شرح رسالة دعوتنا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
شرح رسالة دعوتنا


08-02-2006

مقدمة

شاهد شرح رسالة دعوتنا (عرض تقديمي)

تاريخ كتابة الرسالة: عام 1932م ومطلع 1933م

الروح العام المهيمنة على الرسالة: هي روح الإشفاق على الأمة وهي ذاهلة عن التكليف الذي أمرها الله به، وهو تكليف الشهادة ﴿وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (الحج: من الآية 78)، وما يستدعيه هذا التكليف الضخم من إقامة الدين حتى يتمثل في أمة والإشفاق عليها أن ينزل بها عقاب الله عندما لا تقوم بهذا التكليف الضخم، ولذلك عرضه الإمام البنا بعاطفة صادقة جياشة أسالت المدامع وأهاجت المشاعر وأقضت المضاجع، وروح الاستنفار التي تعني روح الجد بعيدًا عن التلكؤ والكسلِ والاستهتار.

العناصر الأساسية للرسالة

مقدمة تشمل:

1. الدعوة- آنذاك- في الداخل والخارج.

2. خصوصية المنشأ والمستوى والتكليف.

3. الإمام البنا ومنهجه في تصنيف الناس أمام الدعوة.

4. حقيقة دعوتنا.

5. متطلبات دعوتنا.

شروط إنجاز هذا التكليف الضخم (إقامة الدين حتى يتمثل في أمة):

أولاً: أداء الواجب دون النظر إلى نيل الحقوق.

ثانيًا: باعث الإرادة (بروز المثل الأعلى).

ثالثًا: تكليف البلاغ وحدوده.

رابعًا: المثل الأعلى وأثره الصالح في العمران.

خامسًا: وحدة روح الأمة ووحدة إرادتها.

سادسًا: وجود جماعة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر حتى وإن وجدت الدولة الإسلامية.

هذه الرسالة كتبت في ظروفٍ تاريخيةٍ حاسمة في حياةِ الدعوة، والذين كتبوا عن تاريخِ الدعوة قالوا إنها مرَّت بأربع مراحل:

فترة النشأة من 1928 إلى 1932 ميلادية.

ثم انتقالها إلى القاهرة عام 1932م وهي فترة اعلان الدعاية والتفاف الجماهير والأنصار حولها حتى عام 1939م مع بداية الحرب العالمية الثانية.

ثم كانت فترة التكوين الداخلي أو الإداري والتربوي من عام 1939م حتى عام 1945م.

ثم فترة مواجهة الأحداث الكبرى في وادي النيل (قضية الجلاء والمفاوضات مع الإنجليز)، وهي عام 1945م، حتى استشهاد الإمام البنا عام 1949م تلك الفترة التي كان فيها بعض التجاوزات، التي تذكر دائمًا وتلصق، رغم أنَّ الإخوان أعلنوا براءتهم منها كمقتل الخازندار ومقتل النقراشي(1) (رئيس الوزراء)، وقد ذكر الإمام البنا في مقتل الخازندار عندما تكلم عن هذه الأحداث، أنها أحداث فردية ونشأت عن تصورات ومفاهيم وأفعال فردية، لا تمت إلى الجماعة بصلةٍ في بيانه الحاسم "ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين"، وقال عن مقتل النقراشي(2) "فإنَّ الجماعةَ قد تمَّ حلها(3) فلا تُحاسب على شيء وهي ليست مسئولة عنه بحُكمِ القانون".

كُتبت هذه الرسالة في تلك الفترة الحرجة وهو عام 1932م أو مطلع 1933م، كما ذكر في مذكراتِ الدعوة والداعية وهي فترة الانتقال إلى القاهرة والتي كان المقصد منها هو عموم الدعاية وتكوين الأنصار، واتسمت هذه الفترة أنها كان الهدف منها أمرين:

أولاً: عموم الدعاية وتكوين الأنصار.

ثانيًا: توثيق صلة الجماعة بالمجتمع المصري وبقضاياه عن طريق إيضاح الأهداف والمقاصد وعن طريق ثني قضاياه ومشاكله الكبرى، وأما عن الهدف الأول كما ذكرنا وهو عموم الدعاية وتكوين الأنصار:

فقد انتشرت الدعوة في أوساط جديدة كما كان يرجو لها الإمام البنا (رحمه الله) ويُخطط، وذلك بعد انتقاله إلى القاهرة في عام 1932م حققت الدعوة بعض مقاصدها وهي: انتشارها بين فئات جديدة أهمها الشباب، وعلى نحوٍ خاصٍّ شباب الجامعات، فقد أرسل الشيخ طنطاوي جوهري رسالةً إلى الأستاذ البنا- وقد كان خارج مصر- بعنوان (فتح من الله ونصر قريب) يُخبره فيها دخول أربعة من شباب الجامعات في دعوة الإخوان وهم: الدكتور/ إبراهيم أبو النجا والأستاذ/ طاهر الخشاب، والأستاذ محمد عبد الحميد أحمد والأستاذ محمود أبو السعود، وقد كانت الجماعة خلال فترة التكوين والنشأة من 1928م إلى 1932م وبخاصة الفترة التي كان فيها الإمام البنا في الإسماعيلية، كانت مقتصرة على مجموعةٍ من البسطاءِ في مجالاتِ العمل، أو متوسطي التعليم، الذين شكلوا الرعيل الأول من الجماعة وهم الستة الذين أشار إليهم الإمام البنا، وكان هناك مجموعة معهم ولكنهم قليلون من علماءِ الأزهر مثل الشيخ حامد عسكرية والشيخ محمد فرغلي.

فكان دخول أربعة من شباب الجامعة إلى هذه الجماعة وانضمامهم إليها نصرًا من الله وفتحًا كما عبَّر عن ذلك الشيخ طنطاوي جوهري الذي كان يُلقَّب بحكيمِ الإسلام، وهو صاحب تفسير الجواهر في القرآن، ومعنى ذلك أنَّ الدعوةَ بدأت تغزو أماكن جديدة منها طلاب الجامعة، وكان ذلك من تقديرِ الله لها في هذه المرحلة، وكان ذلك في الداخل.

أما في الخارج:

فقد وقع عدد من أعداد مجلة الإخوان في يد الأخ الأستاذ عزت راجح المفتش بالمعارف آنذاك، وقد كان يومها طالبًا في جامعةِ السوربون بفرنسا، فعرض (عقيدتنا) على أستاذه "أرنست رينان" وهو حفيد رينان الكبير، فوصفها بكلماتٍ رقيقةٍ بليغة، وأرسل الدكتور عزت لأخيه الأستاذ أسعد راجح عضو المركز العام للإخوان بالقاهرة خطابًا بالحادث، فنشرته مجلة الإخوان ضمن مقال افتتاحي نصه: عقيدة الإخوان المسلمين في رأي الأستاذ (أرنست رينان) أستاذ الدراسات العربية والإسلامية بالسوربون بباريس.

أخي العزيز:

وبعد: فبينما كنتُ يومًا بمسجد بباريس إذ وُجِدت بين الجرائد والمجلات المعروضة هناك جريدة "الإخوان المسلمين" التي طالما حدثتني عنها وعن رجالها وأنا بمصر، وتحت عنوان: "عقيدتنا" قرأت عقائد وتعهدات صادفت في نفسي إعجابًا وتقديرًا، وبعد دراسة عامة لهذه المبادئ وجدتها جديرة بالعرض بعد ترجمتها على الأستاذ "أرنست رينان" أستاذ الدراسات العربية والإسلامية بجامعة السوربون وأخذ رأيه فيها، وأخذها الأستاذ وأعادها بعد أيام، وقد كتب عليها ما ترجمته:

"إن هذه الكلمات عميقة المبحث والقصد وهي لا شك مستمدة من المنهج الذي رسمه محمد- صلى الله عليه وسلم- ونجح في تنفيذه فأسس بها أمةً ودولةً ودينًا، وقد زيد فيها بما يُناسب روح العصر مع التقيد بروح الإسلام.

وفي عقيدتي أنه لا نجاحَ للمسلمين اليوم إلاَّ باتباع نفس السبيل التي سلكها محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، غير أنَّ تحقيقَ هذا على الحالة التي عليها المسلمون اليوم بعيد، وليس معنى هذا القنوط والقعود عن العمل".

وقد علَّق الإمام البنا على رسالة رينان الفيلسوف بقوله:

يمكنك أن تخرج من هذا الرأي الدقيق الذي ألقي من وراء البحار في عقيدة الإخوان المسلمين بعدة نقاط:

فأولاً: عقيدة الإخوان المسلمين مستمدة من نفس المنهج الذي وضعه سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم-، ومعنى ذلك أن الأستاذ "أرنست رينان" يرى أن عقيدة الإخوان المسلمين إسلامية بحتة لم تخرج عن الإسلام قيد شعرة، ولقد صدق، فما من كلمةٍ واحدةٍ في عقيدةِ الإخوان المسلمين إلا وأساسها الكتاب والسنة وروح الإسلام الصحيح.

ثانيًا: هذا المنهج قد استطاع به سيدنا محمد صلى الله وسلم "أن يكوِّن دينًا وأمةً ودولةً".

ثالثًا: لا نجاحَ للمسلمين اليوم إلا باتباع نفس السبيل التي سلكها سيدنا- محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه-، ذلك رأي الفيلسوف "رينان"، وهذا ما أكده الرسول- صلى الله عليه وسلم- من قبل وأكدته الحوادث.

إنَّ عدةَ الشرق خلق وإيمان، فإذا فقدهما فقدَ كل شيء، وإذا عاد إليهما عاد إليه كل شيء، واندحرت أمام الخلق المتين وأمام الإيمان واليقين قوة الظالمين.

رابعًا: تحقيق هذا المنهج على الحالة التي عليها المسلمون اليوم: يرى الأستاذ رينان أن تحقيق ذلك بعيدٌ لأنه يعلم الهوة السحيقة التي أوجدتها الحوادث السياسية والاجتماعية بين المسلمين ودينهم، ويعلم الوسائل الذاتية الفعَّالة التي استخدمها خصوم الإسلام في إبعاد المسلمين عن الإسلام في العصر الحديث.. ويعلم أنَّ المسلمين أنفسهم صاروا الآن حربًا على دينهم يكسرون سيفهم بيدهم ويسلمون المدية لمَن يريد أن يذبحهم بها باختيارهم، ويتصدعون بالهدم مع مَن يهدمون دينهم وهو معقد أنظمتهم وأساس قوتهم.

والإخوان المسلمون يعتقدون هذا ويرونه كما يراه الأستاذ وما تصوروا حين هبوا للعمل أنهم سيسيرون في سبيل هينة لينة، بل علموا ما ينتظرهم من عقبات فأعدوا لذلك أنفسهم وأموالهم وإيمانهم وعقيدتهم، وانتظروا وعد الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية 40).

خامسًا: ليس معنى هذا القعود عن العمل "أجل- أجل" فلن تزيدنا العقبات إلا همة ولن تزيدنا المصاعب إلاَّ مضيًّا في سبيل الجهاد، ونحن نقرأ قول الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ﴾ (يوسف: من الآية 78).

ولكم كان الأستاذ "رينان" دقيقًا حين رأي أنَّ عقيدة الإخوان المسلمين (عميقة المبحث والمقصد)، وحين يرى أنها وإن زيد فيها ما يناسب روح العصر فهي مقيدة بروح الإسلام، وهكذا الإسلام تنتظم روحه العصور أجمع وتشمل الدنيا وما فيها، وهكذا الإخوان المسلمون قد استطاعوا أن يستمدوا من روح الإسلام ما يوافق روح العصر ويصور عقيدتهم للناس كاملة، يبدو فيها الروحان جميعهما ولكم نتمنى أن يكون بيننا وفينا مَن ينظر إلى عقيدتنا تلك النظرة الفاحصة ليخرج بعدها بمثل هذا الحكم السديد.. انتهى كلام الإمام البنا في تعليقه على ما كتبه أرنست رينان.

نعود مرةً أخرى إلى القول:إنَّ هذه هي الظروف التاريخية التي كُتبت فيها هذه الرسالة؛ حيث إنَّ أوَّلَ ما كتبه رحمه الله- أول ما نزل إلى القاهرة كان: رسالة دعوتنا، ونحو النور، وإلى أي شيء ندعو الناس، وإلى الشباب ثم رسالة المنهج (التعاليم) فيما بعد.

الروح العامة للرسالة

هناك روح عامة- ولا شك- تشد إليها هذه الرسالة مستمدة من خصوصية هذه الأمة التي هي:

1- خصوصية المنشأ.

2- خصوصية المستوى.

3- خصوصية التكليف.

1- خصوصية المنشأ:

يشير الأستاذ محمد قطب في كتابه: (رؤية إسلامية في أحوال العالم المعاصر) إلى أنَّ أول ما كتبه الرسول- صلى الله عليه وسلم- عندما وصل إلى المدينة أنَّ المسلمين والمؤمنين (أمة من دون الناس) بمعنى خصوصيتها في المنشأ وهو أنها ربانية ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾ (الأنعام) فهي خصوصية المنشأ لأنها ربانية المنشأ.

2- خصوصية المستوى:

﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110) خيرية المستوى وهي خصوصية لهذه الأمة تجعلها بحقٍّ أمة من دون الناس، إلى هذا المعنى العميق يُشير أ. محمد قطب.

3- خصوصية التكليف:

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: من الآية 143) تكليف الشهادة على النَّاس، تكليف الوصاية على الناس، تكليف أستاذية العالم.

وهذه الشهادة تستدعي الحضور، وتستدعي الشهود، حتى تؤدى على وجهها الصحيح، الحضور والشهود زمانًا ومكانًا، لتحكم على أكبر كَمٍّ- كما يقول أ. محمد قطب- من قضايا البشر وأحداثه زمانًا ومكانًا، فهي تحتاج إلى أن تختزل، وإلى أن تُصنف، وإلى أن تمسح تلك القضايا والأحداث، حتى تستطيع أن تؤدي الشهادة على وجهها، وهذا يعني أنها وظيفة أمة، أو وظيفة جماعية، وليست وظيفة فردية.

وتكليف الشهادة تضطلع به الأمة، ولا يقوى عليه الفرد؛ لأن الفرد عمره محدود وجهده قاصر، أما الأمة فهي تمتد في هذا العمق وفي هذا الاتساع زمانًا ومكانًا، وهذا يُعطي خصوصية الأمة في مكانها، فهي تشمل مساحة واسعة من الأرض، وفي زمانها، فهي تمتد في عمق الزمان حتى تشهد على قضايا الناس وعلى أحداثهم، وتستطيع أن تُؤدي هذه الشهادة، وما يتفق مع وظيفة الإنسان ووظيفة خلقه وتكوينه في إقامة العدل وحقن الدماء، مناقضًا لدعوة الملائكة ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ (البقرة: من الآية 30) (جودت سعيد، العمل قدرة وإرادة).

وكما يقول (د. ماجد كيلاني، الأمة الإسلامية): ولقد سبق اختيار إبراهيم- عليه السلام- للبدء بالإعداد لإخراج الأمة المسلمة اختبارًا لقدرته على القيامِ بهذه المهمة ومدى استعداده لتقديم تكاليفها ومتطلباتها، وإلى هذا يشير القرآن الكريم: ﴿وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)﴾ (البقرة).

مضى إبراهيم- عليه السلام- مصحوبًا بأبنائه وأسرته في التمهيد لإخراج الأمة المسلمة، فابتدأ بتحديد موطنها ومؤسساتها؛ حيث اختار لها موطنًا منطقة وسطًا تقع في ملتقى المواصلات العالمية وتفاعل الحضارات وهي منطقة تمتد من بلاد الشام عبر دلتا مصر والحجاز.

كذلك أقام مؤسستين تربويتين: الأولى: للتربية والتزكية وهي الكعبة والمسجد الحرام.

الثانية: للدعوة والنشر وهي المسجد الأقصى، ثم انقسمت الأسرة إلى جوار المسجدين ليقوم كل فريق بالإشراف على المهمة الموكلة إليه في منطقته وإعداد الأجواء لفكرة "الأمة" الجديدة، وإلى هذا الإعداد الإبراهيمي كان الإشارة القرآنية التالية: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)﴾ (البقرة).

ثم كانت الانطلاقة الأولى لإخراج "أمة الرسالة" برسالة موسى التي جرى التمهيد لها برحيلِ يوسف وأسرة يعقوب إلى مصر وإشاعة جو من الثقافة الملائمة للأمة التي يُراد إخراجها، وكان الخروج- أو الهجرة- بالمؤمنين بالرسالة الجديدة مرورًا بشمال منطقة المسجد الحرام والتوجه إلى منطقة المسجد الأقصى لتطهير أرض "أمة الرسالة" التي رسم حدودها إبراهيم في هذه المنطقة الشاسعة من الأرض، ولبدء الدعوة والنشر فيها بدءًا من إبراهيم وبنيه موسى وعيسى عليهما السلام من فرع يعقوب عليه السلام، ثم محمد صلى الله عليه وسلم من فرع إسماعيل عليه السلام.

ويذكر الدكتور حسين مؤنس في كتابه (أصول الحكم في الإسلام) أنَّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- أشار إلى هذا المعنى (في غزوة تبوك) بعد أن تراجع الروم- وأمسك بحجر وألقى به، وقال: "هذا شمالنا" وألقى بحجر آخر ناحية الجنوب، وقال: "هذا يمننا"، معناه اتساع الرقعة الخاصة بالأمة الإسلامية في هذا الامتداد الضخم الذي سوف تسيح فيه الأمة الإسلامية، وقد حدث ذلك، لما غزا المسلمون الشام بعد ذلك.

فقه أبو بكر الصديق هذا المعنى حين حذَّر جيوش الفتح الإسلامي التي وجهها إلى منطقة ما حول الأقصى من الانحرافِ عن أهداف الرسالة الإسلامية فقال: "إنكم تقدمون الشام وهي أرض شبيعة (مشبعة بالخيرات)، وإنَّ الله ممكنكم حتى تتخذوا فيها مساجد فلا يعلم أنكم إنما تأتونها تلهيًّا، وإياكم والأشر (البطر)".

وقصد من ذلك ألا يجعلوها مكانًا للتلهي والكِبْر، كما فعل اليهود والنصارى وغفلوا عن الوظيفةِ الأساسية للمقيمين حول المسجد الأقصى وانحرفوا لاستغلال بركات المنطقة الجغرافية والطبيعية في الترف والشهوات والمفاسد والصراعات، وبذلك استحقوا أنَّ يبعث الله عليهم عبادًا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار ودمروا مؤسسات اللهو الدنيوي التي ألهتهم عن وظيفة الدعوة وتبليغ الرسالة. (كما يقول د. ماجد كيلاني في كتاب "الأمة المسلمة").

هذا التكليف بهذه المهمة الضخمة لا شك أنه يحمل على الإشفاق ويبعث على الاستنفار وهي الروح التي تظل الرسالة.

روح الإشفاق والعاطفة الصادقة الجياشة التي عندما تكلم عنها الأستاذ الإمام البنا أسالت المدامع وأهاجت المشاعر، وأقضت المضاجع، روح الإشفاق على الأمة وهي ذاهلة عن هذا التكليف، والإشفاق عليها أن ينزل بها عقاب الله عندما لا تقوم بهذا التكليف، ويستبدل بها غيرها.

روح الإشفاق لأنه تكليف ضخم، إنه تكليف الشهادة، تكليف الحضور، تكليف الشهود والحكم على قضايا الناس وأحداثهم على هذا النحو امتدادًا في الزمان واتساعًا في المكان- ولا شك أنه تكليفٌ يحمل على الإشفاقِ ويحمل على تلك العاطفة الصادقة الجياشة والمشاعر النبيلة التي صدَّر بها الأستاذ الإمام البنا هذه الرسالة يقول: "نحب أن يعلم قومنا- وكل المسلمين قومنا- أنهم أحب إلينا من أنفسنا، وأنه حبيب إلى هذه النفوس أن تذهب فداءً لعزتهم إن كان فيها الفداء، وأن تزهق ثمنًا لمجدهم وكرامتهم ودينهم وآمالهم إن كان فيها الغناء، وما أوقفنا هذا الموقف منهم إلا هذه العاطفة التي استبدت بقلوبنا وملكت علينا مشاعرنا، فأقضت مضاجعنا، وأسالت مدامعنا.

وإنه لعزيزٌ علينا جد عزيز أن نرى ما يُحيط بقومنا ثم نستسلم للذل أو نرضى بالهوان أو نستكين لليأس، فنحن نعمل للناس في سبيل الله أكثر مما نعمل لأنفسنا، فنحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب، ولن نكون عليكم يوما من الأيام" (رسالة دعوتنا).

وروح الإشفاق هذه تواكبها ولا شك روح الاستنفار، روح الاستنفار التام والكامل التي تعني روح الجد، والبعد عن الميوعة والاستهتار والتلكؤ، والبعد عن رُوح الجد، وأعداؤنا جادون وهم يحيكون حولنا المخططات والمؤامرات.

في الوقت التي تُحاك فيه المؤامرات، حتى يهدد كياننا الديني- كما ذكر الأستاذ الإمام البنا- بالإلحاد والإباحية، وكياننا الدنيوي بغلبة الأجنبي على خيراتِ البلاد نجد هذه الروح من الميوعة والاستهتار.

وهذه الروح مضارها أكثر من نفعها- كما يقول الإمام البنا- لأنها قد تُسيء إلى الإسلام، وهو ذلك الشعور الفياض الذي يملأ هذه النفوس، نفوس أمتنا الإسلامية، ولكن دون وعي دقيق، دون وعي بكيفية خدمة هذا الشعور من أجل خدمة الإسلام، فهو شعور لا يأخذ حقه من الخدمة ولا من العناية، لا يأخذ حقه من خلال الوعي الدقيق بحيث يصبح إيمانًا منتجًا، وتصبح إرادة قوية على فعل الخير.

منهج الإمام البنا في تصنيف الناس أمام الدعوة

الإمام الشهيد حسن البنا وهو يخطب فى أحد الؤتمرات

ولذلك وهو يتكلم عن أصناف الناس يتناولهم ونظره على أوضاع الأمة، بعينٍ لمَّاحة ونفس آسية حزينة، بعيدًا عن أن يتكلم في عقائد الناس، أو يتناول إيمانهم، وكما يقول ابن تيمية رحمه الله: إنَّ من ممادح أهل العلم أنهم يخطِّئون ولا يكفّرون، وأما المبتدعة فإنهم يكفْرون ويفجرون.. وهذا المعنى ملحوظ جدًّا في تقسيم الأستاذ الإمام البنا للناس من حوله، هو لا يتناول أبدًا جوانب الإيمان ولا العقائد، وعلى العكس فهو يثبت لهم الإسلام والإيمان والإخلاص، إلا أنه يعلن أنه هكذا كامن في شعورهم أو مستكن في شعورهم لكنهم لا يُدركون ولا يعون كيف يخدمونه، أو كيف يعملون له..

وهذا أمر خطير لأنه يُصنفهم في مربع الخصوم وهم لا يشعرون، والتعلل بأنهم لا يشعرون بذلك إنما هو معنى من معاني الميوعة والاستهتار، وهذا أمر خطير وصف الله به فئة من الناس ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)﴾ (البقرة) عدم الشعور بأن الإنسان لا يُدرك ماذا يفعل، وقد تكلَّم الإمام البنا عن هذا المعنى فقال: تجلس مع أحد الناس وتتحدث معه عن الإسلام وعن قضايانا، فيثور معك وتهتاج مشاعره وبعد أن تنتهي ويعاهدك على العمل لنصرةِ هذا الدين، وبعد أن ينتهي الكلام، فإذا به ينسى تمامًا وبسرعة كل ما تكلَّم به، وإذا به في ساعتين اثنتين متجاورتين من ساعات النهار ملحدًا مع الملحدين، وعابدًا مع العابدين، وهذه صورة من صور الاستهتار وصورة من صور الميوعة والتلكؤ، بعيدًا عن رُوح الجد بما تعنيه من العبوس والخشونة والرزانة والوقار.

يقول الإمام البنا: والفرق بيننا وبين قومنا بعد اتفاقنا في الإيمان أن إيمانهم مخدرٌ نائمٌ في نفوسهم لا يريدون أن ينزلوا على حكمه ولا أن يعملوا بمقتضاه، على حين أنه إيمان ملتهب مشتعل قوي يقظ في نفوس الإخوان المسلمين. ظاهرة نفسية عجيبة نلمسها ويلمسها غيرنا في نفوسنا نحن الشرقيين، أن نُؤمن بالفكرة إيمانًا يُخيَّل للناس حين نتحدث إليهم عنها أنها ستحملنا على نسف الجبال وبذل النفس والمال واحتمال المصاعب ومقارعة الخطوب حتى ننتصر بها أو تنتصر بنا، حتى إذا هدأت ثائرة الكلام وانفض نظام الجمع نسي كل إيمانه وعقل فكرته، فهو لا يُفكر في العملِ لها ولا يحدث نفسه بأن يُجاهد أضعف الجهاد في سبيلها، بل إنه قد يبالغ في هذه الغفلة، وهذا النسيان حتى يعمل على ضدها وهو يشعر أو لا يشعر؟

أو لست تضحك عجبًا حين ترى رجلاً من رجال الفكر والعمل والثقافة في ساعتين اثنتين متجاورتين من ساعاتِ النهار ملحدًا مع الملحدين وعابدًا مع العابدين.

وعلى الرغم مما وجده في الناسِ من فقدان الإيمان لطابعه الفعال، وأنه ليست له أي مظاهر تدل عليه، مع ذلك نجد الإمام البنا لا يصف الناس بأنهم منافقون، فيقول: إنك تجده عابدًا مع العابدين وملحدًا مع الملحدين في ساعتين متجاورتين.

ثم يقول في مهمتنا:

"هذا الخور أو النسيان أو الغفلة أو قل فيه ما شئت هو الذي جعلنا نحاول أن نوقظ "مبدأنا" في نفوس قومنا".

وهذا يدل على أن الإمام كان يعرف الوسط الذي يعيش فيه ويضع يده على أدوائه وعلله، وأهم ما فيه هذا المناخ العام من الميوعة ومن التلكؤ والاستهتار، وكما قال الشيخ الغزالي: أنَّ الإمام البنا بدأ عمله من الصفر، فشرع يعمل في صمتٍ ودون ضجيج، يحيي الإسلام المستكن في النفوس، ويطلقه للعمل والبناء.

ولذلك عاب على الناس هذه المواقف من الميوعة والاستهتار ودعا الناس إلى أن يكون موقفهم منا واحدًا من أربعة، ليعرف كل واحد لماذا هو قريب منا أو معنا مؤمن بفكرتنا؟ أو لماذا هو بعيد عنا نافر منا؟ فالمطلوب إيجاد هذا الوعي واليقظة في تحديد موقفه لأنَّ عدم تحديد ذلك وتركه إلى الميوعة والاستهتار أمر في غاية الخطورة ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)﴾ (البقرة).

إنه أمرٌ في غايةِ الخطورة، أن يبقى اللاشعور في الإنسانِ هو الميل أو النفور دون وعي أو علم، والإنسان في هذه الحالة يقوم بتصرفات دون أن يعرف لماذا هو يفعل ذلك أو يهمل ذلك؟ فالذي يميل لنا وهو لا يعلم حقيقة دعوتنا، وأنها مبرأة من الأغراض والمصالح ومن الأشخاص والمنافع، وأننا لا نتزيد بها وجاهةً ولا نطلب مالاً ولا نرجو من الناسِ أو نطلب منهم جزاءً ولا شكورًا، فالله غايتنا ورجاؤنا الجنة.

حقيقة دعوتنا

يقول الإمام البنا: "ونحب أن يعلم قومنا- وكل المسلمين قومنا- أن دعوتنا دعوة بريئة نزيهة، قد تسامت في نزاهتها حتى جاوزت المطامع الشخصية، واحتقرت المنافع المادية، وخلفت وراءها الأهواء والأغراض، ومضت قدمًا في الطريقِ التي رسمها الحق تبارك وتعالى للداعين إليه: ﴿قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين﴾ فلسنا نسأل الناس شيئًا، ولا نقتضيهم مالاً ولا نُطالبهم بأجر، ولا نتزيد وجاهةً، ولا نريد منهم جزاءً ولا شكورًا، إن أجرنا في ذلك إلا على الذي فطرنا.

فالذي يميل إلينا من غير وعي ولا علم لماذا هذا الميل؟ إنه في وقت الجد يبتعد عنا، لأنه كان يتخيل أنها دعوة تحقق الإفادة أو المنافع أو الأغراض، أو الولاء فيها للأشخاص والمصالح، والحقيقة غير ذلك، وكما عبر عن ذلك الإمام البنا عندما قال: فنحن مغمورون جاهًا فقراء مالاً، شأننا التضحية بما معنا وبذل ما في أيدينا، ورجاؤنا رضوان الله وهو نعم المولى ونعم النصير.

والذي ينفر منا أيضًا إنما ينفر عن غير وعي ولا علم، لماذا ينفر منا؟ إنه لم يتبين وجه الحق في دعوتنا ولا وجه الإخلاص في قولنا، ويتحدث عنا بلسان المتحرج المتشكك ولا يرانا إلا بمنظاره الأسود، ولذلك قال: إنَّ هؤلاء نقول لهم: كونوا على ما أنتم عليه ولكن أعرف لماذا تميل؟ ولماذا تنفر؟ لا نريد منك أكثر من ذلك، وهذا وحده سوف يُوقظ فيك روح الجد بلا شك، مثلما قال الأستاذ سيد: إنَّ الجاهليةَ الأولى كانت جاهلية رجولة وشرف، أما الجاهلية الآن فميوعة وتلكؤ واستهتار؛ ولذلك كان الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، فروح الجد هي التي تدفع الإنسان أن يعرف الحق ويدرك وجهه.

إنما المائع المتلكئ المستهتر لا يطلب الحق ولا يريده، مثلما قال الأستاذ الإمام البنا: "أما تلك الغفلة السادرة والخطرات اللاهية والقلوب الساهية والانصياع الأعمى واتباع كل ناعق فما هو من سبيل المؤمنين في شيء.

ولهذا كانت روح هذه الرسالة هي روح الإشفاق الذي يبعث على الاستنفار، بهذه العاطفة الجياشة القوية التي صدر عنها الإمام البنا، وهذا العمل يستدعي عملاً في العمق وعملاً في الاتساع كذلك.

متطلبات دعوتنا

أما العمل في العمق: فهو الإدراك والوعي والوضوح، الجلاء للمبدأ أو المثل الأعلى فلا بد أن يكون بارزًا واضحًا جليًّا بعيدًا عن الغموض.

وأما العمل في الاتساع: وهو فتح أعين هؤلاء الذين تعنيهم المشكلة، فتح أعينهم على ما يُحيط بهم من مخاطر كما قيل في تفسير قوله تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (الأنعام: من الآية 124)، ليس المهم فقط الرسالة ووضوحها وشرحها، وإنما المهم أيضًا المجتمع الذي سيرتبط بها وينهض بها أيضًا، وكما نهتم بشرح الفكرة ونجليها ونوضحها لا بد أن نهتم بتهيئةِ المجتمع لقبولها.

ولذلك عندما أنزل الله الرسالةَ الخاتمةَ على المجتمعِ العربي كان هو خير مجتمع (آنذاك) على وجهِ الأرض، مستعدًا لقبولها، بعيدًا عن الفلسفاتِ القديمة والعقائد الوثنية وسلطة الدولة أو الحكام، وبروز روح العربي الأنفة، وعدم تأثره بالوثنيات الرومانية ولا عقائد النصارى ولا اليهود، بعده عن ذلك في قلب الصحراء، يعيش هذه العيشة الخشنة الجادة، خلو ذهنه وصفاء نفسه، بعيدًا عن هذا الركام الجاهلي الذي كما ذكر الأستاذ سيد: سد على الناس منافذ التفكير، الإباحية والإلحاد من ناحية، والعقائد والفلسفات التي كانت متخمة بها عقولهم، هذه الأمور سدت على الناس طريق التفكير. أما العرب فكانوا مهيئين لقبول الرسالة بطبيعتهم وبعدهم عن ذلك كله.

ولذلك كما أنَّ الإمامَ البنا كان حريصًا على طرح الفكرة وإيضاحها وتجلياتها كان حريصًا أيضًا على أن يُهيئ المجتمع لاستقبالها بإشاعة روح الجد بعيدًا عن الميوعة والاستهتار، كل واحد يجب أن يعرف ماذا يعمل ولماذا يميل إلى هذا وينفر من ذاك. والإسلام دين البشرية جميعًا.

ولذلك قال عن المتردد: وإما شخص لم يستبن له وجه الحق، ولم يتعرَّف في قولنا معنى الإخلاص والفائدة، فهو متوقف متردد، فهذا نتركه لتردده ونوصيه بأن يتصل بنا عن كثب، ويقرأ عنا من بعيد أو من قريب، ويطالع كتاباتنا ويزور أنديتنا، ويتعرف إلى إخواننا، فسيطمئن بعد ذلك لنا إن شاء الله، وكذلك كان شأن المترددين من أتباع الرسل من قبل.

وعندما تكلَّم عن المتحامل... وهذا سنظل نحبه ونرجو فيئه إلينا واقتناعه بدعوتنا، وإنما شعارنا معه ما أرشدنا إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".

إنها إشاعة رُوح الجد والإحساس بالمسئولية، والبعد عن تلك الغفلة السادرة والخطرات اللاهية والانصياع الأعمى واتباع كل ناعق.

ولذلك كانت مهمة الدعاة تهيئة ضمير الأمة إزاء ما يُحيط بها من أخطار حتى تتهيأ لهذه الرسالة والقيام بتكاليفها باهظة الثمن.

فالرسالة على هذا النحو، باهظة التكاليف، تكليف بهذا الاتساع، وبهذا العمق والشهود والحضور على أحداث الناس وقضاياهم بهذه الصورة، إثبات جدارة الإنسان بوظيفته وتكريم الله له، في إقامةِ العدل وحقن الدماء يحتاج من الأمة بأن تستمع لهذه الرسالة لكي تستجيب وتتهيأ لها فكيف يكون ذلك؟.. يكون بتلقين ضمير الأمة إزاء ما يُحيط بها من أخطار.

وكما يقول الشيخ جودت سعيد في كتابه: العمل قدرة وإرادة "وهو علم له أخصائيون مجهزون مثقفون مدربون، يعدون ضمائر الأمة ويحيونها إزاء ما يحيط بها من أخطار".

هذه هي الروح التي تُهيمن على الرسالةِ والتي قصد إليها الأستاذ الإمام البوح بروح الإشفاق من ناحية والعاطفة الصادقة وروح الاستنفار التي تعني روح الجد بعيدًا عن التلكؤ والميوعة والاستهتار من ناحية أخرى، وتوضح هذه الرسالة ما كان عليه الإمام البنا من فقه؛ حيث إنه- كما يقول ابن تيمية رحمه الله- إنَّ من ممادح أهل العلم أنهم يخطّئون ولا يكفّرون.

شرائط إنجاز الأمة هذا التكليف الضخم

المعروف أنَّ كل نشاط بشري ليس بمعزل- حتى يتم- عن طرائق تشترط لإنجازه، وعن بواعث معللة لدوامه واستقراره، والشرائط أو الطرائق التي تُشترط لإنجاز هذا النشاط الضخم الذي يريده الأستاذ البنا من الأمة ويستنفرها معه هذا النشاط الضخم يحتاج إلى عدة ضوابط:

أولها: أداء الواجب دون النظر إلى نيل الحقوق

الشعور بأنها تقوم بواجبها قبل النظر في أنها تنال حقوقَها (فقه العاقبة)، فأداء الواجب قبل نيل الحقوق، وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "سيكون عليكم أمراء تنكرون منهم ما تعرفونه وسوف تكون أثرة، فقالوا: وما العمل يا رسول الله؟! قال: أدُّوا الذي عليكم (يعني الواجب) واسألوا الله الذي لكم" قوموا بواجبكم أولاً أي الأخذ على يد الظالمين وإن فاتتكم الفوائد، وإن فاتتكم مغانم الدنيا.

وكان من كلمات الإمام محمد عبده في تفسير قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران: 110) من أعمال هذه الأمة الضرب على أيدي الظالمين، فالظلم أنكر المنكر، والعدل أعرف المعروف، فالضرب على أيدي الظالمين من واجبات هذه الأمة ومن أعمالها، دون النظر إلى نَيلها الحقوق من منافع ومغانم وإفادة، مثلما ذكر الإمام البنا في رسالةٍ أخرى: فالعامل يعمل من أجل الواجب أولاً والأجر الأخروي ثانيًا والإفادة ثالثًا، فإن فعل سقط عنه إثم التقصير ونال ثواب الله ما في ذلك شكٌّ متى توفرت شروطه، وأما الإفادة فأمرُها إلى الله فقد تأتي فرصةٌ لم تكن في حسابه تجعل عمله يأتي بأبرك الثمرات.

فأداء الواجب دون النظر إلى نيل الحقوق من أهم شرائط العمل الداعية لإنجازه والبواعث المعلّلة لدوامه واستقراره.. إنها معادلة صعبة، معادلة الواجب قبل الحق، وقد يكون من علل سقوط العمل الإسلامي المعاصر- التي فسرها الإمام البنا- إصلاح الحكم قبل إصلاح المجتمع، وهذه نتيجة قبل الوسيلة، كما تكلم عن ذلك الإمام البنا تحت عنوان (في سبيل النهوض)؛ حيث يقول "إلا أن هناك زعماء لم تحنكهم التجارب، استعجلوا النتائج قبل الوسائل ورضوا من الغنيمة بالإياب، فهم الذين ضيَّعوا شعوبَهم وضيَّعوا مجهود أممهم وتضحياتها كذلك.

وكثيرًا ما تكلم الإمام البنا عن هذا المعنى بأننا نؤدي الواجب أولاً، أما الحق فقد نناله- وهي الإفادة- وقد لا ننالها، وهذا أمرٌ لا يتعارض إطلاقًا مع فقه العاقبة.. إذا تأخرت العواقب روجعت المفاهيم، ويشترط في نجاح الأعمال أيضًا النظر إلى العواقب، إذا تأخرت العواقب عن وقتها الذي قدَّره الله لها روجعت المفاهيم، فأي عمل لا بد أن يكون له عاقبة، وهذه العاقبة لا بد أن يكون لها تقديرٌ، فلما تتخلف عن وقتها الذي قدره الله لها فلا بد من مراجعة المفاهيم والوسائل، ولابد أن هناك خطأ ولا نخلع على هذا الخطأ لونًا من القداسة، وهذه نقيصة فيمن قبلنا عندما عاب الله عليهم ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28)﴾ (الأعراف) .

أي أنهم ربطوا الخطأ بإرادة الله، أي خلع القداسة على الخطأ لكي لا ننظر للعاقبة، وهذا أمر في منتهى الخطورة. أو الدعوة القديمة التي تقول السعي الصالح لا يحتم النجاح، "عليَّ أن أسعى وليس عليَّ إدراك النجاح" وهي مفاهيم خاطئة لأنها تُفقد العمل فقه العاقبة، وهذا أمر مهم جدًّا في أي عمل نقوم به.. ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: من الآية 105) وفي الحديث القدسي: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد شرًّا فلا يلومن إلا نفسه" بمعنى المراجعة التي تعني في المصطلح الشرعي "التوبة" وبغير ذلك فلن نندفع إلى الأمام أبدًا.

ونعود مرةً أخرى إلى ما كنا نقوله من أنَّ عدم النظر فيما لنا من حقوق، أي عدم النظر للفائدة، لا يعني أن نهدر فقه العاقبة والنظر إلى العواقب، لأنه قد لا أرى أنا العاقبة، وهذا منهج قرآني، وهذا ما خاطب به القرآن النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ (يونس: من الآية 46) لأنه من الممكن جدًّا أن ترى العاقبة أو لا تراها لكن يظل وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ (النور: من الآية 55)، وكان وعد هذا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، أما النبي فقد قال عزَّ وجل له: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ (يونس: من الآية 46)، فمن شرائط نجاح أي عمل تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة بعيدًا عن الأثرة والأنانية.

لأنك تؤدي واجبًا، وهذا الواجب قد ينتفع به غيرك، وهذا قمة الإيثار والتضحية والعمل لوجه الله، فإن لم يصل هو إلى النصر فسينتفع بجهوده غيره، وقد تكون العاقبة أو النجاح الحقيقي هو في ذلك الموت الذي يباركه الإسلام لما يورث من حسن العاقبة، عزة المسلم، رفعة المجتمع، كرامة الأمة.

ولذلك فان أ. سيد قطب - رحمه الله- عندما سألوه في التحقيق، ما الذي جعلك تقبل قيادة تنظيم وأنت ما زلت خارجًا من السجن وصحتك لا تسمح بذلك، وهذا أمر يُجرِّمه القانون، وأنت رجل مثقف ورجل كبير وهؤلاء شباب صغار في السن فقال: أنا أعرف أن ما قمت به جريمة في الشرائع الأرضية أستحقُ عليها الإعدام إلا أنه واجبي الديني بمفهومي للإسلام وتعاملي فيما بيني وبين ربي.

إحساسي بهذا التكليف، الإشفاق على نفسي وعلى غيري وعلى أمتي يدعوني أن أستنفر نفسي بهمةٍ تامةٍ كاملةٍ للقيام بهذا الواجب مهما كلفني ذلك، وأنا أعلم أنه سيكلفني حياتي.. هذه هي العاقبة التي لا يوجد غيرها، وأما ما بعد ذلك من نتائج فقد يستفيد بها غيري، لكن الآن هذا ما أملكه.

وتذكر أخته حميدة قطب في مذكراتها المنشورة (أحراش الليل) أن شمس بدران وصفوت الروبي طلبا منها أن تذهب إلى أخيها (أ. سيد) وتقول له إنهم سوف ينفِّذون فيك حكم الإعدام غدًا والكلام جد، وما عليك إلا أن تتبرأ أو تتنكَّر وتؤيد، وكانوا قد كتبوا لها ورقةً فيها هذا التنكُّر وهذا التأييد، ولو كتبت ذلك فسيكون الإفراج عنك فورًا، فكان رده: إنها كذبة كبرى لا يغتفرها التاريخ إن قلت ذلك (يعني التبرؤ أو التأييد) ثم قال لها:

وإن كان قَدَر الإله مماتي فلعل الله يصنع بموتي شيئًا رائعًا لهذا الدين (وقد كان) رحمه الله.

إنه نظر إلى العاقبة يستمتع بها غيرنا فإن لم تؤد به إلى فتح أدت بغيره أو كما قال الإمام البناء في نهاية رسالة (هل نحن قوم عمليون؟!): إن لم يؤده إلى الفتح فسيؤدي إليه مَنْ بعده بفضل مجهوده إن شاء الله ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُوْلُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: من الآية 105).

إنه فقه العاقبة الذي يدعونا أن ننظر إلى الواجب وننسى الحق الذي لنا "أدوا الذي عليكم واسألوا الله الذي لكم".. فهذا من الطرائق التي تشترط لإنجاز ذلك النشاط البشري أو البواعث المعللة لدوامة واستمراره.

ثانيا: باعث الإرادة (بروز المثل الأعلى)

أيضًا هناك باعث الإرادة، وأنها لا تكون ولا تقوى إلا ببروز المثل الأعلى(4) ووضوحه وجلائه والبرهان على صلاحيته للبقاء والخلود، وعلى أهليته وقدرته على إصلاح الناس؛ لأن الإرادة لا تقوى إلا إذا برز لها المثل الأعلى، النموذج الذي يحتذي به من ناحية، ولا يزداد الإيمان به إلا إذا أمكن تحقيقه في حياة الناس، وهذا ما كان الأستاذ البنا يؤكد عليه وذكَره في أول الرسالة وهو يتكلم عن مبدئنا الذي حكم التاريخ بصلاحيته للخلود وأهليته لإصلاح الوجود لأنه يسع الناس جميعًا.

أساليب البرهان ووسائل الدعاية في دعوتنا

والتدليل على ذلك يحتاج إلى إجادة أساليب البرهان، وهي تختلف- رغم وحدة الموضوع- في كل زمان بحسب الأشخاص والأزمان.. أساليب البرهان على صلاحية ذلك النموذج أو المثل الأعلى وأهليته لإصلاح الوجود حتى تتحقق الإرادة القوية وحتى يتحقق الإيمان القوي فليس كل من يحاول عرض المثل الأعلى قادرًا على ذلك؛ لأن الأمر يحتاج إلى صنعة.. إلى إتقان إلى تقنية.

لذلك عندما تكلم الأستاذ الإمام البنا في هذا الموضوع قال إن الدعوة بالأمس غيرها اليوم، والدعاة بالأمس غيرهم اليوم ووسائل الدعوة بالأمس غيرها اليوم، مما يعني أنه رغم وحدة الموضوع إلا أن أساليب البرهان تختلف باختلاف الأزمنة والأشخاص والدليل على ذلك، كما يقولون، عزير لما قال لله: ﴿أَنَّى يُحْيِيْ هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ فأماته الله وأمات حماره، وبعد ذلك بعثه وبعث حماره.

أما عندما طلب إبراهيم عليه السلام: قال ﴿رَبِّ أَرِنِيْ كَيْفَ تُحْيِيْ الْمَوْتَى﴾ فإن الله لم يُمته ولكن قال له ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ إذن تعددت أساليب البرهان باختلاف الزمان واختلاف الشخص، والإمكانات والقدرات والتجاوب والتهيؤ للسماع والاقتناع، وعندما قال كفار قريش للرسول- عليه الصلاة والسلام- في سورة يس: ﴿قالَ مَن يُحْيِيْ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيْمٌ﴾؟! قل لهم: إن الذي أنشأها أول مرة هو الذي يُحييها. مما يرسخ مفهوم تعدد أساليب البرهان باختلاف الأزمنة والأشخاص وهذا ما ذهب إليه وأيده الإمام الشهيد رحمه الله.

فاختلفت أساليب البرهان رغم وحدة الموضوع، وذلك باختلاف الزمان والأشخاص، واختلاف العقليات والثقافات، واختلاف القواعد والقضايا التي رسخت، وهلك من أجل ترسيخها الأنبياء وشقي المصلحون، ولذلك بمرورِ الوقت تصير هذه الأمور راسخة غير محتاجة أن نتعبَ في التدليلِ عليها كثيرًا.. ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ (يس).

يعلق على ذلك توماس كارليل في كتابه الأبطال، وهو يتحدث عن معجزةِ النبي- صلى الله عليه وسلم-، فلمَّا سأله كفار قريش عن أن يأتيهم بالمعجزات، قال لهم أنتم أنفسكم معجزات، إنكم لم تكونوا فكنتم.. ﴿ وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)﴾ (العنكبوت) فلم يستجب لهم، ودعاهم إلى أن يقرءوا القرآنَ الذي بين أيديهم ويُفكروا فيه.

إنه استنفار الهمم والروح الجادة، كما قال أ . سيد قطب: إنَّ هناك أسئلةً لا يسألها مؤمنٌ جادٌّ ولا كافر جاد، إنما يسألها المائعُ المستهتر، فالكافر الجاد لا يسألها لأنه لا يؤمن بها في أصل الاعتقاد، فلا يفكر فيها ولا يشغل باله بها، ولا يسألها مؤمن جاد لأنه مسلمٌ بها، ولذلك فالإمامُ البنا عندما تكلَّم عن المعاني وصنَّف النَّاس إلى أربعةِ أصنافٍ ليحيي فيهم روحَ الجد بما فيه من الرزانة والوقار، يأخذ الأمور والمشاكل والقضايا بالرزانة والوقار وبالخشونة والعبوس، والأمر يستدعي ذلك، تكليف العقل والاجتهاد، من النظر وإعادة النظر وطلب الحق من مظانه، حتى إن لم تدركه.

فروح الجد تشع في الرسالة من أولها رغم عاطفة الإشفاق القوية التي بدأ بها الأستاذ الإمام البنا، لكن هناك ضوابط تضبط هذه العواطف وتدعوه فعلاً إلى رُوحِ الاستنفار التام والكامل لإثبات جدارة الإنسان وأحقيته في التكريمِ من أجل إقامةِ العدل وحقن الدماء.

وهذا الذي جعل الإمام البنا رحمه الله يقف وقفةً طويلةً عند الحديثِ عن أساليب البرهان ووسائل الدعاية والإعلان، وهو جانب كما قال الإمام البنا: لهذا كان من واجب أهل الدعوة أن يحسنوا تلك الوسائل جميعًا حتى يأتي عملهم بثمرته المطلوبة".

"ووسائل الدعاية الآن غيرها بالأمس كذلك، فقد كانت دعاية الأمس كلمة تلقى في خطبة أو اجتماع أو كلمة تكتب في رسالة أو خطاب، أما الآن فنشرات ومجلات وجرائد ورسالات ومسارح (وخيالات) وحاك ومذياع، وقد ذلل كله سبل الوصول إلى قلوب الناس جميعهم، نساءً ورجالاً في بيوتهم ومتاجرهم ومصانعهم ومزارعهم".

والآن نعرف أنَّ سطوة الإعلان بلغت من الدرجة والقدرة أن تجعل الحقَّ باطلاً والباطل حقًّا، وليس فقط تغير ما بالنفس كما يقولون، إنما يزرعون اهتمامات جديدة، فأصبح لديهم قدرة على التلاعب بأعصاب الناس وانفعالاتهم، هذه العلوم والتقانات التي- كما يقول د. عمر عبيد في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر- واكبت حملات التنصير الشرسة، واستجدت لها علوم النفس وعلوم الاجتماع والدراسات الإنسانية، والبيولوجية وغيرها، وكذلك علوم الدعاية والإعلان، لكي تساعد على نشر تلك الدعوات التنصرية.

فمن حقنا نحن وأولى بنا أن نمتلك حواس العصر وصور الدعاية والإعلان الموجودة.

وكما ذكروا في جريدة الحياة قريبًا أنَّ امرأةً واحدةً استطاعت أن تجيش جيوش أوروبا وحلف الأطلنطي في ضرب كوسوفا، وهي مراسلة (CNN) المشهورة.

كانت تلبس القميص الواقي من الرصاص وتنقل الأخبار والصور من قلبِ المعركة، فاستطاعت أن تنقل صورًا حيَّة ومشاهد دامية، محزنة، عمَّا يفعله الصرب بأهل كوسوفا، إلى كل بيتٍ على امتداد أوروبا كلها، مما جعل حلف الأطلنطي- يخجل أمام نفسه ويجيش الجيوش من أجل ضرب الصرب كما حدث، وتمَّ وقف هذا الاعتداء-؛ لأنها أهاجت الرأي العام ولكن ذلك أخذ وقتًا طويلاً فتمَّ على مدار أربع سنوات متتالية، استنفرت فيها الغرب والشارع العام، ليحرج حكوماته للقيام بضرب الصرب حتى يتوقف عمَّا يفعله.

ثالثًا: باعث البلاغ (تكليف البلاغ وحدوده)

وكما يذكر الإمام البنا أنَّ التكليفَ الذي نحن أمامه وهو حقيقة البلاغ يحتاج إلى جهد جهيد ويحتاج إلى تلك الكفاءة العالية، ويحتاج إلى ذلك الصبر القوي؛ لأنَّ إحساسك بأن ما تقوم به مرتبط بتكليف البلاغ- كما يقولون- وحقيقة البلاغ أو طبيعة القيام بهذا التكليف عصمة للداعي وعصمة للدعوة من الخطأ ومن الانحراف.

كما قال الحق سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ﴾ (المائدة: من الآية 67).

وهذه العصمة تمتد للداعي، فلا يستعجل النتائج قبل الوسائل ولا يعتسف المراحل؛ لأنه يبلغ عن الله وهو تكليف صعب وشاق.

ولذلك قديمًا كان سيدنا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يقول لسعد بن أبي وقاص في وصاياه: "الزم العدل فهو وإن بدا لينًا أقطع للباطل".

فلا شك أنك تصل إلى الحقيقة وإن طال الأمد وإن طال الوقت، وتتحصل على النتائج وتجني الإفادة قطعًا، والإفادة أمرها إلى الله فقد تأتي فرصة لم تمكن في الحسبان تجعل لعملك أبرك الثمرات.

ولكن المهم أن تسير في الطريقِ الصحيح، وأنت منضبط بشرائطِ الإنجاز؛ لأنَّ النشاطَ البشري لا نستطيع أن نعزله أبدًا عن طرائقِ تشترط لإنجازه، وعن بواعث معللة لدوامه واستقراره، وباعث البلاغ على هذا النحو أقطع للباطل عندما نُحسنه فعلاً؛ ولأنَّ طبيعةَ البلاغ تُصبح عصمةً للعمل كله من الارتطام والصراع.. لماذا؟ لأن طبيعة الإسلام ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، فطبيعة البلاغ فيه هذا الشرط الذي يتم به الإنجاز.. يعني- بُلغتنا الآن- أنَّ العنفَ لا يدخل ضمن وسائل تحقيق الهدف، وهذا يعصم العمل كله من الارتطام والصراع.

وقد رفض الأستاذ الإمام البنا- تمامًا- كل العروض التي عُرضت عليه في أثناء سيره الطويل بالدعوة أن يعتسف المراحل، وأن يبدأ في صراعات، ومواجهات، ويستخدم القوة، وقصة شباب محمد، ومحمد عطية خميس، معروفة، فقد التقوا بالإمام البنا وجلسوا معه وحاصروه في مكتبه ووجهوا إليه السلاح، وطلبوا منه إما أن يُوقِّع استقالته أو يُغيِّر منهاج الجماعة، وينتهج العنفَ والقوةَ في تحقيقِ الأهداف والمقاصد، فأبى الإمام البنا- رحمه الله- وقال لهم: هذا هو صدري، وفتح لهم خزانة المركز العام وقال لهم وهذه هي النقود فخذوها، ولكن لن أُغيِّرَ هذا الطريق وهذا الخط أبدًا.

فهو وإن بدا لينًا أقطع الباطل، وكانت هذه قناعة منه رحمه الله؛ ولذلك تكلم عن المنهاج وهو يتحدث عن خطط الأداء، فالنفس البشرية بطبيعتها لا تميل إلى الإيمان بمبدأ لا ينتصر أو لا تعرف كيف تحقق معه النصر، هذه طبيعة النفس البشرية، مبدأ لا ينتصر أو لا يعرف كيف تحقق له النصر، فإرادتك نحو خدمته تكون ضعيفة ولا شك.

ولذلك تكلَّم الأستاذ الإمام البنا عن كيف ننتصر فقال: وسوف نسلك في نجاحِ هذه الدعوة من السُّبل والوسائل ما أقرَّه الدين نفسُه.. وإن بدا لينًا فهو أقطع للباطل"، لن نتخطى أبدًا الحواجز.. فكل أمة تُريد أن تتخطى تلك الحواجز الطبيعية نصيبها الحرمان (من كلمات الإمام البنا- في سبيل النهوض)، والمقصود بالحواجز الطبيعية إعداد الأمة وتهيئتها بالتربية الإيمانية طويلة الأمد عميقة الأثر تهيئتها لحمل الرسالة، ومن يريد أن يتخطى هذا الأمر مصيره الحرمان سواء أكان فردًا أم جماعة.

ولذلك اعتمد- رحمه الله عليه- هذا المنهجَ وهو مطمئنٌ إليه جدًّا فلمَّا ساوموه عليه أن سيقتلوه قال إن نفسي فداؤه، وتراجعوا وانفصلوا عن الإخوان بعد ذلك وكما يقولون (ذهب الطغيان وبقي الإخوان).

فالطبيعةُ البشريةُ غير ميالة بأن تعتقد في مبدأ لا يتحقق له النصر، أو لا تدري كيف تنصره، لذلك تبقى عقبة كبيرة.

ولذلك وضع الإمام البنا المنهاج الذي يتحقق به النصر لهذا ا لمبدأ ويكتب له به النجاح سوف نسلك في سبيل نجاحها من السبل والوسائل ما قرره الدين نفسه، أو ما أقره الدين نفسه.

رابعًا: باعث المثل الأعلى وأثره الصالح في العمران

لا شك أيضا أن من الأمور التي ذكرت في الرسالة والتي تكون داعيا من دواعي النجاح في المثل الأعلى مع طريقة عرضه من ناحية وأسلوب أو إظهار طبيعة تحقيقه في حياة الناس من ناحية أخرى. أن نظهر أثره الصالح في العمران.

وهو كما يقول الإمام البنا ما أثبت حكم التاريخ على صلاحيته وأهليته في إصلاح الوجود.

أثره الصالح في العمران بمعنى، العالم الثقافي الذي بعثه ونوعية الرجال التي أبدعها ذلك النموذج، واستطاع فعلاً أن يخرجها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

المعروف عن سيدنا أبي عبيدة- كما يروي البلاذري في أنسابِ الأشراف يقول: "إن سيدنا عمر رضي الله عنه، لما فُتحت الشام يقول فدخل عليه في دويرة (دار صغيرة) اتخذها فنظر فلم يجد شيئًا إلا قِربة ماء وجراب فيه تمر وسيف معلق، فقال عمر- رضي الله عنه-: إنَّ الله قد أحل لك ما هو أكثر من ذلك وأنت أمير تنفعك الشارة يعني المظهر، فقال أبو عبيدة رضي الله عنه: الشارة الإسلام يا عمر، فبكي عمر رضي الله عنه بُكاءً شديدًا حتى إنَّ سيدنا أبا عبيدة أشفق عليه فواساه فقال: والله إنما أبكى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي خرج أمثالك.. أبكي هذه الذكرى العظيمة.

سيدنا عمر الزاهد يرى مَن هو أزهد منه وهو أمير الجيوش وفاتح من الفاتحين العظام، إنه فاتح الشام.. أبو عبيدة بن الجراح.

انظر، دويرة ليس فيها إلا قربة ماء وجراب فيه تمر وسيف معلق، فهي إذن نوعية الرجال التي أنتجها ذلك المثل، نوعية الرجال الذين أبدعهم، وكما نرى عمر- رضي الله عنه- في عدله وصرامته، نرى عثمان رضي الله عنه في سماحته وكرمه كل تهمته استماعه إلى الشكوى والشاكين، ويقتل في سبيل الله، ونرى كذلك سيدنا علي- رضي الله عنه- بوفائه وحكمته، لقد علمهم صلى الله عليه وسلم تلك المعاني، إنه العالم الثقافي الذي بعثه المثل الأعلى.

وكما يقولون: الثقافة ليست بكثرةِ القراءة ولا الشهادات إنما الباعث وراء الأعمال فيقولون: هذا مثقف ملتزم (كل مثقف ملتزم) يعني فيه ضوابط يلتزم بها لأنَّ الباعثَ وراء أعماله يقوم على الفكر البصير هذا هو المثقف كما يقول مالك بن نبي، والعالم الثقافي الذي بعثه، إنها فلسفة الأعمال، انظر إلى سيدنا عمر- رضي الله عنه- يقول لسيدنا عمرو بن العاص كلماته المشهورة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا.

إنها فلسفةٌ في إقامةِ العدل، إنه العالم الثقافي الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا ولَّى عمرُ أبا موسى الأشعري على الكوفةِ بعث له وقال له: سمعت أن لك ولأهلك هيأة ليست لغيرك من المسلمين، فلا تكن يا عبدَ الله كالبهيمة مرَّت على وادٍ خصب، فلم يكن همها إلا الشبع وإن حتفها في الشبع.

وإن الراعي إذا زاغ زاغت رعيته، إنها فلسفة، إنه العالم الثقافي الذي بعثه هذا النموذج.. النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه اثنان من الصحابة في بدر قبل أن يغزو، وقبل أن يلتقي المشركين وقالا له يا رسول الله أمسكنا المشركون ونحن في الطريق إليك، وقالوا لنا أنتم أصحاب محمد قلنا لا، قالوا أتقاتلون معه؟ قلنا لهم: لا وعاهدناهم على ذلك، فماذا نفعل. والرسول في حاجةٍ إلى الناس فقال لهم نُوفي لهم بعهدهم ونستعين بالله عليهم، لا تقاتلوا معنا.. نُوفي لهم بعهدهم.

صورة من معاني الوفاء حتى مع الكفار وهو في موقفِ الحرب نوعية الرجال التي أبدعها رسول الله والعالم الثقافي الذي بعثه، إنها فلسفة وراء الأعمال، لا شك أنها أثبتت صلاحيته، ومما لا شك أن ذلك يعين على زيادةِ الإيمان به، وقوة الإرادة من أجل نصرته، وهكذا يظهر أنَّ هذا المبدأ يستحق أن ينصر، ونعرف كيف ننصره، فإنَّ النصرَ له سنن، فإنَّ خالفها فلا يتحقق، والإرادة لا تحقق النجاح؛ لأنَّ النجاحَ له قدرة وصناعة يصنع بها، وقد تحقق النجاح لهذا المبدأ بتلك النوعيات التي أخرجها.. ولذلك كان حرص الإمام البنا- رحمه الله- أن يُوقظ تلك النماذج حتى يراها الناس، وقت ما جاء إلى القاهرة كانت إحدى أهدافه التاريخية عموم الدعاية وتكوين الأنصار، الذين يوثق بهم صلته بالمجتمع المصري في تبني قضاياه ومشاكله.

كما قال في موضوع الإنشاء الشهير في دار العلوم (وأعددت لذلك من الناحية العقلية درسًا طويلاً تشهد لي به الأوراق الرسمية ومن الناحية العملية تعرفًا على مَن يعتنقون هذا المبدأ ويعطفون على أهله، (وقد كان فعلاً)، وجسمًا تعوَّد الخشونة على ضآلته.. هذا عهد بينى وبين ربي أُشهد عليه أستاذي وأُسجله على نفسي في وحدةٍ لا يُؤثر فيها إلا الضمير، وفي ليلٍ لا يطلع عليَّ فيه إلا اللطيف الخبير)، فوثَّق صلته بالمجتمع، بأن شرح المقاصد والأهداف الخاصة به كما شرحها في رسالة دعوتنا بهذه الصورة، وفي نفسِ الوقت تبنَّى القضايا والمشاكل الخاصة بالمجتمع- كان الإمام البنا رحمه الله يُدرك- أنَّ من أسبابِ النجاح وحدة إرادة الأمة، وهذا لا يتأتى إلا إذا كانت روح الأمة إنما تأخذ من نبعٍ واحد.

ولذلك كما يقولون: إذا كانت روح الإنسان من نفحةِ الله فإنَّ روح الأمة من إنزالِ الله عز وجل يعني (القرآن الكريم) ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)﴾ (الشورى).

خامسًا: وحدة روح الأمة وإرادتها (حاجتها إلى الإمام أو الخليفة الذي يوحِّد إرادتها)

فروح الأمة هي من إنزال الله عز وجل عندما جعل لها مثلاً أعلى تلتف كلها حوله بحيث تصبح إرادتها كلها جميعًا لا تكون إرادات موزعة؟ لأنَّ المجتمعَ الساقطَ هو مَن توزَّعت فيه الإرادات لمجتمعاتٍ أُخرى أو لدولٍ أخرى أو لمبادئ متعددة أو لأفكار متباينة؛ ولذلك هاجم الأستاذ البنا كل ما يهدد هذه الروح من أن تكون جميعًا.. من الحزبية من ناحية ومن المذهبية الفقهية من ناحية أخرى بحيث تكون الأمة روحًا واحدة، إرادة واحدة.

كما يحكون عن النبي- صلى الله عليه وسلم- دعا لشاب كان في أحدِ الوفود التي جاءته كما يروي ابن القيم فقال له الرسول: "وأسأل الله أن يميتك جميعًا"، فقالوا: "كيف يُميته الله جميعًا"، فقال: "إنَّ الله سبحانه وتعالى عندما لا يعبأ بعبدٍ يفتح عليه الدنيا فلا يعبأ به في أي أوديتها هلك"، تتفرق إرادته فبدل أن تكون لله فقط تُصبح متفرقةً في أغراضِ الدنيا المتعددة، فالإنسان تُصبح إرادته جميعًا ونفسه جميعًا وطاقته جميعًا متى؟ عندما تكون الروح واحدة في خدمةِ مثلٍ واحد.

ولذلك فإنَّ الإمام البنا كان يتكلم عن كل ما يهدد تلك الروح؛ لأنه يعلم أنَّ النشاطَ البشري من شروطِ إنجازه، ومن البواعث المعللة لدوامة واستمراره أن تكون الإرادة واحدة، روحًا واحدة، ولذلك، كل ما يشتت هذه الروح أو يوزع تلك الإرادة ينبغي تقييده أو إلغاؤه، روح الحزبية، وما فيها من التناحر، الدعوات الوطنية والقومية، وما فيها من التباين، الخلاف المذهبي وما فيه من الاختلاف.

أراد أن تكون الأمة روحًا واحدةً من أجلِ تحقيق ذلك المثل الأعلى والقيام بهذا التكليف الذي يحمل على الإشفاق ويبعث على الاستنفار، والذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يُثبت جدارته بأحقيته بتكريم الله له من إقامةِ العدل وحقن الدماء.

لذلك هذا الشعور الذي يملأُ نفسه هو الذي جعله يُحارب الحزبية من ناحية والدعوات القومية والوطنية من ناحية أخرى، والخلاف المذهبي من ناحيةٍ ثالثةٍ من أجل أن تكون روح الأمة روحًا واحدةً، ومَن ثَمَّ تكون إرادتها إرادة واحدة عندما تعرف أنَّ ليس لها إلا مثل أعلى واحد.

﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)﴾ (الشورى).

هذا هو الذي يجعل روح الأمة واحدة، وهذا الذي جعل الإمام البنا يقف أمام ذلك كله، وحتى صورة الخلاف كانت تعبر عن روح الأمة بمعنى آخر وهي قدرتك على استيعاب الآخر والعيش معه.

فالخلاف الفقهي إن عبَّر عن شيء فإنما يُعبِّر عن قُدرةِ هذه الأمة بسعةِ جوانحها أنها تستوعب الآخر تستوعبه بقضاياه وتستوعبه بمشاكله.

ولذلك هي الأمة الوحيدة التي عاش فيها مواطنون على غير عقيدتها، لهم الأمن والحرية والاستقرار.. أمة بهذه العقلية إن كانت طبيعة الاختلاف الفقهي تعبر عن هذا من ناحية وناحية أخرى تعبر عن حاجةِ الأمة أو تكريسها للمعنى العظيم الذي أشار إليه الإمام البنا (حاجتها أنه لا بد للناس من إمام) حاجة الأمة إلى إمامٍ يرفع حكمه الخلاف، ولذلك الإمام البنا يُوظِّف هذا المعنى وهو يشير إليه أن طبيعة الخلاف تُكرِّس هذا المعنى.

قديمًا قال سيدنا علي- رضي الله عنه-: إن من إنعام الله على عباده الجماعة والإمام، ولذلك تجد الإمام البنا يُكرِّس هذا المعنى في أنَّ الناسَ قديمًا إذا اختلفوا رجعوا إلى الخليفةِ وشرطه الإمامة، لرفع الظلم، وعلى الناس الآن أن يوجدوا القاضي ثم يعرضوا عليه قضيتهم.. وهو يكرس هذا المعنى من أجل الوحدة أيضًا، وحدة روح الأمة وإرادتها.

سادسًا: وجود الجماعة (ودورها في الدولة الإسلامية)

ولا يبقى إلا فتوى الإمام محمد عبده وهي ذات مغزى عندما يسأل (هل يمكن في الدولة الإسلامية أن تقوم جماعات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟) فقال: نعم؛ لأنَّ من أعمال هذه الأمة الضرب على أيدي الظالمين، فإنَّ الظلمَ أنكر المنكر، وإن إقامة العدل أعرف المعروف واشترط الفقهاء وجود الجماعة؛ لأنَّ الظالمَ لا يكون قويًّا إذا وجد الجماعة القوية المتحدة؛ لأنها لا تُقهر ولا تُخالف ولا تُغلب، لذلك اشترط الفقهاء وجود الجماعة التي تقوم بهذا الأمر، فضلاً على أنه ضمان لامتثال الظالم لأمر الله تعالى.

﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ (آل عمران: من الآية 159) ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: من الآية 38)، فإن لم يمتثل لأمرِ الله تعالى فماذا يكون؟ تبقى الجماعة موجودة تضرب على يدِ الظالم؛ لأنَّ الظلمَ هو أنكر المنكر وإقامة العدل هو أعرف المعروف.

واشترط الفقهاء للقيام بهذا الواجب وجود جماعة قوية متحدة لأنَّ الجماعةَ لا تُخالف ولا تُغلب ولا تُقهر، لا تعتذر بضعفها عن القيام بواجبها؛ لأنها أن تركت ذلك انتشر الفساد في مجموع المسلمين.

يقول الإمام الجويني: فإن جار وظلم (أي الحاكم) تواطئوأ على درئه ولو بنصب الحروب وشهر السلاح، وعلى ذلك لا يستطيع أن يجور أو يظلم.

ويجوز أن يكون لها رياسة، لأن ذلك أملك لعدم شيوع فساد المقاصد، إذا اختلفت الآراء ونكثت القوى.

ويعقب الشيخ محمد عبده ويقول: اقرءوا إن شئتم قول الله تعالى ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ﴾ (آل عمران: من الآية 105) بمعنى أنَّ هناك نهيًا عن التفرق والاختلاف؛ لأنَّ التفرقَ والاختلاف يؤدي إلى اختلاف المقاصد الذي به يكون الفساد بتباين الآراء وتنكيث القوى، ولذلك كان وجود الرئاسة ضروري لتوحيد المقاصد.

ولذلك عقب الله على قوله بالخيرية لهذه الأمة ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ﴾ (آل عمران: من الآية 105) فعدم التفرق وعدم الاختلاف (كما قال الشيخ محمد عبده) واجب لا إذن له، لأن الله أعطانا الإذن فإذا غابت هذه السلطة (الدولة) والخلافة وحدة المسلمين، وإقامة حكم الإسلام إذا غاب ذلك كله يبقى الواجب كما قال سيدنا عمر- رضي الله عنه- وعمله الأستاذ الإمام البنا (لا إسلامَ إلا بجماعة ولا جماعة إلا بطاعة ولا طاعة إلا ببيعة).

وهذا ما فعله الإمام البنا، ولذلك قال المنهاج والمؤمنون والقيادة الموثوق فيها، وهذا تعبير له تعبير وأنت يوسف هذه الأحلام.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


الهوامش

1- (( ذكر الأستاذ محمود عبد الحليم في (أحداث صنعت التاريخ ) جـ2 ص 28 أنه تمَّ حل جمعية الإخوان المسلمين وجميع شعبها بنص الأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948م، الأربعاء 7 صفر 1368هـ - 8 ديسمبر 1948م، وبعد مرور عشرين يومًا من صدور الأمر العسكري بحلِّ الإخوان المسلمين، وفي 28 ديسمبر 1948م اغتيل النقراشي باشا في وزارة الداخلية، وهو محاط بحراسةٍ مكثفة، وصدق فيه قوله تعالى: ﴿أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة﴾ (النساء: 78)، وخلفه إبراهيم عبد الهادي باشا كالذئب المتعطش للدماء، ففي عهد هذا الرجل بلغت الأحداث الجسام ذروتها، وارتكبت أفظع جريمة في هذا القرن بتدبير حكومته وهي اغتيال المرشد العام.

يقول أ. سيد قطب: "مضى حسن البنا إلى جوار ربه، يمضي وقد استكمل البناء أسسه، يمضي فيكون استشهاده على هذا النحو الذي أُريد له: عملية جديدة من عملياتِ البناء، عملية تعميق للأساس وتقوية للجدران. وما كانت ألف خطبة وخطبة، ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتلهب الدعوة في نفوس الإخوان، كما ألهبتها قطرات الدم الزكي المهراق".

(2)

ولكن مَن هو النقراشي

يقول الأستاذ محمود عبد الحليم، ج2، ص19: يبدو أنَّ المتآمرين على الدعوةِ وحلِّ جماعةِ الإخوان المسلمين قد اختاروا لتنفيذ هذه الحلقة من السلسلة النقراشي رئيس الوزراء في ذلك الوقت، لما يعلمون عنه من ضيقِ الأفق وقصر النظر وبلادة التفكير، وقد تولى النقراشي باشا الوزارة مرتين جرَّ خلالهما على البلاد نكبات لم تمن بمثلها من قبل، ففي عهده هُوجم الطلبة بالمدافع الرشاشة فحُصِدوا حصدًا – إذْ هو صاحب موقعة كوبري عباس الثانية، وفي عهده ثبَّت الاحتلالُ البريطاني أقدامه في أرض مصر.. وفي عهده فقدنا السودان وانقطعت آخر الروابط بيننا وبين السودان.. وفي عهده ضاعت فلسطين وسُلِّمت إلى اليهود وتأسست دولتهم على أرضها، وجلل الجيش المصري بالخزي والعار لهزائم لا دخلَ له فيها، ولا ذنبَ عليه فيما حاق به منها، وكلها هزائم ورط فيها هذا الجيش نتيجة سوء تصرف هذا الحاكم وقصر نظره وفساد تقديره وتحرج عقله وارتضائه أن يكون ألعوبة في يد المستعمر.

(3)

ملابسات حل الجماعة (مَن الذي حلَّ الجماعة ؟)

ذكر الأستاذ محمود عبد الحليم (في أحداث صنعت التاريخ جـ2 ص 31) أنَّ الأمرَ العسكري بحل (جمعية الإخوان المسلمين) خرج ممهورًا بتوقيعِ النقراشي باشا رئيس مجلس الوزراء، وقد صرَّح هو بذلك، ولكن كان هناك وثيقة قدَّمها في المرافعة الأستاذ شمس الدين الشناوي مكتوبة باللغة الإنجليزية وهي عبارة عن رد من القيادة العليا للقوات البريطانية في الشرق الأوسط على إشارةٍ وردت إليها من السفارة البريطانية وتقول القيادة في الوثيقة: "لقد أخطرت هذه القيادة رسميًّا بأن خطوات دبلوماسية ستتخذ لإقناع السلطات المصرية بحل الإخوان المسلمين في أقربِ وقت ممكن"، وقد ذيلت هذه الوثيقة بإمضاء رئيس إدارة القيادة العليا الحربية البريطانية في الشرق الأوسط.

وبهذا تكون جمعية الإخوان المسلمين حُلت بتحريضِ من السلطات البريطانية إلى الحكومة المصرية في عام 1948م.

أما مقتل الخازندار فيقول عنه أ. محمود عبد الحليم (جـ 2ص 154 –155) فقد وقع في 22 فبراير 1948م، واتهم فيه طالبان من المنتسبين إلى الإخوان، من بين عشرات الآلاف من الطلبة المنتسبين إلى الإخوان، وقد وقع نبأ هذه الجريمة على الإمامِ البنا موقع الصاعقة حتى إنه رحمه الله – تنهَّد طويلاً وأخذ يشكو إلى الله من هذا التصرف الأحمق والحماس الأعمى، الذي شبهه بإخلاص الدب لصاحبه.

وتبيَّن فيما بعد أنَّ هذين الشابين- وكانا في الدراسةِ الثانوية- كانا صديقين لشابين في مثل سنهما من الإخوان هما: حسين محمد عبد السميع ومحمود نفيس حمدي. وكان في العام نفسه 1947، قضية أمام القضاء لجريمة مروعة وقعت في الإسكندرية، وقد هزَّت أرجاء البلاد سُمِّيت بجريمةِ سفَّاح الإسكندرية، وكان يُدعى حسن قناوي. وقد راح ضحية هذه الجريمة أكثر من قتيل، وكانت دوافع ارتكاب جرائم القتل هي دوافع جنسية قذرة وتمنَّى الشعب كله أن لو استطاع القضاء أن يخلص الإنسانية من هذا الوحش الكاسر الدنيء... ولكن الحكم الذي أصدرته محكمة الجنايات برياسة أحمد الخازندار بك كان صدمة لمشاعر الناس فقد أصدرت المحكمة في 12 مارس 1947م حكمها على سفَّاح إسكندرية بسبع سنوات من الأشغال الشاقة، تبيَّن أنَّ هذين الشابان حنقا على رئيسِ المحكمة؛ لأنه كان قد حكم عليهما من قبل في قضيةٍ وطنيةٍ بإلقاء قنبلةٍ على نادي الضباط الإنجليز بالقاهرة ولم يصب أحد.

وقد قُدِّم هذان الشابان إلى محكمةِ الجنايات برياسة أحمد الخازندار بك، فأصدرت حكمها في 18 يناير 1948م بحبس حسين عبد السميع ثلاث سنوات مع الشغل وغرامة 100 جنيه.

والذي أثار حفيظة الشابين اتجاه أحمد الخازندار رئيس المحكمة أنه لم يراعِ في حكمه الدوافع الوطنية النبيلة في قضيتهما الأولى، وأنه ساوي بينهما وبين الدوافع القذرة الآثيمة للسفَّاح في القضيةِ الثانية، فأقدما على قتله. وقد أعلن الإخوان تبرؤهم منها ومن مرتكبيها.

(4)

معنى المثل الأعلى

يذكر الدكتور ماجد الكيلاني في كتابه (مقومات الشخصية المسلمة) أو الإنسان الصالح (ص 63) أن المثل الأعلى في التربية الإسلامية يعني نموذج الحياة المعنوية والمادية التي يراد الإنسان المسلم أن يحياها، وللأمة المسلمة أن تعيش طبقًا لها في ضوء علاقات كل منهما بالخالق والكون والإنسان والحياة الآخرة.

ومثل المثل الأعلى مثل النموذج أو المخطط الذي يصمِّمه مهندس البناء أو مهندس الآلات، ثم يدفعه لمن يحوله إلى واقع ملموس طبقًا لقوانين البناء أو قوانين الآلات.

ويقرر القرآن الكريم أن الله وحده خالق الإنسان ومصوره ومصممه؛ ولذلك لا يمكن أن يشاركه تعالى أحدٌ في تحديد المثل الأعلى المتعلق بحقائق الوجود وتطبيقاتها العملية.. ﴿وَهُوَ الَّذِيْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيْدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِيْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيْزُ الْحَكِيْمُ﴾ (الروم: 27).

وحين يتذكر البشر المخلوقون للمثل الأعلى الذي جاءت به الرسالة ويحاولون أن يضعوا للحياة البشرية "مثلاً أعلى" للمعرفة والسلوك فإنهم يضعون نماذج سيئة ضارة أو "مثل السوء": ﴿لِلَّذِيْنَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيْزُ الْحَكِيْمُ﴾ (سورة النحل: 60).

والمثل الأعلى يمد الفرد بالأهداف التي يعيش من أجلها ويعمل لتحقيقها، وهو أيضًا يمد الأمة بالرسالة التي تجاهد من أجلها وتمنح وجودها المبرر ومكانتها، وتتقرر قيمة المثل بمقدار ما تشهد له ثمرات التطبيق العملي وحقائق العلم وقوانين الاجتماع، ومقدار انسجامه مع طبيعة الإنسان والإسهام في بقائه ورقيه المادي والمعنوي، وإلى جميع ثمرات التطبيق العملي المذكور يشير القرآن الكريم بمصطلح "العاقبة" ومشتقاته التي يتكرر ذكرها في (38) موضعًا عند أمثال قوله تعالى: ﴿قُلْ سِيْرُوا فِيْ الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِيْنَ﴾ ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِيْنَ﴾ ﴿فَاصْْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِيْنَ﴾ ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِيْنَ﴾.

والمثل الأعلى الذي ترجوه التربية الإسلامية هو مثل أعلى حق وتطبيق حق ومثاله نموذج المثل الأعلى الذي اعتمدته التربية النبوية؛ إذ استطاع الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالمثل الأعلى الذي حمله وبالتطبيق الصائب لهذا المثل أن يرفع إرادة الفرد المسلم إلى درجة بذل النفس والمال في سبيل خدمة الرسالة التي جاء بها.

كذلك شهدت ثمار التطبيق العملي وحقائق العلم لصحة هذا المثل الأعلى وانسجامه مع طبيعة الإنسان وإسهامه في رقي النوع الإنساني.

المصدر