سراب اسمه : المجتمع المدنى ؟!

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

سراب اسمه : المجتمع المدنى ؟!

د.سعيد إسماعيل على

د.سعيد إسماعيل على

أستأذنا القارئ .. بداية نسجل ثلاث ملاحظات قبل الدخول فى موضوعنا :


الأولى

أننى أفضل استخدام مصطلح " الأهلى " ، لا " المدنى " لأن الأصل فى هذا المجتمع أنه ينشأ خارج السلطة الحاكمة ، بحيث يمثل " الأهالى " ، فى مقابل " الحكومة " التى تمثل النظام القائم ، لكننا اضطررنا إلى استخدام مصطلح " المجتمع المدنى " ، لا " الأهلى " مع الأسف اتساقا مع ما أصبح شائعا ومعروفا لدى كل الناس .


الثانية

أن مصطلح " المدنى " يستخدم فى مقابل " الدينى " عند كثيرين ، ومن هنا يقول البعض " بالدولة المدنية " فى مقابل " الدولة الدينية " ، فإذا كانت صفة المدنية يمكن أن تلصق بالدولة ، فكيف يجوز فى الوقت نفسه أن توصف بها منظمات وهيئات أخرى غير السلطة الحكومية ؟


الثالثة

أننا لا نقصد بوصف المجتمع المدنى بأنه " سراب " استنكارا للوجود من حيث ما ينبغى أن يكون ، وإنما نقصد الوجود الفعلى فى مجتمعاتنا العربية على وجه العموم ، وفى مقدمتها المجتمع المصرى على وجه الخصوص .

ووجود منظمات وهيئات مما اصطلح على وصفها بالمدنية هو مقوم من مقومات المجتمع الذى يوصف بالديمقراطية ، على اعتبار أنه يمثل جماهير الناس الحرة عندما تسعى إلى ممارسة أنشطة مختلفة بعيدا عن السلطة الحاكمة ،وفق أهداف ومسارات وفلسفة تتبناها جماهير ،وجماعات ضمن عموم المجتمع ،وبذلك فهى تعبر عما اصطلح على تسميته " بالمشاركة الشعبية " .

المثير للدهشة حقا ، هو أن جهات تنتمى إلى السلطة الحاكمة ، أو متصلة بها اتصالا وثيقا ، كثيرا ما تصرخ مطالبة بضرورة " المشاركة المجتمعية " ، خاصة وأن الحكومة كثيرا ما تجد نفسها عاجزة أو شبه عاجزة فى مواجهة كم يصعب حصره من المشكلات ، وأنه لا يصح أن نتصور إمكان أن تقوم الحكومة بكل شئ ،وضرورة أن يكون " للشعب " دور أساسى فالمشكلات مشكلاته ، والخير المنشود هو له ،ويرفع المثل الشعبى القائل " القفة التى لها ودنين يشيلوها اثنين " !

لكن ، تأملا فى واقع حركة المنظمات التى توصف بمنظمات المجتمع المدنى ، يؤكد لك بما لا يدع مجالا للشك أن الدولة لا تُسهل حركة هذه المنظات ، بل كثيرا ما تعمد إلى عرقلتها ، وربما محاربتها ، إن لم يكن مباشرة ، فمن وراء ستار .

ولننظر على سبيل المثال إلى واقع الأحزاب فى مصر ، حيث مفروض أن تعبر عن مبدأ ديمقراطى يقول بضرورة " التعددية " ، فضلا عن المشاركة الشعبية فى المجال السياسى ، فماذا تجد ؟

أشهر ما هو معروف هو أن حزب الحكومة هو الذى يقرر إذا كان من الممكن أن يٌُجاز هذا الحزب أو ذاك ، وهذا مشهور وكتبنا وكتب غيرنا مئات المقالات والبحوث والدراسات تنديدا بمثل هذا النظام ، حيث تكون النتيجة أن يسمحوا فقط بظهور حزب ضعيف ، لا جماهير له ، حيث لا يشكل خطرا فى المنافسة السياسية ، فضلا عن إمكان تخويفه وتسييسه عند اللزوم ، بينما جرت العادة أن يحدث العكس بالنسبة لحزب يتوقعون له شعبية وجماهير كثيرة ، فدائما ما يتم رفضه ، لأنه يمكن أن يشكل خطرا على حزب الحكومة ، فضلا عن أنه عادة مما يصعب تسيسه أو تخويفه .

ولعل الرفض المستمر لوجود حزب الوسط من أبرز الأمثلة ،وكذلك " حزب الكرامة ".

ومما يثير السخرية حقا ، أن الحزب ، على وجه العموم ،بحكم فلسفة تكوينه ووجوده ، هو تنظيم " لجماهير " ، لكن الواقع العملى لا يسمح بهذا ، فالحزب يكون بحاجة دائما إلى الالتحام بهذه الجماهير ،والسعى إلى اجتذاب أعداد جديدة دائما ،مما يقتضى عقد مؤتمرات جماهيرية ، والذهاب إلى الجماهير حيث تكون . لكن مصر تخضع لقانون فضيحة اسمه قانون الطوارئ الذى يمنع كل هذا ، منذ عام 1981 ، أى 29 عاما !! بحيث يظل نشاط الحزب محصورا فى مقره فقط ،ومن ثم فكأن الحزب المسموح به هو رأس بغير جسم ، أو مبنى بغير قاعدة ، إذا أمكن هذا أن نتصوره خيالا .

ولعل أشهر الذرائع التى تستند إليها اللجنة الخاصة بالموافقة أو عدم الموافقة على ظهور حزب جديد ألا يكرر الحزب المقترح برامجه مع أحزاب قائمة ،وهو شرط " مائع " ، ومطاط ، يتيح الفرصة للتفسيرات البيزنطية أن تطل برأسها عند اللزوم ، عندما لا تتوافر الرغبة الحكومية فى وجود الحزب المقترح .

وفى الوقت نفسه ، فالحق أننا لا نرى بأسا فى وجود أكثر من حزب ينتمى إلى توجه بعينه ، فالناس تختلف فى الرؤى والتفسير والأساليب والاجتهادات ، لكنها يمكن أن تتحد تجاه فلسفة عامة ، وتوجه كلى ، بل من المعتاد أن نرى فى كثير من الأحزاب ، وخاصة الكبرى " أجنحة " متعددة ، كل منها يعبر عن رؤية مختلفة عن الأجنحة الأخرى .

ولعل القارئ يذكر أن هناك حزبا مجمدا اسمه " حزب العمل " ، منذ عام 2000 ، على الرغم من صدور 13 حكما لصالحه تمتنع الحكومة عن تنفيذ أى منها .

وإذا أمكن لحزب أن يفلت ،وتأكد تمدره ، فلابد من تفجيره من الداخل ، كما حدث بالنسبة لحزب الغد ، بغض النظر عن الموقف من مؤسسه أيمن نور ، الذى حصل الجناح المؤيد له على حكم بأنه هو الذى يمثل الحزب ، لكن هناك إصرارا على التغاضى عن هذا الحكم !

أما حال النقابات ، فقد تم تفصيل قانون بعينه منذ مطلع التسعينيات كى يشل حركة هذه النقابات ، بحجة أن بعض هذه النقابات أصبحت ساحة لنشاط حزبى أو جماعات تعمل بالسياسة من وراء ستار ،والمقصود طبعا هو جماعة الإخوان المسلمين بالدرجة الأولى، لأنها استطاعت أن تغزو كثيرا من النقابات ،ولعل نقابة المهندسين نموذج حى لزيف دعوة المطالبة بالمشاركة الشعبية وتشجيع تنظيمات المجتمع المدنى ،وقل مثل هذا أيضا بالنسبة لنقابتى الأطباء والصيادلة، أى أننا أمام أخطر ثلاث نقابات فى مصر .

لكن النظام لا يفكر أبدا بطريقة "علمية " ، وإنما يرتاح فقط للطريقة " الأمنية " ، فالطريقة العلمية تدفع صاحبها أن يتساءل عما يتيح الفرصة لهذه الجماعة أو تلك أن تغزوا هذه النقابة أو تلك ؟ إعادة النظر والتفكير فى الجزء السابق هو الذى يفسر الأمر ، فما دامت الأحزاب مسلسلة بالقيود فى التكوين والحركة ، فلابد لأصحاب الرأى السياسى المخالف أن يبحثوا عن مخرج آخر ،وتكون النقابات هى أحد البدائل ،ومن ثم فرفع القيود عن تكوين أحزاب جديدة ، سوف يفى النقابات من النشاط المدفوع بأغراض سياسية .

لكن الدولة لا تواجه الحقيقة وهى أن هناك حرصا مجنونا على السلطة بحيث لا يتم تداولها ،وفتح المجال لتكوين أحزاب جديدة قوية يمكن أن يسحب البساط من تحت أقدام حزب الدولة ،وبالتالى تصبح المناداة بأخطر منظمات المجتمع المدنى سرابا ، لا صلة له بالواقع والحقيقة !

وإذا كانت هناك نقابة استطاعت أن تنفك عن أسر " الحراسة " ، مثل نقابة المحامين ، لا تترك الدولة النقابة لأصحابها يختاروا من يريدون ، وإنما تجيش الجيوش المختلفة للتأثير فى نتائج الانتخابات .

ولعل انتخابات نقابة الصحفيين مثال واضح كذلك ، فالكثرة الغالبة من الصحفيين يعملون تحت مظلة الدولة من خلال ما يسمى بالمؤسسات القومية ،ومع ذلك ، فعندما استطاع واحد مثل ضياء رشوان أن يشكل تهديدا لمكرم محمد بحيث تتقرر إعادة الانتخابات بينهما ، هبت جيوش الدولة لمساندة مكرم ، الذى نحترمه ولا نملك ما نقوله ضده ، لكن أن تبادر الدولة إلى تقديم تسهيلات ومميزات مالية وسكنية له دون الآخر ، فهذا يعد تدخلا مؤسفا وتوجيها واضحا لا يتسق أبدا مع أبسط مبادئ الديمقراطية ، ويفرغ الانتخابات من حقيقتها .

ثم هناك " الجمعيات الأهلية " ،وهى الأضخم والأكثر عددا ، هى حقيقة قائمة ، إلى حد تجاوز عددها – كما سمعت – عن عشرين ألفا ، بحيث يمكن أن نتصور وجود مئات الألوف أعضاء فيها .

صحيح أن تكوين جمعية أهلية أمر يسير ، قياسا إلى النقابات والأحزاب ، لكن المشكلة هنا هى خضوع التكوين للموافقة الأمنية ،وياليت الجوانب الأمنية تقتصر على الانحرافات المالية والإدارية والانحرافات الجنائية ، أو التعاون مع جهات أجنبية معاد\ية ، فمثل هذا وذاك مما لابد أن ننصاع له ونرضى ، لكن كثيرا ما يكون من ضمن الدواعى الأمنية أن يكون العضو " مغايرا " لتوجهات النظام الحاكم ، فيخشون أن تكون الجمعية مجرد ستار يخفى أغراضا سياسية ،وهذه حجة لا تصمد للمناقشة ، فقانون الجمعيات يحظر النشاط السياسى ، وبالتالى فإذا ثبت وجوده ، فهناك إجراءات للمواجهة ، أما أن يتم الاعتراض على هذا وذاك بحجة أن له انتماءات سياسية توصف بالمشبوهة ، فهذا تفريغ لفلسفة الجهد الأهلى ،وإلا فهل خدمة الجماهير لابد أن تقتصر على من ترضى عنهم الدولة ؟ وهل المغاير سياسيا " عدو " يجب محاصرته من المنبع ؟

وهكذا ، مثلما نجد فى تكوين الأحزاب ، نجد النهج نفسه فى تكوين الجمعيات ، فجمعية لدفن الموتى ، لا تستغرق الموافقة عليها أياما ، بينما جمعية تكون ذات أهداف ثقافية أو اجتماعية بارزة ، تريد أن تحرك واقعا وتطوره ، فهناك ألف سؤال وسؤال وإثارة للشكوك ، بحيث ينتهى الأمر إلى الرفض أو التفشيل أو التعويق أو التطفيش.

بل إن اليد الأمنية طالت أندية أعضاء هيئات التدريس فى الجامعات المصرية ، حيث تم بذل الكثير من الجهد من أجل " شل " حركتها ،وأصبح معظمها مجرد " صورة " ، ولا يتولى أمر معظمها إلا أصحاب مواقع قيادية فى الجامعات ،فضلا عما يحدث أثناء الانتخابات من تدخلات وتحريض للقيادات الجامعية من أجل مصلحة فريق ضد فريق ،ويكون الفريق المطارد عادة ، هو من المغايرين لسياسة الحكومة ،ومن ثم تحولت هذه الأندية إلى امتداد للسلطة الجامعية الحكومية ، بحيث تقتصر على تقديم " خدمات " للأعضاء ، أما الهموم القومية العامة ، فلا مجال لها ، حيث يقال ، أن مجال ذلك هو الأحزاب ، لنعود مرة أخرى إلى الجزء الأول من المقال ونرفع التساؤل : وأين هى الأحزاب ؟ بل وأين هى النقابات التى يمكن أن تستوعب الاهتمام بالشأن القومى العام ؟!

وإذا كانت أجهزة الإعلام لا تذكر عادة عند الحديث عن منظمات المجتمع المدنى ، لكن لابد من الإشارة إليها ، حيث أنها ذراع أضخم وأكثر تأثيرا من كل التنظيمات الأخرى .

وهنا نجد أن القنوات الخاصة التى ظهرت منذ سنوات قليلة ، إذا كانت بالفعل خطوة إيجابية فى التحرر من رِبقة الإعلام الرسمى ، لكن نجد الحكومة ، لا تستطيع أن تتخلص من نزعتها نحو السيطرة ،وترفع فى سبيل ذلك ما يسمى " بالخط الأحمر " الذى أحيانا ما يكون قولة حق يراد بها باطل ،ويطول بنا الحديث لو حاولنا أن نشير إلى تدخل الدولة فى بعض الأحيان ، لكن يكفى أن نشير إلى برنامج حمدى قنديل الذى كان يذاع على قناة دريم منذ سنوات ،وكذلك ما كان من إلغاء إذاعة محاضرة لمحمد حسنين هيكل كان قد ألقاها بالجامعة الأمريكية ...وغير هذا وذاك من أمثلة متعددة .

وهناك صحف خاصة وحزبية يتم حرمان بعضها من جنة الإعلانات ،وخاصة الحكومية والتى تشكل الباب المهم فى قدرة الجريدة على تقديم خدمات صحفية أفضل ، واستقطاب كتاب أعظم ،وأجور أعلى ،والقدرة على الاستمرار بكفاءة متزايدة ، بل إن البعض من رجال الأعمال ، وربما بدون ضغط أو توجيه ، ينأون بأنفسهم عن الإعلان فى بعض الوسائط الخاصة ، إذا كانت درجة معارضتها ونقدها حادة بدرجة لا تطيقها الدولة .

إن حرية الحركة بالنسبة لمنظمات المجتمع المدنى ، ركن أساسى للديمقراطية مما ينبغى أن يكون ساحة كفاح " مدنى " كى تستقيم أموره ،ويصبح بالفعل " ذراعا " شعبية ، تشارك فى البناء ،وعينا ، تشارك فى المراقبة ،وضميرا " يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ".