم لأن هذا قد يفتح باب الفتنة.. لذلك فليس أمامنا خيار، إما أن نعتزل قومنا كما فعل أصحاب الكهف أو فلنعمل سرا على نشر الوعي والثقافة والفكر الديني وإيقاظ القلوب والضمائر حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين.. وهذا هو ما يحدث بالفعل فدائرة الأصدقاء تتسع، والذين يتعرفون على فكرنا يزداد عددهم يوما بعد يوم.

استحدث «حسن البنا» كلمة الإخوان المسلمين وأصبح الإخوان ينادون بعضهم: يا أخ فلان وحينما يتعارفون يقولون: أخوك في الله فلان حتى صار الناس يسألون أحدهم: هل أنت أخ؟ يعنون بذلك: هل أنت من الإخوان؟ ولكن «مالك بن نبي » استحدث مفهوما جديدًا، يحمل لفظ الإخاء فهو يقول: إن كلمة أخ لا تكفي، يجب أن يكون هناك إخاء فعلي كالمآخاة التي جمع بها الرسول (صلى الله عليه وسلم) بين المهاجرين والأنصار في المدينة.. حيث آخى بين كل اثنين من الصحابة وكان الغني منهم ينزل لصاحبه عن نصف ما يملك من مال ومتاع، يقبله أخاه أو يرفضه، أو يأخذ منه ما يحتاجه ويرد الباقي، فكانت هذه المآخاة رابطة محبة لا تنفصم بينهم وأنا أومن بفكرة مالك بن نبي، فالأخوة ليست كلمة تقال فحسب، بل هي سلوك وشعور فعلى، يربط بين الناس، وأنا أحاول قدر استطاعتي أن أطبق ذلك على نفسي وأصدقائي وأقاربي، وأبشر بذلك بينهم أنا يا حبيبتي أنفق وأنا أردد: أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا، ولو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما متع بها كافر أنا لا أخشى الفقر، فما نقصت صدقة من مال، والرزق عند الله كثير، يؤتيه من يشاء، وهو ذو الفضل الكبير.

كنت في زيارة لبعض الأقرباء.. عرضوا على كأسًا من الخمر، قالوا هذا شيء بسيط لا يسكر، نحن نشرب للتسلية الحرام هو أن تسكر.. أحدهم متخرج من الجامع الأزهر، أخذ يجذبني إلى مناقشة عقيمة. هم في واد وأنا واد أخر.. أحسست أني غريب بينهم كانوا يضحكون (ويقهقهون) على أشياء لا تضحك مثلى.. تذكرت قول رسول الله (صلى الله عليه): «بدأ الإسلام غريبا وسعود غريبًا كما بدأ فطوبي للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس».

صديقي يحيي هذا الفيلسوف الصغير، كبر وترعرع، بدأ يأخذ شكل الفلاسفة الكبار، يتابع أنباء الحركة الإسلامية في العالم، يقرأ كثيرًا ويستوعب كل ما يقرؤه، ذاكرته جيدة، يحفظ بسرعة ما يقرأ، الفكرة واضحة عنده، فالإسلام آت لا محالة، وستنشر الثقافة الإسلامية والروح الإسلامية وستحكم الشريعة إن عاجلاً أو آجلاً.. يا ليت أفكاري صافية كأفكاره، أشك في أنه يفكر كثيرًا فيما يقرأ، كأنه يختزن المعلومات، ولكن أعتقد أنه سيأتي يوم يفكر كثيرًا فيما قرأ . فأنا أراه بعين المستقبل، فيلسوفًا يحكمه عقله، فهو منطقي في تفكيره، عقله يشغله الواقع أختلف معه كثيرًا، إن لم نقل دائمًا .. العجيب أنك أنت حبي وهو صداقتي، ورغم ذلك فأنا مختلف معكما دائمًا، أختلف معك عاطفيًا، وأختلف معه عقليًا. أنا أرى الأفق البعيد، وأعجز أن أرى موضع أقدامي أنا حالم بما سيكون وأنتما ترون ما هو واقع إذا حدثت يحيي عن الحلم فكأنما يقول: إن كنت نبيًا فأين آياتك؟ أين معجزاتك؟ أرى له عقلاً عظيمًا لا تشوبه نقيصة، هو يختلف دائمًا مع الأصدقاء، ويزعجهم أن أكون دائمًا في صفه، فأنا أرى فكرة يسبق فكرهم، وأفقه أوسع من أفقهم.. وهو بدوره لا يعجبه تفكيرهم، ويسخر من ثقافتهم، بل يرى أنهم أنماط لا يمكن أن تبني حضارة، فأفكارهم ضحلة وسلوكهم متخلف، وتنقصهم الحكمة، وتسودهم كثير من القيم العفنة.. وأنا أقول له: ولكنهم أفضل شرائح المجتمع.. فيقول: قد يكونون أكثر الناس رغبة في الخير، لكنهم ليسوا أكثر العقول نضجًا، ولا أكثر الشخصيات تفتحًا وأنا إن كنت أوافقه الرأي في ذلك ولكنني أنظر لهم بعين أخرى أرى أن رغبة الخير القوية قادرة على التغيير، على أن تفعل المستحيل، فما كان أصحاب الرسل إلا أناس بسطاء.. حتى كان الكفار يقولون لأنبيائهم: وهل اتبعكم إلا أراذلنا بادي الرأي .. أقول له: ألم تسمع بأن الله قد يختار جهال العالم ليغيظ بهم العلماء، ويختار ضعفاء العالم ليغيظ بهم الأقوياء؟.. فيبتسم ساخرًا، كأنني أتكلم معه بغرائب فأبتسم أنا الآخر، وأقول له: لا تتعجل، الأيام بيننا.

قرأت كتاب «العقل الناضج» ... يتحدث عن الفجاجة وعدم نضج الشخصية، أرى هذه الفجاجة كثيرًا في سلوك الناس، ينقصهم النضج النفسي.. تشغلني هذه القضية، قضية النضج العقلي، والنضج العاطفي. أحلل نفسي، أتهمها بعد النضج العاطفي.. أحس أن قلبي قد مات منذ فترة بعيدة فتوقف نضجي العاطفي.. يهيأ لي أنني أبدو أصغر سنا، ل يوجه مراهق، صدري يضيق بسرعة.. أعتقد أنه لكي يكتمل النضج العاطفي، لابد للشخص من أن يغرق في الحب، إما حب نفسه، أو حب شخص أن رمز، أو فكرة من نفسه.

قد تقولين: وأين حبك لي؟ وأنا أقول: لكي أكون صادقا معك، إن حبي لك هو رغبة شديدة في أن تكوني لي، هو سيل رقة وحنان يجرفني عند مرآك، هو خوف طفل أن يفقد عطف أمه وحنانها، إن حبي لك ينبع من حب أكبر، من إيمان، من حب للحقيقة، من حب الله.. منذ قرأت قول الرسول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» وأنا منشغل بذلك، فالناس جميعًا يقولون آمنا، ولكن عندما نضعهم في محك صغير، يتبين أن حبهم لأنفسهم أو لبعضهم يفوق كل شيء .. ورأيت حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) يفسر قول المسيح: « من يحب نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية...» وكلام المسيح في رأي لا يقصد به أن يكره المرء نفسه، فهو يقد نقل إلينا من لغة إلى لغة حتى وصل إلينا، وإما المقصود به أن نحب الله أكثر من حبنا لأنفسنا، فتتغلب على شرورنا، وأن نحب الحق متمثلا في رسله أكثر من حبنا لأنفسنا وأهوائنا، فلا نجنح إلى الضلال، وليس المقصود أن نبغض أنفسنا وإلا ما شعر أحد بالرضا والسلام، فنحن يجب أن نحب الخير لأنفسنا ونكره منها جنوحها للشهوات والمعاصي.

.. المهم يا حبيبتي...أنني أحبك كشيء ينتمي إلى وليس كشيء أغرق فيه.. شيء أحتضنه وليس شيئا أنطوي تحت جناحه... يمكن للروح أن تغمر العقل وتحتويه ولكن العقل يعجز على أن يغمر الروح ويحتويها.

... صدقيني يا حبيتي: إن حبي لك كبير، عظيم، تحسدك عليه النساء وليس عيبا أن أبحث عن حب كبير يشبعني، حب الله حب الخالق، حب الحق، هذا ما أبحث عنه، ما أحاول أن أفجره في قلبي.. لعلني أرقى إلى صوفية الغزالي، فأنا مثله أو من أن العقل الإنساني عاجز عن إدراك الوجود، فكيف يمكن أن يدرك خالق الوجود. إنه لا يدرك إلا بالقلب، بالتجربة الصوفية... قرأت في التراث أن أحد العابدين طلب من الله أن يزرقه حبه، فقال له: سأعطيك مثقال ذرة من حبي، فظل مشدوها، شاخصا ببصره إلى السماء حتى مات.

أدعو الله أن يملأ قلبي بمحبته.. وأن يديم حبي لك . أنا مشتاق الآن لرؤياك أرجو أن أراك قريبا، وحتى نلتقي أسعد الأمنيات.

ع . م

مصر الجديدة يناير 1963م

الرسالة الحادية عشر

حبيبتي مريم:

شوق دائم إليك، قلبي ملهوف عليك، يذوب رقة ورحمة لك، يضنيني بعدك عني، أشعر كأنني مقيد بسلاسل قوية، تمنعني أن أنهض لآتي بك، أن أقف لأحارب من أجلك، يشقيني عجزي، تضيق نفسي بما حولي، أكاد أختنق، كمارد حبس في قمقم، مقهور، أنا مستضعف، أهرب إلى الأحلام .. أي مجتمع هذا الذي نعيش فيه؟

ضاعت المروءة، فقد الرجال حب المعالي، تكالب الجميع على حطام الدنيا الزائف، غرقوا في الشهوات.. أين نحن من حياة الآباء وأمجادهم، فهذا الخطيئة يهجو الزبرقان بن بدر فيقول له:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

فيثور الزبرقان ويشكوه للخليفة عمر بن الخطاب.. فيحكم بينهما حسان بن ثابت ويسأله أتراه هجاء؟ فيقول حسان: إن هذا أفظع الهجاء أو ما تبلغ مروءة الرجل إلا أن يأكل ويلبس؟!

انظري أن عظمة هذه في ذلك الرعيل الأول! واليوم نسمع من الجميع صغارهم وكبارهم وبدون خجل: دعنا نعيش مادمت تأكل وتشرب وتلبس، ماذا تريد أكثر من هذا؟

ينادي الدجال. بأن الحرية هي أن تتوفر لنا لقمة العيش، ولا يدري الأحمق ولا الحمقى الذين يسمعونه بأن الشعوب التي تحرص فقط على لقمة العيش، تأكلها جافة عفنة وفي ذلك أيضا. نسوا قول المسيح: ليس بالخبر وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الرب.

انظري إلى زوجة أبي الأسود الدؤلي تشكوه للخليفة معاوية فماذا تقول: يا أمير المؤمنين ما علمته إلا مسئولا جهولا، ملحا بخيلا إن قال فشر قائل، وإن سكت فذو دغائل، ليث إذا أمن، وثعلب حين يخاف، شحيح حين يضاف، إذا ذكر الجود أنقمع، لما يعرف من قصر شأنه، ولؤم آبائه، ضيفه جائع، وجاره ضائع، لا يحفظ جارا، ولا يحمي ذمارا ولا يدرك مأربا، وأكرم الناس عليه من أهانه، وأهونهم عليه من أكرمه.. لم تشك من أنه ينفق على أصدقائه، أو أنه يحرمها من مأكل أو ملبس أو من فقره وعجزه، وإنما تشكو من وضاعة نفسه التي تنفر منها.. ثم انظري إلى شجاعتها وهي تقتحم مجلس الخليفة، وإلى فصاحتها، التي جعلت التاريخ يحتفظ بكلماتها عبر القرون.

أتعرفين يا حبيبتي ما سر عظمة تلك الأجيال؟ إنها التربية الراقية، إنها تظهر في كلام امرأة مثل زوجة أبي الأسود الدؤلي، لابد أن أبنها سيكون عظيما لأن له هذه الأم.. الأمهات هن مدرسة الأجيال، هن محاضن الخير والنور والفضيلة.

حكيت لك مرة عن جعفر بن حيي البرمكي وأخلاقه الكريمة.. أتعرفين السر في ذلك، أنها أمه، سأحكي لك ما يؤيد ذلك يقول محمد بن عبد الرحمن الهاشمي: كانت أم جعفر تزور أمي وكانت لبيبة من النساء حازمة فصيحة برزة (أي مهابة تجلس إلى القوم يتحدثون إليها) فقلت لها يوما: إن بعض الناس يفضل ابنك جعفر على ابنك الفضل والبعض على عكس ذلك، فأخبريني فقالت: ما زلنا نعرف الفضل للفضل فقلت لها: إن أكثر الناس على خلاف هذا فقالت: سأحدثك واقض أنت وكان ذلك الذي أردت منها قالت: كانا يوما يلعبان في الدار، فدخل أبوهما فدعا بالغداء وأحضرهما فطعما معه، ثم آنسهما بحديثه، وقال لهما: أتلعبان بالشطرنج.؟ فقال جعفر وكان أجرأهما: نعم قال: فهل لاعبت أخاك بها؟ قال جعفر: لا قال: فالعبا بها بين يدي لأرى لمن الغلب، فقال جعفر: نعم وكان الفضل أبصر منه بها، فجئ بالشطرنج فصفت بينهما ,اقبل عيها جعفر، وأعرض عنها الفضل فقال له أبوه: مالك لا تلاعب أخاك؟ فقال: لا أحب ذلك فقال جعفر: إنه يرى أنه أعلم بها مني فيأنف من ملاعبتي، وأن ألاعبه مخاطرة (أي مراهنة) فقال الفضل: لا أفعل فقال أبوه: لاعبه وأنا معك فقال جعفر: رضيت وأبي الفضل واستعفى أباه فأعفاه... ثم قالت لي أم جعفر: قد حدثت فاقض فقالت قد قضيت بالفض للفضل على أخيه، فقالت لو علمت أنك لا تحسن القضاء لما حكتك، أفلا ترى أن جعفر قد سقط أربع سقطات تنزه الفضل عنهن: فسقط حين اعترف على نفسه بأنه يلعب الشطرنج وكان أبوه صاحب جد، وسقط في التزام ملاعبة أخيه، وإظهار الشهوة لغلبه، والتعرض لغضبه، وسقط في طلب المقامرة وإظهار الحرص على مال أخيه، والرابعة قاصمة الظهر، حين قال أبوه لأخيه: لاعبه وأنا معك، فقال أخوه: لا وقال هو: نعم فناصب صفا فيه أبوه وأخوه... فقلت: أحسنت والله وإنك لأقضى من الشعبي، ثم قلت لها: عزمت عليك ألا أخبرتني: هل خفي مثل هذا على جعفر وقد فطن له أخوه؟ فقالت: لولا العزمة ما أخبرتك إن أباهما لما خرج قلت للفضل خالية به: ما منعك، من إدخال السرور على أبيك بملاعبة أخيك؟ فقال: أمران أحدهما أنني لو لاعبته لغلبته فأخجلته، والثانية قول أبي: لاعبه وأنا معك فما يسرني أن يكون أبي معي على أخي ثم خلوت بجعفر فقلت له: يسألك أبوك عن اللعب بالشطرنج، فيصمت أخوك وتعترف، وأبوك صاحب جد فقال: إني سمعت أبي يقول: نعم لهو البال المكدود، وقد علم ما نلقاه من كد التعلم والتأدب، ولم آمن أن يكون بلغه أنا نلعب بها، ولا أنا يبادر أخي فينكر، فبادرت بالإقرار إشفاقا على نفسي وعليه، وقلت إن كان توبيخ فديت أخي من المواجهة به فقلت له: يا بني فلم تقول: ألاعبه مخاطرة؟ كأنك تقامر أخاك وتستكثر ماله فقال: كلا، ولكنه يستحسن الدواة التي وهبها لي أمير المؤمنين، وقد عرضتها عليه، فأبى قبولها، وطمعت أن يلاعبني فأخاطره عليها، وهو يغلبني فتطيب نفسه بأخذها فقتل له: هبك اعتذرت بما سمعت، فما عندك من الرضا، بمناصبة أبيك حين قال: لاعبه وأنا معك فقتل له: أنت: نعم، وقال هو: لا فقال: عرفت أنه غالبي، ولو فتر لعبه لتغالبت له، مع ماله من الشرف والسرور بتحيز أبي إليه.

قال محمد بن عبد الرحمن: فقلت: بخٍ بخٍ هذه والله السيادة، ثم قلت لها: يا أماه، أكان منهما من بلغ الحلم؟ فقالت: يا بني، أين يذهب بك؟. أخبرك عن صبيين يلعبان فتقول: أكان منهما من بلغ الحلم؟ لقد كنا ننهي الصبي إذا بلغ العشر وحضر من يستحي منه أن يبتسم.

حبيبتي مريم: أليس مثل هذه القصة تستدعي أن يقف أمامها علماء النفس والاجتماع طويلا، ليعرفوا سر الأجيال العظيمة التي ظهرت على مدى التاريخ؟ ليعرفوا أي مصانع للرجال، كانت أمثال تلك الأمهات هل نطمع يا حبيبتي أن يرزقنا الله بأولاد فنحسن تربيتهم، كهذين الصبيين، إنهما يذكراني بالحسن والحسين، فقد رأيا رجلا لا يحسن الوضوء فاستحيا أن يقولا له ذلك فماذا يفعلان؟ ذهبا إليه وقالا له: يا عماه أحكم بيننا أينا أحسن وضوءًا ثم قام كل منهما فتوضأ أمامه فأحسن الوضوء فقال لهما وقد عرف نقص وضوئه: بارك الله فيكما ثم قام فأعاد وضوءه.

حبيبتي.. سيكون بيتنا محضن حب وفضيلة، عالم سعادة وهناء، مدرسة للأدب والكمال والأخلاق، سينشأ أبناؤنا على رقة الإحساس ونبل العواطف وعشق الخير، وسماحة النفس، وشجاعة القلب، وطهارة الجوارح أتمنى أن يرزقني الله منك بأولاد كثيرة، أحب أن أرى أبنائي منك أيتها الغالية.

حبيبتي مريم: لست أدري لماذا يملأ خاطري أطياف الحزن؟ لماذا تعتريني كل هذه الكآبة، أقول كما قال إبراهيم الخليل: إني سقيم قلبي يوجعني.. تصيبني تارات من اليأس تكاد تقتلني ثم ألقي بعدها بشاشات رجاء فتحييني فأنا كما قال الشاعر:

ألقى من اليأس تارات فتقتلني
وللرجاء بشاشات فتحييني

أنت أول منارة في طريقي المظلم فإذا ما وصلت إليك، عرفت أنني على الطريق الصحيح أتعرفين أنني لو فقتك، لأعدت كل حساباتي، لبدأت من جديد أبحث عن نفسي وعن الوجود، أنت صدق إلهامي، أنت دليل على قدرة القلب على كشف الغيب، دليل على أن القلب يدرك الحقيقة قبل العقل، دليل على أن الإلهام ضرب عال من التفكير.

حبيبتي مريم يحدثونني عن العمل وعن الجهاد وعن الإسلام، يشغلهم أمر الدجال، وأنا لا أعراضهم بل أبارك خطاهم فهذا خير ما يمكن أن يشغل شاب في مثل هذا الجيل التائه، ولكن حبك هو قضيتي الأولى هو بداية طريقي، هو ميلادي الجديد، هو طريق الإصلاح فالقضية عندي هي غياب الفضيلة والمروءة، وأنت الفضيلة الغائبة، لو سمح لك المجتمع أن تكوني سيدته فسينصلح حاله، لو أزاح العاهرات وبجل العفيفات. فهذا هو التغيير الذي أريده، هذا هو الإصلاح، هو ميلاد الحضارة الجديدة.. القضية عندي هي أن المدينة الفاضلة، هي مدينة تسودها الفضيلة، والمروءة، الفضيلة بين النساء والمروءة بين الرجال فإذا تحقق ذلك في مصر فقد تحققت كل الأحلام نحن شعب بطبيعته متدين، ولا خوف على الدين أن يضيع بيننا ولكن أي دين!!

إن الدين رداء يأخذ شكله حسب طبيعة الجسد الذي يلبسه فإذا ما اعتنقه قوم أراذل، بدا للعالم رذيلا، وإذا ما اعتنقه قوم أفاضل بدا للعالم فاضلا.

لقد رجع محمد عبده من أوربا ليقول: رأيت هناك إسلاما ولم أر مسلمين، وارى هنا مسلمين ولا أرى إسلاما: إن قضية الإسلام الحقيقة في أن يتغير معتنقيه، أن يصبحوا أناسا أفاضل، تسودهم الفضيلة والمروءة، يتنافسون على مكارم الأخلاق.

حبيبتي مريم: من ظلمة الليل ينشق الفجر، ومن يأس قلبي، يبرز شعاع أمل فمادمت لي فكل آمال الدنيا ستتحقق يا إلهام قلبي ونور حياتي.

ع. م

مصر الجديدة مارس سنة 1963م

الرسالة الثانية عشر

مريم:

ماذا فعلت بي؟ .. أي قلب تحملين؟ هل قد قلبك من صخر؟ .

ولكن القلوب أسرار، مفاتيحها بيد الخالق.. فلتكن مشيئته لا مشيئتي.. فلينزف جرح قلبي ما شاء أن ينزف فأنا لا أعرف له دواء لم أكن أتصور أن تصل بك القسوة إلى هذا الحد.. فقد جئت إليك أحمل بشرى نجاحي وحصولي على الرخصة الجامعية التي طلبتها ورأيت في عيني أمك الفرحة، كأنما رأت أن الحاجز الذي يفصلنا قد كسر، تركتني وحيدا معك، أحسسن أن الأيام ستصفو لنا، أصبح الأمل بين أيدينا.. اجتمع الأهل، قضينا أياما حلوة، أحس الجميع بما بيننا، كاد الحلم يصبح حقيقة ملموسة ثم إذا بك تتغيرين، كما تتغير الدنيا.. ماذا دهاك؟ تتمنين زوجا أكبر سنا، أعلى مقاما، أوسع ثراء، تستصغرينني في عينيك؟ تريدين رجلا أكثر نضجا، أكثر فهما للحياة، شخصا يريدك كأنثى، ويفكر في الحياة كأب مسئول عن أسرة!!

حسنا، أنا شخص حالم، لا أصلح لتحمل تكاليف الحياة.. هذا رأيك لطالما قالوا لي ذلك، طالما قلن: إنك على غير ما أتصور وأحلم.. طالما قلن: إنك فتاة عادية، تحلم بكل ما تحلم به الفتيات، تبهرها مظاهر الأشياء.. لم أكن أصدقهن، كنت أعتقد أنهن يقلن ذلك إشفاقا علي أو غيرة منك.. وهأنت بعد كل هذه السنوات تبدين لي كما وُصِفْت.

حسنا يا صغيرتي، أنا هو كما ترين:

أقسم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد

أنا كما ترين: رجل آلام وأحزان.. أحمل هموم العالم فوق كتفي.. اذهبي بعيدا لتبحثي عن رجل يضحك للحياة، يحسن الاستمتاع بها، قلبه خال من الأفكار، لا يطمح لأكثر مما تطمحين، رجل ذي نعمة ويسار، تحسدك عليه الفارغات أنت في واد وأنا ي واد آخر.. أتعرفين؟ أنا لا يصلح لي إلا امرأة زاهدة تقية، حياتها في حبها، سعادتها في رضاي كلماتي تزيل همومها، وصلواتي تطمئن قلبها لست أنت هذه المرأة على الأقل الآن وأنت في فورة الشباب، وحب الدنيا يملأ قلبك آه يا لقلبي مازال يأمل أن تكوني كما يحلم !!

إنني أحلم بكمال المرأة لا يملأ عيني إلا المرأة الكاملة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع، مريم ابنة عمران، وامرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد» ... وأنا أتطلع إلى ألئك الصديقات، أحلم بكمالهن، بعظمتهن، أتشوق إلى أن أجلس إليهن، أستمع لحديثهن أحس أنني أنتمي إليهن، وإلى عالمهن. كنت أحلم بأنك من عالمهن، كنت أتمنى لك الكمال كنت واهمًا، أطعت ألهام قلبي، حتى صدمت اليوم بك، لا أدري مايراد بي ولا بك، لم أعد أعرف شيئًا ولا أثق في شيء هذا قدري وعلى أن أتقبله..

أعاتب دهرًا لا يلين لعاتب
وأطلب أمنًا من صروف النوائب
أعاتب دهرًا لا يلين لعاتب
وأخفي الجوى في القلب والدمع فاضحي

لا.. لست أشكو، فما أنا بالذي يشكو من حب امرأة، أقول لك ولهن، كما قال المسيح لبنات أورشليم: «على أنفسكن فلتبكين يا بنات أورشليم» ... لت أشكو، غنما أقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.. سمعت أن الله يغار على قلب عبده المؤمن لعل الله يغار على قلبي أن يتعلق بسواه..أقول كما قال الغزالي يرحمه الله:

تركت هوى ليلي وسعدي بمنزل
وعدت إلى تصحيح أول منزل

لعل حبك كان تجربة لقلبي، يتعلم بعدها أن يستغرق في حب أكبر.. من أنا ومن أنت؟ نحن ذرتان تائهتان في كون عظيم ما ضرهما لو تباعدا، لو سار كل منهما في طريق .. الكون من حولنا عظيم.. دموعي تنهمر، ليس حزنا عليك، ولكن لأنه قد انكشف جانب من الحقيقة، فكل شيء حولي إلى زوال، لا جديد تحت الشمس، كل ما نحن فيه قبض الريح، لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما متع بها كافر.

... آه .. شبح الموت في كل مكان..

خفف الوطء فما أظن أديم الأ
رض إلا في هذه الأجساد

.. كل ما حولي بكاء أطلال:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بل نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر

أرى الحياة مأساة كبيرة منذ خرج آدم من الجنة، وكتب عليه وعلى ذريته أن يعيشوا في كبد، كتب على آدم أن يعيش ليعاني، يرى أبنه يقتل أخاه، يرى الشر والحقد يسري في نسله، وتتوالى فصول المأساة، ظلم وقهر وقسوة، وبكاء أرامل وأيتام ومستضعفين، صوت ناي حزين ينسحب على صفحة الحياة.. فاضت بقلبي آلامه وأحزانه.

رماني الدهر بالأرزاء حتى.....
فؤادي في غشاء من نبال
فكنت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال

مريم!! إن كنت تعتقدين أنني أستدر عطفك فقد ضللت ضلالا بعيدا، فأنا لا أقبل عطفك إنما أستعرض آلام إنسان وسط جيل من التعساء، غفلوا عن نبع السعادة الحقيقي، بحثوا عن ماء آسن، رضوا بقشور الحياة وغفلوا عن جوهرها، هم كما يقول الكواكبي: قد زهدوا في متع الحياة الروحية، وأسرتهم متعها الحسية، أصبحوا عبيد شهواتهم لم يعلموا أن السعادة لا تقاس بالكم بل بالكيف، إن لحظة سعادة حقيقية خير من كل متاع الدنيا.. ألم تسمع قول بعض الصوفية:

نحن في سعادة لو عرفها الملوك لحاربونا عليها؟

.. لا أخفي عليك أن قلبي حزين.. حزين حتى الموت... ولكن القلوب مفاتيحها بيد الرحمن قرأت أنه لو أن ملائكة السماء جميعا دعت لاثنين بالزواج، ولم يكن قد كتب لهما ذلك، ما استجيب لهم، فالزاج كالرزق قدر مكتوب..وأنا راض بقضاء الله وقدره، فليحزن قلبي كما شاء، لعل الحزن يفجر فيه نبع الخير، يطهره من أدرانه.. عما قريب يأت الموت، ويستوي كل شيء، من أراد صديقا فالله يكفيه، ومن أراد أنيسا فالقرآن يكفيه، ومن أراد واعظا فالموت يكفيه، ومن لم يكفه هذا فالنار تكفيه.. لذلك فالنار تلفحني الآن.. ليتني أتخذ من القرآن أنيسا ففيه شفاء لما في الصدور.

.. مريم.. خرجت عن طاعتي، ولكن لا أملك لك إلا الغفران، ليوفقك الله، ليسدد خطاك، قلبي كقلب الأم لا يستطيع إلا أن يغفر، إلا أن يدعو، إلا أن يصلي، اللهم اغفر لنا، كما نغفر نحن أيضا للمسيئين إلينا لن أحملك عبئا يثقل ضميرك أنت لا ذنب لك، قلبك وما يختار، أتمنى لك السعادة، فلتظل ذكراي عندك طيبة، أخ لك لم تلده أمك، تعرفين أنني أحبك ولن أكرهك أبدا.. ولكن لكل منا طريق تمنياتي لك بالسعادة، سأظل أخاك الذي يرجو لك كل خير.

سأكتب للصديقات .. لمن كانت حياتهن مثالا للعفة والفضيلة، مثالا للتقوى والتضحية، لمن صدقن بأنبياء عظام ... من أنا حتى أحلم بحبيبة قلبي يوردني موارد التهلكة.

قلبي إلى ما ضر بي داع
يكثر أحزاني وأوجاعي
كيف احتراس من عدوي
إذا كان عدوي بين أضلاعي

.. أحلمت يا قلبي بصديقة مثلهن؟ يكفيك أن تتطلع إلى الصديقات من بعيد، أن تحلم بهن، وترجو أن تنعم برؤيتهن في عالم آخر.

أكتب إليك أيتها العذراء. يا أم عيسى .. يا أفضل نساء العالمين... يا من اعتزلت قومك عفة وطهارة، تحلمين بعالم الحب والنور قلبك يبحث عن حب كبير.. لم يدر بخلدك أن حبك الكبير سيخرج منك، ستحملينه في بطنك، خائفة أن يسلقوك بألسنتهم، أنت يا أخت العفة تخشين العار، تتوارين من الناس.. والعاهرات يملأن المدينة، ويسكن القصور.. قلبي عليك أيتها العذراء، وآلام المخاض تأتيك وحيدة، تحت جذع نخلة، وكفى بالله صديقا يسمع شكواك.

هذا قدرك، وهذه مأساتك، أي شقاء تحملته وأي آلام.. من يصبر على هذا ولا يعترض ولا يتمرد غيرك؟ أيتها الصديقة .. ولما فاض بك الكيل، لم يكن منك إلا أن قلت في صبر: ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيًا أي حزن هذا الذي ملأ قلبك؟ .. وأي ملاك غيرك يمكن أن يعزيها صوت السماء؟ «وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًا فكلي واشربي وقري عينًا».. .هذا لعمري لا يعزي إلا الأنبياء والصديقات أمثالك.. أي عناء تحملين وأنت راجعة بطفلك إلى قومك صامتة كالخرساء، لا تعرفين ما ينتظرك منهم! لابد أن فيهم الخسيس الذي لن يصدقك، واللئيم الذي سيتغامز عليك، والساقطة التي ستشمت بك، وتعلن على الناس استنكارها لما تمارسه هي في الظلام.. ما أقسى على العفيفة أن تتهم في عرضها؟ .. ولكنك أيتها الصديقة، خلقت لهذا الدور العظيم على مسرح الحياة، خلقت للصبر الجميل، عزاؤك في كلمات الله، تسترجعينها وترددينها. وتستمر ملحمة الصبر الجميل، يا أشجع من واجهت الحياة بمصائبها، ولم تفقد إيمانها تستمر حياتك، وقد كتب عليك أن يكون جسدك لزوجك، أما قلبك وروحك فمعلقة بطفلك، برجلك الصغير ترينه يكبر ويترعرع، وقلبك يحيطه بالحب والرعاية .. كأنما خلقت لخدمته والسهر عليه وليته كان رجلا عاديًا، لهان الأمر عليك، ولكنه روح كبيرة تعيش لتكمل رسالتها بين الناس، ترينه يكابد الحياة وتمتلئ حياته بالآلام، يحاول أن يجمع خراف بني إسرائيل الضالة فلا الخراف تطيعه ولا الذئاب تتركه.. وأنت معه في رحلة الحياة، ليس له سواك امرأة يرتكن إليها في لحظات ضعفه، تذكره بقصتها، وكيف جاءت به إلى الدنيا، فيتعلق قلبه بالله، ويثبت يقينه على رسالته.. وأين أنت الآن يا ابنة عمران...؟ في جنة الخلد، في عالم النور .. قد ذهب الشقاء واجتمع شمل الأحباب، وذهبت المنغصات، ولم يبق إلا لحن السعادة الأبدي.. هنيئًا لك فقد أديت دورك العظيم ببراعة فائقة.

لست أدري يا مريم لماذا أكتب لك عن العذراء ابنة عمران؟ لعلي كنت أحلم بك تتخذينها مثلا أعلى، لعل في حياتها عزاء لك، لعل في صبرها وتضحياتها موالا تحتذينه، لا أدري.. ولكن يراودني أحيانا خاطر، أنني لن أنال من الحب إلا جانب العذري، سيكتب علي أن أبتعد عنك، وأن أعيش على الأحلام، ألمح في عقلي بوادر جنون كجنون قيس بن الملوح فليرحمني الله، هل يمكن أن يحدث هذا حقا؟ يعلم الله أنني لا أطيقه.. أنا لا أطيق أن تكوني لرجل غيري، يكاد قلبي يحترق، يقتلني الشقاء. هلي يمكن أن أتجرد من بشريتي؟ هلي يمكن أن أعيش مسيحًا بلا زوجة وبلا أولاد؟.. تصبح للطيور أعشاش وللثعالب أوكارها، ولا مكان لي أسكن إليه، ولا حجر أسند عليه رأسي..

آه يا مريم .. إني متعب .. أكاد أفقد وعيي لست أدري هل سأعيش لأكتب لك ثانية.. فليرحمنا الله.

ع. م

مصر الجديدة يوليو سنة 1963

الرسالة الثالثة عشر

مريم:

علمت بخطبتك.. أنت اليوم مع رجل جديد.. تدرسينة ويدرسك، تتفحصينه ويتفحصك، تجربينه ويجربك، تتعارفان لتبدآ معا رحلة الحياة. وأنا أسير على طريقي بغير هدف .. تستوي عندي جميع الألوان، لم يصبح للحياة معنى، أزهدها، أجتر آلامي وأحزاني فيصمت أقول للدنيا كما قال أبو العتاهية:

قطعت منك حبائل الآمال
وحططت عن ظهر المطي رجالي
ويئست أن أبقى لشيء
نلت مما فيك يا دينا وأن يبقى لي
فوجدت برد اليأس بين جوانحي
وأرحت من حل ومن ترحال

حيل ابن آدم في الأمور كثيرة والموت يقطع حيلة المحتال.

ليتني حقا أيأس من حبك.. أحيانا أتمنى لو مت، ولكن هل أستطيع الحياة بعدك؟ لا أظن.

.. أصبحت لا أعرف هل أحبك أم أكرهك؟.. ولكن ما أنا موقن منه أن هناك قوة خفية تربطني بك.. لو كنت أومن بالسحر، لقلت: إنني مسحور بحبك.. لا، ليس سحرا، هو شيء أقوى من السحر.. آه من أخاطب؟ لم تعودي تقبلين كلامي.

أتطلع إليكن أيتها الصديقات .. يا من تعشن اليوم في عالم الخلود، تسبحون مع الملائكة وتصلون وتحمدون، أعرف أنكن اليوم في شغل فكهون...ولكن آلا يمكن أنت تستمعن إلى شكوى معذب يعيش على كوكبكم القديم.. كل ما أطلبه منكن أن تخبروني، هل ما يملأ كياني بأنها لي وأني لها وهم من الشيطان أم إلهام من الله؟ أخبروني بربكم أيمكن بربكم أيمكن لإحداكن أن تزورني في منام؟ لابد أن أحد الملائكة الأطهار سيشفق على فيبلغكن رسالتي.. إذا كان ما يعتريني هو وهم من الشياطين فنا كفيل بهم، أما إذا كان من الله فهذا قدري وسأصبر عليه..

لا تظني يا مريم أنني قد خبلت .. فأنا أعرف أنني لن أتلقى منهن ردا على ندائي، فأنا أعرف أن هذه هي قوانين اللعبة ،لابد أن تكتمل المأساة، لا يعرف الممثل إلا دوره الذي يؤديه فقط، لا يعرف نهاية المسرحية، ليكون أداؤه طبيعيا ودراميا وواقعيا لابد يا مريم أن تكون الطعنة نافذة، وقد كانت هويت هذه المرة وسقطت، عرفت امرأة غيرك، قبلت حبها، ولم لا؟ ألم يقولوا: وداوها بالتي كانت هي الداء؟ عيناها جميلتان صافيتان، ولكنهما لا تنفذان إلى قلبي بسمتها لا تملأ الدنيا بالألحان، ولكنها تعزيني .. لها عقل امرأة، ولكن قلبها من ذهب.. ليست بالقلعة الحصينة، ولكنها غنيمة سهلة، النفس الشبعى تدوس العسل والنفس الجوعى كل مر حلو.. ونفس جوعي يقتلها العطش.. ما دمت مع رجل غيري فلم لا أفعل مثلك؟ لم لا أقنع بغيرك لم أسمع منك كلمة حب، وهي تغدق على كلمات الحب والحنان.. أنا أطلب رضاك، وهي تتمنى رضاي .. تعرف أنني لن أكون لها ورغم ذلك تتعلق بي.. يقولون ل: وماذا تطلب من المرأة أكثر من ذلك؟ ذلك هو الحب الحقيقي فاستمتع به لقد عوضك الله خير منها.. ولكنني يا مريم أشعر أنني أشرب ماءً مالحًا، يزيدني عطشا، لا أرتوي، أفيق من سكري على عذابي... هل وضع القدر نهاية لقصتي؟

هل سأموت شريدا على باب حانة؟ هل سأطرد من الجنة؟

دعيني أسكر بخمر الحياة ما أنا إلا بشر، يشدني إلى الأرض ما لا طاقة لي به.. كم تمنيت أن أنهي هذه القصة بإرادتي، ألا أبقى على ظهر هذا الكوكب لحظة، ولكن هل الإسلام إلا الاستسلام المطلق لمشيئة الله.. أن أستسلم لناموسه ومشيئته.. ولكنني عاجز عن قبول الواقع، أبحث عما يسكرني، عما يلهيني، عما يغيب عقلي ويريحه من التفكير، عما يمنع قلبي من التأمل.

.. ذهبت إلى أصحابي فلم أرجع بشيء لكل منهم قصة حزينة، المأساة تلف الجميع، الرب غاضب على شعبه، طرقنا ليست مستقيمة. ألم أقل لك يا مريم، الكاهن والنبي ترنا بالمسكر.

أي تركة ورثناها عن الآباء والأجداد؟ .. الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون. وأنت يا مصر .. يا أورشليم العصر، أي خطايا ارتكبت على أرضك؟ أي مظالم فعلها أبناؤك لأنفسهم؟ لماذا سلط الله عليهم دائما من لا يخافه ولا يرحمهم؟

..آه يا مصر .. يا أورشليم. لماذا يخاف أبناؤك من الموت؟

أذكر ونحم صغار، أن الناس كانت تهاب المقابر، تفزع من رؤية جثة ميت.. لماذا يخافون الموت هكذا؟ والموت آت لا محالة.. سأل رجل أحد الصالحين: لماذا يكره الإنسان أن ينتقل من الدنيا دار الخراب إلى الجنة وهي الدار العامرة؟ فأجابه: لأنكم عمرتم دنياكم، وخربتم آخرتكم، فيكره الإنسان أن ينتقل من العمار إلى الخراب.. لابد أن أنباءك يا مصر قد خربوا آخرتهم، أراهم كبني إسرائيل أحرص الناس على حياة.. أي حياة!! في عصر المماليك، كان السلاطين يجلبون غلمانا صغيرة، يربونها في بيوتهم، بيوت الذئاب، حتى إذا ما شبت عن الطوق، بدأت في اقتسام الفريسة معهم، ولجت في الدماء والشعب لاهٍ تبهره معارك الذئاب الجائعة، يقدم لها الطعام الذي يحرم منه أبناؤه، لكي يأمن شرها، ولكنه لا يأمن.. لقد توارث الناس خوف الموت جيلا بعد جيل، حتى كرهوا لأبنائهم شرف القتال، كانوا ينوحون إذا ذهب ابن لهم إلى الجيش، كأن الموت لا يأتي إلا في المعارك..! كأن الموت بعيد عنهم! وكل يوم يشيعون أحدهم إلى المقابر الأوبئة تحصدهم، فلا يعتبرون رضوا بأن يكونوا عبيدًا لمن غلب .. المصري فلاح عليه أن يحرث ويزرع ويعطي الطعام للأسياد.يقولون بأن الاستعمار هو سبب ما نحن فيه من البلاء، وقد كذبوا، فما نحن فيه داء قديم، قبل الاستعمار، يقول توفيق لعرابي ورفاقه: أنتم عبيد إحساناتنا، فمصر هي المزرعة التي ورثها هذا الدعي عن آبائه.. وبعد الاستعمار ماذا حدث؟ هذا الدجال، الذي تربى في حواري القاهرة، يقول للشعب: إن الحرية المسموح له بها هي حرية لقمة العيش، كأنما نحن عبيد المزرعة التي سرقها هو وعصابته كأن هذا الآفاق هو الذي يزرع ويطعمنا، ألم يعلم أن الناس كانت تأكل من قبله وستأكل بعد ذهابه، وأن كل ما يفعله هو نهب خيرات البلد لينفقها على أتباعه وأطماعه وأوهامه، وأنه سيقودنا إلى الخراب، لقد التف حوله اللصوص والأفاقون من كافة أنحاء الدنيا لينهبوه، ناهيك عن لصوص مصر الذين يتملقونه ليقتسموا معها لفريسة، لقد ابتعد عنه الشرفاء، وأني لشريف أن يقبل مهانة الجلوس معه وتحت إمرته، وهو الوضيع الذي لا يعرف للشرفاء حقا ولا كرامة؟ لن يقبل هذه المهانة إلا أراذل الناس أو المغفلون البلهاء.

..أصحابي، يا أحبابي، يا بقية النور في هذه البلدة الظالم أهلها.. يا من تحملون هموم العالم، وتنشغلون بآلام الناس، يا من شغلتكم مصائب قومكم عن مصائبكم، ماذا أقول لكم، نحن ملح الأرض فإن فسد الملح فماذا يملح.. أخشى أن يجرفنا التيار، فتضيع كل الآمال، أن يلحقنا البوار ويغم الخراب، يارب ما أفظع أن يحدث هذا!... يا رب أنا إنسان ضعيف مقهور.. الشيطان يسري في دمي، زينت لي الحياة فهي تحاول أن تخدعني قلبي معلق بالنور، ونفسي تشتهي الظلام اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، وعين لا تدمع.. يا رب أسلمت لك وجهي، اعترفت بعظمتك ...يا رب ارحمني فأنت الرحمن الرحيم، أنا إنسان عقلي محدود، وفهمي قاصر، أبحث عن الحقيقة، أريد أن أرى النور، أن يملأ قلبي السلام، أن أعرف الطريق، أن آمن غضبك، وهل هناك أمن إلا في رضاك؟...أنت يا رب تعلم من أين جئت أنا، وإلى أين سأذهب، أنت معي سواك يا رب صرخاتي لا سمعها إلا أنت وشفاء قلبي وصدري لا يوجد إلا عندك، يا رب الكون العظيم، يا أرحم الراحمين.

مريم.. أنت لا تعرفين ما يجتاحني، الإنسان مخلوق غريب، فهو جرم صغير، ولكن انطوى فيه الكون كله، في نفسي تتلاطم أمواج محيط هادرة، برق ورعد وعواصف عاتية، نار في حجم الكون تحاصرني.. مريم لماذا قبلت خطيبك..؟ لقد سألني قريب لك عما بقي لي من تركة أبي، فقلت له: لا شيء تقريبًا، وقد أدركت أنه يسأل ليخبركم بحالي، كأن هذا هو ما يجب أن يسأل عنه ألهذا قبلت الخطيب الجديد؟ أأنت حقا كما قالوا لي، تبحثين عن المال والجاه؟ لا لا يمكن أن أصدق هذا.. ..لا يمكن أن يكون هذا هو السبب لعل هذا كان يرمز عندك لما أنا فيه من ضياع، لعلك غير راضية عن حياتي.. أنا أعرف أنك راجحة العقل، أنا التمس لك كل الأعذار، أنا نفسي غير راضٍ عن حالي، أنا لا أصلح اليوم لأن ينتمي إلى أحد، فما بالي أطلب منك وأنت الكاملة بين قريناتك أن تكوني لي!! ... لقد انتظرت كثيرًا، ليس هناك ما يجعلك تستمرين في الانتظار.. بنت الحياة أنت، مستسلمة أنت لناموس الكون ،تقبلين ما تأتي به الأيام.. قلبي عاجز على أن يكرهك، أو يقسو عليك.. صدقيني أنا لا أريد إلا أن تستمري على حبك لي، يكفيني أن أظل صديقك وأخاك، سأكتب لك كما تعودت، فليظل ما بيننا أسمى من أن تعكره تصاريف الحياة أدعو لك بالتوفيق وبالسعادة والهناء.

ع. م

مصر الجديدة يناير سنة 1964


الرسالة الرابعة عشرة

مريم: أيتها الغالية:

.. أتمنى لك كل الخير، وأرجو أن تفعلي ما ترينه صوابا، فالا طاقة لنا بمعاندة نواميس الكون، يكفيني كما قلت لك، أن أحتفظ بصداقتك، أن أشعر أنك لم تفقدي إيمانك بي، إنني أمتلك قلبك، لله في ذلك حكمة بالغة... تأخذني التأملات، على امرأة فرعون، التي ضرب الله بها مثلا للمؤمنات الصادقات، وشهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها ضمن أربع، هن أكمل نساء العالمين، أتخيلها شابة تمتلئ نضارة، تفوح منها الفضيلة، قلبها تغمره التقوى، راجحة العقل، في أدب وجمال وكمال ورجاحة عقل ورصانة.. يحلم بها الكبراء والأمراء، الرجال والشباب، وهي عازفة عن متع الحياة، قلبها يبحث عن النور والضياء. ثم تبدأ خيوط المأساة تتشابك لتنسج لها حياة عظيمة، فالدنيا ليست دار المؤمن، لابد من البلاء حتى لا يركن إليها، وحتى يظل قلبه معلقا، بعالم الحقيقة الأبدي.. بنت فرعون لابد لها أن تتزوج من فرعون الجديد، وفرعون الجديد قاسي القلب، أعمى البصيرة، هكذا شاء القدر وهي لا تتمرد على نواميس الكون، نار الصبر أهون عندها من العصيان، فعل الممكن هو عندها العقل والصواب، كانت ترجو لزوجها أن ينصلح حاله، أن تجد فيه خيرا يمكن لقلبها أن يرضاه، أن يذهب طهرها بأدرانه وشقاوته، ولكنه يزداد سواء، وهي صابرة على بلائها، أعطته ما تعطي الزوجة لزوجها من حقوق، أما قلبها المعذب فقد كان عزاؤه في حب هذا الصغير الذي التقطته من اليم، كان الحنان والحب والاهتمام ينصب على موسى، هكذا شاء قدرها أن تكون صديقة لهذا الرضيع، في طفولته، وصباه، وشبابه، أن تحميه، من الشياطين، أن تكون محضن الخير الذي يترعرع فيه على البر والتقوى أن تمنع عنه الأذى صغيرا وتؤمن به رسولا.. لابد أن موسى قد وجد عندها ما وجد محمد عند خديجة، وما وجد عيسى عند أمه، ومن غيرها كان يمكن أن يعطيه القوى، ويعطي أنصاره الأمل؟

مريم.. لست أدري هل أنا في تأملاتي هذه، أبحث لقلبي عن أمل، هل يمكن أن تكوني حقا زوجة لرجل آخر، ويظل قلبك لي، هل يمكن أن أعيش بلا زوجة، كما عاش المسيح، قرأت أن غاندي قد اعتزل امرأته ونذر صياما حتى الموت عن النساء (براهماتشاريا) فهل هذا ما سيكتب على أن أفعله؟ أحس أنني رجل يطلب امرأة، لست حصورا يعتريني ما يعتري الشباب، لا أعتقد أنني يمكنني أن أنجح في هذا ولكن ماذا يمكنني أن أفعل؟ .. أنا لا أتصور أيضا أن تكوني لي امرأة أخرى بعدك.

.. فلندع الحياة تسير، ولتأت الأيام بما تخفي... مريم.. كتب الله على الإنسان أن يعيش على هذا الكوكب في كبد، «قال للمرأة: تكثيرا أكثر أـعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك. وقال لآم: لأنك سمعت لقول امرأتك، وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا: لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكا وحسكا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل، يعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها لأنك تراب وإلى التراب تعود...» وهكذا ترين لابد من المعاناة .. يقول عز وجل: ﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين﴾.

﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء الضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب﴾

فلنصبر على ما نحن فيه، ولنرض بما قسم الله لنا، ولنتم رسالتنا على هذا الكوكب. مريم.. نحن نعيش في ظل حضارة مندثرة، ولكي تولد الحضارة الجديدة على فكر جديد، لابد من تصفية كثير من الأفكار الموروثة، التي تتناقض مع الفكر الجديد، لأن هذه الأفكار الموروثة تشل حركتنا، وتمنعنا من النهوض حينما أقرأ عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، أحس أن الإسلام أصبح غريبا حتى على أهل العلم، وحتى على كثير من الداعين إليه اليوم.. يهيأ إلي أنه لو جاء أحد الصحابة ليعيش بيننا لأنكر كل ما نحن فيه.. المرأة جاهلة تعامل كغانية أو كأمة، الوقت ضائع لا نعرف قيمته، نحتقر العمل ويستعلي بعضنا على بعض، لا نأكل كل خبزنا بفرح ولا نشكر ربنا عليه، نخاف الموت وننساه كأنه ليس حقا على الجميع، لم تعد الأخلاق هي معيار الفضل بيننا، الإنسان الذي كرمه الله لا قيمة له فهو يهان ويداس بالأقدام.

.. يقول عز وجل: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ هذا ما تعنيه تصفية الأفكار، لابد أن نتغير نحن أولا حتى يبدل الله أحوالنا، قانون أزلي، سنة الله في الذين خلوا من قبل، ولن نجد سنة الله تبديلا، ولن نجد لسنته تحويلا.

مريم.. أيتها الغالية.. حبي لك باق مهما باعدت بيننا الأيام، كل خطاياك مغفورة عندي، كل ما أطلبه منك أن تظلي الصورة التي رسمها خيالي، الجوهر الذي أبحث عنه، لعل روحانا تلتقي في عالم آخر غير هذا العالم، مضى من العمر كثير ولا نعرف كم تبقى، فإن لم يكتب لنا لقاء هنا، فآمل أن ألقاك هناك، مع القديسين في عالم النور، حيث السعادة والسلام يغمر الجميع، حيث ننشد جميعا تسابيح الحمد والشكر لرب العالمين.. أنا لا أستطيع أن أستغني عن حبك هناك قوى خفية تدفعني لأكون كما تطلبين قديسا، يكره شهوات الجسد ويعيش على متع الروح، عاشق للفضيلة والطهر، راهب للعلم والمعرفة إذا كان وراء كل رجل عظيم امرأة تدفعه للمجد، فأنت المرأة التي تدفعني للكمال ما أنا فيه الآن يوافقني تماما، فقد اكتشفت في نفسي منذ زمن بعيد ميلا إلى الصوفية، أحببت دائما أن أغرق في حب الله، أن يمتلئ قلبي بجلاله أن يشغلني عما سواه، روحي ليست من هذا العالم، هي حبيسة هذا الجسد، وسيأتي يوم تتحر منه، تذهب إلى بارئها، تنطلق إلى عالم النور، تسبح مع الملائكة لحنا أبديا خالدا.

مريم.. لا تحزني من أجلي فأنا في خير حال، صدقيني فأنا الذي أشفق على الناس، وقد غابت عنهم حقائق الحياة يدبون لي كخراف ضالة، كقطيع يتزاحم في غباء وشقاء، قلبي يدعو لك بالخير، وأن يسدد الله خطاك.

ع. م

مصر الجديدة فبراير سنة 1964م.

الرسالة الخامسة عشرة

حبيبتي مريم:

وهل أملك إلا أن أقول حبيبتي؟ أصبحت أسير هواك .. مفاتيح قلبي بين يديك.. جلست بين يديك كطفل يريد أن يتمسح بأمه.. زالت همومي وذهب غضبي.. حركت العواطف زوبعة في أعماقي .. أشفقت على نفسي بدوت كقصبة في مهب الريح.. بسمتك ونظرة الشوق والحنان في عينيك تستعبدني ... تقولين: إنك تركت خطيبك.. ارحميني مما تفعلينه بي.. قلبي أثقلته الجراح فلتعلمي أن الحلم لم يفارقني .. دائما كنت أعتقد أنك لي، لم أشك في ذلك لحظة .. ولكن ماذا بقي مني الآن؟ طحنتني الأيام، سحقتني الأحداث والليالي، .. اليأس يزحف على صدري، يأخذ بخناقي .. لم أتصور يوما أن يصبح المال عقبة في سبيل زواجي منك، أنفقت كل ما أملك، مرتبي من الوظيفة الحكومية لا يكاد يكفي مصروفاتي الشخصية، الواقع يصدمني، أحس أن يد الله لابد أن تمتد إلي، لابد أن يحدث منحني آخر خطير في حياتي، أصبحت ك الطرق أمامي مسدودة أفكر في السفر للعمل بالخارج، أو بالهجرة، ولكن هل تسمح لي أجهزة الأمن بذلك؟ .. قلبي حزين، عاجز حتى عن أن يغني لك .. لابد من معجزة من السماء لتتغير الأحوال .. بلغ اليأس بي وبأصحابي غايته كل ما حولنا ضياع الحكومة تشتد قبضتها الشباب محاط بإعلام ساقط، الفن الذي يشاهده يملؤه بالتفاهة والسقم والضياع اختفت أصات البلابل، لم نعد نسمع إلا صوت «الغربان» لا يفكر ولا يتحمس الشباب إلا لنوادي الكرة، يتعصب لها، أو ينشغل بشهوات حسية عفنة، كل المعاني الحلوة من حوله قد شوهت استسلمت الأغنام لقدرها، فهي ترتع ولا تبالي، ومن حولها الذئاب تخطف كل ساعة ضحية... .. يتساءل البعض، هل يغير قتل الدجال حال؟.. وهل يمكن أن يفكر اليائسون إلا في هذا؟ لولا أن الحلم ما زال في أعماقي يبشر بالأمل، لا نجرفت في تيار أفكارهم هذا، ولكن مازلت ضد هذا التفكير، فالشر لن يولد إلا شرا.. مازلت أرى أن المشكلة هي قلب مصر ، أمنا المخدوعة الراضية، كيف نستميل قلبها؟ .. فالجميع قد سقطوا مع الدجال، غلبهم الضلال، ضاع الحق بينهم، تشابكت خيوط المأساة، لا يكفي أن تقطع خيطًا واحدًا لتستقيم الأمور، البلد تثقلها المأساة، لا يكفي أن تقطع خيطًا واحدًا لتستقيم الأمور، البلد تثقلها الديون، باع الدجال كل ما استطاع بيعه، لم يبق إلا أن يرهن أرض وشعب مصر ، أقدام الروس تطأ بعفنها المدينة، نراهم يسيرون في الأسواق كالخنازير نهمين إلى كل شيء يظهر عليهم أثر الحرمان الطويل في بلادهم، ولكن الدجال يحبهم ويفضلهم لأنهم مطيعون خائفون،سيتعلم منهم الشعب كيف يحترم العبيد سطوة النظام.. رحم الله أيام الإنجليز، كنا على الأقل نتعلم من سلوكهم شيئًا ينفعنا.

ماذا جرى لكتابك يا مصر وحملة الأقلام؟... الكل منكمش أو متواطئ، لا نسمع إلا التقريظ والثناء على الثعالب لا نسمع إلا أصوات النفاق، كلمة حق واحدة لا تسمعها آذاننا أي جيل شرير نعيش فيه الآن؟؟

أتعرفين يا مريم.. أن أهلك لن يقبلوني الآن فقد أعطيتهم أنا كل المبررات لرفضي، حتى لو قبلت أنت.. بل حتى أنا أعجز الآن عن أن أتقدم لخطبتك لا تواتيني الشجاعة أن أطلب يدك، فجيوبي خاوية ولا أرض لنفسي هذا الموقف ما ضرك لو أطعت في البداية؟

ما ضرك لو نبهتني إلى مطالب الزواج؟ لقد كان المال متوفرًا، وكانت طلباتك كلها ستكون مجابة.. يذكرني أمري بعائشة جاءها مال كثير، فأمرت جاريتها أن تحمل منه وتوزع على الناس، حتى لو يبق شيء، فقالت الجارية: لو أبقيت شيئا لنشتري طعامًا فما عندنا إلا الخبز والزيت، فقالت رضي الله عنها: لا تعنفيني لو كنت ذكرتني لفعلت.. أقسم لك يا مريم لو طلبت كل مالي ساعتها لأعطيتك إياه، وكان فيه ما يرضي الأهل، ويشعرك بالفخر، ولكنك تجاهلت هذا الأمر، وغفلت أنا عنه.

.. أنا اليوم لا أستطيع أن أتقدم إليك.. أشعر أنني منهزم أمام قوي الشر، أتمنى لو أخلو بنفسي في البرية، أشخص للملأ الأعلى وأستصرخ العوالم الخفية، أستنجد بملائكة الخير، أصارع الشياطين، أطردها من نفسي، أمتلئ بروح القدس، أبحث عن سلطان يعطيني القوة، لتهز كلماتي القلوب الغافلة لتفجر من صخرها الماء، لأسمعها لحن الحب والسلام، لأجعلها تهفو إلى النور تترك كل شيء وراءها، تجري وراء الحقيقة، وتصبح قادرة على التضحية والتغيير، تضحي أهلا لأن تحل عليها بركات السماء.

مريم.. أيتها الحبيبة.. لا تقنطي من رحمة الله.. ضعفي لن يدوم، سأمتلئ قوة لإجابة كل الأشرار، يسوع صعد إلى البرية وصام أربعين يوما ليجرب من إبليس فينتصر عليه، لابد من صراع النفس حتى نصل إلى الحكمة والسكينة والسلام.. أقول لأصحابي: لا داعي أن نستمر في لعن الظلام، يكفي أن يضيء كل منا شمعة بداخله، لابد أن تضيء الشمعة ما حولها يقول المسيح: «أنتم نور العالم لا يمكن أن تخفي مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت، فليضيء نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السموات»

أتعرفين يا مريم؟ لقد تغير نظام كوكبنا، أصبح الإنسان ولأول مرة في تاريخه قادرًا على تدمير الحياة عليه.. الحروب أصبحت عاجزة عن حل مشكلاتنا، الصراع الدائر في العالم الآن هو صارع علمي وفكري واقتصادي، الدولة التي تفكر بحل مشاكلها عن طريق مسدود..إذا كنا نريد أن نبرز على الساحة الدولية، فلابد أن يكون عندنا ما نقدمه للعالم، لا أن نبدو كمستولين نثير احتقار العالم إذا أردنا أن ننفتح على العالم، فلابد أن نحمل قلبًا مليئًا بالحب حتى نتفهم العالم من حولنا، ونستطيع أن نقدم خيرًا للعالم . أما إذا خرجنا للعالم كما يفعل الدجال الآن بقلب مملوء بالحقد فلن ننال إلا شر الجزاء..

سأضرب لك مثلاً.. رجلان قرويان هبطا إلى المدينة.. أما أولهما فبهرته الأضواء وتطلع إلى ما في أيدي الناس، فامتلأ قلبه بالحقد، ونغصه شعوره بالمهانة والحرمان، حاول أن يحصل بالقوة على ما يريد فقبضت عليه الشرطة وأدبته، وخرج من عندهم وما زال الحق يملأ قلبه، فوق فريسة لكل القوى الشريرة في المدينة، تستأجره ليقوم بالأعمال القذرة، وتلقي إليه بما يمكن أن يلقى للكلاب، وهو مازال يخدع نفسه بأوهام القوة، ويخدع بعض السذج من حوله، وما هو في الحقيقة إلا كلب مأجور، سينتهي منه الأسياد بعد أن يؤدي مهمته.. وأما ثانيهما فقد ظل يحمل طهارة الحقول التي جاء منها، أعجبته أضواء المدينة ولكنها لم تبهره، ظل يحن إلى صفاء الريف الذي جاء منه، أحب من حوله فأحبوه، تعامل مع الواقع بجد واستقامة فتفتحت له الأبواب، عرف أصول اللعبة التي تدور في المدينة، تعلم كيف يكسب رزقه بشرف، أصبح أكثر من أبناء المدينة رزقا وجاهًا أعطى المدينة عرقه وجهده، وأعطته كل ما يحلم به.. فأيهما أفضل الأول أم الثاني؟

.. مما يؤسف له أن أغلب حكام العالم الثالث يسيرون على درب الأول.. فالدجال وأمثاله، لا يرون في العالم إلا غابة يأكل فيها القوى الضعيف لا يرون إلا الصراع والدسائس بين الدول، لا يرون إلا منطق القوى وهم أضعف من الذباب ..يبيعون شعوبهم ليشتروا سلاحا كهنته ترسانات الأسلحة في الدول الكبرى سلاحًا قديمًا لم يعد يستعمل إلا في الحروب المحدودة بين الشعوب المتخلفة والقوى الشريرة تبيعهم هذه الأسلحة لكي تتسلى بهم وهم يتقاتلون، أو لتحقق ما تظنه مصلحة لها في منطقة ما من العالم.

ولكن هل يرى الأشرار إلا الشر؟ .. جاء رجلان إلى رسول الله كل منهما يحكي عما رآه في الشام فأما أحدهما فقال: إنه رأى من الخبائث كذا وكذا وأما الآخر فقال: إنه رأى من الفضائل كذا وكذا والرسول يقول للأول صدقت، وللثاني صدقت، فتعجب الصحابة من رسول الله يقول لكليهما: صدقت قال لهما ما معناه: إن كلا منهما رأى ما يشغله أو ما يبحث عنه.

شبابنا يذهبون إلى أوربا فلا يرون إلا مخازيها وساحات الفجور بها، ولا يرون سر تقدمها وازدهارها.. ولكن رجلا «كمالك بن نبي» يقول: إن باريس لا تعبر عن الحضارة الأوربية إنما يعبر عنها الريف الفرنسي، حيث ما زالت للفضيلة والأخلاق مكانتهما بين الناس.

ألمانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية محطمة، ومازالت جيوش الحلفاء على أرضها حتى اليوم، ومحظور عليها أن يكون لها جيش، ولكنها أصحبت اليوم وبعد مرور أقل من عشرين عامًا من أقوى وأغنى دول العالم بل أغنى من انجلترا التي هزمت أمامها واليابان التي تفتقر أرضها إلى كل الثروات الصناعية حذت حذو ألمانيا.. لم تجلس هذه الدول تبكي وتلعن الاستعمار كما يحلو للعاجزين أمثالنا أن يفعلوا ولم تعلق كل أخطائها ومصائبها على وجود الاستعمار كما نفعل لم تنظر للوراء، بل نظرت للأمام وصنعت شيئا.

الدول العربية مشلولة عاجزة، يسودها الظلم والجهل يقول الدجالون فيها لشعوبهم: إن المشكلة في وجود إسرائيل فقد زال الاستعمار، ولم يبق ما نعلق عليه فشلنا إلا إسرائيل. يقولون: لو أن إسرائيل ستحل كل مشاكلنا، فهذه كذبة قديمة، فقد قالوا من قبل: لو زال الاستعمار لكنا وأصبحنا، وقد خرج الاستعمار فزاد حالنا سواء وأنا أصرخ فيهم: هل إسرائيل تمنعكم من العدل فيما بينكم؟. هل إسرائيل تمنعكم من أن تعيشوا أحرارًا في بلادكم؟ هل إسرائيل تمنعكم من العمل والإنتاج، من العلم والمعرفة؟ ألا يمكن أن نعيش في بلادنا آمنين أحرارا نعمل ونجتهد، نجد في حكامنا قدوة حسنة فنتأسى بهم؟ كل ما يقوله الدجالون كذب ودجل، وهل ينتظر من أمثالهم غير هذا؟

... مريم أيتها الحبيبة الغالية... لست أدري هل انشغالي بمشاكل العالم هو هروب من مشاكلي؟ ولكن ماذا يمكن أن أفعل فمشاكلي لا تحتاج إلا إلى الصبر الجميل فأنا عاجز عن أن أفعل شيئًا إنه سلطان الظلمة.. لا أمل في هذه البلدة الظالم أهلها.. إنني أقرأ قول الله عز وجل: «إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وسآت مصيرا».... فأرى أننا اليوم مستضعفون في أرضنا، ولابد أن نبحث عن بلد آخر نعيش فيه، هذا ما يشغلني الآن ولعل في ذلك حل لمشاكلي ولكن أي بلد أذهب إليه؟ أليست مأساة أنه لا يوجد بلد إسلامي واحد، يمكن أن أذهب إليه لأعيش فيه في سلام أنعم بحرية القول والتفكير، ألا يجعلنا ذلك نعيد حساباتنا، فلا يوجد أمامي إلا أن أتجه إلى أوربا، حيث وجد فيها من قبل «جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده» من الحرية والأمان مالم يجداه في بلادهم، مازالت كلمات «محمد عبده» ترن في أذني عند عودته من أوربا لمصر : رأيت هناك إسلامًا ولم أر مسلمين، وأرى هنا مسلمين ولا أرى إسلامًا.

حبيبتي مريم.. لست أدري ما تخبئه لي ولك الأيام... ولكن ثقي دائمًا أن حبك باقي في قلبي وأنا أحس رغم كل ما حولي أن فرج الله قريب فقد بلغت الحلقوم، وسنة الله، إن بعد العسر يسرًا، وإنه إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد أحيط بهم جاءهم نصر الله فأحللك ساعات الليل ظلامًا أقربها لمطلع الفجر الجديد حينئذ يا حبيبتي سيجمعنا الله، وستزول كل آلام المخاض، سأظل أحبك مهما فرقت بيننا الأيام.. أنت جزء من قلبي أنت ملاكي الحارس. وحتى نلتقي سلام الله ورحمته وبركاته»

ع. م

مصر الجديدة نوفمبر (1964) م

الرسالة السادسة عشر

مريم أيتها الحبيبة:

.. أكتب لك من عالم الظلام.. من الجحيم.. من قلعة صلاح الدين.. صلاح الدين الذي ما زال يعش في عقل أوربا حتى اليوم مثالاً للنبل والوفاء .. أصبحت قلعته اليوم مذبحًا لحقوق الإنسان.. أصبحت قلعة أشباح تحكمها الشياطين.. تعربد فيها الذئاب والثعالب والحيات.

عند الفجر سمعت دقات عنيفة بالباب قمت مسرعًا خشية أن تستيقظ أمي أو أخواتي، فتحت الباب فدخل ضابط ومن خلفه ثلاثة من أعوانه استيقظت أمي هذا ما كنت أخشاه، طلبوا تفتيش الشقة، كان لابد أن يستيقظ إخوتي الصغار، كان وجه الضابط يبدو مألوفًا لي، سألني عن المدرسة التي أخذت منها شهادة الثانوية عرفت أنه كان زميلي بها استمرت عملية التفتيش، أخذوا كثيرا من كتبي، حاولت أن أبدو هادئًا مبتسمًا حتى لا أزعج أمي وإخوتي، اعتقد أنني نجحت في ذلك فقد اقتربت مني أختي الصغيرة لتقول: لم لا نقاومهم؟ فابتسمت لها في حنان وقلت لها: بعد قليل سأعود إليكم، أما وجه أمي فقد كان ينطق بشجاعة لم أتوقعها، كأنما تقول لي: رغم أننا طالما حذرناك من هذا الطريق إلا أننا خلفك حتى النهاية.. يا لقلب الأمهات! نصحني الضابط أن آخذ بعض الملابس فقلت متعجبًا: وهل سيطول الأمر؟ فقال: قد يستغرق يومًا أو يومين.. لم أفهم نصيحته جيدًا ساعتها، فلم أحضر إلا «بيجاما» ومنشفة في حقيبة يد صغيرة وبعد أن انتهت عملية التفتيش نزلت معهم، بعد أن ودعت أهلي بابتسامة تشجيع، وأظهرت لهم عدو المبالاة، كل ما كان يعنيني ساعتها، ألا ينزعج الأهل، ألا يشعر بالخوف إخوتي الصغار، وهم يرون الغرباء يأخذون أخاهم في ظلمة الليل إلى حيث لا يعلمون.

كانت سيارة تنتظرنا أسفل البيت، وانطلقت بنا مسرعة إلى وزارة الداخلية، نفس المبنى الكئيب الذي جئت إليه منذ سنوات ليسألوني عن «مروان».. صعدنا سلمًا إلى الطابق الثاني، وفي إحدى الطرقات تركني الضابط ودخل إلى إحدى الحجرات ولما طال انتظاري له وجدت مقعدًا فجلست عليه، ومر أماي عامل المقصف يحمل بعض المشروبات، فناديته وطلبت منه أن يحضر لي الشاي وبعض السجائر.. بعد قليل رأيت ضابطًا قد أحضر معه شابان يلبسان «البيجاما» وقد لفت نظري أنهما يسيران حافي الأقدام ويحملان أحذيتها في أيديهما، كان يبدو عليهما أنهما مثقفان، ولكن تكسو وجهيهما ذلة وانكسار وشيء من الخوف.. أشفقت عليهما، وقد جلسا بجانبي على الأرض ناديت على عامل المقصف وطلبت لهما شايًا وبسكويتًا، ويبدو لي الآن أن هذا كان آخر ما تناولاه من طعام أو شراب حتى لقيا ربهما.

خرج رجل من الغرفة ونادى علي .. جلست أمام أحدهم ليسألني عن بعض البيانات كالاسم والعنوان، وبيانات أخرى لا أذكرها، ثم خرجت وجلست على المقعد مرة ثانية، وقد وضعت ساقًا على ساق وحقيبتي على ساقي، وقد ارتكزت عليها وأنا أدخن.. مر على غلام رقيع يبدو أنه أحد الضباط وصار ينظر إلى في ضيق كأنما لا يعجبه منظري.. وبعد قليل نادى هذا الغلام على أسماء كنت من بينها، وكذلك رفيق لابسي البيجامات.. وأمرنا وهو ينظر إلى شذرًا أن نلحق به، فنزلنا خلفه لنجد عربة تتسع لسبعة ركاب في انتظارنا وركب الضابط بجانب السائق وركبنا نحن خلقه، وشاء الحظ أن يكون مكاني خلفه تماما وأن ينطلق دخان السجائر إليه كلما نفثته، فالتفت أكثر من مرة متضايقًا، ولكنه لم يجرؤ أن يتكلم. صرت أنظر للطريق، أحاول أن أتبين إلى أين نحن ذاهبون رأيت السيارة تتجه نحو القلعة كنا في الساعات الأولى من الصباح وقد بدأت الحياة تدب في القاهرة وصلنا للقعلة ودخلت بنا السيارة في طريق خالية من الناس، لم نر فيها إلا بعض العسكر، وقد بدت لي كشوارع مدينة قديمة مهجورة . بعد قليل توقفت السيارة أمام أسوار عالية، ولمت بابا صغيرًا خشيًا لا يتناسب مع هذه المباني الضخمة نزل الضابط وقرع الباب ففتح على غرفة ضيقة، وقد جلس رجل على مكتب قديم.. دخل الضابط وأعطاه ورقة يبدو أنها تحمل أمر اعتقالنا، ثم دخلنا خلفه وعبد أن تمت علمية تسلمي الضحايا خرج الضابط الرقيع وقفل الباب خلفه.. جلس الرجل على مكتبه ونادى الأسماء وبعد أن أخذ ما معنا من نقود أو ساعات أو نظارات أو خواتم أو ما شابه ذلك.

أمر مساعدًا له أن ينطلق بنا فتح باب صغير، فكأنما فتحت طاقة من جهنم، جاءت أناث وصرخات أليمة من بعيد.. كان الباب يؤدي إلى إحدى الطرقات الممتدة وسمعت صوتًا ينادى في غلظة كفحيح الأفعى:

أجر يا بن الكلب أنت وهو...يبدو أن الرفاق كانوا يعرفون الطريق فقد جروا وأنا خلفهم، وصرت كلما اقتربت من نهاية الطرقة يزداد صوت الصراخ والأنين وضوحًا، حتى دوى المكان كله من حولي بصيحات مخيفة، كأنما تصدر من قوم يمزق لحمهم وحش مخيف.. صرت لا أعي بما حولي، أجري خلف الرفاق وقد غبت عن المكان حتى وصلت إلى ساحة كبيرة، وقد ألقي عليها عشرات من الرجال عرايا تمامًا، وقد وقف على رؤوسهم رجال غلاظ يلهبونهم بالسياط والعصي وقد تعالت صرخاتهم في حشرجة، وألم وخوف عظيم، كان الموقف أشبه بالجحيم.. مررنا عليهم ثم سمعت صوتا غليظًا: لليمين يا أولاد .. فدخل الرفاق وأنا خلفهم إلى طرقة طويلة على جانبها زنازين كثيرة، أدخلوني إحداها وكانت خالية، فارتميت على الأرض ومازالت أصوات المعذبين تأتيني من بعيد..

كنت في حالة شبيهة بالذهول، لم أكن أحس كثيرًا بما حولي امتلأ خاطري بسيمفونية العذاب التي أسمعها لم تمض دقائق وق فتحت الزنزانة، وأمرت بالخروج، ومشيت خلف الجلاد، مررنا على ساحة العذاب، نظرت للضحايا مشدوهًان صعدنا درجًا صغيرًا إلى عنبر كبير انتشرت فيه بعض المكاتب وقد جلس خلفها المحققون ذهبت بي إلى أحدهم وقال له: فلان يابك.. نظر إلي «البك» في تفحص كنت أقف أمامه مذهولا ولكن في كبرياء، لم أكن خائفًا كنت كمن يشاهد فيلما مزعجًا .. لم يعجبه منظري على ما أظن سألني: ما اسمك؟ لم تخرج الكلمات من حلقي فأعاد سؤاله، وحاولت أن أجيب ولكنني لم أستطع، كان الصراخ والعويل من حولي والأجساد التي تسيل دماؤها تخرسني رأيت المحقق ينظر لشخص خلفي، فأحسست بعدها بيد ثقيلة تهبط بلطمة شديدة على قفاي فكأنما أعادتني هذه اللكمة من ذهولي إلى أرض الواقع، وتملكني غضب شديد، ونظرت خلفي أبحث عمن فعل بي ذلك في تحفز شديد، ولكن ما كدت ألتفت حتى جائتني لطمة أخرى من الجانب الآخر، وسمعت أحد الجلادين يصرخ: لماذا تنظر إليه هكذا يا بن الـ ... ؟ شعرت بالقهر الشديد، نظرت إلي المحقق في غيظ، رأيته مازال يتفحصني وقال بتخنث ووقاحة: لماذا لا تبكي؟ أبك .. تمالكت نفسي صرت قادرا على أن ينطلق صوتي لأجيب على أسئلته .. .سألني عن صلتي بالتنظيم، فقلت: إنني لا أعرف شيئًا عنه سألني بعض أسئلة أخرى، ثم أمرهم أن يعيدوني إلى الزنزانة.

وفي الزنزانة ارتميت على الأرض وبكيت، كانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أتعرض فيها للإهانة، أدركت معنى دعاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) واستعاذته بالله من قهر الرجال.. بكيت كثيرا صرت أعزي نفسي، بأن محمدًا سيد الرسل قد عذب ولطم. .. والمسيح لم تعجب خدام رئيس الكهنة كلماته لسيدهم فلطموه قائلين: أهكذا تجاوب رئيس الكهنة... كنت أحس أن السماء ستتدخل لتغيير مسار حياتي وتحل مشكلاتي ولم أكن أتوقع أن يكون الحل بهذه الطريقة لعل ذلك لحكمة لا أعلمها كل ما أرجوه ألا يكون ما أنا فيه عقاب من الله على خطأ ارتكبته.

بعد ساعات استدعيت للتحقيق ثانية، المحقق هذه المرة أصفر الوجه ينطق وجهه بالقسوة والشر، صار يسألني عن التنظيم وعن الإخوان، وعن أشياء لا أعرفها وهو يدبي عدم التصديق لما أقول..كشر عن أنيابه، صخر في أن أخلع ملابسي، وكلما خلعت بعضها صرخ: اخلع حتى صرت عريانا تمامًا كالآخرين وبدأ الضرب المبرح، حاولت في البداية ألا أصرخ، ولكنني لم أستطع أن أستمر كانت العصا تهبط على جسدي فأحس لها طرقا في جمجمتي ثم أمرني أن أنام على ظهري وأرفع قدمي كما كان يفعل المعلم في كتاب القرية بتلاميذه، وانهال الضرب حتى أحسست قدمي تتورمان ثم أمرني أن أجري واقفًا حتى لا يزداد تورم قدمي، فيتمكن من أن يضربهما من جديد. .لاحظت وجود بعض أصدقائي من حولي، تبادلت معهم النظرات من بعيد، استمر هذا العذاب حتى ساعة متأخرة من الليل، ثم كفوا عن التعذيب يبدو أنهم قدت تعبوا.. بعد فترة أعادني جلاد إلى الزنزانة وعند خروجي من عنبر التعذيب لاحظت خيوط إشراقة الصباح تنعكس على الساحة،ورأيت الضحايا ملقون على الأرض يئنون في ألم عميق كان من بينهم رفيقاي (لابسا البيجاما) يبدو أنهما لم يغادرا ساحة التعذيب منذ وصولهما، كانا عاريين تمامًا وقد تلون جلدهما بخطوط حمراء وزرقاء وخضراء..

.. في الزنزانة ذهبت في سبات عميق، فلم أكن قد نمت منذ يومين، وبعد ساعات أحسست بمن يركلني في قدمي فانتبهت متألما فوجدت أحدهم يضع أمامي خبزًا وقطعة من الجبن، فأكلت بشهية كبيرة ترك خلفه باب الزنزانة مفتوحا فاقتربت لأنظر منها، فوجدت أن الزنازين كلها مفتوحة وبعض المعتقلين يخرجون منها خرجت مدفوعًا بالعطش الشديد وبالحاجة إلى البحث عن مكان أقضي فيه حاجتي فوجدت ما أبغيه وعدت إلى الزنزانة وأنا أشع بالراحة، كان جسدي ممتلئا بالكدمات ولكن آلامها كانت محتملة، وكان الهدوء يسود المكان فظننت أن الأمر سينتهي عند هذا الحد، وشعرت بشيء من السكينة.

بعد فترة قصيرة أغلقت الزنازين، وعاد صوت الآلام يرتفع ليملأ المكان من جديد، ثم فتحت الزنزانة وأخذوني من جديد إلى أصفر الوجه رأيت هذه المرة كثيرا من الأصدقاء عرايا يلاقون مثل ما ألاقي... وبدأ التحقيق من جديد سألني عن أصحابي، أدركت أنه يعرف الكثير عنا، تكررك الأسئلة، هل تعرف فلان؟ نعم ما صلتك به؟ هو أحد أصدقائي، وما صلتك بالتنظيم؟ لا أعرف شيئا عنه.. ويستمر الضرب من جديد .. هل تعرف الشيخ (عبد الفتاح إسماعيل) ؟ نعم أعرفه فيقول في انتصار: آه .. ثم مزيد من الضرب.. لم أدرك ماذا يريد مني أصفر الوجه، ولكنني أدركت أن لعبد الفتاح إسماعيل أهمية في التنظيم الذي يتحدثون عنه وعبد الفتاح إسماعيل هو أحد الأصدقاء، يكبرنا سنا وقد تعرفت إليه عن طريق صديق كان معي معتقلاً سنة (1954) وعرفت أنه كان يدرس بالأزهر، ثم امتهن التجارة، وقد كان ر جلا شديد الحيوية، يتحدث عن الإسلام وعن الجهاد في سبيل الله وقد دعانا إلى بلدته وزرناه هناك، وكان رجلا كريمًا استمتعنا بصحبته واستمرت علاقته بنا طيبة، فهو يزورنا عند نزوله إلى القاهرة، وكنت لم أره منذ حوالي سنتين..

وبينما نحن على هذه الحال، لاحظت حركة غير عادية بين الجلادين وتوقف التعذيب، وخفت أصوات الصارخين والمتألمين ورأيت رجلا يشبه القرد قد أحاط به الجلادين، فأدركت أنه لابد أن يكون عظيما من رؤسائهم، وطافوا به كأنما يشرحون له ما يقومون به من جليل الأعمال.. وبعد قليل وصل الركب التعيس إلى فانتصب واقفًا وكنت عاريًا تمامًا، وسارع أحدهم ليقول للقرد هذا فلان فوضع القرد ذراعيه في خاصرته وانتفخ وهو يتشدق بكلام كبير، أذكر منه «ألا يكفي ما صنعتموه في سنة (1954) ؟ إن قلب الرئيس الرحيم قد عفا عنكم في تلك المرة ،ولكنه لن يرحمكم هذه المرة...» واستأسد الثعلب وأنا أنظر إيه وإلى موكبه، أحاول أن أداري عيني حتى لا يثيره، ما بها من استخفاف واحتقار.

واستمرت ملحمة التعذيب من جديد، حتى حملوني وألقوني في الزنزانة فقد كنت عاجزًا عن المشي، ووجدت في الزنزانة صديقًا لي، كانت قدماه داميتان تنزفان... وكانت أصوات العذاب تأتي من كل مكان، فتعذبني أكثر من عذابي هناك ينهم.. لم أعرف من صديقي شيئا جديدًا سوى أن صديقنا يحيي الطيار، الذي اختفى قبل اعتقالي بيوم في مطار الخرطوم في أثناء رحلته إلى السودان، يبدو أنه له صلة بالتنظيم هو الآخر، فقد تم اعتقاله كل دفعته من طياري شركة مصر للطيران.

مريم.. أيتها الحبيبة.. صدقيني أنا لم أشعر بالخوف لحظة، فالجلادون أشكالهم مألوفة لي، عرفت كثيرا من الناس في الحياة يمكن أن يصبحوا أمثالهم، وأنا أعرف ضعفهم وقدراتهم المحدودة.. ما يخيفني حقا هو فكرة الموت، أن تأتيني النهاية قبل أن أستعد لها، قبل أن أفعل شيئًا أستحق عليه شرف الشهادة أخشى أن يكون حلمي وهمًا ضيعت به حياتي وحياتك معي، عذبت به نفسي وعذبت من حولي عبثًا، .. اعرف يا مريم أنك كنت على حق، فلطالما حلقت في الأحلام وتناسيت الواقع، إن ما يحدث لي الآن كان لابد أن يحدث لأفيق وأسترد عقلي لا يا ربي لا تأخذني الآن، أعطني فرصة أخرى أريد أن أكمل رسالتي أن أموت مرتاح الضمير... ماذا يكسب الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر نفسه؟

كنت أبحث عن الخلاص وخلاصي في معرفة ربي، في أن ألقى بأحمالي عليه وأسجد خاشعا بين يديه.. سأملأ قلبي بذكرك يا رب ليلاً ونهارًا... أعطني يا رب فرصة لأكثر من تسبيحي واستغفاري... أنت الطريق .. أنت الحق.. لا إله إلا أنت ..وكل آتيك يوم القيامة فردًا أحس الآن بذلك، لن ينفع مال ولا أهل ولا أصحاب ولا أحباب ولا الدنيا كلها، أنت فقط إله الكون ليس لي سواك، قطعت الآمال إلا منك، لا ينفع ولا يضر إلا أنت كل لحظة مرت علي بدون ذكرك مرت هباء. يا رب اغفر لي خطيئتي، أعطني فرصة لأقترب منك، لأدخل في رحمتك وحماك يا ملك الكون، يا رب الوجود، اسحقني ترابًا وارض عني، فأنا لا شيء بدونك، يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف.. أستودعك الله يا مريم وأطلب منك الدعاء .

ع. م

أغسطس (1965) م

الرسالة السابعة عشرة

حبيبتي مريم:

أكتب لك من الجحيم.. المعركة دائرة على أشدها .. معركة سلاحهم فيها العصي والسياط والقهر، وسلاحنا فيها الصبر والابتهال إلى الله. وأنت لا تغيبين على خاطري..

لقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت
كبارق ثغرك المبتسم

أكتب لك من معتقل أبي زعبل، فبعد ليلتين في القلعة، تراءى لهم أن ينقلونا جميعًا إلى معتقل آخر، أكثر اتساعًا، وأبعد عن عيون وآذان الناس وقد أدركنا ونحن مرحلون في سياراتهم أننا متجهون إلى أبي زعبل.. وقد وقفت بنا السيارة أمام مدخل المعتقل، وهو عبارة عن باب صغير، يفتح على فناء متسع تطل عليه جميع غرف المعتقل، والمعتقل من ثلاث طوابق: الطابق الأول به زنازين ومكاتب للإدارة والمحققين، والطابقان الثاني والثالث بكل منهما اثنا عشر عنبرا، ست على كل جانب أمامهم ممر يطل على الفناء.. وقد امتدت القضبان الحديدية في الفناء من الأرض حتى نهاية الدور الثالث، وكذلك لتشكيل سقفًا للفناء من أعلى المبنى، فبدا الفناء كأنه قفص حديدي ضخم.. وحينما وصلنا أدركنا أن المبنى جديد لم يستخدم من قبل، فقد أمرنا بحمل مخلفات البناء وتنظيف العنابر، وقد عملنا بنشاط فقد كانت السعادة تملؤنا، فقد التقى الأصحاب وعرفنا ما جرى لكل منا، وكيف كانت أسئلة المحققين، وبدا لنا أن الأمر قد انتهى، فهم يبحثون عن تنظيم سري، ونحن طبعًا لا نعرف عنه شيئًا... ثم بعد أن انتهينا من عملية النظافة، أدخلونا إلى العنابر، وقفلت علينا، وبتنا ليلة هنيئة، فكل عنبر به دورة مياه، وهذا ما كنا في أمس الحاجة إليه.. لنغتسل ولنتوضأ لأول مرة منذ أن اعتقلنا ولنصلي جماعة وقد بدا لنا صوت الإمام كأنه لحن ملائكي حزين، ثم تعالت أصوات الدعاء فبدا كاستغاثة جماعية لرب الكون بأن يزيل عنا ما نحن فيه.

استيقظنا لصلاة الفجر، وتكرر لحن الدعاء الحزين.. أحسست ساعتها أن أبواب السماء مفتوحة، وأن الملائكة ترفرف على المكان، وأكثر الجميع من الدعاء بعد الصلاة، ونام البعض بينما جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، بين تفاؤل وحذر مما هو آت.

وما هي إلا ساعات، حتى سمعنا حركة تدب في المكان، ثم صوت غليظ كئيب ينادي من أسفل: فلان، وفلان، وفلان.. كل من سمع اسمه يقف على باب العنبر وخيم الحزن على الجميع فالأمر لم ينته بعد ومر جلاد ليفتح كل عنبر فيخرج من نودي عليه، ثم رأيناه يأمره بأن يعصب عينيه بأي قطعة قماش، ثم يسحبه إلى الممر خارج العنبر، ويقفل علينا من جديد، ويسحب الضحية إلى حيث تنتظره الذئاب .. ومن جديد تعالى الصراخ والعويل وتحول الفناء الذي تطل عيه جميع العنابر إلى أرض عذاب وآلام وقد أطلق عليه الجلادون اسم المحمصة .. وكأنما ليتحقق قوله عز وجل: ﴿وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين﴾.. أصبح المحققون أكثر شراسة مما كانوا عليه في معتقل القلعة، فمن ينتهي معه التحقيق لا يعاد للعنبر عادة بل يذهب به إلى المحمصة ليذوق عذابًا متصلاً حتى اليوم التالين ليطلب للتحقيق من جديد، أو قد يظل أيامًا حتى يطلبوه مرة ثانية وفي المحمصة لا أحد ينام، ونادرًا ما يجلس، ولكن يظل واقفا، أو معلقا على الجدران الحديدية، والضرب كذلك لا ينقطع فهذا يصرف له مائه جلدة، وذاك مائتان، والصراخ يملأ المكان، ليصيب أهل العنابر بالقلق والتوتر والألم بصفة مستمرة ورغم هذا كنت أرى بعض المعتقلين معي في العنبر يقرءون القرآن ويرتلونه، وقد صفت وجوههم، وكأنهم في واد وما يحدث حولهم في واد آخر، كأنما يهربون إلى عالم آخر بحثًا عن السكينة طوال الليل نسمع أصوات الجلادين تلقى بالأوامر على أهل المحمصة لتمنعهم من النوم، أحدهم يبدو أنه حشاش، فهو كمان يلعب ببعض الدمى، نسمعه يقول قف. أجلس، قف، أجلس، قف، أجلس، ازحف، قف... وهكذا ثم يتعالى منه السباب، ثم يأمرهم أن يصطفوا أمام بعضهم، ليضرب كل منهم الآخر، أو يقفوا على قدم واحدة.. إلى آخره.

استدعيت للتحقيق عدة مرات، وأنا معصوب العينين، صوت المحقق هو نفس الصوت الذي كان يحقق معي في القلعة يصر على أن يسمي كل لقاءاتي بأصدقائي تنظيمًا لاحظت أنه جاهل لا يفهم ما أقول، اضطررت أن أتكلم بما يفهم .. قلت له أنا من أتباع «مالك بن نبي».. صرت أحدثه عن أفكار «مالك بن نبي» عن الحضارة الجديدة، وكنت أركز في شرحي على رفض العنف والعمل السري، حتى يفهم أننا بعيدون عن التنظيمات فملا أحس بأنه لن يفهم كثيرًا مما أقول، أعطاني ورقة وقلمًا وقال لي: اكتب كل هذا في هذه الأوراق وإياك أن تنسى شيئًا، ورفعت العصابة عن عيني، هو من توقعت محقق القلعة أصفر الوجه، لم أشعر بكره له، فقد بدا لي ككثيرين من الأشرار الذين عرفتهم خارج المعتقل، كان لي صديق مثله من أبناء الشارع أيام كنت في المرحلة الثانوية، كان يحلو له أن يؤذي من هو أضعف منه، وأعتقد أنه قد دخل كلية الشرطة كذلك.. وقد نظر إلى بعد أن رفعت العصابة عن عيني، نظرة المنتصر في معركة، وقدم لي قدحًا من الشاي، أو على الأصح بقايا قدح كان يشرب منه، ورغم كل ما فعله فقد بدت في عينيه لمسة عطف، كأن ما كان يفعله هو الواجب الذي أملاه عليه ضميره، أو كأن ما فعله كان من أجل غاية سامية وهي الحفاظ على الدجال.

... وظللت أكتب وأكتب وأعطيته الأوراق وقد ملئت بالاعترافات فبدا عليه الارتياح، ونادى على أحد الجلادين، ليعيدني للعنبر، وقد عدت هذه الليلة زحفًا فقد تورمت قدماي بدرجة أعجزتني عن المشي .. عدت إلى العنبر، ويالها من مفاقة، بين قسوة الإنسان التي رأيتها في أثناء التحقيق، بين الرحمة والعطف اللذين وجدتهما من رفاق العنبر، ما أحلى كلمات العزاء تنطق بها أفواههم، وما أندى لمسات الشفقة منهم، يا لهم من أناس طيبون، جمعتهم المصائب، وقربت بين قلوبهم.. لم أستطع النوم هذه الليلة، تجاذبت أطراف الحديث مع بعض الأصدقاء الذين تصادف وجودهم معي بنفس العنبر، أدركنا أن المحققين قد أصابهم صرع وهوس، أفلتت من أفواههم بعض الحقائق فهذا يقول: (يا أولاد.. التنظيم كله انكشف، في السجن الحربي عرفوا كل حاجة) وذاك يقول: (المباحث الجنائية عرفت كل حاجة، واحنا نايمين يا...) بدا أن هناك سباقًا بين المباحث العامة التي تحقق معنا والتي تتبع وزارة الداخلية وبين المباحث الجنائية التي تتبع الجيش لمعرفة الأفراد المشتركين في التنظيم كل جهة تحاول أن تحصل على أكبر قدر ممكن من الاعترافات، ونحن الضحايا.

في داخل العنبر، رأيت أناسًا كثيرين لا أعرفهم بعضهم كبار السن من قدامى الإخوان، وبعضهم شباب لا تربطه بالإخوان أية صلة، أكثر ما أثار شفقتي، رؤيتي لشاب حاصل على «بكالوريوس الصيدلة» من أوربا ثم جاء ليعمل طيارًا بشركة مصر للطيران، قبض عليه عند وصوله لمطار القاهرة وفي حقيبته زجاجات الخمر، ولم يشفع له ذلك فقد ضرب وأهين كثيرًا وهو لا يدري عما يتحدثون، فهو لم يعرف شيئا في حياته عن الدين أو عن السياسة، أصعدوه بعد انتهاء التحقيق إلى العنبر بدا لي كطفل مرعوب، أذهله ما هو فيه، لا يعرف إلا الشكوى والبكاء، يقص حكايته لكل من يجد عنه لمسة شفقة أو حنان، عندما وزعوا علينا لباس السجن لنرتديه، أمسكه بيده متأملاً ثم أجهش بالبكاء أصوات العذاب والألم تعزف طوال الليل .. في الصباح استدعيت ثانية للتحقيق، مازالت آلام قدمي كبيرة، ذهبت وهبطت السلم زحفًا حتى وصلت إلى حيث يجلس المحقق الجلاد، وأنا معصوبا لعينين، بدأ الضرب ثانية بلا سبب، ولكنني أدركت أن الجلاد غاضب لشيء ما . سألني بحدة: ماذا تقصد بكلماتك في هذا الخطاب؟ قرأ لي بعض فقرات منه، لم أتذكره، فعاود الضرب ثانية، أخبرني أن هذا الخطاب قد كتبته أنا لصديقي يحيي، بينما كنت أعمل في سوهاج، قرأ لي فقرات أخرى من الخطاب، أدركت على الفور أنني وقعت في مأزق خطير، فالخطاب عبارة عن خواطر وتأملات، وهذا مالا يمكن أن يفهمه، ولن يصدقني أبدًا وقد هداني الله إلى أن أقول له شيئًا قريبًا من فهمه، فقلت: أنا أكتب له عن قصة حب كنت أعيشها وقد خطبت حبيبتي، فأنا أعبر عن آلامي لخطبتها وأراد الله أن يرحمنا أنا وصديقي، فحكي له نفس القصة فتطابقت أقوالنا فكف عن العذاب.

أعتقد أن المحقق بدءوا يدركون أنه لا صلة لنا بالتنظيم، بدا ذلك لي من تلميحاتهم أخيرًا، ولكن هذه فرصة لمعرفة كل ما يدور في البلد، كما قالوا، لابد أن يعرفوا كل الأنشطة التي يمارسها أعداء الثورة، وكل الأفكار لذلك فالتحقيق سيستمر، وتستمر أسئلتهم ماذا كنتم تقولون؟ فيم كنتم تفكرون؟ ما رأيكم في الثورة؟ ما رأيكم في الإخوان المسلمين ما رأيكم في الدجال؟ وهكذا..

وجدوا عند صديق بعض كتيبات لحزب التحرير الإسلامي الأردني، وهي مطبوعات كانت تباع في الأسواق ولكن في هذا الجحيم كانت كافية للبدء في التحقيق معنا جميعًا من جديد. ماذا تعرف عن حزب التحرير الإسلامي الأردني؟ من هم أفراده في مصر ؟ وكان هذه الأسئلة تأتي بين فترات متقطعة من التعذيب والشيء المضحك المبكي، أن أي اسم من أسماء معارفنا، يأتي ذكره عفوًا أو يوجد له رسالة أو كتاب يحمل اسمه عند أحدنا أو رقم تليفون، كنا نفاجأ بعدها بصوت صراخه، فنعرف أنهم قد جاءوا به، صديق لم نره منذ أيام الجامعة، كان زميلاً في كلية الزراعة، وقد تخرج ليعمل رئيسا لإحدى المزارع الحكومية بالصعيد، يبدو أن ذكره جاء على لسان أحدهم، جاءوا به وضرب ضربًا مبرحًا ذلك أنه عجز عن الإجابة على أبسط أسئلتهم وقد عرفنا منه أنه فوجئ في مقر عمله بالعربات المصفحة تحاصر المكان ويهجم الجند بالمدافع الرشاشة ليأخذوه مذهولاً إلى حيث لا يدري، وهو لا يفهم شيئًا مما يحدث.

.. طيار كان زميلاً لصديقنا الطيار الهارب، جاءوا به كذلك ولما كان الأمر شاذا بالنسبة له، فقد بدأ يصرخ ويسبب ويلعن: يا أولاد ال... أنا لا أعرف شيئًا ولما طال به العذاب واشتد وصار فوق احتماله انقلب إلى المهادنة التامة للجلادين، وبدأ يعترف على نفسه بما لم يفعل، فقال: إنه من أهم رجال التنظيم، وأنه كان سيقتل الرئيس، وقد اكتشف كذبه سريعًا، فأعادوا ضربه، ثم أدخلوه العنبر، فأصبح يخاف أن يتكلم مع أحد يظن أنه الوحيد المظلوم، وأننا جميعًا أعضاء في التنظيم، حاولت أن أهدئ روعه، وأفهمته صلتي بالطيار الهارب الذي كان السبب المباشر في اعتقاله واعتقالي، بعد فترة أدرك الحقيقة، فالجميع من حلوه مثله..

حبيبتي مريم:

ألم أقل لك إن البلد تحكمها عصابة؟ أنا متأكد أنه لن يجرؤ أحد من الأهل على أن يسأل عني.. بل قد ينكر البعض صلتهم بي ولم لا؟. ونحن هنا من شدة العذاب نكاد نعترف بمالم نفعل وأيدي الجلادين تصل إلى جميع الناس وهم لا يعجزون عن الإتيان بمن شاءوا إلى هذا الجحيم، وأنا لا ألوم أحدا لأنه يتجنب طريق الذئاب الجائعة، ولكنني ألوم الناس في مجموعهم، لا،هم طالما دافعوا عن الدجال وانتصروا له، لو لم يعطوه كل هذا الحب والتأييد لما استأسد عليهم، وأذاقهم صنوف الهوان، لطالما عييت من مناقشتهم وهم يسخرون مما أقول، لطالما تغنوا ببطولاته الزائفة، لطالما طنوا أن قوته فهم، فإذا هي عليهم فقط قتل أبناءهم وبدد أموالهم ورفع وضعاءهم، وأذل أشرافهم، وهم له راكعون ألا ينطبق عليهم قوله عز وجل: ﴿فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين﴾ ماذا يحدث فيك يا مصر ؟. أكل هذه الجرائم ترتكب باسم الثورة وأي ثورة؟ ثورة الدجال ورفاقه؟ أبناءك يا مصر بين ظالم ومظلوم صوت الحق ضعيف وصوت الباطل يملأ الآفاق.. أي قسوة في قلوب هؤلاء الجلادين؟ إنهم كالكلاب المسعورة، يبدو في وجوههم الخوف، هم يخافون أكثر من الضحايا، يحرص كل منهم على أن يحصل على أي اعتراف مكتوبة ليرضي بها رؤساءه، وجميعهم في خوف عظيم من غضبة الدجال وحاشيته، ويا لهم جميعاً من حمقى يبيعون دينهم وشرفهم بدنيا غيرهم.. أني أن يمحي كل هذا العار؟!!

الصراخ والأنين لا يهدأ من حولي ليل نهار، وأنا لا أجد عزاء إلا في ذكر الله. لساني وقلبي دائمًا يسبحانه كان عندي مسدس صغير من النيكل اللامع يبدو كأنه من فضة تبرق، وكنت قد ورثته عن أبي، وقد حاولت تجربته ذات مرة فوجدت أنه أصبح لا يعمل، فأعطيته لأحد الأقارب ليصلحه فأضاعه.. تذكرت هذا المسدس وتذكرت أن بعض الأصدقاء أوه عندي، فخشيت أن يأتي على لسان أحدهم وعرفت أن هذه ستكون الطامة الكبرى، فالجلادون لا يزعجهم شيء أكثر من ذكر السلاح. وصرت من خوفي أدعو الله أن يستر هذا الأمر، واكتشفت أن لله عز وجل اسما لم أكن أدعوه به، فصرت أسبح طوال الليل «يا ستار.. يا ستار .. استر هذا الأمر حتى لا ينكشف» عرفت الآن أن لكل اسم من أسمائه الحسنى وقتًا نحتاج أن نناديه به سأظل أدعو الستار حتى تنجلي هذه الغمة.. يا ستار يا أرحم الراحمين ارحمنا واستر عوراتنا.. ضاعت كل الأفكار التي كانت تعكر صفائي، ذهبت الأوهام والشكوك، عرفت ألا ملجأ من الله إلا إليه، فارتميت على أعتابه، يا أرحم الراحمين ارحمنا. قرعات السياط والعصي على الضحايا عذاب فوق عذابي. أصبحت ساعات التحقيق طويلة ومضنية حين أعود إلى العنبر أرتمي أرضًا، وأغرق في سبات عميق، ولكنني بعد قليل أستيقظ على صرخات العذاب.. لم يعد يفزعني ذلك، فقد اعتدت عليه ،ويبدو أن الإنسان يمكن أن يعتاد على أي شيء، حتى الألم.. لا يخفف عني إلا لقاء بعض الأصحاب نتواصى بكتمان بعض الأمور حتى لا يطول أمد التحقيق.. نتبادل الابتسامة الحزينة، نشد على أيدي بعضنا في حرارة.. الحب يجمعنا والكرة يفرقهم... حبيبتي مريم. .. هل تصدقين أن كل ما أنا فيه يؤكد صدق أحلامي؟ إن ما يحدث لنا ليس عبثًا إنه إذا شاء الله ونجانا مما نحن فيه، وأعتقد أن هذا سيحدث فأي تجربة عظيمة تكون قد ممرنا بها.. وحتى نلتقي أسألك الدعاء والأمل...

ع. م

5 سبتمبر سنة (1965)م.

الرسالة الثامنة عشرة

حبيبتي مريم:

أشكو إلى الله حالي.. كنت أسعى أن يكون لي سلطان على الناس حتى أعلمهم ما أعلم.. ولكن هأنذا في بحر الضياع، في قمة الضعف ،أتلقى الضربات وأعجز عن الكلام، أعجز عن أن أفحمهم بحجتي، أنا في موقع الدفاع، أبرر لهم أفعالي، أعتذر عن تصرفات بريئة يرونها خطيئة، أعتذر لهم عن حياة شريفة عشتها بين الناس، أحاول أرضاء الكلاب.. صديقي يحيي كان يحلم بالسيادة يحلم بأن يكون سيدا مهابًا بين الناس، رأيت أحد الجلادين يلطمه على خده وهو ساكن مستسلم أي مهانة نحن فيها الآن؟ كنت أحلم أن تكون لكلماتي سلطان على قلوب الناس، وهأنذا تكاد الكلمات لا تخرج من فمي من كثرة العذاب.

أجد بعض العزاء بين رفاق العنبر، رأيت بعض شخصيات الإخوان التي كنت أسمع عنها، معي الأستاذ محمود عبده، شيخ هادئ الطباع، له ابتسامة سمحة، كنت قد قرأت عنه كأحد الضباط المتطوعين في حرب فلسطين ، والذين قاموا بأفعال شجاعة وجريئة قابلت في العنبر رفاقًا قضوا عشر سنوات كاملة في السجن من سنة (54إلى 64) ثم أفرج عنهم بعد انتهاء مدة السجن، ولكنهم مالبثوا أن اعتقلوا معنا ه الأيام وأنا أنظر إليهم في دهشة هل قضي هؤلاء حقًا عشر سنوات كاملة في السجون؟ كيف ذلك.؟ وهم يحملون على وجوههم علامات السكينة والبشر والرضا. لم يمض على اعتقالي إلا أيام، وأنا أكاد أختنق من هذا المكان. عرفت بعضهم قد دخل السجن وهو طالب في الثانوي أو الجامعة ومازال طالبًا حتى الآن نظرت إليهم بإكبار، كيف تحملوا كل هذه المأساة أي إيمان يعمر قلوبهم، حتى جعلهم في هذه الحالة من السكينة؟

عرفت قصة الشابين اللذين قابلتهما في وزارة الداخلية ليلة اعتقالي اسمهما: زكريا المشتولي ، وأحمد شعلان ، إنهما من بلدة قريبة من بلدتنا، مأساتهما أنهما كانا من الخطرين في نظر المباحث العامة فقد كانا من ضمن المسجونين الذين أكملوا عشر سنوات في السجن دون أن يكتبوا ورقة لتأييد الدجال وقد أطلق عليهم (عشرات كوامل) وكان هؤلاء ومازلوا يثيرون حقد رجال المباحث إذ كيف يرفض شخص أن يخرج من السجن وينال رضا السادة رجال الحكومة نظير ورقه تأييد يكتبها؟ وهكذا المرأة السقطة تحب أن ترى جميع النساء ساقطات، وتحقد على العفيفة منهن .. ولقد كان منطق «العشرات كوامل» طبيعيا ومنطقيا، فهم يقولون: لقد صدرت ضدنا أحكام السجن لمجرد أنا تبرعنا بقروش قليلة لأسر الإخوان المعتقلين وبعد أن وضعنا في السجون مع أراذل المجرمين، وضاع الكثير من أحلامنا، ابتدعت المباحث العامة طريقة جديدة لإذلالنا وتحطيم كرامتنا وروحنا المعنوية ولكي يفرقوا بين قلوبنا وترابطنا فقالوا من يكتب تأييدا للدجال ويتبرأ ويلعن الإخوان، سنخرجه من السجن، وقد صدق بعضنا وظل يكتب عدة سنوات، حتى رأت المباحث أن تفرج عن بعضهم ممن ثبت لها، أن رغبته في الحياة أصبحت أكبر من أي رغبة في التفكير فضلا عن المعارضة أو التمرد ولعل المباحث لو بدأت هي بالاعتذار علن الغلطة إن لم نقل الجريمة التي ارتكبتها بإلقائنا في السجن، وأبدت حسن النية، لكنا فكرنا في أن نلبى طلباتها ولكن المباحث كانت تريد إذلالنا لذلك فقد غاظهم تمامًا أننا رفضنا المبدأ من أساسه ولم نقبل أن نكتب أي صيغة من صيغ تأييد الدجال وصاحباي اللذان أحكي لك قصتهما هما من «العشرات كوامل» لذلك فبمجرد أن جاء ذكرهما على لسان فلاح يدعى «مصلح» اعترف على نفسه كذبًا أنه كان ينقل شوالين من السلاح من عند الشيخ «عبد الفتاح إسماعيل» وأنه أعطاهما لزكريا المشتولي وأحمد شعلان ، أما لماذا ذكر هذين الشخصين بالذات، فلأنه أراد أن ينجو من العذاب، وقد فهم أن التحقيق يدور حول الإخوان المسلمين وهو لا يعرف أحدا من الإخوان المسلمين في بلدته غير «زكريا وأحمد» فقد كانت البلدة كلها تتحدث عن خروجهما من السجن وقد ذهب كما ذهب الجميع للسلام عليهما فلما أوجعه الضرب، ولم يصدق الجلاد أن الشوالين كانا مملوءين بالأرز اضطر أن يقول: إن بهما أسلحة، وكان عليه بعد ذلك أن يكمل كذبته ليقول: أين ذهبت بهذه الأسلحة وقد كانت هذه فرصة للحاقدين لكي يأتوا «بزكريا وأحمد» ويظلوا يضربانهما حتى الموت، دون أن يحصلوا بالطبع على اعتراف بما لم يحدث ثم بعد ذلك وبعد ن استشهد الشهيدان، عدوا لمصلح فلا ينوه حتى اطمأن إليهم، فسرد لهم الحقيقة كاملة وأنا لا أصدق أن رجال المباحث بهذا الغباء، ولكنني أعتقد أنهم تعمدوا قتل الشهيدين للتخلص منهما، فإذا كان لابد أن يموت أحد من التعذيب حتى يفخروا بذلك أمام رؤسائهم، فليكن بعض «العشرات كوامل» الذين طالما حقدوا عليهم وتمنوا الخلاص منهم.

فإلى جنة الخلد أيها الشهيدان، فقد رأيتهما في الداخلية يحملان أحذيتهما في أيديهما وعلى وجوههم علامات القهر والخوف مما هما ذاهبان إليه، ثم رأيتهما عريانين وجسداهما متلونان بالخطوط الحمراء ثم الزرقاء والخضراء ثم السوداء، وسمعت صوتيهما يخفت تدريجيًا حتى ذهبا إلى بارئهما شهودًا على جريمة العصر التي يرتكبها الدجال ورفاقه شهدوا على كل المخازي التي تحدث على أرض مصر ، شهودا على أمة محمد الذين أصبحوا ألعن من بني إسرائيل يموت بينهم الصالحون، وتنتهك بينهم كل الحرمات، وهم يمجدون البغايا والأفاقين.. وهكذا كتب لهذين الشهيدين أن تكون نهاية قصتهما على هذا الكوكب، هي نفس النهاية لقصة «ياسر وسمية» نفس النهاية لقصص شهداء الأخدود وما أعظمها من نهاية فقد ارتفع شأنهما بين ملائكة السماء، وكتب لهما أن يكونا مع الشهداء عند مالك الملك، وأن يغادرا هذا الكوكب فازين.

حبيبتي مريم.. أكتب لك من السجن الانفرادي فقد نقلوني إلى زنزانة أعيش فيها وحيدًا مؤتنسا بصحبة ربي والدعاء له لابد أنهم وجدوا أن ذلك أصلح لعملهم ولسير التحقيق لعلهم خافوا من لقائي بالأصدقاء وبمن يجد اعتقالهم لعلهم لم يصلوا معي إلى ما كانوا يرجونه، ومازال عندهم أمل أن يصلوا إلى شيء.

..إنهم يقولون لي أحيانا كن يمن على: لا تشك نحن نعاملك برأفة، وأنا أعتقد أنهم محقون، فلو زادت قسوتهم في عابهم لي، لكنت من الهالكين فجسدي نحيل وعصيهم غليظة، ولكنهم لا يريدون موتي، فليست هناك أوامر بذلك، كما أنني لا أعتقد أنهم يحملون لي أي حقد شخصي، إنما هو حقد عام على من تجرءوا ورفعوا رؤوسهم والناس جميعًا راكعون للدجال.

لقد تبين لهم أننا أهل فكر، وهذا وإن كان ما لا يبحثون عنه الآن، ولكنه ضمن الجرائم التي يعاقبون عليها، فهذه إذن فرصة للتأديب وإنزال العقاب أجلس في زنزانتي وحيدًا أتذكر قول ابن تيمية: «سجني خلوة» وأتذكر قول المصطفى (صلى الله عليه وسلم): «من أراد صاحبًا فالله يكفيه» فأنا في ذكر ودعاء دائم متصل، أتضرع للخالق.. ما أشد جحود الإنسان لربه فعند الله الرزق الكثير وهو يقول لعباده: اطلبوا فلا نطلب وعنده الأمل والعزاء، ويقول لنا: ادعوني استجب لكم.. تذكرت قول المسيح: «اطلبوا تجدوا .. اقرعوا يفتح لكم.. » أنا الآن أطلب، وألح في الطب، ليتني عرفت هذا الطريق وسلكته من قبل، ولم أشغل بالي بما لا يجدي، ألم أكن أعرف أن مفاتيح القلوب بيد الرحمن؟ ليتني ألححت عليه في طلب حبك لي، لو أخلصت لله في الدعاء، لجئت إلى زحفًا فليس كثيرا على الله يجيب المضطر إذا دعاه.

في الصباح الباكر، عند الشروق يكون المعتقل هادئًا، حيث يهجع الجلادون نظرت من «شباك» صغير في الزنزانة يطل على ساحة خلفها سور المعتقل رأيت على الأرض صحيفة ملقاة، استطعت أن أقرأ عنوانها الرئيسي، كان «خطاب الرئيس في موسكو.. عفونا عنهم في المرة السابقة، ولن نعفو هذه المرة.. » هكذا إذن، فالمؤامرة كبيرة، والأمل في العودة إلى بيوتنا قريبًا لماذا يعلن الدجال ذلك في موسكو، لابد أنه يسدد جزءا من الحساب.. يا للوعة الأهل أي حال هم فيه الآن وهم يقرءون هذا الكلام طيفك يأتيني يا مريم.. هل هذا ما كنت تخافينه أن يحدث لي؟ هل عقلك الراجح قد أدرك أنني سألقي هذا المصير.؟ وما هو موقفك اليوم؟ هل تحزنين علي؟ هل تذهبين إلى أمي لتشدي أزرها ولتبكي معها؟ أتذكر أبيات مالك بن الريب وهو يموت وحيدًا فيرثي نفسه:

ألم أني بعت الضلالة بالهدى
وأصبحت في جيش ابن عفان غازيًا
تذكرت من يبكي علي فلم أجد سوى
السيف والرمح والرديني باكيًا
وأشقر محبوك يجر عنانه إلى الماء
لم يترك له الموت ساقيًا
ولكن بأطراف السمينة نسوة
عزيز عليهن العشية ما بيا
فمنهن أمي وابنتاها وخالتي
وباكية أخرى تثير البواكيا
خذاني فجراني ببردي إليكما
فقد كنت قبل اليوم صعب قياديا
وخطا بأطراف الأسنة مضجعي
وردا على عيني طرف ردائيا
وقوما إذا ما استل روحي فهيئا
لي الأكفان ثم ابكيا ليا

حبيبتي مريم.. لا يعرف الشوق إلا من يكابده .. ولا الصبابة إلا من يعانيها.

أتعرفين أن هذا ينطبق على كل شيء؟ فلا يمكن أن تكتمل المعرفة إلا بعد التجربة، فحينما أتذكر قول المسيح: «النفس الشبعانة تدوس العسل، والنفس الجوعانة كل مر حلو» .. أحس فعلاً بهذا المعنى، وأنا أحمل قطعة خبز أمامي، وأعلم أنه من أراد ما رأيت، ولكنني أظل أتأمله، وقد بدا لي وضوء النافذة ينعكس عليه، كأنه قطع من اللؤلؤ، وطعمه يبدو لكي كأحلى ما أكلت من فطائر، أقضم منه قضمات صغيرة جدا لكي يطول استمتاعي به، وأعجب كيف كانت شهيتي للطعام قليلة قبل اعتقالي وهذا نفس ما حدث لي عند دخولي الزنزانة، بعد ساعات طويلة قضيتها في التحقيق، لم يكن بالزنزانة أي شيء أفترشه، وكنت شديد الإعياء وجائع للنوم، أحسست بالزنزانة كأنها فراش فسيح لا يشاركني فيه أحد، فالعنبر الذي كانت به كان مملوءا بالمعتقلين ارتميت على الأرض وواعجبًا!! أحسسن أن بلاط الزنزانة لين كأنه فراش من ريش النعام، نمت لأول مرة نومًا عميقًا.. لم يوقظني إلا ركلة خفيفة من السجان، ليضع أمامي أرغفة الخبز، وقطعة صغيرة من جبن جاف، كأنه من الصخر وصرت أقرض الجبن قرضًا بمتعة عظيمة.. والشيء الجميل أنني أحسست في عيني السجان شفقة رغم لهجته الجافة، يالشعبنا المسكين، لا يخلو من خير.

من كلام الأصدقاء فهم المحققون أنني غني لعل هذا ما يلين قلوبهم أحيانًا، لي يقول أحدهم: أنت غني إذن فالناس جبلوا على احترام الغني واحتقار الفقير في عصرنا الأسود هذا ..وأنا أسكت ولا أجيب لم أقل لهم أنني أنفقت كل ما أملك أصبحوا يطلقون علينا تنظيم «مالك بن نبي» فهم لا يعلفون غير كلمة التنظيم، كل صداقات، كل تجمعات أو لقاءات يسمونها تنظيمًا.

كنا قد اجتمعنا على وليمة من ديك رومي وبط، أحضرها أحد الأصدقاء من بلدته، وصنع العشاء في بيت أحدهم، وجاء ذكر ذلك في أثناء التحقيق فضربنا ضربًا شديدًا لمعرفة السر وراء هذا اللقاء، لم يصدقوا أنه كان لقاءً للأكل والسمر، لم يقتنعوا إلا بعد أن ضربوا الجميع ضربًا مبرحًا.

الزنازين التي أشغل إحداها إمامها ممر طويل ينتهي بباب حديدي يغلق بمزلاج، فحينما أسمع صوت المزلاج، أتأهب للتحقيق .. أحيانا يأخذوني، وأحيانا أخري يمر أماي وقع أقدام السجان، وتفتح زنزانة أخرى، أشفق على من بداخلها مما هو ذاهب إليه، أعتقد أن من في الزنازين المجاورة تخامرهم نفس عواطفي، فالمحنة تجمعنا أتساءل هل كان سجن الباستيل هكذا؟ هل يأتي يوم ويستيقظ الشعب ليحطم هذا الشجون والمعتقلات؟

ولكن متى يأتي هذا اليوم؟ عسى أن يكون قريبا.

مريم .. أيتها الحبيبة.. رغم كل ما أنا فيه، فالحلم ما زال يراودني، سأخرج من هذا المكان اللعين، وستشرق شمس الحضارة الجديدة، وستكونين لي، وسنشهد انتصار الحق وزهوق الباطل .. أعود للتسبيح، فربي هو ملك الكون، ونحن نعيش على كوكب صغير في ملكه العظيم، وما يحدث هو مشيئته التي أرضى بها، فكل ما يرضيه يرضيني، ولكن اللهم إن عافيتك هي أوسع لي، يا أرحم الراحمين، ذنبي إليك، كبير فاغفر لي.., «استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارًا» كأني لم أقرأها قبل اليوم، أليس هذا مفتاحًا للرزق؟ أستغفرك يا غفار.

ع. م

(15 سبتمبر سنة 1965) م

الرسالة التاسعة عشر

مريم أيتها الحبيبة:

طالما قسوت عليك، وأنت لا تستحقين مني إلا الحب والحنان والاحترام لن أعتذر عن سلوكي قبل الاعتقال، فهذا قدري، أن أحمل هموم بلدي على كتفي ولن ألومك أنت فأنت تملؤك عزيزة الأمومة، تبحثين عن الأمن والأمان، أنت تحملين كنز العفة والفضيلة، فلابد لك من أن تصوني ما تحملينه، ليس لمثلك أن يقتحم دروبًا مظلمة وهو يحمل هذا الكنز الثمين.. ولكنني أؤكد لك أيتها الحبية أنني سأبني لك المدينة التي أحلم بها وسيكون قصرك فيها عاليًا شامخًا، يحرسه آلاف الرجال، مستعدون لأن يريقوا دماءهم، ويقدموا أرواحهم لئلا تنالك أيدي الأشرار.

... مضي علي حوالي أسبوعين، الآن وأنا في السجن الانفرادي، اطلب التحقيق بين حين وآخر، كل مرة أجد أنهم قد جاءوا بصديق جديد.

يبدو أن الاعتقال مازال مستمرا وأن دائرته تتسع بعض من جاءوا بهم، لم أكن ألتقي بهم إلا نادرا لابد أن ذكرهم جاء مصادفة على لسان أحد الأصدقاء في أثناء التعذيب، لا أراهم لأنهم يأخذونني معصوب العينين ،ولكنني أعرفهم من أصواتهم، بعضهم في هلع شديد من هول ما يرى.. وفي كل مرة يكررون أسئلتهم السقيمة لي.

في إحدى المرات جاء إلي المحقق «أصفر الوجه» وفي لهجته نغمة انتصار شيطاني، كأنما عرف سرا أخفيه عنه وبعد أن علقت على الحديد وأخذت قسطًا من الضرب، أقبل يسألني: لماذا لم تذكر ما قاله فلان؟ .. كان صديقًا قد أخبرهم، أننا قد اتفقنا على لقاءات منتظمة واتفقنا على أن يحاول كل منا أن يجذب عددا آخر من المعارف والأصدقاء لتتسع دائرتنا.. حاولت أن أبرر له ذلك دون جدوى، استقر رأيه في النهاية على أن أكتب له ذلك تفصيليًا ليضاف إلى اعترافاتي السابقة، وجدت أن هذا الحل فيه إنقاذ لي، كتبت كل ما يريد.

كنا قد استقر رأينا في وقت ما قبل الاعتقال على عمل تنظيم سري فعلا.. وكان الغرض أن نجمع الشباب من عارفنا للدراسة، والتربية الدينية، وذلك لكي نحافظ على أنفسنا وعلى جيلنا من الضياع ولولا أنني كمنت بطبعي غير مقتنع بهذا العمل، كما سبق وأن قلت لك، لأن الظروف التي تمر بها مصر الآن لا تجدي فيها مثل هذه التنظيمات، فهي لا تحل المشكلة، ولا تصل بنا إلى ما نريد لولا أن هذا لأستمر التنظيم واتسعت دائرته ولأصبح عندهم مبرر لأن يفعلوا بنا ما يريدون .. ولكن الذي حدث أن هذا التنظيم لم يلبث أن أنفك عقده، وتراخت عزائمنا على المضي فيه..

ولكن يبدو لي الآن أن بعض الأصدقاء كالطيار الهارب، وعبد الفتاح إسماعيل قد مضوا في هذا الأمر دون علم منا ذلك إذا صدق ما يقولونه عنهما.

أصبحت الزنزانة عندي هي الصدر الحنون الذي يضمني أفرح عند دخولها، أشعر بالأمان والسجان يغلقها على أذكر أننا لم نكن نرى السجون إلا في أفلام السينما، وكنا نرى الضباط يتوعدون المجرمين بأن مصيرهم أن يدخلوا السجن، وأن يناموا على (البرش) ولم أكن أدرك أبدا ماذا يقصدون (بالبرش) رغم أنني سمعت الناس كثيرًا يستهزئون بهذا (البرش) وقد عرفته الآن، إنه عبارة عن قطعة تشبه السجادة الصغيرة ولكنها صنعت من حبال خشنة، وقد رأيتها في العنبر، وأتمنى الآن أن يعطوني واحدًا منها الآن، ليبعد عن جسدي رطوبة الأرض قليلا، فرطوبة المكان شديدة القسوة، ونحن الآن في النصف الثاني من سبتمبر ، والجو يصبح باردًا في أثناء الليل في الصباح أحس أن عظمي يوجعني، أظل أحرك جسمي كثيرا حتى يدفأ قليلا وتلين عظامي .. جاءوا إلي مرة بطبق صغير فيه عسل أسود، لم أكن أحبه من قبل، ولنني اليوم أتأمله، ما أجمله، خيوط صفراء ذهبية تتموج على سطحه طعمه لم أذق شيئًا في حلاوته أبدا، كيف غاب عني هذا العسل الأسود أيام حريتي أيكون طعامًا رخيصًا بكل هذه الحلاوة قضيت وقتا ممتعًا وأنا أنعم بتذوقه لن أغفل عن هذا الطعام الطيب بعد خروجي من هنا.

مريم أيتها الحبيبة أفكر فيك الآن كثيرًا أتساءل هل أخطأت في حقك يا مريم؟ هل كنت ظالمًا لك وأنا أطلب منك أن تتشبهي بالصديقات؟ أكنت أطلب منك المستحيل؟ أكان ما في عقلي من أوهام هو سبب ابتعادك عني.؟ .. ولكن صدقيني يا مريم إن ذلك الحلم يغلبني ليس في طاقتي أن أدفعه.. أنا أحلم بميلاد حضارة جديدة، ولابد لمن ستولد على أيديهم هذه الحضارة أن يكونوا في مستوى القديسين والصديقين لا يمكن سوى لأناس من هذا الطراز أن يتبوءوا قيادة الحركة الإسلامية تلك القيادة التي عليها أن تقدم حلولا لكل مشاكل العالم الإسلامي، بل عليها أن تبشر بحلول لمشاكل البشرية كلها، أليس الداعون للإسلام ينصبون أنفسهم حكماء؟ عندهم الشفاء لأمراض الإنسانية المزمنة.؟ لا يدعون أنهم يحملون كلمات خالق الكون، وأنهم أصحاب أعظم رسالة، وخاتم الرسالات السماوية.؟ إنني موقن أنه لن ينجح في قيادة العالم الإسلامي اليوم إلا أناس من طراز أبي بكر، وعمر، وعلي .. صدقيني إن هذا لابد أن يحدث ألم تسمعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس بين أصحابه فقال لهم:

وا شوقاه إلى إخواني قالوا: نحن إخوانك يا رسول الله. قال: لا بل أنتم أصحابي وحينما سألوه ومن هم إخوانك يا رسول الله؟ قال لهم هم قوم يأتون بعدكم يؤمنون إيمانكم أجر الواحد منهم بسبعين صديقا فقال عمر: منهم يا رسول الله؟ فقال له الرسول:بل منك أنت يا عمر..

قد لا يكون هذا هو نص الحديث ولكن هذا معناه.. فإذا كان الرسول يعرف أنه سيأتي أناس على هذه الدرجة العالية، فلابد أن يكون هذا زمن مجيئهم، فهذا زمان ميلاد الحضارة الجديدة، والميلاد يحتاج إلى آباء من هذا الطراز.. فحينما أحلم بك صديقة يا مريم لم أكن مبالغًا، فنحن في أشد الحاجة لظهور الصديقين في هذا الزمان.. إنا أحلم بأن أكون من بناة الحضارة الجديدة، فليس كثيرًا على أن أحلم بأن تكون امرأتي مثالا للفضيلة في هذا العصر قد أكون جاوزت حدودي، وبالغت في الشطط، ولكن ماذا أفعل والحلم أكبر مني، لا أستطيع له دفعا؟ مني إن تكن حقا تكن أحسن المني.. وإلا فقد عشنا بها زمنا.

.. أتعرفين يا مريم أنني حينما كنت أقرأ في سيرة الصديقات: مريم وخديجة، وفاطمة، وامرأة فرعون كنت أحس بوهج من نور يملأ ناظري يمنع قلبي أن يتعلق بامرأة لا تكن على شاكلتهن . قلبي أصبح معلقًا بهن، بامرأة تكون على شاكلتهن... أنا لا أريد امرأة ذات منصب وجاه، ولا أريد امرأة ذات مكانة علمية، أو اجتماعية ولا أريد امرأة زعيمة أو قائدة.. أريد امرأة تكون صديقة لي تؤمن بي، أكون كل حياتها..لا أريد امرأة تكون صديقة لي، تؤمن بي أكون كل حياتها. لا أدري كيف أشرح لك، ولكنني سأضرب لك مثالا بعائشة أم المؤمنين، فقد كانت قديسة ترملت في أول شبابها وعاشت سنوات عمرها المديدة مترهبنة للعلم، والعبادة، عالمة يأتي إلى بابها العلماء يبحثون عن العلم والمعرفة، وكانت قوية، نراها تقود الجيوش ويقتل من حولها في المعارك عشرات الشباب والرجال، وهي لا ترجع عما تطالب به، ولقد كانت أحب نساء رسول الله إليه بعد موت خديجة وقد كان يدللها ويجد عندها الراحة والسلوى.. ولكن رغم كل هذا فإني لها أن تكون مثل الزهراء التي لم تكن تخرج من بيتها؟ ولم يرو عنها الرجال علمًا، ولم تظهر على مسرح الأحداث، وماتت في شبابها، ولم يرو عنها سوى حديث واحد.

فقد عاشت لبيتها أولادها وأبيها، ولكنها ظلت في قلوب الناس رمزا للطهر والفضيلة، تثير ذكراها في النفس أنبل العواطف.

هذا ما عشت أحلم به امرأة تكون لي رمزا للفضيلة والعفاف، ذات عقل راجح، تملأ بيتي نورًا وحنانًا، يرزقني الله منها أبناء قلي الهائم يحتضنها يسكن إليها تتفجر ينابيع الحياة فيه بقربها يحارب كل شياطين الأرض لحمايتها أضع لها عالما من الخير والحب، تعيش فيه، أبني لها مجتمعًا جديدا تنتمي إليه.. ما ذنبي وأنا أطلب العلياء والواقع يبعدني عما أطلب ألست أتبع نصيحة المعري وهو يقول:

أرى العنقاء تكبر أن تصادا
فعاند من تطبق له عنادًا
وما نهنهت عن طلب ولكن
هي الأيام لا تعطي قيادا

ولكن صدقيني يا مريم، أنا لا أطلب العلياء، ولطالما تمنيت حياة هادئة سعيدة، فأنا يمكنني أن ارضي بالقليل حتى تنتحي أيامي على هذا الكوكب ولكن الحلم أقوى مني وهأنذا اليوم وأنا على أرض الواقع أكتشف ضعف إمكانياتي وبعد أحلامي وأكتشف أنني حملتك مالا تطيقين، وشططت معك في أوهامي وأريد أن أعتذر لك وأن أقول: إنني أجتهد فأخطأت وأن قسوة الحياة هي التي جعلتني أهرب إلى أحلامي فقد عشت كثيرا من الكتب، بي نمن غيروا حركة التاريخ ومسارها، ظننت أنا نسير على موالهم ولكن هاهي ذي الحقيقة تتضح لي، لقد كنت مفرطًا في تفاؤلي عذرا فلم يكن إلا أحلام لم أخط خطوة واحدة في سبيل تحقيقها .. ولكن ماذا أصنع والحلم أقوى مني؟ لعل القدر يصنع منا شيئا لا نعلمه لا يمكن أن تكون كل أحلامي وكل ما لاقيته وما ألاقيه عبثًا إلى لا شيء، لابد أن هناك مصيرًا لا أعلمه يكون فيه تفسير لكل هذا.

مريم.. معذرة فكلما أردت أن أعيش الواقع عاودتني الأحلام.. أعترف أنني جنيت عليك، لم أحبك كما ينبغي، شغلني ما كنت فيه عنك، كانت تمر الأيام، والأسابيع أحيانا دون أن أتذكرك، كنت أغيب عنك طويلا فلا أزوركم، حتى يفيض بك فتأتين أنت لزيارتنا وفي عينيك عتاب صامت قلبي خانك فحاول أن يستبدل بك امرأة أخرى، مل أن يكافح من أجلك واستمع إلى حديث الأخريات فوجده أسهل وأمتع ولكن صدقيني إنه كان يضيق دائمًا فلا يجد عنك بديلا، لقد كان يحاول أن يبتعد عنك عندما يحس باليأس منك، ورغم ذلك فهو عندي ظالم، فقد كان عليه أن يكون أكثر إخلاصًا، وأن تكوني أول أهدافه التي يحرص على تحقيقها ولكن معذرة يا مريم فقد كان الحلم أهم عنده من الوصال... فلم تكن للحياة كلها قيمة عنده بغير الحلم.. .. فما الحياة إلا سنون تنقضي ولا يبقى من ذكرانا شيء ،إلا ما نتركه من أثر في الحياة، لقد فضل قلبي الأليم والعذاب في سبيل الحلم.. ألم يقل شوقي:

وتفردت بالألم العبقري
وأنبغ ما في الحياة الألم

فلتبق قصتنا يا مريم ترويها الأجيال فسيظل حبي لك تزيده الأيام والأحداث إشراقًا، فليكن حبا عذريًا إلى ما شاء الله ... سنظل أطفالا ندب على هذه الأرض نتعلم كل يوم شيئا جديدًا ونكشف كل ساعة عالما جديدا ونمر كل وقت بتجربة جديدة، نظن بعدها أننا لم نكن نعرف قبلها لا نعرف إلا أقل القليل، وأن ما نجهله كثير كثير.

مريم أيتها الحبيبة.. نحن شخوص تحركها الأقدار ولا نعرف ما ستأتي به الأيام كل ما أعرفه، الآن أن حبك ما يزال يملأ قلبي، وأني أبتهل إلى الله أن يكتب لنا الخير.

ع. م

أواخر سبتمبر سنة (1965)

الرسالة العشرون

حبيبتي الغالية.. مريم:

قد يلوموني لو عرفوا أنني ما زلت متعلقا بك، وأنني أكتب إليك.. ولكن ما ذنبي وقلبي لا يجد عالم النقاء الذي يبحث عنه إلا في ذكراك، يحن إليك كما يحن الغريب إلى دياره التي باعدت بينها وبينه الأيام والسنون، كأنما روحانا كانا رفيقين في عالم آخر قبل هذا العالم الذي نعيش فيه، لا راحة لقلبي إلا معك، يقيني أنك ستكونين لي، بل أنت لي الآن، يكفيني أن أشعر أنك لي، أن أعيش معك أحلامي وآمالي.

بعد انتهاء التحقيق معي في أحد المرات، أمروا الجلاد أن يذهب بي إلى إحدى العنابر، فرحت إذ وجدت صديقي «يحيي» بالعنبر، كنت قد بدأت أضيق بالوحدة، فقد مكثت بالزنزانة ما يقرب من ثلاثة أسابيع .. كنت في شوق لمعرفة أخبار الأصدقاء أنست بالحديث إلى رفاق العنبر وجدت عندهم كثيرا من الأخبار علمت أنه قد صدر قرار باعتقال كل من سبق اعتقاله في عهد الدجال وهذا يفسر سر ازدحام العنبر الذي كنت قد بدأت أضيق بالوحدة، فقد مكثت بالزنزانة ما يقرب من ثلاثة أسابيع كنت في شوق لمعرفة أخبار الأصدقاء أنست بالحديث إلى رفاق العنبر، وجدت عندهم كثيرا من الأخبار علمت أنه قد قدر قرار باعتقال كل من سبق اعتقاله في عهد الدجال وهذا يفسر سر ازدحام العنبر الذي أنا فيه، علمت أن عشرات المعتقلات قد ملئت بالمعتقلين فقد كان بعض زملاء العنبر في معتقلات أخرى وقد تم استدعاؤهم للتحقيق، فتحقيقات وزارة الداخلية تتم هنا فقط في أبي زعبل على يد جلادي المباحث العامة أما في السجن الحربي، فهناك مجزرة أخرى، حيث يتم التحقيق على يد المباحث الجنائية العسكرية التي تتبع المشير، سمعت العارفين بالأمور يستعيذون من شر السجن الحربي، كأن هناك أقسى مما نحن فيه.

تقابلت مع بعض الأصدقاء، حكي كل منا ما جري له، وما سئل عنه، وبماذا أجاب، وصرنا نتواصى بما ينبغي كتمانه لكي تتوافق إجاباتنا دائما فلا نطلب للتحقيق مرة ثانية. صديقي يحيي تطوع لحمل الطعام وتوزيعه على العنابر، فكان يأتي لنا بالأخبار جديدة كل يوم يحملها معتقل جديد عاين أحداثا جديدة قبل اعتقاله فلاعتقالات ما زالت مستمرة، كل من يأتي ذكره في أحد التحقيقات يأتون به فورًا، ... سمعنا أن الصحف جميعها لا شغل لها إلا أخبار هذه المؤامرة كما يسمونها، كثير من الأصدقاء كتبت عنهم الصحف، لابد أنكم تتابعون ذلك.. علمت أنهم قد ادعوا أننا كنا نقوم بتدريبات عسكرية، فملأني العجب وتساءلت: وكيف كنا نقوم بها؟ قالوا: إن الصحف كتبت أنكم تقومون بتدريبات على المصارعة واستخدام الخناجر يا لكذبهم.. !! سمعت كذلك أن الصحف قد أفاضت في الحديث عن صديقنا الطيار الهارب للسودان، وعن دوره في التخريب وقلب نظام الحكم .. ولست أدري لمن يكتبون هذا؟ وهل يمكن أن يكون الحمق قد بلغ بالناس أن يصدقوا أن مجموعة من الشباب لا يشغل أحدهم أي من منصب حساس في الدولة حتى لو بلغ عددهم بضع مئات، قادرون على قلب نظام الحكم؟ فالحكم ليس منزلا سيقومون بهدمه أو تخريبه، أنه نظام يشمل الجيش بمدافعه وطائراته ودباباته، ومئات الألوف من العسكر والضباط الذين يأتمرون بأمر قادتهم، إنه نظام يشمل الشرطة، وهي عشرات الآلاف تملأ قرى ومدن الدولة كلها وهي وحدها قادرة على أن تقف أمام عشرات التنظيمات مثل هذا التنظيم إنه نظام يشمل كل أجهزة الدولة الداخلية والخارجية، من دواوين حكومية وسفارات بالخارج، وصحف ومجلات ومصانع ومدارس كل هذا سيقلبه بضع مئات من الشباب ولو قالوا: إن هؤلاء الشباب إنما يجمعهم الرغبة في قتل الدجال لكان يمكن للعقلاء أن يصدقوا هذا فعملية الاغتيال يمكن أن يقوم بها أفراد، أما قلب نظام الحكم فهذه مؤامرة لا يمكن أن يقوم بها الآن، وفي غيرا كل التجمعات السياسية عن الساحة، إلا الجيش وهذا أيضا نستبعده، فهم لم يتركوا بالجيش رجالاً شرفاء.

قال لي أحد رفاق العنبر والذي اعتقل حديثًا: إنه قرأ في الصحف عن اعتقال بعض النساء لاشتراكهن في محاولة قلب نظام الحكم.. حاولت أن استنطقه أسماء من اعتقلن ولكنه يقول: إنه لا يذكر إلا زوجة الطيار الهارب والحاجة زينب الغزالي .. جافاني النوم، واستبد بي الضيق، وكاد ينفذ صبري لقد وطنت نفسي منذ بدأ الاعتقال على أن أترك العاصفة تمر وانحني لها حتى تهدأن ولكنني لا أقوى على تحمل فكرة اعتقال أحد من أهلي، فلو كان هذا قد حدث فماذا أفعل؟... هل ينفجر غضبي فأقتل من استطعت قبل أن يتمكنوا من قتلي لقد قرأت لتشرشل، أن بوسع أي فرد أن يأخذ شخصًا أخر معه وهو ذاهب إلى العالم الآخر وأنا بوسعي أن آخذ أكثر من واحد .. صوت عظيم يصرخ ي أعماقي بغضب شديد، ولكن يا رب عافيتك هي أوسع لي أستحلفك بجلالك ألا يحدث هذا أن تبعد هذا عني، فأنا لا أطيقه، أنا قادر على تحمل كل شيء إلا هذا.

آثار التعذيب تبدو على أجسامنا جميعًا ولكننا اعتدنا ما نحن فيه، تبلدت حواسنا قليلاً، قل انزعاجنا من أصوات المعذبين والمتألمين، تذكرت مرة ذهبت فيها إلى زيارة صديق تجري له عملية في إحدى المستشفيات، وجاءت الممرضة لتكشف عن الجرح، كان الجرح غائرا وقد بدا مفزعًا أحسست بيد الممرضة تعمل في قسوة، فهي تؤدي عملاً روتينًا تفعله عشرات المرات كل يوم، حنقت عليها كثيرًا، وأنا الآن ألتمس لها بعض الأعذار، فنحن هنا وبعد حوالي شهر واحد قد تعودنا على أصوات المتألمين، لم تعد تزعجنا كما كانت تفعل بنا من قبل... نضحك أحيانا على بعض التعليقات من الرفاق يبدو أن القلب لابد أن يروح عنه ساعة بعد ساعة، وإلا قتله الحزن.. أحمل ما في العنبر أننا نصلي جماعة وراء إمام يقرأ القرآن، فالقلوب عامرة، وصوت الإمام يأتي مليئًا بالحرارة، مثيرًا للأشجان...الصلاة في جماعة هنا هي نوع من التحدي الصامت لكل قوى الطغيان.. وإن عجز الدجال وجلاديه عن أن يمنعونا من هذه الصلاة لهو أبلغ دليل على أن أسس الإسلام عميقة ومتينة على أرض مصر ، لم يجرؤ أحدهم أن يحاول منعنا من الصلاة جماعة أو من تلاوة القرآن ويا للقرآن! ما أعظمه من كتاب حفظ هذه الحضارة الإسلامية من أن تندثر كما اندثرت حضارات كثيرة تذكرت قول المستعمر الإنجليزي: ما دام هذا الكتاب بينهم فسنعجز عن السيطرة عليهم كلمات القرآن تصدع قوية، تقول مالا يجرأ على قوله، تبكت الطغاة والظالمين وتنذرهم بالعذاب الشديد، وتعزي المستضعفين وتملأ قلوبهم بالأمل يرتفع صوت الإمام يومًا في قوة ﴿قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عاب الحريق إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير...﴾

ما أعظم ما استودع هذا الكتاب من آيات! كلمات حق ونور تتناقلها الأجيال عاشت بني الناس على مدى الأجيال والقرون، تتوعد الظالمين وتبشر المؤمنين، وتبث الرحمة وتدعو للفضيلة وتعلم الحكمة كنت أهبط أحيانا إلى قريتنا، حيث الأهل، وقدر أن الجهل على العقول وضاق أفق الحياة أمامهم فلم يفكروا إلا في مطعم أو ملبس أو شهوة قريبة لم يرفعوا رأسهم يوما ليدركوا اتساع الكون من حولهم، ولا رحابة الحياة، ولا تقدم الأمم، اللهم إلا قلة منهم، كتب الله لهم الهداية، وكنت أسمع صوت القرآن يأتي عبر مكبرات الصوت، من معزي قريب، فينتشر على القرية كلها، وأتأمل كلماته القوية، وأتساءل ألم يفكر هؤلاء الناس في هذه الكلمات لو فكروا فيها لقفزوا إلى مصاف الأمم المتقدمة عبر جيل واحد، فيكفي هذا الفلاح البسيط أن يفكر في خلق السموات والأرض ﴿إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب﴾ وأن يدرك عظمة الكون من حوله وأن تعلو همته لتطمح روحه إلى الخلود ما أعظم ما يمكن أن يفعله القرآن في قلوب الناس لو خالطها سينقلهم من عبادة العباد إلى عبادة الواحد القهار، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن الجهل إلى العلم ومن الظلام إلى النور ومن اليأس إلى أمال تتسع للخلود.. انطفأت جميع الأنوار إلا نور كلماتك يا الله، صدقت يا «مالك بن نبي» فلم يبق في هذا العالم محزن للنور يحرك روح الإنسان ويدفعه إلى حضارة جديدة ومجد جديد، إلا في كلمات هذا القرآن الكريم فالقرآن كتاب حينما تقرأ فيه، تحس أنه يختلف عما بأيدينا من التوراة والإنجيل فما فيهما ليس سوى قصص وحكم ومواعظ وتنبؤات يحكيها بعضهم عن أنبياء الله وتحس أنك تقرأ كلاما ترجم من لغة إلى لغة فتأتي أحيانا المعاني مبهمة.

أما القرآن فحين تقرؤه تحس أن الله عز وجل هو الذي يخاطبك هو الذي يتكلم، ولك لو تأملت هذا المعنى قليلا أن تنبهر من روعة ذلك فخالق الكون هو الذي يخاطبك.. أذكر مرة في لحظة انبهار لي بهذا المعنى أن سمعت قوله تعالى: ﴿القارعة، ماالقارعة، وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش، فأما من ثقلت موازينة فهو في عيشة راضية، وأما من خفت موازينة فأمه هاوية، وما أدراك ما هيه، نار حامية﴾ فأحسست كأنني أستمع إلى بلاغ عسكري خطير.

فليس عجيبا أن يكون القرآن هو معجزة محمد، ويكون محمد هو سيد الأنبياء وأعظمهم لأن معجزته هي أعظم المعجزات، معجزة باقية مع الناس لم يستطع أعداء الله أن ينالوا منه عبر أربعة عشر قرنًا، والإسلام ينتشر بين شعوب تركية، وهندية، وفارسية، وبربرية، وأفريقية، وأوربية، وصينية ومنغولية، وكلها تجدفي كلماته السلوى وما يشفي الصدور، وتطمئن له القلوب.

.. التحدي الصامت الآن الذي نقوم به، هو أن نقرأ القرآن ونرفع به أصواتنا ونتغنى به، فيبدو للعنبر دوي كدوي النحل .. لم يبق حافظا لهذه الأمة سوى قدسية القرآن في نفوس الناس بعض المعتقلين لم يكن يصلي قبل اعتقاله، بل إن بعضهم لم يكن يعرف كيف يتوضأ للصلاة، الجميع الآن يصلي فالرب يعرف الشدائد.

ما زال التعذيب مستمرا أصوات الجلادين عالية، نسمع صرخات ضحايا المحمصة تتعالى في ألم شديد أ‘جبت بشخص لم أره ولم أعرفه ولم أسمع له صوتا، كل ما سمعته هو صوت الجلاد الذي كان يعذبه يبدو أن هذا الجلاد هو أحد الضباط، كان الضابط يصرخ كامرأة بصوت مخنث: آه يابن ال...سأجعلك تصرخ يا.. تلكم يا..آه يا بن ال.. لابد أن أجعلك تتكلم.. وهكذا بدا لي كامرأة تولول، ولم أسمع جوابًا ولا صراخًا من الضحية كان صوت الجلاد هو الذي ينضح بالشقاء والحسرة كثعلب يعذب أسدًا.

بدأنا نسمع عن معتقلين يرحلون إلى السجن الحربي، لأنهم مطلوبون للتحقيقات التي تجري هناك، ولكننا لم نأخذ الأمر بجدية إلا حينما نودي على بعض الأسماء وكان من بينها أحد الأصدقاء فزادنا ذلك هما وأشفقنا عليه، لم نجد فرصة للاتصال به قبل رحيله دعونا الله أن يكون معه، وأن يساعده على تحمل ما هو مقبل عليه كنا نظن أن التحقيق قد انتهى بالنسبة لمجموعتنا، بعد أن عرفوا ألا صلة لنا بالتنظيم الذي يبحثون عن أفراده، ولكننا نتساءل الآن لماذا يذهب صديقنا للسجن الحربي؟ يشغلنا هذا الأمر فنحن نسمع عن السجن الحربي الكثير من الفظائع، فهل يمكن أن نذهب نحن كذلك إليه؟ أدعو الله أن يرحمنا فجسدي كله معطوب يؤلمه اللمس، فكيف يمكن أن يتحمل عذابا جديدًا وقد زاد همنا أن نوديت على أسماء جديدة، كان من بينها صديقي «يحيي» ليتم ترحيلها إلى السجن الحربي، وقد ودناه بقلوب حزينة في صمت مطبق، فليس هناك ما نوصيه به فقد تكلمنا كثيرا من قبل.. الرهبة والخوف من المجهول يبدوان على وجهه وينعكسان على وجوهنا، فإذا كان هذا هو حال التعذيب هنا، فكيف سيكون الحال في السجن الحربي، لقد أخبرنا أن ما يجري هناك هو أفظع بكثير مما لاقيناه فهناك كلاب مسعورة تسلط على أجساد المعذبين فتنهش لحومهم.. ولكن ماذا نفعل، ليكن قضاء الله، لا نملك لك يا يحيي إلا لادعاء فليكن الله معك، قلبي حزين عليه كثيرًا أما لهذا الليل من آخر؟ أيمكن أن يبدأ في كابوس جديد، وكنا نظن أن الأمر كاد ينتهي؟ اللهم أحفظنا من شر السجن الحربي وأعد لنا الرفاق قريبا آمنين.

.. منذ رحيل يحيي ويشغلني ما يمكن أن يحدث له ولنا، قلبي أصبح لا يطيق التفكير في هذا، سأتركها لله هو نعم المولى ونعم والنصير، سألقي عليه بخوفي وهمي وحزني ليفعل بنا ما يشاء ما دام المصير إليه، فليس هناك أقسى من الموت، وهو نهاية كل حي، حتى الجلادون سيموتون ويدفنون في التراب.. إن العاقل من يشغل نفسه بالمصير بعد الموت.. ليكن شغلي برضاك يارب الكون أنت الباقي وكل من عليها فان ﴿ يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه..﴾ ﴿.. وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا..﴾ فلا عزاء إلا بذكرك ولا أمن إلا بقربك منك وإليك نحن فارحمنا فأنت بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر يا الله يا أرحم الراحمين.

حبيبتي مريم: إن الضربة التي لا تقتلني تزيدني قوة، فلا يتطرق اليأس إلى قلبك، كلي يقين أن المستقبل لنا، وأنه بعد هذا الظلام الدامس، سيبزغ نور الفجر، قد تكون حياتنا كثيرة الآلام ولكن هذه ضريبة المجد، وستأتي أيام يسودنا الأمن والسلام والحب، أيام يرتفع فيها نجمنا ويسقط نجم الدجال وأتباعه سيستيقظ الشعب يوما ليعرف من يعمل له ويجهد نفسه من أجله، ومن يبطش به ويسخره لأهوائه ثقي يا مريم النور أن الله لا يضيع أجر المحسنين دعواتي لك، وأرجو أن تكثري من زيارة أهلي، فلعل الشدائد تجمع بين قلوبكم، وتلهمكم العزاء .

ع. م

15 أكتوبر (1965) م

الرسالة الحادية والعشرون

مريم ... يا رفيقتي الطاهرة

أكتب إليك من السجن الحربي، من جحيم الحكومة الذي يرهبون به الشعب فطالما سمعنا عنه الأساطير وطالما رأينا فرائص الناس من ذكره ترتعد .. لقد جعلوه مذبحا للشرف ومقبرة للشرفاء لمن أطلقوا عليهم أعداء الثورة.

نودي على وعلى بعض الأصدقاء ليتم ترحيلنا إلى لسجن الحربي، وأمام غرفة قائد معتقل أبي زعبل والتي تجاور باب المعتقل، أوقفونا بعد أن سلمونا متعلقاتنا، وجاء إلينا قائد المعتقل وأمرنا بأن ننزع العصب من على أعيننا لنراه، وقد بدا لي وديعا شفيفا وهو يعتذر عما تعرضنا لهن وشكى لنا ما يعانيه من أمراض وأصر أن ندخل مكتبه لنرى كمية الأدوية التي تملأ درج مكتبه، وكان وهو يتكلم معنا يبدو قلقا خائفا هو يقول: أرجو أن تكونوا قد قلتم كل ما عندكم، لأنه عيب وعار علينا أن نكون قد فشلنا في معرفة الحقيقة منكم، أنتم ذاهبون للسجن الحربي وهناك سيعرفون كل شيء بالتأكيد فإذا كان هناك شيء لم تقولوه، أرجو أن أسمعه.. ولما صمتنا ولم نجبه، لم يفهم أن ذلك معناه أننا لم نخف شيئا، فتغير وجهه لتكسوه لمحة شريرة وقال: عموما أقول لكم ذلك لمصلحتكم، إياكم أن تقولوا هناك شيئا لم تقولوه هنا.. عرفت من أصدقائي ونحن في العربة المتجهة بنا إلى السجن الحربي، وقد أعادوا عصب أعيننا، أن قائد المعتقل الذي كان يتكلم معنا، هو جار لنا يسكن نفس الحي وأنه يعرفهم وهم يعرفونه جيدًا وقد ظلت قلوبنا تخفق تضرعا إلى الله أن ينجينا من الهول الآتي، وأن يخفف عنا سكرات السجن الحربي.. آه لو تذكرنا سكرات الموت وأهوال يوم القيامة فتضرعنا بهذه الحرارة وهذا الصدق!

توقفت السيارة ..أمرنا بالهبوط.. دخلنا من بوابة حديدية كبيرة ... جنود الجيش يملئون المكان، فقد انتشروا على أسوار السجن الطويلة الممتدة، وداخل فناء السجن الذي دخلنا إليه .. سمعنا صوتًا أمرًأ بأن نخلع العصب من على أعيننا ففعلنا.. رأيت صاحب الصوت أبيض ملون العينين يحمل رتبة صول بالجيش ويبدو أحمر الوجه كمن أفرط في السكر وقع الصول على ورقة بتسلمنا ثم أمرنا أن نقف صفًا واحدًا ثم سأل بعنف: م منكم أتى إلى هنا من قبل؟ فأجبنا جميعًا بالنفي.. فظل يحيل النظر بيننا يتفحص، ثم أقترب مني ورفع يده وصفعني صفعة قوية، لا أدري لماذا اختارني؟ لعل كنت أبدو شاردًا متأملاً.. بعد ذلك نادى على أحد العسكر وأمره أن يذهب بنا إلى السجن الكبير.. والعسكري بدوره يأمرنا أن نجري، وهو خلفنا يمسك سوطًا ينهال به علينا، وظل يأمرنا أن نغير اتجاهنا يسارًا ويمينًا حتى وصلنا إلى بوابة حديدية، تفتح على فناء محاط بثلاث طوابق من الزنازين، لا يوجد أي مدخل أو مخرج آخر لشاغلي هذا المكان إلا هذه البوابة.

عندما دخلنا السجن الكبير، بدأت حفلة الاستقبال وقد كنا سمعنا عن هذه الحفلة كثيرًا، فلابد لكل زائر للسجن الحربي من أن يستقبل بعلقة ساخنة، تنقله من عالمه الذي جاء منه إلى هذا الجحيم الذي سيعيش فيه، فقد أقبل جمع من العسكر كلهم شباب في سن التجنيد ولكن كيف تم انتقاء هذه الحثالة؟ نماذج وأشكال عجيبة من الشباب وبدأ الضرب والإهانة، سمعنا بذاءة شديدة، وتشق بكلمات جوفاء تخرج من أفواه جاهلة كل هذا والسياط تنهال علينا. وبعد دقائق وزعونا على الزنازين المنتشرة بالطابق الأرضي.. كانت حفلة الاستقبال أهون كثيرًا مما توقعنا، وهذه رحمة من الله، فيبدو أن العسكر كان هناك ما يشغلهم فقد لاحظت أن بعضهم يدخل أواني الطعام إلى السجن حينما دخلت الزنزانة وجدت بها شابين فألقيت عليهما التحية فوجدت منهما ترحيبا وعطفًا ودودًأ، فجلست بينهما كان أحدهما شاب جامعي من سوهاج به طيبة وجرأة، والآخر فلان من إحدى قرى الجيزة يبدو عليه الوعي والحنكة، وكان أثر السياط واضحًا على جسميهما، خاصة على قدمي الجامعي، الذي عرفت منه أن ابن عم له يعمل ضابطًا كبيرًا من ضباط السجن، وأنه قد جاء إليه في أثناء التحقيق ليبلغه سلام الأهل ويطمئن على أخباره، وبعد أن ذهب عنه، سمع العسكري يقولون بأنه قد أمر له بمائتي جلدة، وقد جلد فعلاً مائتي جلدة، حتى تسلخت قدماه، ورغم أ، التحقيق معه كان قد انتهى فقد أراد ابن العم أن يثبت للدجال وأعوانه أن ولاءه لهم أكبر من كل قيم الدنيا ومقدساتها.

جلست بينهم أستمع لأحوالهم وأحاول أن أتعرف على أحوال السجن الحربي، وما هي إلا ساعة وسمعت من ينادي على بعض الأسماء كان اسمي من بينها فقال رفيقي الجامعي: أليس هذا اسمك؟ قلت: بلى فهب واقفًا وصار يقرع على باب الزنزانة بقوة، ويصرخ زنزانة (47) .. عرفت أن هذا هو النظام المتبع وأن ما فعله رفيقي كان شفقة علي من أن أتعرض لعقاب الجلادين فتح الباب وأطل وجه شقي يصيح: الطع بابن ال.. خرجت.. فوجدت أربعة معي، وأمرنا بالجري وخرجنا من السجن الكبير إلى مكاتب التحقيق، ومكاتب التحقيق عبارة عن غرفة تعلو عن الأرض ببضع درجات خشبية، وتنتشر الغرف في فناء واسع بجوار بعضها وفي كل غرفة يجلس أحد الضباط المحققين وحوله ثلة من أعوانه، وأما الضحايا فيقبعون جالسين على أرض الفناء بجوار وأمام غرف التحقيق .

عند وصولنا إلى غرف التحقيق أمرنا بالجلوس فجلست على الأرض ووجهي للحائط كما أمرت، وكانت أصوات الصراخ من حولنا عظيمة مؤلمة، فأبطال الجيش المصري يقيمون مذبة للشعب، لقد تركوا ثغورك يا مصر التي ما تعلموا ولا قبضوا رواتب ولا تنعموا إلا على أمل أن يقفوا عندها لحمايتها، تركوا مواقعهم وجاءوا هنا ليسفكوا دماء أنباء عمومتهم الطاهرة، ليظهروا لنا جبروتًا كاذبًا يا حبذا لو أظهروا منه شيئا للأعداء.

ونودي على فقمت مضطربا، أكاد أزحف من رطوبة الأرض التي تسللت إلى عظامي ووقفت أمام المحقق وهو شاب عليه علامات الصحة والفتوة.. نظر إلي باستهانة وقال: أنت فلان؟ فأومأت بنعم.. ثم بدأ يسب المباحث العامة ويستهزئ بهم وقال: أولاد ال.. كانوا يعصبون أعينك يخافون أن تعرفوهم، أما نحن هنا فلا يهمنا شيء فالثورة قادرة على سحق أعدائها واستمر يستهزئ بالمباحث العامة: إنهم يضربونكم بالعصي لكي لا تترك أثرا على أجسادكم، يا لهم من جبناء نحن هنا نضرب بالسياط التي تترك آثارًا تبقى على أجسادكم طول العمر.. وبعد مقدمة الإرهاب هذه بدأ التحقيق وصرت أجيب على أسئلته وأحكي له ما سبق أن قلته في تحقيقات المباحث العامة.. ولما وجد أنه لم يحصل على شيء جديد، صاح ضجرًا مزمجرًا: أنا أعرف كل هذا اعترافاتك التي كتبتها عند أولاد ال.. أمامي.. أنا لا ينفع عندي هذا الكلام أريد أن أعرف كل شيء عن علاقتك بالتنظيم فأنا لا أخدع هل يمكن أن تكون على معرفة بعبد الفتاح إسماعيل وكثير من أعضاء التنظيم، ثم تقول: إنك لا تعرف شيئا عن التنظيم .. ثم صرخ: علقوه.

. .فهجم علي اثنان من أتباعه ومعهم قضيب من الحديد فطرحت أرضًا، ووضع قضيب الحديد تحت الركبتين وربطت يداي يمكن بها رفع القضيب فيرتفع كل الجسم وتكون رأسي إلى أسفل والقدمان إلى أعلى وهي نفس الطريقة التي شاهدتها في أبي زعبل...وبدأت السياط تنهال على قدمي، وتعالت صرخاتي من الألم الشديد، وبعد فترة أمرهم بإنزالي، فلم أستطع أن أقف ثانية على قدمي، فأمرهم بحملي للخارج، فألقوا بي على أرض الفناء أحسست دائما وأنا في ساعات التعذيب أن شيئا ما كان يمنع المحققين من أن تزداد قسوتهم علي طالما فكرت في سبب ذلك، لعل نظراتي لهم كانت تخلو من الخوف وكذلك من الكره، لعل في نظراتي شيئًا من البراءة، فقد كنت أتفحصهم أتأملهم كما يتفحصونني ويتأملونني ولم أكن أحقد عليهم، بل كنت أحيانا أرثي لهم، كنت أنظر إليهم كإخوة يرتكبون حماقة كبيرة.. أعلم أنهم أبناء عم، لا يختلفون عن كثير من النماذج التي نعرفها بين أهلينا، أكثر من معتقل قابلته عرفت منه أنه يمت بصلة قرابة لأحد هؤلاء.. ما هؤلاء إلا أبناء العائلة الفاسدون.

رهبة السجن الحربي تعود إلى نظامه الصارم، فإدارته موكلة إلى بعض الشباب من المجندين، الذين تم اختيارهم بعين فاحصة من أبناء الشوارع الساقطين، أطفال لم يعرفوا في حياتهم إلا الحرمان والخوف والجوع، وإدارة السجن تعاملهم كالكلاب فهي تبسط لهم في الطعام، ثم تبسط لهم في الإهانة والتخويف بأن من لا يثبت كفايته فسيفعل به مثل ما يفعل بالضحايا الذين يرونهم وذلك لكي يظل هؤلاء العسكر الصغار في حالة سعر دائم.

عدت إلى الزنزانة فقابلني صاحباي برقة شديدة تأسو كل الجراح، ما أجمل الرحمة يضعها الله في قلوب عبادة كانوا في لهفة لمعرفة أخباري، فحكيت لهم ما حدث.. طمأناني بأن الأمر سينتهي عند هذا الحد، فهذا ما حدث معهم، علقة ساخنة ثم بعدها أودعوا الزنزانة، ولم يطلبوا للتحقيق ثانية، فطمأنني كلامهم قليلاً.

ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فما هي إلا ساعات وكان الليل قد أرخى سدوله، وقد أخذتني غفوة، وإذا بالباب يفتح في قسوة، وصوت مذعور يصرخ: أين فلان؟ فقلت: نعم أنا هو، وكنت قد قمت فزعا من صوت الباب يفتح بهذا العنف.. وخرجت أعدوا حافيًا أمام العسكري وهو يلهبني بسوطه، حتى أوصلني للمكاتب هو الاسم الذي يطلقونه على مكان التحقيق وأمرت أن أجلس على الأرض بجوار غرفة التحقيق التي كنت بها منذ ساعات كان الظلام ورطوبة الأرض، والجوع والضعف والألم وصرخات المعذبين حولي وآلامهم، كان كل ذلك يجعلني أعيش في عالم يشبه الجحيم تمر بخاطري كل الصور القاتمة في تاريخ البشرية، التي طالما تخيلتها وأنا أقرأ عنها ولكن أني أن يكون قد قرأ كمن عاين تذكرت شهداء المسيحية وهم يقدمون أحياء طعامًا للحيوانات المفترسة وأصحاب الأخدود وهم يلقون بهم إلى النار، وبلال وعمار يعذبون في الرمضاء المحرقة والسجون والكهوف المظلمة التي مات فيها آلاف الأبرياء ومحاكم التفتيش في أوربا ... لطالما شهدت البشرية كثيرا من المآسي.

بعد ساعات من هذه الجلسة وكان وجهي إلى رسول عالٍ أظنه سور السجن الحربي نادى علي المحقق وجاء أحد أعوانه بسرعة ليأخذني إليه، وقد حاولت أن أقوم فلم أستطع أبدًا، لم أعد أحس بساقي كانت رطوبة الأرض قد تسربت إلى عظامي فأصبح ساقاي كأنهما مشلولان، وأخيرًا نجحت في أن أزحف ببطء والجلاد المذعور لا يرحمني من ضرب السياط، كأنما هذا واجب يؤديه واستمررت أزحف حتى وصلت إلى مكتب المحقق وكأنما أشفق علي فأمرهم بأن يأخذوني إلى الزنزانة.

ارتميت في الزنزانة وأنا أكاد أموت من الإعياء وما هي إلا ساعات وإذا بأصوات جلبة في الخارج وصوت زنازين تفتح، فانزعجت من ذلك، ولكن صاحبي اللذين كانوا قد استيقظا عن مجيئي طمأناني بأن هذا وقت الذهاب لدور المياه كان في الزنزانة وعائين أسودين من الكاوتش أحدهم يملأ بماء الشرب والآخر لقضاء الحاجة وقد حمل كل واحد من رفيقي وعاء بين يديه ووقفا استعدادًا لفتح الزنزانة وطلبا مني أن أستعد للخروج معهم ونصحاني ألا أطيل الوقت في دورة المياه وإلا تعرضت للإهانة.. كان كلامهما مملوءًا بالشفقة لم أعرف ساعتها أي إيثار هذا، حتى عرفت أنهما سيقومان بأصعب المهام عملية أخرجا لمعتقلين إلى دورة المياه هي من ضمن العذاب اليومي فبضع عساكر مذعورة مأمورة أن تخرج هذا العدد الكبير من المعتقلين من زنازينهم وتذهب بهم لدورة المياه ثم تعيدهم وتغلق عليهم وفي مدة لا تتعدى الساعة علما بأن عدد دورات المياه لا تتعدى بضع دورات فعلى من يريد أن يدخل دورة المياه أن يكون جاهزًا ليدخل ويسقط ما في جوفه ويخرج في بضع لحظات وإلا تعرض للضرب والإهانة وحمل قسرا على أن يغادر المكان لذلك لم أجرؤ أن أدخل وكذلك كثيرون غيري، واكتفيت بأن أغسل وجهي وأتوضأ سريعًا أما صاحباي فقد دخلا وخرجا وأفرعا ما بالوعائين وغسلاهما ثم ملآهما بالماء فعلا كل هذا بسرعة فائقة وعدنا مسرعين للزنزانة.

جميع الأوعية تحمل رائحة الفضلات فهي قد استخدمت كلها في قضاء الحاجة وذلك لأنها كثيرا ما تختلط بعضها فقد شاهدت أحد العسكر يوقف مجموعة وهي عائدة بأوعيتها إلى الزنازين ثم أمرهم بوضع الأوعية على الأرض وصار يضربهم جميعا ثم أرمهم بحمل الأوعية وكانوا قد ابتعدوا عنها أثناء الضرب فعادوا مسرعين ليحمل كل منهم أقر وعاء إليه ليسرع به إلى الأمان، ولكن من يهتممن الآن برائحة الماء أو بطعمه كانت عظامي وجسدي كله يؤلمني وقد نصحني الإخوة بالنوم فالتحقيق لا يبدأ هنا قبل العاشرة صباحا ولكن طلبا مني أن أنتظر حتى يوزعوا الطعام حتى لا أستيقظ ثانية فتوزيع الطعام يبدأ مع شروق الشمس وبعد الانتهاء من دورة المياه مباشرة وفعلا ما هي إلا برهة وسمعت صوت زنازين تفتح ووجدت صاحبي يقفان وقد أمسك كل منهما بوعاء معدني صغير وفتح العسكري الزنزانة وسأل بغلظة: كم فأجاب بسرعة وأدب: ثلاثة يا أفندم فوضع بعض الطعام في كل وعاء وأغلق خلفه، ثم رأيت أرغفة خبر تلقى من عقب الباب بعد قليل والعجب أنني أكلت معهما بشهية فق كان الطعام بالنسبة لما كان عليه الحال في أبي زعبل يعتبر طعامًا جيدًا.

شعرت بالراحة قليلا وأسعدني حديث رفيقي، ووجدت فيه سلوى ثم راح رفيقاي في سبات عميق، وأنا يجافيني النوم لا أعلم ما تخبئه لي الأيام.

حبيبتي مريم.. على قدر همم الرجال تكون المحن، ووالله ما أنا بالضعيف فلطالما عرضت على الشياطين أن أكون لها سيدا ورئيسا ولكنني اخترت طريق الله، وكفى بالله وكيلا.

ع. م

19 أكتوبر سنة (1965)

الرسالة الثانية والعشرون

مريم .. أيتها الحبيبة

يا مهجة قلبي.. لن أرضى امرأة سواك أنت نسيج من الحلم، والواقع، أنت عشقي للفضيلة والتقوى لا يهفو قلبي لسواك، أتردد في الكتابة إليك لا أحب أن أحكي لك عن حالي، لا أحب أن أكشف لك عن ضعفي أخاف أن يزيدك ذلك حسرة علي، أخاف ألا تصدقي أن هذا الضعف يمكن أن يلد القوة، أخاف أن يعميك اليأس يضنيني أن أتصورك تطوين خطابي وأنت تندبين حظك العاثر.. فأنت لا تنظرين إلا بعين الواقع، والواقع شديد المرارة، وأبواق الدجال تملأ المكان من حولك بالكذب والضلال تمجد الباطل وتلعن الحق وأتباعه.

ولكن لابد أن أكتب إليك أن أكشف لك عن كل ما أعاني، فأنا أحب أن أكشف لك عن نفسي دائمًا، أريد أن تقبليني كما أنا، أن تعرفيني في ضعفي وقوتي في حزني وفرحي في سعادتي وشقائي أنا أبحث عن صديقة تؤمن بي، أجد عندها أذنا صاغية، وقلبًا مشفقًا ونظرة حانية، ودعوة صالحة هذا ما أحتاج إليه كطفل يبحث عن لمسة عطف، عن نظرة تشجيع عن بسمة أمل ..وأقسم لك يا حبيبتي وأنا أكذبك أبدا إن في قلبي نهرا دافقا سيأتي يوما ليغمر كل ما حوله بماء الحياة لا يمكن يا حبيبتي أن يكون كل ما أحس به وهما إن حلمي لا يمكن أن يكون من وساوس الشيطان رأيت مرة رسول الله يجلس في حجرة وأنا أقف على بابها وأمامي مدفع كبير أمسك به فاستيقظت منشرحًا وعلمت أن رسول الله قد أتى لزيارتي حقا فهو يقول (صلى الله عليه وسلم): «من رآني فقد رآني حقا» وعلمت أنني سأكون مدافعا عن شريعته.

قبل اعتقالي بأشهر كانت تعتريني حالات غريبة، فبينما أن بين اليقظة والنوم، ممدا على سريري أحسست بمن يضغط على صدري بقوة وشعرت بفزع كبير، وحاولت أن أصرخ فلم أستطيع وكادت روحي تذهب وبعد دقائق قضيتها في حشرجة كحشرجة الموت، عدت إلى صوابي وقفزت صورتك إلى خيالي تكرر هذا الأمر أكثر من مرة، وفي كل مرة كنت أفيق لأجد صورتك، وأجد أن الحلم يزداد رسوخًا في قلبي لم أقل ذلك لأحد من قبل، ولا أدري لماذا أقوله لك الآن؟ لعلي أخشى ألا أراك ثانية، لعل أريد أن تعرفي كل شيء عني قبل أن أذهب وأترك هذا العالم.

الجحيم من حولي مازال مستعرًا لابد أن عدد الشهداء هنا يفوق كثيرًا عدد شهداء القلعة وأبي زعبل فهم هنا يضربون بلا اكتراث.. كنت جالسا في انتظار التحقيق ووجهي للحائط وصوت الآلام يملأ الكون من حولي وفي غرفة التحقيق المجاورة لاحظت أن المحقق فيها شديد القسوة، حتى معاونوه جميعهم ضخام الأجسام وتبدو عليهم الشراسة، وبينما أنا أختلس النظر، رأيت شيخا على وجهه ملامح رعب لم أر مثلها في حياتي، ولا أعرف كيف أصفها لك كان يدور في حلقة يحيط به أربعة جلادين قد جاوزوا مرحلة الشباب فهم في حوالي الأربعينيات من العمر وقد بدت وجوههم قاسية عنيدة وكلما اقترب الشيخ من أحدهم ألهبه بسوطه والشيخ يدور مذعورًا في حلقة الرعب العذاب حتى سقط على الأرض فأقبلوا عليه بسياطهم حتى أجبروه أن يقف مفزوعا متألما على قدميه وساقوه إلى غرفة المحقق وما هي إلا لحظة حتى سمعت صوت كلاب لها فحيح كفحيح الأفعى فنظرت لأجد الشيخ يقف مذعورًا واثنان من العسكر يمسك كل منهما بسلسلة في طرفها كلب مسعور تبرز أسنانه في وحشية وهما يجذبان السلسلة بقوة والكلاب تمد أعناقها كأنما تحاول أن تتخلص مما يربطها لتنقض على فريستها ورأيت الشيخ يتراجع أمام الكلاب مذعورا حتى أسند ظهره على الحائط، والعسكر ترخي قبضتها قليلا فتستمر الكلاب في الاقتراب من شيخنا المذعور، ووجه الشيخ يزداد رعبا حتى وصلت الكلاب إلى ثيابه فمزقتها ويكاد الرجل يموت من الرعب ولولا أن العسكر يشدون الكلاب بقوة لمزقت لحمه ثم رأيت كلبا ينهش محاشمه فصرخ الرجل صرخة عظيمة ثم وقع مغشيا عليه فأزاحوا الكلاب عنه قلبي يمتلئ بالألم من أجله، أدعو الله أن يجنبني هذا العذاب فأنا لا أطيقه .. بعد ساعة وكنت قد ظننت أنت الشيخ قد مات، سمعت صوته ضعيفا وانيا يقول: أشرب.. أشرب .. أعطاه أحدهم شربة ماء .. ثم بعد فترة يكرر الشيخ طلب الماء فيسقيه أحدهم يمر أحد العسكر والذي يعمل ممرضا في مستشفى السجن فيقول: لو سقيتم ابن ال... مرة ثانية فسيموت، دعوه .. لا أعرف مصير هذا المسكين ولا أملك إلا أن أدعو له بالرحمة، وأن أبشره بالثواب الكبير عند الله، على ما لاقاه على هذا الكوكب من آلام.

سمعت العسكر يقولون عن المحقق الذي أنا عنده بإعجاب شديد: إنه بطل في الملاكمة ولابد أنه رأف اليوم بحالي فلم يعرضني إلى ضرب السياط، صار يضربني بقبضته كأنما يتمرن في حلقة ملاكمه كان يضرب لكماته على عضلات صدري وذراعي لم يضربني على وجهي كان هذا الضرب وفي مثل هذا المكان نوع من المداعبة تقبلته راضيًا ظل يضرب حتى وقعت على الأرض وأحسست بعضلاتي كلها قد تمزقت من شدة لكماته بدت عليه علامات الرضا والتعب كمن أدى تمرينا في الملاكمة في صالة ألعاب.. من مشاهدتي للتحقيق في الغرفة المجاورة، أعترف أن محققنا أقل قسوة يبدو لي أنه من أسرة طيبة ولكن أي ريح خبيثة ألقت به إلى هذا الطريق الملعون؟

استدعوني للتحقيق مرات كثيرة خفت الرهبة من السجن الحربي.. كتبت لهم نفس الاعترافات التي سبق أن كتبتها في أبي زعبل وفيت بوعدي لقائد معتقل أبي زعبل لم أذكر شيئا جديدا، لأنه لم يكن هناك فعلا ما يمكن أن أضيفه.

في آخر مرة ذهبت إلى التحقيق وكان ذلك أول أمس طلب المحقق من أحد الجلادين أن يذهب بي إلى سعادة الباشا، فالألقاب التي ألغتها الثورة لم تعد تستعمل إلا بين رجالها، أدركت أن الباشا لابد أن يكون عظيما من عظمائهم أدخلوني على شمس بدران وهو قائد المباحث الجنائية العسكرية التي تشرف على هذه المذبحة كان المكتب فسيحًا وقد جلس هو على مكتب كبير فاخر في نهاية الغرفة اقتربت ووقفت على بعد خطوات من مكتبه وكان مشغولا بأوراق أمامه يتفحصها ثم نظر إلي يتفحصني مليا وأنا أحاول ألا تقع عيناي على عينيه حتى لا يدرك ما يعتمل في صدري ظل يتأملني ولم ينطق بكلمة ثم نادى عليهم وأشار إليهم أن يأخذوني فعادوا بي لأجلس أرضا خارج غرفة التحقيق أدركت على الفرو أنه أراد رؤيتي بعد أن قرأ اعترافاتي لكي يحدد مدى خطورتي، وبالتالي يحدد الحكم الذي سيقع علي شعرت بأنني نجحت في هذه المقابلة فلم يكن منظري يوحي بأن خطورة نظراتي خالية من الحقد أو التحدي كانت نظارتي مستسلمة لما يحثد فهو قدري إلهي فالعاصفة لابد أن تمر فلننحن لها حتى تمر بسلام فأنا لم أفعل شيئًا لأقف وأدافع عنه.. جئت هنا على حين غفلة كأن ما يحدث لي كابوسا مزعجا ليست هذه معركتي، وليس هؤلاء أعدائي هم أبناء العم الحمقى الأشرار، وعلي أن أصبر على أذاهم.

وأنا جالس أمام غرفة التحقيق رأيت شيئا مذهلا فقد دخلت سيارة سوداء عليها الأعلام التي توضع على سيارات لواءات الجيش ورأيت السائق يهبط مسرعا ليفتح الباب فهبط لواء يلبس زيه الرسمي وقد علق نياشين على صدره وقد وقف منتصبا ورأيت الصول الذي قابلني أول يوم دخلت فيه إلى هذا المكان وقد علمت أنه ذو مكانة بين الجلادين رأيته يقترب من اللواء فظننت أنه سيقف أمامه ليؤدي له التحية العسكرية، ولكنني فوجئت به يقترب لنزع رتبته العسكرية التي يعلقها على كتفيه بقوة وقسوة ثم بعد أن تم له نزعهما رفع يده وهوى بلطمه شديدة على وجه سيادة اللواء، واللواء في ذهول وخوف ثم أمرهب أن يبتعه فسار اللواء خلفه ذليلا ورأيتهما يتجهان إلى مكتب «شمس بدران » ولا أدري ماذا يحدث له عند «شمس بدران » فقد كان مكتبه بعيدا عني ولكني بعد حوالي ساعة رأيت اللواء يعود حافيا وكانت السيارة التي جاء بها مازالت تقف مكانها فاتجه إليها وكان حضرة الصول يسير خلفه يحمل الكاب ورمي بهما إليه وانطلقت السيارة إلى خارج السجن الحربي ولا أدري هل ستعود به إلى منزله أو إلى عمله فما حدث له في هذه الفترة القصيرة من الاعتقال يبدو كقرصة في الأذن لكي يلزم الأدب، ولا يبدي وقاحة ما مع سادة البلد.

شغلني أمر اللواء عما أنا فيه قد أذهلني ما حدث له فرغم علمي أن بالمعتقل من هم أرفع مكانا من هذا اللواء وأعلى شأنا وقد فعل بهم الأفاعيل إلا أنني استكثرت أن يحدث هذا للواء ثم، يعاد بعدها مباشرة إلى عمله فأي جيش هذا الذي على قيادته مثل هذه اللواءات؟ هل يمكن أن يكون هذا اللواء بعد ما حدث له قائدا مخلصا لمعركة ناجحة.؟ هل يمكن أن يظل عنده ولاء.؟ ولمن؟ هل قصة هذا اللواء لن تعرف بين زملائه؟ لا أعتقد أنها ستظل سرا، فأعوان شمس بدران سيحلو له مأن يتندروا بما يفعلونه ليظهروا جبروتهم بل من مصلحة الدجال وأعوانه أن يمتلئ قلب رجال الجيش برهبتهم حتى يضمنوا ولاءهم ومثل هذا اللواء الذي سيبتلع هذه الإهانة كيف سيعامل من هم تحت قيادته لابد أنه سيسقيهم من كأس المهانة الذي تجرعه فهذا منطق الأشياء .. تذكرت عبارة قرأتها في قصة لنجيب محفوظ يقول فيها: «عبيد يسودون عبيدا وكلهم أذلاء».

طلبني المحقق وفاجأني بقوله: ماذا تريد من البيت؟ بهت فلم أنطق فلم أدرك لحظتها ماذا يريد مني بالضبط فقال: ألا تريد ملابس من البيت؟ فقلت: بلى فطلب عنوان البيت فأمليته له ومازال القلق يملأ صدري.. وفي المساء وصلتني ملابس من البيت وكم كانت سعادتي كبيرة، أولا لأن أمي لابد قد اطمأنت كثيرًا لهذا لأمر وثانيا لأنني كنت فعلا في أمس الحاجة إلى بعض الملابس فقد كنت أعاني من البرودة ومن اتساخ ملابسي وقد وصلني بعض الغيارات الداخلية وبيجاما من الصوف وكذلك روب جديد من الصوف مما جعلني أشك في أن الأهل قد فوجئوا بهذا الطلب فلعل الأمر قد تم بناء على توسط أحد المعارف أو الأقرباء المهم أنني حمدت الله كثيرا وأنا ألبس البيجاما والروب وأنام بهما اتقاء للبرد الذي لم تعد عظامي تقوى على تحمله.. وقد شعرت بامتنان للضباط المحقق .. فظهوري بهذه الملابس بين عساكر السجن الكبير الذي أنا فيه، جعلهم يدركون أن لي شأنا وأن الإدارة لابد راضية عني.

فأحسست بأن معاملتهم لي أرق نوعا من معاملتهم لرفيقي . .فقد لاحظت أحدهم وكان أشدهم شراسة يحلو له أن يتكلم معي، كان أسود اللون، له عينان كعيني القط، وقد عرف بكراهيته لكبار السن، فأكثر من مرة نراه يمسك بشيخ كبير ويظل يضربه بقسوة، كأنما ينتقم من شخص آذاه في صغره رأيته مرة ونحن عائدون من دورة المياه، قد أوقع شيخًا على الأرض وظل يركله بحذائه الغليظ، ولم يكتف بهذا، بل ضربه بجاروف على ظهره فكسر أضلعه.. فتح الزنزانة ووقف يتكلم معي، لا أعرف السر في ضعفه أمامي، يكلمني وعيونه منكسرة، يسألني ماذا أعمل فأوهمته أنني غني وصاحب جاه، وحاولت أن أكسبه فأقنعته أنه يصلح لأن يكون راقصًا ماهرًا في إحدى النوادي الليلية، وسوف يتقاضي عشرة جنيهات كل يوم، وأنني قادر بعد خروجي أن ألحقه بإحدى هذه النوادي وقد صدق تماما ما أقول .. أصبح مستأنسًا تمامًا يغدق علينا بالطعام.. رفيقي الفلاح فيه شهامة كبيرة فهو يأخذ المجاورة. صرت أوصي قطنا الأسود بك أصدقائي خيرا وكان ينفذ كل وصاياي إلا مع صديق واحد، لم يستطع أن يقبله، لم يكن يعجبه قال لي وأنا أوصيه به: لا باستياء كمن يقول، لا يمكن أن يكون هذا صديقك.. ولما رأي هذا الصديق علاقتي بالقط الأسود ظن جاهلا أنه أصبح صديقًا له كذلك فتجرأ ليطلب منه أثناء توزيع الطعام أن يزيد من حصتهم قليلا، فألقى القط بالوعاء وبه طعام ساخن في وجهه ثم جذبه خارج الزنزانة وظل يضربه بقسوة وكنت أشاهده من ثقب الباب، فلما وصل إلينا وفتح الزنزانة رأيته مقطب الجبين فرأيت من الحكمة أن أتجاهل ما حدث تمامًا، كأنني لا أعرف ما فعله، وابتسمت له وأخذت منه الطعام شاكراً ولم يعلق ولكنه أسرع بقفل الباب وراءه على غير عادته.

أتمنى أن انتهي هذه التحقيقات فليحكموا علينا بالسجن كما يشاءون، ما أفظع صوت الجلاد ينادي على الضحايا المطلوبين للتحقيق يظل الجميع داخل الزنازين في تربص حرين أن تنادي أسماؤهم ما أبشع هذا رحماك ربي، متى تنتهي هذه المهزلة؟

مريم أيتها الحبيبة: يضنيني أن أفكر في حالك وحال أمي وأخواتي، ما أنا فيه أنا قادر على احتماله فكل صعب يزول، ولكن ماذا سببت لكم من آلام؟ وأي بلاء جررته عليكم؟ ولكن هذه مشيئة الله (.. آمن تخلص أنت وأهل بيتك..) أتذكر كلمة المسيح هذه، فأرجو أن يكون ما أنا فيه خلاص لي ولكم.. قلبي معكم ويدعو لكم، والله يحفظكم.

ع. م

أواخر أكتوبر سنة (1965) م

الرسالة الثالثة والعشرون

حبيبتي مريم:

هل أكلك مالا تطيقين وأنا أطلب منك أن تتخذي من الصديقات مثلا أعلى؟ ألا ترين إليهن اليوم يعشن في ظل ملك رحيم، فرحين مستبشرين في عالم الخلد الذي يحلم به الإنسان وهو على هذا الكوكب، قلوبهن صافية ونفوسهن راضية، مع ملائكة كرام وولدان مخلدين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين مع الذين كتبت لهم السعادة الأبدية فهنيئا لهم ما هم فيه.. أختار لك يا حبيبتي «مريم ابنة عمران» مثلا أعلى فهي قد عاشت في عصر كالذي تعيشين فيه وسط قوم قد دب في نفوسهم العفن، وفي قلوبهم الحقد، وفي عقولهم التجمد والجهل مريم ابنة عمران تبدو لي كزهرة تنبت وسط الأشواك، كقلعة حصينة وسط جحافل اللصوص والسوقة والهمج .أقول لك ها يا مريم لكي أدخل إلى قلبك بعض العزاء.. ولكن لا عليك فأنا أحبك أنت وكما تكونين أحبك أنت نصيبي وقدري وحبي وقلعني وسندي أنت جنتي على هذا الكوكب أنت رفيقتي هنا. وفي كل العوالم التي سنذهب إليها.

أحكي لك عما حولي. مجموعة من الشباب المجندين ومن حثالة البشر، هم المسئولون عنا في هذا السجن الكبير هم نماذج غريبة من الجهل والحقد والوضاعة والغباء.

عسكري قصير أسود كان يعمل ماسحا للأحذية، اشتهر بيننا باسم على الأسود، رايته وأنا أنظر من ثقب الباب الذي يطل على فناء السجن يقتاد فؤاد سراج الدين إلى المكاتب كان فؤاد سراج الدين يسير بجسده الفخم الممتلئ ويلبس روبا من الصوف بخطوات ثابتة، وخلفه علي الأسود يأمره أن يسرع ويضربه على ظهره بالسوط قائلا: أسرع يا بن ال... ولكن فؤاد لا يسرع كما يطلب منه، كأنما لم يعبأ بهذا الفأر فيشتد غيظ علي الأسود ويكثر من شتائمه، ثم رأيته يقفز خلف فؤاد ليلطمه على قفاه.. فؤاد سراج الدين الذي كان واحدا من أغنى رجال مصر وأعزها وكان وزيرا للداخلية، يفعل به العسكري كل هذا تذكرت قول الشاعر:

مالي أراك لحر وجهك مخلقًا
أخلقت يا دنيا وجوه رجال

لم يبد فؤاد أي غضب لما يفعل به، ولم يلتفت وإنما أسرع قليلا، فهل يجدي الغضب في وسط علام من القردة؟

الرجل الذي سبق أن حدثتك عنه الذي نهشته الكلاب وكنت أظنه قد مات، رأيته محمولا على نقالة وقد جبرت كلتا يديه وساقيه فدبا لي كمن وضع كل جسده في الجبس ما أشد قدرة الإنسان على التحمل!!

يبدو أن عاصفة التحقيق قد هدأت قليلاً فقد أصبحت الأسماء التي ينادي عليها للتحقيق أقل كثيرا وأنا لم أذهب للتحقيق منذ أكثر من أسبوع أعتقد أنهم عرفوا ما يبحثون عنه.. صرنا نتقابل أنا وأصدقائي في دورة المياه، مصادفة فنختلس بضع كلمات يسألني أحدهم: أن تعتقد أننا سنقدم للمحاكمة قلت: لا تكرر هذا السؤال من أكثر من صديق وكنت أخالفهم الرأي فقد كان أغلبهم يرى أننا لابد أن نقدم للمحاكمة .. وكنت أرى ومازلت أنهم لن يقدمونا.. لأن موقفنا في المحكمة لن يكون في صالحهم فنحن نعرف قادة التنظيم، وقد عارضنا فكرة اغتيال الدجال، وفكرة أي عمل فيه عنف، وقد قام قادة التنظيم بعملهم بعيدًا عنا، ولم يفاتحونا في هذا الأمر لما يعرفون من آرائنا . هذا بجانب أننا أصحاب فكر، وليس من المصلحة أن نترك نتحدث عن أفكارنا أمام القضاء فالنقطة الأساسية التي كانت ستمكنهم منا، هي قضية العنف وحيث تبين لهم وبشهادة الجميع أننا نعارض فكرة العنف، فسيكون من الغباء أن تعرض قضيتنا على الرأي العام.

حشرة البق اللعينة تملأ الزنازين.. خطوط منتظمة تسير أمامنا على الحائط: نقتل منها الكثير وتنفجر أسجاه عن دمائنا التي سرقتها ولكنها لا تنتهي مع مرور الأيام أصبحت أقل تذمرا وانزعاجا يحدث في أثناء الليل أن نسمع نداء من حضرة الصول في الفناء ليجمع العسكر ثم بعد أن يقدم لهم إهاناته البالغة يأمرهم أن يكنسوا الفناء الواسع بأيديهم، فتكاد كفوف أيديهم تتسلخ وهو وراءهم بالسوط، وأحينا يوقفهم عدة ساعات في برد الليل بلا حركة ودون راحة، حتى يكاد الواحد منهم يسقط إعياء كنت ألاحظ أن حظهم من النوم قليل فهم ينامون متأخرين ويستيقظون قبل الفجر ولا يسمح لهم بالنور نهارا لذلك كنت أحيانا وأنا ذاهب للتحقيق أجد أحدهم نائما كجثة هامدة، منزويا في ركن مختفيا عن أعين رؤسائه، كأنما يختلس هذه الساعة للنوم اختلاسًا.. يا لهم من تعساء حينما يأتي طعام المعتقلين، يهجمون على إناء اللحم فيأكلون حتى يصيبهم البشم، ولا يتركون خلفهم إلا البقايا يوزعونها على الزنازين.

إدارة السجن تعاملهم كما تعامل كلاب السجن فنحن نسمع طوال الليل مدرب الكلاب، يظل يضربها وهي تعوي عواء مخيفًا ويأتي نباحها أقرب إلى الألم المضني كأنما يثير فيها كل الغرائز الوحشية الكامنة لتكون جاهزة في الصباح لتبث الرعب في قلوب الضحايا.

رفيقاي في الزنزانة دائما على خلاف، يتناولان القضايا من طرفي نقيض، وأنا أصلح بينهما أحاول أن أقرب المسافة بينهما لذلك فهما متعلقان بي كثيرا يحتكمان إلى في كل أمر لا أشتد على أي منهما في أحكامي أعاملهما برفق، الجامعي قوي، طيب مندفع فيه صفاء شديد الحماس لما يعتقده، والفلاح أرجح عقلا وأكثر تجربة عبر الفلاح عن استهتاره بالجامعي في قوله له: في كم سنة أخذت البكالوريوس، أجابه: في أربع سنوات قال الفلاح مهونا من شأنه: لو كنت أتممت تعليمي لأخذته في سنتين أو ثلاث ضحكنا وأفهمناه أنه لابد من أربع سنوات كاملة.

لاحظت أن ثقافتهما ضحلة، ومعرفتهما بحقيقة الدين قليلة، ولكن إيمانهما عميق، تذكرت قول ابن الخطاب: اللهم إيمانا كإيمان العوام.. لم يكن أحدهما قد أدرك الإخوان المسلمين ولكن حبهما وحماسهما للإخوان كانا شديدين تعجبت كيف تنتقل الأفكار رغم الإرهاب كيف تأتي أجيال أكثر حماسا للفكرة من أصحابها؟

لاحظنا خيامًا نصبت خلف مكاتب التحقيق عرفنا أنها لنيابة أمن الدولة، إنها تحقق مع من سيشملهم قرار الاتهام كيف تأتي النيابة إلى وكر التحقيق مع الضحايا وتترك المعتدين أي رجال قضاء هؤلاء. لابد أنه قد تم اختيارهم بعناية ليرضوا بهذا الهوان.

عرفنا أن «سيد قطب » متهم في هذا التنظيم.. كنت قد تعرفت عليه من خلال كتبه قرأت له أول ما قرأت التصوير الفني في القرآن ومشاهد القيامة، فوجدت له حسا مرهفًا وإيمانا عميقًا، وفي كتابه: «في ظلال القرآن» رأيت روحا شفافة وراء الكلمات تخيلته شيخًا رقيقا تقيا لم أتصور أنه يمن أن يتهم بتدبير قلب نظام الحكم بالقوة، وقد لاحظت أن المحققين شديدو الاهتمام بكتاب له يسمى معالم على الطريق، وأذكر أنني قرأت هذا الكتاب، ولم أرى فيه جديدًا على ما كتبه المودودي من قبل، فالكل يطالب بالتغيير وبعودة الخلافة الإسلامية، وحكم الشريعة ولكن يبدو أن هذا الكتاب كان هو إنجيل الثورة عند المشتركين في التنظيم وهذا هو سر اهتمام المحققين به، فأنا لا أصدق أن مثل هؤلاء الضباط قد قرءوا هذا الكتاب وفهموا ما يرمي إليه.. مع هدوء الأحوال قليلا، يزداد قلقي، وتشوش أفكاري.. مادام الاعتقال قد شمل الجميع أفلم يكن من الأجدى أن أكون قد فعلت شيئا أستحق عليه شرف الاعتقال؟ ولكن ماذا عساي كنت أفعل؟ لا يمكن أن أشترك في عمل لا أقتنع بجدواه وأعود في لحظات من اليأس أقول: هل يمكن أن تكون نهايتي هنا؟ ماذا أفادني الفكر والبحث؟ بل ماذا قدمت أنا للناس؟

ولكن أعتقد أن النهاية لن تأتي قريبا لابد أن القدر يصنع منا شيئا.. لا يمكن أن يكون كل ما أفكر فيه وأحلم به أوهام لا يمكن أن تنتهي قصتي إلى أن الحياة عبث.

جافاني النوم، وملأني غيظا وقهرا شديدين، فقد شككت في أن بنات عم لي قد شملهن التحقيق، سمعت صوت نساء يصرخن من العذاب.. .

سمعت عسكري يقول: إنه ذاهب إلى زنازين النساء . .الشك يعذبني.. أكتم كمدا شديدًا حتى الموت. تراودني أفكار مجنونة بالانتقام تكاد أفكار الانتقام من السفلة الرعاع تذهب بصوابي .. أي قوة تلك التي أحتاج إليهم لأكظم غيظي يا رب جنبنا العثرات.

نضحك أحيانا في الزنزانة على أشياء تافهة نستغرق في الضحك، إنها رحمة الله التي تنقذنا من الجنون... نقرأ القرآن، يعلم كل منا الآخر ما يحفظه، نجد في ذلك سلوى.. صاروا يسمحون لنا بالخروج مرة كل ويوم جمعة لنغسل ثيابنا.. عملية غسل الثياب لابد أن تتم بسرعة فائقة، الجميع يتزاحم على الماء ضربات السياط تعلوهم بلا سبب ... جاء إلينا على الأسود بثباته لنغسلها بذلنا فيها كل طاقاتها ومواهبنا لتكون نظيفة.. جاء لينظر إليها فلم تعجبه رفع السوط وهوي به علينا وهو يقول: أهذا غسيل يا أولاد ال.. كتمت غضبا هائلا في الزنزانة ضحكنا كثيرا على ما حدث في أثناء غسل الملابس تبادلنا كثيرا من الأخبار.. الطيار الهارب لم يستطيعوا القبض عليه، والشيخ «عبد الفتاح» هو رئيس التنظيم، شابان صغيران كنا نراهما في مسجد نادي هيليوبوليس، كان مروان قد تعرف عليهما، كبرا وأصبحاً من شباب التنظيم.

هناك إشاعات أنه بعد انتهاء النيابة من عملها سيفرج عن باقي المعتقلين الذين لم يشملهم قرار الاتهام أحدهم رأى «حمزة البيسوني » الذي تروي عن وحشيته الأساطير التليفزيون جاء يصور بعض المتهمين قبل التصوير جاء الحلاق ليحلق لهم شعر رؤوسهم وشواربهم وترك شعر الذقن طويلا فمنذ اعتقالنا لم نتمكن من حلق ذقوننا بعد يومين جاء الحلاقون فعلوا بنا نفس الشيء كان منظر الأصدقاء غريبا، رأس صلعاء وذقن كثيفة وشارب محلوق كانت هذه هي المرة الأولى وربما الأخيرة التي أراهم فيها على هذا الحال.

يبدو أن إدارة السجن تريد أن تظهرنا بمظهر الإرهابيين العتاة.

.. دخل علينا برد الشتاء والليل شديد البرودة كل منا يحاول أن يؤثر أخاه بجزء من فراشه، نتقارب لنشعر بالدفء قليلا يزيد من برودة المكان قلة الطعام رغم أننا كنا أحسن حالا من غيرنا من الجيران ولكن نحن ثلاثة شباب وقد مضت علينا فترة طويلة لم نتناول وجبة دسمة تشبعنا بل قد حرمنا أياما من الطعام حتى هزلت أجسامنا فنحن الآن في نهم دائم للطعام.

أتأمل أي أسطورة صنعها «حسن البنا» !! سمعت أن سبب دخول «سيد قطب » الإخوان أنه كان في أمريكا سنة (1948 ) ورأى بعضهم يحتفل بمقتل حسن البنا، ولا أذكر هل كان الاحتفال مسيحيا أم يهوديا، المهم أنه تأثر كثيرًا، لأنهم في أمريكا سيدة العالم يرهبون هذا الرجل ويفرحون لموته. كان «حسن البنا» رجلا بسيطا فقيرا ولكنه صنع الأسطورة أصبح قوى الرجال تأثيرا على الأحداث في مصر ، جماعته صارت أقوى من كل الأحزاب، الاستعمار الإنجليزي يتدخل ويأمر الملك بقتله أمريكا تشترط على الدجال أن يقضي على الإخوان ليتم تثبيته في الحكم.. بعد عشر سنوات والشعب كله يسجد للدجال، ترتفع رأس الإخوان في تحد، أجيال جديدة تؤمن بالزعيم، تهب حياتها رخيصة للفكرة.. نسمع أن الإخوان تنتشر دعوتها في دول العالم الإسلامي وفي أوربا، تحارب في كل مكان وتحاصر زعماؤها مشتتون في أوربا .. تذكرت كلمات «مالك بن نبي» عن «حسن البنا» كان يرى أن هذا الرجل استطاع أن يبث الحياة في كلمات القرآن لتصل إلى قلوب الناس فتحركها إنه مثال لما يمكن أن يصنعه القرآن في تاريخ البشرية إنه يؤكد آراء «مالك بن نبي» عن دور القرآن في صنع الحضارة الجديدة.

مريم أيتها الحبيبة.. حبي لك يتملكني، لن تهدأ نفسي حتى تركن إليك، قرأت أن عمر بن عبد العزيز قال لي: نفس تواقة تاقت للإمارة فلما صرت أميرًان تاقت للخلافة فلما صرت خليفة تاقت للجنة وأنا نفسي تواقة الآن إليك، إلى أن تضمك في حماي. وبعد أن يكون لي ذلك ستتوق نفسي لأن تدخل التاريخ، فآمالي لا تنتهي ولكنك أنت بداية الحلم لابد أن تكوني رفيقتي لن أستطيع أن أسير وحيدًا على هذا الطريق هناك نقص ما يعتريني أنت تكملينه أنت تحررني من قيود تكبلني أنت حظي من الدنيا الذي لا يستطيع أن أزهد فيه.

... لو يكتب لي أن أخرج من هذا المكان اللعين، لنذرت نفسي لما أومن به، لسحت في البلاد أتكلم عما أومن به، أوقظ الناس، أعلمهم، فإذا ما اعتقلوني من جديد، أكون مرتاح الضمير مستعدا لملاقاة ربي سأصرخ فيهم حينذاك ولن أهادنهم سأتلقى الشهادة بفرح. أما أن أموت الآن كما يموت البعير فهذا ما أدعو الله أن يرحمني منه.

الحياة .. ما الحياة؟. أنا أزهد فيها لا قيمة لها أيام تنقضي ثم إلى التراب نعود.. السنون التي مضت تبدو لي كحلم لم ستغرف إلا لحظات ما بقي لن يكون سوى كالذي مضى ليست للحياة قيمة إلا إذا تعلقنا بالخلود، بالمعاني الخالدة، بالشرف، بالفضيلة بعالم الطهر، بكل ما هو مقدس فالروح هي الباقية لابد أن نبهج الروح، أن نبحث عن مسراتها الباقية الخالدة.. أتذكر قول المسيح: «إذا كان النور الذي فيك ظلاما فالظلام كم يكون فإذا كانت هذه النخبة هي أفضل ما في شعبنا، فشعبنا ما أسوأ حاله.. أنا لا أشكو من رفاق المحنة، ولكن أشكو ضعفنا وذلنا أليس الموت أشرف للجميع؟ لماذا نحرص على الحياة؟ وأي حياة هذه؟ ألم يكن الحرص على الحياة من الرذائل التي بكت الله عليها بني إسرائيل؟ أنحن الآن كبني إسرائيل؟ نأكل لحوم بعضنا ويسحقنا الذل والضعف والهوان، وقد سلط الله علينا من لا يخافه ولا يرحمنا؟

لن ترضى نفسي أبدا أن تستلم للواقع.. سأظل أعشق عالم الفضيلة أحلم به، أتشوق إليه، ولو ضاعت حياتي هباء ولو كانت أحلامي وهمًا. روحي ليست من هذا العالم حاولت أن أحملها على معايشة الواقع، فلم أستطع تظل شاردة، محلقة في آفاق عليا، كأنما تبحث عن عالمها المفقود .. تبحث عن السلام والأمن، عن الرحمة الأبدية. ألم يقل الرسول (صلى الله عليه وسلم) «الدنيا سجن المؤمن..» إذا أنا لست مخبولاً، روحي سجينة هذا الجسد الفاني، كل ما حولي من باطل يزعجها تشم رائحة العفن في كل مكان.

تذكرت قول الشاعر:

تفني البرايا ويفني الخلق كلهم
ليخرج الدهر تاريخاً من الرمم

هل يمكن أن تولد الفضيلة بيننا على ما نحن فيه؟ هل يأتي يوم تخرج فيه جموع الناس لكي تتطهر؟ هل يأتي يوم يكره الناس أفعالهم يندمون على ما اقترفت أيديهم؟ يبحثون عن رجل صالح يتوبون على يديه، ويعاهدونه على الإخلاص للفضيلة والعفاف والتقوى؟

أحلم بيوم يستيقظ فيه الناس فجرًا .. يصلون ويسبحون.. ينظفون بيوتهم وشوارعهم يبحثون عن عمل طيب يبدءون به عملهم الرجال الصالحون كثيرون ... المروءة تملأ صدور الرجال.. النساء التقيات الفاضلات يملأن البيوت نوراً.. الأطفال يستيقظون في فراشهم والسعادة تغمرهم بمولد يوم جديد، تلتقط آذانهم شدو الطيور، تبهجهم خيوط الشمس الذهبية وهي تتسلل إلى مخدعهم، تملأ صدورهم الآمال الحلوة، والنوايا الطيبة.

لسنا في حاجة على الخطة الخمسية تعلنها الحكومة ولا في حاجة إلى شد الأحزمة على البطون، ولا في حاجة أن نغرق همومنا في دخان الحشيش، ولا أن نتشدق بشعارات كاذبة لسنا في حاجة إلى أن نردد كلمات الحقد، ولا أن ننتظر للعالم في غضب ولا إلى أنفسنا بامتهان، ولا أن نقسو على بعضنا ولا أن يستحل كل منا مال أو عرض أخيه، لسنا في حاجة إلى كل هذا بحجة أن الدنيا تغيرت والحياة أصبحت معقدة وصعبة.. فالدنيا لا تتغير، إنما يتغير الرجال.

نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا

لا .. لا.. كل هذا من افتراء الدجالين نحن فقط في حاجة إلى الحب نعمر به قلوبنا إلى الإيمان يزيل من صدورنا الوحشة، يطمئننا بأننا بين يدي رب كريم رحيم، الدنيا والآخرة بين يديه... وهو عز وجل قادر على أن يملأ أيدينا بالخيرات، أن يجعلنا نخلد في النعيم، كل ما يريده منا أن نلجأ إليه، أن نعترف بربوبيته وأن يحب بعضنا بعضًا، ويشفق بعضنا على بعض.

«ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون».

..يمكن أن تحل جميع مشاكلنا لو توقفنا يوم عما نحن فيه. واتفقنا على يوم تعلن فيه وثيقة لحقوق المواطن سنبدأ هذا اليوم بالحديث عما أعده الله للصالحين والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، ثم نطلب من الجميع أن يتناسوا ما بينهم من عداوات وأن يتصافوا فيما بينهم من مشاكل، وأن يسامح كل منا أخاه وأن يغفر كل منا أخاه، وأن يغفر كل منا للآخرين ما ارتكبوه في حقه وأن نترك لخالق الكون في يوم الحساب أن يحكم بيننا بالحق وهو خير الحاكمين ثم بعد ذلك نعلن وثيقة نحدد فيها ضمانات لئلا يجوع أحد بيننا وأن لكل طفل الحق في المطعم والمأوى والملبس والتعليم وأن القضاء لا سلطة لأحد عليه، ونحن جميعا أمامه سواء وأن الوطن لنا جميعا فنحن متساوون في الحقوق والواجبات، وأن يكون أمرنا شورى بيننا لا يستبد به أحد ولا جماعة إلى غير ذلك مما نراه واجبا لحفظ حقوق الإنسان ليعيش حياة كريمة في وطنه وبين أهله ثم نقسم جميعا أمام الله، أن نصون ما تعهدنا به، وأن نرعاه ونحميه بأرواحنا ودمائنا ثم نبدأ صفحة جديدة لنصنع مجتمعا جديدا قد يبدو كلامي أحلامًا ولكن ألم أقل لك بأن الحلم سيتحقق؟ .. هذا ما أومن به.

بالأمس فتح علينا الزنزانة عسكري قمحي اللون، على وجهه علامة قحة وعصيان وتمرد، أخبرنا أنه يعمل بالسياسة، فلم نفهم ماذا يعني، وأدركنا بعد أن استفسرنا منه عن نشاطه السياسي أنه سائس لعربة يجرها حصان ويمتلكها خاله.. ظل يتحدث ليسلي نفسه.. كان يتكلم بكبرياء، كأننا نحن المسئولون عن كل شقائه وحرمانه نفسه تشتهي ما في أيدي الناس، هو حاقد على الجميع لابد أنه يحمل في ذاكرته قصص ذل ومهانة كثيرة ولكن ما ذنبنا نحن؟ حاولت أن أخفف عنه، وأن أتبسط معه.. شعر ببعض الراحة، ولكن هل يمكن أن يزيل حديثي كل هذا الإحساس بالمرارة؟ الطهارة لن تأتيه من الخارج لابد من فكرة يعمر بها قلبه، يجد فيها عزاء، تثير فيه نوازع النبل والخير . ولكن أني له وهو يزداد ولوغًا في الأوحال.

مريم أيتها الحبيبة: حلمي بك، هو حلمي بالفضيلة وسط الضياع أتمنى أن أنقذها، إني أبني لها بيتا تعيش فيه، تعطي للحياة ثمارًا، تكون منارة يهتدي بها الضالون، تصبح مثالا يقتدي به، ويحذى حذوه تصبح أنشودة يردها الجميع، لحنا عذبا يثير معاني الخير والحب والسعادة في النفوس.

أسمع الآن صوت الآذان.. مضت مدة طويلة لم أسمعه.. تأخذني روعة.. لابد أن أحد الحراس يفتح مذياعا .. الله أكبر. الله أكبر.. ما أجملها من كلمات تزيل الأحزان تردد في كل مكان رغم الطغيان، فتبث الأمل شعبنا شعب مسلم ولكنه زاغ عن الصواب كما زاع بنو إسرائيل من قبل أتذكر كلمات أشعياء: «.. فقال السيد لأن هذا الشعب قد اقترب إلى بفمه وأكرمني بشفتيه وأما قلبه فأبعده عني لذلك هأنذا أعود أصنع بهذا الشعب عجبا وعجيبا فتبيد حكمة حكمائه ويختفي فهم فهمائه..» ألم يكن حسن البنا هو بشهادة أعدائه رجلا صالحا يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويدعو للصالحات؟ ألم تكن جريمة قتله وحدها كافية لغضب الرب علينا؟ ها قد بادت حكمة الحكماء، واختفى فهم الفاهمين لم نعند نسمع إلا الشعارات الجوفاء التي تمجد الباطل وتحجب الحقيقة.

مريم أيها الحبيبة: هل سيأتي يوم نستريح من وعثاء السفر، ونذهب معا إلى دار الخلود حيث لا تعب ولا نصب ولا شقاء ضاقت نفسي بالحياة .. أحلم بعالم الخلود بعالم النور مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وأنت بداية حلمي وأنت نهايته.

ع. م

ديسمبر سنة (1965) م.

الرسالة الرابعة والعشرون

مريم أيتها الحبيبة:

من على كوكب الأرض تتعالى صرخاتي إلى كل العوالم المحيطة بنا.. إلى كل قوى الخير في هذا الكون أستحلفها أن تشفع لي. أن تبذل قصارى جهدها لتنقذني مما أنا فيه. لا أجد طعمًا للسعادة تتوالى الأيام والليالي رتيبة مملة.. أحس بكل لحظة فيها فتتضاعف الدقائق والساعات وتمتد كطريق بلا نهاية أعيش مسلوب الإرادة قلبي تملؤه المرارة تطوف به الأحزان.

انتهت التحقيقات وشعرت بالأمن قليلا.. كانت آخر مرة أذهب فيها للتحقيقات منذ حوالي عشرة أيام.. جاء بذلك على غير توقع، فقد كنا نظن أن التحقيقات قد انتهت وكنت قد أمنت نداء اسمي فقد مضي أسبوعان لم أغادر الزنزانة إلا على دورة المياه لذلك فقد أزعجني أن ينادي علي من جديد، والي أزعجني أكثر أن أسماء كثيرة أعرفها نودي عليها معي ذهبت للتحقيق بقلب قلق، وهناك عرفت أن هناك شكوى ضد أحد أقاربي بأني متعاطف مع الإخوان وأنه يقوم بخزن الأسلة في عبته.. أرادوا قبل القبض عليه أن يستوضحوا منا حقيقة صلته بنا.. لم أجد ما أدافع عنه به إلا أن أصفه بأنه حشاش لا يصلي، وليس له أي صلة بالإخوان ولما كان هذا الكلام فيه شيء من الحقيقة فقد تطابقت أقال الشهود كان الجميع حريصون أن يبعدوا عنه الشبهات فنحن نشفق عليه مما نحن فيه، وكان مثل هذا الوصف هو التزكية الكبيرة عند حكام عصرنا هذا الأسود.. رأيت اليوم مجموعة من أبناء العم لم أكن أعرف أنه قبض عليهم، ورأيت عما لي وهو شيخ كبير لم أكن أتصور أن تمتد إليه أيديهم.

ثم عرضنا على النيابة.. لم أكن أتوقع ذلك .. نفس أسئلة المحققين نحكي لهم ما سبق أن كتبناه.. ثم نوقع مرة ثانية على أقوالنا أمام النيابة .. فيتنهدون إحساسا بالراحة، كمن أدوا واجبهم، يا لهم من حمقى!! البعض يحسن الظن بهم، فيشكو إليهم ما لاقاه من تعذيب، ويبدأ في إنكار أقواله في التحقيق فإذا به يراهم قد كشروا عن أنيابهم، ونادوا على الجلادين حيث يأخذونه ليعاد التحقيق معه من جديد ومع بداية الضرب، يدرك صاحبنا أنه كان حسن النية فيصرخ معتذرا عما بدر منه، ويعد بحسن السلوك ويعود للنيابة ليؤكد كل ما قاله وكتبه.

.. ما كنت أراه، تحقق اليوم ،فوكيل النيابة يبشرني بأنني لن أقدم للمحكمة إذن فتقديمنا للنيابة هو عملية شكلية فحتى يكتمل الكذب لابد أن تستجوب النيابة أعدادا أكبر من تلك التي ستقدمها للمحكمة، والباقي تحفظ أوراقهم لعدم كفاية الأدلة.

انتهت النيابة من أعمالها بدأت طوابير التصفية الجسدية فقد أخرجونا ذات صباح من الزنازين واصطففنا صفوفا طويلة، وأمرنا أن نجري والسياط تلهب الظهور كان قد مضى علينا أشهر ونحن لا نتحرك فما أصعب أن نتحرك فجأة الذين يسقطون على الأرض إعياء كثيرون والسياط تلهب أجسامهم بعضهم استطاع أن يقوم ثانية ليعاود الجري، والبعض لم يستطع واستسلم لضرب السياط رغم قسوتها.

أدرك العسكر أن هناك بعض المرضى وكبار السن لن يستطيعوا الجري مهما ضربوا وحيث إن التحقيقات قد انتهت وليست هناك أوامر بقتل أعداد أخرى. فقد قسمونا إلى قسمين، القسم الأول يضم المرضى وكبار السن ويسمى طابور العجائز والقسم الثاني هو طابورنا الذي عليه أن يستمر في الجري من الصباح حتى المساء لا يتخلل ذلك إلا لحظات راحة قليلة.

زالت الصفرة من على الوجوه، لفحتنا الشمس نحفت أجسامنا بصورة فظيعة صديق لنا لم أكد أعرفه حين رأيته فقد كان سمينا واليوم صار يقاربني نحافة يقول: إنه لم يشبع يوما منذ اعتقاله وجوعه دائم ويؤلمه، لو رآه أهله اليوم فحتما لن يعرفوه من شدة ما يعاني من الجوع وارتكب حماقة كادت أن تعرضه لعذاب أليم فقد كنا نقف طابورا طويلا ليتسلم كل منا ثلاثة أرغفة هي طعام اليوم كله، وسمي هذا الطابور بطابور (الجراية) وبعد أن تسلم صاحبنا (جرايته) وسوس له الشيطان أن يخبئها في ملابسه ويقف مرة ثانية في وسط الطابور.. لابد أن آلام الجوع كانت عنده كبيرة وهائلة حتى دفعته إلى هذه المغامرة .. من حظه العاثر أن أكتشف أمره .. عرفنا أنه سيلقى العذاب الأليم... أمره الشاويش أن يذهب لينتظره عند المكتب جلسنا على الأرض لنأكل وعيوننا عليه فرأيناه يتكلم ويشير بيديه بحركات مسرحية للشاويش، فوجئنا بالشاويش يبتسم ويضربه بالسوط ضربة واحدة خفيفة كأنما يداعبه ثم صاحبنا يعد بلا عقاب .. فرحنا كثيرا وسألناه عما حدث فقال: أجهدت نفسي بالبحث في القواميس عن كلمات ألين بها قلب هذا الشاويش التافه حتى عطف على وضحك في غرور.. ضحكنا نحن أيضا على هذا الأمر فقلوبنا المحترقة تضحك الآن على أي شيء حتى لا يقتلها الحزن.

أصبحت ألتقي مع الأصدقاء أتبادل معهم الكلمات همسًا أثناء الجري.. القضية حددت معالمها عرفوا أفراد التنظيم، سيقدمونهم للمحاكمة، قد يفرجون عنا قريبًا الجري أصبح عادة، لم نعد نشعر بذاك التعب الشديد الذي كنا نعاني منه دخل من باب السجن شخص أبيض محمر الوجه، يبدو مخمورًا، وشعره منكوش يركب حصانا، يمسك بسيور طويلة تحيط بعنقي كلبين كبيرين.. تقدم بحصانه، لابد أن هذا الرجل مجنون، كأنه ذاهب إلى رحلة صيد.. مر أمامنا بحصانه كنا قد توقفنا عن الجري بأمر حضرة (الصول) عند دخوله يرمقنا بعيون مخمورة، بدأ بسبب الإخوان المسلمين وتمجيد الدجال ثم هدد بسحق أعداء الثورة، وأعلن أن على الجميع أن يظهروا الخضوع والولاء، وأننا يجب أن نحمد الله على أن الدجال قد تركنا نعيش، فما كان أسهل عليه أن يفنينا جميعا ويدفننا في الصحراء التي تحيط بالسجن الحربين فلن يجرؤ أن يفنينا جميعًا، ويدفننا في الصحراء التي تحيط بالسجن الحربي، فلن يجرؤ أحد على أن يسأل عنا، فحياتنا الآن منة من الدجال فعلينا أن نعرف فضله، وأن نكرس ما بقي من حياتنا للتسبيح بحمده.

.. عرفت هذا المجنون إنه «حمزة البسيوني » كانت الصدفة قد جمعنا قبل الاعتقال بعدة أشهر في معزي عند أحد أقاربي وهو ضابط كبير وصديق «لحمزة البسيوني » ويومها أشار إلى بعض الأقارب وقالوا: هل تعرف من هذا؟ إنه حمزة البسيوني الذي فعل بالإخوان الأفاعيل في السجن الحربي، صرت أتأمله، وجدته يشبه عاملي الفنادق الكبيرة، فهو يلبس بدلة بيضاء وقميص حريري أبيض، وينحني نصف إنحناءة وهو يسلم على بأدب شديد عند خروجه من دار العزاء، وقد كان في المعزة بعض من اعتقل من قبل عند هذا «البسيوني» فصرت أتعجب!! فلو كنت مكان أحدهم، للحق به وفعلت به الأفاعيل ولكنه شيع مشكورا والآن هأنذا أراه في لحظات جنونه، ولو قدر لي أن أخرج من هذا المكان، وألتقي به فلن يثير في نفسي إلا معاني الاشمئزاز والشفقة، وأعتقد أنني لن أدنس يدي بأن تمتد إلى كلب مثله.

بعد أن أنهى المجنون خطابه، أمر حضرة (الصول) بأن تستمر طوابير الجري، لكي يشاهدها هذا الخنيث.. والعسكر لسذاجتهم، أرادوا أن يظهروا الهمة والنشاط، وتصورا أن هذا القائد يريد أن يراهم يلازمون الطابور في جريه كما يحدث عادة في الجيش فرأيناهم يجرون بجانبنا، كل عسكري يجري بجوار مجموعة حوالي المئة شخص.. ولما كان العسكر قد أصبحوا كالفئران المكتظة من كثرة الأكل، فقد ثقلت أجسامهم أما نحن فقد أصبح الجري عادة نتقنها لذلك أسرعنا في الجري برشاقة أجسامنا النحيفة كأنما نصب في الجري كل غضبنا والعسكر أخذ بهم التعب مأخذه، وصاروا يستحلفونها بالله أن نبطئ ثم يسبوننا ونحن نستمع إليهم وظللنا نجري، والعسكر يتوعدوننا.. ولم ينقذهم إلا خروج ذلك المخنث من السجن فأمر بالتوقف عن الجري، ووقف العسكر يلهثون ويشتمون وحاولنا أن نتقي شرهم، فأفهمناهم أن ذلك كان لمصلحتهم حتى يرضى عن نشاطهم الرؤساء كانت هذه إحدى المفارقات التي عبرنا بها عن بشيء من التحدي وشعرنا بأن ذلك يسري عنا بعض الشيء، وأخذنا نتندر بهذا ونحن في الزنازين.

.. ذات يوم لمحت «عبد الفتاح إسماعيل» وأنا أجري في الطابور.. كان يقف بجوار إحدى الزنازين، كنت شديد الشوق للتحدث إليه غامرت بترك الطابور واقتحمت الزنزانة التي يقف بجوارها لمحني فدخل خلفي وأغلقنا الباب، سلمت عليه بحرارة، سألته: هل حقا ما يقولون عن التنظيم؟ قال: نعم قلت: هل كنتم تخططون لقتل الدجال؟ قال نعم قلت: كيف؟ قال بمجموعة انتحارية تهاجم موكبه وهو خارج من قصره قلت له: وبعد ماذا يحدث؟ قال: لا أعرف المهم أن نتخلص منه لم أعلق، وسألته بعد فترة: ألا ترى طعم الموت مرا يا «شيخ عبد الفتاح»؟ تغير وجهه كمن ذكر بكأس مرة سيشربها ولكنه أجاب مبتسما في سخرية: هذا أقل شيء نلقاه في سبيل الله فالدنيا، لا تساوي عند الله جناح بعوضة.. لم أدر ما الذي جعلني أسأله هذا السؤال كان العسكر يعاملونه باحترام وشفقه فالجميع يعرفون بأن هذا الرجل سيقتل وقد كان معهم شجاعًا ودمث الأخلاق .. هأنذا أرى وجه شهيد أمامي رجل يقبل على الموت بشجاعة .. ليحفظك الله يا «شيخ عبد الفتاح» طالما شغلتني فكرة الموت، وهانذا أرى رجلا ينتظر الموت، ويطمح في الخلود.. كانت هذه هي المرة الوحيدة التي رأيته فيها لابد أنه نقل إلى مكان آخر فقد بحثت عنه بعد ذلك ولم أجده..

رأيت في الطابور أعضاء التنظيم أغلبهم شباب صغير، وجوههم سمحة فيها صفاء كمن يعرف طريقه وهو راض عن نفسه يملؤهم الحماس، فلقد كانوا هم السبب المباشر لكل هذه الأحداث إنهم يؤدون دورهم في المسرحية التي تجري حولي ببراعة، يواجهون الطغيان بشجاعة وثبات أفكارهم صريحة وطريقهم واضح فالدجال عندهم لابد أن يموت لأنه يحكم بغير شريعة الله.. ليت لي مثل صفاء أفكارهم فقضيتهم بسيطة ومحددة، إنهم كسرية من الجيش كلفت بمهمة فعليهم أداؤها وهذا هو واجبهم، وهذه هي مهمتهم لا يشغلهم غير تنفيذها.. آه يا مصر .. ثلة من أبنائك تحسدك عليهم كل الأمهات، قاموا دفاعًا عن شرفك تركوا الحياة الناعمة وخاطروا بحياتهم ليخلصوك من الدجال الذي أوقعك في حبائله فلم يفتح فم فيك ليدافع عنهم، تركوا للوحوش الضارية تنهشهم أي عقاب يوقعه عليك الرب. عصابات المجرمين على أرضك سادة، ينحني لهم الناس خوفا وطمعا كم ألف وألف محام وقاض وأستاذ تخصصوا في دراسة معرفة حقوق الإنسان.. من يجرؤ أن يتكلم؟ .. لم يعد فيك يا مصر رجال شرفاء إلا المستضعفون ... الخطيئة أحاطت بالجميع.

مازلنا نجري من الصباح حتى المساء .. ضعف أجسامنا طابور المرضى والمصابين يزداد عدده كل يوم في الليل سمعنا دقًا شديدًا على باب إحدى الزنازين .. جاء العسكر تعالى صراخهم وسبابهم ثم رأيناهم يحملون شخصا في بطانية في الطابرو عرفنا أن أحدنا قد مات بالأمس، وارو جثة الشهيد في التراب كتبوا أمام اسمه في سجلاتهم كلمة (هارب) فهكذا يفعلون مع كل الشهداء الذين يدفنون أجسادهم في الصحراء دون أن يصلي عليهم أحد أو يشيع جثمانه أحد، إنهم مطمئنون تماما أن لن يحاسبهم أحد.. ولكنهم يسرقون تركة الأيتام، قد يأتي يوم ويكبر الأطفال يشتد عوده، يبحثون عن مال أبيهم، يعرفون من سرقه، هناك سيكون الحساب ومن يدري؟

تعرفت أثناء الجري في الطابور على شخصين أحدهما تاجر موبليا كبير بالقاهرة، والآخر ضابط بالجيش كانت آثار السياط واضحة على أقدامهما عرفت أنه لم يقبض عليهما في قضايا سياسية، فالأول كان يسكن عنده في عمارته التي على النيل بعض رجال الحكم، وحدث خلاف بينهما في المصعد، والثاني كان يقوم بعمليات استيراد سيارات شخصي يعمل في مكتب المشير واختلفا كذلك قذف بهما في السجن فهذه أفضل وأسهل وسيلة للتخلص منهما هنا لن يجرؤ أحد أن يتكلم ولا يجرؤ أحد أن يسأل عنهما.

.. جاءت إلى زيارة في السجن الحربي ما أعجب أن يحدث هذا في مثل هذا المكان لابد أن الأهل قد عانوا كثيرا لتتاح لهم هذه الفرصة، شاهدت أمي، تأملت كثيرا ما أعظم قلب الأم، إنها تبتسم في تشجيع وأنا أعلم ما بها.. ما أشد ما عرضتها للمتاعب ولكن هذا قدرنا حمدت الله كثيرا أن أحدًا منهم لم يعتقل استجاب الله لدعائي.. عانيت كثيرا بعد هذه الزيارة حركت أشجاني شوق وألم وغضب وحنق وقهر وثورة بركان في أعماق.. أقرأ ﴿والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين﴾ اللهم اجعلني منهم، لا تترك الغضب يعمي بصيرتي.. أمي تأتي على خوف ولوعة لتراني في حال يبكيها هل يرضي أحد الجلادين هذا لأمه مهما كان جاحدًا؟ أيظنون أن جرائمهم هذه لن يحاسبوا عليها؟

وحتى إن لم يحاسبوا عليها على هذا الكوكب أفلن يحاسبوا عليها في عالم آخر حيث النعيم الأبدي والعذاب الأبدي ... يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر.. ذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون.. يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق.. هذا فليذوقوه حميم وغساق.

ما أشبه حالنا هنا بيوم القيامة، ففي ذلك اليوم لن ينفع مال ولا بنون كل ما ينفع المرء عمله، وهنا يعيش كل معتقل على ما يملك من مواهب وشخصية.. أستاذ الجامعة قد يبدو صغيرا أمام عامل في مصنع، فالأستاذ له قلب ضعيف، والعامل يقوم على حمايته ويؤثره بالطعام ويتولى المخاطرة عنه بجلب الماء أو إلقاء الفضلات معرضا نفسه لضرب السياط، وهو يواجه العسكر ولا يهاب بطشهم لذلك يكبر في أعينهم.. أش ما يثير هؤلاء الصبية أن يروا الذل والخوف في عيون معتقل، من يروه كذلك لا يكفون عن إذاه .. تذكرت القاعدة الذهبية التي وضعها أبو بكر الصديق: «اطلب الموت توهب لك الحياة» وقول خالد: «ألا لا نامت أعين الجبناء» منذ فترة كنا قد رأينا مجموعة كبيرة من الفالحين أتوا بهم إلى السجن الحربي وقد أهانهم العسكر إهانات بالغة، فيجعلونهم يسيرون على أربعة ويركبون على ظهورهم ويكشفون عوراتهم ويفعلون بهم أفعالا مخزية عرفنا الآن أنهم أهل قرية كرداسة، وأنه قد تم اعتقال رجال القرية وكذلك بعض نسائها، وأن السبب في ذلك يرجع إلى أن ضابطا رفيعا أراد أن يعتقل امرأة مصونة من بين أهلها بحجة أنه سيحتفظ بها لحين اعتقال زوجها الهارب ولما كان أهل القرية يعرفون هذا الضابط من قبل ويحتقرونه فقد منعوه من اعتقالها وكان ذلك كافيا ليشعر رجال النظام الفاسد بالإهانة، فكيف يجرؤ الفالحون أن يعترضوا على السادة الجدد؟ فأحيطت القرية بقوات الجيش الباسل يخوض إحدى معاركه الوضيعة ضد الشعب الآمن.. وهكذا يظهر كذب الشعارات التي يرفعها الدجال وأتباعه للناس.

السجن الحربي هو مكان لتأديب الشعب كل من يتجرأ ويرفع رأسه تذكرت أنني قرأت عن الحجاج أنه مات في سجونه أكثر من مائة ألف رجل وامرأة من المعتقلين لا أدري لماذا زاد ألمي وأحسست باليأس هل هذا حال الدنيا دائما؟ منذ أكثر من ألف عام والأمور تسير على هذا الحال حاكم ظالم وشعب مقهور.. لعل الذي أفزعني أن الحجاج حكم طويلا ومات على فراشه، ولم ينجح أحد في قتله، كأن العناية الإلهية تحفظه لحكمة تراها أن يكون هذا حال الدجال؟ أيمتد به العمر حتى يأتيه الموت في شيخوخته ونحن هنا لا أمل لنا في أن تنفرج عنا الكربات؟ .. أشد ما يؤلمني أني تركت أمي وإخوتي الصغار يواجهون الحياة وحدهم.

مريم أيتها الحبيبة... أيمكن أن أظل هنا إلى ما شاء الله وتظلين بعيدة عني، معك كل الأحلام أحلامي عن التغيير أحلامي عن قهر الشر والظلام، أحلامي في النصر، وفي رفع راية الحق، في أن تسود الفضيلة ويعم الخير أكاد أقول: يا رب إن ذهبت أحلامي فلن تتحقق أحلام على أرضك يا مصر ، لن يشرق عليك نور، ستظلين في الظلام حقبة طويلة إلى أن يشاء الله.

ذهب أبطال التنظيم للمحاكمة أبدوا شجاعة كبيرة، ضربوا كثيرا بعد عودتهم سمعنا عن شجاعة بعضهم قال لهم في المحاكمة: إنه لن يتواني عن قتل الدجال لو حانت له أية فرصة لذلك، سخروا من قاضتهم، كشفوا عن آثار التعذيب على أجسادهم، يا لهم من فتية يعرفون طريقهم قد آمنوا بقضية عادلة، قلوبنا جميعا معهم لا نملك لهم إلا الدعاء.

.. مريم أيتها الحبيبة: تسري بيننا إشاعة قوية بأن كل الذين لم يقدموا للمحاكمة سيفرج عنهم قريبا وفور صدور الأحكام.. هل يمكن أن نعود للحياة قريبا؟ كيف يمكن للمرء أن يعيش بين الناس بعد هذه التجربة القاسية. وأي حياة هذه مادام الحال على ما هو عليه والدجال مازال متسلطا والظلام مازال دامسًا؟ أيمكن أن أخرج لأعيش جبانا بين الجبناء؟ أيمكن أن أخرج فأسأل عما حدث لي فلا أجرؤ أن أتكلم؟ لا أجرؤ أن أحكي عن الشهداء ولو حكيت فلن يجرؤ أحد أن يسمعني . لو حدث وخرجت فلابد أن أغادر مصر بأي طريقة وبأية وسيلة مهما كلفني ذلك لا يمكن أن أطيق العيش مستذلا مستضعفا وأي حياة هذه؟ ولكن أسلم أمري إلى الله فلو كنت أستحق الشهادة لكان مكاني الآن مع الأبرار والصديقين، فليقض الله أمرا كان مفعولا ولن أسبق الأحداث..

صدقيني: إن الحلم في أعماقي رغم أطياف اليأس .. وإنني لم أفقد إيماني أبدا بالنصر القريب.

ع. م

مارس (1966 ) م.

الرسالة الخامسة والعشرون

مريم أيتها الحبيبة:

لم أكتب منذ ستة أشهر فلا تظني بي الجفاء، فأنا لا يمن أن أسلو حبك، حبك في سويداء قلبي، حبك قد تمكن مني، لا أستطيع له دفعًا، خالط دمائي وعظمي وجسدي كله.. كل ما في الأمر أن الأحداث تلعب بي . كنت قد صدقت أنهم سيفرجون عنا، ولكنهم أعادوني إلى أبي زعبل إلى المباحث العامة لا أعتقد أن هناك إفراج قريب.. الذين أفرج عنهم حقا هم «عبد الفتاح إسماعيل» ورفاقه، أولئك الذين ذهبوا إلى ربهم مع الصديقين والشهداء، مع الأنبياء والصالحين.. ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما .. ولكن أجلي لم يحن بعد . .لم أفعل ما أستحق عليه الشهادة .. آمل أن أذهب إليهم يوما وأنا أحمل عملا طيبًا يشرفني فكل منهم قد ذهب يحمل مجدا .. يتملكني إحساس أن الله يعدنا لدور عظيم سنقوم به، فلن تذهب كل معاناتنا هباء.. .. حينما تركت السجن الحربي، تركت خلفي أفراد التنظيم... شباب مخلص تحسد مصر عليه الأمم، قد أختل معهم في التفكير، ولكنني لا ألومهم.. فأنا لو كان أمامي الدجال الآن ما قتلته.. لقد كان يمر من أمام بيتي مكشوف الصدر يبعد عني أمتارا قليلة ولم أفكر يوما في قتله فلو قتل لأصبح أمام هذه الشعوب الحمقاء شهيدًا، المشكلة الحقيقية في نظري أن الناس تصدقه تهفو له قلوبهم يدافعون عن جرائمه فإذا كان الشعب بهذا الظلال، لمن نقتل الدجال؟ سيأتي بعده من هو أضل سبيلا ولا يمكن أن نتنبأ بمصير البلد بعد موته..

أتذكر قصة قرأتها عن غلام مؤمن حاول الملك الكافر أن يقتله حتى لا ينشر دعوته بين الناس فلم يستطع فالملائكة كانت تحرسه من الموت.. فقال الغلام للملك: أتريد أن تقتلني؟ قال الملك: نعم قال الغلام: اجمع الناس وخذ سهما من قوس وقل: باسم الله رب هذا الغلام فينطلق السهم من قوسك ليقتلني.. فلما فعل ذلك الملك أمام الناس مات الغلام وآمن الناس برب الغلام.. وهي قصة ترمز إلى كيف تنتشر الدعوات، وكيف تكون التضحية في سبيلها معنى عظيمًا.

... وضعت في عنبر (5) .. معي بعض الأصدقاء ولكن الأغلبية لا أعرفها هم من بقايا جماعة الإخوان المسلمين أتذكر قوله عز وجل «فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض..» هم مجموعة طيبة يسعدني أن أكون بينهم، أنماط كثيرة تعطي فرصة كبيرة للتأمل أغلبهم قد تجاوز سن الشباب، عرفت منهم الكثير عن تاريخ الإخوان، من بينهم أحد الستة الذين أسسوا جماعة الإخوان مع «حسن البنا»... معي كذلك مجموعة من الإخوان الذين انشقوا عن الجماعة وعارضوا المرشد الجديد «حسن الهضيبي » هذه فرصة لمعرفة أفكارهم والحديث معهم كانت هذه الخلافات قديمة سنة (1953 م) أما الآن فقد زالت فالمحنة وحدت بينهم.

العنبر شديد الازدحام وأنا لم أخرج منه منذ دخلته من أشهر وبعضهم يمكث فيه منذ اعتقاله لم يغادره. الطعام حقير جدا وقليل.. أصابنا الملل من هذه الحياة الرتيبة بلا أمل.. أصابني ضيق شديد.. لم يفرج عني قليلا إلا أحد أصحاب الخبرة بالسجون فقد صنع لنا شطرنجا من لباب الخبز، حين لون أحد الجيشين باللون الأحمر الذي حصل عليه من دواء أعطى لمعالجة الجروح وترك الجيش الآخر على لونه..

صرت ألعب مع الرفاق ساعات طويلة، أنقذني ذلك من الجنون تذكرت فيلما شاهدته قبل اعتقالي بقليل، عن رجل ذي منصب ديني بكير ويبدأ الفيلم بالرجل يركب باخرة، ويلقي عليها صدفة ببطل العالم في الشطرنج، فيلاعبه ويهزمه أمام دهشة المتفرجين ويعود الفيلم للوراء ليحكي قصة هذه الشخصية الدينية الكبيرة فقد اعتقله الألمان ليحصلوا منه على سر اختفاء كنوز الكنيسة الثمينة بعد الاحتلال الألماني لوطنه ولما كان ذا مكانة رفيعة، فلم يجرءوا على تعذيبه بطرقهم المعتادة، لكنهم وضعوه في غرفة بها صنبور يسقط منه الماء على شكل قطرات تحدث وصوتا رتيبا وكاد هذا الصوت يصيبه بالجنون خاصة وهو محروم من القراءة أو الكلام مع أي إنسان حتى من يدخلون له الطعام كانوا لا ينطقون معه بكلمة وكادت الوحدة تقتله فقرر أن يذهب لقائد المعتقل ليعترف ولما طلب مقابلة القائد أدخل إلى غرفته وطلب منه أن ينتظر قليلا لحين حضور القائد وفي هذه الأثناء وجد معطف القائد معلقا وبداخل جيبه يبرز كتاب فأسرع برقته وخبأه في ملابسه، وحينما حضر القائد عدل عن رغبته في الاعتراف فعادوا به إلى حجرته وكان الكتاب عن الشطرنج، فوجد فيه سلوى، حيث ظل يقرأ ويتخيل ويلاعب نفسه، لوم يعترف حتى تم إنقاذه .. وأنا هنا ألعب لأمنع نفسي عن التفكير.

القرآن هنا هو نعم الأنيس، فالعنبر يمتلئ بأصوات المرتلين للقرآن البعض مقبل على حفظ أجزاء منه، حاولت أن أحفظ ولكن ذهني مشوش لم أحفظ إلا قليلا تدور بيننا مناقشات كثيرة مازلت أختلف مع الإخوان كما كنت أختلف مع مروان حديد، فأنا أرى أن الإسلام باق قبل الإخوان وبعد الإخوان فالإخوان جماعة أسسها «حسن البنا» وأدت دورا عظيما في تاريخ الحركة الإسلامية لكنها كأي حركة تبدأ بمؤثر قوي وتأخذ أوج شدتها ثم تقل تدريجيا حتى تتوقف وحركة الإخوان بدأت «بحسن البنا» وبلغت الموجة عنفوانها في حياته، وبعد موته بدأت تنكسر شدتها تدريجيا حتى وصلت إلى ما هي عليه.. أتذكر حديث «مالك بن نبي» عن أثر الفكرة والروح الدينية في تكوين الجماعات وقد ضرب لنا مثلا بجمعية خيرية فرنسية أسسها أحد القديسين، وأصبح لها دور عظيم في فرنسا، وتساءل «مالك بن نبي»: هل لو توفر لنا الآن جميع الإمكانيات المادية من أموال ومدارس ومستشفيات وملاجئ كالتي تملكها هذه الجمعية؟ هل يمكن أن ننشئ جمعية تؤدي نفس دورها في المجتمع؟.

وأجاب: بالطبع كلا لأن هذه المنشآت مازالت تعمل بروح المؤسس العظيم حتى الآن.

أحاول أن أحدث من معي عن «مالك بن نبي» وعن فكرة قيام الحضارة وشروطها أغلبهم لم يسمع به، ولا يفهمون أفكاره كثيرًا وتبدو أفكاره لهم كالأحلام، هم معذورون في ذلك فهم ينتمون إلى جماعة، وللجماعة رسالة محددة واضحة.. كلام «مالك بن بني» يقنعني أنا، لأنني بطبعي أعيش في الحلم حلم ميلاد الحضارة الجديدة أنا أصدق الأحلام قبل نهاية هذا القرن لابد أن تولد الحضارة الجديدة العالم ينتظر هذا الميلاد الأمة الإسلامية إما أن تنهض أو تموت، وحيث إن الله وعد بحفظ هذه الأمة لأن محمدا هو آخر الأنبياء فلابد أن تنهض.

بعد وصولنا إلى أبي زعبل بقليل غادر رجال المباحث العامة المعتقل فقد انتهت التحقيقات وجاءوا بقائد جديد للمعتقل من ضباط السجون اسمه «عبد العال سلومة الإخوان جميعًا يعرفون فلقد عاش مع الإخوان فترة طويلة في السجون يقولون: إن هوايته أن يفسد العلاقات بين أعضاء الإخوان، فهو يتخذ من بعضهم أصدقاء ومن بعضهم أعداء، يستهوي البعض ويقنعه بأن الأمل في خروجه من المعتقل معقود على تأييده للحكومة وأن الحكومة تريد الإفراج عنهم، ولكنها تريد أن تتأكد أولا من ولائهم لها.. كان يتخذ من بعض المسجونين عيونا على زملائهم، وقد استطاع بعد أن تمكن منهم تمامًا، أن يقنع المسئولين ليتم الإفراج عن بعضهم فعظم أمره بين أتباعه وزادت سطوته على الذين يرفضون طاعته، ويترفعون عن تأييد الدجال.

بدأ هذا «السلومة» فور وصوله يمارس هوايته الوضيعة، أصبح له عيون في المعتقل نحن نسميهم «بسابس» فنقول لبعضنا محذرين همسا: اصمت هذا «بسبس» أي جاسوس.. سلومة يصرح بأنه جاء بشيرًا بالإفراج ولكن لمن؟ لمن يرضى عنه وترضى عنه الحكومة.. أتخذ من بعض المعتقلين أصدقاء وأعوانا أغلبهم من معارفه القدامى في السجون بدأ أتباع «سلومة» يمرون على العنابر يؤكدون أقواله، ويطلبون أن تقام في كل عنبر حلقة للتوعية، حيث يجلس كل من يريد ليتحدث عن فضل الثورة والدجال على الناس أصبح من المعروف أن «البسابس» التي نعرفها والتي لا نعرفها ستنقل ما يدور في العنابر إلى «سلومة» أفهمونا أنه سيتم كتابة تقرير عن كل شخص ليتم تحديد موقفه من الثورة ومن الإخوان وبالتالي من الإفراج.. سميت هذه العملية القذرة بالتقويم.. سيقومون أفكار كل معتقل واتجاهاته تورط في هذا العمل بعض المعتقلين الشرفاء ظنوا أنها تمثيلية سيضحكون بها على الحكومة، ولن يضروا بها أحدا، بل قد يستطيعون أن ينفعوا أنفسهم وغيرهم ولكن هيهات، وهل من سيكتب اليوم عن زملائه يستطيع أن يتوقف عن ذلك، حتى لو أراد؟

صارت تقام الندوات في كل عنبر، تولى إدارة الندوات في عنبرنا طبيب هو وأخوه الأكبر معتقلان، وعرفت أن أول محقق حقق معي في القلعة هو زوج أختهما وهذا يثبت صدق تصوري للموقف فالجلادون والضحايا عائلة واحدة يظلم بعضهم بعضا كنا نسمي رفيقنا الطبيب مكتشف المواهب لأنه كان كل يوم يقنع أحدهم أن يتصدر الحلقة ليتكلم عن عمله وعن أثر الثورة المباركة على نهضة القطاع الذي يعمل به .. كان الكلام سقيما ومضحكا ولكن وجدنا فيه نوعا من التسلية في كل يوم في المساء نجلس لنستمع إلى وجه جديد.. والكل يعرف أن كلماته محسوبة عليه قلائل رفضوا الحديث، ومن بينهم شخصية عظيمة لرجل صاحب محل بقالة، كان أبوه من البكوات وكان هو من كبار تجار القطن ولكنه خسر تجارته، وهو رجل عزيز النفس، طيب القلب، ولكنه دائما مقطب الجبين سريع الغضب، قال له أحدهم يوما: لماذا أنت مقطب الجبين هكذا؟ فأجاب بشقاء خذ ما تريد واجعل وجهي صبوحا فهكذا خلقني الله فماذا خلقني الله فماذا أفعل؟. ولكنه كان شخصية محبوبة من الجميع، فإذا حدثته وجدته عذب الحديث عفيف النفس، يحلو له ي أثناء حلقات التوعية أن ينام في وسط العنبر والجميع متحلقون من حوله، فإذا قال له أحدهم: لماذا لا تنام في ناحية بدلا من نومك وسطنا قال بغضب: أليس هذا مكاني الذي أنام فيه؟ أنا رجل كبير لابد أن أنام مكبرا دعوني أنام ويبتسم الجميع فهم يفهمون أنه معترض على هذا العبث ولكنه لا يريد أن يعرض نفسه لغضب المباحث أحيانا لا يستطيع أن يصبر فيصيح غاضبًا: هل تظنون أن هذا سيخرجكم مما أنت فيه؟ الأيام بيننا سنرى.

رجل آخر من بلدتنا نناديه بشيخ العرب، هو من «العشرة الكوامل» أي قضي عشر سنوات في السجن ولم يؤيد الحكومة ثم خرج إلى أولاده وقبل أن يهنأ بهم وبعد بضعة أشهر فقط عادوا فاعتقلوه بلا سبب حاول الطبيب أن يجعله يقول أي كلمة طيبة في حق الثورة، قال له: يا شيخ «محمد» قل لنا أي شيء عملك قبل الثورة وبعدها.

فأجاب: وهل رأيت عملي بعد الثورة فمنذ أن قامت الثورة وأنا في السجن فقال له: حسنا فتكلم عن السجون قبل الثورة وكيف انصلح حالها بعد الثورة فأجاب بعفوية وطيبة قلب: وهل دخلت هذه الخرائب إلا بعد الثورة؟ فضج الجميع بالضحك... جاء دوري في الحديث وحيث إنني كنت أعمل في قطاع التعاون، فقد بدأت حديثي بأن الثورة قد توسعت في النظام التعاوني ولكن وصرت أشرح نشأة النظام التعاوني في العالم، وأنه لابد أن ينبع من اتجاه شعبي ومن رغبة ووعي الأفراد بمصلحتهم، وأن الحكومة حينما تقوم هي بإنشاء الجمعيات التعاونية فهي تبحث عن الشكل لا عن المضمون كانت محاضرة طويلة وحيدة عن التعاون، فقد كان هذا هو موضوع بحث «البكالوريوس» الذي قدمته منذ سنوات . وانتهى حديث وأغلب السامعين لا يعرف إن كنت أمدح الثورة أو أذمها وخاصة «البسابس».

حبيبتي مريم.. ما أعظم حبي لك. لا يمكن أن يكون كل هذا الحب هباء. .قرأ كثيرا عن قصص الحب الخالدة .. (روميو وجوليت وفيرتر، وماجدولين، وبول وفرجيني) ورأيت أبطالها يحبون حتى الموت وقرأت عن (قيس ليلى، وقيس لبنى، وجميل بثينة، وكثير عزة) ورأيت حبا عذريا أمرضهم وأضناهم.. ولكن كقصة حبي لم أر مثيلا لها حبي لك حب علوي خالد حب مرتبط بالأحلام، حب هو جزء من كياني لا يمكن أن ينفصل عنه.. حب يرتبط بالأحلام، حب هو جزء من كياني لا يمكن أن ينفصل عنه.. حب يرتبط في عقلي وقلي بمعرفة الخالق .. بالجنة والنار.. بالحقيقة .. بكل ما هو مقدس .. تتكيف رغباتي وآمالي لتلائم حبك .. حبك يكبت كل القوى الشريرة في نفسي ويسحقها حبك علاقة أسمى من أن يتحدث عنها أحد أو يتفكر فيها أحد حب كأنما عقدت أواصره في السماء في عالم آخر ومنذ أزمان سحيقة بعيدة.. حبي لك يمكن أن يملأ العالم نورًا يمكن أن ينشر السلام يمكن أن يصنع المجد.. حبي لك تحسدك عليه الملائكة في السماء حبي لك هو مزامير داود، هو نبوءات أشعياء، هو عذاب إرمياء هو بركات المسيح حبي لك لا يمكن أن يكون وهما وإلا فما الحياة وهم كبير.

حبي لك يا مريم هو قهر للظلام.. هو إصرار على البعث هو إحياء الموتى هو مولد الحضارة هو مشرق الشمس هو انتصار الخير هو سيادة الفضيلة حبك يا مريم شرارة تشعل العالم من حولي نارا ونورا حبي لك تعجز عن وصفه الكلمات.

ع. م

أكتوبر (1966 )م.

الرسالة السادسة والعشرون

حبيبتي مريم:

ماتت أمك.. ماتت المرأة الوحيدة التي باركت حبنا . ماتت المرأة التي اختزنت إيمانها في صدرها ككنز ثمين ماتت المرأة التي تعلق قلبها بعالم القديسين .. ماتت المرأة التي أنجبتك يا حبي... أعرف أن مصابك بها أليم فقد كانت ظلا تستظلون به من وهج الحياة اللافح.. كانت نبعا يرويكم وأنتم عطشى .. أعرف أنك تحسين الآن بالدنيا.

موحشة من حولك، وبالغربة حتى وأنت بين أهلك.. ولكن هكذا الدنيا يا حبي:

لابد للإنسان من ضجعة
لا تقلب المضجع عن جنبه
نحن بني الموتى فما بالنا
نعاف من لابد من شربه

أعرف أن الفراق شديد الألم، ولكن لنا في أمل اللقاء عزاء، فما الدنيا إلا ساعة..

وكل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوما على آلة حدباء محمول

لا أدري ماذا أقول لك يا مريم ليخفف عنك ما أنت فيه! ولكنني سأكون لك عوضًا عما فقدت يا حبي حبي لكل أكثر من حب كل الأمهات والآباء.. سأخرج إليك قريبًا، صدقيني لقد تغيرت تماماً سأكون كما تحبين، سأحقق لك كل ما تريدن، سنحقق كل الأحلام، ستتغير الأيام، وستصفو لنا الحياة لا تدعى أطياف اليأس تنفذ إلى قلبك بالله عليك اجعلي من الله ركنا تلوذين به حتى آتيك، أنا أعرف أنك صبرت كثيرا وأن أقرانك اليوم قد كبرت أطفالهم وأنت مازلت عذراء، ولكنني سأملأ عليك حياتك، سأعوضك عن كل الحرمان، أنا أحبك أكثر من الحياة أنت حياتي، لن أستطيع أن أكمل الطريق بدونك.

لقد كنت أحب أمك كثيرًا، ولكنني مطمئن لأنها سافرت إلى عالم الراحة والسعادة أنا حزين من أجلك أنت حزين أن تركتك وحيدة وأنا حزين من أجلك أنت، حزين أن تركتك وحيدة، وأنا لا أستطيع أن أكون بجانك لأقدم لك العزاء.. أخاف عليك من الظلام الذي نشره الدجال على أرض مصر ، حتى أفقد الجميع الأمل، قلوب الناس حولك قد ملأها اليأس. ولكن لتكن مشيئة الرب، لتكن مشيئتك يا رب السموات والأرض، فنحن راضون بقضائك، وقانعون بحكمك.

حبيبتي مريم.. يبدو أنني سأخرج إليكم قريبا فمنذ فترة أعلنوا أن هناك حلقة توعية على مستوى المعتقل كله وسيحصرها ضباط من المباحث، وسيشترك قادة الإخوان بها، ليعترفوا أما أعضاء الجماعة بأخطائهم، وبعدها سيتم الإفراج عن الجميع وبدأ «سلومة» وأعوانه يثيرون الحماس فلابد من عمل لافتات كبيرة عليها شعارات الثورة، وكلمات التأييد للدجال، وجميع لذلك الخطاطون، وكان لابد من عمل أناشيد وهتافات تحية للدجال ورفاقه، ولكي يكون المشهد مرضيا لرجال المباحث وبالفعل علقت اللافتات بعد أن وفر «سلومة» القماش والألوان لكتابتها وتجهز الجميع للملهاة المقبلة وتحدد اليوم وفتحت العنابر لنهبط منها إلى فناء المحمصة التي شهدت ملحمة العذاب، فقد فرشت اليوم كلها بالبطاطين لنجلس عليها، وقد حاول الجميع إظهار رضاهم وحماسهم فالإفراج أصبح وشيكا.. جهز أحد قدامى الإخوان نشيدا نردده، فيه تأييدًا للثورة ولكن دون ابتذال، وكان معنا بالعنبر رجل سمين من قدامى الإخوان يعمل خطاطًا وقد كانت له روح مرحة، وكان يحلو لنا أن لنا نداعبه، فقد عثر على زجاجة فلف حولها بعض الأقمشة، وصار يبلل القماش بالماء ويعرض الزجاجة للهواء فيصبح ماؤها مثلجا فيشرب منه بلذة كبيرة وكان يطلق على زجاجته لق (الحاجة) .. ويحلو لنا أن نشرب من الحاجة على حين غفلة منه، ويفاجأ هو بأن زجاجته فارغة، فيثور ويتوعد.. ويبدو أن صاحبنا قد اشتد شوقه لرؤية أولاده، فما إن خرجنا من العنبر وشاهد أتباع «سلومة» منتشرون في الممرات، حتى قال: احملوني أحملوني .. ولأنه كان ثقيلا فقد تعاونت مجموعة كبيرة لتحمله، وأدركنا أن يريد أن يهتف ليحي الثورة والدجال، ولأنه ثقيلاً فقد تعاونت مجموعة كبيرة لتحمله، وأدركنا أنه يريد أ، يهتف ليحيي الثورة والدجال وبعد أ، تم حمله بدأ يهتف: عنبر (5) ونحن نردد خلفه عنبر (5) ثم يعود يهتف عنبر (5) ونحن نردد وراءه ما يقول في انتظار أن ينطق بشيء، ولكن لم يستطيع أن يزيد عن قوله عنبر (5) عنبر (5) وأدركنا أن نفسه لا تطاوعه على أكثر من ذلك فأنزلناه، ونحن نكتم ضحكاتنا في سعادة لموقفه النبيل.

.. هبطنا إلى الفناء وجلسنا على البطاطين، ووضعت في الصدارة طاولة جلس عليها «سلومة» ومعه بعض ضباط المباحث وميكروفونات وأجهزة تسجيل وبدا بعض أعوان «سلومة» من الإخوان يتحدثون عن أخطاء الإخوان، ويوجهون الاتهامات لقيادات الإخوان، ثم طلب من قيادات الإخوان أن ترد على هذا الاهتمامات، فكانت إجاباتهم رصينة وجيدة فلم تعجب أعوان «سلومة» فهتف بعضهم هتافات مخزية مثل «حسن البنا وحسن الثاني (حسن الهضيبي ) سلكوا طريق ضد الأديان و«البسابس» ترقب وتسجل من يهتف ومن لا يهتف... كان المشهد كله مقززًا.. أعجبني أحد قادة الإخوان حيث هاجمه أتباع «سلومة» فقام وصاح: ضعوا كل شيء على أكتافي، واخرجوا أنتم إذا كان هذا سيخرجكم من هذا المكان فلم نشعر إلا ونحن نصفق له .. وكادت المسرحة أن تفشل، لولا أن تدخل «سلومة» وغير مجرى الحديث كانت هذه الليلة، ورغم مخازيها تعتبر نوعًا من التغيير دخل على حياتنا الرتيبة.. بعد أيام تم الإفراج عن حوالي مائة شخص، كلهم من الذين كانوا قد حكم عليهم بالسجن سنة (1954) وعرفوا «سلومة» وأيدوا الحكومة، وأفرج عنهم ولم يكملوا مدة سجنهم .. لذلك كانت فرحتهم كبيرة حينما جاءوا «بسلومة» إلى المعتقل ... ولكن هذا الإفراج أكد لنا أن الحكومة تنوي الإفراج التدريجي عنا... وقد زادت سطوة البسابس بعد الإفراج، وأغلب المعتقلين أصبحوا يتملقونهم.

ثم عزل مجموعة من المعتقلين في الزنازين منهم «محمد قطب» وبعض أقاربه، وقد قيل: إنهم يحملون أفكار «سيد قطب » وهم يكفرون الحكومة ثم عزل آخرون في عنبر (12) قيل: إنهم يمثلون قيادات الإخوان، وقد كان يحيي من بينهم، فقد فرضت شخصيته المرحة (اللامبالية) نفسها على الأحداث، وأصبحت هذه فرصته ليعيش مع زعماء الإخوان، الذين كن لهم دور بارز في أوائل الخمسينيات كانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها عن فكرة التفكير، حكي لي بعض من عاش في السجون من الإخوان: إن هذا الفكر قد بدأ في السجن بين الذين رفضوا تأييد الحكومة، وإنهم حاولوا التصدي لهذا الفكر، ولكن مازال أصحابه يصرون على رأيهم.

عدنا إلى حياتنا الرتيبة في العنبر، نتحدث، نلعب الشطرنج، لا توجد فرصة لان يخلو الإنسان بنفسه، إلا إذا اضطجع للنوم، العنبر يضيق بمن فيه، لو حدث أن قمت إلى دورة المياه ليلاًن يصعب علي أن أجد مكاني ثانية، أحيانا أظل جالسا على باب العنبر حتى صلاة الفجر ونحن نعيش الآن على أمل الإفراج القريب فما دام الإفراج عن المعتقلين قد بدأ فلابد أن يتوالى إن شاء الله، وهذا ما ارجوه يا حبي، فقد بلغ بي الشوق مداه.. أريد أن أخرج لأعوضكم عن كل ما سببته لكم من آلام وأحزان لأبد لهذا الليل من آخر.. فمادام الله قد أنقذنا مما كنا فيه من كروب وعذاب، فهو يدخرنا لشيء يريده، قلبي مليء بالأمل بأننا سنخرج قريبا، وستتحقق كل الآمال، كانت هذه التجربة ضرورية ومفيدة لنا في مسيرتنا نحو تحقيق الأحلام.

حبيبتي مريم.. صدقيني أنت. فإن لم تفعلي فمن سيصدقني .. كل ما حولك باطل.. سينكشف كذب الدجال سيظهر نور الحقيقة.. فأما الزبد فبذهب جفاء أوما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .. لعلك أدركت معنى الحياة، وأنت تفقدين أمك الغالية ... الدنيا ساعة فاجعلها طاعة حكمة الله هي البالغة وكل من عليها فان استحلفك بالله الا تفقدي شجاعتك أن يظل قلبك الطاهر موصولا بالله، بالأمل، وبالأحلام .. ألا يزحف اليأس إلى قلبك فسنلتقي قريبا، وقريبا جدًا.. فقد ضاقت حتى استحكمت، ولابد أن فرج الله قريب.

ع. م

مارس (1967

الرسالة السابعة والعشرون

حبيبتي مريم:

لم أقل لك: إن فرج الله قريب، وإن بطشه لشديد؟ من كان يتصور أن يحدث هذا؟ أرأيت كيف ذلك الدجال وهان، أأيقنت أن الله قادر على أن يحقق كل الأحلام؟ إن أحلامنا عظيمة، وما علينا إلا أن نصبر أتذكر قول امرئ القيس:

بكي صاحبي لما رأي الموت دونه
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينيك إنما
نحاول ملكا أو نموت فعذرا

إننا يا حبيبتي نسعى وراء أنبل غاية.. هناك أناس خلقوا ليعشوا، وآخرون خلقوا ليعلموا الناس كيف يعيشون .. نحن نسعى أن نكون من هؤلاء الذين يعلمون الناس طريق النور وطريق الهداية.

جرت الأحداث سريعة، ففي البداية تسربت إشاعات عن حرب قادمة مع إسرائيل، وأصبح لا حديث لنا إلا عما قد تسفر عنه هذه الحرب.. يتحدث البعض عن قوة سلاح الجيش المصري ، وعن صواريخ وعن الخبراء الروس الذين يملئون البلد ... هل يمكن أن ينتصر الجيش المصري حقا؟.. لم أكن متفائلا إطلاقًا فقد أدركت وأنا أرى ضرب اللواء في السجن الحربي مدى ما وصل إليه الجيش المصري من تفكك، لا يمكن أن ينتصر جيش على رأسه أمثال «شمس بدران » على جيش على رأسه أمثال «موسى ديان» موسى ديان يجلس على المقهى دون حراسة.. ولكن من يدري؟. الجميع كان يحس أن هذه الحرب ستؤثر تأثيرًا مباشرًا على مستقبلنا كمعتقلين، الجميع نسوا مسألة الإفراج.. هم يفكرون في الحرب.

بعد أيام تطورت الأحداث سريعة... سمعنا صوت المذياع عاليا في المعتقل، يذيع خطابات الدجال، ونشرات الأخبار تذيع عن توتر الموقف. .. زاد يقيني وأنا أسمع كذب الدجال إنه من غير المنطقي أن ينتصر هذا الدعي على إسرائيل .. الأناشيد الحماسية تذاع تباعًا... المعتقلون يتقدمون بطلب جماعي، بأن نوضع على جبهة القتال فالشهادة هي أسمى أمانينا، وهي خير بديل لما نحن فيه.. ولكن «سلومة» يمسك بالميكرفون بكل وقاحة ليقول لنا: إن الحكومة ليست في حاجة لأن يشرك أمثالكم في حربها المقدسة، فجيشها قادر على سحق كل الأعداء بعض أعوان «سلومة» قاموا بعمل خريطة كبيرة على عدة بطانيات وضحوا عليها سيناء وإسرائيل وخطوط تبين كيف ستسير المعركة...

..بدأت المعركة ... وصوت كلب العرب يأتي بنباحه عبر الإذاعة، عن تقديم الجيش المصري ، وعن عشرات الطائرات الإسرائيلية التي يسقطها جنودنا البواسل .. .القلوب واجفة تتابع أخبار المعركة بحماس ... تعددت البلاغات عن انتصارات الجيش المصري ... ولكن بعض المعتقلين الذي سبق لهم الاشتراك في حرب إسرائيل، يشككون في مدى صدق هذه البيانات وتضاربها .. الإذاعة تعلن أن الجيش المصري انسحب إلى خط الدفاع الثالث.. هنا أدركنا أنها الهزيمة.. لم نسمع صوت المذياع .. صرنا فريسة للشكوك.

فوجئنا بعنابر الدور الثالث تفتح ويحشر أهلها معنا في الدور الثاني.. أصبحت العنابر كأقفاص الدجاج ليس فيها موضع لقدم. جاءوا بمعتقلين من اليهود. الأخبار تصلنا من أعوان «سلومة».. الجيش المصري هزم هزيمة منكرة .. عربات محملة بالطعام يأتي بها الصليب الأحمر لليهود، فهناك من يسأل عنهم، ويرعى مصالحهم... أما نحن فقد مضت علينا سنتان، بم نذق ما يمكن أن يسمى طعامًا فتحت الإذاعة بناء على رغبة اليهود، وفتح مقصفا لبيع السجائر والمأكولات، فاليهود طلباتهم مجابة... رغم قسوة الضباط إلا أنهم أحسوا بالعار، وأصروا أن نعامل كاليهود، فلسنا أقل منهم.. كان مجيء اليهود إلينا رحمة من الله.. ونحن نسمع أصوات الانفجارات حولنا يقول البعض: ما دام اليهود معنا فإسرائيل لن تقذف قنابلها على المعتقل، لعل الصدفة وحدها أنقذتنا.. .. خطاب الدجال . اعترافه بالهزيمة.. رغبته في التنحي عن الحكم..«سلومة» أسقط في يده.. بدا ككلب منبوذ .. اعتكف مريضًا في حجرته لا يخرج منها.. نكس «البسابس» رؤوسهم خزيًا .. تعالت.. أصوات المعارضين .. الجميع يتكلم في السياسة بلا خوف .. تغيرت معاملة الضباط... بكي أحدهم حزنا، إنه ضابط طيب، كان كريمًا معنا منذ البداية، سمعته يقول بأنكم تذكرونني بالأفلام التي تحكي عن اضطهاد الرومان للمسيحيين، فشكلكم وملابسكم وأنتم وراء هذه القضبان كل ذلك يوحي بهذا التشابه لذلك كان «سلومة» يكرهه وهو يحتقر سلومة كثيرًا، ولولا أن أباه كان ضابطًا كبيرًا لفعل به «سلومة» الأفاعيل من قبل.

... تحقق صدق ما كنت أقوله دائمًا. فالمشكلة ليست في الدجال، المشكلة في مصر التي أعطت قلبها للدجال أن يبقى في الحكم . لقد كانت الفرصة مواتية للتخلص من كل هذا النظام .. ولكن الجميع كانوا قد سقطوا.. لست أدري لماذا يملأ هذا قلبي بالتشاؤم؟ .. تتبجح بعض الصحف لتقول: إن غرض إسرائيل كان إسقاط النظام، وقد فشلت في تحقيق أغراضها «إذا لم تستح فاصنع ما شئت...» لقد كان الطريق مفتوحًا أمام إسرائيل ليطأ جيشها بأقدامه قلب القاهرة، ولتفعل بمصر ما تشاء ولكن في ظني أنهم ظلوا يرقبون تأثير الهزيمة على الشعب المصري، فلما عرفوا أن الدجال باق في الحكم هنأ بالهم، واكتفوا بما أخذوا، فلن يستطيع أحد أن يفعل بمصر ما يفعله الدجال، لو حكموا هم مصر فلن يفسدوا شعبها كما أفسده الدجال.

... «سلومة» يمشى مطأطأ الجبين، يخفى ذله ومهانته فلقد راهن بكل ما يملك على الدجال، سمعت من أحد أسر الإخوان، وبعد انتصار الدجال على الإخوان أراد أن يثبت للدجال وأعوانه براءته، فانقلب على الإخوان، وجعل كرههم دينه ومذهبه، فبدأ يفسد بينهم، أدى دور الخيانة كاملاً.

بدأت ترحيل المعتقلين إلى معتقل طرة السياسي ... يقولون: إن الإفراجات ستكون من هناك، أرجو أن أراك قريبا، لابد أن الأمور ستستقيم فقد دب الخلاف بين أفراد العصابة، وقد اهتزت صورة الزعيم، الحمد لله أننا سنخرج في وقت أقل ظلاما، فقد سمعنا أن الناس بدأ تفيق، فهي تتكلم اليوم عن أسباب الهزيمة وعن الفساد، ألم أقل لك ستحقق كل الآمال؟

ع. م

يونيو سنة (1967 ) م.

الرسالة الثامنة والعشرون

مريم أيتها الحبيبية:

أصبتني اليوم في مقتل، لم أعد قادرا حتى على أن أغضب ... أعجز حتى أن أثور.. كمريض استسلم لأوجاعه، لم يعد قادرا حتى أن يشكو..

نصيبك في حياتك من حبيب
نصيبك في منامك من خيال
ومن لم يعشق الدنيا قديما
ولكن لا سبيل إلى الوصال

لتكن مشيئتك أيها الرب.. لتسحقني أقدامك... أنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك ماض في حكمك، عدل في قضائك.. لتكن مشيئتك لا مشيئتي .. من أنا حتى أعترض؟ .. من أنا حتى تكون لي مشيئة أو رغبة؟ .. ذرة تافهة في كونك العظيم... كل ما أبغيه رضاؤك عني، إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي.. ولكن يا رب ارحمني.. أرحم ضعفي.. إن كنت كتب في لوحك المحفوظ أنها ليست لي، فأنا راض، ولكن أعفر وجهي في التراب، وأسجد على أعتابك واستنجد برحمتك، أن تصرف قلبي عن حبها . فأنا يا رب لا أتحمل ما أنا فيه، لا أكاد أتنفس، أحس بأنني سأختنق أخاف أن أتخلص من حياتي في لحظة. .. شقاء أبدي، فأخرج من طاعتك إلى جحيم المعصية إلى الشقاء الأبدي... يا عزيز يا قوى يا جبار، ارحمني.. لا تتركني فريسة لوساوس الشيطان .. اعبر بي هذه المحنة إلى شط رضاك وعفوك.. دمعتي تسيل وقلبي يحترق لا أرى إلا الأمل في رحمتك يا رب...

مريم.. يا بنيتي.. إذا كان هذا ما تريدنه فتزوجي على بركة الله.. أما أنا فليرحمني الله. أشد ما أعجب له أنك انتظرت طويلا وبعد أن هزم الدجال وظهر فسادة للناس، وأملت أن يبطل سحره، وأحسست أن الفرج قريب، إذا بك تقدمين على الزواج كأن ما حدث قد ألقى بك في بحار اليأس.. لعل ها يفسر سر ما ملأ قلبي من تشاؤم عندما خرج الناس يطالبون بعودة الدجال أحسست ساعتها بأن الأمل ليس قريبا كما تصورت، فالمرض مزمن والشفاء بعيد.. العفن قد تسرب إلى الجسد كله مصر لن تبرأ مما هي فيه إلا بعد أن يذهب هذا الجيل الفاسد، لعل الله يخرج من أصلابهم جيلاً أقرب إليه وأكثر صلاحًا.

..أحسست ساعتها بأن الذئب لم يقتل لقد جرح فقط، وقد يعود أكثر شراسة... ولكن ما لي أنا وكل ذئاب الأرض.؟ لن ينفعني أو يضرني أحد وأنا أواجه الموت.. تلك هي الحقيقة التي تغيب عني ثم تصدمني، الموت!! لم أكن مستعدا للموت عند اعتقالي مازلت أخاف أن تأتي النهاية، أخاف أن أخرج من الحياة كصندوق مغلق لم يعرف أحد ما بداخله كنت أحب أن أتكلم قبل أن أذهب، أن أقول ما عندي أن أصرخ بما يعذبني، كنت أحب أن يسمعني الناس، قد تذهب كلماتي هباء، ولكن يجب أن أنطق بها، أتخف من أحمالي قبل أن أنطلق في رحلة الكون التي ستعبرها روحي بعد الموت، فالسفر بعيد، والظلام دامس، والسكون رهيب.. أخاف من رحلة الموت.. أحب أن يكون ضميري راضيا وأنا ذاهب إلى هناك. أقرأ ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها﴾ فيزداد خوفي، فأنا لم أفعل شيئا لم أقدم شيئا للحياة، لو رحلت الآن فماذا أقول لمن ألقاهم حينما يسألونني عن حالي في هذا الكوكب؟ أليس الساكت عن الحق شيطان أخرس؟ أحس بأن عندي الكثير لأقوله للناس ولكن ما الذي يحبس لساني أن ينطلق.؟ أنا عاجز عن أن أعبر عما في نفسي أقرب أصدقائي لا يفهم كلامي يقولون لي: لم تتكلم بما لا يفهم؟ وأنا لا أصرخ ولا لم لا تفهمون ما أقول؟ ولكن هل يمكن أن يدرك شخص حلم شخص آخر؟ أحلامي اليوم هي لي وحدي، ولكن ألم بأنه سيأتي وقت يصدقني فيه الناس.

... مريم.. يكاد عقلي يذهب .. يهتف بي هاتف: أحلامك أوهام يا بني، عد لرشدك، مريم مثلها مثل كل النساء، تبحث عن الأمان في أحضان رجل، رجل تفتخر به بين أقرانها، رجل يبارك الأهل والجيران حسن اختيارها له، ما في عقلك أوهام زينها لك الشيطان، عد للواقع، أنت معتقل، لا يعلم أحد متى ستخرج وإذا خرجت فأمامك الكثير لتعوض أهلك عما سببته لهم، عليك أن نسعدهم، أن تشق طريقك في الحياة بنجاح، أن تعوض ما فاتك من الدنيا فأنت على ذلك قادر.. ويلي من الضياع آه من الضياع وفقدان الذات، هذه كلمة قديمة صاحبتني طويلا ... الضياع، كمن يضل ي صحراء شاسعة لا يجد طريقه، ظمآن جوعان، تتعثر خطواته.. بالله عليك إذا كان هذا حالي على هذا الكوكب، فكيف سأعبر بحار الظلمات بعد الموت وحيدا؟

لو كنت أفكر في الموت بعقلي كما يفعل الناس- وكما فعل هاملت شكسبير- لهان الأمر. أنا أفكر بقلبي، يعتريني الخوف، أحس بما سيحدث لي.. جسدي سيدفن في التراب، يتحلل تتغذى عليه كائنات التربة، وروحي ستنطلق لتترك هذا الكوكب ستبدأ رحلتها الطويلة في عالم الظلام فلو سارت روحي بسرعة الضوء فهي تحتاج إلى ملايين السنين لتقطع هذه الرحلة الكونية، هل يمكن أن تكون هناك سرعة أكبر من سرعة الضوء؟ ما أشد غرور الإنسان يظن أن كوكبه الذي يعيش عليه هو العالم بأسره، والحقيقة أن هذا الكوكب شيء أقل من ذرة رمل في محيط واسع.. من نحن إذن؟ وماذا نفعل على هذا الكوكب؟ أنحن نقوم بأداء مسرحية يشاهدها سكان الكون من حولنا؟ .. نسمع أن هناك جان خلقت من نار وملائكة خلقت من نور، هل يمكن أن يدرك عقلي المخلوق من طين كل هذا؟ لا يمكن أن أتصور كلاما غير الأصوات التي أسمعها، ولا شكلا إلا تجسد أمامي.. ما أقل ما نعرف عن هذا الكون الذي نعيش فيه!... ما أجهل الإنسان!

إذا كانت البذرة توضع في التربة، والماء يأتي من السماء، فتنبت الأرض بالغذاء، ونحن لا نصنع الطعام بل يأتي الرزق من السماء، أفليس الأجدى علينا بني الإنسان أن نجلس لتفكر سويا في مصير من يذهبون إلى التراب ولا يعودون؟ نحن لن نجوع فلنقسم بيننا الغذاء، ولنجلس جميعا لنكتب رسالة إلى العوالم الأخرى نستفسر عن هذا المصير.. أين يذهب موتانا.؟ فلنسجد لخالق هذا الكون ولنبتهل إليه أن يرسل إلينا من يعرفنا بما نجهل.

آه لقد شططت بعيدا .. أفلم يحدث هذا؟ ألم يرسل الله رسلا؟ رجال من بيننا قالوا: إن الله أرسلهم وأن وحيا من عنده أتاهم، وأخبرهم أن الحياة امتحان طويل لبني آدم من عمل صالحا فإلى الجنة التي عرضها كعرض السموات والأرض وفيها النعيم الخالد، ومن عمل سيئا فهو إلى جهنم خالدا فيها وبئس المصير.. أمامي الطريق، وأنا لا أسير فيه، كم أحسد المؤمنين على إيمانهم الحقيقة بسيطة يمكن أن يدركها حتى الأطفال فالله خالق هذا الكون والإنسان مستخلف على هذا الكوكب وكل ما على هذا الكوكب مسخر له، وهناك قوى شريرة يمثلها الشيطان، تحاول أن تبعد الإنسان عن طريق الله وعن طاعته، وأن تزين له المعاصي والشرور، والله لا يطلب من الإنسان إلا أن يحافظ على وصاياه أن يتمسك بشريته أن يصبر على بلائه فبهذا تحدث جميع الأنبياء ولا يمكن أن يجتمع كل أولئك الرجال الصالحين على كذب... ما أنا الإنسان ضل طريقه... ولكنني سأعود إلى رشدى، سأمارس حياتي كما شاء الله، سأعبد ربي وآكل خبزي بفرح.. سأترك شرودي وأحلامي فقد ضيعتني طويلا .. كل من حولي هم أفضل مني، وأفضل منا جميعا.. أولئك الشباب الذين عرفوا طريقهم ومضوا إلى ربهم شهداء صالحين ما أنا إلا إنسان من ملايين البشر حولي، على أن أقدم الخير، وأن أنتظر نهايتي بلا جزع وأن أعبد ربي، وأن أرضة برزقي. .. أن أكون عبدا صالحًا فليعمر قلبي بذكر الله، فلأستسلم لإرادته، فلأقبل حياتي كما هي فلأودع الأحلام.

... مريم ... سأودع كل الأحلام.. أعترف بأنني قد هزمت .. أرجو أن يكون الله حنونا عليك.. فينجيك مما أعانيه.. أن تكون حياتك أكثر سلاما .. هديتي إليك في عرسك أن أحررك من كل الوعود أن زيح عن ضميرك كل ما يمكن أن يعكر صفاءك فما أنا فيه شيء يخصني وحدي، قد أكون فيه مخطئا أو على صواب، ولكن هذا قدري أنا.. ليس لي أن أحملك أعبائي، وقد عافاك الله منها.. فليكن ما كان بيننا، قصة قد قرأتها أو حكاية سمعت عنها، فاطرحي كل هذا وراءك وابدئي حياتك الجديدة في سرور كما شاء الله.

مشيناها خطا كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطا مشاها.

أستودعك الله.. وأستودعه كل أحلامي وآمالي.. وأنا راض بقضائه .. كل ما أطمع فيه هو رضاؤه.

ع. م

ديسمبر (1967 ) م.

الرسالة التاسعة والعشرون

حبيبتي مريم:

ها قد مات الدجال. وعاودتني الأحلام، كنت أظنها قد ذهبت عني، سنتين لم أكتب لك، كنت أهرب من أحلامي، لقد خدعت نفسي، مازال حبك كامنًا في قلبي، لو صبرت قليلاً يا مريم، ولكن مالي أفتح بابا لوساوس الشيطان لقد وطنت نفسي على أن يكون حبي لك عذريا، لا تعقبه أي مطالب، فلتكوني صديقتي، بل صديقتي، بل تلميذتي بل كما تريدين، شرط أن يظل بيننا شيء، أي شيء.

مريم .. بعد آخر خطاب لك نقلونا إلى معتقل «طرة» ولهذا المعتقل نظام مختلف عن أبي زعبل فالعنابر كلها أرضية، ويتوسط الفناء الواسع المستشفى وأمامها توجد المطابخ، وعند مدخل المعتقل توجد مباني الإدارة وأماكن استقبال الزيارات... حينما وصلت للمعتقل كان قائد المعتقل من ضباط السجون فهو لا يتدخل في شئون المعتقلين، ويعتمد على بعض المتعقلين في حل جميع المشاكل، ولم يكن له جواسيس ولا اهتمامات لأفكار المعتقلين وقد أحسن معاملة الجميع، وقد زاد من جرأته أنه كان مسيحيا، فلم يخش أن يتهم بالتعاطف مع الإخوان ولم يكن له من عيب إلا ما يعيب أغلب موظفي الحكومة المحترفين في هذا الزمان من قبولهم الهدايا، وطمعهم فيها خاصة أنه لاحظ أن بعض المعتقلين من أسر غنية.

أحسست عند مجيئي بالفارق الكبير بين «طرة وأبي زعبل»، فأغلب المعتقلين هنا لم يشملهم التحقيق وأنهم يتمتعون بالمقصف يشترون منه ما يحتاجونه من طعام كما أنه كانت تأتيهم زيارات من الأهل بصورة منتظمة، وكذلك وجدتهم لا يلبسون ملابس السجن.... وكانت هذه هي المرة الأولى التي ننام فيها في مكان متسع نسبيًا، ونأكل طعامًا غير طعام السجن بل ونستمع إلى الإذاعة ونقرأ الصحف لذلك فقد استبشرنا بقرب الإفراج عنا.

قالوا: إن المشير قد انتحر لم أصدق لقد كانت تجمعه بالدجال صداقة بنيت على حق متبادل، فلم يكن المشير ليترك الحياة مختارا، ويدع الدجال ينعم بالسلطة وحده، ولو أراد الانتحار حقا لقتله ثم انتحر .. حولكم أنصار المشير بصفتهم مسئولين عن الهزيمة وتعالت أصوات المنافقين لتبرئ الدجال، بل ليقول: بأن العدو لم يستهدف إلا الدجال لذلك فهو لم ينتصرن لأنه لم يحقق أهدافه يا لخسة نفوسهم وحقارتهم . «شمس بدران »، رآه بعض المعتقلين في السجن المجاور لنا، يعيش معززًا في حجرة بها ثلاجة وتليفزيون وهو يتلطف مع من يقابلهم من الإخوان ولكن أحدهم بصق في وجهه ولم يرض أن يتحدث معه.. ما أسرع انتقام الله .. وكما تعرفين أن الأهل يزورونني، وقد طمعت يوما أن أراك في إحدى الزيارات، ولكن التمست لك الأعذار فلعل ما تفعلينه هو عين الصواب.. كم أشعر بالرحمة والألم لتعب أمي ومعاناتها فكم تشقى لاستخراج تصريح الزيارة، ثم تحمل الطعام والملابس وتأتي بإخوتي كل هذه المسافة ثم تنتظر حتى يأتي دورها في الزيارة ما أشد ما حملتها من آلام... ثم هي بعد ذلك تستنكر مني أن أطلب إليها أن تقلل من زيارتها لي كأنما زيارتها لي هي شيء تفعله لنفسها، ما أعظم قلب الأم .. طوبى لهذه المرأة فقد أحبت كثيرًا.

في السجن الحربي حيث كان البلاء شديدًا، كان التفاوت بين الناس بأعمالهم وشجاعتهم وحينما عدنا إلى أبي زعبل بدا يظهر الاعتداد بالمنصب والمركز الاجتماعي ودعاوي العلم والثقافة، أما في «طرة» فقد ظهر التفاوت بين المعتقلين في أسلوب معيشتهم فالبعض موائده عامرة يأتيه الطعام من بيته تباعًا والبعض لا تأتيه الزيارة إلا مرة كل عدة أشهر أو لا تأتيه مطلقا .. البعض بدأ يعمل ليعيش ويحصل على متطلباته، فبعضهم يصنع مشروبا ويبيعه، وبعضهم يصنع مقاعد خشبية نشتريها لنجلس عليها في فناء السجن، والبعض يصنع تحفا من الصابون أن الخشب، نشتريها لنرسلها هدايا للأهل عند زيارتهم لنا.. المعتقل يضم بجانب الإخوان، معتقلين آخرين.. فقد كن معنا اليهود الذين اعتقلوا بعد الهزيمة، وقد أمضوا معنا فترة طويلة، ثم خيروا بين أن يسافروا من المعتقل مباشرة إلى باريس أو يظلوا داخل المعتقل ولا يفرج عنهم، وطبعا اختاروا السفر ولكن العجيب أن سبعة منهم رفضوا أن يسافروا وسألت أحدهم وهو يسكن بجوارنا في مصر الجديدة لماذا لا تسافروا وسألت أحدهم وهو يسكن بجوارنا في مصر الجديدة لماذا لا نسافر يا دكتور فأنا مثلا لو خيرت أن أخرج من هنا إلى أي مكان في العالم وبين أن أبقى هنا لفضلت السفر، فقال: لا هذه بلدي لا أتركها وإلى أين أذهب؟ أنا مبسوط هنا .. تعجبت ولم أصدقه يتميز اليهود بأنهم أكثر وعيًا، وأقل خوفًا، وأكثر أملاً في المستقبل ولم لا؟ والتيار كله في صالحهم وبلدهم انتصر على العالم العربي كله، وهم يظنون أنهم يتحكمون في سياسة العالم أجمع.

صاحب لي طيب القلب كان يتصادق مع شاب يهودي ويحبه كثيرا والإخوان يكرهون منه ذلك، أما أنا فلا أرى بأسا بهذه العلاقة فاليهود كان على خلق وشديد التقوى، فهو يقرأ في كتابهم كثيرًا ونحن في السجن مجموعة من البشر يجب أن نتعايش في سلام ولكن عمومًا كانت العلاقة بني الإخوان واليهود طبيعية فكثيرًا ما نجلس لنتجاذب أطراف الحديث واليهود لا يخفون ولاءهم لإسرائيل وكذلك للإخوان لا يخفون آراءهم في إسرائيل .. أحد زعماء اليهود أكد لنا أنه صديق للدجال وأنه مازال يزوره، وأنه قد تربى معه في حارة اليهود، ولست أدري هل يمكن أن يكذب رجل مثله، في مثل هذا المكان ولماذا؟

مجموعة من المعتقلين يطلق عليهم اسم «النشاط المعادي» وهم يأتون ليقضوا فترات تطول أو تقصر ثم يفرج عنهم.. منهم من قال نكتة ضد النظام، أو خرج في مظاهرة أو جاء نتيجة وشاية فمثلا منهم شاعر، كتب كثرًا من أغاني المطربين والمطربات وهو معروف في الوسط الفني ولكنه حينما سافر الدجال للعلاج في «إسخلطوبو» بروسيا كتب زجلا قال فيه: «.. إسخلطوبو كشفت عيوبه ... يا ناس توبوا.. يا ناس فوقوا..» والشيخ عارف شيخ لأحد المساجد وهو قصير ويحمل وجها كاركاتوريا مضحكًا ولكنه يحمل قلب أسد لا يهاب فقد خطب خطبة عصماء ضد الفساد فاعتقل ثم أفرج عنه لكبر سنه، فعاد وخطب خطبة أشد من الأولى فأخذوه وضربوه ضربًا شديدًا ثم زجوا به معنا، وهو مبتسم الوجه دائمًا، يحلو لنا أن نتكلم معه وله أزجال لطيفة تنتشر بيننا انتشار النار في الهشيم مثل «أتذكر إذا أباك يقل شنطة، ويمشي في البلاد يقول بوسطة؟ وقد سرق الحمار بذات ليل، كما سرقت كلاب الحي بطة» فكانت شجاعة كبيرة منه أن يكتب هكذا عن الدجال، وفي أحد أزجاله أطلق على الدجال «.. بوفقهشي نذل البلاد معرة الأوطان» فأصبح بوفقهشي علما على الدجال بيننا.

في المعتقل بعض زعماء الوفد جاءوا بهم بعد جنازة النحاس باشا .. قابلت كذلك زميلا قديما في الجامعة كنت أعرف أن له اتجاهان شيوعية، جيء به هنا على أنه شيوعي، واستمعت إلى أشعاره- فهو يعتقد أنه شاعر فحل، وللأسف فأصحابه من الشيوعيين يوهمونه بذلك وهي قصائد من الشعر المنثور مفككة ولا تحمل أي سمة من سمات الشعر ولا الأدب، فما أسفه عقولهم لابد أنهم لا يعرفون شيئًا عن الأدب العربي.. شاب اسمه «عزيز» كان قد اشترى كرنبة وصار يبحث لها عن كيلو من الأرز ليحشوها فلم يجد، فلما ضاق به الحال قال مخاطبا البقال: وبماذا سأحشوا الكرنبة؟ هل سأحشوها بالاشتراكية؟ فأبلغ عنه أحدهم، وجاءوا به بعد أن أخذ حظه من العذاب وقد قابله الشيخ «عارف» عند وصوله وسمع قصته وضحك عليها كثرا، وقد نشأت بينهم صحبة طيبة، فعزيز يقول: أبويا الشيخ عارف والشيخ عارف يناديه: يا غلام.. وقد عرف بيننا «بغلام الشيخ عارف» وحينما جاءت لجنة التظلمات التي شكلتها الحكومة لبحث أحوال المعتقلين، كمحاولة لامتصاص الغضب الشعبي قابلهم الشيخ «عارف» ومعه غلامه «عزيز» وقال لهم: هذا غلامي عزيز اعتقل لأنه اعترض على عدم وجود الأرز وهو يتعهد لكم وللحكومة بأنه لن يذوق الأرز أبدا بعد اليوم، وأنه على استعداد إذا كان لابد من شراء الأرز أن يشتريه بأي سعر تطلبه الحكومة بنفس راضية وقد أثارت أقواله ضحك الجميع.

ويبدو أن الدجال قد استعاد قوته بعد فترة من مجيئنا إلى طرة، فقد نقلوا قائد المعتقل، وجاءوا إلينا ثانية «بسلومة» الذي نشر «بسابسه» من جديد في المعتقل وبدأ يتحدث من جديد على إعداد كشوف الإفراج وأن ذلك يلن يتم إلا لمن ترضى عنهم الحكومة ولكن الزمان كان قد تغير فأغلب المعتقلين رفض مثل هذه الوعود. فالحكومة أصبحت أضعف وسمعنا عن مظاهرات بين الطلبة تطالب بالحريات.. بل ظهرت بين المعتقلين أفكار عنيفة ضد الحكومة وظهر أفراد يحملون فكر التكفير حيث يكفرون الحكومة وكل من يمالئها واستبد بهم الشطط حيث يكفرون كل من كتب تأيدًا من المعتقلين للحكومة وقد أطلقنا عليهم لفظ «المكفرتية» وقد قام المرشد العام بمناقشتهم وكتب مذكرة يفند فيها أفكارهم وقد كان عنوانها «دعاة لا قضاة» أي أننا ندعو الناس للإسلام ولسنا قضاة نجلس لنحكم على الناس بالإسلام أو بالكفر فكل من يشهد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فهو مسلم وشعبنا رغم كل خطاياه هو شعب مسلم.

قابلت من النشاط المعادي صحفيا في (الاسوشيتدبرس) اعتقل بتهمة إفشاء أسرار بيت الدجال فقد كان من الصحفيين القلائل المصرح لهم بدخول قصر الدجال.. وفي المحاكمة التي قدم إليها جاء إليه زملاؤه الصحفيون الأمريكان بمجلة فرنسية فيها صور امرأة تلبس زيا عسكريا، ثم صورة لها وهي بملابس مدنية، وكتب في المقال: إن هذه المرأة تعمل في المخابرات الإسرائيلية وقد عملت ثلاث سنوات في بيت عبد الناصر وحينما ذهبت زوجته إلى باريس لتشتري متطلبات العرس لابنتها «هدى» اختفت سكرتيرتهم الحسناء لتظهر صورتها بعد أيام على صفحات المجلات الفرنسية وبعد أن أذهلت هذه القصة القضاة المكلفون بنظر القضية، حكموا ببراءته، فجئ به إلى المعتقل.

ومما يؤكد أن الدجال كان مازال مسيطرا ومتجبرًا أن وزير الدولة «أمين هويدي» لم يستطع أن يتوسط لعمه الذي رباه والذي كان في صغره يقبل يديهن فعمه مازال بيننا وينام أرضا رغم سنه ومرضه. كذلك قابلت صحفيًا في النشاط المعادي، حكي لي أنه كان رفيق السادات في السجن وأنهما قضيا عامًا كاملاً في زنزانة واحدة حينما سألته: ألم ترسل للسادات بحالك؟ قال: لقد ذهبت غليه زوجتي فقال لها: كل ما تحتاجينه من أموال أعطيه لك ولكن لا أستطيع أن أسأل عن زوجك أو أن أتدخل للإفراج عنه.. فالجميع كان يخاف بطش الدجال وعصابته.

صرت أقضي معظم نهاري في لعب (الراكت) في فناء السجن فقد استبدلته بلعب الشطرنج وفي الحديث مع الرفقاء أنا أحاول أن أعيش كما يعيش الناس وقد أصبت بالكوليرا وعانيت الموت، وكنت مستعدا لاستقباله ولكنني شفيت، وفي فترة وجودي بالمستشفى كنت التقي كثيرا بالمرشد العام وقد أخبرته عن حلمي فنظر إلي بإشفاق، وصار يحدثني عن ذكرياته مع والدي، وقد خفف عني كثيرًا، فنفسي تستجيب سريعا للمسة حب، أو نظرة حنان وخرجت من المستشفى وأنا أكثر قدرة على مجابهة الحياة.

حظيت بعد ذلك بزنزانة خاصة وهذا ما لا يحصل عليه إلا بعض كبار المعتقلين وهي تمتاز عن العنابر بأنها تظل مفتوحة دائما بينما العنابر تقفل ليلا وفي ذات ليلة والعنابر مغلقة كنت أسير في فناء المعتقل ليلا أتجاذب أطراف الحديث مع أحد الإخوان وكان يعمل على الآلة الكاتبة في إدارة السجن متطوعا لكي يحصل على بعض الامتيازات التي كان من أهمها أن تكثر زيارات زوجته التي يحبها كثيرا وأولاده له.

سمعنا صوت القرآن من التليفزيون على غير عادة في مثل هذا الوقت وعلمنا أن الإرسال قد قطع ثم بدأت تلاوة القرآن، وأسرعنا للإذاعة، فوجدنا أن جميع المحطات تذيع القرآن، فأدركنا أن رجلا هاما في الدولة قد مات ولم يخطر ببالنا أن يكون هو الدجال مشينا في قلق الهواجس تنتابنا من يا ترى له كل هذه المكانة لتقطع له برامج الإذاعة والتليفزيون ؟... بعد فترة عرفنا أنه الدجال ضحك رفيقي من أعماقه ضحكة هيستيرية، وظل يضحك حتى قابلنا أحد أعوان «سلومة» من ضباط السجن فسأله: ماذا بك؟ فأجابته بسرعة: إنه يبكي على فقد الدجال فصدق الأحمق وأخذ يشد على يديه معزيا وبعد أن ذهب الضابط سألت رفيقي: لماذا كل هذا الضحك؟ فقال: كانت هناك غمة على قلبي منذ سنة (1954) وقد زالت الآن ... وقد أبديت دهشتي لكلامه فأقسم أن ذلك حقيقة فقد كان يشعر دائما بأن هناك شيئا ثقيلا فوق قلبه، وقد ذهب عنه الآن.. تذكر قوله عز وجل: «ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله» أو هكذا تنتهي المهزلة؟ أهكذا يذهب عنك يا مصر من لوث شرفك، وأذلك لجميع الأمم وبعد أن قتل وعذب أبناءك وباعك في سوق الرذيلة؟ ترك اليهود على أرضك والديون تحاصرك والخراب في كل مكان.. شعبك تهزمه خطاياه تسحقه مخازيه.

لست أدري يا مريم لماذا سيطرت على أفكاري منذ سمعت بموت الدجال عاودني الحلم كيف سألقاك بعد خروجي هل يمكن أن تلتقي نظراتنا بعد ما حدث؟ وماذا يفيد الآن؟ أنت الآن زوة لرجل آخر.., هكذا الحياة لابد أن أرضى بالواقع وأن أنسى الأحلام، هل يمكن أن يتحرك الماضي في قلبك؟ هل يمكن أن تتركي زوجك وتتبعيني؟ هل ما حدث كان إكمالا لعناصر المأساة في المسرحية، ثم سيلتئم الشمل بعدها من جديد؟ هل هذا ممكن؟

أكتب إلى خديجة بن خويلد... يا سيدة نساء المسلمين لابد أن حياتك كانت فراغا قبل محمد .. كيفي تزوجت في مطلع شبابك من ليس بكفء لك؟ .. ولكنها الحياة أنت مثل كل الصديقات، مستسلمة لحكم القدر، ترضين بالممكن، لا يشغلك إلا أن تكوني عفيفة مصونة أنت تواجهين الحياة بصبر وشجاعة وإيمان أليست الحياة من صنع الله؟ ألم يجئ في الحديث القدسي قول الله عز وجل «يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار» فالرضا والصبر على ما قسم لنا الله واجب وكان جزاء صبرك أن عوضك الله بريحانة قريش بسيد ولد آدم بمحمد رسول الله .. فكنت له الزوجة والأم والمعين فلم ينس حبك له طوال حياته..يأخذه الحنين إليك بعد فراقك للدنيا، فيذهب لزيارة صويحباتك، ويقول في شوق: هذه كانت تأتينا أيام خديجة .. لم يفضل عليك أحدا من النساء ظل حبك ذكرى عطرة في حياته، يمده بالقوة ويلهمه الصبر.. يا خديجة .. كنت راحة محمد.. كنت بيته الذي يسكن إليه.. كنت محضن روحه.. عندك تحررت روحه ونمت واستشرفت الكون الأعلى كفيته متاعب الأرض ليتجه ببصره إلى السماء.. آمنت به قبل أن يبعث ... كنت ترينه بقلبك.. تعرفين فضائله وتحبينها كان صدرك الحاني بلسمه عندما تضنيه أشواقه وآلامه.. من كان سيقبله لو لم تقبليه؟ من كان سيتبعه لو لم تتبعيه؟ من كان سينصره لو لم تحميه؟

يا من كنت سيدة في قومك ذات جاه وكمال .. أتخيلك وأنت فتاة وقد جمع لك العقل والغنى والحسب والجمال وقلبك يبحث عن الحلم الذي يشبع الروح ويسكن إليه القلب.. ولكن كان عليك أن تنتظري حتى سن الأربعين لتصلي إلى عالم الحب والسلام.. لم يكن بك رغبة بعد موت زوجك في الرجال فها هم هؤلاء سادة قريش وشبابها تحت أقدامك وأنت تنئين عنهم .. ولكن منذ رأيت الفتى محمدا رأيت النور والحلم القديم تفتح قلبك وانجذب لعالم الضياء.. وهل تطمع روح طاهرة كروح محمد من الدنيا في أكثر من ذلك .. زوجة يجد عندها كل معاني الفضيلة والتقوى والخير والحنان ومكارم الأخلاق فهنيئا لك اليوم مع الصالحين يا صديقة رسول الله .. مريم . لست أدري لما تعاودني الأحلام وتتملكني لعل موت الدجال قد هز كياني فأخرج ما كنت قد دفنته في أعماقي وتناسيته... لقد كنت عاهدت نفسي على نسيان الحلم، على الرضا بالواقع، أقول لنفسي دائما لتكن مشيئتك لا مشيئتي كما في السماء كذلك على الأرض فهل أستطيع أن أصبر؟ أن أتماسك؟ ألا أنهار؟ هل يمكن أن أحافظ على عهدي؟

مريم سأترك ذلك للأيام.. سأعود للواقع لما أنا فيه.. فبعد أن هدأت الفرحة بموت الدجال عاودتنا المخاوف فمن سيأتي بعده؟ نخاف أن يأتي على صبرى أو زكريا محيي الدين، كلاهما لا يؤمن جانبه فالإخوان في السجون والشيوعيون مطلقو السراح ولقد بلغ بعضهم مناصب عليا في الدولة والروس أقدامهم راسخة في صفوف الجيش، فهل يمكن أن يساعدوا على انقلاب شيوعي؟

سمعت من بعض الشيوعيين الذين اعتقلوا معنا، أن أول شيء سيفعلونه إذا قفزوا إلى الحكم هو أن يقتلوا جميع أفراد الإخوان.. وماذا يمنعهم وقد ضرب التيار الإسلامي كله في مصر ، حتى أصبح الناس يخافون أن يصلوا في المساجد؟

شاهدت في معتقل «طرة» نماذج كثيرة للنشاط الديني، أفراد من الجمعية الشرعية وهم رجال ملتحون كبار السن كانت جريمتهم أنهم خرجوا يوم العيد مكبرين في الطرقات، ليقيموا الصلاة في الخلاء وذلك ابتاعا للسنة عندهم وأعضاء جمعية إسلامية من مدينة السويس تسمى جمعية «الهداية» ويرأسهم الشيخ «حافظ سلامة » وجريمته أنهم يجتمعون لقراءة القرآن والحديث، وجماعة تسمى جماعة التبليغ، وأفرادها من الشباب وهم لا يتكلمون في السياسة إطلاقا فالجهاد عندهم، هو الاعتكاف في المساجد وقراءة القرآن، ودعوة الناس إلى زيارة المساجد والعبادة بها، وهم مجموعة شباب على وجهوهم الصلاح والتقوى، ولا أدري لماذا جاءوا بهم، ولكن يبدو أنهم يضربون التيار الديني كله، فكما سمعت من أحد المحققين، أن أي شاب متدين يسهل على الإخوان أن تضمه إليها.

نأمل أن يمكن السادات من الحكم فهو أقل أعوان الدجال شرا وهو سيتجه إلى أمريكا على ما أظن لذلك فأنا أرجو أن يتمكن من الحكم فالأمريكان أرحم كثيرا من الروس، فهم على الأقل قد عرفوا الحرية والديموقراطية، ومازالت بينهم بعض القيم ومعاني الرجولة والشهامة فإذا تمكن فلا شك أن الإفراج سيكون قريبا.

مريم.. لقد أطلت عليك.. ومن يدري عسى أن يكون لقاءنا قريباً.

ع . م

طرة آخر سبتمبر (1970 ) م

الرسالة الثلاثون

مريم أيتها الحبية:

هذه رسالتي الأخيرة إليك.. من سجننا الكبير . ومن وطننا الغالي مصر ... أكتب إليك وقد أزمعت على الرحيل. الرحيل إلى بلاد بعيدة.. إلى بلاد جديدة.. لعل الله أن يكتب لي فيها الراحة مما أعاني . سأفارق مصر كما يفارق الصبي أمه على مضض.

بلاد ألفناها على كل حالة
وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
وتستعذب الأرض التي لا هواء بها
ولا ماؤها عذب ولكنها وطن

خرجت من معتقل «طرة» والأهل لا يعلمون بخروجي، وكنت أحمل حقيبة الملابس الصغيرة .. وحينما تركت خلفي باب المعتقل أحسست كأنني أبعث للحياة من جديد.. وجدت طريقا مرصوفا تحيطه الأشجار العالية على جانبيه .. الطريق يمتد أمامي طويلا.. الريح تداع أوراق الشجر . .. كنا في رمضان وكنت صائما .. رفاق الكهف الذين أفرج عنهم معي يسيرون أمامي.

سرت خلفهم لا أكاد أصدق ما أنا فيه أتأمل ما حولي في صمت .. أسرع خطواتي كأنما أخشى أن يعيدوني إلى الكهف .. الطريق طويل.. هل كانت أمي تتحمل كل هذه المشقة لتأتي لزيارتي؟

لمحت على بعد سيارات تسير مسرعة.. بعد مدة وصلت إلى الطريق الرئيسي ... كان طريق الكورنيش .. فاجأني منظر النيل.. نظرت إليه بفرح كمن يلقى صديقا قديما.. تذكرت ليالي قضيتها مع الأصحاب يحملنا زورق على صفحته، ونحن نتجاذب أطرا الحديث في مرح تذكرت لحن النهر الخالد لعبد الوهاب .. تمضي الأيام بنا وأنت على حالك أيها النهر العظيم يا هبة الخالق.

عرفت تقريبا أين أنا ..أشرت إلى تاكسي متجه إلى ناحية مصر الجديدة وركبت وانطلق بسرعة عيناي ترقبان الطريق الحياة تسير على ما كانت عليه، لا أحد يعرف أو حتى يمكن أن يتصور ما كان يجري وراء الأسوار... بعض الناس يقفون عند محطات الأوتوبيس والبعض يعود حاملا طعاما إلى بيته مسرعا قبل موعد الإفطار.. بائع الطرشي يقف بعربته، وأطفال يلعبون بفوانيس رمضان أمام بيوتهم. .. هذا ميلاد جديد، وسأعيش حياة جديدة، وسأودع كل الأحلام.. هذا ما حدثت به نفسي. صعدت درج البيت مسرعا احتضنت أمي في شوق.. طفرت من عينها الدموع . .. عانقت إخوتي.. ها قد انتهت الأحزان، وسأعوضهم عما سببته لهم من آلام.

ما كدنا ننتهي من طعام الإفطار حتى توالى رنين التليفون الكل يهنئ والجميع فرح بخروجي إليهم جاء كثيرون لرؤيتي يسألون عن حالي لم أحدثهم كثيرا عما لاقيت فما زال النظام قائما والخوف ينشر ذيوله على الناس .. آلمني كثيرا أن الأهل والجيران من كل يجبن عن زيارة أمي خوفا من أن يكون منزلنا مراقبا من جهات الأمن أو بالأصح أجهزة نزع الأمن من المواطنين.

مريم.. لقد وطنت نفسي على أن أعيش وأن أكتم غضبي دائما، وأن أقبل الناس كما هم فلا فائدة لن يتغير أحد سيحتاج الأمر لأجيال جديدة سأعيش أنا لأهلي لأسعدهم ولأضيء شمعة بينهم .

مريم.. لا أكتمك أنني عند خروجي، وفي انتظار رؤيتك قد عاودني الحلم.. هل يمكن أن نصلح ما فسد. .؟ هل يمكن أن ينبثق نور الأمل من جديد؟ هل يمكن أن يعود تغريد البلابل وألحان السرور؟ ولكن يا لي من شخص حالم.. لقد أنساني الأمل كل الواقع فأين الزوج؟ وأين حقه؟ والأطفال؟ آه يالتصاريف الحياة!!

وأين أنا؟ كيف أطمح اليوم فيما عجزت عنه بالأمس... مازلت عاجزا عن تحقيق ما وعدتك به من أحلام ... أحلام الأمس البعيد.. لقد خرجت من المعتقل وحالي كما يقولون:

ثم عدنا حين كنا أولا
لم نسر نحو الهدى قيد ذراع

بعد أن رأيتك، وأنت تمارسين حياتك الجديدة .. بعد لقائك خلوت بنفسي انهالت دموعي في صمت .. ها قد أكمل .. وصلت المأساة إلى ذروتها .. كان لابد للأمر أن يبلغ منتهاه.. كنت محتاجا إلى هذه الجراحة التي استأصلت فيها كل الأحلام.. وقد تمت الجراحة وأنا واع ودون مخدر .. ما أقساها!!

ولكن رحمة الله قريب.. فبعد أن نضب معين دمعي شعرت براحة أدركت أنني سأبدأ حياة جديدة، وأنني أسير في الطريق الصحيح الذي رسمته لنفسي.

هكذا كتبت المسرحية وعلنيا أن نؤدي أدوارنا فيها ببراعة وأن يتحمل كل منا نصيبه من الآلام والمرارة.

مريم.. هذه رسالتي الأخيرة .. غدا سأفارق أرض مصر الحبيبة وأنا أردد

بلادي وإن جارت علي عزيزة
وأهلي وإن ضننوا على كرام
لا يملك قلبي إلا أن يدعو لكم...
فما حياتنا على هذا الكوكب إلا حلم قصير.

لست أدري متى نلتقي؟ وهل سنلتقي؟ وكيف؟ ومتى ؟

وداعا أيتها الأحلام...وداعا

مشيناها خطا كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطا مشاها

أستودعكم الله...

ع. م

مصر الجديدة يوليو 1971 م