عزيز المصري والحركة الوطنية المصرية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
عزيز المصري والحركة الوطنية المصرية

بقلم: د. محمد عبد الرحمن برج

مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام


تقديم

هذا الكتاب الذي نقدم له اليوم هو الجزء الثاني من الدراسة التي سبق للمركز أن نشرها بعنوان "عزيز المصري والحركة العربية 1908-1916 لنفس المؤلف الدكتور محمد عبد الرحمن برج أستاذ مساعد التاريخ بجامعة المنوفية، وهو يتناول الدور البارز الذي لعبه عزيز المصري في الحركة الوطنية المصرية.

والواقع أن عزز كان بمثابة الأب الروحي لأجيال من الثوار المصريين، ومن أبرزهم الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة 23 يوليو 1952.

وهذه الدراسة الموثقة التي يقدمها الدكتور محمد عبد الرحمن برج اليوم تعد إضافة بالغة الأهمية للمكتبة التاريخية العربية؛ ذلك أن عزيز المصري، هذا الثائر الذي طوف في الآفاق، والذي وضع سلاحه في خدمة الثورة العربية في كل أرجاء الوطن العربي يستحق أن تلقى الأضواء على سيرته الفذة.

والمركز إذ ينشر اليوم هذا الجزء الثاني من البحث عن عزيز المصري يواصل دراساته وأبحاثه في مجال التنمية العربية والتاريخ العربي، إيمانًا منه بأن مشكلات وقضايا الوطن العربي الكبير إنما هي مشكلات وقضايا مشتركة للأمة العربية، وتاريخ هذه الأمة تاريخ متصل ومترابط لا ينفصل فيه التاريخ الإقليمي عن التاريخ القومي، ولعل سيرة عزيز المصري تثبت هذه بجلاء شديد.

فالأدوار المختلفة التي مر بها عزيز المصري ونضاله على الساحة العربية على امتداداها، يتصل اتصالاً عضويًّا بنضاله على الساحة المصرية، هذا النضال الذي استمر حتى بعد أن اعتزل الحياة العامة وأصبح رمزًا باهرًا لجيل كامل من الثوار العرب.

فلتكن سيرة عزيز المصري نبراسًا للأجيال العربية الشابة، ورمزًا لتواصل العطاء الثوري، من أجل أمة عربية واحدة، قادرة على مجابهة تحديات العصر، والارتفاع إلى مستويات إنجازاته في العلم والتكنولوجيا، وقبل ذلك في الديموقراطية والتقدم الاجتماعي.

السيد يسين

مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية

مقدمة

تتناول هذه الدراسة القسم الثاني من حياة عزيز المصري أو عزيز المصري ودوره في الحركة الوطنية المصرية منذ عودته من الحجاز بعد تخليه عن قيادة جيش الشريف حسين إثر الخلاف الذي نشأ بينه وبين عزيز والذي أوضحنا أسبابه وظروفه وملابساته في دراستنا للقسم الأول من حياته.

وتعتمد هذه الدراسة على وثائق غير منشورة وأخرى منشورة فأما عن الوثائق الأولى فقد كان منها الوثائق العربية والأخرى الأجنبية، فبالنسبة للوثائق العربية الغير منشورة اعتبر أن عثوري على القضية الخاصة بهرب عزيز المصري أمر كان له أهميته بالنسبة لهذا البحث، ذلك أن أوراق هذه القضية وهي غير مرتبة وغير محفوظة في مكان يضمن لمن يشاء من الباحثين الرجوع إليها كانت تجعل عدم عثوري عليها في وضع لا أستطيع معه أن أقدم لدارس التاريخ صورة كاملة وواضحة عن هذه الواقعة وقد أفادني الأستاذ فتحي رضوان حين مكنني من الإطلاع عليها لأنه هو الذي يحتفظ بها بين أوراق مكتبه الذي يتخذه للمحاماة بشارع عبد الخالق ثروت كذلك كانت لي معه جلسات عدة سجلت منه ما رواه لي عن ذكرياته عن عزيز المصري بحكم أنه كان من أقرب الناس إليه ومحاميه لدرجة أنه كان يعمل له توكيلاً في كثير من أموره دون أن يعرف بها الأستاذ فتحي رضوان إلا بعد حين، ومثال ذلك ما رواه فتحي رضوان في التحقيق الخاص بقضية الهروب أن عزيز المصري زاره قبل محاولة هربه بشهرين ومعه مسيو لاهوفاري (كان محاميًا أمام المحاكم المختلطة وكان هو الآخر محاميًا لعزيز) وقدم عزيز لفتحي رضوان توكيلاً منه بالاشتراك مع لاهوفاري في بيع منزله ولم يكن قد أخبر فتحي رضوان بشيء عن ذلك من قبل فلما لم يستطع أن يسأله عن ذلك في الحال فلما قابله وسأله عن التوكيل قال له أنه يريد أن يكون مراقبًا للاهوفاري، وقد ألحقت بهذا البحث أقوال كل من عزيز المصري وزميليه حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف في التحقيق كي أعطي صورة عن جوانب هذه القضية.

ومن بين الوثائق العربية الغير منشورة التي رجعت إليها وأفادتني في هذا البحث قضية أمين عثمان فالمعروف أن عزيزًا قبض عليه أثر اغتيال أمين عثمان وقد أدلى أحد المتهمين في القضية أنه كانت هناك جمعية يرأسها عزيز هدفها التخلص من الجيل القديم من ضباط الجيش كذلك رجعت إلى الحوافظ الخاصة بالجيش الموجودة بدار الوثائق القومية بالقلعة وقدمت للقارئ بعض مقترحات عزيز بخصوص تنظيم الجيش المصري. أما عن الوثائق الأجنبية الغير منشورة فقد اطلعت على بعض وثائق وزارة الخارجية البريطانية وقد وضعت صورًا لبعضها في ملاحق هذا البحث ومن أهمها تلك الوثيقة التي تضمنت عزيز المصري يجب أن يذهب.

أما عن الوثائق المنشورة فقد أفادني تقرير قدمه عزيز المصري لرئيس الوزراء ووزير الداخلية عن زيارته لمعاهد الشرطة في عدد من دول أوروبا ومقترحاته الخاصة بإصلاح نظام الشرطة في مصر كذلك أفادني مذكراته أو ذكرياته التي نشرت في عدد من الصحف المصرية والأجنبية التي أشرت إليها في حينها.

أما مذكرات اللورد كيلرن فقد أفادتني هي الأخرى لأنه يستحيل على دارس تاريخ مصر في الفترة التي بدأت منذ 1934 حتى 1946 أن يتجاهل مذكرات السفير البريطاني وهو الذي كان المحرك الأول للأحداث في مصر خلال هذه الفترة، ويبدو أن كيلرن كان يكتب مذكراته بعد فترة من الوقت أي أنه لم يكن يسجل الأحداث أولا بأول فنجده يكتب الخميس 15 مايو 1941 ويتحدث عن تدمير الإنجليز لطائرات ألمانية في مطار بالميرا ثم يؤرخ لليوم التالي الجمعة على أنه يوافق 17 مايو وهو اليوم الذي علم بحادث هروب المصري بينما هو يوافق بالطبع 16 مايو.

لكن الرجوع إلى هذه المذكرات أمر هام للتاريخ المعاصر وأرجو أن يقدم أحد الباحثين على ترجمتها إلى اللغة العربية كي تتزود بها مكتبتنا العربية أما كتاب ثعالب الصحراء The Foxex of the deserts الذي ألفه بول كارل تعريب كمال الشريف فقد حوى بعض الأخطاء التاريخية التي أشرت إليها في حينها والمتعلقة بحادثة الطائرة التي حاول عزيز المصري أن يهرب فيها.

أفادتني كذلك الدوريات المختلفة خاصة عن الفترة التي تولى فيها عزيز قيادة كتائب التحرير بعد إلغاء مصر للمعاهدة وما كنت قد سجلته من أحاديث مع المرحوم اللواء شوقي عبد الرحمن الذي عمل كضابط اتصال مع البعثة العسكرية البريطانية وكانت المعلومات التي حصلت عليها منه دقيقة إلى حديث كبير عندما كنت أقوم بتحقيقها مع المراجع المختلفة.

وأرجو أن أوضح للقارئ الكريم أن الخطة التي وضعتها لهذا البحث لم تكن تهدف إلى دراسة الحركة الوطنية إلا بقدر ارتباط أحداثها بعزيز المصري أو ارتباط عزيز المصري بها وذلك لأن القارئ سيجد أنني بعد الحديث عن اغتيال أمين عثمان انتقلت إلى الحديث عن إلغاء المعاهدة (1951) وذلك كي أوضح دور عزيز كقائد لكتائب التحرير.

أدعو الله العلي القدير أن تسهم هذه الدراسة في إلقاء الضوء على جوانب هذا البحث فإنني أؤمن أن الكمال لله وحده.

وأرجو من كل من وجدت منه عونًا وأن أجمع مادة هذا البحث أن يتفضل بقبول خالص امتناني وشكري.

د. محمد عبد الرحمن برج

جامعة المنوفية

1/1/1980

الفصل الأول: عزيز المصري في خارج مصر

تناولنا في دراستنا السابقة لعزيز المصري موضوع الخلاف الذي نشب بينه وبين الشريف حسين بعد قيادته لجيش هذا الشريف وأوضحنا أسبابه وظروفه، وعاد عزيز إلى مصر عقب هذا الخلاف، وفي حديث له بتاريخ 21/7/1959 روى عزيز قصة أيامه الأولى في مصر بعد عودته من الحجاز (1). كنت أعيش في القاهرة والحرب العالمية الأولى دائرة بين ألمانيا والحلفاء وقررت أن أشترك فيها إلى جانب ألمانيا وأرسلت للألمان خطابًا أعرض عليهم خدماتي ولكن لم يصلني رد وقررت أن أسافر وذهبت أستأذن في السفر من وينجت المعتمد البريطاني في ذلك الوقت، قلت له أريد أن أسافر في إجازة إلى أسبانيا وفاجأني وينجت بقوله: ابق فقد أستطيع أن أجعل منك ملكًا على اليمن أو العراق أو سوريا.

وأجبته بقوله: أنا أرفض قبول التاج من المستعمرين مغتصبي السلطة الشرعية من أصحابها، وتركته وسافرت إلى أسبانيا (2).

وكان أول شيء فلته عند وصولي إلى مدريد أن طلبت مقابلة السفير الألماني في العاصمة الأسبانية وقابلني سكرتيره ليسألني عما أريد وكانت دهشته عظيمة عندما علم أني أريد أن أشترك في الحب إلى جانب الألمان.

وأني على استعداد لكي أنضم إلى أركان حرب الجيش الألماني وأقود جيشًا لا يقل عن خمسين ألف جندي.

كان جواب السفير الألماني أنه لا يستطيع أن يبت في الأمر ويجب الرجوع إلى السلطات في هذا الشأن، وبقيت أنتظر عامين طاردني خلالها البوليس الأسباني وعشت في القرى أرقص مع الفلاحين وآكل مثلهم وألبس ملابسهم.

وفي صباح أحد الأيام فوجئت بتلغراف من ألماني وكان يتضمن الآتي: (لقد أخطأنا ومستعدون لتعويضك) وكان التعويض خمسين جنيًا عن كل شهر قضيته في انتظار الرد ويمضي عزيز في حديثه فيقول: كانت الدلائل تشير إلى أن ألمانيا تخسر الحرب ويوم أن خسرت ألمانيا الحرب فعلاً قررت أن أنتحر وقمت أصلي لله.. ثم نمت لأحلم بأني في غابة لم أرى مثلها في حياتي وأرواح تتجول فيها ومن بعيد رأيت والدتي تقول لي لا تتعجل الأمور يا عزيز وقررت ألا أنتحر).


عاش عزيز في أحد البنسيونات في برلين يعمل بها مدرسًا في كلية أركان الحرب الألمانية وظل بها إلى أن انتهت الحرب، وفي حديث له آخر بتاريخ 20/6/1956 قال: عشت في ألمانيا وفي يوم فوجئت بحافظ رمضان وحمد الباسل يطرقان باب البنسيون الذي أنزل فيه، قالوا لي أن الذي دفعهما إلى الحضور هو كمال أتاتورك فقد ذهبنا لزيارته والاستعانة بأحد قواده لتنظيم الجيش المصري.

وفوجئنا بكمال أتاتورك يقول: عندكم عزيز المصري فهو الذي يستطيع تنظيم الجيش، وأعطاهما عنواني في ألمانيا، عدت إلى مصر بدعوة من الوفد ولكن حافظ عفيفي الطبيب الذي عرفته أثناء حرب طرابلس نصحني بالابتعاد عن الأحزاب التي بدأت تتطاحن في ذلك الوقت (3).

يقول مجيد خدوري في كتابه عن موقف عزيز المصري من حركة القومية العربية أن دعوة عزيز كانت سنة 1922 ولكن وجد مصر تحت حكم الملك فؤاد وكان يكره من هم على طراز عزيز، ثم أنه قيل للملك فؤاد أن عزيزًا كان على صلة بالخديو السابق عباس حلمي الثاني، وكان الخديو لا يزال حيًّا وكان له أنصار في مصر (4).

وفي استجواب لأحد أصدقاء عزيز المصري اسمه الدكتور سيد شكري في قضية هروب عزيز سنة 1941 وجدت ما يوضح هذه الحقيقة.

س: هل تعرف عزيز باشا المصري.

ج: نعم أعرفه وهو صديقي.

س: من أي وقت عرفته وكيف نشأت الصداقة.

ج: في سنة 1911 كان فيه حرب بين تركيا وإيطاليا وكنت أحد أفراد البعثة التركية للهلال الأحمر وكان مركز مستشفانا في بني غازي وكان عزيز باشا قائد جيوش العرب والترك في بني غازي فعرفته بهذه المناسبة ولأننا مصريين كان يكرمنا طول مدة إقامتنا هناك ومن بعدها حصلت له حوادث جعلت صلته لا تنقطع بنا، ولما رجع تركيا حاكموه وحكموا عليه بالإعدام وقامت في مصر حركة شعبية للدفاع عنه وهذا هو الذي جعلني لا أنسى عزيز المصري، وبعد ذلك أعلنت الحرب العظمى فقابلته صدفة في خط المطرية وما كنت أعرف أنه في مصر وقال لي أنا لي بيت هنا وبعد ذلك انقطعت أخباره مرة أخرى حتى انتهت الحرب. وكان موجودا في أوروبا وممنوعًا من دخول مصر في ذلك الوقت وبالطبع لجأ إلى أصدقائه في مصر لم أكن منهم بل كان منهم حافظ باشا عفيفي الذي كان في مركز يسمح له بأن يساعده وفعلاً حافظ عفيفي باشا ساعده ولما رجع مصر كان بينه وبين أهله قضية خاصة ببيته، وكان طبعًا ما عندوش فلوس والتجأ لأصدقائه ولم يكن مستطاعًا في ذلك الوقت تعيين عزيز باشا في ذلك الوقت بالوظائف ولكن أمكن أن يعينوا زوجته الأمريكية مدرسة في المدرسة السنية وبمجرد أن كسب القضية كانت زوجته قد تعبت من التدريس فتركته وجاءت وزارة محمد محمود سنة 1929، وأصبح لعزيز باشا أصدقاء كثيرون فبواسطتهم عين مديرًا المدرسة البوليس وترتب على طول هذه المدة وهذا الاحتكاك أن الصداقة توطدت بيننا (5).

تعرف عزيز خلال هذه الفترة بالفتاة التي تزوجها بعد ذلك فرنسيس دريك، يقول عزيز: كنت جالسًا أتناول طعامي في البنسيون الذي أقيم فيه وفوجئت بفتاة طويلة تدخل علينا وقد ارتدت ثوبًا يصل إلى قدميها بعكس المودة في ذلك الوقت وانتحلت حذاء رجل رفيعة وعاشت معنا فرانسيس في البنسيون لا ترفع عينها عن الكتاب الذي تقرأه وتترك حجرتها في الصباح لتعود إليها في المساء، ودفعني الفضول يومًا إلى تتبعها وهي تخرج في الصباح ومضيت أمضي وراءها خمس ساعات كاملة راحت تطوف خلالها بدار الآثار وحدائق الحيوان والهرم وأنا أمشي وراءها، وفي يوم ذهبت لزيارة طبيب من أصدقائي وفوجئت بها هناك وفوجئت بصديقي يقول لها عزيز هو الذي يستطيع أن يطوف بك كل الأماكن الأثرية (6).

تلقى عزيز رسالة من ياسين الهاشمي يدعوه فيها للسفر إلى بغداد وكانت الصلة بين ياسين وعزيز صلة وثيقة قديمة ترجع إلى أيام التحاقها بالكلية العسكرية في الأستانة ودخولها كلية الأركان وعملهما في جمعية الإتحاد والترقي، ومن المعروف أن ياسين الهاشمي كان عضوًا في جمعية العهد التي ألفها عزيز، وحين قبض الاتحاديون على عزيز وغادر القسطنطينية إلى مصر بعد العفو عنه كان ياسين حلقة الاتصال بين جمعية العهد والعربية الفتاة أثناء الحرب العالمية الأولى (7). وأتاحت الظروف بعد ذلك لياسين أن يعود إلى العراق بعد تعيين الإنجليز لفيصل ملكًا عليها (8)، ثم كان أن عهد الملك فيصل بترشيح من المعتمد البريطاني هنري دوبس إلى ياسين الهاشمي بتشكيل الوزارة في الثاني من أغسطس 1924 (9).

تلقى عزيز دعوة من ياسين الهاشمي بزيارة العراق وأخبر فرنسيس بعزمه على السفر فقالت له أنها تلقت هي الأخرى دعوة بالسفر إلى الشام حيث كانت صديقة لها قد افتتحت مدرسة هناك ودعتها لإلقاء بعض الدروس فيها، وغادر عزيز وفرنسيس القاهرة سويًا إلى الشام وحين وصلا دمشق ترك فرنسيس فيها لمضي إلى بغداد، كانت سوريا تحت الحكم الفرنسي بعد انتهاء الحكم العربي لها وما كان عزيز ليستطيع البقاء فيها وهي تئن من الاحتلال الفرنسي، لكنه وجد حال العراق ليس بأحسن من حال سوريا، حقيقة كان على رأس العراق ملك عربي هو الملك فيصل الأول لكن الكلمة العليا كانت لهنري دوبس Dobbs المعتمد البريطاني فقد كان على حد قول عزيز الحاكم الفعلي للعراق.

يقول عزيز: عرض على دوبس عروضًا مغرية، عرض أن يمنحني مرتبًا قدره خمسة آلاف جنيه وبيتًا فخمًا في إنجلترا لأشغل منصب رئيس شركة نفط العراق التي كانت قد بدأت تعمل، وجاء ياسين الهاشمي يقول لي أن فيصل يرجون ألا تتدخل في السياسة (10).

ولم يقبل عزيز هذه العروض المغرية وبلغ فيصل ما يقوله عزيز عن فساد العراق فاستاء فيصل كما استاء هنري دوبس وغادر عزيز العراق إلى إيران يعرض علي المسئولين فيها تنظيم الجيش الإيراني لكنه لم يجد أذنا مصغية فقرر العودة إلى مصر (11).

تركت فرنسيس سوريا بدعوة من عزيز إلى طهران وعاشا سويا أياما هناك حتى قررا العودة إلى القاهرة. ومرا سويا بالعراق ويروي عزيز أن عودتهما من إيران كانت في أحد اللواري وحين وصل إلي بغداد زار ياسين الهاشمي وكان ياسين قد أعد له عروسا إيرادها 700 جنيه في الشهر "فكان يعتقد أنها تساعدني لكني قررت الزواج من فرنسيس وقال ياسين أنها أصلح من العراقية لأني في حاجة إلي المساعدة المعنوية أكثر من المساعدة المالية وأعلن ياسين أن الصداقة ألف جنيه لكني أصررت علي ألا يزيد المهر علي ما أملك وكان 2 روبية هندية أي ما يعادل 14 قرشا في ذلك الوقت. وعدت إلى القاهرة لأقيم في شقة مواجهة للسفارة البريطانية" (12).

عاد عزيز إلى مصر سنة 1926 وكان موضع تقدير من سعد زغلول الذي كان يعرف جهاد من أجل أمته. يقول عزيز"عرض علي سعد أن أدخل حزب الوفد (13) لكن سعد مات سنة 1927" ولم يشأ عزيز أن يدخل حلبة الأحزاب والصراع السياسي الذي شهدته الساحة المصرية في ذلك الحين.

عاد عزيز إلى مصر بلا عمل وشغلته قضية استرجاع بيته في عين شمس كان منزل عزيز في عين شمس وكان قد تركه لشقيقته علي أساس أنه سيجد عملا في الخارج فلما لم يوفق وعاد إلى مصر إذا به يفاجأ أن أخته وزوجها علي باشا ذو الفقار يرفضان تسليمه المنزل بحجة أنه تنازل عنه لهما. ودخل عزيز في معركة قضائية ودافع عنه فيها عبد العزيز فهمي وكان عزيز يقدر هذا الصنيع لعبد العزيز فهمي ففي حديث له لمجلة الجيل بتاريخ 13 مارس 1961 تحت عنوان: علمتني الحياة يقول عزيز: علمتني الحياة أن أحترم الرجال الذين يضحون في سبيل الحق تعلمت هذا الدرس من المرحوم عبد العزيز فهمي كنت متهما في أكثر من قضيه وكنت لا أجد الرجل الذي يؤمن ببراءتي وجاء عبد العزيز فهمي وتكلم ودافع عني ووقف يتحدى الظلم في الوقت الذي كان فيه الاستعمار والطغيان يسيطران علي مصر وأحسست أنني أمام فدائي كبير أنني أحب هذا الرجل أحبه لدرجة أنني أريد أن أدفن معه في قبر واحد.

دافع عبد العزيز فهمي في القضية التي رفعها عزيز علي أخته حتى استرد حقه ورفض أن يتقاضى أتعابا من عزيز وظل هذا الجميل يؤرق عزيز وحين استلم مكافأة خدمته من وزارة الحربية بعد الاستغناء عنه بعد شغله لمنصب رئيس أركان حرب الجيش في وزارة علي ماهر 1939 (وكان مقدار المكافأة ألفين من الجنيهات) سأل عزيز الأستاذ فتحي رضوان عن مقدار الأتعاب التي ينبغي أن يدفعها لعبد العزيز فهمي مقابل ترافعه في قضية المنزل.


فقد جاء في أقوال الأستاذ فتحي رضوان أثناء نظر قضية هروب عزيز المصري سنة 1941 ما يلي:

س: الم تسمع أنه كان يريد مغادرة البلاد

ج: لا

س: الم تلحظ أنه كان يهيأ أموره المالية أو يصفي أمواله وأملاكه

ج: فيما يتعلق بتهيئة أموره المالية الذي أعلمه بحكم كوني محاميه أن وزارة المالية صرف له مكافأة قدرها ألفان جنيه وأنه كان في رأيه مدينا لعبد العزيز فهمي باشا في قضية المنزل فأراد أن يصرف له أتعابه فسألني عن الأتعاب المناسبة وأخبرني أن المنزل وقت الحكم في القضية لم يكن يزيد قيمته عن ألفين جنيه وأنه لذلك يريد أن يعطيه أتعابا قدرها 150 جنيه مع فوائد هذا المبلغ بواقع2% ثم عاد ليقول بواقع 7% وأخبرته أن عبد العزيز فهمي قد يرفض وكان له دين لسيد شكري (300 جنيه) وكان له رغبة في بيع المنزل لأنه كبير ولا يوجد عادة من يستأجره وإذا سكن فيه ضاع عليه ريعه (14).

وفي تصريح لعزيز المصري لمندوبة صحفية المساء (زينب الصيرفي) سألته: كان لك بيت كبير في عين شمس وسيارة تحب ركوبها منذ سنوات عديدة أين ذهبتا الآن؟ قال: البيت كان مبني على 30 ألف متر اشتريه الحكومة ليكون مدرسة بعشرة آلاف جنيه أما السيارة فبعتها بالثمن الذي اشتريتها به وهو ستمائة جنيه (15).

هوامش الفصل الأول

(1) أجرت الحديث معه مراسلة الأهرام إنجي رشدي ونشر الحديث بعنوان: عزيز المصري يتحدث إلى الأهرام.

(2) في حديث له مع صحيفة الأخبار بتاريخ 15 يونيو 1968 قال عزيز أن الإنجليز خافوا منه في مصر فنفوه إلى أسبانيا.

(3) حديث مع مراسل الأهرام 20/6/1956.

(4) مجيد خدوري: موقف عزيز المصري من حركة القومية العربية نشرة الأهرام الإقتصادي 15/9/1967.

(5) ملف قضية هروب عزيز المصري سنة 1941 غير منشورة.

(6) حديث لعزيز المصري الأهرام 20/6/1956.

(7) ارجع إلى كتابنا: عزيز المصري والحركة العربية ص 86.

(8) سامي القيسي: ياسين الهاشمي ص 118.

(9) المرجع السابق ص 217.

(10) حديث لمراسل الأهرام 20/6/1956.

(11) مجيد خدوري منشور بالأهرام الاقتصادي 15/9/1967.

(12) حديث لعزيز المصري لصحيفة الأهرام 20/6/1956.

(13) مجيد خدوري: عزيز المصري وحركة القومية العربية.

(14) ملف قضية هروب عزيز المصري سنة 1941.

(15) المساء 10 أكتوبر 1959.


الفصل: الثاني عزيز والشرطة

بعد إقالة الملك فؤاد لوزارة النحاس باشا الائتلافية في 25 يونيو 1928 كلف محمد محمود بتشكيل الوزارة وفي عهد هذه الوزارة صدر مرسوم ملكي بتعيين عزيز مديرا لمدرسة الشرطة وظل عزيز يذكر ذلك بالفصل لمحمد محمود.

عندما سئل الأستاذ فتحي رضوان في تحقيق قضية الهروب (1941) من النيابة العامة

س: هل تعرف شيئا عن ميول (عزيز) السياسية؟

ج: عزيز باشا رجل صريح يتكلم أمام من يعرفه ومن لا يعرفه بآرائه السياسية أما بالنسبة للأحزاب فكان ساخطا عليها وكان لا يفرق بين حزب وحزب ولا بين شخص وشخص فيما عدا محمد محمود الذي كان يقول أنني مدين له لأنه مدير لمدرسة البوليس وفيما عدا علي ماهر الذي مدا يلومه لأنه طلب إليه أن ينقل من وزارة الحربية إلى عمل مدني بعيدا عن الاحتكاك بالمسائل الحرجة وكان يقول تفسيرا لهذه الفكرة انه لو أن علي ماهر عينني ناظر مدرسة بنات لكنت أكثر إنتاجا للبلد من منصب ضخم أكون فيه هدفا لمطاعن أنا بريء منها. كان يرى أن حزب مصر الفتاة لم يحقق الهدف المرجو منه. وأن حزب مصر الفتاه بعد سبع سنوات من تكوينه لا يجد الإنسان في جريدته شيئا مغريا بالقراءة وان ذلك راجع إلى أننا لا نؤمن بالكتاب هو الأساس لا يجاد شاب يصلح لخدمة بلده. وكان يعتبرنا لأننا لا نعرف تاريخ بلدنا على الوجه الصحيح وأن الأستاذ أحمد حسين وطريقة إدارته للحزب لا تدع مجالا لغيره من الزملاء الشبان في التعاون معه (1)..

وحتى نعرف أهمية ما قام به عزيز في مجال تحسين أمور الشرطة عندما كان مديرا لمدرستها ينبغي أن نلم بالظروف التي عمل فيها في ذلك الوقت. جاءت وزارة محمد محمود إلى الحكم لتحكم البلاد بقبضة من حديد. يذكر اللورد لويد وهو الرجل الذي كان القوة المحركة من وراء ستار للأحداث في مصر بصفته المندوب السامي لانجلترا كيف أن الملك فؤاد كان يكره الحكم البرلماني ويضيق به. ولكن لما كان الوفد برئاسة النحاس علي حد زعم لويد- هو السبب في عدم الوصول لاتفاقه مع ثروت، لم يكن أمام انجلترا برغم حرصها علي قيام الحكم الدستوري الذي كان هدف سياستنا والذي حافظنا عليه من غير كلل حيال الصعاب المستمرة تحت رحمة الملك" (2).

واقترن مجيء وزارة محمد محمود بتعطيل الحياة الدستورية بل أن الأستاذ الرافعي يتحدث في تاريخه للحركة القومية عن مؤامرة معقودة بينهم وبين القصر والإنجليز لتعطيل الدستور (3). وسواء كانت هناك مؤامرة بالفعل أم لم تكن على حد قول الأستاذ شفيق غربال (4) فان أول ما أقدمت عليه هذه الوزارة هو تأجيلها اجتماع البرلمان شهرا ثم صدر المرسوم الملكي بتأجيل ثلاث سنوات في السابع من يوليو من نفس السنة (5).

ويعلق لويد على هذا بقوله أن ذلك لمصلحة مصر بعد أن ثبت أن الحكم الدستوري بالنسبة إليها لم يعد تجربه ناجحة.

وبعد تعطيل وزارة محمد محمود للحياة النيابية في مصر استخدمت الشرطة في قمع الحركة الوطنية فقد كانت تريد أن تتصدى للوفد ولجان الطلبة الوفديين الذين أكثروا من الشغب والاضطرابات. أصدرت هذه الوزارة أوامرها إلى الموظفين بعدم الاشتغال بالسياسة ثم وسعت سلطات المديرين والمحافظين حكمداري البوليس وتقرر عدم مسئوليتهم عن أعمالهم إلا أمام الحكومة. ويسرد الأستاذ الرافعي ما قامت به هذه الوزارة فهي تصدر قانونا جديدا بتأديب المحامين وتعيد العمل بقانون المطبوعات القديم الصادر سنة 1881 والذي إعادته وزارة بطرس غالي (1908- 1910) لتتصدى به للحركة الوطنية إبان المد الثوري الذي شهدته هذه الوزارة (6).

وألغت وزارة محمد محمود التصريح الممنوح للعديد من الصحف كما أنذرت البعض الآخر بالتعطيل فعطلت جريدة البلاغ ومجلة روزاليوسف أربعة اشهر كما أنذرت جريدة الأهرام ولا باتري الفرنسية. ويروي الدكتور هيكل في مذكراته السياسية كيف أن البوليس ضرب جماعة من النواب الوفديين كانت في طريقها إلى القصر للاحتجاج على وقف الحياة النيابية. وقد ضرب البوليس هؤلاء النواب لأنهم لم يذعنوا لأمره بالتفرقة كما ضرب أيضا النظارة الذين ذهبوا ليمتعوا أعينهم بهذا المشهد (7).

تولي عزيز المصري أمور مدرسة الشرطة في هذا الجو الخانق للحركة الوطنية فرأى أن إدارته لهذه المدرسة تمكنه من أنشاء جيل جديد من رجال الشرطة لا يؤمنون أن دورهم هو أن يكونوا أعداء للشعب بل أصدقاء له أعوان لحركته الوطنية. آمن عزيز أن دور الشرطة خطير وهام ومن هذا المنطلق بدأ يعمل في تحسين أمورها.

استطاع عزيز أن يحبه طلبة المدرسة وأن يظل ولاؤهم له حتى بعد أن يترك المدرسة وخدمة الحكومة كلها.

سئل اللواء سعيد الألفي في قضية هروب عزيز المصري فقال. اسمي سعيد عزيز الألفي سن 27 مولود بسنهوه مركز مينا القمح بشارع المنصورة محمد نمرة 26 وقائد كتيبة السواري وسلاح الكلاب البوليسية بكلية البوليس الملكية.

س: كم سنه وأنت ملحق بخدمة المدرسة البوليس؟

ج: أنا في مدرسة البوليس من سنة 1929

س: هل حضرت عهد عزيز باشا المصري؟

ج: هو كان مدير مدرسة البوليس لما كنت ضابط مباحث الجيزة وكنت ذهبت للمدرسة استأذن لأركب سواري في العطلة الصيفية فعلمت من أركان حرب المدرسة عزيز بك المصري في ذلك العهد وعلمت من سعادته أنه أطلع على صور أحسن الطلبة في الركوب من مدة خمس سنوات ولما علم بأني كنت الأول في ضرب النار بالبندقية وحصلت على مكافأة مدير المدرسة في ضرب النار فعلمت أنني رشحت ضابط سواري في المدرسة وفعلا عينت من ذلك التاريخ واتصلت بعزيز باشا في ذلك التاريخ أي في سنة 1931

وفي سنة 1931 بعد زيارة المغفور له الملك فؤاد الأول عينت كومندانا للسواري وبقيت ذلك إلى الآن. وأثناء هذه المدة كنت اعمل على تحسين الإسطبلات والإشراف علي حدائق المدرسة ومعين لهذا الإشراف إلي الآن: فما تقرر سفر سعادة عزيز باشا المصري مع مولانا الملك فاروق إلى انجلترا طلب مني عزيز باشا أن اشرف من وقت لآخر علي حديقته بعين شمس (8).

ولم يكن سعيد الألفي هو وحده الذي يكن لعزيز ولاء وإخلاصا وحبا نتيجة تتلمذه عليه في مدرسة الشرطة بل نجد غيره كثيرين. من هؤلاء معاون مركز قليوب وكان اسمه اليوزباشي حسين الطلباوي فقد ذهب عزيز إليه عقب سقوط الطائرة قرب قليوب (1941) ومعه حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف وطلب منه سيارة توصله إلى القاهرة بحجة أن سيارته معطلة. ونجد في تحقيق هذه القضية كيف أحسن استقبال عزيز وأسرع بإحضار عربة المركز لتوصيله وزميليه إلى القاهرة.

وفي أحاديث كثيرة لعزيز المصري روي ما قام به في مدرسة الشرطة في حديث له لمجلة الجيل بتاريخ 13 مارس 1960 تحت عنوان علمتني الحياة قال عزيز: وعلمتني الحياة أن احتمال المسئوليات يخلق الرجال الكبار لأن الإحساس بالمسئولية يزيد من ثقة الناس بك واعتمادهم عليك وما أحوج شباب اليوم إلى الإحساس بالمسئولية في وقت نبني فيه مستقبل دولة كبير. وعلمتني الحياة أن طريق المجد طويل وشاق ويجب على من يسير فيه أن يتحمل مشاق الطريق ليستمتع في النهاية بحلاوة النصر.

وكان ذلك شعار في مدرسة البوليس. رفض أن يكون هناك مراقبون للطلبة في امتحاناتهم بل أنه أمرهم بإحضار كتب المادة التي يمتحنون فيها ويضعونها أمامهم دون أن يفتحوها.وكان رأيه في ضابط الشرطة المستقبل لابد أن يكون أمينا فكيف نفرض فيه الغش ثم نعهد إليه بمحاربته بين الناس. وحرم علي الطلبة غلق خزائنهم التي يضعون فيها حاجياتهم وقال ليس بين طلبة الشرطة من يسرق لأنهم سيحاربون السرقة عقب التخرج (9) وقال مخاطبا طلبته وقد رآهم يضعون أقفالا في دواليبهم فأمر بإزالتها قائلا: كيف تكونوا رجال أمن في المستقبل مسئولين عن أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم. وانتم منذ الصغر يستريب أحدكم في صاحبه فلما قيل له ولكنهم يضعون نقودهم في هذه الدواليب. قال: ولو فلما قيل له أنه يوجد غير الطلبة بعض الخدم قال ولو لماذا لا يتعلمون الأمانة أيضا؟ ولم تحدث حادث سرقه واحدة طوال إدارة عزيز المصري لمدرسة البوليس فقد رفع شعار الأمانة فآمن به الجميع (10).

روى أحمد حسين لصحيفة الأخبار بتاريخ 10 يوليو 1976 بعض ذكرياته عن عزيز المصري ودوره في مجال تحسين الخدمة في الشرطة قال تحت عنوان عزيز المصري شخصيته أسطورية. طلب عزيز مقابلتي وهو مدير مدرسة البوليس. وكانت مصر الفتاة مدموغة بأنها هيئه ثورية والبوليس يطاردها. ومع ذلك أصر عزيز المصري أن يقابلني في المدرسة وفي الموعد المحدد وجدت من ينتظرني وكما حاولت أن ألمح إلى ما قد يعرضه من المتاعب قال أن سلطة وزير الداخلية (فهمي القيسي) تنتهي عند أبواب هذه المدرسة كانت نصيحته لكل من يقترب منه: الكتاب والمسدس وكان يعني بالكتاب الثقافة والقوة الروحية ويعني بالمسدس القوة المادية!

والحقيقة أن عزيزا واجه المتاعب من أجل تطوير الشرطة ولم يكن الطريق أمامه سهلا معبدا فقد صرح لصحيفة آخر ساعة (10/6/1964) بقوله أنني أردت أن أنشئ سلاحا للكلاب البوليسية ولكن وزير الداخلية القيسي باشا رفض بحجة أنها نجسه وهكذا أراد أن يكون مسلما أكثر من المسلمين.

وقرر عزيز زيارة عدد من دول أوربا للاطلاع على أحدث نظم البوليس بها وعندما عاد قدم تقريرا عبارة وبما ينبغي أن تكون عليه الشرطة في مصر فقد بلغ عزيز أن الملك فؤاد يريد أن يزور مدرسة البوليس بعد أن سمع عن التنظيم الجديد والروح التي بدأت تدب في هذه المؤسسة، ورفض عزيز أن تكون هناك ترتيبات خاصة أو استعدادات بذاتها لهذه الزيادة الملكية وكان رده علي ذلك لا داعي لأي استعداد أننا لا نريد أن نمثل أو نفتعل شيئا وتمت زيارة الملك فؤاد للمدرسة في عام 1931 في العام التالي وفي الأجازة الصيفية تمت الموافقة على أن يقوم عزيز بزيارة بعض عواصم أوربا لدراسة نظم البوليس بها ولقد عثر علي التقرير الذي كتبه عزيز عن هذه الزيارة في وزارة الداخلية مطبوع تحت عنوان: تقرير من عزيز المصري عن إصلاح أحوال الشرطة (11).

قدم عزيز تقريره إلى رئيس الوزراء ووزير الداخلية (صدقي باشا) قال عزيز أنه كلف في أثناء العطلة الدراسية (1932) بالقيام برحلة لدرس نظما البوليس ومدارسه في عواصم أوروبا "ولضيق الوقت لم أمر إلا بروما وباريس ولندن وهامبورج وبرلين". (أي أن نيته كانت في زيارة بلدان أكثر مما زارها). وقد خصص عزيز أكثر وقته لبرلين وعلل ذلك لأن نظم البوليس في ألمانيا أحدث منها في البلاد الأخرى، ولأن التصريح بزيارة البوليس في إنجلترا احتاج إلى عشرة أيام انتظار في لندن، لأن نظم البوليس الإنجليزي والفرنسي –على حد قوله معلوم منها الشيء الكثير في مصر. ويقول عزيز وقد رأيت كثيرًا مما يشبه ما هو عندنا أو مما لا ينفعنا فضربت عنه صحفًا في هذا التقرير واقتصرت على عرض ما يهمنا أو ما قد تهمنا معرفته.

بدأ عزيز رحلته بزيارة روما وأعجبه فيها دراسة البصمات والآثار وعلم طبائع المجرمين وأعجبه أن مدير مدرسة البوليس العليا فيها ومدة الدراسة فيها ستة شهور، وأغلب طلابها من موظفي البوليس الملكي ومن حملة الشهادات العليا في القانون -يجري دراسة ميدانية على المجرمين في السجن العمومي- كما أعجبه اعتناء الإيطاليين بعلم الفوتوغرافيا واستخدامه أحسن استخدام في تطوير الشرطة. ولم يتحدث عزيز عما شاهده من إنشاء الإيطاليين لمدرسة كلاب البوليس فقد اكتفى بالحديث عن ذلك بما شاهده في إنجلترا وألمانيا.

فعل عزيز نفس الشيء وهو يتحدث عن زيارة لكلية الشرطة في باريس فلم يتحدث عن فرع الفوتوغرافيا فيها مكتفيًا بما رآه في ألمانيا، وتأسف لأنه لم يلتق بالشخصيات التي تمكنه من تلقي المعلومات الوافية عنها واكتفى ببعض أجوبة حصل عليها من إدارة البوليس، أعجبه في البوليس الفرنسي الجماعات المتنقلة التي تتحرك لتعقب الحوادث الهامة من قتل وتزوير وكل جريمة أو حادثة يحيط بها الغموض.

أما البوليس في إنجلترا فقد أعجب عزيز بما رآه من لجنة القبول التي تختار من تلتحقون به "ولجنة القبول فضلاً عن رعايتها للمؤهلات الجسيمة المطلوبة فإنها تهتم بصفة خاصة بشخصية الطالب فيجب أن يكون مقدمًا من شخص معروف يضمن عائلته وأخلاقه ثم يجب عليه أن يجيب على بعض الأسئلة التي تدل على فراسته وذكائه ومتانة أخلاقه –ونظرة إلى بوليس لندن تكفي للدلالة على مقدرة أعضاء لجان القبول في حسن الانتخاب ووقوفهم على علم النفس وطبائع الإنسان.

ولقد أراد عزيز بإبراز هذه الحقيقة أن يؤكد للمسئولين في مصر أن الأسلوب الذي اتبعه في اختيار فيما يسمى (كشف الهيئة) في مصر أمر يدعو للسخط وسوء التقدير، فقد روى عزيز كيف أنه حدث في استقبال دفعة جديدة من الطلبة أن جاء ما يسمى (كشف الهيئة) وجاء كل طالب ومعه الواسطة التي بها يجتاز هذه الكشف وانسحب عزيز وهو يرى رسل باشا يختار الطلبة على هذا الأساس، وقال لأعضاء لجنة القبول ورئيسها رسل باشا أنه لا علاقة لأحد خارج المدرسة باختيار الطلاب، فإني مسئول عن تعليهم فيجب أن يتم اختيارهم وفق قواعد معينة (12).

ثم انتقل عزيز إلى الحديث عن نظم البوليس في ألمانيا فأفرد لها عشر صفحات كاملة من تقريره البالغ تسع وعشرين صحيفة، أوضح عزيز تاريخ إنشاء البوليس الحالي في ألمانيا فأوضح أنه أنشئ بعد الحرب العظمى (العالمية الأولى) بهدف فهم التيارات الحديثة التي عمت الشعب الألماني بعد هذه الحرب وما ظهر من أحزاب سياسية متطرفة تميل إلى الشغب فكان الهدف من إنشاء هذا النظام الذي وصفه عزيز بأنه نظام عاقل لديه القدرة على ضبطها وتوجيهها في الاتجاه النافع، وأعجب عزيز بمدرسة البوليس في براندنبرج التي قال عنها عزيز أنها واحدة من عشر مدارس للبوليس في بروسيا والتي هي جديرة بالإعجاب في كل فروعها كالسباحة وإنقاذ الغرقى والمصارعة اليابانية وخفة ودقة الحركات العسكرية واستعمال السينما في ضرب النار وغير ذلك.

ذكر عزيز أن نظام البوليس في ألمانيا يتبع طريقين الطريق الأول يسلكه الطالب الذي لا يحمل مؤهلات مخصوصة كالبكالوريا أو شهادات الجامعة أو التخصص في شعبة فنية ولا يصل سالكه إلى درجة ضابط ويعمل خريج هذا القسم في وظائف الدوريات والأعمال الكتابية، أما الطريق الثاني ويسمى الطريق العالي يسلكه أصحاب المؤهلات العالية وهو الذي يوصل إلى طبقة الضباط التي تنتهي بدرجة جنرال.

وأعجب عزيز كثيرًا بمدرسة التخصص في الرياضة البدنية والتي رأى أنها تفي بالغرض المقصود منها وهو إنماء ملكات المخاطرة والجراءة مع التعقل وسرعة البت عند المباغتة فتكون مفيدة للدفاع والهجوم والإنقاذ لأنها هي الصفات التي إن توفرت في شخص كبرت قواه المعنوية وعظم اعتماده على نفسه فيزول عنه الارتباك وتهيج الأعصاب الذي يجب ألا يطرق رجل البوليس (13) وشاهد عزيز في ألمانيا معهد البوليس العالي وأعضاؤه من الأساتذة الأخصائيون في القانون والإجرام والتسليح والتجهيز والكهرباء والصناعة.

ثم تحدث عزيز بإسهاب عن سلاح الكلاب البوليسية وهو أمن عزيز بضرورة توافره لدى الشرطة في مصر، وقال في تقريره لا أرى فائدة في استخدامه الآن في المدن إلا في وجهين أولهما التفتيش عن مجرم فر من السجن ويكون البوليس قد عرف الطلب به من قبل أو البحث عن شخص مراقب.

ثانيهما مساعدة البوليس في العثور على مخابئ وغرز الحشيش والأفيون حتى تعلم الكلب رائحتها من قبل، أما في الأرياف فرأى عزيز أن للكلاب البوليسية فائدة في السرقات والدوريات الليلية خصوصًا بين حقول الأذرة والقصب وما شابههما لاكتشاف كمين المجرمين، أما في الصحارى والحدود فهي معينة في اقتفاء الأثر في الليل، ورأى عزيز أن في استيراد الكلاب البوليسية فائدة لا تقل أهمية عما سبق له ذكره وهي أن في تربية هذه الكلاب واستحداث أنواع مصرية فوائد للبوليس منها إنماء للذكاء والفراسة والمثابرة وحب الحيوان والرفق به "وهي صفات نحن في حاجة قصوى إليها" (14).

وانتهى عزيز إلى مقترحات فائدة للشرطة في مصر، أكد عزيز أن كل الحكومات المتمدنة لم يعد البوليس لديها أداة لتنفيذ أغراض الحكومة فحسب، بل أصبح أداة دقيقة تستلزم إدارتها فهم الشعور الداخلي للتيارات الاجتماعية والحركات التي هي وليدة الأفكار الحديثة، ولذلك وضعت هذه الحكومات نظامًا واسعًا شاملاً لتعليم وتثقيف بوليسها حتى يكون قادرًا على فهم كل التقلبات السياسية والاجتماعية فيتدارك الأخطاء قبل وقوعها ويساعد في تحويل القوى الثائرة إلى اتجاهات مفيدة هذا فضلاً عن وظيفته الأساسية في حفظ الأمن وتعقب المجرمين.

ثم اقترح عزيز ضرورة إنشاء قسم الكونستبلات وقال أن عسكري البوليس الحالي في مصر اتفقت كل الجهات على عدم كفاءته وقلة لياقته لحالة مصر الحديثة، وأما بالنسبة للضباط فقال عزيز أن مدرسة البوليس والإدارة خطت خطوات واسعة من يوم اشتراطها قبول الطلبة بشهادة البكالوريا ودخولها في مصر في الدراسة العليا، واقترح أن تبقى الدراسة بها ثلاثة سنوات وأن تزاد سنة رابعة للتوسع والتخصص، ورأى عزيز أن هيئة التدريس بالمدرسة في حاجة ماسة إلى أن توجه إليها العناية والرعاية الكاملة فينبغي لمدرس مدرسة الشرطة وخاصة مدرس القانون أن يكون شخصًا كفئًا مارس النيابة والقضاء مدة غير قليلة، وأوضح أن مجلس المدرسة اقترح في 15 يونيو 1931 أن يتبع حضرات مدرسي القانون بالمدرسة لوزارة الحقانية ومدرسي اللغات والعلوم الأخرى لوزارة المعارف وذلك فيما يتعلق بترقياتهم وتعلمهم، ولكن مجلس إدارة المدرسة أرجأ ذلك، وأخيرًا وافق مجلس الإدارة في 29 أكتوبر 1932 على أن يوصي وزير الداخلية بالعمل بهذا الاقتراح، ورجأ عزيز أن يتحقق ذلك حتى يرتفع مستوى المدرسة وتزول حالة الإبهام وعدم الاطمئنان السائدة على نفوس المدرسين الآن.

طالب عزيز في تقريره كذلك تعديل مباني المدرسة وتوسيعها وإنشاء حمام للسباحة وورش لإصلاح السيارات وتأسيس قسم الكلاب البوليسية وكل هذه الإجراءات التي تجعل من مدرسة البوليس ينبوعًا صالحًا لإصلاح البوليس المصري لا تتجاوز نفقاتها عشرين ألف جنيه، وأوصى بحصن اختيار الطلبة والتمس إعطاء مدير المدرسة الحق في الخروج على قاعدة السن بشرط ألا يتجاوز سنة في حديه الأدنى والأقصى، وختم تقريره بقوله: إن ما تشعر به المدرسة من رغبة دولتكم في النهوض بها وحسن استعدادكم لرقيها يجعلها كبيرة الأمل في أن تأمروا بسرعة بدراسة اقتراحاتنا وتنفيذها متى صادفت قبولاً لدى دولتكم وقد تجاسرت بتقديمها مدفوعًا بعامل الإخلاص ومتمشيًا مع روح الرقي السائدة في بلادنا اليوم بإرشاد ورعاية جلالة ملك مولانا المعظم حامل لواء النهضة العلمية والحركة الفكرية في الشرق (15).

وقد زود عزيز مدرسة البوليس بمكتبة كي يتمكن الطلبة من البحث والاطلاع فقد كانت توصيته دائمًا لمن يقابله أن يتزود بالمعرفة كما أدخل المصارعة اليابانية وبث في طلبته روح الاعتزاز والوطنية والميل للقراءة والبسالة والشجاعة في الحق.

ولكن لم يقدر للمسئولين في مصر أن يأخذوا آنذاك بما أوصى به عزيز في تقريره فقد كانت حكومة صدقي إذ ذاك تواجه الحركة الوطنية بالحديث والنار بعد تعطيلها لدستور 1923، وانفجرت القنابل وكثرت التهديدات للمسئولين ومنها على سبيل المثال ذلك التهديد الذي تلقاه القيسي في 6 سبتمبر سنة 1931 وقدم عدد من المصريين للمحاكمة في القضية المشهورة بقضية القنابل، وفي فبراير 1933 وقع صدقي فريسة مرض طويل وتبع ذلك تقديمه استقالته في 21 سبتمبر من نفس العام.

ولعل ما قام به عزيز المصري من إصلاحات في مجال الشرطة وما عرف عنه من استقامة الخلق والكفاءة في العمل هي الدوافع التي جعلت الملك فؤاد يختاره رائدًا لابنه الأمير فاروق عندما قرر إيفاده إلى إنجلترا ليكمل دراسته.

يقول كيلرن في مذكراته:

الأحد السادس من أكتوبر 1935 (الإسكندرية) أبحر الأمير فاروق من ميناء رأس التين الساعة التاسعة والنصف صباحًا، أنه ولد بسيط وطيب يتكلم الإنجليزية بطلاقة يتكلمها في الحقيقة مثل أي ولد كبير في إنجلترا إنني أعتقد أن ذلك يرجع بالدرجة الأولى إلى مربيته الإنجليزية مسز نايلور. أنه يتطلع بشغف لرحلته إلى إنجلترا وزيارته لها. وقد أخبرته أنه سيلقي ترحيبا من الشعب الإنجليزي. لقد أثر في صراحة. أنه ولد أمين وطيب.

Sunday 6 October/ Alex.

Prince Farouk left from Ras El Tin Jetty at 9.30 a.m Anice Simle boy, talks English well. In fact like an overgrown boy. I think he owns much to his English Nanny, Mrs Naylor. He is greatly looking forward to his trip and visit to England. I told him he would get a warm welcome from the British public, et. I was framkly impressed by him a mice honest lad I should say (16).

أوردت هذا النص من مذكرات اللورد كيلرن لأوضح رأيه في فاروق الصبي فهو يراه شاب أمين طيب. ومن هنا كان دور الرائد له خطير وهام وكان اختيار عزيز المصري لهذه المهمة اختيارا موفقا لكن حيل بين عزيز وبين ما كان يتمناه من تربية فاروق فقد سافر معه إلى إنجلترا أحمد حسين رائدا آخر الولي العهد بل أصبح أحمد حسين هو الرائد وعزيز المصري كبير المعلمين أي انه في المرتبة الثانية بعد أحمد حسين. ونترك عزيز المصري يقص علينا فهو يصرح لصحيفة الجمهورية (17). أن الأسرة المالكة كلها فاسدة وهي لمصر كابوس تنخر عظامها. رأيت الرجل أحمد حسين يدعو الفتيات إلى الفيلا التي نسكنها مع فاروق في لندن فيتركهن معه لينفرد بهن. وكان يصحب فاروق إلى أسوء الملاهي الليلية وأقذرها متعة ويسمونها علب الليل ويعودان مع الصباح المبكر وولي العهد يترنح من التعب والإجهاد فلما برمت بهذه الحياة التعسة التي يحياها ولي عهد مصر أعربت عن سخطي بنصيحة أسديها لسموه فقاطعني أحمد حسين قائلا إنه لا يزال شاب في عز شبابه فيجب أن يعرف الدنيا بما فيها ومن فيها قبل أن يشغل كاهله عبء العرش والحكم. وكانت النتيجة إنني أبعت عن ولي العهد وعدت إلى مصر وخلا الجو للرائد أحمد حسين يصنع بالفتي الملكي ما يشاء. أما أحمد حسين زعيم مصر الفتاة فقد روى عن تلك الفترة التي شغل فيها عزيز منصب الريادة لفاروق تحت عنوان (18). عزيز المصري كما عرفته [تعيينه رائدا لولي العهد]

فوجئنا ذات يوم والحديث يدور عن سفر فاروق ولي العهد ألي إنجلترا لكي يتعلم بعزيز المصري يختار ليكون رائدا ومشرفا على بعثة تعليم بقلم ولي العهد في إنجلترا. ثم لم يلبث هذا اللقب (لقب الرائد) أن انتقل منه إلى أحمد حسين وأعلن أن منصب عزيز المصري هو كبير المعلمين وأن الملك فؤاد قد أنعم عليه بهذه المناسبة برتبة الباشوية فأصبح عزيز باشا المصري.

وذهبنا نهنئه فما راعنا إلا أن نجد عزيز باشا المصري اشد ثورة وتمردا على الأحوال الجارية من عزيز بك المصري ونراه يسخر من رتبة الباشا ولا يرى فيها أي ميزة ألا أنها ستكبده بعض المصروفات ويهاجم الملك الذي استبدل في أخر لحظة أحمد حسين على رأس البعثة ولا يرى في ذلك إلا نذير شر.

وفي لندن يحاول عزيز المصري أن –يجعل من فاروق رجلا في الوقت الذي تعمل فيه بقية الحاشية على أن يخلق منه ربا. فعزيز المصري يخرج بفاروق إلى الخلاء في ملابس رياضية ممتطين صهوات الخيول فإذا ببقية الحاشية وعلى رأسهم أحمد حسين يعدون وراءهم بالسيارات وهم يحملون المعاطف الثقيلة والكوفيات ويذكرون بها فاروق خوفًا عليه من البرد والهواء.

وعندما يخاطبه عزيز باسمه مجردًا ويلقي عليه الدروس والنصائح يأبى الآخرون إلا أن ينادوه بأكبر الألقاب والتعظيم وأن ينحنوا له ويقبلوا يده.

وكان طبيعيًا أن يحدث الاصطدام بين هذين التيارين. وتبدأ القصة أن والدة فاروق الملكة السابقة نازلي كانت ترسل له الخطابات تفيض بعبارات الأنين والحزن على فراقه وأنه لا يرفأ لها دمع ولا يغمض لها جفن إلى أن يعود، وكانت إخواته الأميرات يرسلن له مثل هذه الخطابات الباكية وكان فاروق يضطرب. فكان أن كتب عزيز إلى فؤاد في تقريره الشهري شارحًا ذلك واقترح أن تعدل الملكة نازلي وبقية الأميرات من هذا الأسلوب وأن يستعيض عنه بأسلوب يشيع بالتفاؤل ويشجعه على المضي في الدرس والتحصيل، واستدعى فؤاد زوجته ونهرها وزجرها وحظر عليها أن تكتب لفاروق ، ولم يعد فاروق يتلقى رسائل من أمه أو أخواته وسأل فاروق الرائد أحمد حسين فأبلغه أن السبب هو عزيز، وغضب فاروق من عزيز، فاستوقف عزيز فاروق ا وقال له ستكون ملكًا وأول مظاهر الملك أن تكون شجاعًا فكيف ترضى لنفسك أن تكون بهذا الجبن، وتقاطعني منذ بضعة أيام وهذا عمل الأطفال فكن شجاعًا.

وقال له فاروق أنه (عزيز) حال بينه وبين (ماما)

قال عزيز:

-ومن قال ذلك؟

-عرفت.

-كيف؟

-صمت فارق ولم يجب.

دعا عزيز أعضاء البعثة وعلى رأسهم أحمد حسين إلى الاجتماع ثم وجه الحديث إلى فاروق وقال له أن الذي أطلعك على التقارير خان الأمان فإن المادة كذا من التعليمات تنص على أن التقارير التي تكتب عن شئون ولي العهد يجب أن تكون سرية ولا يطلع عليها بأي حال من الأحوال، وطلب عزيز من فاروق أن يتلو ما جاء في التقرير وقال له هل في هذا طلب بالكف عن الكتابة فلم يرد فاروق بينما مضى عزيز يقول إذا كان هذا سبيلك إلى المستقبل فما أخوفني على مستقبلك!

وفي كتاب الأستاذ محمد التابعي بعنوان أسرار الساسة والسياسة (مصر ما قبل الثورة) ما يلقى الضوء على شخصية أحمد حسين في حياته الخاصة والعامة والذي وصفه بأنه كان رجلاً ذا مطامع واسعة وكان كل نجاح يلقاه يغريه بالتماس نجاح آخر وكل منصب يرقى إليه يغريه بالسعي وراء منصب آخر يفوقه سلطة ونفوذًا (19). وقال إن صديقه حفني محمود فاجأه مرة وهو يقرأ كتابًا فإذا بهذا الكتاب هو الأمير لمؤلفه السياسي الداهية ميكافيللي الذي وضع كتابه على أساس أن الغاية تبرر اتخاذ كل وسيلة وهكذا فضح حفني محمود سياسة صديقه حسين (السياسة الميكافيللية) سياسة الخبث واللف والدوران وكل وسيلة مشروعة في سبيل تحقيق الغرض والوصول إلى الهدف، وكل غرض شريف مادام في خدمة الأمير –أي الحاكم، وكان الأمير يومئذ هو الدولة- والدولة هي الأمير (20).

وفي نفس الكتاب يشرح لنا الكاتب رحلة الأمير فاروق التي قام بها قبل توليه سلطاته الدستورية بعد وفاة والده في أبريل 1936 فقد عاد فاروق من إنجلترا التي كان يدرس بها في الأسبوع الأول من شهر مايو من نفس العام. ولما كان قد تقرر أن يتولى الملك فاروق سلطاته الدستورية في يوم 28 يوليو عام 1937 رؤي أن يقوم الملك الذي وصفه التابعي في كتابه بأنه (نصف الأمي) الذي لم يكمل دراسته ولم يحصل من العلم إلا أقل القليل رؤي أن يقوم برحلة طويلة إلى أوروبا لعل الرحلة تزيد في تجاربه ومعلوماته ولو قليلاً.

وخلال هذه الرحلة التي رافقه فيها أحمد حسين وحاشية كبيرة وعدد من الصحفيين قدمت للملك الشاب من آيات النفاق والتزلف الشيء الكثير وبدأت حاشيته وعلى رأسها أحمد حسين الوقيعة بينه وبين وزارة النحاس بخصوص الحفلة الدينية المزمع إقامتها للتويجه على العرش. ويورد التابعي حديثًا لأحمد حسين خلاصته: لقد كنا في أوروبا محيطين بالملك، وكان هو يعمل برأينا ويصغي لمشورتنا.. ولكننا نعود الآن إلى مصر.. وأولاد الحرام هناك كثيرون. ولن نستطيع أن نحلق على مولانا كما كنانفعل في أوروبا.. ولن يمكننا أن نمنعه من الاتصال بهذا وذلك.

كذلك لن نستطيع أن نمنع أولاد الحرام هؤلاء من مقابلته.. وأرجو منك وقد أصبحت واحدًا منا (كذا) أن تساعدني عند أصحابك الوفديين وأن تقنعهم بأن فاروق غير فؤاد وأن سياسة الشدة والعنف مع فاروق لا تنفع لأنه عنيد وذو كبريا وقد لمست أنت هذا بنفسك.

بل إن التابعي نفسه يعتبر أن فاروق ا حين يناديه باسمه مجردًا علامة من علامات الرضا عنه فإذا ناداه يا أستاذ تابعي أنها من علامات الغضب الملكي (12).

وهكذا حالت هذه الحاشية بين عزيز المصري وبين أن يقوم بتربية فاروق تربية كانت بكل تأكيد سوف تغير مجرى حياته بل ربما غيرت مجرى التاريخ في مصر لو أنشأه النشأة الصالحة. لكن أحمد حسين حين انفرد بفاروق أنشأه النشأة التي هوت به إلى الحضيض. وفي المرجع السابق أمثلة كثيرة من ذلك أن فاروق تضايق من حراسة البوليس الفرنسي له عند زيارته لفرنسا في رحلته السابقة الإشارة إليها فأراد أن ينتقم من رجال البوليس هؤلاء وأن يسخر منهم فذهب إلى مطبخ فندق الماجستيك واستعار من الطهاة عددًا من الأواني النحاسية مثل الكسارولات وربطها جميعًا بطرف حبل ثم طلب من خادمية الإيطاليين بترد وجارو أن يتسللا إلى السيارة الصغيرة التي كان يركبها البوليس الفرنسي ويتبع فيها فاروق وأن يربطا الطرف الثاني للحبل في مؤخرة السيارة من غير أن يشعر البوليس بهم، ونجح بترو وجارو في مهمتها وعادا إلى الفندق وأبلغا فاروق الذي أسرع فاروق بالخروج ليسرع وراءه رجال البوليس والأواني النحاسية تحدث أصواتًا غريبة ومزعجة. ووقف المارة في الطرقة والميدان يضحكون ويصفرون ويسخرون من رجال البوليس. وعاد فاروق إلى الفندق وعاد وراءه رجال البوليس ساخطين وقال رئيسهم –ده لعب عيال- والذي فعل فينا هذه الفعلة يستحق أن يضرب علقة (22).

وهكذا فشل أحمد حسين في تربية فاروق ولو ترك عزيز المصري الحرية في تنشئته لكان له معه شأن آخر بالطبع.

أما اللورد كيلرن فيصفه حين عودته أنه وجد طفلاً متعبًا مشوشًا يعود ليحكم مصر.

Farouk looked pale and decidedly spotty poor boy. I dare say he is very tired. We had a few words as he went past and he said he had a very pleasant journey and had been very much impressed by all the couresies which we had extended to him. He hoped I would let London know how grateful he was.

وحين نمضي مع مذكرات كيلرن نجده يوضح أنه خلال مقابلاته مع فاروق أخذ ينصحه بأن يستعد لتحمل مسئوليات الحكم:

السبت 15 أغسطس 1936 الإسكندرية.

قابلت الملك فاروق في المنتزه كان يلبس ملابسًا أنيقة ومحافظًا على الموعد هذه المرة. ناقشنا أمورًا تافهة. قلت أنه لن يهتم لو قلت له شيئًا في صورة محاضرة. لا يستطيع أحد أن يلومه إذا أمتع نفسه فكلنا في نفس السن فعلنا نفس الشيء لكن يجب أن يتذكر أن عليه مسئوليات سوف يتولاها فعليه أن ينمي ذهنه ويعد نفسه لتحمل المسئوليات بدلاً من ضياع وقته فيما لا شيء وفي إمتاع نفسه. وكان السبب الذي دفعني لقول ذلك أنني علمت منذ مجيء فورد (معلم فاروق ) أنه لم يلتق به أكثر من خمس دقائق. وهذا يعطي انطباعًا سيئًا! وأكدت له أن فورد لم يشك لي ولكن هناك انطباعًا سيئًا في الخارج وأن عمل جلالته أن يشغل نفسه بعمله. وتقبل الملك ذلك وقال أنه سوف يحقق ذلك. فمن الممتع أني يكون للإنسان وقت يسعد فيه لكن ليس على حساب العمل.. وقلت له يجب أن تتذكر مركزك.. وأن المعتمدية البريطانية والحكومة الإنجليزية من ورائه تسنده لكن يجب عليه أن يفعل هو الآخر أحسن ما عنده (24).

وهكذا وبعد أن كان كيلرن في أول مذكراته يرى فيه الشاب الطيب البسيط أصبح ينصحه بأن يستعد لتحمل مسئوليات الحكم. وكل ذلك مرجعه بالطبع عدم تنشئته النشأة التي تعوده تحمل المسئوليات وهي إحدى الأمور الهامة التي كان عزيز المصري يرى ضرورة تدريبه عليها أثناء زيارته له. ولكن أحمد حسين وقف حائلاً دون تحقيق ذلك.. ونلمس في مذكرات كيلرن تنبأه بأيام عاصفة مع هذا الملك الشاب. I think we may have strong times ahead.


هوامش الفصل الثاني

(1)ملف قضية الهروب غير منشورة.

(2)Lioyd: Egypt since Gromer London 1934.

(3)عبد الرحمن الرافعي : في أعقاب الثورة ص28.

(4)شفيق غربال : تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية ص199.

(5)محمد برج : قناة السويس أهميتها السياسية والاستراتيجية ص90.

(6)محمد برج : بطرس غالي .

(7)هيكل : مذكرات في السياسة المصري ص291.

(8) ملف القضية الخاصة بمحاكمة عزيز المصري لهروبه سنة 1941.

(9)مجلة المصور 25/6/1965 .

(10)محمد صبيح : عزيز المصري وعصره ص100.

(11)تقرير عزيز المصري عن إصلاح الشركة محفوظ بوزارة الداخلية المصرية.

(12)محمد صبيح : عزيز المصري ص102.

(13)انظر نص التقرير بالملاحق ص9 من التقرير.

(14)التقرير ص16.

(15)التقرير ص29.

(16) Evan: The Killearn diaries 1934-1946-p-sg.

(17)الجمهورية 18 يونيو 1965 .

(18)المساء 1/7/1965 .

(19)محمد التابعي : أسرار الساسة والسياسة ص22.

(20)المراجع السابق ص20.

(21)المرجع السابق ص 67.

(22)نفس المرجع ص78.

(23) Evan: The Killearn diaries p. 6.

(24)المصدر السابق ص81.

الفصل الثالث: عزيز المصري وقيادة الجيش

تمثل معاهدة 1936 التي عقدت بين مصر وبريطانيا مرحلة هامة من مراحل الحركة الوطنية. فقد نظمت هذه المعاهدة العلاقة بين مصر وبريطانيا لتكون علاقة تحالف بين الجانبين بعد أن كانت قائمة على أساس تصريح من جانب بريطانيا وحدها وهو تصريح 28 فبراير لم تعد إنجلترا بعد تطور القوات الحربية – إذ أصبحت قوات ميكانيكية – بحاجة إلى بقائها داخل المدن المصرية – مادامت المعاهدة قد وفرت لها قاعدة حربية في منطقة السويس ولقد أوضح إيدن ذلك في مجلس العموم في 24 نوفمبر 1936 إذ أوضح الأسباب التي من أجلها وافقت الحكومة على ألانسحاب من مدن مصر الكبرى كالإسكندرية والقاهرة فأشار أن ذلك يرجع إلى عاملين. أولا: إن القوات الحربية صارت قوات ميكانيكية أي أنه عندما يتم أنشاء الطرق والمواصلات المقررة في المعاهدة فانه من الممكن لقواتنا أن تتحرك سريعا بغرض حماية مصر من أي عدوان خارجي.

ثانيا: إن الطيران البريطاني قد أعطى حق التحليق في أي مكان يراه لازما لأغراض التدريب. وأوضح إيدن في نهاية خطابه أن الأماكن التي حددت لتدريب القوات الجوية في منطقة قناة السويس هي مناطق صحية ومريحة مما جعل من الأفضل لهذه القوات البقاء في منطقة القناة. (1)

ضمنت المعاهدة لبريطانيا قاعدة حربية وجوية في منطقة قناة السويس توفر فيها كل ما يجب توافره في القواعد العسكرية من النواحي السياسية والاستراتيجية كما تضمنت المعاهدة قاعدة بحرية لبريطانيا في الإسكندرية لمدة ثمان سنوات من تاريخ العمل بالمعاهدة.

أما عن المدة التي تبقى فيها القاعدة الحربية في منطقة السويس فقد تقرر أن ذلك مرهون باتفاق الطرفين على أن الجيش المصري أصبح في حالة يستطيع معها أن يكفل بفرده حرية الملاحة في القناة وسلامتها التامة واتفق علي أنه إذا أختلف الطرفان المتعاقدان عند نهاية مدة العشرين سنة المحددة للمعاهدة على مسألة إذا كان وجود القوات البريطانية لم يعد ضروريا لأن الجيش المصري أصبح في حالة يستطيع معها أن يكفل بفرده حرية الملاحة على القناة وسلامتها التامة فان هذا الخلاف يجوز عرضه على عصبة المتحدة .

كان من الواضح أن هدف إنجلترا من وراء عقدها للمعاهدة هو إعطاء وجودها في مصر صفة الشرعية التي تستند إلى معاهدة التحالف بدلا من الاستناد إلى تحفظات أربعة تضمنها تصريح 1922وفي برقية السير مايلز لالسبون إلى إيدن وزير الخارجية في 6 نوفمبر 1936 عن مقابلته لأوصياء العرش ما يؤكد هذه الحقيقة فقد تضمنت البرقية قول المعتمد البريطاني (2) للأوصياء لقد جرى كلام كثير هنا في القاهرة عن أن نفوذنا في مصر سيقل من ألان فصاعدا وهذا كلام فارغ that was sheer non sense وأوضح لامبسون أن النفوذ البريطاني ينبغي أن يزداد وأن كان من نوع مختلف حيث لم يعد هناك ألان موجودا عنصر الإملاء وأما النصيحة الودية التي ترمي إلى المساعدة. فلقد حاولنا في السنوات الأخيرة أن نجعل رغباتنا ووجهات نظرنا معلومة بكل لباقة، وأن نتحاشى بكل حرص، وعلى قدر الإمكان، الالتجاء إلى التحفظات الأربعة، والآن فان هذه التحفظات على وشك أن تصفى بإبرام المعاهدة. وسيتغير مركزنا عما كان عليه من قبل our status would be changed pro tanto ولكن دورنا كحماة لمصر لن يتغير. بل إنه في الحقيقة قد أزداد قوة وأصبح شرعيا بالمعاهدة وقد كنت متفائلا بدرجة كافية لان آمل أن أهمية دورنا كنصحاء ومرشدين وأصدقاء لمصر وسوف تنمو عاما بعد عام تبعا لتطور الأمور. فبعد أن زال عنصر الإملاء الذي كان كامنا سوف نكون في وضع الشقيق الأكبر مع الشقيق الأصغر، أو وضع الشريكين في بيت تجاري ولو أنه بحكم طبيعة الأشياء فإن نفوذنا يجب أن يكون أكبر في الشئون الدولية، علاوة علي ذلك فإنه من الواضح أننا لا يمكن أن نتخلى عن الاهتمام برفاهية مصر واستقرارها، حتى لو أردنا ذلك. فبوصفنا حلفاء، فإن اهتمامنا بهذه الرفاهية وذلك الاستقرار أصبح أكبر مما كان (3). وإذا كانت إنجلترا قد استهدفت من المعاهدة شرعية لوجودها في مصر فأنه كان من الطبيعي أن يظل لبقائها صفة الدوام في مصر وطالما أن بقاءها أصبح مرتهنا بقدرة الجيش المصري على الدفاع فكان من الطبيعي أن تحول بين هذا الجيش وبين بلوغ تلك المرحلة وأن تربطه إلى عجلتها.

لقد كان من أول الأمور التي حرصت عليها إنجلترا منذ أن وطئت أقدامها مصر حل الجيش المصري في 19 سبتمبر 1882 أي بعد ستة أيام فقط من انتصارها في معركة التل الكبير . وكانت الحجة التي تذرعت بها بريطانيا للأقدام على ذلك هو زعمها أن الجيش المصري أصبح خطرا على كيان الدولة ونظام الحكم فيها وأنه صالح للتمرد ولا يصلح للقتال.

وبالرجوع إلى كتاب كرومر عن مصر نجده حين يسرد الانتصارات التي حققها الجيش المصري أيام محمد علي وابنه إبراهيم نسبها إلى بسالة المتطوعين في الجيش المصري من الألبان والشراكسة من جهة أخرى (4) ويستند كرومر للتدليل على ضعف قوة المصريين الحربية إلى الهزيمة التي مني بها الجيش المصري في عصر إسماعيل في حملته على الحبشة عام 1876 ويتجاهل الانتصارات والفتوحات التي أحرزها هذا الجيش والإمبراطورية التي صارت لمصر في أفريقيا في عهد الخديوي إسماعيل ونجده يستدل أيضا على ضعف الروح الحربية عند المصريين من هزيمتهم في معركة التل الكبير (5) برغم أن القوة المهاجمة له كانت نصف عدد القوات المصرية المرابطة في هذا المكان.

وعلى كل فقد صار لإنجلترا ما أرادت من حل الجيش المصري ثم رأت أن تعيد تكوينه على أساس أن تكون مهمته حفظ الأمن الداخلي أو المساهمة في حفظ هذا الأمن أي لا يتطور ليصبح قوة دفاعية قتالية كفئة. وعينت السير أفلن وود سردار لهذا الجيش ومن بعده اللورد جرانفل. وتكون هذا الجيش في أول الأمر من لواءين. وكانت مهمته حفظ النظام الداخلي والمحافظة على حدود مصر في الصحراء ومنع البدو من أحداث الشغب والإضطرابات. ثم اضطرت الحوادث في السودان وتهديد قوات المهدي لحدود مصر الجنوبية الإنجليز إلى زيادة عدد أفراد الجيش المصري. وعلى عهد كتشز الذي تولي منصب السردار في الجيش المصري في أبريل 1893 صار الجيش في عهده يتكون من أربع عشرة كتيبة الثماني كتائب الأولى تتكون من جنود مصريين والست الأخرى من المتطوعين من السودان ين. وعندما تقرر بدء العمل لاسترجاع السودان كانت هناك ثلاث كتائب أخرى مجهزة وكذلك ثلاث بطاريات مدفعية وأربعة آلايات من الفرسان. ولم يكون بالجيش قوات من المهندسين وصار الجيش يتكون من ثمانية عشر ألفا من الجنود وهو العدد المسموح به في الفرمانات العثمانية.

وأراد السردار كتشز في ذلك الوقت أن يسيطر على الجيش سيطرة تامة ويجعل ترقيات الضابط في يده وتعلل بأزمة الحدود المعروفة التي انتقد فيها الخديوي عباس في أول عهد ولايته الاستعراض الذي قام به الجيش في حلفا فقدم كتشز استقالته. وتدخل كرومر طالبا من الخديوي بسرعة المبادرة بإصدار تصريح يبدي فيه إعجابه بتدريب الجيش وأنذر كرومر الخديوي أنه إذا لم يتم ذلك فأنه (الخديوي) سينحي عن العرش. وطلب كرومر تنحية ماهر باشا وكيل وزارة الحربية من منصبه وإطلاق يد السردار في الجيش وتم للإنجليز ما أرادوا ورضخ الخديوي وأصدر تصريحا يعتذر فيه عن النقد الذي وجهه للجيش عند حلفا ويجيب باقي طلبات اللورد كرومر.

واصطبغ الجيش بالصبغة الإنجليزية كان السردار هو المسيطر سيطرة كاملة على الجيش وقد روى لي المرحوم اللواء شوقي عبد الرحمن وهو أحد الضباط المصريين الذين عاصروا الجيش قبل معاهدة 1936 وبعدها الكثير عن ذكرياته عن مدى سيطرة الإنجليز على الجيش المصري. كانت الرتب الكبيرة في الجيش مقصورة على الضباط الإنجليز وحدهم. ولم يكن يسمح بترقية الضباط المصريين بعد رتبة القائمقام. وظل الإنجليز يقصرون تسليح الجيش على البنادق (لي انفيلد) للكتائب المشاة. كما كانت المدفعية مقصورة على إطلاق التحية في مهرجانات الجيش والأعياد والسواري كانت مسلحة بالسيوف والمزارق ومنقولات الجيش تنقل على البغال.

وعندما صدرت الأوامر بانسحاب الجيش المصري من السودان بعد مقتل السردار عام 1924 ووقف أفراد الجيش المصري في السودان موقفًا مشرفًا يرفضون الانسحاب واستعدوا للقتال برغم الفارق بين تسليحهم البدائي وتسليح الجيش البريطاني أخذ الإنجليز من ذلك درسًا فعملوا على إضعاف الجيش في عدده وعتاده. وكان الجيش قبل هذه الحوادث يتكون من كتائب مشاة فقط. ثم سمح الإنجليز بعد ذلك بتكوين ألاي واحد من الفرسان وآلاي مدفعية وأصبح عدده لا يزيد على عشرة آلاف جندي. وبرغم مطالبة الحكومة المصرية بزيادة عدد أفراد الجيش وأسلحته لم يسمح الإنجليز إلا بزيادة أربع كتائب أخرى من المشاة (7).

لم يعير للجيش المصري سردار بعد مقتل سيلي ستاك وإنما أصبح هناك مفتش عام للجيش وهو المنصب الذي شغله سبنكس باشا فقد جدد زيور باشا عقده لمدة سنتين أخريين (8).

والرجوع إلى كتاب لويد (مصر منذ عهد كرومر) يجد الباحث كيف أصاب إنجلترا الذعر عام 1926 من سياسة وزير الحربية أحمد خشبة الذي ألقى بيانات أمام مجلس النواب المصري في يومي 6 ديسمبر 1926 و16 فبراير من العام التالي (1927) يعد فيها ممثلي الأمة أن يبذل جهده لإصلاح حال الجيش. وعد خشبة بك النواب بإصلاح المدرسة الحربية وتقديم قانون القرعة الجديد للنواب لإقراره، كذلك وعد بتقديم مقترحات للنواب بزيادة القوات الاحتياطية للجيش والتصديق على شراء أسلحة وإنشاء الطيران كما وعد النواب باستبدال الحكومة المصرية للضباط البريطانيين بضباط مصريين أثبتوا كفاءتهم في مناصب القيادة بالجيش.

لم يكن ذلك ليرضي الحكومة الإنجليزية. لم يرضها هذا الاتجاه الوطني في مسلك خشبة باشا وهو الأمر الذي يبعدها عن السيطرة على الجيش.

كانت الحكومة الإنجليزية تبغي أن يبقى لمفتش عام الجيش وهو المنصب الذي حرصت على ألا يشغله سوى أحد من الإنجليز –نفس السلطات والاختصاصات التي كان للسردار لي ستاك قبل مقتله. وعندما بان واضحًا أن خشبة بك لا يأخذ بوجهات نظر المفتش العام ويتجاهله ويرفض التوصيات التي يرفعها هذا المفتش بل ويتصل مباشرة بقيادة الوحدات الصغيرة في الجيش. اقترح المندوب السامي ليود على حكومته 28 مارس 1927 أن يبادر بإبلاغ الحكومة المصرية رغبة بريطانيا في الإبقاء على سلطات المفتش العام. فإن في القضاء على سلطة هذا المفتش عدم تحقيق لرغبة الحكومة البريطانية في الحصول على مساعدة المصريين في صيانة مواصلاتها الإمبراطورية وحماية مصر من أي اعتداء أجنبي.

وأبرقت وزارة الخارجية البريطانية بردها في 13 أبريل 1927 تبلغ لويد موافقتها على مقترحاته (9).

كانت الحكومة المصرية في ذلك الحين قد أجمعت رأيها على أن إشراف إنجلترا على الجيش المصري لا يدخل ضمن التحفظات التي تحفظت بها إنجلترا سنة 1922. وبادر ثروت باشا رئيس الوزراء في ذلك الوقت بإبلاغ اللورد لويد في 24 مارس 1927 أنه يريد أن يوضح نقطة هامة وهي أن الحكومة المصرية تتمسك بأن الإشراف على الجيش أمر لا تتضمنه التحفظات ولذلك –وطبقًا للمذكرة المصرية فلمصر مطلق الحرية في تهيئة جيشها على النظام والتدريب الذي تراه كفيلاً بتقدم قواتها المسلحة (10).

لكن لويد المندوب السامي البريطاني الذي حظي بموافقة حكومته على الاحتجاج لدى المسئولين المصريين لم يكن ليقبل هذا التحدي، من جانب الحكومة المصرية، تضمنت مذكرة لويد احتجاجه وقلقه لإدخال ما أسماه بالنفوذ السياسي في الجيش وتقليل اختصاص وسلطة المفتش العام والضباط الإنجليز في الوقت الذي تتطلع فيه الحكومة البريطانية إلى مساعدة الحكومة المصرية لبريطانيا في صيانة مصر من كل اعتداء أجنبي (11) وحماية مواصلاتها الإمبراطورية. وتضمنت المذكرة وعد إنجلترا بالمساعدة في تطوير الجيش والمساعدة في إنشاء قوة جوية.

لكن لويد ضمن مذكرته التي قدمها لثروت في 29 مايو 1927 الطلبات التي يهم بريطانيا تنفيذها بخصوص الجيش وهي أن يباشر المفتش العام سلطاته واختصاصاته كاملة كما قررها له من قبل هدلستون باشا في يناير 1925 . ولهذا يجب أن يمنح المفتش العام رتبة فريق وأن تمد خدمته في الحكومة المصرية ثلاث سنوات أخرى في الحال. كذلك طلب لويد في نفس مذكرته أن يعين ضابط بريطاني برتبة لواء ليكون كمساعد للمفتش العام ويحل محله عند غيابه ويقوم بنفس أعماله. تضمنت مذكرة المندوب السامي البريطاني بالإضافة إلى ذلك وجوب أن يشرف المفتش العام للجيش أو نائبه في حالة غيابه على مصلحة الحدود ومصلحة خفر السواحل إذا ما أدمجتا معًا ويمكن بدلاً من ذلك أن يكون مديرها العام إنجليزيًا على نحو ما كان معمولاً به حتى سنة 1925 . وأخيرًا طلبت بريطانيا أن تظل المناصب الكبرى التي يشغلها الضباط الإنجليز في الجيش في أيديهم ولا يستبدل بهم ضباط مصريون في الوقت الحاضر (12).

وفي الوقت الذي كان فيه لويد يقدم هذه المذكرة للحكومة البريطانية كانت ثلاث بوارج حربية بريطانية في طريقها إلى مياه الإسكندرية (13) ولم يكن لقدوم هذه البوارج من مغزى إلا التهديد من جانب بريطانيا لمصر.

وبقية الأزمة المعروفة بأزمة الجيش معروفة إذ كتب لويد إلى وزير خارجيته يطلب منه التفويض في حالة مجيء رد مبهم أو غامض أو غير مرض أن يطلب لويد من الملك فؤاد تأجيل الحياة النيابية ويصبح عودتها مرتهنًا بقبول مصر معاهدة مع بريطانيا. وفي حالة ما بدت بوادر الخطر في مصر أو نذر الاضطرابات فيها فيصبح لا مفر أمام إنجلترا من إعلان الأحكام العرفية. وعلى كل فقد وافقت مصر أولاً على مطلب واحد وهو الخاص بقبول وزير الحربية آراء لجنة الضباط. فلما أصر لويد على قبول باقي الطلبات اتفق كحل للموقف أن يرسل لويد إلى ثروت طالبًا إيضاحًا أكثر لماجاء في رد الحكومة المصرية فترد هذه الأخيرة بما يفيد قبولها للمطالب البريطانية وتم ذلك بالفعل ونالت إنجلترا ما طلبت.

وليس هناك أفضل للتعليق على هذه الأزمة المعروفة بأزمة الجيش من قول الأستاذ غربال أن إنجلترا أحكمت القيد والتضيق فلا حركة في مصر إلا ويعقبها اعتراض وتهديد من الإنجليز. ولا محاولة لبناء إلا بعقبة تقام في وجهنا (14) وكان أكبر تضييق من جانب إنجلترا على الجيش المصري بالطبع.

وسعى ثروت باشا إلى إزالة حالة التوتر التي أحدثتها أزمة الجيش في يونيو 1927 فيتخذ من زيارة الملك فؤاد لإنجلترا زيارة رسمية في المدة من 4 إلى 30 يوليو 1927 فرصة للاتصال مباشرة برجال الحكومة الإنجليزية ثقة منه بأن الاتصال الشخصي بما يؤدي إليه من زيادة فهم كل من الإنجليز والمصريين حالة الآخر لأنه عائد بالفائدة على مصر. وطلب تشمبرلين من ثروت تقديم مشروع معاهدة يضمنه ثروت قبول مصر أن يكون تعليم الجيش المصري وتدريبه حسب الأساليب المتبعة في الجيش الإنجليزي وإذا رأت الحكومة ضرورة استخدام ضباط أو مدربين من الأجانب فتختارهم من الرعايا البريطانيين (المادة الثانية من المشروع المصري) (15) كما تضمن الملحق الخاص بالمشروع البريطاني (16) إلزامًا لمصر ألا يزيد عدد رجال الجيش المصري 12250 رجلاً على أن تضع الحكومة البريطانية تحت تصرف الحكومة المصرية مدربين وفنيين وعسكريين وتبذل لها التسهيلات الخاصة بالتدريب العسكري بحسب ما يقع عليه الاتفاق بين الحكومتين في هذا الشأن من وقت لآخر، وليس للحكومة المصرية أن تدرب رجالها في بلد أجنبي عدا بريطانيا.

ولكن ما إن عرض ثروت المشروع على مصطفى النحاس الذي صار رئيسًا للوفد المصري بعد وفاة سعد زغلول وعلى زملائه الوزراء الآخرين حتى قوبل مشروع المعاهدة بالرفض وتلاها تقديم ثروت استقالته.

وحين استعد محمد محمود باشا من جهته بعد توليه الوزارة سنة 1928 لتحريك الشئون المصرية على حد تعبيره وانتهز فرصة وجوده بإنجلترا في يونيو 1929 لحضور الحفلة التي رسمتها جامعة أكسفورد لتقليده لقب دكتور في القانون المدني للاتصال بالسياسيين الإنجليز. تلقى من هندرسون مقترحات لمشروع معاهدة ومذكرة بريطانية عن الجيش جاء فيها: تسجل المذكرة اتفاق الطرفين على انتهاء الترتيبات الحالية التي بمقتضاها يباشر المفتش العام البريطاني ومن معه اختصاصات معينة، وعلى سحب الضباط البريطانيين من القوات المصرية، على أن الحكومة المصرية أخذا بحكم الفقرة الثانية من المقترحات (17). ترغب في أن تتعهد بمشورة بعثة عسكرية بريطانية، وتتعهد حكومة صاحب الجلالة البريطانية أن توافي مصر بتلك البعثة وترسل الحكومة المصرية من يراد تدريبهم في الخارج من رجال القوات المصرية إلى بريطانيا العظمى وحدها وتتعهد الحكومة البريطانية من جانبها بأن تقبل كل من توفدهم الحكومة المصرية إلى بريطانيا العظمى لهذا الغرض.

ولمصلحة التعاون الوثيقة بين البلدين لا يختلف طراز أسلحة القوات المصرية ومهماتها عن طراز أسلحة القوات البريطانية ومهماتها، وتتعهد الحكومة البريطانية بأن تبذل وساطتها لتسهيل توريد تلك الأسلحة والمهمات من بريطانيا العظمى كما طلبت الحكومة المصرية ذلك.

كذلك تضمنت وجهة النظر المصرية في مفاوضات النحاس 1930 قبول مصر لبعثة عسكرية بريطانية للمدة التي تراها الحكومة المصرية ووفقًا للشروط التي تضعها وأن تكون أسلحة القوات المصرية بوجه عام من طراز مشابه للطراز الذي تستعمله القوات البريطانية (18).

ولما كانت مصر متلهفة في 1936 على المفاوضة مع إنجلترا على أساس مشروع ماهدة سنة 1930 فالمتلهف على حد قول الأستاذ غربال –في موقف أسوأ من المتدلل تضمنت المعاهدة إيفاد بعثة عسكرية إنلجيزية لتدريب الجيش المصري. وبدأت الاتصالات بين كل من حكومتي مصر وبريطانيا بخصوص الاتفاق على عدد أعضاء البعثة وتنظيم العمل الذي سيعهد إليه القيام به.

أردت من سياق هذا العرض التاريخي إلى توضيح أن إنجلترا خلال مفاوضاتها السابقة كانت حريصة على أن تظل لها هيمنتها على الجيش قبل 1936 ولما كانت إنجلترا لا ترى وراء المعاهدة التي عقدتها في هذا العام مع مصر سوى تنظيم وجودها على الأراضي المصرية. فقد كان من الطبيعي أن تتخذ من البعثة العسكرية التي أوفدتها إلى مصر سبيلاً لمراقبة الجيش المصري والحيلولة بينه وبين بلوغه المرحلة التي تستطيع مصر بموجبها أن تطلب إلى إنجلترا الجلاء عن قاعدتها في السويس .

لقد تضمنت المذكرة الثالثة من المذكرات المتبادلة بين النحاس باشا وأيدن وزير الخارجية رغبة النحاس باشا في تسجيل بعض مسائل معينة متعلقة بالشئون العسكرية والتي تم التفاهم عليها بين الجانبين وأهمها سحب الموظفين البريطانيين من الجيش المصري واستكمال معداته وإلغاء وظيفة المفتش العام للجيش والموظفين التابعين له. وكان عدد الموظفين الإنجليز في الجيش وقت المعاهدة 27 ضابطًا برتب كبيرة منها رتبة الفريق التي كانت ممنوحة لسبنكس باشا الذي كان يشغل وظيفة مفتش عام الجيش المصري وكانت هناك رتبة لواء ممنوحة لمساعده فوريس والباقين برتب الأميرالاي والقائمقام والبكباشي. كما كان هناك أربعة غير عسكريين وبعض الضباط صف في الجيش والطيران.

كذلك جاء في نفس المذكرة المتبادلة بين الحكومتين المصرية والإنجليزية أنه نظرًا لرغبة الحكومة المصرية استكمال تدريب الجيش المصري فأنها لمصلحة المحالفة التي تم عقدها تنوي اختيار المدربين الأجانب التي قد ترى هناك حاجة إليهم لتدريب الجيش من بين الرعايا البريطانيين وتنوي كذلك الانتفاع لهذا الغرض بمشورة بعثة عسكرية بريطانية للمدة التي تراها ضرورية للغرض المذكور، وأعلنت الحكومة المصرية عزمها كذلك على عدم إيفاد أحد من أفراد قواتها المسلحة لتلقي الدراسة في أي معهد أو وحدة من معاهد التدريب ووحداته في غير المملكة المتحدة مادام من المتيسر قبوله. وإلى جانب ذلك تقرر لصالح المحالفة أيضًا ونظرًا لاحتمال ضرورة التعاون في العمل بين القوات البريطانية والمصرية وجوب عدم اختلاف طراز أسلحة القوات المصرية من برية وجوية ومعداتها من الطراز الذي تستعمله القوات البريطانية.

والحقيقة أن المعاهدة حين تضمنت ذلك كانت ولابد أن تنهي إلى ربط الجيش المصري بعجلة الجيش الإنجليزي. حلل الدكتور محمد حسين هيكل المعاهدة أثناء سؤاله في البرلمان المصري حين سأله الرئيس هل هو مؤيد أو معارض لها قال أنه لا يعرف إن كان مؤيدًا أو معارضًا وضحك الأعضاء وأعاد الرئيس سؤاله فقال أن المسألة مسألة تحليل أكثر منها تأييد أو معارضة. وحلل الدكتور هيكل ظروف المسألة المصرية والمفاوضات تحليلاً دقيقًا حدد في ظلاله النظرية المصرية والنظرية الإنجليزية. فقال: أن وجهة النظر المصرية بسيطة كل البساطة واضحة كل الوضوح فمصر تريد أن تكون دولة مستقلة استقلالا صحيحًا.. والنظرية الإنجليزية توضحها مذكرة كرزون لسلطان مصر على أثر إخفاق مفاوضاته مع عدلي والتي تضمنت أهمية مصر لوقوعها على خط المواصلات الرئيسي بين بريطانيا وممتلكاتها في الشرق أي أن إنجلترا يهمها الأمن والسلام والاستقرار في مصر حتى لا يكون في ذلك تهديد لمصالح إنجلترا.

ثم أجاب الدكتور هيكل عن سؤاله أين النظريتين تحققت في المعاهدة وقال إن المعاهدة سجلت النظريتين المصرية والإنجليزية ولكنها سجلت نظريتنا نحن تسجيلاً نظريًا ثم قيدتها من الناحية العملية بأثقل القيود. أما النظرية الإنجليزية فقد سجلتها تسجيلاً عمليًا دون أن تحرص على الأشكال النظرية الذي نقرأه في الكتب. مثال ذلك لنا الحق في إنشاء جيشنا كما نشاء. فإذا امتنعت إنجلترا عن إمداده بالعدة تحول الجيش إلى فرق من الرياضيين.

وكأنما كان الدكتور هيكل يتنبأ بالغيب أو كأنه كان يعرف ألاعيب السياسة البريطانية فبالفعل لم يكن للبعثة العسكرية البريطانية التي أوفدتها إنجلترا إلى مصر من عمل إلا فرض القيود على الجيش المصري والعمل على بقائه يخدم غرضًا واحدًا وهو المساهمة في حفظ الأمن الداخلي وتسليحه بقدر محدود وعدم تزويده بالأسلحة الحديثة وبقائه دون تدريب على أحدث النظم العسكرية على حد ما التزمت به في المعاهدة وكان ذلك أمرًا طبيعيًا ومنتظرًا من جانبها ما دام أن بقاء قاعدتها في السويس صار مرهونًا بتقوية هذا الجيش.

في ديسمبر 1936 قرر مجلس الوزراء المصري الموافقة على أن تشكل البعثة العسكرية البريطانية بصفة مبدئية من رئيس برتبة لواء (ماجور جنرال) ومعه اثنان برتبة (كولونيل) بصفة مساعدين له وضابط آخر برتبة (كابتن) وضابط صف للأعمال الكتابية. وهؤلاء يعينون مباشرة بمجرد تبادل وثائق التصديق على المعاهدة. وقرر مجلس الوزراء كذلك أن يكون تقرير الشكل النهائي للبعثة من حق الحكومة المصرية بعد التشاور مع رئيس البعثة (20).

ووصلت البعثة العسكرية البريطانية إلى مصر في الثالث عشر من يناير 1937 برئاسة أحد الضباط البريطانيين البارزين وهو الجنرال كورنول. وأراد كورنول بعد وصوله إلى مصر أن يبقي على بعض الضباط الإنجليز الذين كانوا يخدمون في الجيش المصري قبل توقيع المعاهدة، فلم توافق الحكومة المصرية إلا على بقاء اثنين منهم هما الأميرالاي همرسلي الذي كان مديرًا للعمليات الحربية والأميرالاي هاتون الذي كان مديرًا لسلاح الهجانة بالحدود. أما باقي الضباط البريطانيين فعادو إلى بلادهم والبعض الآخر بقي في مصر يزاول مهنًا أخرى غير الأمور العسكرية مثل الزراعة وأوجه النشاط الأخرى ويكتب التقارير لصالح المخابرات البريطانية مثل سبنكس ووير جاءت البعثة العسكرية البريطانية إلى مصر بعد توقيع المعاهدة في ظروف تنظر إنجلترا لهذه المعاهدة وكأ،ها لا تغير من مركزها في مصر شيئًا وأنا لهدف منها إضفاء صفة الشرعية على وجودها. والدليل على هذا حديث لامبسون للأوصياء على العرش الذي سبقت الإشارة إليه والذي تضمن قوله أن دورنا كحماة لمصر لن يتغير بل أنه في الحقيقة قد ازداد قوة وأصبح شرعيًّا بالمعاهدة، هذا من جهة، أما مصر التي طالما فاوضت وكافحت فكانت تأمل من المعاهدة أن تصبح لها حرية الحركة وأن تفك عنها إنجلترا القيود الكثيرة التي طالما فرضتها عليها، في ظل هذه الظروف جاءت البعثة العسكرية البريطانية وفي ضوء هذه الظروف كذلك يمكن شرح أسباب شكوى لامبسون من سياسة حكومة الوفد الخارجية حين وصفه بأنه ليس مرضيًا وحين شكى إلى مستر أيدن وزير الخارجية أن هذه الحكومة لا تستشير إنجلترا في بعض المسائل الخارجية ومنها محادثتها مع حكومة العراق بخصوص إبرام معاهدة تحالف (27) كما تضمنت تقارير لامبسون ما وصفه بالمتاعب التي تلاقيها البعثة العسكرية البريطانية من جراء شكوك المصريين على حد قوله، والصعوبات التي يضعونها في طريقها ومضى لامبسون يقول ومن الواضح أن الحكومة المصرية الحالية (حكومة الوفد) يستحوذ عليها شعور الاستقلال وترى الابتعاد عن أي مظهر من مظاهر الخضوع للسيطرة البريطانية.

عزيز المصري مفتشًا عامًا للجيش

حيث حدث الخلاف بين النحال والملك فاروق في أول وزارة يتولاها النحاس على عهد فاروق بعد توليه سلطاته الدستورية لأسباب لا مجال لذكرها في هذا البحث عهد الملك إلى محمد محمود بتشكيل الوزارة.

في مذكرات اللورد كيلرن في ديسمبر 1937 يكتب: الاثنين 20 ديسمبر القاهرة.. قابلت الملك فاروق مقابلة دامت ساعة ونصف، كان ودودًا للغاية.. حذرته كثيرًا ضد طرد رئيس وزراء يتمتع بالأغلبية المطلقة في البرلمان فإن ذلك قد يهدد العرش وعلى جلالته أن يتفق مع النحاس ويترك الأحداثت تأخذ مجراها الدستوري العادي.. ووعدني فاروق أنه سيصبر أطول قليلاً وسيدفن الماضي (28).

لكن لم يكن من المتوقع دوام الوفاق بين النحاس وفاروق خاصة وما كان من دور لعلي ماهر رئيس الديوان الملكي في إذكاء الصراع بين الجانبين. فأقال الملك الوزارة (29)، ونلمس في مذكرات محمد حسين هيكل كيف أنه سأل مكرم عبيد بعد مقابلته لعلي ماهر عما إذا كان قد وفق الوفد إلى حل للإشكال القائم بينه وبين القصر فأجابه مكرم نعم والحمد لله، لكن هيكل يفاجأ في اليوم التالي مباشرة بقرار إقالة الوزارة النحاسية بأسلوب وصفة لورد كيلرن في مذكراته بأنه ندر أن قرأ مثله أو سمع عن نظيره من حيث وقاحته وخشونته.

About 10 a.m Came the news that the king had dismissed Nahas and called upon Mohamed Mahmoud to from the Government. Later we got the text of the Rescript dismissing the Government and I have seldom read a more rorgh or maladroit document (30).

وفي نفس الشهر الذي تولت فيه وزارة محمد محمود الحكم، أصدرت قرارها في الحادي عشر منه (11يناير 1938) بتعيين عزيز المصري مفتشًا عامًا للجيش ومنحه رتبة اللواء. تولى عزيز المصري هذا المنصب خلفًا لسبنكس باشا الذي أحيل إلى المعاش. وأخذت الظروف الدولية تلح على الحكومة المصرية بضرورة تقوية جيشها، فقد بالغت ألمانيا منذ مستهل عام 1938 في الاعتداء بقوتها المسلحة لتحقيق السياسة التي أعلنها هتلر في كتابه (كفاحي) وكان هتلر قد اعتد بقوته من قبل فألغى القيود التي فرضتها معاهدة فرساي على تسليح ألمانيا. واضطر الفرنسيون عام 1936 للانسحاب من منطقة الرور وكانوا يحتلونها بحكم تلك المعاهدة ولم يجد هتلر يومئذ من الرأي العام العالمي معارضة، وما أن هل عام 1938 حتى بدأ هتلر يحقق ما أسماه (المجال الحيوي للشعب الألماني) أي ضمن الأراضي التي تقطنها عناصر من أصل ألماني أو تتكلم الألمانية، وتنفيذًا لهذه السياسة ضم النمسا إلى ألمانيا في شهر مارس 1938 من غير حرب.

وشغلت وزارة محمد محمود الأولى بالانتخابات حتى أطلق عليها هيكل باشا في مذكراته وزارة الانتخابات (31). ذلك أنه كان لابد من حل المجلس الذي أيد وزارة النحاس والتي وصفها كتاب الإقالة بأنه أخذ عليها مجافاتها لروح الدستور وبعدها عن احترام الحريات العامة وحمايتها وتعذر إيجاد سبيل لاستصلاح الأمور على يديها.

كان عزيز المصري أول مصري يتولى هذا المنصب الخطير في الجيش فكان لابد أن يعمل جهده لبناء هذا الجيش لكن العقبات سرعان ما واجهته.

والبعثة العسكرية البريطانية التي زاد عددها حتى وصل في مارس سنة 1938 إلى تسعين عضوًا منهم أربعون ضابطًا بريطانيًا والخمسون الباقون كانوا صف ضباط (32) تسيطر على كل صغيرة وكبيرة من أمر الجيش. وعرض عزيز علي محمد محمود فكرة تنظيم الجيش لكن رئيس الوزراء كان مشغولاً بالانتخابات فأوضح لعزيز أن يؤجل ذلك إلى ما بعد الانتهاء منها، وأفهمه أنه قد يعرض على الملك فاروق ما يراه عزيز بشأن الجيش، فرفع عزيز المذكرة التالية للملك:

مولاي صاحب الجلالة:

بناء على استحالة بدأي في العمل بعد أن تفضلتم جلالتكم بإسناد منصب المفتشية العامة إلي رأيت من واجبي أن أرفع إلى جلالتكم بصفتكم القائد الأعلى للجيش العوامل السلبية التي من أجلها لم أتمكن مباشرة العمل.

وستدركون جلالتكم تأثير هذه العوامل بسهولة متى علمتم حالة الوضع القديم لوزارة الحربية والجيش والشكل الجديد الذي يجب أن تصاغ فيه الوزارة الحديثة والجيش الحديث وهذا ما سأحاول شرحه الآن.

لما كان قوام الاستقلال هو الكفاية في الدفاع عن الوطن بالسلاح ولما كان الاستقلال حديثًا عندنا فوزارة الحربية هي بالنسبة لغيرها حديثة. لذلك كان من الطبيعي في السنوات الأخيرة أن يشعر وزراء الحربية ورؤساء مصالحها بشيء من التعب والحيرة لأن مسئولياتهم وتصرفاتهم التي تنتج عنها لم توضع بعد داخل حدود فنية تتطلبها نظم الجيش وإداراتها. فحال مثل هذه من طبيعتها أن تحدث احتكاكات قد تعرقل السير بل وتسد طريق العمل. لهذا أرجو أن تسمح لي جلالتكم بعرض مختصر جدًّا لما يحصل على وجه التقريب في بلاد أخرى كألمانيا وفرنسا وإنجلترا، فإذا تراءت لجلالتكم شيء منه تصدرون إرادتكم السنية فتجري المياه في مجاريها ويبدأ هنا تكوين جيش تود البلاد أن يكون محترمًا في حكمكم السعيد إن شاء الله.

الوظائف اختصاصاتها باختصار:

الوزير:

هو الرقيب عن مجلس الوزراء في أمور الجيش، وقد يكون ملكيًا أو عسكريًا والقاعدة في إنجلترا في الأوقات العادية أن يكون ملكيًا حتى لا يتدخل في أمور الجيش الفنية فيحصل احتكاك غير مرغوب فيه، أما في فرنسا فهو ملكي غالبًا وقد يحصل أن يكون عسكريًا برتبة جنرال أو أميرالاي أو أقل من ذلك لأنه ممثل للحكومة فقط ولأدخل له في أمور الجيش الخصوصية، وقد جرت العادة في ألمانيا أن يكون عسكريًا لأن التقاليد الطيبة محترمة في الجيش فالوزير يساعد ولا يعرقل.

كيف يراقب الوزير وزارته؟

هو يراقبها بوسائط ثلاث.

الواسطة الأولى: القائد العام أو المفتش العام أو رئيس الأركان حرب، ومدلول هذه الوظائف الثلاث واحد في أوروبا. فمثلاً يجوز وجود اثنين فيها في آن واحد، أما الملك أورئيس الجمهورية فهو القائد الأعلى والمشرف على الجميع، يستعلم الوزير من المفتش العام من آن لآخر عن حالة الجيش من حيث استعداده للحرب ومقدرته الفنية ومطالبه من التجهيزات وغيرها ليعرضها على مجلس الوزراء الذي يقرر ما يجب إعلانه منها في البرلمان.

الواسطة الثانية: وكيل الحربية الذي يعرض عليه ما يلزم من كافة الأمور المالية وأمور الموظفين والملكيين والنشر والمطبوعات.

الواسطة الثالثة: سكرتارية والوزير وتختص بالمخابرات العامة مع مجلس الوزراء والوزارات والمقامات الأخرى عدا المفتش العام ووكيل الحربية.

وكيل الوزارة يختص ويدير كل ما يتعلق بالمال وبالموظفين الملكيين والملحقين بهم وبالطبع والنشر وغير ذلك مما يستجد وينتخب في الغالب من رجال الجيش الذين يدركون الأمور المالية وتوفر وزارة المالية إحصائيين لمعاونته.

المفتش العام أو القائد العام:

يشرف في حالة السلم على كل ما يجب أن يدخل تحت سلطته زمن الحرب.

فالجيوش السيارة والقلاع وغيرها تحت سلطته المطلقة والتعليم والمدارس وهيئات أركان الحرب تحت إرشاده ينتخبهم ويبين لهم كيف يتصرفون وهو يعلم مقدرة كل ضابط يرجى من مواهبه خدمة الحرب ولذلك فهو المسئول أمام جلالة الملك والوزارة عم مقدرة الجيش على الدفاع ويحسن جدًّا في الأمور الأساسية أن لا يتصل رئيس الجيش (المفتش العام) بوكيل الوزارة بل يتصل كل منهم بالآخر بواسطة الوزير حتى يكون الوزير على علم في الأمور الهامة وكي لا يحصل احتكاك في الاختصاصات.

أظن يا مولاي أنه إذا سار العمل على هذا النظام أو على نظام يشبهه تتحدد المسئوليات وتنجلي التصرفات ويزول الاحتكاك فيسير العمل بسرعة وانتظام.

ترون جلالتكم أن عبء المفتش العام للجيش الحالي ليس بالهين فالوزارة التي يعمل معها ليست مشكلة كما يجب بعد، وهيئة أركان الحرب التي هو واسطتها لتنظيم الجيش وتعليمه وتحرره معدومة بالمرة.

أولاً: يوجد في الجيش الحالي ضابط واحد يدرس علوم الأركان حرب ووظائفها وأنه لم يوجد عندنا معهد لتخرج هذا النوع من الضباط. أما الجيش فلا توجد فيه وحدة واحدة ولو صغيره عليمة بواجباتها أثناء الحرب كما يجب بل لا توجد فيه وحدة قادرة على ترك ثكناتها بسرعة للقيام بأعمال حربية ذات تأثير هام. لذلك كان من الضروري أن يعمل المفتش العام كقائد للجيش وكرئيس للأركان في آن واحد. وأن يبحث بوسائط مبتكرة عن إيجاد هيئة من الضباط النابهين يقوم بتدريبهم ويعلمهم حتى يتمكنوا عند اللزوم من فهم أوامره وأن يقوموا بأعمال أركان الحرب مؤقتًا إلى أن يخرج إلى خير الوجود المعهد الذي لابد من سرعة إنشائه لتخريجه ضباط أركان حرب حقيقيين.

وسيكون في أثناء عمله هذا معرضًا لامتصاص البعض القليل من حضرات الضباط العظام -كما لا يخفى- وقد يكون من أثر هذا الامتصاص تخويف بعض المقامات (كما هو حاصل الآن) من قيام فتن لا وجود لها ولا يمكن أن توجد. فإني أعلم يقينًا أن كافة الضباط وخصوصًا الأكفاء منهم وكافة شعبهم متحمسون لفكرة إنشاء جيش جديد قدير محترم.

فأتقدم لجلالتكم بكل تواضع راجيًا استعمال نفوذكم الأسمى كقائد الجيش الأعلى للإسراع بالبدء في إنشاء الجيش لأن الوقت الذي نعيش فيه دقيق جدًّا فإن ما فاجأتنا حوادث عالمية خطيرة ولم تلعب فيها مصر دورها بجدارة وكفاءة فقدت حقوقها في الاستقلال و الحياد.

والعالم لا يقدر قيمة الأمم إلا بقيمة جيوشها لأن الجيش هو معرض القوى العقلية والصناعية للأمة.

وجلالتكم تعلمون جدًّا كيف استفادت أسرة سافواي ورئيس حكومتها كافور سنة 1854 من جيشها المنظم الصغير باشتراكها مع إنجلترا وفرنسا وتركيا ضد روسيا في حرب القرم.

فلفتت أنظار العالم باحترام جلبت عواطف نحوها ضد النمسا فكان من نتائج هذه حرب 1859 وانضمام بقية إيطاليا إلى مملكة سردينيا ونشأت هذه الدولة التي نراها في عداد الدول العظمى اليوم.

ولأنني من قلبي أتمنى أن أرى جلالتكم على رأس ملك عظيم لذلك فإنس مستعد أن أقوم بهذا العمل الشاق الذي لا يشوقني فيه إلا الصعوبات التي ستعترضني والتي ستضاعف قواي فأقدم لجلالتكم -قبل أن أنتهي إن شاء الله- جيشًا يكون وأنتم على رأسه رمزًا للعقل والتنظيم والشجاعة والإخلاص وراية تستظل بها الشعوب الشرقية التي تود من صميم قليها أن ترى جلالتكم مرشدها ومثالها الذي يحتذى.

مولاي قد كنت أتمنى أن أبدء عملي بدون إزعاج جلاتكم بكتابي هذا إلا إني وجدت أول يوم دخلت الوزارة فيه باعتراض حضرة السعادة رئيس الأركان حرب الذي امتنع عن تسليم أقسام الإدارة إلي والتي بدونها لا يمكن العمل وذلك لما راه من أن القانون المعمول به الآن يعطيه الحق في هذا الامتناع وقد عرضت هذا علي حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس الوزراء فأمرني مراعاة للظروف الحالية أن انتظر إلى ما بعد الانتخابات وأفهمني أنه عرض على جلالتكم هذا (33). وقد الحقت بتقريري هذا صورة تقريبية ومختصرة لما يجب أن يقوم عليه نظام وزارة الحربية والجيش.

هذا واني مازلت لجلالتكم الخادم المخلص الأمين.

مفتش عام الجيش المصري

عزيز المصري

وقد أرفق عزيز بتقريره هذا رسما تنظميًا لما يجب أن تكون عليه وزارة الحربية وسماها صورة تقريبية مختصرة لما يجب أن يقوم عليه نظام وزارة الحربية ورياسة الجيش. فاتبع المفتش العام أو القائد العام للوزير مباشرة كما اتبع للوزير كذلك السكرتارية واتبع وكيل الوزارة الذي يتبعه الموظفين الملكيين والنشر والطبع والمالية للوزير. أما المفتش العام فقد اتبع له المدارس والتعليم والتنظيم ووظائف الأركان حرب والحركات العسكرية والاستخبارات والقرعة والمحاكم والصحة والتنقلات والمخازن ووسائل النقل. (34)

من هذه الوثيقة يتضح أن عزيزا فعل نفس ما فعله في الشرطة حين عرض ما عليه أمور الشرطة في البلاد المختلفة علي المسئولين المصريين متضمنا مقترحاته لتطويره. رفع عزيز مذكرته إلى الملك ملتمسا منه بصفته القائد الأعلى للجيش أن يعاونه في إنشاء الجيش المصري الحديث فهو يرى أن الاستقلال الذي حصلت عليه مصر لا يدعمه إلا جيش كفء "ولما كان الاستقلال حديثا عندنا فوزارة الحربية هي بالنسبة لغيرها حديثة". ولا يتم إنشاء هذا الجيش بغير قادة أكفاء فهو يطالب بإنشاء معهد لتخريج الضباط أركان حرب والتوسع في القبول بالكليات العسكرية كما يرى أن تنظم العمل وتحديد الاختصاصات من أهم الأمور لدفع عجلة تقدم هذا الجيش. ويخلص النصح للملك فيوضح أن الجيش المصري على حالته التي هي عليه إذ ذاك غير مرضية فلاهيئة أركان حرب وليس هناك سوى ضابط واحد درس هذه العلوم وليس بالجيش وحدة لديها الكفاءة القتالية. من أجل ذلك فهو يطالب أن يكون مفتش الجيش هو قائد وهو رئيس أركان حرب ويتعهد أمام الملك بأن ذلك ليس بالأمر الهين بل هو الصعب وصعوبة هذا العمل هي التي تمده بالحماس والقوة وهي " التي ستضاعف قواي" ويضرب الأمثلة للملك بجيش سردينيا وكيف حاز إعجاب العالم مما مكن في نهاية الأمر لقيام الوحدة الإيطالية.

ولم يكن للمذكرة التي رفعها عزيز المصري للملك من أثر فلا هو أعطى الصلاحيات التي يطلبها ولا وجد قوة الدفع التي كان يرجوها برغم أن الظروف التي كانت تمر بها مصر آنذاك كانت دقيقة على حد تعبير عزيز المصري في المذكرة ذاتها. فالموقف الدولي إنذال كان يقترب من حافة الحرب بل وقف فعلا على حافتها أبان أزمة سبتمبر 1938 حين أنذر هتلر في الثاني والعشرين من هذا الشهر بالتدخل المسلح في تشيكوسلوفاكيا حتى تم التوصيل إلى تسوية في مؤتمر ميونخ بفضل سياسة التهدئة التي اتبعها بريطانيا وفرنسا.

وأخذت إنجلترا تطلب من مصر تعاونا أكثر فهي (إنجلترا) تحاول تفسير التزامات مصر كحليف بمقتضي المعاهدة إنها تقتضيها في حالة قيام الحرب أن تدخلها إلى جانب بريطانيا ضد ألمانيا.

بل أن صدقي يوضح في خطاب له أمام مجلس النواب (20 ديسمبر 1938) أن المعاهدة لا تلزم مصر بدخول الحرب التي لا مصلحة لها فيها إلى جانب بريطانيا، لكنها تلزمها في حالة اشتباك بريطانيا في حرب وفي حالة خطر قيام حرب أو حالة دولية مفاجئة أن تضع مواردها تحت تصرف بريطانيا. واوضح صدقي في خطابه خطر ذلك علي مصر لآن الدول التي تشبلك معها بريطانيا في حرب ستعتبر مصر دولة محاربة. ودعا إلى التخلي عن بناء الثكنات في منطقة القناة واقترح أن تخلي القوات البريطانية ثكنات قصر النيل والقلعة وتقديم في معسكرات العباسية المدة الباقية من المعاهدة.

وفي الوقت الذي كان ينذر كله بالخطر وقفت الحكومة البريطانية عائقا دون تقوية الجيش المصري وكانت الحكومة المصرية مشغولة بدراسة نظام جديد للتجنيد يستهدف تحسين وسائل التجنيد وتكوين احتياطي وتوفير العدد اللازم للجيش، ويقوم على جعل الخدمة العسكرية ثلاث سنوات بدلا من خمس والغاء البدل العسكري وكان قد تبلور لديها مشروع لتدريب طلبة الجامعة عسكريا. كان عزيز المصري من المتحمسين لتنفيذ المشروع الذي يهدف من ورائه إلى بث الروح العسكرية لدى الشباب فقد كان يؤمن دائما بالشباب ففي تصريح له (35) يقول ما أحوج شباب اليوم إلى الإحساس بالمسئولية في وقت نبني فيه مستقبل دولة كبيرة.

أقرت وزارة محمد محمود قانون التدريب العسكري. يقول الدكتور هيكل في مذكراته: فأما التدريب العسكري ففكرة عرضت على أثناء اجتماع شهده وكيل الوزارة (وزارة المعارف) وبعض رجال التعليم. وقد شاقتني الفكرة لدي سماعها فأنا من أنصار التجنيد الإجباري العام تنفيذا لنص الدستور في المساواة بين المصريين في الحقوق والتكاليف العامة. وكان طبيعيا أن يصدر تشريع بالتجنيد الإجباري أثر صدور الدستور تنفيذا لإحكامه، لكن السنوات تعاقبت ولم يصدر التشريع. أفلا يكون التدريب العسكري في معاهد التعليم خطوة ولو ضيقة يتحقق بها طائفة من الأغراض التي يحققها التجنيد الإجباري؟ ذلك ما دار بخلدي أول ما عرضت الفكرة علي. ولذلك أقررت مبدأ هذا التدريب من غير تردد. وطلبت إلى المختصين أن يضعوا وسائل تنفيذه، حتى أصدر القرار الوزاري به.

ومضت وزارة محمد محمود تحاول تسليح الجيش المصري فاستوردت من الحكومة البريطانية في عام 1938 بضعة آلاف من البنادق لتسليح أفراد قواتها المشاة، فلما سلمت فاتورة المشتريات إلى الحكومة المصرية وجد أن الحكومة البريطانية أضافت مبلغ خمسة عشر شلنا فوق ثمن كل بندقية مقابل الكشف عليها. (36) ولما كانت المعاهدة قد تضمنت مذكرة بان تبذل الحكومة البريطانية وساطتها لتوريد الأسلحة والمعدات إلى مصر بنفس الثمن الذي تدفعه الحكومة الإنجليزية وأن تكون مهمة البعثة العسكرية البريطانية معاينة المشتريات الحربية التي تشتريها الحكومة المصرية دون مقابل فقد بدا واضحا للحكومة المصرية أن من الضروري أن يتم الاتصال بين رئيس الوزراء وبين الحكومة البريطانية.

وكانت الحكومة البريطانية قد أخذت تشترط للثكنات العسكرية التي كان على مصر أن تنشئها في منطقة القناة مواصفات خاصة وأن تجهز بملاعب رياضية فاخرة وحدائق ومتنزهات بالغت في الاشتراطات الخاصة بها مما جعل تكاليفها النهائية تزيد على اثني عشر مليونا من الجنيهات بينما كانت حكومة النحاس التي وقعت المعاهدة قدرتها بخمسة ملايين من الجنيهات. شغلت زيادة تكاليف الثكنات ذهن الحكومة المصرية والتي قالت صحيفة الأهرام في عددها الصادر يوم الاثنين23 مايو 1938 أن الجندي البريطاني سيكلف الدولة ألفا ومائتين من الجنيهات (باعتبار أن المعاهدة قدرت أفراد القوة العسكرية البريطانية بعشرة آلاف من الجنود). وسافر محمد محمود إلى لندن لتسوية هذه المسألة مع الحكومة البريطانية حيث اتفق على أن تقوم مصر بدفع الخمسة ملايين جنية التي قدرت لهذه الثكنات وقت توقيع المعاهدة وتقوم الحكومة البريطانية بالتكاليف الباقية.

أما من حيث تسليح الجيش بالأسلحة الحربية فقد حالت الحكومة البريطانية دون ذلك. مثال ذلك إنه عندما اعتمد مجلس الوزراء المصري في 30 مارس 1938 مبلغ 560 ألف جنيه لشراء سربين كبيرين من طائرات القتال ليعسكر أحدهما في القاهرة والآخر في الإسكندرية اعتذرت بريطانيا عن تقديم الطائرات التي طلبتها مصر بحجة أن الحالة الدولية تنذر بالخطر وأن مصانعها لا تستطيع في ذلك الوقت أن تكفي الجيش البريطاني حاجته من الطائرات. (37) وعندما قرر مجلس الدفاع الأعلى في مصر في شهر يونيو 1938 دعوة خبير بريطاني لدراسة مشروع إنشاء مصنع للذخيرة في مصر واعتمدت الحكومة المصرية بتلبية طلب مصر ولم يخرج المشروع إزاء ذلك إلى حيز الوجود. (38)

وحاولت حكومة محمد محمود جهدا لا ينكر في زيادة عدد أفراد الجيش المصري. وتشير الدوريات العاصرة إلى ذلك (39) كما تشير إلى ذلك تقارير لامبسون إلى حكومته التي جاء فيها أن الحكومة المصرية بدأت في وضع الخطط للإسراع في زيادة عدد أفراد الجيش وقوة الطيران بل وفي إنشاء بحرية مصرية.ويقول السفير في نفس تقريره "ولست اعتقد أن هناك تقريرات سليمة وان هناك ميزانية قد وضعت للموازنة بين المصروفات المتزايدة مبين هذه المشروعات الطموحة في حدود الموارد الاقتصادية للبلاد" (40).

وإذا كانت هذه الوزارة قد راودها الأمل إلى زيادة قوة جيشها فقد كان يحول دون ذلك عدم قدرة البلاد المالية لمواجهة هذا التوسع وبرغم ذلك فقد أشارت الصحف المعاصرة إلى أن مصر بلغ جيشها آنذاك ثلاثون ألف جندي وفرقة من الدبابات وبعض الوحدات الميكانيكية والجوية.

لكن البعثة العسكرية البريطانية التي زاد عددها في مايو 1939 ما يتجاوز المائة فرد (41) كانت تسيطر على كل صغيرة وكبيرة من أمر هذا الجيش المصري. ولم يكون عزيز المصري بالرجل الذي يقبل ذلك. رأى عزيز أن البعثة تضع العقبات في طريق ما كان يحلم به من إعادة تنظيم الجيش الذي قال في مذكرته للملك أنه سند للاستقلال وأن كافة الشعب –على حد قوله- متحمس لفكرة إنشاء جيش جديد قدير محترم.

ولقد سبق أن أشرنا أن عزيز التمس من الملك فاروق أن يستعمل نفوذه الأسمى كقائد الجيش الأعلى في الإسراع في إنشاء الجيش "لأن الوقت الذي يعيش فيه دقيق جدًّا فإذا ما فاجأتنا حوادث عالمية خطيرة ولم تلعب فيها مصر دورها بجدارة وكفاءة فقدت حقوقها في الاستقلال والحياد، والعالم لا يقدر قيمة الأمم إلا بقيمة جيوشها".

لكن عزيزًا لم يكن ليجد في الملك فاروق من يسنده أمام هذه البعثة العسكرية وتدخلاتها ولم يكن فاروق ليستطيع ذلك أمام السيطرة البريطانية. فمايلز لامبسون يسمى فاروق (الولد) بل ويسميه محمد محمود بنفس الاسم عند حديثه عنه مع السفير البريطاني. ففي مذكرات لامبسون: الاثنين الثاني من يناير القاهرة، أخبرني محمد محمود أنه تحدث مع الملك حول تعيين فيروتشي Verucci وأنه خرج بانطباع أن (الولد) غير سهل حول هذا الموضوع:

Monday 2 January 1980 Cairo.

Mohamed Mahmod also told me he had tackled the King about Verucci and had get the impression that on that also the boy was very uneasy.

على كل سحبت اختصاصات عزيز المصري كمفتش عام ففي يناير 1939 عقد مؤتمرًا صحفيًا قال فيه إنني لا أعلم أن القانون يجيز تعطيل عمل الموظف فإن الموظف ملك الدولة وأنا لا أفهم أن يحددوا اختصاصاتي ويمنحوني الحرية في حدودها.

وتدهورت صحة محمد محمود فقدم استقالته إلى الملك في الثاني عشر من أغسطس من نفس العام (1939) وكان قد قدمها قبل ذلك في السادس من يوليو، لكن الملك ألح عليه وقتها بسحبها ثم فوجئ محمد محمود بأن علي ماهر يتصل ببعض الشخصيات يعرض عليه الاشتراك في الوزارة الجديدة، ويقول هيكل أن بعض رجال القصر قالوا أن الملك هو الذي أوفد سعيد ذو الفقار كبير الأمناء يطلب إلى محمد محمود أن يستقيل حرصًا على صحته (44).

وفي مذكرات اللورد كيلرن نجده في مقابلته بعد عودة السفير من أجازة كان يقضيها في لندن حيث قطعها فوصل مصر أول سبتمبر 1939 يعلم من الملك أن سبب تخليه عن محمد محمود هو مرضه، ولم يكن هناك مفر –على حد قول الملك- من تعيين علي ماهر.

His only comment on local politics was that Mohamed Mahmod had been really a stick man (45)and there had been no alternative to Aly Maher.

والباحث الذي يرجع إلى مذكرات الدكتور هيكل يعرف أن الدستوريين لم ينسوالعلي ماهر أنه سعى لطردهم من الحكم، فيذكر الدكتور هيكل إنهم برغم موافقتهم على إعلان الأحكام العرفية التي طلب علي ماهر إعلانها لم ينسوا له ما حدث فيه "لكن موافقتنا على إعلان الأحكام العرفية لم تعن أن نفوسنا اطمأنت إلى الوزارة الجديدة، أو أننا نسينا ما حدث حين تأليفها، بل كان ما حدث من دفع محمد (باشا) للاستقالة ومن التماس الوسيلة لإقصاء الأحرار الدستوريين عن الحكم غدرًا لا مسوغ له في نظرنا وكان محمد (باشا) محمود قد استعاد من الهدوء ومن النشاط ومن الصحة ما يسمح له بتولي زعامة المعارضة، وكان بطبيعة الحال أشدنا غضبًا من ذلك الغدر، وأكثرنا حرصًا على أن يظهر الوزارة الجديدة في صورة لا تحسد عليها.." (46).

على كل فقد صدر الأمر الملكي رقم 34 لسنة 1939 بقبول استقالة وزارة محمد محمود وجاء كتاب الاستقالة على النحول التالي:

اطلعنا على كتاب الاستقالة المرفوع إلينا منكم في 12 أغسطس الحاضر ولا يسعنا حرصًا على صحتكم إلا إجابتكم إلى ملتمسكم مقدرين صدق ولائكم شاكرين لكم ولحضرات الوزراء زملائكم، ما قدمتم للبلاد من جليل الخدمات، وأصدرنا أمرنا هذا إلى مقامكم الرفيع سائلين الله أن يمكن لكم في صحتكم ويلبسكم ثوب العافية (47).

وكان محمد محمود قد رفع إلى الملك الكتاب التالي في 12 أغسطس 1939:

مولاي صاحب الجلالة:

أتشرف بأن أنهي إلى جلالتكم أن الأطباء حتموا علي الراحة التامة فترة من الزمن. غير أن الظروف الدولية تفرض علي جهدًا متصلاً لم تعد صحتي تطيقه. لذلك أتشرف بأن أرفع استقالتي إلى سدتكم العلية راجيًا التفضل بقبولها ولن أنسى ما لقيته من جلالتكم طول مدة وزارتي من آيات العطف والرضى ومن مظاهر الثقة والتعضيد. ولن يفتر قلبي ولساني عن ترديد أصدق الحمد وتأكيد أخلص الولاء لذاتكم الكريمة، وأني لوطيد الأمل بأن البلاد في ظل جلالتكم وبفضل حبكم لها وسهركم على خيرها ستمضي قدمًا في سبيل الرقي والمجد، وأدعو الله أن يبقيكم لها ذخرًا ويحفظكم لها عزًا وفخرًا، ولا أزال لجلالتكم المخلص الأمين (47).

تولية عزيز المصري منصب رئيس أركان حرب الجيش:

يقول محمد التابعي في مذكراته عن أسرار الساسة والسياسة: وهكذا ولما يمض على وزارة محمد محمود ستة شهور حتى بدأ السيد علي ماهر يعمل على إسقاط الوزارة التي كان قد جاء بها وداس بها على الأغلبية البرلمانية وعلى جسد الدستور لماذا؟ لكي يتولى هو رياسة الوزارة.. ولا أطيل الحديث.. نفس العقبات ونفس العراقيل التي كانت توضع في طريق مصطفى النحاس .. وضعت في طريق محمد محمود.. ونفس الإشاعات التي كان يذيعها ويروج لها أعوان وأذناب علي ماهر في عهد وزارة مصطفى النحاس عادت ولعبت من جديد. وأحس محمد محمود –رحمه الله وكانالمرض قد أنهك قواه وأعصابه- أحس أن بقاءه غير مرغوب فيه فاستقال، ونال علي ماهر مشتهاه، وانتقل من رياسة الديوان إلى رياسة الوزارة (48).

وصدر الأمر الملكي رقم 35 لسنة 1939 بتكليف علي ماهر بتشكيل الوزارة.

"عزيزي علي ماهر باشا"

تعلمون لا شك ما يمر به العالم الآن من دور خطير وما يتطلبه مركز بلادنا من جد متواصل وعمل واسع لاستكمال العدة على أساس من الوحدة القومية وإذكاء الشعور الوطني وشحذ الهمم، وبث روح النشاط في ميادين الإنتاج الحكومية والشعبية.

ولما كنتم خير من يؤهله صادق إخلاصه وواسع خبرته وماضيه المجيد في خدمة الوطن والملك لتولي زمام الأمور في هذا الظرف الدقيق من حياة الأمة فإنا نوجه إليكم منصب رئيس مجلس وزرائنا، ولنا الثقة كل الثقة في غيرتكم الوطنية وأن تمضوا قدمًا في مهمتكم الخطيرة بما عرف عنكم من عزيمة صادقة ورأي سديد.

ولا ريب أنكم ستلقون منا ومن أمتنا العزيزة كل تعضيد وتأييد، وقد أصدرت أمرنا هذا إلى مقامكم الرفيع للأخذ في تأليف هيئة الوزارة وعرض المشروع علنًا لصدور مرسومنا به. والله نسأل أن يوفقنا إلى ما فيه الخير والفلاح لشعبنا المجيد (49).

ورفع علي ماهر للملك فاروق في نفس اليوم (18 أغسطس 1939) الكتاب التالي:

مولاي صاحب الجلالة:

بقلب ملؤه الإخلاص والولاء أتشرف بأن أرفع إلى مقام جلالتكم أرفع آيات الشكر والحمد على ما أوليتموني من عطف كريم وثقة غالية بدعوتي إلى تأليف الوزارة في هذا الظرف الدقيق.

ولقد تدبرت الموقف فرأيت أن إخلاصي وولائي لذاتكم الكريمة وحبي لبلادي العزيزة وواجبي نحو جلالتكم ونحو الوطن كل هذا يفرض على تلبية هذه الدعوة الكريمة مقدرًا حق التقدير ما وراء ذلك من تبعات جسام، مستعينًا بالله جلت قدرته على تحمل هذه المسئوليات الخطيرة مستلهمًا منه السداد، معتقدًا برعاية جلالتكم وتأييد البلاد.

ولئن كان المقام ليس مقام تفصيل برنامج الوزارة، الذي ستتقدم به إلى البرلمان، لكني أستميح مولاي في أن أشير إلى أني سأجعل نصب عيني إعلاء شأن البلاد والنهوض السريع بجميع مرافقتها ساعيًا على الدوام لتحقيق رغبات جلالتكم السامية في إسعاد شعبكم المجيد الذي تسهرون دومًا على هناءته ورفاهيته.

وسترعى الوزارة في سياستها الروح القومية وهي لذلك ستحرص على تقوية الوحدة القومية وإذكاء الشعور الوطني وبث روح الهمة والنشاط في دوائر الإنتاج حكومة وشعبًا، وستمضي في ذلك مخلصة كل الإخلاص، أمينة على هذا الواجب، متفانية في أدائه.

من أجل هذا ستكون باكورة أعمالها تمكين ذوي الكفايات والخلق الكريم من المعاونة والاشتراك الفعلي في هذه المهمة، وستوجه كلا إلى الوجهة التي يكون فيها أنفع وأثمر، رائدها في ذلك تغليب المصلحة الوطنية على كل مصلحة عداها، وأنه لمن حق الوطن على كل مصري موظفًا كان أو غير موظف ألاين عن احتمال أية تضحية تحتمها سلامة البلاد ورفاهيتها.

ولما كان كل فرد من الأمة عليه واجب مقدس لها، فسيكون أول ما تعني به الوزارة تقوية الروح المعنوية والعسكرية في البلاد، حتى تستشعر الأمة عزتها وكرامتها وتعمل في قوة وثبات وإيمان، ناظرة إلى المستقبل بنفس مطمئنة.

وتمكينًا للوزارة من العمل على رفع مستوى الحياة المعيشية بين أفراد الشعب، ستعني أشد العناية باستثمار وتنمية الموارد الطبيعية في البلاد وسلوك سبل الاقتصاد في جميع النواحي لتوفير المال اللازم لمعالجة أبرز متاعب الأمة وأشدها عبئًا، ألا وهي تحسين أحوال الفلاحين والعمل فهم عماد الأمة وقوام حياتها.

ولما كان من أهم أغراض الوزارة أن تخص الشئون الاجتماعية في البلاد بأقصى ما يستطاع من العناية فقد اعتزمت إنشاء وزارة تقوم على هذا الفرع الإصلاحي من شئون الأمة. والوزارة وهي من الشعب وقد أخذت على نفسها هذه الواجبات الخطيرة لخير الشعب ومن تظلهم سماء مصر العزيزة لترتجي صادقة المعونة من جميع سكان البلاد.

وإني يا مولاي أتشرف بأن أعرض على سيادتكم العلية أسماء حضرات من قبلوا معاونتي في هذه المهمة الخطيرة، محتفظًا لنفسي بمنصبي وزارة الداخلية والخارجية وهم:

محمد علي علوية باشا وزير دولة للشئون البرلمانية

محمود فهمي النقراشي باشا وزارة المعارف العمومية

محمود غالب باشا وزارة المواصلات

حسين سري باشا وزارة المالية

الدكتور حامد محمود وزارة الصحة العمومية

سابا حبشي بك وزارة التجارة والصناعة

عبد الرحمن عزام بك وزارة الأوقاف

الأستاذ إبراهيم عبد الهادي وزير دولة للشئون البرلمانية

مصطفى محمود الشوربجي بك لوزارة العدل

عبد القوي أحمد بك لوزارة الأشغال العمومية

محمد صالح حرب باشا لوزارة الدفاع الوطني

محمود توفيق الحفناوي بك لوزارة الزراعة

فإذا ما حاز هذا الاختيار قبولاً لدى مولاي رجوت من جلالته التفضل بإصدار المرسوم الملكي باعتماد والله أسأل أن يحفظ جلالتكم للأمة ذخرًا وللشعب موئلاً وأن يوفقنا في مهمتنا لما فيه رضاء جلالتكم وخير البلاد. وأني على الدوام يا مولاي شاكرًا لأنعمكم وخادم سيادتكم المخلص الأمين (50).

لقد أوردت نص الكتاب الذي رفعه علي ماهر للملك لأنه يلقي الضوء على بعض ما اختطه علي ماهر لوزارته. فهو يوضح أن سياسته تستتبع تقوية الروح القومية. ولعل القصد من هذه العبارة العمل على لم شمل الأمة في محاولة لمواجهة الظروف الدولية الخطيرة التي كان يمر بها العالم آنذاك.

كذلك أوضح علي ماهر أنه سيستعين بأصحاب الكفايات وعلى حد ما جاء في الكتاب تمكين ذوي الكفايات والخلق الكريم من المعاونة والاشتراك الفعلي في هذه المهمة. وحرص علي ماهر أن يوضح في كتاب تشكيل وزارته اهتمامها بتقوية الروح المعنوية والعسكرية في البلاد حتى تستشعر الأمة –على قوله- عزتها وكرامتها.

لم يكن هناك أمام علي ماهر من يمكنه من تقوية الروح العسكرية في البلاد خيرًا من عزيز المصري الذي أسند إليه يوم الواحد والثلاثين من أغسطس 1939 منصب رئيس أركان حرب الجيش المصري.

جاء في تقرير هارولد بتمان الوزير المفوض بالسفارة البريطانية والذي كان يقوم بعمل السفير أثناء وجوده في لندن الذي بعث به إلى مستر هاليفاكس وزير الخارجية بتاريخ 25 أغسطس 1939 ما ينبأ بتخوف الجانب البريطاني من التفكير في تعيين عزيز المصري في منصب رئيسي في الوزارة الجديدة فقد تضمن التقرير ما يلي:

".. تعتبر الوزارة الجديدة بوجه عام وزارة قوية، على أساس أنه يرأسها رجل على جانب عظيم من الهمة والنشاط كما أن بقية الوزراء يعرفون ما يريدون إما لخبرتهم الإدارية الطويلة أو لأنهم فنيون يتولون أعمالهم التي تخصصوا فيها، لكنها ربما كانت تحمل بذور ضعفها لنفس السبب، فحتى الآن لم تكن الوزارات المصرية تضم أكثر من اثنين أو ثلاثة من الرجال ذوي المقدرة البارزة، ومع هذا فقد كان يصعب تجنب الصدام بين الشخصيات، ولما كانت وزارة علي ماهر تضم مجموعة كفاءات فقد يجد من الصعوبة بمكان أن يحتفظ بوزارته متحدين، خاصة وقد تولى هو نفسه وزارتين (الداخلية والخارجية)..

أما تعيين صالح حرب باشا وزيرًا للدفاع فقد أثار مخاوفي، نظرًا لأهمية وجود وزير مناسب يشغل هذا المنصب الحيوي في ظروف التوتر الدولي الحالي فهو واحد من المصريين الذين هربوا وانضموا إلى السنوسي أثناء الحرب. وكان حينئذ يعمل في خفر السواحل. وحين طرح اسمه لأول مرة كنت أميل إلى تحذير رئيس الوزراء من تعيينه. وبخاصة لأنني واثق أن هذا التعيين سوف يستلزم تعيين عزيز المصري باشا رئيسًا لهيئة أركانحرب الجيش المصري، ورغم أن عزيز المصري باشا رئيسًا لهيئة أركان حرب الجيش المصري، ورغم أن عزيز المصري باشا مصري الجنسية فإنه عمليًا قد أمضى كل مدة خدمته العسكرية في الجيش التركي، ومع أنهش يعتبر واسع الاطلاع في الشئون العسكرية فإني أصبحت أميل إلى عدم إقامة أي وزن لحكمه على الأمور (إن لم أقل لسلامة عقله) منذ أن حاول جاهدًا من عدة أشهر مضت أن يثبتوا لي أن الألمان لم يهزموا في معركة المارن، وزيادة على ذلك فقد كان لدي من الأسباب ما يدعوني إلى الاعتقاد بأن تعيينه سوف لا يقابل بالرضا التام سواء في الجيش المصري أو في البعثة العسكرية البريطانية، والجمع في وزارة الدفاع بين هارب سابق وبين شخص اعتبره ألماني النزعة لا يبدو أمرًا مثاليًا، لكن حديثًا جرى بيني وبين الأميرال سير ج.ويلز مدير الموانئ والمنافر، الذي عمل في اتصال وثيق مع صالح حرب باشا قد أبدى فيه رأيًا طيبًا، بعد هذا الحديث رجمت لدي كفة السكوت خاصة وأنه كان معروفًا أن الملك وعلي ماهر باشا قد تأثرا إلى حد كبير بمعلومات هذين المرشحين عن الصحراء الغربية، وفي لقائي الأول مع رئيس الوزراء، بعد أن تسلمت الوزارة مقاليد الأمور، ذكرت مخاوفي فيما يختص بعزيز المصري باشا، وقد زالت مخاوفي حين أكد لي أنه إذا اتضح عمليًا أنه لا يصلح للمنصب الذي يشغله فإنه سوف ينحى عن وظيفته. وقد رأيت حتى الآن من الوزارة الجديدة ما يكفي لكي أدرك أنه سوف لا نتخذ أية قرارات في السياسة العسكرية دون مشورة وزير الأوقاف عبد الرحمن عزام بك. الذي أستدعي من انقراه ليتولى منصبه الجديد. أن معرفته بليبيا التي حارب فيها الإيطاليين لسنوات عده، هي معرفة لا يباريها فيها أحد وهو صديق شخصي لي منذ عدة سنوات ولي فيه ثقة تامة..." (51)

أن هذه الوثيقة علي درجة كبيرة من الأهمية فهي تبين مدى تخوف الإنجليز من تعيين عزيز المصري علي رأس الجيش. يتهمه باتمان بالسفه لاعتقاده أن الألمان يم يهزموا في معركة المارن وهي المعركة التي يعتبرها المؤرخون الأوربيون المعركة الفاصلة في الحرب العظمى الأولى والتي كسبها جوفر في وادي المارن (4-9 سبتمبر 1914) وكان السبب الذي حقق ذلك أن الألمان لكي يوقفوا زحف الجيش الروسي اضطروا إلى أن ينقلوا من الجبهة الغربية فيلقين كان وجودهما في سهول فرنسا الشمالية خلال الأسبوع الأول من سبتمبر يحول الهزيمة التي حلت بهم إلى نصر متألق (52).

كذلك تضمنت الوثيقة أن تعيين عزيز سوف لا يقابل بالرضا التام سواء في الجيش المصري أو لدى البعثة ا لعسكرية البريطانية. أما عن الجيش المصري فإن بعض الضباط القدامى كانوا لا يرحبون بتعيين عزيز لما عرف عنه من رغبته في التجديد والتطوير لكن الضباط الشبان كانوا بالطبع مفتونين بشخصية عزيز.

يقول أنور السادات في كتابه البحث عن الذات:

المرة الوحيدة التي شعرت فيها بأني أختلف عن زملائي كانت عندما زارنا عزيز باشا المصري بصفته المفتش العام للجيش المصري وأخذنا معه لزيارة الدير المحرق الذي لم يكن يبعد عن المعسكر كثيرًا في الوجه القبلي. كان قصده من هذه الزيارة تثقيفنا فقد كان دائم الدعوة إلى الثقافة... تركت زيارة عزيز المصري أثرًا عميقًا في نفسي فقد شاهدت بعيني هذه الشخصية الأسطورية التي شاركت في الثورة التركية مع أتاتورك كما كان أحد مؤسسي جمعية الإتحاد والترقي وجمعية تحرير الأمة العربية هذا إلى جانب تاريخه الطويل المليء بالكفاح.. وولعه بالثقافة والدعوة إليها (53).

ويقول في موضع آخر: كنت مفتونًا بشخصية عزيز المصري منذ لقائنا في منقباد وكان معروفًا عنه أنه يكره الإنجليز حتى أن سير مايلز لامبسون السفير البريطاني في ذلك الوقت طلب من علي ماهر إقالته من منصبه في الجيش ولكن علي ماهر اكتفى بإعطائه أجازة مفتوحة. كنا بحاجة إلى الإفادة من خبرات هذه المحارب العظيم وإرشاداته (54).

ويمضي السادات يوضح كيف رتب له الشيخ [[حسن البنا]] الاجتماع بعزيز المصري وحين حدثه السادات أنهم بصدد إعداد تنظيم يهدف إلى طرد الإنجليز من مصر وتغيير الأوضاع فيها سعد عزيز المصري وقال له: عظيم أول شيء كما قلت لابد أن تعتمدوا على أنفسكم ثاني شيء الثقافة لابد أن تثقفوا أنفسكم.. والثقافة ليست بالشهادات الثقافة بالقراءة.. اقرءوا في كل الاتجاهات وفي كل المجالات".

هذا عن موقف الجيش المصري، أما مخاوف البعثة العسكرية البريطانية في مصر من عزيز المصري فتلك كانت حقيقة واقعة ذلك أن تعيين عزيز في منصب رئيس أركان حرب الجيش كان يعني إنشائه لجيش حديث قوي قادر كفء للقتال وهو الأمر الذي يبطل زعم إنجلترا في بقائها في مصر كما أن عزيزًا كان يؤمن بضرورة تقوية الروح العسكرية لدى أبناء الشعب كله.. والحقيقة أن وزارة علي ماهر منذ توليها الحكم أولت المسألة العسكرية اهتمامها فقد كانت الظروف الدولية وإعلان الحرب العالمية الثانية تلحان عليها بذلك.

أصدرت مرسومًا بقانون رقم 100 لسنة 1939 بإنشاء قوات مرابطة وفي المذكرة التي رفعت إلى مجلس الوزراء بشأن مهام هذه القوات ما يلي:

يحتاج الدفاع عن مصر لضمان استقلالها وتحقيق غاياتها والوصول بها إلى المقام اللائق بتاريخها ومكانتها في الشرق والغرب إلى جيش قوي الإيمان حديث العدة كامل التدريب.

على أن الجيش بعد أن تطورت أحوال العالم لم يعد مجموعة وحدات متفرقة بل هو الأمة كلها حاملة السلاح، ويتعذر على المرء أن يتصور أن الجيش يستطيع أن ينهض في الميدان إلا إذا عبئت قوى الأمة ونظمت من ورائه بحيث يؤدي كل عضو فيها واجبه على الوجه الأكمل.

لذلك صار لزامًا إعداد مصر المستقلة لحمل رسالتها الجديدة بما يناسب العصر الحاضر، وقد استعرضنا النظم والأوضاع العسكرية في الدول الأخرى لاختيار نظام يحقق للجيش العامل ظهرًا قويًا من غير إرهاق لموارد الدولة ولا تعطيل لسير المشروعات العمرانية.

وقد كان يخشى أن تعجز مصر عن القيام بواجب الدفاع عن النفس إذا هي ذهبت مذاهب التقليد والنقل دون أن تراعي حالتها المادية وظروفها الاجتماعية، والذي انتهى الرأي إليه هو إنشاء قوات مرابطة تكون أولى وظائها أن تعفي الجيش العامل من كثير من المسئوليات والواجبات المحلية فتزداد بذلك القوة المقاتلة التي يمكن استخدامها في الميدان.

على أن ذلك ليس من شأنه أن يسقط عن القوات المرابطة ما يجب أن تؤديه من ضريبة الدم فإن عليها واجب النجدة للجيش العامل في الميدان بعد أن تكون قد أمنت له كل ما يلزمه من الخدمات خلف الجبهة وداخل البلاد.

وعلى هذه القوات المرابطة فوق ذلك واجبات لها خطرها وإذا كان يطلب منها في زمن الحرب أن تعاون الجيش العامل خلف الجبهة وأن تمده عند الحاجة بما يلزمه من قوات احتياطية، فإن مهمتها في أيام السلم لا يقل عن ذلك شأنًا، إذ روعي في إنشائها أن تكون عاملاً في تكوين الخلق القوي وأخلق بها أن تكون لها من هذه الناحية مزايا عظيمة لا تلبث البلاد أن تجني ثمارها ليس من يجهل أن الشجاعة والهمة والاستقامة والنظام من أخلص الصفات العسكرية، فالقوات المرابطة التي يندمج فيها المجندون والمتطوعون حرية أن تكون مدارس للأخلاق تستمد منها مصر قوة معنوية جديدة.

فالخلية أو المعسكر المحلي هو مكان التدريب والإعداد العسكري الاجتماعي لهذه القوات، فيها يعتادون الترتيب والنظام والمحافظة على مقومات الصحة ويصيرون بعد ذلك مثالاً صالحًا يحتذى لخير بلادهم وأهليهم ومواطنيهم.

فالغرض الذي يراد الوصول إليه من وراء إنشاء هذه القوات وهو خدمة السلم وتمهيد السبيل لأسباب الإصلاح وبث الفضائل الاجتماعية والشخصية، وسيأخذ كل فرد من أفرادها نفسه بتعود البساطة وقوة الخلق والتذرع بالصبر والتضحية، وإذا كانت الحياة المصرية تأخذ من هذه الخلال بنصيب فإن نصيب القوات المرابطة فيها سيكون بلا شك أوفر وذيوعها في البلاد أهم وأكبر وبذلك يتسنى للبلاد أن تصل إلى غايتها من الإصلاح والرقي وأن تقوم في الوقت ذاته بواجب الدفاع حسب مقتضيات العصر ولا شك في أن إنشاء القوات المرابطة إلى جانب الجيش العامل بدعة حسنة اختصت بها مصر وسوف يكون لها أكبر الأثر في تدعيم أسباب الدفاع الوطني (55).

وصدر مرسوم في 31 أغسطس 1939 بأن يتولى عبد الرحمن عزام بك وزير الأوقاف بصفته الشخصية قيادة هذه القوات المرابطة، وفي 16 و17 أبريل 1940 قرر مجلس البرلمان اعتماد مبلغ 675 ألف جنيه لمشروعات الدفاع وتقرر زيادة ضريبة الأراضي والمباني 1% لمواجهة هذه الزيادة (56).

وبدأ عزيز المصري في همة لا تعرف الكلل محاولاته لتطويرالجيش المصري، لكن المعوقات من جانب الإنجليز بدأت تواجهه.

لقد روى لي عزيز المصري ذكرياته عندما كان رئيس لهيئة أركان حرب الجيش وقد قرأت عليه ما دونته منها بعد ذلك في لقاءات معه في منزله قبل وفاته. وقد روى فيها كيف استدعاه علي ماهر وكان رئيسًا للوزراء وأبدى له رغبته في تعيينه في هذا المنصب موضحًا له أن الظروف الدولية ملبدة بالغيوم. وإن مصر برغم مرور أكثر من عامين لا تثق في قدرة قواتها المسلحة على درء خطر قد يقع عليها في أية حرب مقبلة، ولقد أوضح عزيز المصري لرئيس الوزراء أن هذه هي الآمال التي تجيش في نفس كل مصري ولكن الإنجليز لا يبغون لجيش مصر أن يتقوى، ويمضي عزيز المصري في سرد ذكرياته فيقول: وعلى كل فقد عينت لرياسة الجيش وكان وزير الحربية في ذلك الوقت صالح حرب ولم تكن لديه معلومات حربية حديثة.

وفي صباح اليوم الذي توليت فيه عملي حضر رئيس البعثة العسكرية إلي يهنئني على تعييني لرئاسة الجيش، وتعاهدنا على أن نبذل كل ما في وسعنا معًا متضامنين لتقوية الجيش.. ولكني شعرت أن كلام رئيس البعثة لي شيء وعملها شيء آخر، فقد شعرت منذ اللحظة الأولى أن البعثة رتبت خطتها لتقف أمام ما أنويه بالنسبة للجيش. وبدأت تراقبني في تحركاتي، وكلفت مساعدي أن يبلغها أولاً بأول عن كل شيء، عندما كنت أقوم بزيارة إحدى وحدات الجيش كان يحرص على مرافقتي حتى ضقت به ذرعًا يومًا ما ونهرته، ولم أكن أعرف السبب الذي يجعله يحرص على مرافقتي، طلبت تنظيم محاضرات لضباط الجيش فوجدت رئيس البعثة العسكرية في اليوم المحدد لمحاضرتي يأتي لزيارتي ويشغلني بمختلف الأمور على أساس أنها أمور عاجلة ينبغي البت فيها في نفس اليوم.. وجمعت بعد أيام قليلة من تعييني ضباط الجيش من رتبة البكباشية حتى رتب اللواءات إلى مكتبي الذي كان أمام وزارة الحربية، وأوضحت لهم أن حياة البلد في جيشها وأننا يجب أن نعتمد على أنفسنا وأن نقرأ وندرس وقلت لهم أنني أطلب من القادة الكبار في الجيش وهم الضباط من رتب الأميرالات واللواءات أن يقدموا بحوثًا عسكرية سنناقشها سويًا عند اجتماعنا مرات متتالية، وستكون اجتماعاتنا بانتظام وليس المهم قيمة البحث العسكري والدراسة، ولكن المهم أن نبدأ ندرس ونقدم التقارير عن أنجح الوسائل لتقوية جيشنا وعن تحسين تدريبه وعن تنظيم الدفاع عن بلادنا وبث الروح العسكرية بين أفراد الشعب، وانتهى اجتماعنا الأول على أن نعقد اجتماعات أخرى لدراسة ما يقدمونه من مقترحات، وبعد اجتماعنا هذا بدقائق عاد إلى أحدهم وهو الذي صار بعد ذلك بعامين أو ثلاثة تقريبًا وزيرًا للحربية، وحدثني كيف أن السلطات العسكرية البريطانية في مصر أحيطت فورًا باجتماعنا وما تم فيه وأن مخابراتها في الجيش مكلفة بكتابة تقرير عن كل لواء وستطلب الاستغناء عن بعضهم بحجة أن لهم نشاطًا معاديًا للإنجليز وأنه على أثر ذلك خشي لواءات الجيش على مناصبهم، وختم هذا الضابط حديثه معي بأن رجائي أن نؤجل تنظيم الجيش.." ويمضي الفريق عزيز المصري يوضح أن هذه الحادثة لم تفارق ذهنه لحظة واحدة وأيقن على أثرها أن للإنجليز خطتهم التي لن يحيدوا عنها أبدًا وهي الحيلولة بين هذا الجيش وبين وصوله إلى أكفأ مراحل تدريبه. ولقد روى الفريق عزيز المصري كيف كان الإنجليز يحرصون على بقائهم مسيطرين على الجيش وكيف أن لامبسون السفير البريطاني الذي كان على حد قول عزيز المصري أشبه بحاكم روماني أيام روما القديمة –قد بدأ يضيق ذرعًا به وأنه صرح مرة أنه (عزيز المصري) لا يحضر للسفارة وبلغه ذلك فقال: أنا لست موظفًا سياسيًا وإنما أنا رجل عسكري، ويمضي عزيز المصري في ذكرياته فيقول:

وفي يوم دق التليفون في منزلي وقال لي رئيس موظفي السفارة أن السفير يود أن يراك وأنه يسره لو حضرت باكرًا وذهبت إلى دار السفارة فإذا برئيس التشريفات يقدم لي دفتر التشريفات لأقيد اسمي ودهشت من ذلك فإن هذا أمر يجب أن يقصر على الملوك ورؤساء الدول، ولكن السفارة البريطانية في ذلك الوقت كانت تحكم البلد من وراء ستار، واجتمعت بلامبسون يومها وجلست أتحدث معه وإذا بالسفير يفاجئني بسؤاله لي عن السر في إعجابي بالألمان، وصارحته أن الألمان ليست لهم مطامع في مصر وأن المعاملة الطيبة تكسبنا وأننا شعب عاطفي يا سير مايلز وأنني أشعر أن هناك عقبات جدية توضع في سبيل تقوية قواتنا المسلحة، إن جيشنا إذا تقوى سيساعدكم أنتم كحلفاء.

ويقول عزيز المصري: إنني شعرت بعد هذه الزيارة أن بقائي في رئاسة الجيش أصبح لا جدوى منه وأن مدتي في رئاسة أركان حرب الجيش أصبحت وشيكة الانتهاء، ولقد حدث ما توقعته.

وفي الوثيقة التي أرسلها باتمان إلى هاليناكس بتاريخ 25 أغسطس 1939 والسابق الإشارة إليها بخصوص تخوف إنجلترا من الوزارة الجديدة (وزارة علي ماهر) وخاصة تعيين صالححرب وزير للحربية وما يستتبعه ذلك من تعيين عزيز المصري رئيسًا لهيئة أركان حرب الجيش، أفاد باتمان أن علي ماهر أكد له أنه إذا اتضح أن عزيز المصري لا يصلح لمنصبه فسوف ينحيه، وكانت نص كلمات باتمان على النحو التالي:

ذكرت مخاوفي فيما يتصل بعزيز المصري باشا، وقد زالت مخاوفي حين أكد لي أنه إذا اتضح عمليًا أنه لا يصلح للمنصب الذي يشغله فإنه سوف ينحى عن وظيفته..".

وبالفعل ما إن بدأ عزيز يباشر عمله كرئيس لهيئة أركان حرب الجيش حتى بدأت الحكومة الإنجليزية وكانت تشعر بحساسية بالغة من شغله لهذا المنصب وتخوف على حد قول باتمان تدرس التقارير التي يوافيها به سفيرها (لامبسون) بشأنه، ففي رسالة من لامبسون إلى الفيسكونت هاليفاكس بتاريخ الثاني من أكتوبر 1939 (وصلت يوم السادس من نفس الشهر) عن طريق الحقيبة الدبلوماسية جاء ما يلي:

لدي شعور بأن الحكومة الحالية هي نبت ضار وأن استمرارها في الحكم سيؤدي إلى تزايد إضعاف نفوذنا في مصر. لكن ينبغي أن أعترف أن هذا الرأي في الوقت الحالي قائم على الحدس والتقولات أكثر منه على حقائق يمكن الإشارة إليها.

مما يذكر من حسنات لعلي ماهر أنه بث نشاطًا دافقًا في كل ما مسته يداه، وأنه فيما عدا استثنائين هما إعلان الحرب واعتقال الشخصيات الألمانية الهامة، قد أجاب جميع مطالبنا بسرعة، وأصدر تشريعات الطوارئ بسرعة تفوق ما كان يمكن توقعه من أية حكومة مصرية أخرى، أمافيما يختص بالاستثنائين المذكورين، فإن موقفه قد يعزي إلى الخوف من نتائج الحرب، وقد يتغير مع أول نصر حاسم يحرزه الحلفاء.

وحين نذكر ما هو في جانب السيئات منه نشير إلى الآتي: علي ماهر رئيس للوزراء لكنه من الناحية العملية رئيس للديوان الملكي في نفس الوقت؛ لأن صنيعته عبدالوهاب طلعت وكيل الديوان الملكي، يعرف أعمال الديوان عمليًا عن طريقه، وبذلك أصبح الملك معزولاً تحت نفوذ علي ماهر المتهم بأنه يستخدم الأحكام العرفية في خنق جميع أنواع المعارضة خارج السراي.

وفي نفس الوثيقة جاء ما يلي: التقارير التي تصل من مصادر مختلفة تشير إلى أن الجو داخل السراي وبين العناصر الأرستقراطية المتصلة بها (باستثناء الأمير محمد علي) يميل على أن يكون معاديًا لبريطانيا بل ومواليًا لألمانيا... ويقال أن علي ماهر يتكلم علانية عن خلافاته مع السفارة..

يقال أيضًا أن عزيز المصري وعزام وصالح حرب يحاولون على الجانب العسكري أن يديروا إدارة الحرب المصرية بطريقة تقضي على نفوذ البعثة العسكرية البريطانية..." (57).

مما ينبغي الإشارة إليه أن عزيز المصري أراد أن يكسب ود البعثة العسكرية البريطانية وأن يتعاون معهم أي أنه لم يبدأ بمناصبتهم العداء، وهذا أمر ينبغي أن نؤكده خلافًا للفكرة السائدة عنه أنه هو الذي بدأ بمناصبة العداء.

سئل الأستاذ فتحي رضوان وكان محاميًا لعزيز المصري في قضاياه المختلفة وفي قضية الهروب كما سنشير إلى ذلك فيما بعد.

س: هل تعرف شيئًا عن أفكاره السياسية؟

ج: عزيز باشا رجل صريح يتكلم أمام من يعرفه ومن لا يعرفه بآرائه السياسية، أما بالنسبة للأحزاب فكان ساخطًا عليها كان يرى أن جميع الأحزاب تنتهج سياسة ارتجالية لا تقوم على دراسة، وكان لا يفرق بين حزب وحزب ولا بين شخص وشخص فيما عدا محمد محمود الذي كان يقول أنه مدين له لأنه عينني مديرًا لمدرسة البوليس وفيما عدا علي ماهر الذي بدأ يلومه لأنه طلب إليه أن ينقل من وزارة الحربية إلى عمل مدني بعيد عن الاحتكاك بالمسائل الحرجة، وكان يقول تفسيرًا لهذه الفكرة أنه لو عينني علي ماهر ناظرًا لمدرسة بنات لكنت أكثر إنتاجًا للبلد في منصب ضخم أكون فيها هدفًا لمطاعن أنا بريء منها! كان يرى أن حزب مصر الفتاة لم يحقق الهدف المرجو منه، وأن حزب مصر الفتاة بعد تكوينه لا يجد الإنسان في جريدته شيئًا مغريًا بالقراءة وأن ذلك راجع إلى أننا لا نؤمن بالكتاب هو الأساس لإيجاد شاب يصلح لخدمة بلده، وكان يعيرنا لأننا لا نعرف تاريخ بلدنا على الوجه الصحيح وأن الأستاذ أحمد حسين وطريقة إدارته للحرب لا تدع مجالاً لغيره من الزملاء الشبان في التعاون معه.

وأما رأي عزيز باشا فيما يتعلق بالسياسة الخارجية فقد مر في دورين، الدور الأول أيام كان رئيسًا لأركان حرب الجيش فكان يقول أن الإنجليز يظلمونه إذ يعتبرونه عدوًا لهم وأنه بذلك كل ما في وسعه لإضعاف هذه الفكرة عندهم. فكان يزورهم ويدعوهم إلى بيته وأنه نجح أخيرًا في ثنائهم عليه ورضاهم عنه حتى أن أول أزمة حدثت في وزارة الدفاع بعد تعيينه كانت بسبب أن رئيس البعثة العسكرية البريطانية أرسل لعزيز باشا خطابًا يقول له فيه أن اتصال البعثة سيكون معه مباشرة، فرأى وزير الدفاع وقتئذ تخطيًا لمعاليه فاتهم عزيز باشا أن هذا التخطي كان بالتواطؤ بين عزيز باشا وبين البعثة، وأما بعد خروجه من خدمة الجيش فكان عزيز باشا يقول أن مركز الإنجليز الحربي إذا كان قد ساء في الشرق الأدنى فجريرته واقعة على المصريين لا على الإنجليز لأنهم لم يحسنوا تدعيم مركز عزيز باشا الأمر الذي لو تم لاستطاع أن يبذل لهم نصحًا عسكريًا أو سياسيًا يفيدهم كثيرًا من الوجهة الحربية، وأن السياسيين الإنجليز يسيرون في مصر على سياسة قديمة أساسها الاعتماد على بعض باشوات فاقدي الشخصية وأن إنجلترا تدفع ثمن هذه السياسة الذي تلخص في انتصارات الألمان المتكررة، ولست في حاجة إلى القول أن عزيزًا كان يضمر للألمان إعجابًا شديدًا بسبب عهده الطويل في ألمانيا مع احتقار للطليان.. (58).

إن أقوال فتحي رضوان في التحقيق الخاص بقضية هروب عزيز المصري سنة 1941 على جانب كبير من الأهمية من حيث أنها تلقي الضوء على أن عزيز المصري حاول جهده أن يقيم جسورًا من الثقة بينه وبين البعثة العسكرية البريطانية إلى درجة أغضبت صالح حرب صديقه وزميله القديم في حرب طرابلس الغرب ضد الإيطاليين سنة 1911.

ويتأكد هذا بما قاله عزيز في مذكراته أن صالح حرب لم تكن لديه معلومات حربية حديثة، لكن الإنجليز بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية لم يكونوا ليطمأنوا إلى بقاء عزيز في منصبه كرئيس لهيئة أركان حرب الجيش المصري.

أبدى عزيز المصري استعداده للتعاون مع البعثة العسكرية البريطانية بل أنه زودهم –على حد قول عزيز للأستاذ محمد صبيح - بنصائحه العسكرية حين أوضح لهم أثناء زيارة قام بها للصحراء الغربية أهمية موقع العلمين مفضلاً إياها عن مرسى مطروح، أوضح عزيز إن العلمين عنق زجاجة يمكن تحصينه جيدًا ويصعب بل يستحيل اختراقه.. أما مرسى مطروح فيمكن تطويقها مهما كان استعدادها أو حماية الأسطول لها وتنطلق القوات المعادية دون أن تتلقى منها أو تطلق عليها طلقة واحدة.

وقد أعجب ولسن برأي عزيز وتلقى منه رسالة خطية يشيد فيها به ويعتز بمشورته ووصفه بأنه لا يقل في عبقريته العسكرية عن عظماء العالم العسكريين من أمثال ولنجتون وبيتان.

وعندما تلقى عزيز هذه الرسالة قال مادام الإنجليز قد أسرفوا في المدح فلابد أنهم مبيتون. "هكذا فعلوا عندما عدت من الحجاز سنة 1916 وقد صدق حدسه" (59).

ولعل فيما ذكره المرحوم محمد حسين هيكل في مذكراته عن السياسة المصرية التي نشرها تحت عنوان مذكرات في السياسة المصري، ما يوضح الأسباب التي دفعت الإنجليز إلى طلب إبعاد عزيز المصري من منصبه.

يقول الدكتور هيكل :

وكانت الوزارة عينت الفريق عزيز المصري (باشا) رئيسًا لأركان حرب الجيش المصري، وعزيز باشا رجل تعلم الفنون العسكرية الألمانية. ولم يخف في يوم من الأيام إعجابه بألمانيا، أو موجة الإعجاب بانتصار الألمان المتواصل ترتفع في مصر، وعزيز باشا هو رئيس أركان حرب الجيش المصري، والوزارة المصرية تأبى أن تعلن الحرب على ألمانيا، والإنجليز الرسميون وغير الرسميين في مصر يشعرون في أعماق نفوسهم بهول ما يصيب أبناء وطنهم في ميادين القتال، ويرون بأعينهم هذا الذي يقع في مصر، ويسمعون أن عبد الرحمن عزام بك وزير الشئون الاجتماعية، وصالح حرب باشا وزير الحربية يتحدثان في كل مجلس عن انتصارات الألمان وهزائم الإنجليز، فلا عجب أن تمتلئ نفوس السفير البريطاني، وأعوانه في السفارة، والمشيرين عليه من الإنجليز المقيمين في مصر، حفيظة على هذه الوزارة التي رفضت مجاراتهم في إعلان الحرب وأصرت على هذا الرفض، وأن يروا فيما تقدمه من المعونة لإنجلترا في حدود المعاهدة نوعًا من النزول على الحكم لا يرضاه من ضعضعت الهزيمة نفسه فلم يعد قادرًا على كبح غضبه أو إخفاء حفيظته (60).

والدارس لتاريخ الحرب العالمية الثانية يرى صدق ما ذكره الدكتور هيكل من أن الهزيمة التي بدأت تلحق بالحلفاء مع بدء الحرب جعلت إنجلترا غير قادرة على كبح غضبها أو إخفاء حفيظتها على أن تصرف من جانب وزارة علي ماهر.

مع بدء الحرب العالمية الثانية سحق الجيش الألماني بولندا وحولت الأساطيل الجوية الألمانية الهائلة مدن بولندا وقراها إلى أنقاض وركام واستبسلت حامية وارسو ولكنها أجبرت على التسليم للألمان في 28 سبتمبر، وفي اليوم الذي سقطت فيه وارسو في يد الألمان، وقعت في موسكو معاهدة ألمانية روسية حددت مناطق الاحتلال الروسي والألماني في تلك البلاد المقهورة وفي الوقت الذي كانت تسحق فيه قوات ألمانيا المصفحة قوات الجيش البولندي، وقف البريطانيون والفرنسيون في جبهتهم عاجزين عن أن يمدوا لحليفتهم السيئة الطالع يد المعونة (61).

وكان من شأن هذه الانتصارات الألمانية أن يظهر الأشخاص ذوي الميول الألمانية إعجابهم بها وبدأت إنجلترا تطلب من علي ماهر إبعاد عزيز المصري.

عزيز المصري يجب أن يذهب Masri must go (62).

في الوثائق البريطانية الخاصة بوزارة الخارجية وجدت الوثيقة رقم F.371.23377 بتاريخ 29 ديسمبر 1939 تحمل عنوان: طرد عزيز المصري رئيس هيئة أركان الحرب –برقية من لامبسون رقم 513 Dismissal of Aziz El Masri, Egyptian Chief of staff تحمل الوثيقة درجة (هامة) (Important) وتقول البرقية أن هناك تقارير جاءت متضمنة أن طرد عزيز المصري قد أثير مع رئيس وزراء مصر الذي أبدى دهشته لأنه كان يعتقد أننا ننظر للمصري على أنه مناسب بقاؤه ووعد ببحث المسألة مع وزير الدفاع ومجلس الوزراء. ويقرر لامبسون أن هناك ضرورة للضغط على رئيس الوزراء المصري لطرد عزيز المصري حتى يمكن إدخال تحسينات معينة مقترحة في الجيش بما فيها زيادة البعثة العسكرية.

Reports that the question of the dismissal of Azia El Masri had been raised with the Egyptian Prime Minster who expressed surprise that we did not consider El Masri satisfactory and said he would discuss the matter with the Minister of Defense and the Cabinet states that necessity for El Masri's dismissal was impressed upon the prime minister after which certain proposed improvements could be gone into, including the increase of the Military Mission.

وتقول وثيقة وزارة الخارجية البريطانية أن هذه المسألة (مسألة طرد عزيز المصري) قد طرحت بأسرع مما كان متوقعًا، أن تقصير عزيز المصري قد نوقش بشيء من التفصيل في رسالة سير مايلز لامبسون J 4142 أو في جوابنا فوضناه أن يجعل الأمور واضحة. إن إهانة أو عدم الثقة بالبعثة البريطانية أمر لا يمكن احتماله سواء في ظروف السلم أو الحرب.

Aziz El Masri's short comings were discussed at some length in sir M. Lampson's dispatch in j 4142 F.O. 371 -j-5078-29 Dec. 1939-23337. And in our reply he was anthorised to make it clear that conduct clearly indented to insult or discredit the British Military Mission will not be tolerated whether in war or peace conditions.

ومضت الوثيقة تقول أن علي ماهر يحاول أن يلعب لعبة مزدوجة (double dealing) وأن السفير قد قدم طلبه وهو يقضي بأنه من أعظم الأمور اهتمامًا لنا أن نتأكد أن علي ماهر لا تكون لديه فرصة أن يتحلل من تعهده الذي عمله مستر باتمان والذي تضمن أن عزيز المصري إذا سبب مصاعب مع البعثة العسكرية البريطانية أو مع القوات البريطانية فإنه سيستبعد.

And now that the Ambassador has made his demand, it is most important for us to ensure that Ali Maher Pasha shall have no opportunity of slipping out of his obligation to implement his promise to Mr Batmen that if Aziz El Masri caused difficulties with the Military Mission or British Forces, he would be sacked (J 3277/1/16).

واقترح وكيل وزارة الخارجية أن تسند الوزارة ظهر لامبسون بأن تبرق الوزارة موافقتها على مسلك لامبسون تجاه هذه المسألة وأن تسنده في أي عمل قد يشعر أنه مضطر لبلوغه هذا الهدف.

وجاءت تأشيرة الوزير على الوثيقة تقول: أعتقد أن برقية مختصرة نؤيد فيها سيرة لامبسون قد تكون مفيدة. كما تضمنت نفس التأشيرة أننا يجب أن نزيد عدد أفراد البعثة. وقالت التأشيرة أيضًا: ليست المسألة كما أشار مستر كيلي من قبل أن فكرة عدم كفاءة الجيش أمر لا ينبغي أن يشغلنا، فالظروف الحاضرة مختلفة وأن مسلك عزيز المصري يميل إلى تحقير البعثة ولذلك فإننا يجب أن نتخلص منه (63).

And for that reason he ought to be get rid of.

وكان سير مايلز لامبسون قد أرسل رسالة بالشفرة من القاهرة يوم 28 ديسمبر 1939 يشير فيها إلى برقية أرسلها رقم 812. يقول:

جادلت رئيس الوزراء هذا الصباح حول موضوع عزيز المصري، هناك اعتقاد عام أن الحرب ستمتد وفي نفس رسالة السفير:

وحين يذهب (المصري) فإن أمورًا جدية من التحسينات سوف نقترحها (انظر برقيتكم رقم 908) أنني شخصيًّا متأكد أنه يعرقل وضع ونفوذ البعثة العسكرية.

When he had gone there might be other serious matters of improvements we should wish to propose (see your telegram No 908). I my self believe he was deliberately undermining the position and influence of the Military mission.

وقال لامبسون: أبدى رئيس الوزراء دهشته لأن المصري كان قد أخبره أن جنرال ولسن راض عنه تمامًا وأنه موضع تقديره الحقيقي. رددت حجته بأنه كان كذلك لكن ليس بنفس ما ارتآه المصري. وسأل رئيس الوزراء إذا كان من الممكن أن نعطي حججنا بشيء من التفصيل. لذلك قرأت له ما جاء في برقيتي الملحقة مع هذه الرسالة التي كلفت الجنرال ماكريدي أن يعدها لي. وأضفت أن الجنرال ماكريدي قد فرغ لتوه من رسالته إلى وزير الدفاع يشرح له وجهة نظره (أرسلت صورة منها إلى فخامتكم بالحقيبة الجوية 29 ديسمبر).

The prime minister professed to e much surprised. Masri has told him that General Wilson was completely satisfied with him and appreciated his true worth. I retorted that he no doubt did, but not in the sense Masri read into it. The Prime Minister asked it I could give him our reasons in more detail. So I read him the statement in my immediately following telegram, which I had got General Macready had just written a letter to the Minister of Defense fully formulating his views (copy to your Lordship by air bag December 29 th).

ثم يمضي لامبسون في رسالته إلى وزير خارجيته يقول:

قال رئيس الوزراء (علي ماهر) أنه يجب عليه أن يرى وزير الدفاع وهو ما سيتم يوم السبت صباحًا –وأنه سيناقش المسألة مع مجلس الوزراء مساء السبت. وبالإضافة إلى ذلك فإنه سوف يتحادث مع الجنرال ولسون. وقد وعدت أن أحذر الجنرال (وهو ما فعلته) حيث ستدعي القوات البريطانية والمصرية للعمل معًا في الدفاع عن مصر ولا نستطيع أن نعمتد على شخص غير قادر كالمصري في منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة.

There was a growing belief that war might spread eastwards when the British and Egyptian armies might be called upon to fight side by side in the defense of Egypt, and we simply could not afford that a man of Masri's proved incapacity should continue in the key port of Chief the Egyptian General staff.

وقال السفير: لقد ذكرت فخامته أنه سبق أن وعد مستر باتمان قبل عودتي ثم وعدني أنا بعد ذلك أنه إذا ما كان المصري غير كفء سوف يذهب. ورأيت أنه يجب علي أن أمسك عليه وعده ولا أشك في أنه يرغب في ذلك لأنه يرى أن مصلحة مصر تتحقق أكثر إذا ما كان الجيش المصري منظم تمامًا وحسن في إدارته. أن الوضع الآن وصل إلى نهايته. إن البعثة العسكرية البريطانية وجدت نفسها في وضع مستحيل أن تعمل مع المصري الذي يتجاهلها ولا يبحث عن مشورتها.

The position had how reached such a pitch that the British Military Mission found it impossible to work with Masri who consistently ignored the and their advice which more often than not he did not even seek.

وتمضي رسالة السفير البريطاني تقول: إنني متأكد أنه يجب على فخامته (علي ماهر) أن يكون قلقًا لدرجة أن يضع حدًا لذلك. لقد تكلمت بكل جدية وبما لدي من معرفة وبكل مساندة من كل الجنرالات ويفل (قائد القوات البريطانية) في الشرق الأوسط وولسن (قائد القوات البريطانية في مصر). فنحن مصممون أن نفي بتحالفنا وتعهدنا لبناء جيش مصري كفء وأن مصر يجب أن تكون كذلك لكن ذلك يستحيل من وجهة نظرنا حتى يخرج المصري مباشرة بعد هذه المقابلة.

I spoke very seriously and with the knowledge and full endorsement of both Generals waevell and Wilson. We were determined to implement our alliance and obligation to build up an efficient Egyptian army but so must Egypt be, and that in our considered opinion was impossible until Masri went. The Prime minister said he must see the Minister of Defense, which he would do on Saturday morning. He Would then discuss with Cabinet on Saturday night. Thereafter he might wish to have a talk wik General Wilson, and I promised to warn the General (this I did immediately after my interview).

وقال لامبسون لعلي ماهر أنه (لامبسون) آثار الموضوع مع الملك فاروق الأسبوع الماضي فقد حدث السفير الملك "عن عدم ثقتنا في المصري".

I told the Prime Minister that I had mentioned to King Farouk last week our mistrust of Masri.

وأنهى السفير رسالته بالقول وهكذا المسألة مازالت باقية وأنني سوف أسأل الجنرال ولسن عندما تقابل رئيس الوزراء أن يوضح له أننا جادون أن المصري يجب أن يذهب. وحتى يذهب فإنني أرى من وجهة نظري أن تؤجل مقترحات الزيادة المقترحة في البعثة المقترحة ببرقتيك رقم 908.

So there the matter for the moment rests and I'm asking General Wilson to make it clear, When he sees the Prime Minister, that we are in earnest and that Masri must go.

وأرسلت صورة من رسالة السفير إلى قائد عام القوات البريطانية في الشرق الأوسط وقائد عام القوات البريطانية في مصر وقائد عام القوات البريطانية الجوية في الشرق الأوسط (64).

ثم هناك وثيقة أخرى هامة من وثائق وزارة الخارجية البريطانية مرسلة من لامبسون بالشفرة في 28 ديسمبر 1939 كلها طعن وتجريح في عزيز المصري وإشارة إلى عدم كفاءته وجهله!

تقول وثيقة السفير: برقيتي السابقة. وما يتبع هو صورة من تقرير أعده الجنرال ماكريدي عن عزيز المصري والتي سلمت نسخة منها لرئيس الوزراء هذا الصباح.

تقول الوثيقة عن عزيز المصري: يبدو (عزيز) جاهلاً تمامًا بالتنظيمات الحديثة للجيش التاكتيك. إن خبرته كما يستطيع الإنسان أن يلم بها محدودة وهي خبرة ترجع إلى خمس وعشرين سنة عن حروب محدودة، وحرب الصحراء.

He appears totally lacking in knowledge of modern military organization and tactics. His experience so for as one can gather from his utterances appears to be limited for irregular or desert warfare of 25 fears ago against inferior troops.

ويقول التقرير الذي كتبه ماكريدي عن عزيز المصري:

وفي المؤتمرات والتدريبات التي يقودها شخصيًّا (وهو ما سمعت عنه البعثة أخيرًا) يبدو جهله! وأنه جعلني (جعل ماكريدي) موضع السخرية في الجيش. أن التعليمات التي تعطيها البعثة يتجاهلها ووجهات نظره وآرائه على خلاف مع أسلوب البعثة في التعليم ومع التدريب العسكري الحديث. ونتيجة لذلك لا يعرف الضباط "أين هم".

At Conferences and Personally Conducted exercises (about which mission only hear afterwards) he has openly displayed his ignorance and mad (grp. Omtd) that I am a laughing stock in the Army. Instruction given by mission is liable to be undermined by his views and opinions which are entirely at variance with teaching of mission and with modern military Practice. As sesult of it officers do not know "Where they are".

يقول تقرير ماكريدي أيضًا:

أنه (عزيز) لم يسأل أبدًا نصيحة البعثة على أي موضوع هام وهناك ما يدعو إلى الاعتقاد أنه لا ينوي أن يفعل ذلك.

He has never asked the mission's advice on any major matter. And there is reason to believe that he has deliberately adopted a policy of not doing so.

وفي نفس الوثيقة: أن له نفوذ غير قوي لدى كبار ضباط الجيش وأنه لا شك أنه إذا استمر فإن التقدم في التدريب والكفاءة سوف تتأخر تمامًا أن لم تتوقف وأن علاقته بالبعثة ليست على ما يرام ولكن البعثة حاولت أن تسير عملها معه.

He is having a most disturbing influence among senior officers of the army. And there is no doubt that if he remains progress in training and effiency will be greatly retorted if not stopped altogether.

His relations with the mission have not been, most cordial but mission has given up trying to do business" with him.

أما الأستاذ محسن محمد فقد ذكر في كتابه التاريخ السري لمصر رواية أقرب من الرواية الصحفية منها إلى الرواية التاريخية حيث قال:

"ذهب الجنرال ماكريدي رئيس البعثة العسكرية البريطانية في الجيش المصري إلى السير مايلز لامبسون السفير البريطاني يشكو عزيز باشا، وتوجه السفير إلى علي ماهر يطلب منه عزل عزيز المصري رئيس أركان حرب الجيش قال علي ماهر.

ماذا فعل عزيز ليعزر؟

قال لامبسون: أنه صاحب مزاج غريب ولا يعتمد عليه (تصرفاته غير منضبطة).

قال علي ماهر: ولكن هذا لا يكفي لعزله.

قال السفير: أنه معجب بالجيش الألماني.

قال علي ماهر: وهل أثر هذا في أدائه لواجبه.

قال لامبسون: ولكن ذلك يؤثر في الضباط البريطانيين. أنه يقول في صالة جروبي للشاي: "إن الجيش البريطانية لا يقارن بالجيش الألماني إذا حكم الإنسان حسب نوعية الضباط البريطانيين الذين يرسلهم إلى مصر".

قال علي ماهر: هل سمعه أحد؟

قال السفير: كل الضباط في الموائد المجاورة لقد تعمد الباشا ذلك. "وانصرف السفير ليعود للقاء علي ماهر ومعه الجنرال ولسون قائد القوات البريطانية في مصر ليقول أن الجيش البريطاني يطلب أبعاد عزيز المصري".

"قال علي ماهر: أريد فسحة من الوقت لأحافظ على المظاهر". فاستدعى اللورد هاليفاكس السفير حسن باشا نشأت سفير مصر في لندن ليقول له:

قل لعلي ماهر أريد محددًا في هذا الموضوع.

وعاد السفير يحمل رد علي ماهر قال:

"إن رئيس وزراء مصر أجرى حوارًا مطولاً مع الجنرال ويلسون في هذا الشأن. وقد وافق على إحالة رئيس الأركان إلى الاستيداع ولكنه لن يعلن ذلك القرار حتى لا يسبب استياء في الجيش أثناء العيد".

قال اللورد هاليفاكس:

"إني سعيد بهذه الرسالة واعتمد عليك أن تقول للباشا: إن الوقت عنصر هام في هذا الشأن وأضاف سأشعر بالأسف حقًّا إذا سمح رئيس الوزراء للمسألة أن تتلكأ إلى ما بعد الأيام الأولى من فبراير ونظرًا لتأكيداتكم فإني أتوقع اتخاذ إجراء حين ذاك، ويتخذ علي ماهر حلاً وسطًا فيعطي عزيز إجازة ثلاثة شهور ونصف ويتسرب النبأ إلى الرأي العام ويسخط ويتهم الإنجليز أنه المسئول عن ذلك.

ويشكو السفير للندن قائلاً:

"أن علي ماهر لم يتعامل في هذه المسألة باعتبارها سرية ذات طابع فني عسكري فلم يبلغ بها ليس فقط أتباعه المقربين فحسب وإنما أضفى عليها طابع التدخل المتعمد في شئون مصر الداخلية، وحاول بذلك أن يقدم نفسه بصفته الوطني الذي لا تلين له قناة وأن يقاوم هجمة بريطانية على استقلال مصر. ونجح في النهاية لخلق أزمة".

وذهب محمد صبيح إلى علي ماهر يقول له هل ستسلم في عزيز يقول علي ماهر: أن عزيز لا يساوي أزمة مع الإنجليز" (66).

هذه هي رواية الأستاذ محسن محمد حول طلب الإنجليز إبعاد عزيز المصري.

أما رواية الأستاذ محمد صبيح فقد جاء فيها:

"ولما عرض علي ماهر على عزيز المصري أن يتولى قيادة الجيش طلب أن توكل له أيضًا وزارة الحربية حتى لا يجد معارضة في مشروعاته الإصلاحية.

ولكن القصر لم يتح هذه الفرصة لعزيز المصري، بل لم يتح له قيادة كاملة للجيش المصري، إذ كان في الجيش منصبان هما مفتش الجيش ورئيس أركان الحرب واختصاصاتها عائمة.

ولم يكترث عزيز المصري كثيرًا لما حدث، بل راح يمر بحدود مصر ويأخذ صورة واضحة عن الموقف العسكري.

وبدا أ نعلي ماهر كان يلعب بورقة ناجحة جدًّا.. فإن مداولات عزيز المصري مع القيادة البريطانية في شئون الدفاع كشفت عن عبقرية هذا الرجل الذي لا يعرف فقط فنون الحرب الحديثة ولكن يعرف هذه الصحراء شبرًا شبرًا.

وعند رستم خطة الدفاع عنها أشار بإهمال مرسى مطروح، التي كان القواد المصريون والإنجليز يعدونها البندقية التي لا تكسر، وكدسوا فيها الثكنات ومعدات الدفاع، وأشار عزيز إلى موقع العلمين وكان هو الذي اخترع كلمة (عنق الزجاجة) ورسم خطة دفاع مستند إلى أصول فنية يمتد من العلمين إلى سيره.

وتلقى عزيز المصري كتاب من الجنرال ولسن يشيد فيه بقدرته، ويصفه بأنه واحد من أعظم قواد العصر الحديث.

ولكن عزيز المصري وهو ينظم خطوط الدفاع عن مصر لم ينس أن الإنجليز هم أعداؤنا الحقيقيون وأن عدة البلاد في التخلص منهم هم الضباط الشبان والجنود. فاتخذ من الثكنات حول القاهرة ومن مراكز الجنود مقر عمله، وهجر المكتب المعد له في وزارة الحربية والبحرية والطيران.

وأقلقت هذه الهجرة القصر ولواءات الجيش وحاولوا أن يستردوه مرة أخرى إلى المكاتب الرطبة في مبنى الوزارة القديم فعقد مؤتمرات من اللواءات، وفاجأهم مرة بسؤال هام:

-هل هناك حاجة إلى البعثة العسكرية البريطانية في الجيش المصري؟ (وضربت لخمة) كما يقولون.. وحاول البعض أن يتحمس والبعض أن يدعي أن زكامه لا ينقطع. وما أن انقضت الجلسة حتى تسلل معظم الحاضرين إلى البعثة العسكرية البريطانية يقصون عليها القصة مستنكرين ثم يعودون إلى عزيز المصري ليتهم كل واحد منهم صاحبه بأنه أفشى أسرار الاجتماع للإنجليز.

وضحك عزيز المصري فقد كان يعرفهم جميعًا، وسرت روح عزيز المصري وكلماته الصريحة المباشرة في المعسكرات ومع الضباط والجنود وكأنها الكهربا في انطلاقها.

وتبين لعلي ماهر أن الشعب في يقظة روحية تامة. وتبين لهم أن روح الشباب الوطنية نبرات تسيطر على وحدات الجيش وأن أمره لم يعد خاضعًا للبعثة الأجنبية ولم يعد خاضعًا للواءات الجيش العظام.

ولم يكن هناك طريق آخر فقد قررت الوزارة أن تترجم مبدأ "تجنيب مصر ويلات الحرب" إلى حياد حقيقي وألا تصادم الشعب في شعوره.

وبدأت مقاومة الوزارة لطلبات الإنجليز التي لا تنتهي.. وكانت أكبر ضربة وجهوها للحكومة الماهرية هي طلبهم عزل عزيز المصري. وكان الحل الوسط هو إعطاؤه أجازة.

وأصبح واضحًا أن الإنجليز لم يعودوا يثقون في وزارة علي ماهر وكان لابد من التخلص منها (67).

ومن رواية الأستاذ محمد صبيح نستخلص أن عزيز المصري كان له وهو يشغل منصب رئيس أركان حرب الجيش أعداؤه في داخل الجيش من كبار الضباط المصريين الذي لم يرضوا عما بدأ عزيز يدخله في الجيش من تطوير ومن حثه لهم على الاطلاع والقراءة والدراسة. ففي مذكراته التي سبق أن أشرنا إليها يتضح أنه بدأ يطلب من القادة الكبار في الجيش وهم الضباط من رتب الأميرالات واللواءات أن يقدموا بحوثًا عسكرية لمناقشتها سويًا عند اجتماعه بهم وقال لهم ستكون اجتماعاتنا بانتظام وليس المهم قيمة البحث العسكري والدراسة، ولكن المهم أن ندرس ونقدم التقارير عن أنجح الوسائل لتنويه الجيش وعن تحسين تدريبه وتنظيم الدفاع عن بلادنا وبث الروح العسكرية بين أفراد الشعب، لكن أخبار هذه الاجتماعات كانت تنقل للسلطات البريطانية أولاً بأول وهو الأمر الذي جعل من البعثة العسكرية عدوه الثاني خاصة وأنه يريد استقلالاً في أمور الجيش إذا كان يأمل في بناء الجيش الوطني الحديث.

استجاب علي ماهر للضغط البريطاني فأصدر قراره في فبراير 1940 بمنح عزيز المصري إجازة ثلاثة أشهر ونصف (68) أحيل بعدها على المعاش. ولم ينس عزيز المصري لعلي ماهر هذا الموقف المتخاذل أمام طلب السلطات البريطانية إبعاده.

والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا استجاب علي ماهر لهذا الطلب البريطاني؟

في المقدمة التي كتبها إيفانس Evans عن يوميات كيلرن نلمس بعض ما يلقي بالإجابة على هذا التساؤلز يقول إيفانس: "في وزارة محمد محمود بدأت الاضطرابات قريبة من مصر، وحدثت حوادث إخلال بالأمن والنظام في فلسطين 1936 . وكان لابد أن تمتد هذه الأحداث إلى البلاد العربية المجاورة بما فيها مصر. في خريف 1938 عقد مؤتمر من القادة العرب والمسلمين في القاهرة بالنسبة لهذا كله فإن الحكومة البريطانية التي كانت تشكل سياستها بالنسبة لفلسطين لم تهمل أن تدخل هذا كله في الحسبان، وشغل سفير إنجلترا في مصر بذلك.

ثم كان مؤتمر المائدة المستديرة في سان جيمس فبراير 1939، وصدر قرار إنجليزي لصالح العرب أكثر منه لصالح اليهود بتحديد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، لكن فلسطين نتيجة لذلك كانت جزءًا هامًا من القاعدة البريطانية في الشرق الأوسط لم تحدث فيها حوادث اضطرابات أثناء الحرب التي بدأ قرب وقوعها.

في هذه الأثناء ضمنت إنجلترا تمامية بولندا وأوضحت استعدادها للوقوف في وجه الدكتاتوريين، وزاد القلق في مصر فهناك 80 ألف إيطالي في ليبيا وأما في مصر ففيها فقط عشرة آلاف جندي، ولم يخف رئيس الوزراء (محمد محمود) مخاوفه من عدم كفاية القوات الإنجليزية في المنطقة. ومن سوء الحظ فإن التعاون الذي ينبغي تقديمه للسلطات العسكرية المصرية المدعمة بنفوذ القصر لم يكن كما هو مرغوب، وفي الحقيقة فإن اتجاه القصر كان غير واضح، وقبل الحرب بأسابيع قليلة استقال رئيس الوزراء الذي تعاون بإخلاص (مع إنجلترا)، وحل محله علي ماهر، وهذا الرجل الأخير رجل الملك مائة في المائة the latter was 100 percent a King's man وكان هذا الرجل يمتاز بالزوغان أو المراوغة فضلاً عن عدم الاعتماد عليه. And moreover had reputation devotedness and unreliability وعندما عين هذا الرجل (علي ماهر) كان مايلز لامبسون في إجازة وكان مايلز يعرف علي ماهر جيدًا وقرر أن يعمل كل جهده للحصول على التعاون معه. لكن سرعان ما ظهر أن هناك مصاعب أمامه.

قطعت مصر علاقتها الدبلوماسية مع ألمانيا وقدمت كل التسهيلات طبقًا للمعاهدة. لكن مصر لم تعلن الحرب، ولم يف علي ماهر بوعوده التي وعد بها، وكان السفير رغم ضيقه يبدي الصبر ومضى السفير يقاوم الضغوط عليه من ويفل الذي عين قائدًا عامًا للقوات البريطانية في الشرق الأوسط في أغسطس 1939، ويتضح اهتمام مايلز لامبسون بمسلك فاروق ورئيس وزراء مصر في المذكرات، لكن أهم ما كان يهتم به لامبسون هو مسلك السراي.

ومن سوء الحظ فإن مستشاري الملك إن لم يكن الملك نفسه رأوا أن يحبذوا سياسة تأمين أنفسهم بأنه إذا خسرت إنجلترا الحرب تكون الأسرة المالكة في أمان، وكان ارتباط العائلة الملكية بإيطاليا لمدة طويلة يجعل ذلك هو الأغلب بالطبع (69).

أوردت ذلك لأوضح كيف أن السفير الإنجليزي كان متخوفًا من تعيين علي ماهر في رئاسة الوزارة فهو في نظره على حد ما قال إيفانس –مراوغ ولا يعتمد عليه- معنى ذلك أن الشك في علي ماهر وعدم الثقة فيه كانت تستحوذ على ذهن الحكومة البريطانية والقادة العسكريين الإنجليز في مصر والسفير البريطاني بها، ومن هنا وبسبب ظروف الحرب وهزيمة الحلفاء مع بدئها والشماتة التي بدأت تظهر من القصر ومن ذوي الميول الألمانية قوت من مخاوف الإنجليز من بقاء عزيز المصري على رأس الجيش ثم من بقاء علي ماهر نفسه في الحكم.

وقد روى علي ماهر ما يؤكد أن جوًا من عدم الثقة كانت تسود بينه وبين السفير البريطاني، فقد روى الأستاذ محمد صبيح أن مصر لم تكن وحدها التي تمارس سياسة الحياد في تلك الحرب فقد كانت دول أخرى هي يوغوسلافيا وتركيا واليونان وسويسرا، وكانت زيارة سفير اليونان المسيو كاتسفليتس لرئيس الوزراء المصري من الأمور التي تزعج الإنجليز، بل إن مجرد وجود علي ماهر على رأس الوزارة كان مزعجًا لها. وقد روى له علي ماهر أنه لم يكن يقابل السفير البريطاني وحده إنما كان يحرص على أن يكون معه شخص آخر ليكون شاهدًا على ما يدور بينهما من أحاديث.

يقول علي ماهر "لم أكن أثق في هذا الرجل مايلز لامبسون وكنت أعلم أنه كثيرًا ما يحرف الكلام، وينكر الوقائع ولهذا كنت أحرص على أن تكون أحاديثي معه بحضور القائد العسكري، فالعسكريون أصدق من سياسي محترف لا يمتنع عن الكذب في بعض الأحيان (70).

ثم يروي الكاتب على لسان علي ماهر أمثلة كثيرة على عدم الشك الذي كان قائمًا بين علي ماهر والسفير البريطاني، وإذا كان الإنجليز غير مطمأنين لبقاء علي ماهر في السلطة وهو الأمر الذي انتهى بطلب الإنجليز إخراجه من الحكم وتقديم علي ماهر استقالته، فمن باب أولى لم يكن الإنجليز ليسمحوا بأن يظل عزيز المصري على رأس القوات المسلحة المصرية.

ظن علي ماهر أنه قد يستطيع أن يتغلب على عدم الثقة فيه بإجابة الإنجليز إلى مطالبهم التي توالت منذ دخلت إنجلترا الحرب، ومن بينها إخراج عزيز من رئاسة أركان حرب الجيش، لكن ذلك أمرًا بعيد المنال بالنسبة إليه فكانت برقية اللورد هاليفاكس الشهيرة التي بعث بها "علي ماهر يجب أن يخرج".

وقد أوضح الدكتور هيكل في مذكراته عن السياسة المصرية حديث مسيسل كامبل مدير شركة ماركوني له عندما تحدث معه بشأن موقف وزارة علي ماهر من الحرب وموقف إنجلترا منها، قال كامبل أن الوزارة تنفذ المعاهدة بسخاء، ولكنها تنفذها تنفيذ الكاره الساخط لا الصديق الحريص على معاونة صديقه، وعلق هيكل على ذلك بقوله: آثار حديثه في نفس الكلمة العربية القديمة عن الإحسان، أن الناس لا يسألون كم أعطى ولكنهم يسألون كيف أعطى", وعلى هذا كانت الحالة النفسية القائمة بين الوزارة المصرية والسلطات البريطانية في مصر مشوبة بقدر عظيم من عدم الثقة وعدم الاطمئنان إلى المستقبل.

كل هذا يفسر عدم اعتراض علي ماهر على إخراج عزيز وقوله أن عزيزًا لا يساوي أزمة مع الإنجليز.

استاء عزيز من قرار إخراجه من منصبه، فقد روي في التحقيق الذي أجرى معه بشأن محاولة هروبه 1941 ما يلي عندما سُئل عما إذا كان يعرف حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف وكيف اتفق معهما على الهرب قال:

"من جهة حسين ذو الفقار ما كنتش أعرفه قبل السفر ببضعة أيام وشفته مرة واحدة أو اثنين وعبد المنعم (عبد الرءوف) هو الذي عرفني به وأحضره في البانسيون وأما عبد المنعم فمعرفتي به ترجع إلى زمن خروجي من الخدمة أي بعد خروجي بقليل. وذلك أن لاحظت ضابط يؤدي لي التحية وأنا ماشي في الشارع ذات يوم فكلمته وسألته أنت مين فقدم لي نفسه وقال لي أنا ضابط في الطيران فكلمته كام كلمة عن وظيفته فوجدته نبيه وله خلق وقلت له أكون مبسوط لو تزوروني فجاء لي في بيتي بعين شمس في يوم وحضر بعدها مرتين ثلاثة. وكان معتاد أنه يزورني خصوصًا بعد انتهاء الأجازة أي بعد أن قررت الحكومة فصلى نهائيًا من الخدمة وكثير من الضباط كانوا يزوروني مجاملة لإظهار أسفه ولا أعرف أسماء ستين في المائة منهم لأني أعرفهم بالشبه فقط وإنما كان يسرني أن يحضر لي شبيبة تحضر لتستفيد من بعض تجاربي حتى عبد المنعم معرفتش اسمه إلا أخيرًا، وهو نفسه قال لي أنا كنت عندك مرة، وكان عندك فلان وفلان فقلت أنا لا أتذكر هذه الأسماء.

"ومن يوم أن قررت الحكومة الاستغناء عني ومنحي أجازة لأسباب سياسية أصبحت في حالة عصبية غير طبيعية لأنه كان لي الحق في الخدمة خمس سنين وزيادة وكان في الإمكان تمضيتها خارج الجيش في أي وظيفة ربما أني رجل أشعر في نفسي بالاندفاع في العمل فمنع هذا العمل عني يوجه هذا الاندفاع ضد شخصي جسمًا ومعنى وكنت أشتكي لكثير من الإخوان (71).

كذلك شهد مسيو جورج ريمون الذي كان مراقبًا للفنون الجميلة في قضية هروب عزيز المصري والتي سنشير إليها فيما بعد أن عزيز المصري وقع عليه خبر إعفائه من الخدمة موقعًا سيئًا.

س: ألم نلاحظ شيئًا من التغير على عوايد عزيز المصري في الأيام الأخيرة.

ج: لاحظت أنه بعد أن ترك الخدمة أصبح متأثرًا أكثر عصبيًا ولما كنت أسأله عن أحواله كان يقول أنه حزين ومضطرب وكنت أطلب منه أن يتنزه معي فيرفض وكان هذا يؤلمني وأعتقد أنه يستطيع أن يؤدي خدمات جليلة لبلاده (72).

كذلك كان واقعة الاستغناء عن عزيز المصري أثرها ليرى فريق من الضباط خاصة الشبان منهم وأولئك الذي ينتمون للطبقة الوسطى في مصر والذين سمح لهم بدخول الكلية الحربية فضل سياسة التوسع التي انتهجها عزيز بالنسبة لهذا المعهد العسكري.

ففي أقوال كل من حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف في قضية الهروب ما يوضح مدى الرباط الذي كان بين عزيز وبين مجموعة كبيرة من الضباط الشبان كانوا يزورونه في منزله وقال عزيز أ،هم من كثرتهم لم يكن يعرف اسم بل أنه لم يعرف اسمه هذين الضابطين رافقاه في محاولة الهرب إلا أخيرًا.

هوامش الفصل الثالث

(1) Toynbee: Survey of intenational affairs 1936 p. 693.

(2) قطع مايلز لامبسون أجازته التي كان يقضيها في لندن وعاد إلى مصر في 4 نوفمبر لآخر مرة كمندوب سام بريطاني ليصبح بعد ذلك سفيرًا لإنجلترا في مصر ويصبح عميد السلك الدبلوماسي ارجع إلى Killearn Diareis p.80.

(3) المسدي وآخرون: مصر بعد الحرب العالمية الثانية ص36.

(4) Cromer: Modern Egypt p.826.

(5)Ibid: p.826- 831..

(6)Arthur (George) life of lord Kitchner Vol v. p. 183.

(7) عن اللواء شوقي عبد الرحمن.

(8) أحمد شفيق: الحولية الثانية ص 19 ص 96-97.

(9) Lioyd: Egypt since Cromer Vol. pp. 202-203.

(10)Ibid: p. 208.

(11) يعلق الأستاذ شفيق غربال على ذلك بقوله: أرأيت قلبًا للأوضاع كهذا القلب انظر كتابه تاريخ المفاوضات ص 170.

(12) انظر مجد برج: قناة السويس أهميتها السياسية والاستراتيجية ص 154 وكذلك Liayid p.216.

(13) شفيق غربال : تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية ص 170.

(14) المرجع السابق ص170.

(15) وثائق المفاوضات المصرية البريطانية التي نشرتها الحكومة المصرية في كتاب باسم القضية المصرية ص 269.

(16) المرجع السابق.

(17) تضمنت هذه الفقرة: نظرًا لاستحسان الوحدة في التدريب والأساليب بين الجيش المصري والبريطاني يتعهد صاحب الجلالة ملك مصر بأنه إذا رؤي ضرورة الاستعانة بمعلمين عسكريين من الأجانب يختارهم من بين الرعايا البريطانيين.

(18) غربال: تاريخ المفاوضات ص 229.

(19) غربال: تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية ص312.

(20) الأهرام عدد السبت 23/4/1939.

(26) عن المرحوم اللواء شوقي عبد الرحمن وهو أحد الضباط الذين عاصروا البعثة وعملوا معها.

(27) المسدي وآخرون: مصر والحرب العالمية الثانية ص37.

(28) Evans: The Killearn Diareis p.90.

(29)التابعي: [[مذكرات في أسرار الساسة والسياسة مصر ما قبل الثورة]] ص 161.

(30) Evans: Lard Killearn p. 92 CE.

(31) مذكرات هيكل ص57.

(32) الأهرام 31/3/1938.

(33) أنعم الملك فاروق في الثاني من فبراير 1938 علي محمد محمود بقلادة فؤاد الأول فانتقلت رتبته من صاحب الدولة إلى صاحب المقام الرفيع، انظر هيكل ص 71.

(34) دار الوثائق القومية – محفظة الجيش رقم 5.

(35) مجلة الجيل 13 مارس 1961.

(36) الأهرام 30/5/1938.

(37) الأهرام 9/6/1938.

(38) نفس الصحيفة 14/6/1938.

(39) الأهرام 22 ديسمبر 1938.

(40) المسدي وآخرون: مصر والحرب العالمية الثانية ص32.

(41) المرجع السابق ص 33.

(42) Evans: Laid Killearn Diaries p.102.

(43) المصور 25/6/1965 .

(44) هيكل : مذكرات في السياسة المصري ص163.

(45) Evan: Lord Killearn Diaries p.109.

(46) هيكل ص 173.

(47) صدر بسراي المنتزه 3 رجب 1358 (18 أغسطس 1939) الوقائع المصرية 18 أغسطس 1939 العدد 81.

(48) محمد التابعي ص 172.

(49) صدر بسراي المنتزه 3 رجب 1358 (18 أغسطس 1938 وقائع 18 أغسطس 1939 عدد 82).

(50) صدر في 3 رجب سنة 1358 (18 أغسطس 1939) والوقائع المصرية 18 أغسطس 1939 العدد 82.

(51) المسيري وآخرون: مصر والحرب العالمية الثانية ص 133.

(52) فشر: تاريخ أوروبا الحديث ص 498.

(53) أنور السادات: البحث عن الذات ص 31.

(54) المرجع السابق ص 38.

(55) الوقائع المصرية العدد (91) 4 سبتمبر 1939.

(56) Great Britain and Egypt I 914- 1951- p.62..

(57) نقلاً عن المسدي وآخرون: مصر والحرب العالمية الثانية ص 147.

(58) قضية هروب عزيز المصري – أقوال فتحي رضوان، غير منشورة.

(59) محمد صبيح : بطل لا ننساه – عزيز المصري وعصره، ص 110 ويقول الأستاذ صبيح: ما لبث علي ماهر أن تلقى رسالة من السفير البريطاني يطلب عزي عزيز المصري وقد أذاع القريبون من الرجل هذا الطلب ورحنا نسأل علي ماهر ماذا سيصنع؟ فأجاب برد سخيف قال: عزيز المصري لا يستحق أزمة؟ وقرر إعطاء عزيز المصري أجازة طويلة.

(60) هيكل : مذكرات في السياسة المصرية ص 181.

(61) فشر: تاريخ أوروبا الحديث ص 669.

(62) F.O. 371 – D – 5078 – 29- DEC. 1939 - 23337.

(63)F. O. 371 – 23377 – XNO 1942 – D 5084/G.

(64)FLO 371 – 23377. X3377. XNO 1942. D – 5085 29 Dec. 1939. NO. 813. F. O. Registry..

(65)F. O. 371-23377 – X/N O 1942. D 5085. 29 Dec. 1939 Decyher Sir Miles Lampson (Ciro) 28 TH Cec. 1939. NO 814..

(66) محسن محمد: التاريخ السري لمصر ص 115.

(67) محمد صبيح : عزيز المصري وعصره ص 146.

(68) طلب عزيز المصري أجازة مرضية فاستجاب علي ماهر بصفته وزير الدفاع بالنيابة ومنحه أجازة ثلاثة أشهر ونصف (الأهرام 6 فبراير سنة 1950 ص 6).

(69) Evans: The Killearn diaries p.p 406.

(70) محمد صبيح : عزيز المصري وعصره ص 262.

(71) القضية الخاصة بالهروب: أقوال عزيز المصري غير منشورة.

(72) المرجع السابق.

الفصل الرابع: قضية الهروب

اعتبر أن عثوري على الملف الخاص بقضية هروب عزيز المصري من مصر شيئًا هامًا بالنسبة لهذا البحث بذلك أن الوزارة الحربية ليس لديها شيئًا عن هذه القضية، كذلك لا تحفظ وزارة الثقافة المصرية في وثائقها القويمة أية أوراق عنها، وقد بحثت عنه في أماكن كثيرة عسى أن أصل إليه وأخيرًا وجدت أن الأستاذ فتحي رضوان يحتفظ به في بعض أدراج مكتبته في مكتبة الذي يباشر منه عمله كمحام بشارع عبدالخالق ثروت.

وأوراق القضية كثيرة غير مرقمة أو مرتبة ولقد بحثت عن فهرس لها فلم أجد وهي تحتوي على ثلاث أجزاء رئيسية:

أولاً: إقرار الاتهام واستجواب النيابة للمتهمين

ثانيًا: مرافعات الدفاع وحيثياتهم التي استندوا إليها في دفاعهم

ثالثًا: جلسات المحكمة.

وفي الوقت الذي أتشرف بتقديم هذا البحث للقارئ العربي، أرجو أن أوفق في أن تتبنى جهات الدولة الرسمية مهمة حفظ هذه القضية ومحاولة ترميم بعض أوراقها التي بدأت تتآكل وهو ما أرجو أن يتم قريبًا لخدمة الباحث العربي. وسوف يجد القارئ ملحقًا في هذا البحث لبعض ما رأيت إضافته من أقوال لعزيز المصري ورفيقيه في محاولة الهروب إيمانًا مني بأن إلحاقها بالبحث تخدمه وتلقي الضوء على كثير من جوانب هذه القضية.

لكنني لم أعتمد في كتابة هذا الفصل على أوراق القضية وحدها برغم أنها تشكل المرجع الأساسي له، فقد سجلت في لقاءات عدة رواية الأستاذ فتحي رضوان حول هذه القضية بصفته محامي عزيز المصري وأقرب الناس إليه طوال هذه الفترة. فالمعروف أن فتحي رضوان لم يكن محامي عزيز في هذه القضية فحسب بل في قضايا أخرى مختلفة منها القضية التي رفعها عزيز وطالب فيها بتعويض عن إحالته للمعاش كذلك كأن فتحي رضوان وكيله عندما سافر عزيز برفقة ولي العهد فاروق إلى إنجلترا. بل أنه عندما أزمع عزيز المصري الهرب من مصر مر على فتحي رضوان وطلب منه تأجيل القضية التي رفعها على وزارة الحربية لإحالته على المعاش قبل السن القانونية. لكن عزيزًا لم يفصح للأستاذ فتحي رضوان عن نيته في محاولة الهرب. من أجل هذا تتضح أهمية رواية فتحي رضوان لي عن قضية الهرب ودفاعه ومعه زملائه المحامين الآخرين.

وبالإضافة إلى ذلك رجعت إلى الدوريات المعاصرة: المقطم، المصري والأهرام عن سنتي 1941، 1942 حتى تاريخ الإفراج عن عزيز المصري على عهد حكومة النحاس في السادس من مارس 1942. فقد صدرت صحيفة الأهرام في ذلك اليوم 6/3/1942 وهي تحمل الخبر التالي: الإفراج عن عزيز المصري باشا وعن الضابطين حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف:

جاءنا من سكرتارية مجلس الوزراء أن صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء والحاكم العسكري العام قد استدعى عزيز المصري والضابطين حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف بحضور صاحب المعالي حمدي سيف النصر والفريق عطا الله رئيس هيئة الأركان وأبلغهم رفعته بأنهم من الآن أحرار في الذهاب إلى منزلهم على أن يكونوا تحت الرقابة المؤقتة لحين الانتهاء من اتخاذ ما يلزم من الإجراءات التي عهد إلى صاحب المعالي وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان إتمامها. وقد أسدى رفعته لهم نصحه باحترام القوانين والتزام حدود الواجبات التي يقضي بها الشرف العسكري فتقبلوا نصحه شاكرين وقطعوا على أنفسهم كلمة شرف بألا يصدر منهم ما يدعو إلى ريبة نحوهم وقد كان الوصول إلى هذه النتيجة بفضل ما قام به صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا من المساعدة والمفاوضات لدى مختلف السلطات وقد كللت مساعيه بالنجاح.

كذلك أفادتني مذكرات عزيز المصري التي هي أقرب للذكريات منها إلى المذكرات والتي نشرت الصحف بعضًا منها على نحو ما سنشير إليه عند الحديث عن هذا الموضوع.

وبالإضافة إلى ذلك فهناك كتب مختلفة رجعت إليها. لكن تناولها للقضية هو تناول غير مفصل، مثل ذلك كتاب Don Pertz بعنوان الشرق الأوسط اليوم Middle East Today طبع بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1963 وأما كتاب The Foxes of the desert تأليف بول كارل تعريب كمال الشريف تعليق ومراجعة فتحي عبدالله النمر فهو يلقي الضوء على بعض محاولات ألمانية لتمكين عزيز المصري من الهرب وفشل هذه المحاولات، لكن هذا الكتاب به أخطاء كثيرة وتحريف للوقائع سوف نشير إليها.

سوف أقسم الحديث عن هذا الموضوع إلى الأقسام الآتية:

أولاً: محاولة الهرب. ثانية: القبض على عزيز ورفاقه، ثالثًا: المحاكمة.

محاولة الهرب:

قبل الحديث عن محاولة الهرب نذكر أن هذه المحاولة تمت في الساعة الأولى من صباح الجمعة 16 مايو 1941 من مطار ألماظة فقد أصدر مجلس الوزراء المصري البلاغيين الرسميين التاليين:

البلاغ الأول:

في الساعة الأولى من صباح يوم الجمعة 16 مايو 1941 قام من مطار ألماظة اثنان من ضباط سلاح الطيران الملكي المصري ومعهما ثالث بإحدى طائرات السلاح المذكور وقد اضطرت بفضل وسائل الوقاية الجوية إلى الهبوط. فاصطدمت بسلك التيار الكهربائي الممتد بين قها وقليوب فسقطت في حديثة. وعلى أثر هذا السقوط حاول الركاب الثلاثة الفرار. وقد ثبت أنهم عادوا إلى القاهرة واختفوا والبحث جار للقبض عليهم، وقد تبين من الحقائب والأوراق المضبوطة ومن أدلة عديدة أخرى شخصية الركاب الثالثة وأن ثالثهم هو عزيز المصري باشا، كما تبين القوانين والأدلة أن الفعل الذي ارتكبوه يقع في باب الجنايات المضرة بأمن الدولة وسلامتها، وقد تولى التحقيق سعادة النائب العام بالاشتراك مع السلطات المختصة المدنية والعسكرية.

أما البلاغ الثاني فقد جاء فيه:

تعلن الحكومة أنها ستمنح مكافأة قدرها ألف جنيه لمن يعاون أو يرشد أو يدلي ببيانات تساعد في القبض على عزيز المصري باشا والطيار الأول حسين ذو الفقار صبري والطيار الأول عبد المنعم عبدالرؤف أو أحدهم.

وتنذر الحكومة كل من آوى أو أخفى هؤلاء الأشخاص الثلاثة أو أحدهم أو ساعد على فرارهم وكل من علم بمقرهم ولم يبلغ عنهم وتنذر هؤلاء جميعًا أنهم واقعون تحت طائلة العقاب. وقد أمرت الحكومة بنشر صورهم لتيسير التعرف عليهم (1). يلاحظ على هذين البلاغين أن الحكومة المصرية أعطت لنفسها الفضل في سقوط طائرة عزيز المصري إذ قال بلاغها أن الطائرة اضطرت بفضل وسائل الوقاية الجوية إلى الهبوط فاصطدمت بالسلك الكهربائي.. إلخ مع أن السبب كما سنوضح كان اشتعال النار بماكينة الطائرة مما اضطر حسين ذو الفقار صبري أن يهبط بها.

كما أعلن حسين سري باشا رئيس مجلس الوزراء في حديث للجورنال ديجيبت Le jornal d'Egypte وصف فيه عزيز المصري بعدم التوازن والاهتزاز وقال: لقد تفاقم عدم توازنه الخلقي على أثر نجاح الغازي كمال أتاتورك فقد كان دائمًا يجهر بأنه أعظم من أتاتورك في نبوغه العسكري. وأنه هو الذي كان عليه أن ينقذ تركيا وأن يشرف على نهضتها وأنه كان يرجع كل شيء إلى المسألة المادية وجمع المال. ويقول حسين سري أنه كان يرى إحالة عزيز المصري إلى المعاش لولا ضيق عزيز المصري المالي. وتحدث عن مظاهر اضطرابه ودلل على ذلك طلب عزيز المصري من النحاس باشا بواسطة الدكتور أحمد ماهر باشا وهو أن يعينه نائبًا لرئيس مجلس الوزراء مع حق التفتيش على جميع الوزارات الأخرى (2).

وأخذت الصحف المصرية تنشر –بإيعاز من الحكومة- نوادر تدل على اهتزازه واضطرابه وحبه للمادة! ومن ذلك قولها قيل أنه عندما تولى منصب رئيس هيئة أركان حرب الجيش طلب من الوزارة بناء فيلا أنيقة بالصحراء له ورفض المسئولون المشروع لأسباب مادية.

نعود بعد ذلك لتناول محاولة عزيز الهرب خارج مصر.

جاءت محاولة عزيز المصري للهرب أثناء الحرب العالمية الثانية، وعلى وجه التحديد في ليلة السادس عشر من مايو 1941 كما سبق أن أشرنا. وفي هذا الوقت كانت هذه الحرب في غير صالح الإنجليز وحلفائهم. فقد تمكنت ألمانيا بعد ثمانية عشر يومًا من إعلان الحرب من اجتياح بولندا واتجهت بقواتها إلى بلجيكا فلم تحترم حيادها بعد أن رأت أن تحصينات الفرنسيين في الحدود الشرقية صعبة الاجتياز كما تم لهم اكتساح شمال فرنسا بعد ثمانية أشهر من بدء هذه الحرب. وانتهى الأمر بأن طلب الماريشال بيتان الهدنة مع الألمان في 22 يوليو 1640 واتفق معهم على شروط للهدنة منها احتلالهم شمال فرنسا المتاخم لبلجيكا إلى جنوب باريس وكذلك المناطق الشرقية المتاخمة لألمانيا حتى سواحل البحر المتوسط وأن يترك الباقي تحت حكم الفرنسيين –وأقام بيتان في مدينة فيشي حكومته التي عرفت باسم حكومة فيشي.

وفي الوقت الذي كانت فلول الجيش الفرنسي تترك مواقعها الحربية أمام تقدم الألمان قررت إيطاليا دخول الحرب إلى جانب ألمانيا في العاشر من يونيو من نفس العام (1940) وكان موسوليني قد أرجأ دخوله الحرب حتى يرى ما يسفر عنه الموقف في الشهور الأولى من الحرب، فلما سقطت بولندا واحتل الألمان فرنسا بدأ يثق في فوز ألمانيا في هذا الحرب فقرر الدخول إلى جانبها (3).

بدخول إيطاليا الحرب قلبت ميزان القوى على الأقل في البحر المتوسط لصالح الألمان، كان هتلر يرى أنه بسيطرته على هذا البحر يستطيع أن يقطع خطوط المواصلات البريطانية مع الشرق ويحطم دفاعاتها في هذه المنطقة فضلاً عن أن ذلك يمكنه من الوصول إلى تركيا ومنها إلى القوقاز ومنابع البترول الروسية في باكو. وكانت الوسيلة التي ارتآها هتلر كفيلة بذلك هي أن تتقدم قواته لاحتلال البلقان. وبذلك يستطيع أن يتقدم إلى السيطرة على القواعد البريطانية في شرق البحر المتوسط في الوقت الذي تقوم فيه القوات الإيطالية في ليبيا بغزو مصر والوصول إلى قناة السويس حيث يمكن التقدم إلى إيران وروسيا وعندما اجتمع هتلر مع موسوليني في 28 أكتوبر 1940. في فلورنسا أوضح له أهمية السيطرة على منافذ البحر المتوسط وبصفة خاصة جبل طارق وقناة السويس ، أما بالنسبة لمضيق جبل طارق فقد رأى هتلر أنه ميسور الاستيلاء عليه خصوصًا بعد سقوط فرنسا حيث يصبح في إمكان قوات ألمانيا أن تتدفق إلى أسبانيا وتسيطر على هذا المضيق. أما بالنسبة لقناة السويس فقد رأى أن يعهد بذلك إلى القوات الإيطالية أثناء تقدمها من ليبيا (4).

لكن الإيطاليين لم يكنوا خلال هذه الحرب على نفس المستوى والكفاءة التي للألمان. فسرعان ما اتضح عجزهم عن مطاردة الإنجليز في مصر كما كان يأمل هتلر وعندما اتضح لهتلر عجز الإيطاليين عن القيام بهذه المطاردة وحدها وخاصة بعد النصر الذي حققه الإنجليز على الإيطاليين في برقة في التاسع من ديسمبر 1940 وبعدما أوفد هتلر رسوله جنرال فون توما لدراسة الموقف الحربي في شمال إفريقيا عندما اتضح له ذلك قرار إشراك القوات الألمانية يتقدمون في البلقان في 6 أبريل 1941 وبدأ ضرب يوغوسلافيا من الجو وصار الموقف الحربي عمومًا فقي غير صالح الإنجليز. وأصدر تشرشل أوامره إلى القائد البريطاني في الشرق الأوسط (ويفل) أن يترك من القوات في برقة ما يكفي لوقوفها موقفًا دفاعيًا ويسحب كل ما يمكن سحبه من هذه القوات لمساعدة اليونان. ولكن هتلر أقدم على غزو اليونان دون إبطاء بل وأجبر القوة التي أرسلتها بريطانية لمساعدة اليونان على الرجوع إلى كريت تاركة بنادقها وأسلحتها ودباباتها وفي 20 مايو غزت كريت من الجو حيث تمكن الألمان من احتلالها في ظرف عشرة أيام.

وفي هذا الوقت قام رشيد غالي الكيلاني بثورته المعروفة ضد الإنجليز في العراق.

إن هذا العرض الموجز للظروف التي فكر فيها عزيز في الهرب مهمة لأنه قبل إقدامه على محاولة الهرب التقى بعدد من البريطانيين وخاصة الكولونيل ثورن هيل Hill وجرت محادثات بين كل من عزيز وثورن هيل حول إمكانية عزيز عقد مصالحة بين الإنجليز ورشيد غالي الكيلاني.

كان عزيز قد أقام في بانسيون اسمه فينواز حيث استأجر منه أحد الفرنسيين واسمه روني أدولف شيفايلز منزله وذلك منذ 8 مايو 1941 وقد تم الإيجار عن طريق محامي لعزيز المصري اسمه الأستاذ لاهوفاري. أجر عزيز بيته لحاجتة إلى المال وذلك قبل أن يفكر في بيعه وعندما سئل مستأجر الفيلا عما إذا كان عزيز يزوره أجاب أنه كان يأتي لقضاء بعض الوقت في حديقة منزله وكان إيجار المنزل ستون جنيهًا شهريًا بما فيها أجرة الجنايني مع أنه لم يكن يحصل على ثمار الحديقة، أما السبب الذي دفع روني أدولف لاستئجار بيت عزيز المصري فهو على حد قوله حر مصر الذي لا يحتمل بينما كان يشعر هو وزوجه بالراحة في هذه الفيلا. وكان عزيز يحتفظ بغرفة في الجناح الخارجي. وقال إن عزيز باشا أحرق أوراقًا كثيرة في العام الماضي (السابق على هرب عزيز) وذلك في غرفته هذه.

كان عزيز على حد ما اعترف به مستأجر منزله يشعر بضيق وأخذت تنتابه حالة نفسية سيئة بعد منحه أجازة من الجيش: "ومن يوم أن قررت الحكومة الاستغناء عني ومنحي أجازة لأسباب سياسية أصبحت في حالة عصبية غير طبيعية لأنه كان لي الحق في الخدمة خمس سنين وزيادة وكان في الإمكان تمضيتها خارج الجيش في أي وظيفة وبما أني رجل اشعر في نفسي بالاندفاع للعمل فمنع هذا العمل عني يوجه هذا الاندفاع ضد شخصي جسمًا ومعنى وكنت أشتكي للكثير من الإخوان وتمنيت لو أمكنني مغادرة البلاد والخروج إلى تركيا مثلاُ حيث لي بها أصدقاء ثم في ذلك تغيير عسى أن يكون في ذلك تأثير حسن على أعصابي، وعسى أن أجد عملاً يلهيني عما أنا فيه من الكدر وفعلاً استحصلت على جواز سفر في آخر يوم قبل خروج علي ماهر باشا من الوزارة. ولكن لم يسمح لي بالمرور من فلسطين ثم كررت طلبي مرة أخرى فأشير على بالبقاء في مصر حتى في موسم الحج أردت أن أسافر لأقيم بعد الحج بالطائف وأبتعد عن هذا الوسط المنفعي ففهمت أن هذا الطلب لم يكن له نصيب من الحظ مثل ما سبق.." (6).

وفي الوقت الذي خرج عزيز من الجيش وحرمت عليه السلطات المصرية مغادرة البلاد كان في نظر الكثير من الضباط الوطنيين منهم بطلاً أكرهه الاستعمار على ترك الجيش.

حين قبض على أنور السادات بعد حادثة الهرب سُئل:

هل لك صلة بعزيز المصري؟ وهل كنت تزوره؟

وأجاب السادات: نعم لي صلة به وقد طلبت مني المخابرات قطع هذه الصلة ولكني لم أستمع إليهم فليس في هذه الصلة في نظري أي جرم أو مخالف.

وعاد وكيل النيابة يسأله:

هل تعرف عبد المنعم عبد الرءوف وحسين ذو الفقار صبري ؟

-طبعًا نحن دفعة واحدة وأصدقاء.

-ألم يتصل بك عزيز المصري بشأن سفره خارج القطر؟

-أن اتصالاتي بعزيز باشا تقوم على الحب والوفاء منذ زارنا في منقباد وأنا معجب به واسترسلت في وصف تلك الزيارة وكيف أخذنا إلى الدير المحرق وماذا رأينا هناك إلى أن اختتمت حديثي الطويل بقولي:

-بعد أن أحيل عزيز باشا إلى المعاش وجدت أنه من باب الوفاء أن أزوره بين الحين والحين هذا كان ما في الأمر (7).

ولم يكن السادات وحده الذي يقوم بزيارة عزيز بل الكثير من الضباط على حد ما روى عزيز لدرجة أنه لم يكن يعرف أسماءهم كذلك سنري عند الحديث عن محاولة الهرب. أنه بمجرد أن تعرف عبد المنعم عبد الرءوف علي عزيز المصري وروى لحسن ذو الفقار ذلك حتى ألح عليه أن يعرفه به. (8)

محاولة الألمان اختطافه:

يقول بول كارل في كتابه الذي اسماه ثعالب الصحراء the foxes of the desert في ربيع 1940 قام احد ضباط المخابرات الألمانية بوضع خطة جريئة ففي بوادابست قابل هذا العميل احد الضباط القدامى من الجيش المجري النمساوي وهو النقيب لاسيزلو فون المازي. وكان خبيرا بالصحراء وكان يعمل رساما لسنين عدة في خدمة الجمعية الجغرافية للحكومة المصرية.وقد طار فوق الصحراء وكان له أصدقاء في القاهرة. وقد كسبت المخابرات المازي إلى جانبها. وعين نقيبا في سلاح الطيران الألماني وكان أول اقتراح له سنة 1940 هو تجديد الاتصال مع الفريق عزيز المصري رئيس أركان الجيش المصري السابق الذي يميل الآن إلي الألمان وقد فصله البريطانيون من وظيفته – وكان عزيز عدوا لدودا لبريطانيا. كان عزيز يأمل من انتظار ألمانيا إلى تحرير مصر من نفوذ إنجلترا.

وفي مقر قيادة الاميراال كناريس في برلين دهشوا عندما اقترح ضابط الطيران وعمل المخابرات الألمانية الرائد نيكولاس ريتر إحضار الفريق عزيز المصري باشا إلي ألمانيا ولو لزم الأمر اختطافه. اعتقد كناريس أن الفكرة خالية ومجنونة. ولكنه وافق عندما رأى في الخطة تنفيذ رغباته فأصر على تنفيذ الخطة التي سميت اسم (خطة المصري) على أن يتم تنفيذها في غضون ثلاثة أسابيع.

كون ريتر جماعة فدائيين من رجال الأسطول الجوي العاشر الألماني. واتصل بالسفير الهنغاري في القاهرة الذي كان موجودا في بودابست. ولم يطلع ريتر هذا السفير على الخطة على الفوز، بل طلب منه أن يسهل لهم الاتصال بالمصري وإنهم في حاجة إلى وضع جهاز إرسال في القاهرة ليبلغهم عن الطقس هناك وكان هذا الجزء الأخير صحيحا وابدي السفير استعداده للمساعدة وفي نفس الوقت زاد الرائد ريتر عدد الفدائيين إلى عشرة بما فيهم المازي. وكان جميعا من رجال المخابرات ومن أخصائي اللاسلكي والشفرة والمترجمين وكلهم من سراي الالتقاط أو من محطة الإذاعة الأجنبية التابعة للقيادة الألمانية العليا... وفي بودابست قام السفير بنقل جهاز الإرسال في حقيبته الدبلوماسية واحضره سالما إلى القاهرة وبحذره الدبلوماسي رفض أن يوضع الجهاز في دار السفارة بل اعطاه لقسيس نمساوي في خدمة المخابرات المجرية.

كان القسيس حذرا وقال إنني أخشى الله فيما لو سألني عما قمت به في القاهرة وذلك لوضعه الجهاز في الكنيسة واختار له مكانا آمنا لا يتخيله إنسان أسفل الهيكل في كنيسة سانت تريزة في القاهرة، أصبح السفير وعامل اللاسلكي من الزوار المستديمين للكنيسة لأنهم في مكان غير مشتبه فيه.

وبنما كانت أجراس الكنيسة تدق كان الإرسال يمضي بعيدا. يبدأ العامل الرسالة: النقطة الأولى حالة الطقس المنتظر، ثم يتلو بعد ذلك تقرير دقيقا عن حالة الطقس ثم النقطة الثانية تقرير الباشا. ويتلو بعد ذلك المعلومات الخاصة بعزيز الذي أصبح رمزه الكودي الباشا.

"اقترح المصري أن تلتقطه غواصة ألمانية من بحيرة البرلس وسط دلتا النيل لكنه اقتراح غير عملي. تقرر أن تقوم طائرة ألمانية بنقله من نقطة يتفق عليها في الصحراء لا تبعد كثيرا عن القاهرة. بعد الإستلاء على كريت 10 مايو 1941 أمكن الحصول على طائرتين من طراز هينكل 3 من الاسطول الجوي العاشر لتنفيذ مهمة الباشا وكانت الطائرتان محلقتين بسرب القتال رقم 26. أما المازي الذي كان يعرف الصحراء فقد اختار نقطة المقابلة بجوار الجبل الأحمر على طريق الواحات. كان في استطاعة الباشا أن يصل إلى هذا المكان بالسيارة في بضع ساعات قبل الغروب وأن يرفع علما يبين اتجاه الريح ثم تهبط طائرة من طراز هينكل 3 الخاصة بريتر بينما تبقى الطائرة الثانية في الجو للحراسة.

كانت الطائرتان على استعداد للإقلاع. ووصلت برقية من كنيسة سانت تريزة أن سيارة الباشا تعطلت ولا يمكنها الوصول وأنه سيكون جاهزا للطيران يوم السبت 7 يونيو 1941 وقاد النقيب هوللر طائرة الحراسة ومعه الرائد ريتر. وكان يعمل النقيب بلينح مراقبا للطائرة. وقاد الطائرة الثانية النقيب فون المازي التي كان عليها أن تلتقط المصري وكلا الطائرتين كانتا تحملان شارات التمييز الألمانية. وصلت الطائرتان في الساعة الرابعة في المكان المتفق عليه ولكنها لم يجدا شيئا هبط المازي إلى مكان مخصص فوق الطريق في اتجاه القاهرة لكي يتأكد من أن المصري في طريقه إلى المكان المتفق عليه لكنه لم يشاهد شيئًا. بعد خمسة عشر دقيقة من الطيران عاد الطيار بطائرته بعد أن رأى مآذن القاهرة في ضوء الشمس الغاربة, أين ذهب المصري؟

صباح اليوم التالي أرسل جهاز إرسال كنيسة سانت تريزة رسالة: من المحتمل أن يكون قد قبض على الباشا، الخيانة متوقعة، ويخشى أن يكون جهاز الإرسال وموقفنا في خطر، ولذلك سوف نقطع الاتصال" (9).

تلك هي رواية بول كارل عن محاولة الألمان اختطاف عزيز المصري لكنه حين يتحدث عن محاولة عزيز المصري الهرب وهي التي نحن بصدد تناولها نجده يذكر حقائق غير دقيقة من ذلك مثلاً قوله أن السبب في سقوط طائرة عزيز المصري طائرة بريطانية ظهرت أمامها فأراد الطيار أن يتفاداها فاضطر للهبوط الاضطراري واصطدم بمجموعة أشجار وتهشمت الطائرة إلى غير ذلك من الأقوال الغير صحيحة. كذلك يقول أن المصري أنقذ من أعلى الشجرة بواسطة الشرطة العسكرية، وعند وصول الضابط البريطاني المسئول عن مكان الحادث بعد محادثة تليفونية مع مطار هليوبوليس للقبض على الباشا إلا أن أحد الضباط المتقدمين في السن (وكان من رجال المقاومة) مثل دور المصري وقبض عليه على أنه هو المصري نفسه وهرب المصري ولم يعلم البريطانيون بخطأهم إلا بعد ثلاثة أشهر عندما قبضوا على المصري الصحيح، وبالطبع هذه الرواية كلها غير صحيحة على الإطلاق (10).

وعن محاولة الألمان تمكين المصري من الهرب روى أنور السادات أن عزيز المصري اتصل به لحاجته إلى مساعدة تنظيم الضباط الأحرار لتمكينه من السفر إلى العراق، فقد وصلته رسالة من الألمان يطلبون فيها سفره لمعاونه رشيد غالي الكيلاني في ثورته التي قام بها في العراق ضد الإنجليز، في هذه الأثناء كان الإنجليز قد أفلحوا في استصدار أمر من الحكومة المصرية بإحالة عزيز باشا إلى المعاش.

"وكانت المخابرات على علم باتصالاتي به فأنذروني بالابتعاد عنه ولكني لم أعبأ بإنذارهم فقد كان من واجبي مساعدته، إلا أنني كما قلت له –لا نملك من الوسائل سوى ما قد يمكنه من بلوغ بيروت ومن هناك يستطيع أن يتصرف".

بعد ذلك بقليل أبلغني عزيز باشا أنه تسلم رسالة ثانية من الألمان يقولون فيها أن طائرة ألمانية ستكون في انتظاره عند جبل رزة في مدخل طريق الفيوم في يوم معين ساعة الغروب...

هنا أدركت سر مجموعات الرحالة الألمان الذين كانوا يفدون إلى الصحراء الغربية ويضلون طريقهم فيها –كما كنا نقرأ في الجرائد قبل الحرب.. كانت هذه الرحلات في الحقيقة بعثات استكشاف فقد أصبح من الواضح أن الألمان قد درسوا توبوجرافيا الصحراء دراسة كاملة وإلا فكيف توصلوا إلى معرفة جبل الرزة وهو نقطة صغيرة على الخريطة لا تكاد العين تتبينها؟

اشترينا عربة من نوع (بيك أب) الصالح للسير في الصحراء ولكن صاحب المحل أبلغ عن بيع لسيارة طبقًا للأوامر حينذاك.. عرفت المخابرات أني اشتريتها.. شكوا في الأمر فصدرت الأوامر بإبعادي إلى مكان اسمه الجراولة لا يبعد كثيرًا عن مرسى مطروح.. تمارضت ودخلت المستشفى العسكري حيث أعطوني أجازة لمدة أسبوع لم تكن كافية لتنفيذ خطة هروب عزيز باشا فوضعت الخطة بين يدي عبد المنعم عبد الرءوف وذهبت إلى الجراولة حيث التقيت لأول مرة بالدكتور يوسف رشاد طبيب الملك فاروق بعد ذلك.. والذي لعب دورًا مرموقًا دون أن يدري في مسيرة ثورتنا نتيجة للصداقة التي نشأت بيننا.. لا أعلم ما الذي حدث للعربة الـ (بيك أب).. أغلب الظن أن الإنجليز استولوا عليها (11).

ومن هذا يتضح أنه كانت محاولات كي يهرب عزيز المصري وذلك قبل قيامه بمحاولته الأخيرة التي قبض عليه فيها.

كيف تمت المحاولة؟

قام عزيز المصري بتأجير بيته من 8 مايو 1941 كما سبق القول وأقام في بنسيون فينواز منذ ذلك التاريخ حتى محاولته الهرب ليلة 16 من نفس الشهر، كان إيجار الحجرة التي يقيم فيها عزيز كما جاء في أقوال مدير البنسيون خمسين قرشًا فضلاً عن 10% خدمة وقدم مدير البنسيون واسمه مسيو جوزيف كروبات فاتورة مبينًا بها الحساب وقدره أربعة جنيهات بالإضافة إلى ثمن غذاء ومشروبات أخرى قام عزيز بتسديدها.

سأل وكيل النيابة مدير البنسيون وهو يحمل جنسية إيطالية وكان يحمل من قبل جنسية نمساوية عن بدء عمله بالبنسيون فقال أنه يعمل فيه مع والدته منذ 1928 ذكر أن عزيز المصري نزل بالبنسيون بمفرده بالغرفة رقم 33 وقال أن عزيزًا كان مسافرًا إلى رأس البر فلما سألته النيابة لماذا كتبت أنه مسافر إلى الإسكندرية قال أنا أفهم أن رأس البر هي الإسكندرية، فلما قيل له كيف تعرف أن رأس البر هي الإسكندرية أقسم بشرفه أنه لم يكن يعرف أو لما سأل: هل كان يزوره أحد؟ أجاب أنا رأيت ضابط إنجليزي وهو من ضباط هيئة أركان الحرب على ما أعلم وعلى قبعته شريط أحمر ولما دخل كنت موجودًا وسأل عن عزيز باشا وأجبته بالإنجليزية أنه موجود وأحضرته إلى هنا. وفي مرة ثانية راقب اثنين من المصريين بملابس مدنية وقد حضرا في المساء ورأساهما عاريان ولم يجدا عزيزًا وانصرفا بعد المطاردة (12).

اتصال الكولونيل ثورن هيل بعزيز المصري:

ثابت من أقوال مدير البنسيون أن ضباطًا إنجليز زاروا عزيز المصري في غرفته بالبنسيون الذي كان يقيم فيه، وقال عزيز المصري في التحقيق الذي أجرى معه بعد القبض عليه عندما سُئل: ألم يكن لك غرض آخر بعد وصولك إلى بيروت؟ لا شك هذا الغرض ظهر من حادث حصل بيني وبين جهة أجنبية أخرى هي إنجليزية وكان إن تم لأدى إلى خير عظيم في الشرق. فلما طلب منه تفصيلاً أكثر أجاب: أرجو أن يسمح لي أن لا أزيد عن قولي أنه كان بخصوص إجراء صلح في العراق لصالح الطرفين وربما توسع لصالح حلف عربي، فسألته النيابة:

هل كلفك أحد بإجراء هذا الصلح أو فهمته تلميحًا من أحد وبين من كان يراد إتمام هذا الصلح في العراق.

أجاب عزيز المسألة لم تكن وصلت إلى درجة التكليف، لكنها كانت في حيز تبادل آراء بيني وبين جهة إنجليزية لا أريد أن أذكرها الآن وأراني لست حرًا في ذكرها الآن، وسافرت قبل أن آخذ الجواب عنها والصلح الذي كان يراد إتمامه في العراق هو بين الإنجليز والعالم العربي.

ثم سُئل عزيز ألا تعتقد أن سفرك قبل تلقى جواب حاسم من الجهة الإنجليزية بشأن هذا الصلح ربما يؤدي إلى عكس ما أنت قاصد؟

أجاب: لم يدر في خلدي أن الطائر ستسقط بعد عشر دقائق من قيامها فإن كنا وفقنا للوصول إلى بيروت أحرارًا من كل سلطة وعرضنا تقديم خدمة لا نقلب سوء الفهم إلى حسن ظن كبير. وأكرر أن أسباب التعجيل بالسفر هو تواتر أخبار القبض علي من جهة والميعاد الإنجليزية الذي كان بعد ثلاثة أيام أو أربعة أيام من جهة أخرى وكان محددًا بالضبط بل كان معلقًا على عودة شخص من خارج القطر المصري ربما تؤخره ظروف إلى أكثر من هذه الأيام.

وقد أدلى عبد المنعم عبد الرءوف بأن عزيزًا لم يشأن أن يذهب إلى العراق بطائرة إنجليزية حتى لا يسيء العراقيون الظن به ويظنون أن الإنجليز اشتروه.

فلما سُئل: من الذي ذكر أولا فكرة السفر إلى بيروت قال عبد المنعم عبد الرءوف: إحنا (يقصد هو وحسين ذو الفقار صبري ) اللي ابتدأنا بذكر بيروت لأن البحث: بيننا كفنيين أدى بنا إلى أن الطيارة بتاعتنا طيرانها أربعة ساعات وكانت (بيروت) أقرب بلد للعراق يمكنه الوصول إليها.

فلما قيل له: أليست فلسطين أقرب من سوريا فهل لم تفكروا فيها؟

أجاب: لا إحنا فكرنا في أبعد مدى تصله الطيارة بالنسبة للعراق.

ثم سُئل: ما الذي يهمك أنت من أمر الصلح بين العراقيين والإنجليز؟

أجاب: بصفة إنجلترا دولة حليفة لمصر وأن العراق أمة شرقية فكنت مدفوعًا بحب إيجاد صلح بينهما وأن وجود مصريين في هذا الصلح مما يشرفنا كمصريين.

س: هل كنت تعتقد أن عزيز باشا يمكنه عمل هذا الصلح؟

ج: كنت واثقًا من ذلك.

س: على أي شيء بنيت هذه الثقة؟

ج: لأن القائمقام الإنجليزي قال له أننا نرغب رغبة شديدة في الصلح.

س: هل أنت رأيت هذا القائمقام الإنجليزي أو تعرف اسمه؟

ج: لا.

س: وكيف تأكدت أنه طلب من عزيز باشا هذا الطلب؟

ج: هذا الكلام بناء على أقوال رجل كعزيز باشا لازم الواحد يصدقه، وقال عبد المنعم عبد الرءوف أن عزيز باشا لم يخبره على الأساس الذي عليه سيتم الصلح بين الإنجليز والعراقيين.

فلما قيل له ألم تعلم أن الحكومة المصرية عرضت رسميًا وساطتها للصلح أجاب بأنه لا يعرف. أما حسين ذو الفقار فأوضح أن عزيز المصري هو الذي عرض عليه وعلى زميله عبد المنعم عبد الرءوف فكرة السفر إلى بلد محايدة على ألا يكون هذا السفر بواسطة الإنجليز فلما سُئل:

ولماذا لا يسافر للعراق رأسًا وما هي الفكرة في النزول في بلد محايدة؟ أجاب بأن الفكرة أن يقوم بالمفاوضة مع ممثلي الدولتين في بلد محايدة كسوريا وقال أن هذا استنتاج منه (من حسين ذو الفقار).

س: هل تحققت وقام لديك دليل على ما قاله عزيز من أن ضابطًا إنجليزيًا اتصل به وطلب إليه التوسط في الصلح بين العراق والإنجليز.

أجاب حسين ذو الفقار: أنا فاكر بالضبط أنه قال لي أنه حضر له كولونيل إنجليزي متعلم وبيتكلم إنجليزي وروسي وألماني كويس وأنا وثقت بكلامه.

وقيل لحسين ذو الفقار: هل تعرف موقف الحكومة المصرية إزاء حركة العراق؟ فأجاب: أنه يعرف أنها عرضت وساطتها للصلح ولكن أهمل الرد عليها، هنا قالت له النيابة إذا كان هذا هو موقف الحكومة المصرية فهل كان من العسير الأذن لعزيز باشا بالخروج على طائرة مصرية؟، ورد ذو الفقار صبري بقوله أن الفكرة (فكرة الهرب وقيام عزيز بالصلح) كانت كبيرة ومفاجئة لدرجة أننا لم نفكر في التفاصيل السياسية ومناقشتها (13).

أما الأستاذ فتحي رضوان فقد روى لي ما يأتي:

في مايو 1941 كنت في أسوان أقوم بالدفاع في قضية هناك، وبعد أن فرغت من المرافعة ذهبت بدعوة من وكيل النيابة الذي يمثل رئيسها دعاني إلى تناول فنجان قهوة باعتباري ضيفًا في أسوان، وبينما أنا جالس معه حضر رجال الأمن وعلمت من وكيل المديرية أني مقبوض علي، وكان أمر القبض علي متوقعًا في ذلك الحين. لكن دهشتي أنه لم ينتظر عودتي من أسوان، وفهمت بعد حين أن عزيز المصري رئيس أركان حرب الجيش حاول الفرار بطيارة عسكرية مع اثنين من طياري الجيش (حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف)، ولما كنت وكيلاً لعزيز المصري في ذلك الحين ومن أشد الناس اتصالاً به ولعلي لا أبالغ إذا قلت أوثقهم صلة به يثق بي ويتحدث إلي.. ولكن كنت لا أعلم شيئًا هامًا عن أمر ما تم من محاولة الفرار بطائرة. وهذا أثار شبهتي وأكد بعد ذلك ما جاء في أقواله من مرحلة من مراحل أقواله أنه كان يحاول السفر بهذا الأسلوب إلى بغداد ليوفق ما بين رشيد غالي الكيلاني قائد الثورة وبين نوري السعيد أي بين رئيس والفريق الموالي للإنجليز من تلاميذ عزيز المصري أي أن هذه المحاولة كانت بالاتصال مع الإنجليز، وبطبيعة الحال كان اطلاعي عليها لا يتفق مع ما أعرفه عن عزيز المصري من خصومته المستمرة مع الإنجليز وللسياسة الإنجليزية في العالم العربي، وكان لابد أن يخرج بهذه الطريقة ليكسب ثقة الثوار وإلا فإنهم سيستريبون فيه ولا يثقون به.

ولكن لم تلبث النيابة أن أفرجت عني لأني لم يكن لديها أي مستندات بواقعة الفرار مرتبطة بي، وبعد شهر قبض على عزيز المصري وزميليه في منزل عبد القادر رزق في إمبابة. ووجد لدهشتي أيضًا خطاب صريح مكتوب بخط عزيز المصري وموقع منه وموجه إلي بوصفي وكيله الرسمي أن أذهب إلى مكتب كوك للسياحة والسفريات لاستلام البريد الذي قد يكون قد وصل إلى هذا المكتب بناء على اتفاق مع المرسلين. وكانت دهشتي ترجع إلى أن عزيز المصري رجل مجرب وثوري، وكان من البديهيات أن يعرف أن البريد سيصادر خصوصًا في مكتب إنجليزي وأصبح متعينًا على النيابة أن تلقي القبض علي فأخبرتهم بما كان مطابقًا للحقيقة أنني لم أسمع عن هذا التوكيل منه ولو تلميحًا.

ويمضي الأستاذ فتحي رضوان يقول: "أنه بخلاف ما نشر من مرافعات أحب أن أؤكد أن عزيزًا قال في التحقيق أنه فكر في السفر إلى العراق بناء على طلب المخابرات البريطانية وأن الذي اتصل به أحد أفارد الأسرة المالكة البريطانية وذكر اسمه. وقد ذكر اللورد كيلرن والحديث فتحي رضوان –في مذكراته عن الرجال والشخصيات المصرية التي تقابل معها هذه الواقعة.

وقال أن حسين سري باشا رئيس الوزراء أخبره أن عزيزًا المصري يقول أن فراره أو محاولة فراره كانت بالاتفاق مع الإنجليز ويقول كيلرن أنه بحث عن هذا الضابط الذي تربطه صلة بالأسرة المالكة البريطانية وأخيرًا عرفه ووصفه بأنه شخص غير متزن".

ويقول الأستاذ فتحي رضوان في روايته أيضًا عن هذه الواقعة:

كنت ألاحظ في مقدمة النظارة في قضية عزيز المصري أحد سفراء مصر الذي تربطهم بالعائلة الملكية صلة قرابة. وكان هذا السفير على صلة وثيقة بالإنجليز وهو سيف الله يسري باشا (والد وحيد يسري الزوج الأول للأميرة شويكار)، وجاءنا مصطفى الشوربجي زميلي والمحامي المشترك معي في الدفاع وأخبرني وباقي زملائي أن سيف الله يسري تدخل لإنهاء القضية عن طريق محامي السفارة البريطانية في ذلك الحين وهو مستر الكسندر لكي يتوقف نظر الدعوى لأن نظرها من وجهة نظره أمر مربك للحكومة. وقام ألكسندر بالاتصال بالحكومة البريطانية وبعد اتصاله بالسفارة أكد أن الحكومة البريطانية لا تمانع في وقف الدعوى بشرط موافقة الحكومة المصرية ورئيسها حسين سري. وأوضح أن الملك والسفارة لا تريد التدخل، وقال سيف الله يسري أنه لا يريد أن يحدث حسين سري لأنه يستثقل ظله ويخشى أن يده تصطدم بوجه حسين سري ويعني أنه يخشى أن يصفعه من حيث لا يدري، وتكلم حافظ رمضان رئيس الحزب الوطني في هذا الشأن مع حسين سري وأجلت الدعوى وأفرج عن عزيز المصري، وتقرر تأجيل الدعوى إلى أجل غير مسمى.

ويتابع فتحي رضوان حديثه قائلاً: "ولم أبحث مع عزيز المصري ما جاء على لسانه في القضية من أنه سافر بناء على اتفاق مع السلطات البريطانية وهو الكلام الذي قاله بصراحة في التحقيق، ذلك لأن الصورة كانت تملأ نفسي من أنه خصوم الإنجليز الألداء. وخيل إلى أن الذي قاله لم يكن سوى دفاع سياسي في القضية بقصد إرباك السلطات الإنجليزية وأحداث حيرة وإرباكها خصوصا وأنه لم يكرر هذا الدفاع ولم يصر في البحث عن الضابط الذي أشار إليه وسارت الأمور وكأن هذا القول لم يلق به وكان لا يتفق مع هذا القول تقديمه للمحاكمة. وإن كنت اعرف أن الحكومات تؤيد أشخاصا ليحققوا لها أغراضا فإذا فشلوا نفضت يدها عنهم وتخلت عنهم وكأنها لا تعرفهم" من هذه الأقوال جميعها يتضح أن هناك اتصالا تم بين عزيز وبين الكولونيل ثورن هيل فقد شاهده مدير البنسيون كما شهد عزيز المصري وزميلاه وكما هو واضح من رواية الأستاذ فتحي رضوان. لكن ليس من الواضح طبيعة ما دار من محادثات بين عزيز وبين هذا الضابط الإنجليزي وعما إذا كانت السفارة علي علم بذا الاتصال أم أنها لم تكون تعلم من أمرها شيئًا.

إذا رجعنا إلى رواية كليرن في مذكراته نجده لا يشير إلى شيء من أمر هذا الضابط فقد كتب ما يلي:

الجمعة 17 مايو: القاهرة [ يلاحظ أن الجمعة توافق يوم 16 مايو وليست 17 كما ذكر لامبسون بدليل أنه كتب قبلها الخميس 15 مايو وذكر عن أحداث هذا اليوم الخميس أنه علم أن الإنجليز دمروا طائرات ألمانية في مطار بالميرا وحطموا لهم على الأقل أربعة طائرات نقل ] يقول لامبسون عن أحداث الجمعة:

"بعد ظهر هذا اليوم جاءت معلومات عن حادثة جديدة. وقد ناقشتها مع رئيس الوزراء وحقائقها كما يلي: خلال الساعات الأولى من صباح هذا اليوم أخذ عزيز المصري الشخصية المعروفة مصطحبا ضابطين من الجيش المصري طائرة مصرية في محاولة للطيران بها إلى بيروت ليلحق بالثوار العراقيين. ولكن بعد إقلاعهم بقليل اضطروا إلى الهبوط عند قليوب قرب قناطر محمد علي.ثم ذهب عزيز بعد ذلك إلى المأمور المحلي وبحجة أن سيارته كسرت استعار منه سيارة حكومية حيث عاد هو وزميلاه إلى شبرا حيث أخذوا تاكسي وجاري اقتفاء أثرهم. وعندما علم بأمر الحادثة أسرع البوليس إلى الطائرة حيث وجدوا شنطة الجماعة وخرائط توضح تماما نيتهم.ومن سوء الحظ فأن عزيز المصري ورفيقة مازالوا أحرارا حيث فشل البوليس في إيجادهم. إن رئيس الوزراء متضايق وقد أخبر (رئيس الوزراء رسل باشا حكمدار بوليس القاهرة) أن البوليس غير كفء. أراد رئيس الوزراء أن يعزل ضابطا مصريا برتية قائمقام ولكن رجاه رسل باشا على أساس أن ذلك سيضعف معنويات البوليس. كل هذه المعلومات أعطاها لي رئيس الوزراء عندما زرته أنا والمارشال كورنوالcornwall هذا المساء الساعة السادسة. أخبرت رئيس الوزراء أن هذه الحادثة تؤكد المعلومات السرية التي كانت قد وصلتني حديثا أن عزيز المصري وبعضًا من رفاقه المقربين في مراكز عليا على اتصال مباشر برشيد غالى الكيلاني في بغداد.وحثثت رئيس الوزراء أن يقف على تفاصيل المؤامرة. قال رئيس الوزراء أنه يعرف ذلك وأضاف أنه لم يعد منذ الآن يثق في أيشخص (14).

هذه هي رواية كليرن بالنص كما جاءت في مذكراته وليس فيها شيئا عن اتصال الكولونيل كورن هيل بعزيز المصري. وكل ما قاله كليرن أنه تجمعت لديه معلومات أن اتصالات كانت قائمة بين عزيز وبين رشيد الكيلاني على كل حال فيبدو أن عزيزا عندما قام رشيد عالي الكيلاني بحركته أبدى استعداده للقيام بالوساطة بينه وبين الإنجليز وأنه قادر بذلك على أساس موضع ثقة كل من رشيد عالي من جهة ونوري السعيد الإنجليزي من جهة أخرى.

وسندنا في هذا القول أنه خلال الحرب العالمية الأولى تمت اتصالات عزيز والإنجليز في القاهرة وكان الاتصال بين عزيز والإنجليز اتصالا غير رسمي عن طريق مستر جريفس مراسل صحيفة التيمس في القاهرة في يوم 6 ديسمبر 1914. لجأت السلطات الإنجليزية إلى هذا اللقاء غير الرسمي لمعرفة رأي عزيز عن إمكانية استخدام هذه السلطات لنفوذه في العراق. وكانت إجابة عزيز صريحة وواضحة وقتها عندما قال لجريفس أن ضميره لا يسمح له بتأدية خدمات للسلطات العسكرية في العراق إذا ما كانت نية بريطانيا هي ضم العراق لإمبراطوريتها فالمسألة مسألة شرف أما إذا كان في النية تكوين دولة محايدة وفي النية مساعدة سكانها العرب كما ساعدت روسيا بلغاريا في سنين 18791883 إذا كانت هذه هي سياسة بريطانيا فإنه يخدم ما استطاع إلى ذلك سبيلا (15).

لعل هذه السابقة توضح أن الاتصال الذي تم بين الإنجليز وعزيز خلال الحرب العالمية الثانية والذي مثل الجانب البريطاني فيه كولونيل ثورن هيل كان اتصالا هو الآخر غير رسمي لعله نوع من جس النبض أو معرفة مدى ما يمكن أن يتحقق من خدمة للإنجليز عن طريق عزيز.

وعلى كل فهذا الاتصال بين ثورن هيل وعزيز لم يتبعه عمل إيجابي وبدأ عزيز يفكر في طريقة لمغادرة البلاد المصرية.

وبدأت الفرصة تتاح لعزيز. فقبل محاولة الهروب بحوالي سبعة وعشرين يوما كان يتمشى كوبري قصر النيل فإذا بشخص يرتدي الملابس الملكية يحييه فيرد عليه عزيز ويسأله إذا ما كان ضابطا ويعرف منه انه أحد الضباط الطيارين وكان هذا الضابط الطيار أول عبد المنعم عبد الرءوف (16). "فسألني عن وجهتي فقلت أني أتنزه فدعاني للسير معه، وسرت وأخذنا نتحدث عن الطقس وننظر (للبحر) (17) حوالي نصف ساعة طلبت منه السماح لي بالانصراف. دعاني لزيارته وأعطاني عنوانه بعين شمس كما أنه دعاني لتناول الشاي. وأخذنا نتكلم عن حديقته وعما فيها من مزروعات وعن الألعاب الرياضية. وبعد حوالي ساعة استأذنت فأذن لي وقال لي أن بيتي موجود في أي وقت تشرف فشكرته " (18).

ويمضي عبد المنعم عبد الرءوف يوضح في أقواله التي أدلى بها أمام النيابة العامة (19) أن زيارته لعزيز تكررت ثم حدث أنه كان مطلوبا لتأدية الشهادة في إحدى قضايا الجيش فوجد المجلس فوجد المجلس القائم بالتحقيق مشغولا فانتظر في حجرة مكتب زميل له وكان هذا الزميل هو حسين ذو الفقار صبري . ويروي عبد المنعم أنه أشار على صديقه حسين ذو الفقار أن حديقة المطار حديقة مهملة وأنه يجب العناية بها وأن تزرع بها الورود وتعمل بها مظلات لاستراحة الضباط على نحو ما شاهده في حديقة عزيز المصري. ويمضي عبد المنعم عبد الرءوف في روايته فيقول: " فسألني زميلي حسين أفندي ذو الفقار هل شاهدت حديقة سعادة عزيز باشا المصري؟ فذكرت له مقابلتي له وذهابي إليه وإعجابي بشخصيته فقال لي: كم أحب أن أتعرف بهذه الشخصية ".

اتفق عبد المنعم عبد الرءوف وحسين ذو الفقار على أن يتقابلا في محطة كوبري الليمون ومن هناك يذهبا إلى منزل عزيز المصري ولكنهما يفاجآن – على حد قوله – بأنه انتقل إلى بنسيون فينواز ومن منزل عزيز المصري يتصلا بالبنسيون فيعلما أنه يحضر إلى البنسيون الساعة الثامنة مساء. فإذا حانت الساعة المحددة ذهبا إلى البنسيون. لكن عزيزا يتأخر فلا يلتقيا به فيعودا مرة أخرى وكان اليوم يوم جمعة وكان ذلك قبل السفر بأسبوع.ويسألهما عزيز عن السرب الذي يعملان فيه وعرف عزيز أن حسين ذو الفقار يعمل ضابطا طيارا في سرب المواصلات وهو السرب المخصص لنقل الوزراء وكبار الشخصيات ويقول عبد المنعم عبد الرءوف: وبعد هذا الحديث فاتحنا عزيز باشا المصري في الموضوع. وقال أنه جاء له واحد قائمقام إنجليزي ومعه آخر روسي وأخبروه بأنهم مش مبسوطين من الحركة التي قامت في العراق في هذا الوقت وأنهم يودوا لو أن عزيز باشا المصري يتوسط في حل الأشكال القائم بين العراق وبين الإنجليز.

فقال عزيز باشا المصري لهما أن هذا كلام نظري وإحنا عايزين عملية لعله يقصد القول عايزين نكون عمليين وعرضوا على سعادة عزيز باشا تواصله إلى العراق بطيارة إنجليزية للتوسط بين العراقيين والإنجليز. فقال لهما عزيز باشا المصري أنه إن فعل ذلك يظن العراقيون أنه مرسل من الإنجليز، وبذلك يصعب حل الأشكال فسألنا عما إذا كان من الممكن أن نقوم بتوصيله إلى العراق بطائرة مصرية فأجاب زميلي حسين أفندي ذو الفقار أنه لا يمكن للطائرة المصرية أن تصل إلى العراق مباشرة ويمكن وصولها إلى بيروت مثلا. فقال لنا عزيز باشا: فكرا في هذا الموضوع على أن نجتمع يوم الاثنين في أي مكان تشاء أن وتعطياني رأيكما. "

ويعتبر مفاتحة عزيز المصري لكل من حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف عن رغبته في السفر إلى الخارج أولى الخطوات في اتخاذ الترتيبات نحو الهروب.

تبع ذلك على حسب ما جاء في أقوال كل من عزيز المصري أو حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف اتخاذ الترتيبات نحو محاولة الهروب.

يقول عزيز المصري في التحقيق "فبدرت مني ذات مرة أمام عبد المنعم أني كنت أتمنى أن أكون طيارا وأخرج بهذه الواسطة من مصر إلى بلاد محايدة. فقال لي وأي بلد محايدة والعالم في حرب خصوصا أن مدى طيران طائراتنا المصرية بسيط يسمح أن يصل بها الإنسان إلى بلاد فارس أو بلاد الحجاز. ففكرت في بيروت لأنها في الواقع بلد محايد بعد ما انتهت الحرب في فرنسا – ومن هناك يمكن أن اترك الطائرة وأذهب إلى تركيا أو أظل في سوريا حيث المسألة العربية دخلت في حيازة جديدة واني من الذين اشتغلوا بها في مبدئي.كلامي هذا ولد في رأس عبد المنعم فكرة مساعدتي لهذا الأمر. ولم يبده لي في حينه ثم حصلت مسألة تفتيش المنزل واستجوابي وقرار الوزارة بفصلي نهائيا من الخدمة والمعاكسات التي كانت جلبة في أعين الناس والتي خلقت جوا في كثير من المصريين المتعلمين وعلى الأخص الشبان جوا ملائما لي. أظن كل هذه الحوادث هي التي دفعت هذا الشباب النبيل (يقصد عبد المنعم عبد الرءوف) أن يتحدث في هذا الموضوع مع صديقه ذو الفقار ويظهر أن هذا الشعور كان عاما بين هؤلاء الشبان لصالحي ففوجئت يوما أن عرض على "عبد المنعم الطيران إلى حيث شئت فسررت جدا ولكن نظرت إلى حداثة سنه ومستقبله وإلى صديقه ونصحتهما أن يكفا عن هذا لأنه قد يكون مستقبلهما في خطر فأجابا إننا نعمل لصالح العدل ونراك مظلومًا فإن فقدت فلنفقد معك. ثم فكرت في صالح مصر العام وفكرت في نفسي وفي هذين الشابين وغيرهما تجاه هذا الصالح العام المصري والشرقي وتجاه ما يجابهه العالم من تغيير اجتماعي يكاد يشبه انقلاب الأديان فوجدت أننا من حيث الضآلة لا نساوي شيئًا يذكر بل استحببت أن أنصح هؤلاء الشبان أن يتعلما الحذر في الوقت الذي تحتاج مصر ورجالها فيه إلى الإقدام وإلى التضحية فشوقتها ودفعتهما بكل قدرتي على أن يعملا ويجهزا هذا العمل تجهيزًا دقيقًا وأن يتوكلا على الله.

ففعلا وضربا بذلك مثلاً للشرق وللشبيبة المصرية أن في حياة الأمم التضحية هي الحلبة الكبرى التي تليق أن يقابل الإنسان ربه وهو لابسها. وأما كيف انتفقنا على الخروج من القطر المصري فإن الاتفاق حصل في بيتي في عين شمس والبانسيون بيني وبين هذين الضابطين فقط ولا يعلم به أحد غيرهما (20).

وبدأ عبد المنعم عبد الرءوف وحسين ذو الفقار يعدان الخطة للهرب فاتفقا على أن يبدأ التنفيذ عندما يكون حسين ذو الفقار ضابط نوبتجي المطار وكان في ذلك يوم الخميس الخامس عشر من مايو 1941 ففي هذا اليوم يكون حسين ذو الفقار هو المسئول وحده عن تحرك الطائرات من المطار. ويقول عبد المنعم عبد الرءوف في التحقيق:

ونحن نازلين على السلم عند انصرافنا من عند عزيز باشا اتفقت مع زميلي حسين أفندي أن يحضر لي بمنزلي قبل موعد عزيز باشا بوقت كاف ليدرس الموضوع، وفعلاً حضر لي حسين ذو الفقار في المنزل قبل حضور سعادة عزيز باشا بنحو ساعة وكان ذلك بعد الظهر في يوم الاثنين فأخذنا نبحث عما إذا كان ممكن تنفيذ السفر إلى بيروت وطريقة التنفيذ فوجدنا أن الطائرة لا يمكن وصولها إلا إلى بيروت وليس للعراق واتفقنا على أن يكون التنفيذ في نوبتجية زميلي حسين ذو الفقار صبري أفندي في أي يوم يكون حسين أفندي نوبتجي. وفي الوقت المحدد وكان حوالي الساعة الثامنة مساء حضر عزيز باشا إلى منزلي فأبلغناه أن الطائرة لا يمكن أن تصل لا إلى بيروت وليس للعراق وقلنا له أنه يجب أن يتم السفر في نوبتجية زميلي حسين أفندي ذو الفقار إذ أن بعض الطائرات تحت قيادته ويكون من السهل عليه إخراج أي طائرة وبعد ذلك قبل عزيز أننا نروح لغاية بيروت وانصرفنا على أن نجتمع قريبًا من قصر البارون إمبان ومنها نذهب لمنزل زميلي حسين ذو الفقار صبري علشان عزيز باشا يشوف طريقة السير بتاعنا على الخريطة. وكان هذا الميعاد بعد يوم أو اثنين من مقابلتنا في منزلي ولا أتذكر بالضبط. وفعلاً تقابلت مع عزيز قريبًا من قصر البارون إمبان. وكان معي حسين ذو الفقار وعزيز باشا حضر بسيارته وكانت هذه المقابلة حوالي الساعة الثامنة مساء وذهبنا إلى منزل حسين أفندي ذو الفقار وهناك أخرج لنا زميلي حسين ذو الفقار صبري خريطة لشرق البحر الأبيض المتوسط. وأخذنا ندرس خط السير واتفقنا أن يكون من ألماظة إ لى بيروت.. (21).

بعد أن تم الاتفاق نهائيًا بين كل من عزيز المصري وحسين ذو الفقار صبري وعبد المنعم عبد الرءوف على خط سير الطائرة وعلى الموعد. بدأت الخطة تدخل مرحلة التنفيذ فطلب عزيز من حسين ذو الفقار أن يحضر معه لأخذ بعض حقائبه حتى لا يثير خروجه بحقائبه كلها يوم السفر شبهة أحد.. وفعلاً تم تنفيذ ذلك.

اختلفت أقوال عزيز المصري عن أقوال كل من عبد المنعم عبد الرءوف وحسين ذو الفقار.

فعزيز المصري أراد أن يتحمل مسئولية كل شيء فذكر أنه أخذ حقائبه كلها معه ليلة السفر وقال أن عددها أربع شنط وشنطة للبرانيط وشنطتين صغيرتين بينما ذكر عبد المنعم عبد الرءوف وحسين ذو الفقار واقعة ذهاب حسين ذو الفقار وأخذه لحقائب عزيز المصري قبل السفر.

يقول حسين ذو الفقار في التحقيق: فقال (عزيز المصري) لي تقدير تجيب عربة عشان أعطيك شنط لأني بس رايح أقدر لو فرض أننا سنسافر هذا الأسبوع أن أجيب كل الشنط مع فأنا في نفسي اندهشت لأنه ظهر أنه رايح يجيب شنط كبيرة ولكن ما قلتش حاجة وقلت رايح أجتهد أن يوم الأربعاء أحضر عربة. وأنا لي أخ في سلاح الطيران وهو طيار ثاني علي صبري عنده عربة فاستلفت عربته يوم الأربعاء وذهبت لبنسيون فينواز قبل المغرب بقليل، ولم أجد عزيز باشا فانتظرته، وحضر بعد خمس دقائق وأعطاني شنطتين كبيرتين فقلت له يا سعادة الباشا إحنا مش رايحين نقعد كثير والشنط كثيرة أو حاجة بهذا المعنى فقال لي لا تنسى أن الأمر فيه بعض الخطر لأننا رايحين بطيارة حربية في بلد محايدة بدون أذن ويصح أن السلطات الفرنسية تعتقلنا فقلت له يبقى عملنا بدون نتيجة فقال الواحد لما يجازف قليلاً في سبيل الخدمة اللي رايحين نعملها لبلدنا تبقى دي حاجة بسيطة. فقلت الطيارة جاهزة يوم الخميس أي في اليوم التالي وتقدر تقوم حوالي الساعة 1.15 لأن الفجر حوالي الساعة 4.15 أو الساعة4.30 علشان تقدر تنزل في مطار بيروت وقال لي يستحسن أنك تمشي في منطقة بعيدة عن البحر علشان عند الفجر ما تلحقناش طيارات القتال تضربنا في السكة فقلت له أني أنا من نفسي رايح اطلع تجاه الشمال بين بلطيم ودمياط علشان ما تضربش علينا المدافع المضادة في منطقة القتال ولما توصل هناك اكسر على اتجاه بيروت، وبعد ذلك أخذت الشنطتين ونزلت ولما رجعت البيت قعدت أفكر في الحكاية اللي قال لي عليها وهي أن السلطات الفرنسية تعتقلنا وجاء لي شيء من التردد ولكن فيه حاجة ثانية دفعتني على أن أقدم على هذا العمل وهي اعتقادي أن القطر المصري لا يمكن مهاجمته من الغرب وخشيت لو أنثورة العراق تكبر أن الألمان يبقى لهم رجال هناك وساعتها يصح أنهم لو استولوا على العراق أن يهجموا من الشرق على مصر من طريق فلسطين وشرق الأردن وتصورت ساعتها ضرب المدن بالقنابل قبل الهجوم كما حصل في بروكسل وأمستردام وبلغراد وهذا الضرب بيكون شديدًا جدًا وليس كالغازات العادية لأن الأخيرة مش غارات هجوم وأنا طبعًا لي أهل في القاهرة منهم زوجتي وهي حامل فجازفت وقلت أنه لو تمت المسألة يصح ما يجيش حرب جهة مصر أبدًا وهكذا كله كان خاطرًا في نفسي ولم أذكره لأحد (22).

تبع هذا أن أخذ عزيز يفكر عن المصدر المالي الذي ننفق منه أسرتي حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف وكان عزيز قد أعطته الحكومة المصرية مكافأة عن مدة خدمته بها قدرها محامية بثلاثة آلاف جنيه بينما سبق أن ذكرنا أن فتحي رضوان حددها بألفين من الجنيهات. فقد أوضح ذلك محامية المسيو لاهو فاري والذي كان عزيز يوكله في أموره الخاصة.

اسمي يني لاهو فاري 53 سنة مولود في أزمير محامي أمام المحاكم المختلطة ومقيم بشارع سليمان رقم 20.

-هل تعرف شيئًا عن حالته (حالة عزيز) المالية؟

-قبض عزيز باشا شيكًا بثلاثة آلاف جنيه من الحكومة.. وكان غير راض حتى أنه ترك الشيك معه عدة أشهر ولم يقبضه ولكنه أخبرني أنه قبضه، وكان مدين لشخص اسمه المسيو فوبلاس بمبلغ 2500 جنيه ولم يدفعها فكان يدفع فوائدها وكان يرسل إلى زوجته وولده بأمريكا ستين جنيهًا كل شهر.

-هل تعرف شيئًا عن أفكاره السياسية؟

أجاب: الباشا رجل طيب أفكاره غير عملية كان يرى إيجاد جامعة في الشرق تضم جميع ممالك الشرق وتكون مثل الإمبراطورية التركية القديمة وتتكون من أمم متحدة في الشرق الأوسط؟ وهي تركيا واليونان ورومانيا وبلغاريا وسوريا وفلسطين ومصر وما جاورها من البلاد التي تضمها الأفكار والمصالح المتحدة.

ثم سئل لاهو فاري: ألم تسمع أنه كان يريد السفر إلى أحد بلاد الشرق؟

أجاب: لا وأنا أكره النازيين وهو كان يقول أن النازيين مجانين لأنهم إذا أرادوا أن تكون الأمم معهم فيجب أن يحرروا هذه الأمم لا أن يستعبدوها ولا يمكن أقول أنه كان يحب النازيين (23).

على كل فإن عزيز أعطى خمسين جنيهًا لكل من حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف كي يتركاها لأسرتيهما. ولكن لم يبح أحدهما لأسرته بالمصدر الذي حصل منه على هذا المبلغ ولم يبح أحد منهما لأسرته كذلك عن الرحلة التي اعتزما القيام بها مع عزيز. فأما عبد المنعم عبد الرءوف أنه زعم لزوجته أن شخصًا جاء له بباب منزله يستعجل نزوله للمأمورية وخرج معه فلما ضيق عليه وكيل النيابة بالأسئلة وقال له طالما انتدبت قبل ذلك في مأموريات فلماذا إذًا تتصنع لدى زوجتك أن أحدًا يدعوك للمطار في مثل هذه المأمورية مادامت عادية بالنسبة لك: قال: لأن المسألة كانت فجائية ولازم أتركها في الوقت ده (24).

أما حسين ذو الفقار صبري فقد ذكر أنه من عادته عندما يكون مكلفًا بالخدمة في المطار ليلاً أن تغادر زوجته المنزل لتنام عند والدها وقد فعل نفس الشيء ليلة السفر.

وبعد ظهر اليوم الذي أزمع فيه حسين ذو الفقار أن يقود الطائرة ومعه عزيز وعبد المنعم عبد الرءوف كلف العساكر أن يخرجوا الطائرة وكانت من نوع اسمه الأنسون 205 ففي أقوال حسين ذو الفقار صبري ما يلي: وكنت نبهت على العساكر النوبتجية أنهم يباتوا في السرب لأنه ليس من عادتهم المبيت دائمًا في السرب.. وأمرتهم أن يخرجوا الطيارة أنسون 205 وكنت أمرت العساكر بعد ظهر ذلك اليوم أن يفتشوا عليها لأني قلت لهم يمكن تتطير بالليل أو الفجر فواحد منهم قال لي أن فيها عداد الأفق الصناعي في التصليح فقلت له ده مش مهم لأنه يستعمل فقط للطيران في السحاب.. ولما أخرجوا الطائرة أمرتهم بأن يدخلوا الشنط من العربية للطائرة.." (25).

خرج عزيز المصري بسيارته من البنسيون بعد أن تناول عشاءه فيه ثم عند شارع كمال القريب من العباسية مر على صديق له اسمه الدكتور سامي كمال وترك له مفاتيح سيارته وقال له أنه تركها أمام باب منزله وأنه مسافر مع جماعة من أصدقائه إلى الإسكندرية على ضوء القمر، وكانت سيارة عزيز تحمل رقم 1655 وهي من نوع سكودا.

ترك عزيز سيارته والتقى بعبد المنعم عبد الرءوف في المكان الذي ترك فيه عزيز سيارته ومن هناك استقلا سيارة أجرة إلى منزل حسين ذو الفقار صبري .

ويلاحظ من الرجوع إلى أوراق التحقيق أن عزيز المصري كان يصر دائمًا على أنه المسئول عن كل ما حدث ولم يبح باسم الدكتور سامي كمال الذي سلمه مفاتيح سيارته بل قال أنه تركها في الشارع كذلك لم يذكر كما سبق أنأشرنا أنه حسين ذو الفقار نقل حقائب خاصة به (عزيز) إلى منزله استعدادًا لبدء الرحلة.

بدء الرحلة:

التقى الثلاثة بالقرب من منزل حسين ذو الفقار صبري حيث كانت سيارة من سيارات الجيش تنتظرهم وأقلتهم إلى المطار.

بدأ تحركهم بالقرب من منزل حسين ذو الفقار صبري عند منتصف الليل يوم الخميس 15 مايو 1941 أو بعده بنصف ساعة على حد ما اعترف به ذو الفقار: "وجدت تاكسي واقف وفيه بقية الشنط بتوع الباشا وشنط عبد المنعم فنقلناها ومشينا بالعربة على المطار.. ورحت على السرب الثالث وكنت نبهت على العساكر النوبتجية أنهم يباتوا في السرب.. ولما أخرجوا الطائرة أمرتهم بأن يدخلوا الشنط من العربية للطائرة".

وقد سألت النيابة عبد المنعم عبد الرءوف: أليس دخول المطار ممنوع للأجانب فكيف سمح لعزيز باشا بالدخول أجاب أنه مادام الواحد مع ضابط عظيم المطار (أي الضابط المكلف بالخدمة نوبتجي) فلا يمنعه أحد.

ثم سُئل وما هي الإجراءات التي تتخذ عند قيام طائرة ليلاً أجاب: ينار المطار ويجب الاتصال بالمطار المدني لأن آلات الإنارة موجودة به ولابد من إعطاء إشارات لأماكن الطوبجية (المدفعية) في محطات الرصد حتى لا تسلط على الطائرة الأنوار الكاشفة والمدافع المضادة للطائرات.

لم يقم حسين ذو الفقار بالطبع بعمل شيء من ذلك ولم يعمل للطائرة تجربة أرضية لأنهم على حد قول عبد المنعم عبد الرءوف كانوا في عجلة من الأمر. تولى حسين ذو الفقار مهمة القيادة وبجواره عزيز المصري وخلفهما عبد المنعم عبد الرءوف وأمر حسين ذو الفقار بإزالة الحواجز الخشبية أمام الطائرة لتنطلق في الجو، وقال فيا لتحقيق: "نسيت أقول أنني لما أمرت السواق أن ينقل الشنط فقلت لهم قوام أحسن ده مندوب جلالة الملك، وبعد ما دارت الماكينة أمرت برفع الحواجز الخشبية وطلعت بالطيارة وسبت الأرض واتجهت في الاتجاه بتاعي بعد نحو خمس طقائق الأنوار الكاشفة فاتت علي ويظهر أن فيه مدفع مضاد للطائرات ضرب لأني شفت الوميض بتاعه، وكان على يميني وبعد لحظة وجدت نار طالعة من الماكينة اليمين فظننت ساعتها أنه يمكن تكون أصبنا لأن الضرب عمل تخلخل في الهواء، والجناح سقط شوية ولكني لم أحسن بضربة جامدة أو حاجة في طيارة وكنت طول هذه المدة أتفادى الأنوار الكاشفة بأن أغطس أو ألف يمين أو شمال حسب الحالة (27).

هبوط الطائرة:

ذكر عبد المنعم عبد الرءوف أن حسين ذو الفقار صبري أزعجه هذا اللهيب الذي خرج من ماكينة الطائرة وامتد إلى جناحها. ولما كانا لجناح من الخشب فقد خشي أن تمسك النار في الجناح فبدأ يفكر في النزول، لم يكن قد مضى على إقلاعهم أكثر من عشر دقائق والرحلة ثلاث ساعات أو أكثر. أمر حسين زميله عبد المنعم أن يعطي البارشوت لعزيز المصري ليقفز من الطائرة فأعطاه الجزء الأعلى من الباراشوت وبينما هو يبحث عن الجزء الآخر لاحظ أن حسين ذو الفقار قفل ماكينة الطائرة وبدأ في الهبوط. وكان قد أبطأ سرعته في أول الأمر حتى لا تتهشم بهم الطائرة.. وأخذ عبد المنعم يشجع زميله على أن يقوم بعمل هبوط سليم. وكان ضوء القمر مما سهل على حسين ذو الفقار ذلك. حاول الثلاثة فتح باب الطائرة فاستحال عليهم ذلك فكسر الباغة في داخل الباب ونزلا حسين عبد المنعم ثم ساعدا عزيز المصري على الخروج من الطائرة.

ظن الثلاثة أن الطائرة سقطت في منطقة الخانكة فلما خرجوا إلى الطريق العام عرفوا أنهم في قليوب، وروى حسين ذو الفقار أن عزيز المصري قال له أن المسئولين المصريين ربما يفتكروا أننا كنا نحاول الهرب وربما حاكمونا.

مضى الثلاثة حتى وصلوا إلى مركز شرطة قليوب وسأل عزيز المصري عن اسم مأمور المركز فعرف أنه اليوزباشي الطلباوي، وكان عزيز قد أمر كلا من حسين وعبد المنعم بخلع ملابسهما الرسمية. وانتظر حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف قريبًا من منزل مأمور مركز قليوب ريثما يتحادث معه عزيز المصري.

قال عزيز المصري.. قلت للطلباوي أن عربتي انكسرت وشوف لي عربة.. وبعدين قال لي أنه عنده عربة صغيرة بتاعته أو بتاعة المركز معرفش فأخذتها وركبت مع إخواني إلى القاهرة عند ميدان الأوبرا.

انصرفت العربة واستقل الثلاثة سيارة أجرة.. رفض عزيز في التحقيق أن يقول عن اسم صاحب المنزل الذي ذهبوا إليه وهم يستقلون السيارة الأجرة.. بينما اعترف عبد المنعم أنه منزل محامي اسمه الأستاذ محمد شوكت التوني .. وقد حاول في أول الأمر أن يقول أنهم ذهبوا مباشرة لمنزل الأستاذ عبد القادر رزق لكن النيابة فاجأته وقالت له أنك كنت صادقًا فيما قلته فيما عدا أنكم ذهبتم مباشرة إلى منزل عبد القادر رزق فاعترف عبد المنعم أنهم ذهبوا إلى منزل الأستاذ محمد شوكت التوني . قال عبد المنعم عبد الرءوف صراحة أنهم كانوا يحاولون السفر إلى بيروت بالطائرة لكن المحاولة لم تفلح فنصحه بأن يبلغوا عن أنفسهم. تبع ذلك أن التمس عبد المنعم من التوني أن يعطيه سيارة فاستجاب له وأعطاهم سيارته ومعها سائقه لكنهم لم يذهبوا بها مباشرة إلى منزل عبد القادر رزق بل نزلوا عند كوبري الزمالك.

الاختفاء:

رأى عزيز المصري أن يتجه ومعه زميليه إلى منزل عبد القادر رزق . فمن هو عبد القادر رزق ؟ كان يعمل مدرسًا بمدرسة الفنون الجميلة منذ ديسمبر 1939

وكان يسكن في إمبابة بشارع حسن يسري رقم 2. ذكر في التحقيق الذي أجرى معه أنه تعرف على عزيز المصري منذ شتاء 1940 في أحد المعرض للفنون الجميلة الخاص بالتمثيل والصور. ولاحظ عبد القادر رزق إعجاب عزيز المصري بتماثيله، " وأنا أبديت له إعجابي برأسه لأنها تنفع لصنع تمثال بالنحت. اتفقت اعمل له تمثال ومن مدة أربعة وخمسة أشهر تقابلت معه في السكة في شارع فؤاد وأخذت منه ميعاد وجالي البيت ثلاثة أو أربعة مرات ولم يحضر بعدها لغية الحادثة" (28).

وقد ذكر عزيز المصري أقوالا مشابهة في ذلك لما قاله عبد القادر رزق وقال أن عبد القادر فوجئ بدخولهم عنده وأخبره عزيز أنهم لم يستمروا طويلا عنده.

كان منزل عبد القادر به جزء مخصصه كمعمل لهوايته الفنية فانزل فيه عزيز وزميله. كان عزيز ينام في حجرة وحده وينام حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبدالرؤف في الحجرة الأخرى المخصصة مع الحجرة التي خصصت لعزيز للمعمل.

اهتمت الحكومة المصرية بالحادث ووعدت من يقبض عليهم أو على أحدهم بمكافأة قدرها ألف جنيه كما سبق أن ذكرنا. وروى لورد كليرن كيف كان حسين سري في منتهى الغضب عندما التقى به يوم الجمعة (اليوم التالي) للهرب وأن رئيس الوزراء كان يريد معاقبة بعض الضباط ومن بين ذلك عزل ضابط برتبة قائمقام لولا أن رسل باشا حكمدار العاصمة رجتاه في عدم عمل ذلك حتى لا يؤثر ذلك في معنويات ضباط الشرطة وذلك على نحو ما أوضحنا. وصدرت الصحف تؤكد اهتمام الحكومة والوزراء ببحث الموضوع كذلك تقرر لتخصيص بعض جنود الجيش لحراسة غرفة التحقيق سواء أكان ذلك أثناء الليل أو النهار وصدر أمر بمنع دخول غير الموظفين إلى وزراء الدفاع زيادة في سرية التحقيق (29).

وإذا رجعنا إلى ما ذكره الدكتور محمد حسين هيكل في كتابة مذكرات في السياسة المصرية (30) وكان وزيرا للمعارف في وزارة حسن صبري ثم في وزارة حسين سري بعد وفاة حسن صبري _ يتضح لنا مـدى اهتمـام الحكومة المصرية بحادث محاولة عزيز باشا الهرب. يقول هيكل : وزاد سري شعورا بدقة الموقف حادث وقع وأثار في البلاد دويا وضجة سافرت في الأيام الأخيرة من شهر مايو 1941 إلى رأس البر هيئ مكان اصطيافي وقضيت بها ثلاثة أيام. وفي صباح اليوم الذي اعتزمت فيه العودة إلى القاهرة أبلغني الحاجب المرافق لي أنه سمع أن عزيز باشا المصري سافر خفية بطائرة حربية يريد الذهاب إلي الألمان. ولم أصدق الخبر لأول ما سمعته، واتصلت تليفونيا من رأس البر بمحافظ دمياط استوثق منه. وأخبرني الرجل أنه بلغته مثل هذه الأنباء، وإنه سيتصل بالقاهرة للتثبت منها.

"فلما بلغت دمياط لقيته فأنبأني أن عزيز (باشا) المصري وضابطا طيارا استقلا ليلا طائرة عسكرية من القاهرة وقاما بها يريدان جهة غير معلومة. وأن الطائرة اصطدمت بأسلاك التليفون عند قليوب فهبطت إلى الأرض واضطر راكباها لمغادرتها وللفرار هربًا إلى حيث لا يعلم أحد، وأن مجلس الوزراء منعقد بعد الظهر من هذا اليوم ليتداول في الحادث، وأنه خوطب من القاهرة كيما يتصل بي لأحضر اجتماع مجلس الوزراء.

وعدت مسرعًا إلى القاهرة وحضرت اجتماع المجلس فألقيت سري باشا والوزراء جميعًا في حيرة، ورأيتهم يخشون أن يكون لما حدث نتائج بعيدة الأثر. فعزيز باشا المصري هو الذي تولى رئاسة أركان حرب الجيش المصري في وزارة علي باشا ماهر وكان مهتمًا بميله الواضح للألمان، فلما تولت وزارة سري باشا أعفته من منصبه، وكان طبيعيًا، وذلك الرأي فيه، أن يراقب مراقبة دقيقة، فكيف استطاع مع ذلك أن يدبر وسيلة للفرار من غير أن يعلم بهذا التدبير أحد؟ وأين ترى أن يكون قد اختفى؟ وما هي الإجراءات التي يمكن أن تتخذ في شأن من يروجون الدعايات لمصلحة ألمانيا؟

تداول المجلس في هذا وفي مثله وانتهى بأن ترك الأمر لرئيس الوزارة بوصفه السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية يتصرف فيه بحكمته وحسن تدبيره. ازداد سري باشا بعد هذا الحادث اقتناعًا بضرورة تدعيم الوزارة لكن لم يكن يستطيع أن يفاتح أحدًا في هذا التدعيم قبل أن يعثر على عزيز باشا المصري وأن يتخذ معه إجراء يعيد الطمأنينة إلى مقدرته على معالجة شئون الدولة في الأوقات العصيبة المحيطة به بالحزم والحكمة، بهذا وجه كل جهده للبحث عن الفارين واعتقالهما.

ولم يكن هذا يسيرًا، فقد كان الجمهور يحيط عزيز باشا بعطف يتعذر معه الاستعانة بمعلومات هذا الجمهور لاقتفاء آثار الرجلين ومعرفة المكان الذي اختفيا فيه".

هذه هي رواية هيكل عن الحادثة وهي توضح كيف اهتزت الوزارة إزاء هذا الحادث، ونشطت المباحث وأجهزة المخابرات في محاولة القبض على الهاربين, وروقبت الحدود المصرية مراقبة صارمة خشية أن يتمكن عزيز المصري، ورفاقه من الهرب، ونشرت صحيفة المقطم تحت عنوان "في حادث عزيز المصري باشا وزميليه ما يلي".. استأنف سعادة عبد الرحمن باشا الطوير النائب العام التحقيق في حادث الفرار وسأل المحققون بعض الموظفين والعسكريين وأقارب الهاربين ويقول مندوب المقطم في وزارة الدفاع أن مهمة الوزارة انتهت من ناحية التحقيق وأنه تقرر أن تؤدي النيابة مهمتها وتتولى من جانبها أعمالها وتدابيرها بمساعدة رجال البوليس والمباحث للقبض على الهاربين. ونشط قلم المخابرات الحربية نشاطًا ملحوظًا فجمع الأدلة التي استعان بها المحققون على كشف بعض النواحي الغامضة. وتلقت وزارة الدفاع من بعثاتها الصحراوية أن البحث مازال مستمرًا في طريق الفيوم وسيوة ولم يعثر إلى الآن على دليل يؤكد سلوك الهاربين لهذا الطريق. وقد شددت الوزارة على أعضاء هذه البعثات في البحث وجهزتها بسيارات اللاسلكي للاستعانة بها عند اللزوم (31).

مضت النيابة العامة تحقق والوزارة تبحث والصحافة تتابع الحادث وتبحث عن أسباب سقوط الطائرة، هل هو لإقفال الطيار أنابيب الزيت الخاصة بها أم لخلل إحدى الأجنحة فتقول صحيفة المقطم: أن الفنيين يقولون أن السبب المباشر هو الخلل الذي طرأ على ميزان الأجنحة، أما القول بأن أنابيب الزيت كانت مقفلة فمن السهل تدارك هذا الخطر بعد صعود الطائرة ولكن إصلاح ميزان الأجنحة لا قبل للطيار به. ويعلل الفنيون عدم وجود ميكانيكي وعامل اللاسلكي في الطائرة بأن رجال المطار أثبتوا صلاحها للطيران بمعاينتها قبل رحيلها وأنها تستطيع قطع مرحلتها بلا توقف فلم يكن هناك ما يدعو الهاربين إلى الاستعانة بميكانيكي. أما عامل اللاسلكي فقد رغب الهاربون في التغاضي عن مهمته بعد ما أخلوا بجهاز اللاسلكي وتعمدوا حتى لا يحرج الطيار نفسه. عندما يرتفع بطائرته في الجو بإخطار محطات المراقبة الجوية عن مهمته ووجهته وتلقي إشاراتها بل يكتفي في حالة تسليط الأنوار الكاشفة على الطائرة بالهبوط قليلاً حتى إذا ظهرت علاماتها المصرية الخاصة أخلى سبيلها، ويقول بعض موظفي وزار الدفاع عن المهمات التي حوتها الطائرة أنها كانت مملوءة بالملابس الحريرة والبدلات. وكان من العسير التأكد من هرب عزيز باشا بهذه الطائرة لولا مقابلته لمعاون مركز قليوب وطلبه سيارة تذهب به إلى العاصمة، وفي هذا ما يدل على أنه كان يريد الاختفاء وراء زميليه لإتمام حركة الهرب لولا أن كشفته الظروف، ومضت الصحيفة تقول: ينفي المسئولون ما أشيع من أن عزيز المصري باشا وزميليه تمكنوا من اجتياز الحدود لأنه لم يكن عندهم وقت كاف لإتمام ذلك ولاسيما أن وسائل النقل لم تكن متوفرة عندهم وأن رجال الحدود أخذوا علمًا بالحادث بعد حدوثه مباشرة وصدر الأمر أمس بوقف الضابطين الفارين مع عزيز باشا المصري عن عملهما من ليلة وقوع الحادث. وقال مسئول في الحكمدارية أن الأمل كبير في القبض على الفاري لأن التحريات الدقيقة دلت على أنهم لم يتجاوزوا الحدود.. ودعا النائب بعضًا من الجنود من قليوب لسماع أقوالهم وفي ساعة متأخرة من ليلة أمس دهم البوليس منازل في القاهرة وضواحيها وقيل أنه عثر فيها على أوراق. وأعطيت تعليمات اليوم لسلاح الهجانة بمضاعفة الجهود في البحث عن الفارين ووعد من يتمكن من القبض عليهم أو على أحدهم بالمكافأة المالية المقررة وهي ألف جنيه (32).

وأخذت النيابة في تفتيش الحقائب التي تركها الهاربون بالطائرة، وجدت حقيبة مكتوب عليها A M وهما الحرفان الأولان لاسم عزيز المصري حيث وجدت بها بعض الخرائط لمطروح والقاهرة وأسيوط وفلسطين، كما وجدت ورقة مرسوم عليها بالقلم الرصاص شارة قيل أنه علم فاشستي، وقد سُئل عزيز المصري بشأنه فقال أنها شارة عائلة قريبة له في القوقاز. فلما سُئل: ولماذا حملتها معك؟ قال: "دي صغيرة كالمنديل وكل ما أروح في جهة أعلقها وكانت معلقة في بيتي في عين شمس" ونفى أنها علامة فاشستية.

وأكد أنه لم ير علامة الفاشست وأكد أنها إشارة عائلة في استامبول والعائلة اسمها شامي بلن أي الرأس الأحمر أو الملك الأحمر أو الرئيس الأحمر وهذه الشارة هي شارتها و"هذه العائلة كان سيكون فيه نسب بيني وبينهم وأصحابي من زمان وأن النية أنني كنت أروح استامبول فمن باب المجاملة حملتها معي لأنها تذكار من إحدى سيدات العائلة عملتها لي هدية. فلما سُئل أن الخبراء يؤكدون أنها راية فاشتنية أجاب: "ينفلقوا بقى ويقولوا اللي يقولوه" (33).

ولعله من المهم أن أعرض لبعض ما حمله عزيز المصري معه في حقيبته الخاصة والتي تركها بالطائرة عندما هبطت بهم حتوت تلك الحقيبة على خطابات من بعض الزعماء العرب في ذلك الحين ومراسلات بينه وبينهم، مثال ذلك خطابات وصلته من يس الهاشمي وطه الهاشمي . وبهذين الخطابين المؤرخ أولها في 18 أبريل 1935 والثاني 27 نوفمبر 1936 إشارة إلى حالة العراق.

خطاب مؤرخ 14 يناير 1931 من طه الهاشمي يشكو حال العراق ويقول فيه أن الجماعة لا هم لهم إلا الضرب على الروح الوطنية وإماتة الشعور.

خطاب مؤرخ 5 أغسطس 1937 من طه الهاشمي يشكو فيه حال العراق وطائفة من أصدقائه الذين كانوا أصدقاء له فلما أصبحوا وزراء لم ير منهم إلا كل حقد وجفاء.

خطاب مؤرخ 27 نيسان (أبريل) 1937 من طه الهاشمي يشكو فيه من اتهام أخيه بالخيانة.

خطاب مؤرخ 2 شباط (فبراير) 1939 من طه الهاشمي يقول فيه أنه يؤلمه أن مصر لم تفهم عزيز باشا ولم تنتفع بمواهبه.

ومن بين الأوراق التي ضبطت في حقيبة عزيز المصري خطاب مكتوب على ورق مطبوع عليه اسم جمعية الدفاع الطرابلسي البرقاوي موقع عليه من عمر قايد يستفتيه فيما يمكن عمله لمنفعة بلاده والحركة الوطنية في البلاد العربية.

وخطاب مؤرخ 15 شباط (فبراير) 1939 من محمود الدرة بمدرسة العسكرية الكلية ببغداد يذكر فيه زعامته للعرب ومواقفه بالنسبة إليهم.

خطاب مؤرخ باسم عبدالله العمري آل رئيس العلماء يذكر فيه معرفته به وملاقاته له في نزل بابل في صحبة الأخوين أحمد الجليل وأحمد الشرفة وما عرف عنه أنه أبو (العهد) ويذكر له أن البلاد المحتلة بوليسها آلة يحركها المحتل ويطلب إليه أن تكون مدرسة البوليس بذمته تخرج بوليسًا يعرف معنى الوطنية والقومية.

ومن بين الخطابات خطاب مؤرخ 13 أبريل 1940 من محمد زكي النقيب بالمعاش يذكر له رأيه في سياسته وينتقد علاقة الضباط العظام به وأن أغلبية الضباط من رتبة العميد يجلونه ويقدرون خبرته وإخلاصه.. إلخ.

وكذلك صورة خطاب مؤرخ 12 يونيو 1939 من عزيز المصري إلى نوري السعيد يذكر له فيه:

فأنت الآن مع (طه الهاشمي ) الرفيقان الأولان وقد دخلتما اليوم قلبي وبابه مفتوح لكما على مصراعيه وإن فقدت يس وجعفر فقد أحللت مكانهما جودت وجميل فكونوا الزوايا الأربع للبرج العربي الذي أود أن أختم بجمع كل الأيدي العربية والشرقية بتشييده من جديد.

وهناك خطاب مؤرخ 6 ديسمبر 1935 من عزيز باشا المصري إلى الأستاذ لاهو فاري المحامي يتكلم فيه عن الحالة السياسية في مصر وأننا لم ننتفع بدروس الماضي وتكلم بعد ذلك عن موقف الإنجليز من المصريين ويقول أن الغيوم في المستقبل ملبدة بأثقل الحوادث بحالة ستجعل إنجلترا غير مستطيعة أن تحتفظ في بطنها المنتفخ بما تبقيه الآن.

خطاب مؤرخ 20 فبراير 1936 من عزيز المصري إلى الأستاذ لاهو فاري المحامي تناول فيه عزيز باشا الحديث عن بعض الشئون السياسية المعاصرة بمناسبة المفاوضة في عقد معاهدة بين مصر وإنجلترا وشكواه من تفرق كلمة المصريين وعدم إسناد وظيفة إليه في السفارة ليتمكن من مفاوضة رجال بريطانيا باعتباره الاختصاصي الوحيد في هذا الشأن (34).

وظل عزيز وزميلاه مختفين في منزل عبد القادر رزق منذ محاولة هربهم وفشلهم في ذلك حتى قبض عليهم في نفس هذا المنزل يوم الجمعة 6 يونيو 1941. لقد جاءوا إلى هذا المنزل في نفس الليلة التي جاءوا فيها إلى القاهرة في 16 مايو بسيارة مأمور مركز قليوب ومرورهم على الأستاذ شوكت التوني على نحو ما أوضحنا من قبل.

روى عبد المنعم عبد الرءوف في التحقيق "كنا نستيقظ في الصباح ونغسل وجهنا في الحمام ونفطر وكانت أخت صاحب المنزل تجيب لنا الأكر وتضعه على دولاب صغير وتخبط على باب أوضتنا فنخرج نجيب الأكل ونفطر في الأوضة التي فيها الترابيزة بين غرفتنا وغرفة عزيز باشا وكنا نقرأ كثيرًا من المكتبة التي في نفس الغرفة اللي كنا فيها والغداء والعشاء على هذا النظام" وأراد عزيز المصري أن يعرف ويتسقط الأخبار الخاصة به فأرسل ورقة مع عبد القادر رزق إلى ضابط بوليس اسمه عبد الحميد خيرت كي يبلغه عما لديه من معلومات لم تكن الورقة التي وجدت مع عبد القادر رزق بها كل شيء سوى هذه العبارة "خيرت أعتمد كل الاعتماد على حامل هذه وأجب على ما يريد عزيز". وعندما سُئل عبد الحميد خيرت عن هذه الورقة أو عن عبد القادر أنكر معرفته بهما. فقد قبض البوليس على عبد القادر رزق بل أن يستطيع توصيل هذه الورقة إلى هذا الضابط.

القبض على عزيز المصري:

كيف تم القبض على عزيز المصري ورفيقيه حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف؟

روى الأستاذ فتحي رضوان ما يلي: كان مكتبي مراقبًا لأن أحمد حسين أرسل خطابًا إلى حمدي باشا محبوب الذي كان وكيلاً لوزارة الداخلية يقول فيه (وكان مختبئًا وحكومة حسين سري جادة في البحث عنه مثلما هي جادة عن عزيز المصري) إنه مستعد أن يسلم نفسه بشرط أن تتفق الحكومة مع الأستاذ فتحي رضوان على طريقة معاملته في المستقبل وتوفير أسباب الراحة له.. فاتصل بي ضابط من ضباط القلم السياسي اسمه محمد يوسف وقال: إن حمدي باشا ينتظرني غدًا في مكتبه في الداخلية فلما وصلته أطلعني على خطاب يقول فيه أحمد حسين ما سبق أن قلته في حين أن لا معرفة لي بالمكان الذي يختبأ فيه الأستاذ أحمد حسين ولم يخبرني هو نفسه عن هذه المهمة. فقلت لوكيل الداخلية أنا لا أعرف أين يوجد الأستاذ أحمد حسين ولا أستطيع أن أبلغه شيئًا، فقال لي أنه لابد أنه سيعرف طريقة للاتصال بك.

ويمضي الأستاذ فتحي رضوان يقول لي: أقول هذا لأن السلطات كانت تراقبني لاعتقادهم أنني على صلة بالأستاذ أحمد حسين وأنني أستطيع أن أعرف مخبأه. وفي ذات يوم مر على مكتبي الأستاذ أحمد مرزوق وكان من أعضاء الحزب الوطني بعد أن انفصلت عن حزب مصر الفتاة وكان البوليس لا يعرفه فراقبه ولسوء الحظ مضى أحمد مرزوق من أمام مكتبي إلى محل سولت الذي كان في شارع قصر النيل. وكان أحمد مرزوق على موعد معالمثال عبد القادر رزق . فأخذ أحد رجال البوليس في مراقبة عبد القادر رزق وطلب هذا من زميله أن يراقب أحمد مرزوق . وتتبع عبد القادر رزق إلى مدخل إمبابة واختفى من أمامه عبد القادر رزق وفي صباح اليوم التالي وقف رجل البوليس هذا عند مدخل قرية إمبابة. وأسعده الحظ إذا رأى عبد القادر رزق خارجًا من هذا المكان إلى قلب القاهرة فتابعه حتى وصل عبد القادر إلى مدرسة الفنون الجميلة حيث كان يعمل أستاذًا. ثم أتم عمله اليومي وخرج إلى جروبي بشارع عبدالخالق ثروت وخرج يحمل لفة كبيرة فتابعه حتى عاد إلى بيته ورأى البيت بعينيه وأسرع إلى اللواء محمد إبراهيم أمام رئيس البوليس السياسي وأخبره أنه يشتبه في وجود شخص في هذا البيت وربما يكون الأستاذ أحمد حسين فيه. فأسرع إبراهيم إمام ومعه أعوانه وطرق باب شقة الأستاذ عبد القادر رزق . وسأل عن الأستاذ وهو يعني الأستاذ أحمد فردت عليه شقيقه عبد القادر رزق بعد أن فتحت شراعة الباب فإذا بأحد رجال البوليس يدخل يده في الشراعة ويفتح الباب ويدفعه ويندفع محمد إبراهيم إمام ووراءه أعوانه ليقبضوا على الأستاذ أحمد حسين فإذا بهم يفاجئوا بعزيز المصري جالسًا على الأرض وإلى جانبه حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف وأمامهم مسدساتهم وخرج عزيز باشا فرفع يديه إلى أعلى حتى لا يطلق عليه الرصاص.

هذه هي رواية الأستاذ فتحي رضوان عن كيفية وصول البوليس إلى عزيز المصري، أما ضباط المباحث الذين قبضوا على عزيز المصري ففي روايتهم اختلاف في بعض النقاط عن تلك التي ذكرها الأستاذ فتحي رضوان، فقد قرر محمد علي سالم وهو ضابط مباحث مركز إمبابة أنه علم من مأمور المركز أن محمد إبراهيم أما ضابط المباحث ومعه مخبرين قادمين له للقبض على أحد الأشخاص، وروى كيف خدعوا شقيقة عبد القادر رزق في أن قالوا لها عندما سألت عن الطارق أنهما أصدقاء لشقيقها عبد القادر رزق ورجوها أن تفتح لتأخذ له ورقة فما إن فتحت شقيقته شراعة الباب قائلة أنه (عبد القادر رزق ) نبه عليها ألا تفتح لأحد حتى أفهمها هذا الضابط أنه ضابط ومباحث ولابد أن تفتح الباب وإلا فتح بالقوة. وقبل أن تتمكن من أي حركة أسرع أحد المخبرين فمد يده وفتح الترباس من الداخل، يقول الضابط محمد علي سالم في التحقيق: فوجئت برؤية عزيز باشا والضابطين وكانوا جميعًا وقوفًا وصدرت مني حركة تشبه الاستغراب وكان حضرة إمام أفندي وقتئذ بجواري فنظر وقال: اللـه! سعدة الباشا! إحنا مش عايزين مقاومة ولا أي حاجة. ذلك لأن عزيز باشا لما شافنا بدت عليه حالة عصبية وقال أنا عايز ألبس هدومي وخلى الضباط يلبسوا هدومهم، أنا لا أريد أن أبقى في البلد (مصر) وأنا عايز أخرج وشعرت أنهم المسئولين في الدولة عاوزين يقبضوا علي وأحببت أن أخرج فلم أوفق وطالما أنتم مسكتوني فأنا مستعد للمحاكمة (35).

وواجهت النيابة أقوال هذا الضابط بأقوال محمد إبراهيم إمام الذي أصر على أنه أول من رأى عزيز باشا، ولعل مرجع ذلك أن كلاً منهما كان يطمع أن يخص نفسه بتقدير الدولة والمسئولين له إزاء إصرار كل منهما على أنه الذي رأى عزيز المصري أولاً.

وأضاف مأمور مركز إمبابة إلى هذه الأقوال أنه جمع الملابس والكتب التي كانت بغرفتي عزيز باشا وزميليه ووضعها في حقيبة كما ذكر أنه وجد تمثال نصفي حديث الصنع لعزيز باشا المصري في الحجرة التي ينام فيها حسين ذو الفقار وزميله.

وأرسل المأمور أحد الكونستبلات عن عبد القادر رزق صاحب المسكن الذي وجد فيه عزيز المصري فقبض عليه في الزمالك ومعه اثنين ذكر عبد القادر أنهما من بلدة قويسنا، وقرر أن عزيزًا لم يفكر في المقاومة لكن الضابطين كانا متحمسين للمقاومة ونقل عزيز المصري إلى سجن الأجانب لتبدأ إجراءات محاكمته.

وبالرجوع إلى الدوريات المعاصرة نجدها تحرص أن تظهر عزيز المصري شخصًا سيء السيرة مهزوز التفكير وما من شك في ذلك كان بإيحاء من حكومة حسين سري بالطبع، كما أوردت الأهرام في عددها الصادر في 19 مايو 1941 تاريخ حياته تحت عنوان عزيز المصري باشا وضابطا الطيران، كيف استقلوا الطائرة من ألماظة وكيف وقعت بهم 0تحريات الدفاع ورجال الأمن- بيانات عن الفارين الثلاثة وتاريخ حياتهم تقول: يروي أصدقاء عزيز المصري عن أنه كثيرًا ما كان يقول لهم لم يستطع أحد أن يفهم نفسيتي حتى الآن وذلك هو سر فشلي في الحياة.. ولد عزيز المصري في سنة 1880 في دار بشارع الصنافيري، أما والده فهو الشيخ علي المصري من زراع القليوبية.. ولما انتهت الحرب (الأولى) سافر إلى ألمانيا واجتمع بقوادها وعرض عليهم خدماته ولكنهم رفضوا وعاش عزيز المصري في مصر. وكانت حالته المالية سيئة وكان المغفور له محمد محمود باشا قد علم وهو رئيس للوزارة في سنة 1928 بحالته فعينه ناظرًا لمدرسة البوليس ولكنه اختلف مع جميع كبار موظفي الدولة. ومن هنا أراد محمد محمود أن يتفادى الإشكالات فجعل الاتصال به رأسًا. وفي سنة 1935 اختير عزيز المصري لمرافقة الملك فاروق في بعثته الدراسية إلى إنجلترا ولكن ترامى إلى سمع الملك فؤاد بعض آراء عن عزيز لم تعجبه فسحب منه هذه المسئولية وأسندها إلى أحمد حسنين باشا، وأسند إلى عزيز المصري مهمة مساعدته ولكنه في إنجلترا اختلف أيضًا مع الموظفين هناك فعاد إلى مصر مقصي من عمله. وقد عرض على القواد الإنجليز مساعدتهم ولكنهم رفضوا! وظل عزيز المصري بلا عمل حتى سنة 1938 إلى أن تولى الحكم محمد محمود باشا فأراد تعيينه رئيسًا لأركان حرب الجيش فعارضت الجهات العليا (ولعل الصحيفة تقصد بالطبع السلطات البريطانية) ولكنه عين مفتشًا عامًا للجيش. ولكنه اختلف مع الفريق حسين رفي باشا وزير الدفاع ثم مع حسن صبري خلفته في وزارة الدفاع. ثم انتهى بسحب كل مهام عزيز المصري، ثم تولى بعد ذلك الوزارة علي ماهر باشا فعينه رئيسًا لأركان حرب الجيش المصري ولكنه اختلف مع رئيس البعثة العسكرية فمنحته الحكومة أجازة إلى أن أحيل إلى المعاش مع رئيس البعثة العسكرية فمنحته الحكومة أجازة إلى أن أحيل إلى المعاش في عهد وزارة حسن صبري ، ويقال عنه أنه كثير الإعجاب بطريقة هرب الهرميس وأنه كان شديد الاهتمام بحوادث العراق (36).

ومن أطرف مانشر عن عزيز المصري ما كتبته المقطم في عددها 7 يونيو 1941 وفيها أشياء غير دقيقة بالطبع. فتحت عنوان القبض على عزيز المصري باشا وزميليه في إمبابة وكيف كان يقضي سهرته في الكيت كات! قالت: كان البوليس بعد فرار عزيز المصري باشا والطيارين عبد المنعم عبد الرءوف وحسين ذو الفقار مشتبهًا في منزل بإمبابة بالقرب من الكيت كات فعين مخبرين سريين لمراقبته فلاحظا على المنزل ما رابهما ومن ذلك أن غرفة تظل منيرة طول الليل فقدما تقريرًا بما لاحظاه إلى رؤسائهما بعد ما جمعا المعلومات الكافية من سكان المنزل فقد يكون الفارون منهم، وفي الساعة الواحدة بعد ظهر أمس ذهب اليوزباشي إمام إبراهيم أفندي إلى المنزل مع قوة كافية من رجال البوليس وصعد بعض الضباط إلى سطح الدار حفاة الأقدام كي يحولوا دون محاولة الفاين الهرب. ثم حوصرت المنطقة ا لموجودة فيها المنزل. وفي هذه الأثناء كان الضابط إمام إبراهيم مقتحمًا المنزل ومعه بعض مساعديه وفي أيديهم مسدساتهم ففتشوا الغرف واحدة واحدة وإذا بهم إمام المصري باشا وزميليه في واحدة منها. فدهش الهاربون. وحاول أحدهم إخراج مسدساتهم من الجرابة لكن قوة البوليس والداخلية وأركب الفارون في السيارات بحراسة البوليس إلى أحد السجون.

وفي الساعة 5.15 ذهب سعادة النائب العام إلى هذا السجن فشرع في التحقيق مع المصري باشا وزميليه. وعلى أثر عودة دولة رئيس الوزراء من الإسكندرية أمس مساء ذهب إلى السجن وهنأ رجال البوليس بتوفيقهم في العثور على الهاربين. هذا ودلت تحريات القائمقام أحمد طلعت بك على أن المصري باشا كان إذ أمسى المساء لبس جبة وقفطانًا وضع على وجهه لحية مستعارة وذهب إلى ملهى الكيت كات يقضي فيه سهرته إلى ما منتصف الليل! أما زميلاه فكانا في الصباح يركبان زورقًا يتنزهان في النيل وفي المساء كانا يتنزهان ماشين على ضفة النيل الشرقية بالقرب من المنزل (37).

وجهت النيابة إلى عزيز المصري التهم الآتية:

1-استمالته الضابط عبد المنعم عبد الرءوف وهو من الأشخاص الخاضعين للأحكام العسكرية إلى الفرار من الخدمة.

2-إغراؤه الضابط حسين ذو الفقار باستخدام إحدى الطائرات على غير وجه حق وإغراؤه بسرقة طيارة ومغادرة المطار المكلف بحراسته (38).

ظل عزيز من غر محاكمة منذ قبض عليه في 6 يونيو 1941 حتى شهر أكتوبر. ولعل مرجع ذلك مجيء شهور الصيف وإعداد أدلة الاتهام والشهود وغيره.

وعلى كل فقد أوكل المصري عنه كلاً من الأساتذة حافظ رمضان ومصطفى الشوربجي وإبراهيم حمادة الناحل وفتحي رضوان. وقاموا بزيارة عزيز المصري في مستشفى الدمرداش حيث كان يعالج وأشارت الصحف إلى أن وزنه نقص 13 كيلو جرام مما جعل صحته لا تسمح له بالدفاع عن نفسه (39). لكن عزيز المصري أعلن أنه لا ينوي تأجيل نظر القضية بالرغم من مرضه. كما نشرت الصحف الصادرة في ذلك الحين أن عزيز المصري أدلى بأقواله بأنه في 15 مايو الماضي أخذ عفشه من البنسيون الذي يقطن به وقابل الطيار عبد المنعم عبد الرءوف والضابط حسين ذو الفقار ووضع العفش في الطائرة وهبطوا منها حيث اتجه الفريق عزيز المصري إلى مركز الشرطة وهناك ساعده الضابط على الحصول على سيارة جاءت بهم إلى ميدان الأوبرا. وقد أنكر عزيز المصري المدة التي قضاها في منزل عبد القادر رزق . وقال إن واجب الشهامة يقتضي منه ألا يبوح بشيء عن هؤلاء الناس الذين ساعدوه. وبسؤاله عن كيفية اتفاقه مع الضابطين قال أنه من جهة حسين ذو الفقار فإنه لم يعرف شيئًا عنه إلا قبل السفر ببضعة أيام. أما عن عبد المنعم فإنه كان قد تعرف به أثناء الخدمة، ثم استمر يقول أنه كان في حالة عصبية غير طبيعية منذ قررت الحكومة الاستغناء عنه لأنه كان باقيًا له خمس سنوات وتمنيت لو استطعت الخروج إلى تركيا لأن لي بها أصدقا.... ولقد حدث منذ فصلي عدة حوادث منها تفتيش منزلي وقد أبدى الطياران مساعدتهما إلى حتى النهاية.

وبسؤاله عن أن هذه هي الأسباب الوحيدة التي علل بها مسألة هربه قال انه سمع عن قرب اعتقاله. وبسؤاله عن أن هذه هي الأسباب الوحيدة التي علل بها مسألة هربه قال أنه سمع عن قرب اعتقاله. وبسؤاله عن غرض وصوله إلى بيروت أجاب أن كان بصدد إجراء صلح في العراق لصالح الإنجليز... ولما سُئل هل كنت تعرف على من ستنزل في بيروت؟ أجاب: كنت قد سمعت أنهم أطلقوا سراح رجال الحركة الوطنية الذين كانوا معتقلين وبما أنهم أصدقائي فقد كنت معتزمًا على النزول عند أحد منهم مثل نبيه العظم وشكري القوتلي وعائلة برو... ثم سُئل هل ضبطت معك نقود؟ أجاب: كان معي 1450 جنيه و 5 جنيه فكة وهذا المبلغ كنت أخذته مكافأة من الحكومة... ولما سُئل "ما الذي كنت تنتوي عمله بالنسبة للطائرة؟ أجاب: كنت سأقول أني المسئول الأول عن الحادث وأني خدعت الطيارين وإذا كان الضابطان لا يقبلان العودة فكنت سأبقيهما وأسلم الطائرة للقنصل المصري يتصرف (40).

وصدر قرار بتشكيل المجلس العسكري الذي أسند إليه محاكمة عزيز المصري برئاسة اللواء عبد الحميد حافظ باشا وعضوية اللواءات زكي الحكيم باشا وأحمد ناشد باشا وعلي حسنين الشريف باشا و[[شاكر منصور الروبي باشا الأميرالاي أحمد الصاوي بك ومحمد صبري بك ومحمود هاشم بك. وتولى مهمة نائب الأحكام الأميرالاي حسين محمود بك والأستاذ حسين خليل طنطاوي نائب قسم قضايا وزارة الدفاع وتولي مهمة المدعي العام الأستاذ محمد غالب عطية مفتش النيابات.

دفع المحامون بعدم اختصاص المجلس لمحاكمة المتهم (عزيز المصري).

روى لي الأستاذ فتحي رضوان "أننا (أي هيئة المحامين) دفعنا ببطلان قانون الأحكام العسكرية الذي تقرر محاكمة المصري به. وهو دفع نبهنا عليه مصطفى بك الشوربجي أحد أعضاء هيئة الدفاع، وهذا الدفع أساسه أن القانون الذي كان يحكم به الضباط والجنود المصريون هو مجموعة قرارات أصدرها سردار الجيش المصري لتنفذ في السودان فالسردار كان له صفتان قائد الجيش المصري وحاكم السودان العام، وبالصفة الأخيرة يملك أن يشرع للسودان ملكيًا وعسكريًا. فكانت قراراته بهذه الصفة قاصرة تشريعيًا على السودان ولكن للخلط بين الصفتين صدرت أوامره وقراراته الخاصة بالجيش المصري والسودان ي. وهذا مخالف لأصول التشريع المعمول بها في مصر في ذلك الحين إذ أن التشريع لا ينفذ إلا بقرار من الخديو منشور في الجريدة الرسمية. وكان في بعض الأحيان لا يصدر إلا بعد إقراره من الجمعية العمومية ومجلس شورى القوانين. ولكن قانون الأحكام العسكرية الذي حوكم به عزيز المصري لا يتمتع بكل هذه الخصائص فهو لم يصدر من الخديو ولم ينشر في الجريدة الرسمية. وكان الدفع يتعين القبول إذا أضفنا إلى ما جاء في دستور 1923 أن جميع الأدوات التشريعية من قوانين ومراسيم وأوامر يجب أن تعرض على البرلمان المنعقد سنة 1924 وإلا سقطت من تلقاء نفسها. ولم يعرض قانون الأحكام العسكرية على برلمان 1924. المهم أن هذا الدفع حال دون سريان المحاكمة وكان الضباط المشكلة منهم المحكمة يغلب عليهم دافع الوطنية فكانت النعرة الوطنية قوية في مصر آنذاك وكانوا (الضباط) ميالين للأخذ بهذا الدفع ولكن الأخذ به يسبب متاعب للحكومتين المصرية والبريطانية في فترة الحرب العالمية الثانية".

يبدأ المجلس العسكري يوم 9 أكتوبر 1941 محاكمة المصري حيث امتلأت القاعة بلفيف كثير من رجال الجيش وأقارب المتهمين وعندما جاء عزيز المصري من المستشفى إلى المحكمة قصد ومعه الدكتور محمد عجرمة إلى المستشفى العسكري للكشف الطبي فثبت أن صحته تساعده على المحاكمة (41).

قرار الاتهام:

وقبل عقد الجلسة ذهب نائب الأحكام الأميرالاي حسين محمود بك إلى قاعة الدفاع وأبلغهم وأبلغهم حدوث تغييرات في الادعاء وتتلخص فيما يلي:

1-أغرى المتهم (عزيز المصري) كلاً من الطيار حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف من سلاح الطيران الملكي المصري على الهرب من خدمة صاحب الجلالة الملك بمبارحة القطر المصري فركب ثلاثتهم طائرة حربية في ليلة 15-16 مايو من المطار العسكري بألماظة خلسة حتى هبطت اضطراريًا بجوار قليوب في الليلة نفسها ثم فروا واستمروا هاربين حتى قبض عليهم بواسطة السلطة المدنية وهم مرتدون ملابس مدنية مختفين بمنزل المدعو عبد القادر رزق .

2-إغراؤه شخصًا خاضعًا للأحكام العسكرية له شأن بالتحفظ على بضائع أميرية بسلبها وذلك أنه أغرى الطيار حسين ذو الفقار بسلب طائرة "أنسون" رقم 205 واستعمالها بغير حق لغير مصلحة أميرية مع كونه له شأن بالتحفظ عليها فاستقلا الطائرة خلسة وطارا بها ومعهما الطيار الأول عبد المنعم عبد الرءوف بقصد أخذها لبلد أجنبي.

3-إغراؤه شخصًا خاضعًا للأحكام العسكرية بسرقة بضائع خاصة بجهة أميرية إذ أغرى وحث الطيار الأول حسين ذو الفقار بسرقة الطائرة السابقة بقصد أخذها إلى بلد أجنبي ورافقه فيها ومعهما الطيار الأول عبد المنعم عبد الرءوف.

4-إغراؤه شخصًا خاضعًا للأحكام العسكرية بإهمال إطاعة أوامر المعسكر إذ أغرى الطيار حسين ذو الفقار وهو ضابط نوبتجي بمغادرة المطار مخالفًا بذلك الأوامر العسكرية.

بعد تلاوة قرار تأليف المجس العسكري توجه رئيسه إلى المدعي يسأل عما إذا كان الشهود حاضرين فأجاب بالإيجاب ثم سأل رئيس المجلس المتهم (عزيز المصري): هل تعارضون في تكوين المجلس؟ فأجاب المصري الذي تهمني هو أن هذه المحاكمة في أيد مصرية صادقة تخشى الله سواء كانت هذه الأيدي مسلمة أو نطرنية وتعرفون سعادتكم أنه يشترط في تشكيل المجلس العسكري الذي يحاكمني أن تكون هيئته أرقى مني وأنا أضرب صفحًا عن هذا الشرط وليس لي اعتراض على أي شخص من حضرات أعضاء المجلس.

وتبع ذلك وقوف حافظ رمضان قائلاً أن الدفاع يريد أن يحافظ على حقه في الاعتراض على أن هذا المجلس لم يشكل تشكيلاً عسكريًا سليمًا. ورد نائب الأحكام بالقول أرجو الرجوع إلى المادة 50 من القانون العسكرية وفيها يجوز تشكيل المجلس برياسة ضابط رتبته أقل من رتبة المتهم ولابد من الفصل فيما إذا كان المجلس مختص بمحاكمة المتهم أم لا قبل حلف اليمين.

وبعد المداولات وقف حافظ رمضان من هيئة الدفاع والتمس تأجيل القضية للاستعداد والاطلاع والدفع بعدم اختصاص المجالس العسكرية بنظر القضية لأن عزيز باشا غير خاض للقانون العسكري (42). وبعد مداولات المجلس قرر تأجيل القضية إلى يوم 22 نوفمبر 1941 مع استمرار حبس عزيز المصري باشا.

وعندما استؤنفت المحاكمة يوم 22 نوفمبر ذكر الدفاع أنه سبق أن طلب ضم ملف خدمة عزيز باشا وتصريحات حسين سري. وأجاب رئيس المجلس بأن أوراق التحقيق المطلوب ضمها إلى هذه القضية ضمت فعلاً، وأما فيما يتعلق بتصريحات رئيس الوزراء فهي موجودة في الصحف وفي مضابط مجلس البرلمان يمكن الرجوع إليها عند الحاجة. أما ضم دوسيه خدمة المتهم فقد اطلعت عليه وهو عبارة عن أوراق خاصة بالمعاش وطلب الإجازات وقال رئيس المجلس لي في هذا ما يفيد الدفاع بشيء ثم اعترض الدفاع في جلسة الثلاثاء 25 نوفمبر على تعيين نائب أحكام للمجلس العسكري وقال إن القانون نص على أن نائب الأحكام لا يصح تعيينه من غير الضباط فسأله رئيس المجلس. هل الدفاع مسلم من جواز تعيين محام نائبًا للأحكام أو مساعدًا للنائب فأجاب بالإيجاب وقال إذا أريد أن يعين لنائب الأحكام العسكري مساعدًا فيجب أن يكون محاميًا ورفعت الجلسة للبحث في هذا الدفع الثانوني: قال رئيس المجلس أنه لما كانت المسألة في حاجة إلى رأي قانوني أعلى فلذلك تؤجل الجلسة إلى يوم السبت الموافق 29 نوفمبر 1941 (43).

وفي يوم السبت 29 نوفمبر استأنف المجلس العسكري المشكل لمحاكمة عزيز المصري ورفيقيه عمله برئاسة اللواء عبدالمجيد حافظ باشا. وكان يلاحظ امتلاء قاعة الجلسة بكثيرين من الزائرين. وكانت الصحف المعاصرة تذكر أسماؤهم منهم منصور فهمي بك. محمد صادق باشا، صادق يحيى باشا، الفريق إبراهيم عطا الله وغيرهم. كما ذكرت المقطم أن حرم صالح حرب باشا وحرم الشوربجي بك كانتا من الحريصتان على حضور المحاكمة.

بدأت هذه الجلسة بأن أعلن رئيس المجلس رده على الدفع الذي قدمه الدفاع في الجلسة السابقة بشأن تعيين حسين طنطاوي بك نائبًا للأحكام. فقال أننا رجعنا إلى الضابط الأمر بتشكيل المجلس وبعد مراجعة بعض القواانين أحدث تغييرًا في تكوينه بأن يعتبر حسين طنطاوي بك مساعدًا لنائب الأحكام (بدلاً من اعتباره نائبًا للأحكام مع الأميرالاي حسين محمود بك) كذلك وافق المجلس على تنحية أحد أعضائه وهو علي حسنين الشريف لخصومة شخصية بينه وبين عزيز المصري (44). وقبل اللواء علي حسنين الشريف هذه التنحية. وانتقل من مكانه ليحل محله الأميرالاي محمد يسري بك. كذلك أعلن عن اعتذار الأميرالاي أحمد الصاوي بك ليجلس مجلسه الأميرالاي محمود هاشم وسأل رئيس المجلس عزيز المصري هل لك اعتراض على هذين العضوين؟ فأجاب بأنه ليس لديه اعتراض على أحد فأقسم العضوان الجديدان اليمين القانونية.

كان مقررًا في هذه الجلسة (29 نوفمبر) أن يبت في مسألة الإفراج عن عزيز المصري باشا ولكن الأستاذ فتحي رضوان طلب تأجيل البت في هذه المسألة إلى أن يقدم مذكرة في هذا الشأن فوافق المجلس على ذلك، ثم طلب رئيس المجلس من هيئة الدفاع الكلام عن بقية الدفوع الفرعية. فبدأ مصطفى الشوربجي كلامه عن عدم دستورية قانون الأحكام العسكرية لأنه لا يمت إلى تشريع البلاد في شيء إذ أنه مطبوع سنة 1893 ولم يعرض على مجلس النواب في أولى دوراته في 1924 لإقراره كما أقرت بقية القوانين علاوة على أن هذا القانون لم ينشر في الوقائع الرسمية للعمل به. وأشار في كلامه إلى أقوال خشبة باشا عندما كان وزيرًا للدفاع في 1926 وهو أن قوانين الجيش ظلت بعيدة زمانًا طويلاً عن رقابة البرلمان وقال أن واضع القانون العسكري هو السردار وهو الذي بدل فيه وأضاف إلى مواده ثم انتقل إلى شرح مبدأ (لا جريمة إلا بالقانون) وهذا المبدأ غير معمول به لأن كتاب الأحكام العسكرية ليس في مرتبة القانون فهو غير موضوع من هيئة تشريعية. وقال إن الدستور ينص على أن المصريين سواء في القانون وفي الحرية ولا يجوز إخراج العسكريين من نصوص الدستور ولا فائدة لهذه الحرية إذا لم يكن لها ضمانات وانتهى مصطفى الشوربجي من دفاعه طالبًا الإفراج عن عزيز المصري لعدم دستورية القانون الذي يحاكم به (45).

خلال الجلسات التالية للمحاكمة قامت هيئة الدفاع بالرد على رد المدعي بشأن دستورية قانون الأحكام العسكرية. وطلبت هذه الهيئة الإفراج عن عزيز المصري. كما قدم الأستاذ فتحي رضوان مذكرته التي انتهى فيها إلى طلب الإفراج عن موكله المصري. وانتهى الرأي إلى تأجيل القضية إلى يوم الخامس من يناير 1942 ليتمكن الدفاع من تقديم مذكرات مطلوبة كما قابل الأستاذ فتحي رضوان الفريق إبراهيم عطا الله وقدم إليه تقرير الأطباء عن حالة عزيز المصري طالبًا منه الإفراج عنه بصفته الضابط الآمر بتأليف المجلس مقابل كلمة شرف من عزيز المصري أن يحضر المحاكمة.

ساءت حالة عزيز المصري الصحية في السجن وتحت عنوان "عزيز المصري باشا" قالت المقطم في عددها 15 ديسمبر سنة 1941 (46) قال صباح اليوم مصدر مسئول في حكمدارية العاصمة أن الفريق عزيز المصري باشا سينتقل إلى المستشفى العسكري هذا وقد عاده في صباح اليوم الدكتور عجرمة وبعض أطباء المستشفى.

وبالفعل نقل عزيز المصري من السجن إلى المستشفى العسكري وانتهى الرأي في وزارة الدفاع الوطني إلى أن تكون رخص زيادة الفريق عزيز المصري باشا في المستشفى العسكري العام من اختصاص الضابط النوبتجي الموجود فيها.

وساءت صحة عزيز المصري. وذكر المقطم في عدده الصادر يوم 14 يناير 1942 أن صحة عزيز المصري باشا ساءت خصوصًا من تأثير برد الجو كما ذكرت أن مصطفى الشوربجي وحمادة الناحل المحاميين عنه قد قابلاه وأعدا طلبا سيقدماه إلى وزير الدفاع للإفراج عنه ولو بكفالة مالية يقدرها الوزير أو المجلس العسكري.

وبالفعل قدمت هيئة الدفاع عن الفريق عزيز المصري مذكرة إلى وزارة الدفاع تطلب فيها تحديد جلسة قريبة للنظر في القضية مع الإفراج عن المتهم ولو بكفالة، وذكرت الصحف الصادرة يوم 4 فبراير 1942 أنه من المنتظر أن تعين جلسة في خلال هذا الأسبوع لنظر القضية.

ولكن يوم 4 فبراير 1942 شهد مجيء النحاس إلى الحكم وتولي وزارة الدفاع حمدي سيف النصر باشا فقدمت إليه هيئة الدفاع تقريرًا عن سير القضية منذ بدأت.

الإفراج عن عزيز المصري وزميليه:

أصدرت سكرتارية مجلس الوزراء يوم السادس من مارس 1942 يبانًا أعلنت فيه أن صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء والحاكم العسكري العام دعا مساء أمس (5 مارس) حضرة صاحب السعادة عزيز المصري باشا والضابطين حسين ذو الفقار أفندي وعبد المنعم عبد الرءوف أفندي فقابلوا رفعته بحضور حضرة صاحب المعالي أحمد حمدي سيف النصر باشا وزير الدفاع وحضرة صاحب السعادة الفريق إبراهيم عطا الله باشا رئيس هيئة أركان الحرب والضابط العظيم الآمر بتأليف المجلس العسكري الذي كان يتولى محاكمتهم فأبلغهم رفعته بأنهم منذ الآن أحرارًا في الذهاب إلى منازلهم على أن يكونوا تحت الرقابة الوقتية لحين الانتهاء من اتخاذ ما يلزم من الإجراءات التي عهد إلى صاحب المعالي وزير الدفاع وصاحب السعادة رئيس هيئة اركان الحرب في اتهامها. وأسدى رفعته إليهم نصحه باحترام القوانين والتزام حدود الواجبات التي يقضي بها الشرف العسكري. فتقبلوا نصحه شاكرين وقطعوا على أنفسهم كلمة شرف بألا يصدر منهم ما يدعو إلى أي ريبة كانت نحوهم، وقد جاءت هذه النتيجة بفضل ما بذله صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا من المساعي والمفاوضات عند مختلف السلطات حتى كللت مساعيه بالنجاح وقوبل النبأ بارتياح (47).

وحين أتحدث عن الإفراج عن عزيز المصري بشأن محاولته الهروب لا أجد الأدلة التي تجعلني أقطع بأن هذه الجهة أو تلك هي التي قررت الإفراج عنه.

فالمعروف أن القضية ظلت تنظر أمام المجلس العسكري حتى صدر قرار بتأجيلها إلى أجل غير مسمى وذلك قبل الإفراج عن عزيز.

روى لي الأستاذ فتحي رضوان أن سيف الله يسري باشا (والد وحيد يسري الزوج الأول للأميرة شويكار) كان حريصًا على حضور جلسات محاكمة عزيز المصري وأنه كان على صلة وثيقة بالسفارة البريطانية وأن مصطفى الشوربجي نقل للأستاذ فتحي رضوان وللمحامين الآخرين الموكلين بالدفاع في القضية أن سيف الله يسري تدخل لإنهاء القضية عن طريق محامي السفارة البريطانية في ذلك الحين وهو مستر ألكسندر لكي يتوقف نظر الدعوى وأن مستر ألكسندر أخبر سيف الله يسري أن الحكومة البريطانية لا تمانع في وقف الدعوى بشرط موافقة حكومة حسين سري والسفارة البريطانية لا تريد التدخل وإنما الكلام في هذا الشأن يكون مع الحكومة ولكن المشكلة أن سيف الله يسري حسبما رواه الأستاذ مصطفى الشوربجي للأستاذ فتحي رضوان لا يريد أن يرجو حسين سري في ذلك لأنهما ليسا على وفاق، فهل فعل ذلك سيف الله يسري مع مصطفى النحاس عندما جاء إلى السلطة يوم 4 فبراير 1942.

على العموم لم أجد ما أقطع به في هذه المسألة. لكن بيان مجلس الوزراء الذي أشرت إليه يوضح أن الفضل للنحاس باشا في ذلك ولكن بيان مجلس الوزراء لا يؤخذ كدليل لإثبات أن النحاس باشا هو الذي سعى بالفعل إلى الإفراج عن عزيز المصري لأن مثل هذا البيان الرسمي الصادر من مجلس الوزراء يعطي الفضل بالطبع لرئيس المجلس في ذلك.

إن السؤال الذي يطرح نفسه من هي الجهة التي تدخلت للإفراج عن عزيز المصري؟

يذكر الأستاذ محسن محمد في كتابة التاريخ السري لمصر "من المؤكد كذلك أن مشاعر بعض القادة العسكريين المصريين كان مع الألمان إعجابًا وكانت مشاعر كثير من الضباط المصريين مع الألمان كراهية للإنجليز، ومن هنا نجد أن الجيش المصري لم يقف صامتًا، ولذلك بدأت محاولات عزيز المصري وزميلين له من الطيارين الهرب إلى ألمانيا وقد سقطت بهم الطائرة عند قليوب وقد اعتقل عزيز المصري وصاحباه عقب هذه المحاولة واعتقلهم حسين سري وأفرجت عنهم السفارة البريطانية بعد شهر من حادث 4 فبراير في محاولة لاكتساب صداقة الجيش وشباب الضباط وبالذات الذي يجد في عزيز المصري رمزًا أو أملاً، ولكن الإفراج عن الثلاثة لم يمنع الإنجليز من وضعهم تحت المراقبة.

ولعل البرقية التي أرسلها لامبسون رقم 548 إلى حكومته تؤيد القول أن السفارة البريطانية بعد تدخلها السافر في حادث 4 فبراير حاولت كسب ود ضباط الجيش المصري وخاصة الشبان منهم بالإفراج عن عزيز المصري فقد جاء في هذه البرقية ما يلي:

أبلغني الجنرال ستون –قائد القوات البريطانية- أني أثرت استياء في الجيش المصري وبالذات لدى الضباط الذين ليست لهم مشاعر خاصة نحو الملك، أنهم يعتبرون ما حدث إهانة للعرش باستخدام القوة.

2-وجد هذا صدى في اجتماعات عقدت بنادي الضباط تحدث فيها ضباط كثيرون وقد اقترحوا إرسال برقية يعبرون فيها عن ولائهم للملك واحتجاجهم علي وقد تصرف كبار الضباط من الحاضرين بحكمة.

3-وبينما كان الاجتماع مستمرًا تلقى الضباط رسالة من القصر بأن الملك يقدر ولاء ضباطه ويطلب إليهم الهدوء والعودة لعملهم.

4-علق الجنرال ستون على ذلك بأن التوتر قد امتد إلى الجيش المصري بسبب الأحداث الأخيرة ولكنه يتوقع هدوءًا تدريجيًا وأن الحادث لن يؤدي إلى عدم تعاون بين الجيشين المصري والبريطاني (48).

وإذا كانت السفارة البريطانية حسبما جاء في هذه الوثيقة تحس أن هناك توترًا داخل الجيش المصري بعد حادث 4 فبراير. فإن النحاس باشا الذي جاء إلى الحكم على حد قول أحمد ماهر له يوم الإنذار البريطاني المشهور أنك يا نحاس باشا تؤلف الوزارة على أسنة الحراب البريطانية بعد أن رأيت الدبابات بعيني رأسك كان يهمه كسب ولاء ضباط الجيش المصري وتقليل سخطهم الذي تولد إثر إنذار 4 فبراير بالإفراج عن عزيز المصري ومن هنا جاء بيان مجلس الوزراء ينسب للنحاس فضل الإفراج، ويشيد بالمساعي التي قام بها رفعته حتى كللت بالنجاح، والهدف من هذا البيان الصادر من مجلس الوزراء المصري العمل على زيادة شعبية النحاس وتخفيف ما التصق به من مجيئه للسلطة على أسنة الحراب البريطانية.

وبعد الإفراج عن عزيز المصري ذهب يوم 7 ماس (اليوم التالي للإفراج عنه) إلى قصر عابدين ودون اسمه في سجل التشريفات وطلب رفع آيات الولاء والإخلاص للذات الملكية بمناسبة الإفراج عنه (49) وذهب بعد ذلك على وزارة الدفاع حيث قابل حمدي سيف النصر شاكرًا له قرار الإفراج عنه، كما نشرت المقطم أن وزير الدفاع قابل الطيارين المصريين زميلي عزيز المصري باشا مع وفد من أسرتيهما وشكروا معاليه على ما بذله من جهد للإفراج عنهما وذهب الطياران بعد ذلك مع أسرتيهما إلى وزارة المالية لشكر مكرم عبيد باشا.


هوامش الفصل الرابع

(1) المقطم 18 مايو 1941.

(2) مقطم 23 مايو 1941.

(3)DF BELT (Raymond): the struggle for the Mediterranean 1939 -1942. PP.8-9 translated by A.Field.

(4)Hasluck: The second world war P.223.

(5)Kirk: The Middle East in the war P. 1960.

(6) أقوال عزيز المصري في التحقيق القضية الخاصة بهربه (غير منشورة).

(7) أنور السادات: البحث عن الذات ص46.

(8) القضية: أقوال حسين ذو الفقار صبري (غير منشورة).

(9) بول كارل: ثعالب الصحراء ص 305.

(10) المرجع السابق.

(11) أنور السادات: البحث عن الذات ص44.

(12) القضية (غير منشورة) أقوال جوزيف كروبات ص41 مولود بتربستا [مدير البنسيون الذي كان ينزل فيه عزيز المصري ].

(13) القضية (غير منشورة) اقوال حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف أمام النيابة العمومية.

(14) Evans: The Killearn diaries P. 171.

(15) ارجع إلى كتابنا عن عزيز المصري والحركة العربية ص 124.

(16) أقوال عبد المنعم عبد الرءوف في التحقيق بالقضية (غير منشورة).

(17) يقصد نهر النيل.

(18) المصدر السابق.

(19) ارجع إلى الملاحق.

(20) أقوال عزيز المصري في التحقيق (ارجع إلى الملاحق في هذا البحث).

(21) ارجع إلى تفاصيل أقواله في ملحق هذا البحث نقلاً من قضية هروب عزيز المصري (غير منشورة).

(22) أقوال حسين ذو الفقار صبري في التحقيق أمام النيابة العامة (ارجع إلى الملاحق في آخر البحث).

(23) أقوال لاهوفاري في التحقيق من واقع قضية الهروب (غير منشورة).

(24) أقوال عبد المنعم عبد الرءوف.

(25) أقوال حسين ذو الفقار.

(26) أقوال د. سامي كمال .

(27) ارجع إلى تفاصيل أقواله في ملاحق البحث.

(28) أقوال عبد القادر رزق في التحقيق (لم ينشر).

(29) المقطم 19 مايو 1941.

(30) محمد حسين هيكل مذكرات في السياسة المصرية ص2 ب214، 215.

(31) المقطم العدد 22 مايو 1941 ص2.

(32) المقطم 21 مايو 1941.

(33) أقوال عزيز المصري في التحقيق.

(34) من ملف القضية.

(35) أقوال ضابط المباحث محمد علي سالم من واقع أوراق القضية (غير منشورة).

(36) ارجع إلى الصحيفة المذكورة العدد 19 مايو 1941.

(37) المقطم 7 يونيو 1941.

(38) الأهرام 5 أكتوبر 1941.

(39) الأهرام 6 أكتوبر 1941.

(40) الصحيفة السبق الإشارة إلهيا 7/10/1941.

(41) المقطم 9 أكتوبر 1941.

(42) الأهرام: 10 أكتوبر 1941.

(43) المقطم 22 نوفمبر 1941.

(44) جاء هذا الطلب من هيئة الدفاع عن عزيز المصري.

(45) القضية (غير منشورة) وارجع كذلك إلى المقطم 29 نوفمبر 1941.

(46) ارجع إلى العدد المذكور ص 2.

(47) بيان مجلس الوزراء ارجع إلى المقطم 6 مارس 1940 ص3 تحت عنوان المصري باشا وزميلاه.

(48) محسن محمد التاريخ السري ص290.

(49) المقطم 7 مارس 1942.

الفصل الخامس : عزيز المصري والضباط الأحرار

سألت الأستاذ فتحي رضوان بحكم صلته الوثيقة بعزيز المصري عن صلة عزيز بالضباط الأحرار فقال، كان دوره دور الملهم دون المنظم والمدبر، فقد اتخذ الضباط الأحرار منه ومن أحاديثه عما فعله في تركيا في التصدي لاستبداد عبد الحميد وفي تبنيه للحركة العربية الدافع والشوق إلى عمل وطني جسور وقوي. لقد قوى عزيز فيهم الاتجاه الوطني المستمر وحبب إليهم روح المجازفة. وكان الضباط الأحرار يجلسون من عزيز المصري مجلس التلميذ من أستاذه. كانوا يحبونه غاية الحب ويقدرونه أعظم التقدير ويرون فيه المثل للوطني الثائر فهو بلا شك قد بذر بذور الثورة وحرضهم على التغيير وهزأ أمامهم من الملك فاروق ونزع من قلوبهم الخوف من هذا الملك وتلك كانت خدمة وطنية جليلة.

ويمضي الأستاذ فتحي رضوان فيوضح أن عزيز المصري كان على صلة بكل الحركات الوطنية وخاصة الشابة والمتطرفة. كان على صلة بمصر الفتاة وبي في الحزب الوطني وبالشيخ حسن البنا في الإخوان المسلمين وبالضباط الأحرار ويغير ذلك وغيرهم من الشبان الذين لا ينتمون لحركات معينة كالمتهمين في قنبلة سينما مترو (6 مايو) مثل كمال يعقوب. لكن ما يتعد اهتمامه بهذه الحركات صلة الأب والأخ والرائد فلم يدخل مع إحدى هذه التنظيمات في خطوات عملية للقيام بحركة أو تدبير انقلاب أو تحضير لثورة أو غير ذلك. وكان في وسع عزيز أن يجمع هؤلاء الشبان الذين يثقون فيه جميعًا وأن يخلطهم مع بعضهم ويشكل منهم جماعة متحدة تعمل شيئًا مؤثرا ومحدد المعالم. بل أنه كان يسخر أحيانًا من بعض الهيئات في حضور الهيئات الأخرى. يسخر من حسن البنا عند مصر الفتاة ويسخر من أحمد حسين أمامي وكان الجيل الجديد الذي عاصره عزيز شديد الانقياد له والتأثر به. ولكنه لم يتحدث معي في يوم من الأيام عن عمل محدد ذي مراحل، عمل وطني يبدأ ليحقق شيئًا في النهاية. كان دائم الحث على القراءة والاطلاع بل إنه كان كثيرًا ما يأخذ مني من الكتب ما يحب أن يقرأه فالقراءة له شيء غال وهام.

وفي تصريح لعزيز المصري لصحيفة الأهرام قال: في تلك الفترة التي كانت فيها خارج السجن زارني اليوزباشي جمال عبد الناصر مع بعض زملائه في منزلي بعزبة النخل وكان رأيي فعلاً أن الثورة هي الطريق الوحيد للخلاص من الظلم والاستبداد، وأعلنت رأيي هذا لعبد الناصر وزملائه بالرغم من أني لم أكن أعرفهم وبالرغم من أني كنت يومها مطاردًا من البوليس السياسي ولكني لا أدري لماذا أحسست بالارتياح والثقة في هؤلاء الضباط الذين تكررت زيارتهم لي بعد ذلك (1).

وقد أوضح جمال عبد الناصر ذلك في خطابه في الاحتفال بذكرى ثورة 1952 في شهر يوليو 1962. قال في سنة 1942 وجدنا في هذا البلد أناس لا تخاف، أناس يقولون رأيهم بصراحة يمكن هم من الجيل الماضي، أنا أذكر في سنة 1942 رحنا لعزيز المصري ويمكن كان معاي كمال حسين وعبدالحكيم (عامر) وبغدادي. رحنا للفريق عزيز المصري في بيته وكان في عزبة الخيل قلنا له إحنا ضباط قال والله ما أنا عارف أنتم ضباط ولا باعتكم البوليس السياسي على العموم ضباط أو باعتكم البوليس السياسي أنا حأتكلم اسألوا اللي أنتم عاوزينه. قلنا له: إيه العمل؟ قال العمل: الثورة عزيز المصري راجل النهاردة عمره 88 سنة من الأجيال الماضية لكنه ثائر قبض عليه ما خافش واعتقل ما خافش. كان ده بيدينا الأمل، إن فيه أمل فيه مثل عليا فيه ناس بتعتبر أنه لابد من إرادة التغيير وأن الشعب حيمشي مع إرادة التغيير.

أما دون برتز Don Pertz في كتابه الشرق الأوسط اليوم The Middle East Today.

فقد أوضح دور عزيز المصري في الحركة الوطنية، أنه بعد عقد معاهدة عام 1936 وضل كثير من أبناء الأسر الفقيرة الكلية الحربية وقد التقى هؤلاء الشبان في الكلية الحربية وهو المعهد الذي أسسه الإنجليز وناقشوا الاحتلال الإنجليزي كان هناك فاصل بين هؤلاء الضباط وقادتهم فهم أبناء كتبه وموظفين أو تجار، وما جاءت سنة 1942 إلا وأصبح للتنظيم فروع له في كل مكان في الجيش. وعندما قرر تشرشل سنة 1942 وضع كل إمكانيات مصر في خدمة الحلفاء ضايقهم ذلك واتصلوا بحسن البنا ولكنهم انفصلوا عنه لما رأوا –على حد قول برتز- أن هدفه مصلحة تنظيمه أكثر من المصلحة القومية، ثم كان قيام حرب فلسطين وإنشاء إسرائيل أساء غليهم، وفي سنة 1950 رأى هؤلاء الضباط أن يختاروا شخصية كبيرة ترأسهم وعرضوا على عزيز المصري ذلك لكنه اعتذر لكبر سنه فاختاروا محمد نجيب" (2).

وليس من خطة هذا البحث تناول تاريخ الحركة الوطنية إلا بقدر ارتباطها بعزيز المصري أو القدر الذي يتضح منه دور عزيز المصري فيها.

الحركة الوطنية، يروي المسيو جان والسيدة سيمون لاكوتير في كتابهما "مصر في حالة حركة" Egypte en Mouvement أن هذا الحادث قد أثار حقد عدد كبير من ضباط الجيش على الملك السابق فاروق وضاعت هيبة حزب الوفد منذ ذلك التاريخ (3).

حقيقة كان لهذا الحادث أثره الكبير عند المصريين. ولم يكن له إلا تفسير واحد هو أن الإنجليز قد أهانوا مصر في كرامتها وداسوا سيادتها في الوحل، وكان حادث له أثره فيما بعد إذ كانت طعنة على حد قول جمال عبد الناصر –ردت الروح إلى بعض الأجساد وعرفتهم أن هناك كرامة يجب أن يستعدوا للدفاع عنها(4).

وفي الوثائق البريطانية ما يوضح أثر هذا الحادث (4 فبراير) على الجيش المصري. فقد قدم رئيس البعثة العسكرية البريطانية تقريرًا عن الموقف داخل الجيش بعد هذا الحادث قال كان هناك ثلاثة من الضباط المصريين الذين أخذوا مسألة 4 فبراير بنظره خطيرة وحاولوا في ذلك الوقت تنظيم مظاهرة من الضباط الشبان للأعراب عن الولاء للملك. وقيل أنهم كانوا يدبرون ظاهرة معادية للسفارة. وقد تمكن كبار الضباط من إقناعهم بالامتناع عن مثل هذه الأعمال ومنذ ذلك الحين وهم خاضعون للمراقبة.

وكانوا بصفة دائمة مناهضين لبريطانيا وللحكومة. وقرر وزير الدفاع –حمدي سيف النصر- نقل هؤلاء الضباط من القاهرة، وقد اعترض اثنان منهم وكتبا خطابات احتجاج إلى الوزير، واتهم أحدهما الوزير في خطابه بأنه اتخذ هذا الإجراء بسبب واحد وهو أن هذا الضابط موال للملك، وطلب ضابط آخر إحالته إلى الاستيداع وهدد باتخاذ إجراء آخر إذا لم تتم الاستجابة إلى مطالبه. ولما لم يتلق ردًا على احتجاجه كتب خطابًا إلى قيادة الجيش بعث منه نسخًا إلى الملك ورئيس الوزراء واتهم هذا الخطاب وزير الدفاع بمخالفات منها المحاباة، وتفيد معلومات رئيس البعثة العسكرية أن الملك بمحاكمة هذين الضابطين وهما فؤاد صادق (قائد الجيش المصري بعد ذلك في حرب فلسطين) ومحمد كامل الرحماني حتى يفضحا –أثناء المحاكمة- الوفد ووزير الدفاع الوفدين بي بين الضباط بينما تمسك النحاس وحمدي سيف النصر وزير الدفاع بفصلهما واعتقالهما دون محاكمة(5).

وإذا كانت حركة ا لضباط الأحرار قد مرت بطورين على حد قول أنور السادات، الطور الأول الذي تولاه السادات منذ سنة 1939 حتى سنة 1942 عندما عاد عبد الناصر من السودان في ديسمبر 1942 وتسلمه التنظيم في أوائل السنة التالية عام 1943، فإن عزيز المصري كان بالنسبة لرجال هذا التنظيم المثل وكان يمثل جيل الشباب من العسكريين شخصية الثوري القديم الذي تتجسد فيه الكراهية الشديدة للإنجليز، وكان من جهة أخرى يمثل خبرة (العسكري الثوري) الذي أنشأ في شبابه التنظيمات السرية السياسية داخل الجيش والمؤمن بالعمل السياسي من خلال المؤسسات العسكرية، يذكر أنور السادات أن عزيز المصري قال له في أول ماقبلة له معه "إن كان معك خمسة أفراد مؤمنة فإني على استعداد اليوم أن أحمل طنبجتي وأتقدم لأي عمل لإنقاذ البلد.. لن يكون خلاص البلد إلا بانقلاب على أيد العسكريين(6).

ويتضح من مذكرات السادات التي دونها في كتابه البحث عن الذات مدى تأثره بشخصية عزيز المصري، وكنت مفتون بشخصية عزيز المصري منذ لقائنا في منقباد وكان معروفًا عنه أنه يكره الإنجليز حتى أن سير مايلز لامبسون السفير البريطاني في ذلك الوقت طلب من علي ماهر إقالته من منصبه بالجيش وأن علي ماهر اكتفى بإعطائه أجازة مفتوحة. كنا بحاجة إلى الإفادة من خبرات هذا المحارب العظيم وإرشاداته(5).

وعن طريق الشيخ [[حسن البنا]] تم تعارف بين عزيز المصري وأنور السادات سنة 1940. حييته وذكرته بلقائنا في منقباد ثم بدأت أتكلم في شئون البلد وأحوال الإنجليز وأحوالنا. لن أنسى أبدًا هذا اللقاء الأول مع عزيز المصري، كان ترددًا في التحدث معي.. وصارحني بأنه متشكك في أمري، وأني ربما كنت أحد رجال المخابرات أو أي شيء من هذا القبيل، قلت له: (لو كان الأمر كذلك لالتقيت بك مباشرة ولكني كما ترى أتيت إليك عن طريق الشيخ [[حسن البنا]] وأظنك تثق به.

فلما اطمأن سألني: ما سبب مجيئك وماذا تريد مني؟

قلت: نحن ضباط وفي مرحلة تنظيم يهدف إلى طرد الإنجليز من مصر وتغيير الأوضاع في مصر، وباعتبارك شخصية عسكرية كبيرة نتطلع إليها جميعًا نرجوا أن تسمح لنا بأن نرجع إليك من آن لآخر لكي ترشدنا وتفيدنا بخبرتك وتجاربك.

قال: أول درس أقوله لكم اعتمدوا على أنفسكم ولا تنتظروا أي رائد، المبادرة يجب أن تأتي منكم أنتم، نابليون وصل لرتبة جنرال وكان زعيمًا وعمره سبعة وعشرون سنة، كما سنك أنت؟ قلت 22 سنة قال: عال.

تعاونوا مع بعضكم البعض وهذا يكفي، ثم أخذ يشكو لي من البلد وأنه قد احتك بأناس كثيرين القيام بأعمال من هذا القبيل ولكنهم كانوا كلهم نصابين وانتهى الأمر كل مرة إلى لا شيء، قلت أننا جادون وأنه سيرى ذلك بنفسه عندما يسمح لنا بمداومة الاتصال به للمشاورة وتبادل الرأي.

قال: عظيم، أول شيء كما قلت لابد أن تعتمدوا على أنفسكم ثاني شيء الثقافة لابد أن تثقفوا أنفسكم، والثقافة ليست بالشهادات الثقافة بالقراءة، اقرءوا في كل الاتجاهات وفي كل المجالات، الشيء الثالث الذي أوصيكم به هو أن تجعلوا تنظيمكم محكمًا بحيث لا يتسرب إليه أي غريب أو تنال منه أية دسيسة، لقد عانيت الكثير في حياتي من الخيانات والغدر.

ثم التفت إلي وسألني فجأة: ما هي علاقتكم بالإخوان المسلمين؟ قلت لقد صارحت الشيخ البنا منذ البداية أننا نعمل من أجل مصر لا من أجل أي حزب أو كتلة.

قال: هذه نقطة البدء.. سليم، في نهاية اللقاء اتفقنا كيف نتقابل وأين.. كان بيته في عين شمس ولكنه كان مراقبًا من المخابرات المصرية والبريطانية.ز قلت أنه يمكننا التغلب على هذا فمعنا في التنظيم بعض ضباط الشرطة وفعلاً كنت أذهب لزيارته في بيته وأحيانًا كنا نلتقي في جروبي وفي مرحلة من المراحل كان يسكن في بنسيون وسط البلد اسمه فينواز.. وكنت ألتقي به هناك أيضًا، وهكذا استمرت اتصالاتي بعزيز المصري" (6).

ثم هذا التعارف بين عزيز المصري وبين تنظيم الضباط الأحرار بعد ترك عزيز للجيش، فلقد حدث نتيجة لإجبار عزيز عن ترك منصبه في الجيش أن اكتسب محبة وعطف الكثير من الضباط في الجيش خاصة الشبان منهم.

ولقد سبقت الإشارة عند حديثنا عن قضية الهروب كيف كان بيت عزيز ملتقى للكثير من هؤلاء الضباط لدرجة وعلى حد ما رواه عزيز في التحقيق أنه لم يكن يعرف أسماءهم. فقد قال حسين ذو الفقار صبري عندما سُئل في قضية الهروب أن عبد المنعم عبد الرءوف عندما قص عليه خبر تعرفه على عزيز المصري طلب منه حسين أن يبادر على الفور إلى أن يمكنه هو الآخر من التعرف على هذه الشخصية.

ونمضي مع رواية حسن ذو الفقار فيقول: "فأنا قلت لعبد المنعم هل هو ظريف أم متكبر: فقال لي انه ظريف ويحدثني بدون تكلف فقلت له أنا أحب أتعرف به والباعث لي على ذلك وإن كنت لم أصرح به إلى عبد المنعم أني كنت في الكلية الحربية أحب دروس التاكتيك كثير ولما رحل الطيران وأهملت التاكتيك وصرت أطلع في أمور الطيران ولكن أخبار الحرب الحالية جعلتني أتشوق لدراسة الأمور العسكرية العامة وكنت ابتدأت أطالع كثيرًا وأتناقش مع زملائي في الأمور العسكرية فوجدت أن دي فرصة وأن راجل مثل ده كان له خبرة عسكرية كبيرة وخصوصًا بعد ما أكد لي عبد المنعم أنه يحادثه بدون تكلف وأنا طلبت من عبد المنعم أن يعرفني به.."(7).

وحين فكر عزيز في الهرب اتصل بالضباط الأحرار وطلب مساعدتههم وتمكينه من ذلك. فقد روى أنور السادات كما سبق أن ذكرنا أن عزيزًا اتصل به وطلب مساعدة تنظيم الضباط الأحرار لتمكينه من السفر إلى العراق وذكر انه وصلته رسالة من الألمان يطلبون فيها سفره لمعاونة رشيد غالي الكيلاني في ثورته التي قام بها في العراق ضد الإنجليز، وأنذرت المخابرات البريطانية أنور السادات أن يبتعد عن عزيز ولما استمر اتصاله به نقل إلى مكان اسمه الجراولة قريب من مرسى مطروح وظل به إلى أن قبض عليه بعد اكتشاف محاولة فرار عزيز المصري.

حادثة العوامة وإعادة اعتقال عزيز المصري (13 أغسطس 1942)

لم ينعم عزيز المصري طويلاً بإطلاق سراحه بعد محاولة هربه فإذا كان النحاس قد أفرج عنه في 5 مارس سنة 1942. فإنه سرعان ما عاد إلى اعتقاله في نفس السنة وعلى وجه التحديد يوم 13 أغسطس.

وجاء هذا الاعتقال عقب اكتشاف شبكة تجسس ألمانية تضم أبلر أو حسن جعفر وهو اسمه العربي قد كان من أم ألمانية متزوجة من مستشار مصري، ورافق أبلر زميل له اسمه بيتر مونكاستر تنكر تحت اسم ساندي تنكر الاثنان في ملابس ضباط إنجليز ودخلا مصر على أنهما من ضباط الجيش الثامن وذلك من جهة صحرائها الغربية، وبهذا الزي الإنجليزي دخلا إلى معسكر بريطاني في أسيوط وأبلغا قائد المعسكر أنهما كانا في مهمة وتعطلت سيارتهما وطلبا سيارة اقلتهما إلى محطة السكة الحديد في أسيوط ليستقلا القطار إلى القاهرة.

وعن طريق الأستاذ عبدالمغني سعيد تعرف أبلر على أنور السادات الذي كشف له عن حقيقة جنسيته وحقيقة مهمته وطلب منه أن يقدمه إلى الفريق عزيز المصري وكان يطلق عليه لقب الزعيم (8) وكان أبلر وزميله قد استأجرا عوامة في النيل قرب الكيت كات استأجرتها لهما حكمت فهمي وكانت راقصة مصرية تعرف عليها الجاسوسان.

وقابل عزيز المصري الجاسوسين وأصدر أمره إلى أنور السادات أن يلبي طلباتهما وكانت الإسراع بإصلاح جهازهما اللاسلكي المعطل في العوامة وتسهيل الاتصال برومل من مقر قيادته بالعلمين.

يقول أنور السادات: ذهبت معهما إلى الدهبية لأرى الجهاز فوجدت جهازين أحدهما ألماني وهو المعطل وآخر أمريكي جديد تمامًا.. وهو جهاز قوي تمامًا وممتاز ولكن أبلر أخبرني أنه بعد عطل الجهاز الألماني اتصل سرًا بسفارة سويسرا التي كانت ترعى شئون ألمانيا في مصر.. وأن القائم على هذه الرعاية وهو ألماني قد أمدهما بجهاز لاسلكي أمريكي وجدت أنه أفضل بكثير من الجهاز الألماني المعطل ولكن ليست عند الجاسوسين مفاتيح فاقترحت أن أشغله بمفاتيح مصرية. ووافقا وبالفعل أخذت الجهاز معي وناديت (تاكسي) وضعته فيه وتوجهت إلى بيتي في كوبري القبة. في البيت جربت الجهاز فوجدته في منتهى القوة والجودة.. لم يبق أمامي إلا أن أخذ الجهاز إلى الورشة عندي في الجبل الأصفر وأجربه تجربة نهائية ثم نبدأ الاتصال (برومل)، لم تكن عندي أية فكرة أن أبلر وزميله ساندي مراقبان.. ولذلك فوجئت في الصباح عندما وصلتني أنا وحسن عزت رسالة من عبدالغني سعيد –وهو الأصل في صلتنا بالجاسوسين- بان أبلر وزميله قبض عليهما بمعرفة المخابرات البريطانية (9).

وكانت حكمت فهمي قد أبلغت عن الجاسوسين فوضعا تحت المراقبة البريطانية إلى أن قبض عليهما، وكان الذي قام بإلقاء القبض عليهما وكان البوليس الحربي البريطاني وضباط المخابرات الإنجليز دون أن يأخذوا أذنًا من السلطات المصرية بل إن إدارة الأمن العام المصرية. لم تحط بشيء عن إجراءات القضية لعل مرجع ذلك عدم ثقة الإنجليز دون أن يأخذوا إذنًا من السلطات المصرية بل إن إدارة الأمن العام المصرية. لم تحط بشيء عن إجراءات القضية لعل مرجع ذلك عدم ثقة الإنجليز في جهاز البوليس المصري ثم للحساسية الشديدة التي كانت لدى السلطات البريطانية في ذلك الحين إذ كان مسرح العمليات الحربية في شمال افريقيا في غير صالحهم على الإطلاق. وجاء تشرشل إلى القاهرة يوم الاثنين الثالث من أغسطس 1942 ليبحث الموقف في مصر وقبل مجيء طائرته سبقته طائرتان آخرتان تحمل جهازًا ضخمًا من الخبراء المتخصصين لبحث الموقف في الشرق الأوسط بأسره.

وأعاد تشرشل تنظيم قيادة القوات البريطانية في الشرق الأوسط ومصر للتصدي لرومل الذي كان يدق أبواب مصر من جهة الغرب (10) وأبلغ تشرشل على الفور بخير الجاسوسين الألمانيين ووعدهما بضمان حياتهما إذا ما اعترفا. وكانت نتيجة ذلك القبض على عزيز المصري وإيداعه السجن الذي استمر به هذه المرة عامين وثلاثة أشهر حتى تولى الحكم الدكتور أحمد ماهر فأفرج عنه في 20 نوفمبر 1944 وقد واشترط الإنجليز للموافقة على ذلك الإقامة الجبرية له في بيته في عين شمس.

اغتيال أمين عثمان والقبض على عزيز المصري 5 يناير 1946:

قبل أن يقبض على عزيز المصري في قضية اغتيال أمين عثمان قبض عليه قبل ذلك في حادث اغتيال الدكتور أحمد ماهر في 25 فبراير 1945، ومن المعروف أن عزيز المصري لم يكن يشجع أعمال العنف ولم يكن يعلم بتدبير مقتل أحمد ماهر لكن التحقيق أجري معه فلما ثبت أنه لم تكن له صلة بهذا الحادث أفرج عنه فلما كان حادث اغتيال أمين عثمان يوم الخامس من يناير من العام التالي فأعيد اعتقاله.

وحين يرجع الباحث إلى مذكرات اللورد كيلرن يستطيع أن يستشف بعض الأسباب التي كانت تدفع إلى اعتقال عزيز المصري أثر هذه الأحداث.

عن حادث أحمد ماهر قال كيلرن عندما سمع بالحادث أسرع إلى منزل أحمد ماهر ووجد شقيقه هناك وقد له العزاء، كان أحمد ماهر صديقًا لي عدة سنوات، لقد خسرت بموته صديقًا عزيزًا ومعاونًا ممتازًا من الصعوبة التنبأ بأثر هذا الحادث الذي له تأثيره الشديد على كل منا ومصر. ويبدو أن الذي أقدم على اغتياله وطني متطرف Extreme Nationalist وأطلق الرصاص على رئيس وزراء مصر لاقتراح دخولها الحرب. لقد قالوا عند اجتماع مجلس الوزراء أن أحمد ماهر تلقى تهديدًا بالقتل من هذا الرجل صباح اليوم إذا ما مضى بمشروعه. وقد سلم أحمد ماهر هذا التهديد إلى سلطات الأمن لكن إجراءات غير كافية لم تتخذ لحمايته (11).

كان المسئولون المصريون يظنون أن عزيز المصري وراء كل عمل يقدم عليه أحد الوطنيين فيسارعون إلى اعتقاله، وإذا كان هذا البحث لن يتناول بالتفصيل الظروف التي دفعت بالعيسوي إلى اغتيال أحمد ماهر والتي أرجو أن أقدمها لدارسي التاريخ في وقت لاحق إن شاء الله، فإن الوفد قد لعب دورًا لا يمكن إنكاره آنذاك في تعبئة الرأي العام المصري ضد فكرة إعلان مصر الحرب. يقول الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه "مذكرات في السياسة المصرية" ولما كان إعلان الحرب على اليابان لا يمكن أن يعتبر إعلانًا لحرب دفاعية تستطيع الوزارة أن تشتغل به، فقد تقرر عرض الأمر على البرلمان في جلسة يعقدها مجلس النواب ثم يعقدها مجلس الشيوخ يوم 25 فبراير 1945 وتكلم فيها رئيس الوزراء ليدلي بالحجج التي تسوغ إعلان الحرب. وكانت الجلسة تبدأ بمجلس النواب الساعة الخامسة بعد الظهر، وفيما أنا ذاهب إلى مجلس الشيوخ قبيل هذه الساعة تناولت جريدة البلاغ التي تنطق بلسان الوفد، فإذا فيها بيان بتوقيع (مصطفى النحاس ) رئيس الوفد يتهم فيه الوزارة بأنها تضر بمصالح البلاد ضررًا يكاد يبلغ الخيانة بما تزيد من إعلان الحرب ويلصق بالوزارة لذلك أبشع التهم" (12).

سُئل عزيز المصري في التحقيق الخاص بقضية أمين عثمان:

س: ورد في التحقيق أن بعض الذين يريدون تحقيق أغراض سياسية معينة اتجهوا إلى الاتصال بك لمساعدتهم على تنفيذ أغراضهم.

ج: أنا ما عنديش حزب أساعد بيه أحد ومفيش عندي غير إرشادات.. والزيارات متوالية عندي من يوم خروجي من الاعتقال، ومنهم شيب ومنهم شبان وأكثرهم لا أعرفهم.. وأنا دائما كنت أبدأ حديثي معهم بأن نصفهم من القلم السياسي ونصفهم ثوريون.. فكيف نتنظرون أن أعطي لمثل هذه الطوائف اسرارًا أو آراء شاذة مثل قتل أحمد ماهر أو اتجاهات عنيفة أيًّا كانت بل العكس حصل كثيرًا أن "أعطيت جماعات توسمت فيهم الذكاء والفطنة كتبًا لتخليصها بعد فهمها وإبداء آرائهم فيها وهي من كتب التاريخ والأدب..".

كان مقتل أمين عثمان في 5 يناير 1946 إعلانًا بأن الحركة الوطنية في مصر قد مضت تتصدى لأولئك السياسيين المتعاونين مع الإنجليز وكان في مقدمتهم بالطبع أمين عثمان الذي كان رئيسًا لجماعة اسمها رابطة النهضة تسعى إلى زواج (كاثوليكي) بين مصر وإنجلترا.

وكان وقع هذا الاغتيال سيئًا لدى السلطات الإنجليزية وذلك بالنظر لماضي أمين عثمان السياسي ودوره المتعاون والمتهالك مع الإنجليز إلى أبعد مدى.

يقول كيلرن في مذكراته يوم السبت 5 يناير 1946، جاءت الأنباء الليلة أن أمين المسكين قد ضرب.

News came tonight that poor Amin had been shot فقد أصيب برصاصتين نفذت واحدة إلى الصدر والأخرى غير مؤدبة، جاءتني رسالة من كيتي Kitty (زوجة أمين عثمان) أنه في حاجة إلى نقل دم وأنهم يحتاجون مشورة جراح، هل تستطيع أن تحضر خبيرنا الجراح أيدال واكلي Walely لكي يقدم مساعدته! قلت سوف أعمل جهدي وقلت لتوني كار أن يتصل بالأدميرال وينظم معه المساعدة.

يبدو أن أمين أصيب وهو في طريقه إلى نادي فكتوريا القديم من الأكيد أنه عمل شيء أن هناك كثيرًا من هذا النوع في الجو الآن There is too much of sort of thing in the air just now، ولكن لماذا يركزون على أمين المسكين الضعيف But why Pick on Poorlittle Amin ذهبت إلى مستشفى الإنجلو أمريكان بعد الظهر حيث وجدت رسالة أن حالته سيئة. وفي الساعة العاشرة والنصف ذهبت إلى مستشفى الدكتور مورو في الجيزة، ازدحم مدخل المستشفى بالسيارات.. وجدت كيتي السيئة الحظ هناك، وقد وجدت أنا وكيتي وفرغلي (محمد فرغلي باشا خبير القطن المشهور) حجرة جلسنا فيها. كانت هذه الحجرة خاصة بأحد المرضى حيث جلسنا وجلست كيتي تفرغ عندي مأساتها، كانت في طريقها إلى السينما عندما سمعت بالحادث وفي الحال لحقت بأمين حيث كان ما يزال في وعيه، ما من شك في أن الجروح عميقة وقد دخل إلى حجرة العمليات لإجراء عملية أخرى، العملية تجري ولقد صممت أن أرى ما يحدث لأرسل على الأدميرال واكلي مذكرة ليقول لي أي كلمة، جاءني الجواب أن العملية انتهت ويمكنني أن أنزل فعلت ووجدت الأربع أطباء دكتور مورد الذي جاء بناء على طلب أمين، أدميرال واكلي بريجادير أليوت سميث ودكتور كاتز الألماني الذي جاء من الإسكندرية، كان يبدوا أن الحالة سيئة، جاء النحاس وسراج الدين، أعتقد أنهما كانا في حجرة العمليات أثناء إجرائها.. كان يبدو من أن مسلك مورو أن الحالة سيئة والأمل ضعيف.

تحدثنا عما إذا كانت هناك حاجة لتمريض معين جيد ثم اقترحت أن يتحدث أحد بكل تأكيد إلى كيتي أمين عثمان، لقد أخذوها لدهشتي لحرجة ممتلئة بنا جميعًا، اعتقد أنها جريئة لدرجة مثيرة للدهشة Amazingly pluchy لأنه بينما كانت تتحدث إلى دكتور كاتز فقد دخلت في الحديث وسألت عما إذا كان هناك خطر حقيقي وقال في إجابته وهو كذلك، وبرغم ذلك فإنني أتذكر أن كيتي التفتت إلى ورجتني أن آخذ في سيارتي الجراحين البريطانيين لأنها متأكدة أنهما لن يجدا سيارة تاكسي في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

أخذتهما معي إلى العشاء وفي الطريق سألتها إذا كانت هناك فرصة، قال واكلي قال انه يعتقد ذلك إذا ما كان هناك خطر كبلار بينما كان أليوت سميث أقل تشجيعًا.

وعندما عدت أخبرت جاكلين (زوجة لامبسون) التي تضايقت للغاية Who hed been terribly upset أنها كانت تحب أمين للغاية وكانت تلقى منه وداعة..

عدت إلى السفارة ليدق التليفون يخبرني أن أمين مات وأن جثمانه أرسل إلى منزله، إن هذه مأساة حقيقية ليس فقط لكل من عرف أمين بل لبلده ولنا This really is a terrible tragedy not only for all those of us who knew Amin so well but also to his Country and ours..

إنني في الحقيقة أتوقع مصاعب في الأفق في الأيام القادمة بخصوص مشاكل المعاهدة.. وبدون أمين لن يكون هناك من يقوم بدور الفرملة والعازل بيننا وبين الوفد، كان أمين صديقًا حقيقة ومخلصًا لنا ووطنيًا عظيمًا.

Indeed I shudder to think of the difficulties ahead in these coming days of treaty problems etc. with no Amin to act as brake and general buffer between us and the Wafd. Amin was a true and loyal friend for ours and a great patriot.


وفي مذكراته يوم الأحد 6 يناير 1946 يتحدث كيلر عن جنازة أمين عثمان وازدحام الشوارع بالناس، عن الجمهور معاد للحكومة الحالية ويقول أنه وجد واحد داخل مدخل السفارة هيكل باشا وحسين سري الذين جاهدوا ليشقوا طريقهم بصعوبة وسط الجمهور "كنت غضوبًا بالنسبة للمنظر العام لدرجة أنني صببت بعضًا منه على هيكل السيء الحظ، وفي هذا كان يساعدني سري الذي قال أنه ربما يكون هيكل الضحية التالية. وأكد سري أنه لدى وزارة الداخلية قوائم بأسماء الشباب المتعصب الذين يقومون بأعمال العنف fanaticaly youths وتساءل سري لماذا لا يقبض عليهم وقلت أنا أيضًا لماذا I added indeed why (13).

وبالفعل بدأت حملة اعتقالات كبرى عقب حادث أمين عثمان وقبض على عزيز المصري. وقدمت قضية اغتيال أمين عثمان إلى محكمة جنايات مصر تحت رقم 1129 جنايات عابدين 1946 واتهم فيها 26 متهمًا وهم:

1-حسين توفيق أحمد – 22 سنة – طالب بمدرسة فؤوال الأول.

2-محمود يحيى مراد – 22 سنة – طالب بكلية السنة.

3-محمود أحمد الجوهري – 25 سنة – مدرس بمدرسة الأمير عمر طوسون.

5-السيد عبد العزيز خميس – 20 سنة – طالب بكلية الآداب بجامعة فؤاد.

6-محجوب علي محجوب – 20 سنة – طالب بمدرسة الدواوين الثانوية.

7-محمد أنور السادات – 28 سنة – مقاول نقل بالسيارات.

8-محمد إبراهيم كامل – 20 سنة – طالب بكلية الحقوق بجامعة فؤاد.

9-سعد الدين كامل – 22 سنة – محام تحت التمرين ويقيم بشارع صبحي.

10-نجيب حسين فخري 22 سنة طالب بالمعهد العالي للعلوم المالية.

11-محمد محمود كريم 22 سنة طالب بكلية الهندسة جامعة فؤاد.

12-مدحت حسين فخري -19 سنة طالب بالمدرسة السعدية.

13-سعيد توفيق أحمد – 17 سنة طالب بمدرسة فؤاد الأول الثانوية.

14-مجدي عبد العزيز أبو سعدة – 19 سنة بالمدرسة السعيدية.

15-أحمد وسيم خالد – 17 سنة طالب بالمدرسة السعيدية.

16-مصطفى علي كمال حبيشه - 17 سنة طالب بالسعيدية.

17-محمد علي خليفة -22 سنة طالب بكلية الهندسة.

18-محمد عبدالفتاح الشافعي – 22 سنة طالب بكلية الهندسة.

19-عباس محمود المرشدي – 22 سنة طالب بكلية الهندسة.

20-علي عزيز دياب – 20 سنة طالب بكلية الهندسة.

21-أحمد خيري عباس – 20 سنة طالب بكلية الهندسة.

22-أحمد محمد خليل الحلواني – 20 سنة طالب.

23-كامل محمد إبراهيم – 20 سنة طالب بمدرسة فؤاد الأول.

24-عبدالهادي سعود – 22 سنة طالب وموظف بالمعارف.

25-جول أسود يفم – 21 سنة كاتب بنادي سبورتنج (14).

26-أنور فايق جرجس – 23 سنة شريك في محل راديو هونولولو.

أردت بسرد قائمة المتهمين أن أوضح أن أعمارهم كانت متقاربة ومعظمهم طلبة إما في المدارس الثانوية أو الجامعة وهم الجيل الذي نشأ وترعرع ليرى السيطرة البريطانية على بلده والسياسيين المتهالكين على التعاون مع إنجلترا، وقد شهد هذا الجيل الحدث الذي أصاب كل فرد منهم في كبريائه وهو حادث الرابع من فبراير 1942 وكيف سقطت هيبة الوفد بعد هذه الحادثة.

يقول أنور السادات في مذكراته: ولكن هل قتل حفنة من الجنود الإنجليز هو الطريق إلى تحرير مصر؟ طبعًا لا. ربما كان هذا العمل مجرد تدريب.

ولكن المهم أن نتخلص ممن كانوا يساندون الإنجليز في ذلك الوقت، وكان على رأس هؤلاء في نظرنا مصطفى النحاس باشا رئيس حزب الوفد الذي سقط في نظرنا منذ أن فرضه الإنجليز بقوة السلاح في 4 فبراير 1942 فلا شيء يعادل خيبة الأمل التي يصاب بها الشباب في زعيم كان يومًا مثلهم الأعلى (15).

وفي أوراق التحقيق الخاصة بالقضية وجدت ما يلي:

قال المتهم محمد علي خليفة (المتهم السابع عشر) أنه عرف حسين توفيق أول ما عرف من الجمعية من محمود يحيى مراد (المتهم الثاني) وأنه من تاريخ أول نوفمبر 1942 عرض عليه الثورة بالسلاح، فقبل عرضه وعرض عليه محمود مراد بث الفكرة في الشعب وأن جمعة وعلي حسين وخمس من أعضاء الجمعية، كما قرر أنه سمع من مراد عن جمعية أخرى ولا يعلم أيهما كان واسطة الاتصال بها عمر (المتهم الرابع) أو الجوهري (المتهم الثالث)، وفهم أن رئيسها أو من أعضائها عزيز المصري باشا ويعاونهم ضباط متقاعدون، وأن من أعراضها عزل الجيل القديم من الجيش وقال أنه انضم إلى جمعية الإخوان المسلمين قل انضمامه إلى هذه الجمعية وقال إن حسين توفيق يميل إلى الإيذاء وأنهم كانوا يحسبون أن مهمتهم تنحصر في بث الدعوة والفكرة والآخرون منفذون الجرائم، وأن حسين توفيق ذكر أن سعد الدين كامل ومحمد إبراهيم من الأعضاء، وأنكر معرفته بأنور السادات والطيار أحمد مسعود وقال أنه امتنع عن التبليغ لأنه كان واقعًا تحت تهديد.

ولكن لم ينهض لدى النيابة دليل لكي تقدم عزيز المصري ضمن قائمة المتهمين فاكتفت باستجوابه واعتقاله.

ورد في محضر الاستجواب:

س- هل تنتمي إلى حزب أو جماعة سياسية؟

ج- لا.

س- هل تتصل بأحد المشتغلين بالمسائل السياسية؟

ج- الهيئة الراقية الحكومية في مصر مشتغلة بالمسائل السياسية ومعارفي منهم.

س- ألا يكون من رأيك تحبيذ استعمال وسائل العنف من الداخل للوصول إلى تحقيق فكرتك في الاستقلال الداخلي للبلاد؟

ج- كنت حبذتها وأنا شاب في الثورة القومية العثمانية حين كنت ضابطًا في الجيش العثماني وكانت الثورة نتيجة عمل هذا الجيش، ومع ذلك فلم يعرف عني ذاك الوقت أني سمحت لأحد إخواني أن يقتل أي رجل حتى من الذين كنا نعتبرهم أعداء للوطن، ومنهم قائد الحامية التي كنت فيها، وكانت حجتي أن هذا الرجل قليل الإدراك، ولكن له ولد نابغة يدرس في استانبول وقلت أن الولد هو المستقبل، وقتل والده يضر بالمستقبل.

س- وهل هذه آراؤك الحالية؟

ج- وإلى أن أموت.

س- وهل هناك ممن تتصل بهم ممن يعتنقون هذه المبادئ؟

ج- لم أجد بعد في مصر فردًا واحدًا مؤمنًا إيمانًا حقًا راسخًا في أي مبدأ من المبادئ العامة بها وجدت في بعض الأوساط نبلاً في الأخلاق وميلاً إلى الرقي وحبًا شديدًا للوطن وكراهية للاحتلال وآمالاً عالية للاستقلال، ولكن لم أجد برنامجًا عمليًا أو شبه برنامج للوصول أو لرسم طريق تصل به البلاد إلى تلك الأهداف.

س- ورد في التحقيق أن بعض الذين يريدون تحقيق أغراض سياسية معينة اتجهوا إلى الاتصال بك لمساعدتهم على تنفيذ أغراضهم.

ج- أنا معنديش حزب أساعد بيه أحمد ومفيش عندي إرشادات والزيارات متوالية عندي من يوم خروجي من الاعتقال.

ومنهم شيب ومنهم شباب وأكثرهم لا أعرفهم.. وأنا دائمًا كنت أبدأ حديثي معهم بأن نصفهم من القلم السياسي ونصفهم ثوريون فكيف تنتظران أن أعطي مثل هذه الطوائف أسرار أو آراء شاذة مثل قتل أحمد ماهر أو اتجاهات عنيفة أيًّا كانت، بل على العكس حصل كثيرًا أن أعطيت جماعات توسمت فيهم الذكاء والفطنة كتبًا لتخليصها بعد فهمها وإبداء آرائهم فيها وهي من كتب التاريخ والأدب.

س- هل من تذكر حضورهم لك كانوا يحضرون بصفتهم أفرادًا أو أعضاء جماعات؟

ج- لا دول ناس ما يعرفوش بعض.

س- هل لم تكن تتحرى أن تكون من بين هؤلاء أو غيرهم جماعة أو جماعات لتنفيذ أغراض معينة؟

ج- لا.

وقدمت النيابة المتهمين إلى المحاكمة، وجاء في مرافعتها أن سبب تلك الجرائم هو انحراف الشباب إلى طريق الغواية ونزعته الإجرامية وأنهم بدأوا بمحاولة قتل الإنجليز ثم بمحاولة قتل النحاس وانتهت إلى قتل أمين عثمان ثم قتل شاب آخر وهو ممدوح الشلقاني وأن هؤلاء المتهمين مذنبون حتى ولو كان الدافع إلى هذا هو الوطنية وحب الوطن وأن هذه الجرائم مهما كان الباعث عليها من خلاف في الرأي هي نشر الجرائم وأكثرها وبالاً. ذلك لأنها تصيب من الأمة قادتها الذين أخلصوا لأوطانهم وهم قادة يستعذبون النقد على مرارته والقدح على شناعة ذلك لأنهم يرون في النقد ما يصلحون به أنفسهم لأنهم رجال كفاح وصراع ومقارعة لا يجيدون عن الطريق مهما تحملوا وهؤلاء القادة على قلتهم يحيون الأمة مواتها، إذًا فموت هؤلاء القادة يصيب الأمة في الصميم ويفقدها عنصر من أكبر العناصر النشطة الفعالة (16).

وأفرج عن عزيز المصري بعد ثلاث أشهر من اعتقاله، ومضت المفاوضات بين مصر وبريطانيا بعد الحرب إلى غير نتيجة ويتسع نطاق الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية بعد الحرب العالمية الثانية وتتقدم بريطانيا بمقترحات للدفاع عن الشرق الأوسط تتلخص في ضرورة وجود قاعدة في مصر لصيانة وتموين القوات المصرية والبريطانية في الشرق الأوسط وضرورة أن تكون القيادة العامة لقوات الدفاع عن الشرق الأوسط في منطقة قناة السويس ورأي الفيلد مارشال سليم الذي كان يفاوض صلاح الدين وزير خارجية الوفد ضرورة أنه ينبغي أن تتضمن خطة الدفاع عن الشرق الأوسط وجود قوات متحركة ضاربة يكون خير مكان لها عند قناة السويس ، وتكون مهمتها أن تتقدم إلى حدود الاتحاد السوفيتي عند نشوب الحرب لتقوية مقاومة بلاد الشرق (17).

وانتهت مصر إلى إعلان إلغاء المعاهدة يوم الثامن من أكتوبر 1951 واستجاب الشعب المصري في عزم وتصميم للنداء الذي وجهته له الحكومة التي كان يرأسها النحاس آنذاك بمنع التعاون والتعامل مع أفراد قوات الاحتلال المغتصبة. وكان العمال على رأس من استجاب لهذا النداء برغم الأجور الضخمة التي كانت تدفعها لهم قوات الاحتلال. وشعرت القوات البريطانية في منطقة القناة بالعزلة فلا شك أنه من جهة النظر الحربية تقدر قيمة أي قاعدة حربية من الوجهة الاستراتيجية أولاً بمدى تعاون شعوب المنطقة التي توجد بها القاعدة مع القوات المرابطة، فإذا انعدم هذا التعاون صارت قاعدة عديمة الجدوى بالمرة مهما كانت أهمية موقعها وخطوط المواصلات التي تربطها. ومثال ذلك ما حدث بالنسبة لقاعدة السويس بعد أن اعندم تعاون المصريين مع القوات البريطانية إذ وجدت هذه القوات المرابطة في منطقة السويس نفسها في عزلة تامة، وصار عليها أن تركز مجهودها نحو حماية نفسها، وأخذت السلطات العسكرية البريطانية تبحث في إمكان جلب عمال من السودان وقبرص وجزائر موريشيوس في المحيط الهندي ليحلوا محل العمال المصريين الذين تركوا العمل في المعسكرات البريطانية، لكن استحال على القوات البريطانية أن تسد العجز الذي تركه انسحاب العمال المصريين. ومن ثم أثارت هذه المقاومة السلبية التي بدأها المصريون ثائرة قوات الاحتلال البريطاني فبدأت في القيام بأعمال استفزازية ومن ذلك احتلالها كوبري الفردان في السابع عشر من أكتوبر وكانت تهدف من وراء ذلك إلى عزل الجيش المصري المرابط في سيناء على حدود إسرائيل عن بقية البلاد المصرية إلى غير ذلك من الأعمال.

وبدأ الضغط الشعبي على الحكومة المصرية يزداد فكان أن سمحت بتشكيل كتائب التحرير التي أسندت قيادتها العامة على عزيز المصري.

نشرت صحيفة المصري في عددها الصادر يوم 22 نوفمبر 1951 ما يلي:

المصري يستطلع الآراء بشأن كتائب التحرير –عزيز المصري يقول أن معاونة الحكومة أدعى للنجاح –استطلع مندوب المصري راي سعادة الفريق عزيز المصري باشا في الكتائب فقال سعادته:

أن إنسانًا ما لا يستطيع أن يتهم هذه الحكومة بتهمة، والحكومة عندما ألغت المعاهدة لابد وقد فكرت في الخطوات التالية وأن أول شيء يجب أن ينظر إليه كل مصري هو التفاهم مع الحكومة، وأنا شخصيًا عندما أسند إلى قيادة الكتائب اشترطت أن أكون متفاهمًا مع الحكومة في هذه الحركة. ثم قال أن أدعي شيء للنجاح في تحرير البلاد هو التعاون مع الحكومة فهي تعتبر من أذكى الحكومات التي تولت الحكم في مصر والوقت الحاضر يساعدها على أن تكون كذلك وأن تمضي في طريقها بنجاح وخلاصة القول لابد من إشراف الحكومة على الكتائب. (18)

يقول لأستاذ طارق البشري في كتابه عن [[الحركة السياسية في مصر 1945 – 1952 لم يبق إلا أن تترك الحكومة للحركات الشعبية – المنظمة والتلقائية – أن تتولى تنفيذ قرارها بإلغاء المعاهدة وطرد الإنجليز. ولا يكون ذلك إلا بالسماح بتكوين كتائب التحرير. ولكن الكتائب عندما تتكون تشكل تهديدا للسلطة والنظام كله... والسماح بوجود الكتائب يعني السماح بإرساء أسس دولة جديدة ونظام جديد يتشكل طبقا للموقف السياسي والاجتماعي الذي تتبناه هذه التنظيمات وتضعه في التنفيذ. ولاشك أن قيادة الوفد وحكومته كانتا ضد وصول الأمر إلى هذا الوضع وحتى لو شاءتا ذلك فلم تكن سلطة الحكم كلها في يد حكومة الوفد، ولم يكن حزب السلاطة أو المشاركون فيها على رأسهم الملك ليتركونها تنفذ مشيئتها. ولكن المشكلة تبقى قائمة في الجانب الآخر، فالحكومة أن منعت تكون الكتائب أو حاربتها حكمت على نفسها أمام الشعب بعدم السماح بتحديه.. وبذلك تفقد شرعية وجودها كحكومة تنفذ قرارا أصدرته والتفت حوله الجماهير.

تمثلت محنة الحكومة في وجودها بين شقي الرحى أما أن يحكم عليها النظام القائم بعدم الشرعية ويقذف بها بعيدا عن اتخاذها أي خطوة تهدد وجوده، وأما أن تحكم عليها الجماهير بعدم الشرعية عند تقاعسها عن اتخاذ هذه الخطوة.. ولكن نجح الضغط الشعبي العام في إيجاد الكتائب المسلحة. (19)

وهذا القول الذي سبقت الإشارة إليه صحيح في حقيقته فالحكومة الوفدية التي ألغت المعاهدة ووجهت بتيار شعبي جارف مؤيد لهذه الحركة.

فالدارس لتاريخ هذه الفترة يتضح له كيف انهالت التبرعات على الحكومة وكيف اندفع أفراد الشعب للانضمام إلى هذه الكتائب.

في صحيفة المصري تحت عنوان صحفي أمريكي يزور مقر كتائب التحرير بطنطا ويقول أنني لا أوافق على العنف وأحب عرض القضية على هيئة الأمم – 16 ألف جنيه يتبرع بها الصيارف – لجة الميثاق تنظم مظاهرة كبرى في 14 نوفمبر – الأحزاب السياسية بالإسكندرية تقرر تأليف جبهة وطنية – موظفو شركة ماركوني يتبرعون بجزء من دمائهم.

وقالت الصحفية: وصل إلى طنطا اليوم المستر سام هنتر أحد الصحفيين الأجانب الذين وافدوا إلى مصر أخيرا مندوبا عن جريدة التيمس وتوجه على الفور إلى جمعية الشبان المسلمين حيث شاهد بعض نشاط المتطوعين في كتائب التحرير ثم وجه إلى الأستاذ يوسف حسين نائب رئيس الجمعية الأسئلة الآتية: كيف تألفت الكتائب؟

فأجاب: تألفت من شيوخ وشباب من مختلف الطوائف بدافع من وطنيتهم مضحين بأنفسهم في سبيل الوطن إلى أن يجلو البريطانيون عن بلادهم

ثم سأله المراسل:

من هو المشرف على هذه الكتائب. أجاب. هذا سر لا يمكنني إذاعته. ثم كان سؤاله بعد ذلك هل لديكم أسلحة تكفي لإخراج الإنجليز وما نوع هذه الأسلحة وهل هي في حيازتكم الآن؟.

فأجابه لدينا من الأسلحة ما يكفي أما نوع الأسلحة ومكانها فهذا سر نحتفظ به لأنفسنا.

كم عدد الفرق التي تم تدريبها الآن؟

أجاب: لا حصر لها. فلما طلب المراسل مشاهدة بعض الكتائب أجابه بأن ذلك غير ممكن ثم سأله: هل الأسلحة التي لديكم ووزعت على الكتائب من الحكومة المصرية؟

قال للمراسل: كلا فهي ملك للشعب وليس للحكومة دخل فيها.

وبعد أن فرغ مندوب التيمس من أسئلته وجه إليه مندوب المصري بدوره الأسئلة الآتية: ما سبب زيارتكم المفاجئة إلى طنطا؟

أجابه المراسل: عندما نشرت جريدة المصري أخبار الكتائب والجهاد في طنطا تباعا مقرونة بالصور أردت أن أقف على صحة هذه الأخبار وأن أرى هذه الكتائب.

ثم سأله مندوب المصري: هل اقتنعتم بما نشر في المصري من أخبار؟

- نعم اقتنعت بأن الحركة حقيقية وجئت لأراها رأى العين.

ثم سأله مندوب المصري: ما هو رأيكم في الاعتداء الإنجليزي على الشعب الأعزل في القنال؟

أجابه: لا أوافق على العنف وأحب أن تعرض القضية على هيئة الأمم المتحدة . هل تعتقد أن قضية مصر لو عرضت على هيئة الأمم يحكم فيها بالعدل؟ فراوغ المراسل وقال هذا سؤال يوجه إلى المعقبين السياسيين لا إلى مراسلي الصحف.

كما نشرت الصحيفة نفسها أنه تكونت (أمس) 2/11/1951 أولى كتائب حي الخليفة بالقاهرة وعدد أعضائها 350 عضوا من مجتازي الكشف الطبي وقد انتهى رأى أعضائها إلى تسمية كتيبتهم كتيبة سعد زغلول.

أما متطوعي دائرة الوايلي فقد سميت كتيبة مصطفى النحاس. (20)

وقد ذكر الأستاذ عبد الرحمن الرافعي في كتابه الذي أسماه مقدمات ثورة 23 يوليو 1952 دور عزيز المصري في تدريب هذه الكتائب قبل سفرها إلى القنال: تحت عنوان كتائب الفدائيين: تطوع كثير من الشباب في كفاح الإنجليز في القنال وألفوا من بينهم كتائب سميت كتائب الفدائيين أو كتائب التحرير. تكونت في القاهرة وفي المدن والقرى الواقعة في منطقة القنال أو القريبة منها. كان لهذه الكتائب عمل إيجابي جليل في تنظيم حركة الكفاح وبث روح المقاومة في نفوس المواطنين. وذعر الإنجليز من جهاد هذه الكتائب وأخذوا يبحثون عن أماكن تدريبها وتسليحها ومواضع الأسلحة، وقاموا بحملات تفتيشية في منازل المدن والقرى الواقعة في منطقة القنال للبحث عن هذه الأسلحة. كانت هذه الكتائب تدرب في القاهرة على حرب العصابات. وأنشئت أيضًا مراكز للتدريب في بعض عواصم المديريات كالزقازيق ودمنهور وفي بعض القرى الواقعة على مقربة من منطقة القنال." ومن خير الكتائب التي كان لها قسط موفور في الكفاح كتيبة البطل الشهيد (أحمد عبد العزيز) وكتيبة (خالد بن الوليد) وكتيبة (محمد فريد)."

"وتطوع بعض القواد والضباط القدماء وبعض الضباط العاملين لتدريب هذه الكتائب وفي مقدمتهم الفريق عزيز المصري واللواء صالح حرب.".

"وتولي الفريق عزيز المصري تدريب هذه الكتائب في القاهرة تدريبا عسكريا قبل سفرها إلى القنال، وتمرين أفرادها على حرب العصابات وعلي مهاجمة الإنجليز في مخافرهم ومعسكراتهم."

وأخذ المواطنون في القاهرة والأقاليم يتبرعون للكتائب بالأموال لتزويدها بالأسلحة وإمدادها بنفقات مهمتها. (21)

وكانت الحكومة الوفدية قد رأت السماح بتشكيل هذه الكتائب كتنظيم شعبي. فقد أصدرت اللجنة التنفيذية العامة للجان الوفد المصري بيانا جاء فيه: اجتمعت لجنة الوفد العامة بالقاهرة بدار النادي السعدي برياسة الشيخ عبدالمجيد الرمالي بك واستمر اجتماعها إلى وقت متأخر.

وقد استعرضت الحالة التي نشأت عن إلغاء معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899 الخاصتين بالسودان وعن الحوادث التي ارتكبها الإنجليز داخل البلاد وقد اتخذت في نهاية الاجتماع قرارات متعددة وخطيرة رأت الاحتفاظ بسريتها مؤقتًا كما قررت القرارات التالية:

1 – تحيى اللجنة بكل خشوع أرواح هؤلاء الشهداء الذين قضوا مستشهدين بين المستعمرين الطغاة وصعدت أرواحهم إلى بارئها هاتفه لمصر.

2 – حدادا على أرواح الشهداء واحتجاجا على اعتداء المستعمرين على سيادة مصر، تناشد اللجنة جميع أفراد الشعب أن يقف الجميع لمدة خمس دقائق في الساعة الحادية عشر قبل الظهر يوم الثلاثاء، وهي الساعة التي بدأ فيها المستعمر عدوانه المنكر على سيادة مصر وأسلمت فيها أرواح شهدائنا الأبرار.

3 – تستقبل لجان الوفد في مختلف أحياء القاهرة وبمقراتها ابتداء من غد المتطوعين لكتائب تحرير الوادي.

4 – تجتمع اللجنة العامة يوميا بدار النادي السعدي للاجتماع برؤساء اللجان الفرعية وتبصير الرأي العام بواجباته وما قد يجد من حوادث.

5 – قررت اللجنة عقد مؤتمرات عامة في مختلف أحياء القاهرة يحدد موعدها غي حينه.

6 – بما أن الحكومة قد أعلنت أنها قد أعدت العدة لسحب جميع العمال المصريين بالمعسكرات البريطانية فأن اللجنة ترى ضرورة مضاعفة الجهد لسحب هؤلاء العمال فورا وتشغيلهم على وجه السرعة..

7 – تنظيم الوسائل المؤدية إلى مكافحة الاستعمار.

ووقع هذا البيان شيوخ ونواب القاهرة في 20/10/1951. (22)

وفي اليوم التالي لنشر هذا البيان بالصحف صدرت هذه الصحف وهي تحمل للشعب المصري خبر استقرار رأي الحكومة على أن تعهد إلى عزيز المصري بقيادة كتائب التحرير على أن يترك له وضع الخطط التي يراها لازمة للانتقال بهذه الكتائب إلى مرحلة المقاومة العملية للمستعمر الإنجليزي. وسعد عزيز المصري كل السعادة وهو يرى بلده تقاوم المستعمر الإنجليزي الذي طالما تمنى خروجه وطرده وعمل جاهدا على ذلك ما وسعه الجهد.

وفي صحيفة المصري الصادرة بتاريخ 23 أكتوبر 1951 العنوان التالي:

عزيز المصري يتحدث عن الكفاح ضد الاستعمار – إيمانه بانتصار مصر على الامبراطورية الحتضرة.

وكتبت الصحيفة تقول: قابل مندوب المصري الفريق عزيز المصري وتناول الحديث ما يجب أن تفعله مصر في كفاحها ضد الإنجليز ووجه المندوب إليه الكلام قائلا: تقدمتم إلى رئيس الوزراء عارضين خدماتكم على الحكومة دون نظر إلى وظيفة أو مرتب أو امتياز أو أي قيد أو شرط فماذا قصدتم من هذا؟.

فقال: القصد هو أن تشترك جميع قوي الشعب حكومته وأهله في حركة التحرير اشتراكا متناسقا ومتكاملا يهدف إلى الغرض المقصود وبذلك تتجمع اتجاهات القوى إلى نقطة واحدة فستكون ضربتها قوية ومميتة. وقال أن الحكومة وقد أقدمت على خطواتها الجريئة بالغاء معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899 لابد وأنها قد فكرت في الوسائل المؤدية إلى تحقيق آمال البلاد. ولما كنت لا أعلم خطة الحكومة فإنني أنصح الشعب بأن يتجمع ويستعد حتى إذا دعاه داعي الوطن لبى الدعوة بجسارة وإيمان واتحاد. وقال عزيز: أن الامبراطورية البريطانية الآن في دور الاحتضار الطبيعي ومصر في دور الشباب الناهض القوي ولذلك فكلي ثقة في أن مصر سوف تحقق أهدافها مهما حاولت بريطانيا أن تصدنا عن طريقنا الطبيعي إلى الاستغلال والحرية كما حققت أمريكا وأيرلندا وأسبانيا وألمانيا استقلالها.

وصرح فؤاد سراج الدين في الاجتماع الصحفي الذي عقده يوم 29 أكتوبر 1951 حين سئل: هل تتبع وزارة الداخلية حركة الكتائب في مصر؟ فقال أن الكتائب حركة أهلية ليس للحكومة إشراف عليها ولما سئل عما إذا كان القانون المصري يحرم حمل السلاح فأجاب بقوله أن كل مصري له حق حمل السلاح وفقا للقانون. فقيل له وهل الحكومة مستعدة لإباحة حمل السلاح لأعضاء الكتائب؟ فقال أن على كل طالب لحمل السلاح أن يتقدم للحكومة وإذا كان هناك ما يمنع إعطائه ترخيصا فلن يقبل طلبه.

وسئل: هل أنت على علم بنشاط عزيز المصري باشا فقال: نعم ولكل مصري أن يقوم بما يتراءى له من نشاط وفقا لآرائه لتحقيق الأماني القومية وقال أنه لا يوجد في نشاط عزيز المصري خروج على القانون وأنه رجل معقول يقدر المسئولية ويقدر الظروف التي تجتازها البلاد في الوقت الحاضر.

وسئل: هل يعمل عزيز لإخراج الإنجليز من مصر فقال: أن كل مصري يعمل لذلك بالوسائل التي لا تضر البلاد وسئل: هل تسمح لكتائب التحرير بالعمل في هذا السبيل فقال: نعم إذا كانت وسيلتها مشروعة وترمي إلى تحقيق أماني كل مصري.

وتبع ذلك أن اتصل مندوب صحيفة المصري بعزيز المصري وحصل منه على التصريح التالي:

عزيز المصري يندد بالاستعمار: اتصل مندوب المصري بعزيز المصري القائد العام لقوات التحرير الوطني وأطلعه على التصريحات الوطنية الخطيرة التي أدلى بها فؤاد سراج باشا عن كتائب التحرير وعن دوره بالنسبة لها فقال: في الوقت الذي يطالب فيه المصريون بحقوقهم الطبيعية والشرعية والقانونية نرى أن الإنجليز قد شكلوا عصابات داخل بلادنا يفتشون الناس وينهبونهم ثم بعد ذلك يسألون عما إذا كان عزيز المصري على حق حين يدافع عن الإنسانية ضد هذه الفظائع والسفالات البربرية. نحن في بلادنا لنا الحق في أي تشكيل نريد. فلسنا نحن الذين نسأل عن نشاطنا بل السؤال يجب أن يوجه إليهم. بأي حق تبقون في أرضنا وتشكلون العصابات للاعتداء علينا. هل تغيرت الأوضاع العقلية للبشر وانقلبت العقول؟.

ووجه عزيز المصري في نفس التصريح الذي نشرته الصحيفة نداء إلى شعب مصر قال فيه. فليتعظ مواطني من هذه المعاملة وليفهموا أن الحكومة قد تعجز عن إعطائهم السلاح ولكنهم إذا أرادوا التقرب من الله والظهور أمام العالم بمظهر إنساني رفيع يسحق احترام الناس ورضاء الرب فعليهم بيع ملابسهم والاقتصاد في مأكلهم ومشربهم والامتناع عن الكماليات حتى يتمكنوا من الحصول على كل أنواع السلاح وتوزيعه على النساء والرجال والشباب لأن المسألة هي حرب دفاع عن الشرف الإنساني ضد الذي يهينون مخلوقات الله من البشر.

وإلى جانب قيادم كتائب التحرير بأعمال بطولية امتلأت بها الصحف المعصرة. وقد أحالت أعمال الفدائيين حياة الإنجليز في المعسكرات إلى جحيم مطبق إذ أخذ هؤلاء الفدائيون يأتون من الأعمال ما يستحق التخليد في سجلات التاريخ ومن ذلك ما قاموا به في الرابع عشر من نوفمبر من نسف مستودعات البترول في منطقة العجرود، واشتداد هجومهم في اليوم التالي على المعسكرات البريطانية وتخريبهم لكثير من المنشآت التي أقامها الإنجليز بمنطقة القناة وإشعالهم في السابع عشر من نوفمبر قططا في مطار الإسماعيلية وذلك في الوقت الذي تمكنوا فيه من قطع مواسير المياه حتى يحولوا دون إطفاء الحرائق بالمطار. (23)

ومضت الحرب النفسية يشنها الفدائيون المصريون ضد الإنجليز قدما كذلك وذلك عن طريق المنشورات التي تخاطب الجنود الإنجليز وتحضهم على الرحيل إلى بلادهم فكان المنشور الأول لكتائب التحرير في المعسكرات: أيها الجنود البريطانيون.

يالها من شجاعة تبدونها في إطلاق الرصاص على المدنيين العزل إنكم تستأهلون التصفيق لفروسيتكم.... ستنالون وفقا لشريف القصاص العين بالعين والسن بالسن وليست هذه معركتكم فابتعدوا. ليست هذه بلادكم فأخرجوا. لقد أنذرناكم فلا تلوموا سوى قادتكم على ما سينزل بكم والمنشور موقع باسم المدافعون عن الإسلام (24).

وأفضى عزيز المصري بحديث إلى مراسل الأسوشيتدبرس في القاهرة أن كتائب التحرير تدرب الآن تدريبًا عسكريًا تحت إشرافي، ثم قال لا نريد أن ندرب قتلة ولكنا نريد أن نعد رجالاً للدفاع عن حقوقهم وقال أن تصريح سراج الدين باشا كان منطقيًا، فإن في مصر أسلحة ولكن الكتائب ستكافح إلى جانب الحكومة طالما كانت هذه تكافح من أجل حقوق مصر. وسخر من حجة بريطانيا القائلة أن الواجب يحتم علينا الدفاع عن قناة السويس من اعي معتد محتل لها وقال أنه لم يعد في زماننا شيء اسمه معقل استراتيجي يمكن الدفاع عنه. وفي الحروب الماضية رأينا قلاعًا محصنة تسقط أمام أي هجوم منظم، وقال: أن الإنجليز ساروا على سياسة لم تعد عليهم إلا بكراهية العالم الشرق كله فهم يسلكون مسلك اللصوص وقطاع الطرق في منطقة قناة السويس يقتلون المدنيين العزل من السلاح ويسرقون المعوزين والفقراء وقال أن سياسته وسياسة المصريين جميعًا ليست الالتجاء إلى الحرب ولكنها سياسة سلام.

ولا يتسع مجال البحث لسرد كل الأعمال البطولية التي قامت بها كتائب التحرير تحت إشراف عزيز المصري. ففي وسع المباحث الذي يهمه ذلك أن يرجع إلى المراجع المتخصصة والدوريات المعاصرة للإلمام بها ويكفي أن نقول أن الإنجليز بدأوا آنذاك يعترفون بخطورة حركة المقاومة. وبدأت القيادة البريطانية تصلها الإنذارات من قيادة الكتائب أن الجنود الإنجليز المخطوفين رهائن لدى الكتائب. واعترف الإنجليز بخطف الأسلحة من فوق أكتاف الجنود وأخذت القيادة البريطانية تحذر الجنود الإنجليز من احتمال الخطف. ولم تسلم منطقة من مناطق القناة المرابطة بها قوات إنجليزية من هجوم الكتائب عليها. هجمت الكتائب على ميناء الأدبية واستولت على عشر خيام الجيش الإنجليزي هناك عند الكيلو 99 على سيارة نقل محملة بالأخشاب. قال بيان صدر للإنجليز بهذا الصدد أننا نستولي على هذه الأخشاب بدلاً من المسروقات التي سرقها (الإرهابيون) من ميناء الأدبية (25).

والحقيقة أنه كان من شأن هذه الأعمال النادرة البطولية وغيرها أن تثير فزع القوات البريطانية. وبدأت تأتي من الأعمال ما يثبت أنها فقدت صوابها إذ قامت في التاسع عشر من شهر نوفمبر وبمحاصرة مدينة الإسماعيلية ونصبت مدافع الميدان على مداخلها. واستدعت بعض البوارج الحربية في صباح اليوم نفسه للمرابطة تجاه المدينة حيث صوبت هذه البوارج مدافعها الضخمة عيار 16 بوصة لتسدد لها قذائفها وقت الضرورة (26).

وشهد يوم الرابع عشر من نوفمبر 1951 مظاهرة كبرى لتشييع شهداء المصريين من ضحايا الاعتداء الإنجليزي وسار في مقدمتها مصطفى النحاس والوزراء. وتبع ذلك تفكير حكومة النحاس في ضم الكتائب إليها والإشراف عليها، فقد أصدرت الحكومة قرارًا بتأليف لجنة وزارية لبحث موضوع الضم هذا.

يقول عبد الرحمن الرافعي : على أن الحكومة قد أنكرت على عزيز المصري وعلى القواد والضباط عامة الحق في تدريب الكتائب. وقالت أن هذا من اختصاصها وحدها. واصدرت في أواخر نوفمبر 1951 بيانًا من رياسة مجلس الوزراء قالت فيه أن مجلس الوزراء قرر بجلسة 25 نوفمبر أن تتولى الحكومة تدريب الكتائب وفقًا للنظام الذي تضعه هي مع عدم السماح لأية هيئة أو فرد بجمع التبرعات لهذا القرض ومن شاء أن يتبرع لأية هيئة أو فرد بجمع التبرعات لهذا القرض ومن شاء أن يتبرع فعليه أن يبعث بتبرعه إلى رياسة مجلس الوزراء.

استندت الحكومة في قرارها إلى أن بعض الخطرين على الأمن العام وذوي السوابق والهاربين من المراقبة قد انتهزوا فرصة إقدام الشباب على تأليف كتائب الفدائئين فاندسوا في صفوفهم وارتكبوا كثيرًا من حوادث الاعتداء على النفس والمال ضد المواطنين مستغلين اسم الكتائب ومعللين حملهم للأسلحة النارية بدون ترخيص بأنهم من أفراد الكتائب. فرأت الحكومة حرصًا على سمعة البلاد ومنعًا لروح الفوضى من الانتشار باسم الكتائب أن تضع حدًا لهذا الاستغلال وتتولى الإشراف على تنظيم الكتائب وتدريبها. ويذكر الأستاذ الرافعي أنه تحقق فعلاً من بعض حوادث الاستغلال التي حدثت والتي أشار إليها بيان الحكومة.

وخرجت صحف حزب الوفد تعيب على حركة الكتائب ضعفها مثال ذلك ما ذكرته صحيفة صوت الأمة الصادرة في 6 ديسمبر 1951 إذ وصفت نشاط الكتائب بعدم الجدية. وفي 17 ديسمبر أذاع سراج الدين بيانًا في البرلمان عن الكتائب ذكر فيه أنها شكلت بمبادرة الهيئات المختلفة وأنها بعدت عن أغراضها وانصرفت لتحقيق أغراض حزبية. فصارت تحض العمال والموظفين على ترك أعمالهم والتطوع فيها وذكر أن في هذا تهديد لاقتصاد البلاد (27). وقد قوبل قرار الحكومة بالسخط من جانب الأوساط الشعبية والوطنية واجتمعت لجنة الميثاق ممثلة للعديد من الأحزاب والهيئات وقررت رفض القرار. وخطب أحمد حسين يطالب الحكومة بأن تعلن الحرب رسميًا على بريطانيا كشرط لوضع الكتائب تحت إشرافها. كما ذكر حافظ رمضان زعيم الحزب الوطني أن الكتائب يجب أن تبقى مستقلة عن الحكومة، وأعلن صالح حرب رئيس جمعية الشبان المسلمين أنه لن يسلم كتائب الجمعية للحكومة.

وبدا واضحًا أن الحكومة الوفدية لم تكن جادة فيما أعلنته من معاونة الكتائب. حقيقة اعتمدت لها مبلغ مائة ألف جنيه لتدريب الفدائيين تدريبًا عسكريًا. على أنها لم تول هذا التدريب ما يستحقه من العناية واكتفت بتأليف لجنة تنظيم هذه الكتائب. وكل ما عملته هذه اللجنة أنها أخذت تطوف بعدة أماكن لتختار منها ما يصلح للتدريب. ولم تقدم الحكومة للفدائيين معاونة فعالة فلا هي زودتهم بالأسلحة والذخائر إلا بالنذر اليسير منها، ولا هي نظمت قيادتهم، ولا رسمت لهم خططًا منسقة، بل تركتهم وشأنهم، وترتب على ذلك تسرب الارتجال إلى حركاتهم (28).

وكان ذلك نذيرًا بقرب توقف العمل الفدائي، حتى كان الحريق المروع لمدينة القاهرة وإقالة الحكومة الوفدية. وبعدها وعلى عهد الوزارات القصية العمر التي تلاحقت بعد ذلك حتى يقام الثورة توقفت الحركة الفدائية نهائيًا وكان للحركة الوطنية مسار آخر بعد ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952.

في سنة 1951 قوى تنظيم الضباط الأحرار وكان قائمًا على نظام الخلايا كل خلية لا تعرف الأخرى وتكاثرت الخلايا يومًا بعد يوم حتى شملت القوات المسلحة بأجنحتها وخاصة المناطق الحساسة فيها مثل إدارة الجيش. شعر عبد الناصر أن التنظيم قد وصل إلى مرحلة النضج وأنه لابد له من قيادة خاصة وأن الكثيرين من أعضائه قد بدلوا يتساءلون عن قائد التنظيم أو قادته. وانتخب جمال عبد الناصر رئيسًا للهيئة التأسيسية لهذا التنظيم، ولكن كان من رأي جمال عبد الناصر وهو رئيس الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار والذي كان عليه أن يقود الثورة في العلن مثلما قادها في يسر قبل 23 يوليو، كان من رأيه أن يكون قائد الثورة حاملاً لرتبة كبيرة من رتب الجيش.

يقول أنور السادات: اتفقنا باستثناء رأي واحد أن يتولى أحد الضباط الكبار قيادة الثورة واقترح جمال عبد الناصر ثلاثة أسماء عزيز المصري، فؤاد صادق، محمد نجيب.

بدأت الاتصالات بعزيز المصري ولكن الرجل أصر على أن يظل أبًا روحيًا للثورة وأثنعنا برأيه. وبقي اثنان اللواء فؤاد صادق واللواء محمد نجيب. ذهب صلاح سالم لمقابلة اللواء فؤاد صادق ليعرف نواياه. وكان عثمان المهدي رئيس هيئة أركان حرب الجيش قد استقال من منصبه في ذلك الوقت ولم يكن معقولاً أن يفاتح فؤاد صادق في أمر قيادته للثورة فهو كان مثل محمد نجيب لا يدري أن هناك تنظيمًا للثورة. وأيضًا لا يدري أن هؤلاء الضباط الأحرار قد أعدوا أنفسهم للقيام بثورة لقلب نظام الحكم. كل ما يعرفه فؤاد صادق هو أن بعض ضباط الجيش الصغار لهم رأي معين في الحالة. قابل صلاح سالم مصطفى صادق وأثناء جلوسه معه دق التليفون والمتكلم اليوزباشي مصطفى كمال صادق وكان على صلة بالقصر وقال لفؤاد صادق أن السراي ستعينه رئيسًا للأركان فدعا صلاح سالم وجعله يسمع مع التليفون وانقلب فؤاد صادق يحدث صلاح سالم أن تعيينه لأركان حرب الجيش جاء بذراعه ولن يسمع لنظام الجيش أن يهتز وهنًا عرف صلاح سالم شخصية فؤاد صادق (29). وبقي محمد نجيب الذي فوتح في تولي قيادة الثورة.

وسعد عزيز المصري بإعلان ثورة الثالث والعشرين من يوليو وأسرع السادات يأخذه من بيته ليقابل عبد الناصر في مقرة القيادة العامة وصدرت الصحف وهي تنشر صورته مع أنور السادات كما نشرت صورة للطائرة التي حاول الهرب فيها (3).

وفي سنة 1953 رأت حكومة الثورة أن تستفيد من عزيز المصري في أن يشغل منصب سفير مصر في الاتحاد السوفيتي وعندما سُئل عن أهم ما حققه خلال عمله في هذه السفارة وقال:

عندما كنت سفيرًا لبلادي في موسكو تحدثت طويلاً مع فورشيلوف حول سياسة روسيا في الشرق الأوسط وأفهمته أن مفتاح العلاقات الطيبة بين روسيا والبلاد العربية هو الابتعاد عن الأطماع السياسية أولاً وعدم غزو الأفكار العربية بالبلشفية ثانيًا والبحبحة في تنمية العلاقات الاقتصادية بين البلدين ثالثًا.

وإذا كانت سفارة عزيز لدى الاتحاد السوفيتي لم تطل فإنها قد مهدت السبيل ضمن عوامل أخرى عديدة لا أقول أنها كانت العامل الوحيد بل عاملاً مساعدًا ضمن ظروف وملابسات كثيرة لكي تتحسن العلاقة بين الثورة والاتحاد السوفيتي وما تبع ذلك من صفقة الأسلحة التشيكية ومساعدة عبد الناصر كي يناوئ الغرب.

وفي التاسع عشر من يناير 1960 استقبل جمال عبد الناصر عزيز المصري حيث سلمه قلادة النيل التي أنعمت بها حكومة الثورة عليه، وفي الخامس عشر من يونيو سنة 1965 مات عزيز المصري بعد كفاح طويل قضاه في خدمة أمته العربية التي ندر روحه فداء لها، ونشرت الأهرام في نفس الشهر الذي مات فيه ما يلي:

مات عزيز ولم يترك سوى معاش شهري قدره 88 جنيهًا ورصيد في أحد البنوك لا يتجاوز 500 جنيه وسيارة شيفروليه موديل 55 يقودها عجوز اسمه مختار وزينب خير الله مديرة بيته. ونعاه أحمد حسين بمقال له في كتابه الذي أسماه إنسانيات والذي قال فيه عن مدى تأثره بوفاته وخرجت من البيت واشتدت بي أعراض برد الم بظهري فلم أستطع السير في جنازته فضلاً عن الذهاب معه إلى مستقره الأخير. وهكذا ستظل آخر صورة لعزيز المصري في رأسي هي هذه الصورة التي اعتدتها في هذه الأسابيع الأخيرة عندما كان يأبى كلما ذهبت إليه يوم الأربعاء من كل أسبوع إلا أن يستقبلني في الصالون وأن يحمل إليه حملاً بعد أن أصبحت ساقاه عاجزتين عن حمله، ولا يكاد يستوي على مقعده ويرتاح من الجهد الذي بذل حتى يقبل، فأرى أمامي عزيز المصري كما اعتدت أن أراه منذ ثلاثين سنة صاحب الشخصية القوية الغلابة والوجه المشرق بالجلال والبهاء.

هوامش الفصل الخامس

(1) الأهرم 26/7/1962.

(2) Pertz (DON): The M.E. Today P.221. (3)Simonet Jeam Al couture: L'Egypte en Mouvement PP. 93-94.

(4) فلسفة الثورة ص 15.

(5) محسن محمد: التاريخ السري ص192.

(6) أنور السادات: أسرار الثورة المصرية ص61 طارقة البشري: الحركة السياسية في مصر 1948- 1952 ص411.

(7) أنور السادات: البحث عن الذات ص28.

(8) المراجع السابق ص29.

(9) القضية أوراق التحقيق الخاصة بجيش ذو الفقار (غير منشورة).

(10) محمد صبيح : عزيز المصري وعصره.

(11) ذكر أنور السادات أنه مكن الجاسوسية من مقابلة عزيز المصري في مصر الجديدة دون أن يحدد تاريخ ذلك أو المكان بالضبط ارجع إلى البحث عن الذات ص 55.

(12) Evans: The Killearn didaries P.231.

(13)Lbid: P.334.

(14) محمد حسين هيكل : مذكرات في السياسة المصري ص304.

(15) Evans: Lord Killearn diaries PP.361-362.

(16) قضية مقتل أمين عثمان رقم 1129 جنايات عابدين 1946 غير منشورة.

(17) أنور السادات: البحث عن الذات ص82.

(18) قضية أمين عثمان السابق الإشارة إليها (غير منشورة).

(19) وثائق المفاوضات المصرية البريطانية ص 642 وكذلك Great Britain & Egypt P.127.

(20) صحيفة المصري 32 نوفمبر 1971.

(21) طارق البشري: ص 510 من كتابه المشار إليه في المتن.

(22) المصري 3/11/1951.

(23) عبد الرحمن الرافعي : مقدمات ثورة 23 يوليو ص54.

(24) المصري 21 أكتوبر 1951.

(25) الأهرام السبت 17/11/1951.

(26) المصري 1 نوفمبر 1951.

(27) المصري 12/11/1951.

(28) ارجع إلى الصحف المصرية بهذا الخصوص: الأهرام 15/11/1951 والمصري.

(29) طارقة البشري: الحركة السياسية في مصر ص2062.

(30) الرافعي: مقدمات ثورة 23 يوليو 1951.

(31) أنور السادات: قصة الثورة كاملة ص149.

(32) آخر ساعة أو أغسطس 1962.

ملاحق البحث من قضية عزيز المصري 1941

استدعينا عزيز المصري باشا وسألناه بالآتي:

عزيز المصري باشا:

اسمي عزيز المصري س61 مولود بالقاهرة ومقيم بعين شمس رئيس هيئة أركان حرب الجيش المصري والآن خارج الخدمة.

س- أنت حاولت الخروج من القطر المصري في يوم 15 مايو سنة 1941 الماضي فاذكر لي ماذا صنعت من يوم 15 مايو إلى أن قبض عليك أمس.

ج- في 15 مايو سنة 1941 أنا خرجت من بانسيون فينواز بسيارتي الخصوصية بالعفش اللي أنا عاوز أخذه ثم تركتها في شارع العباسية جنب قبة الفداوية. وهناك وضعت العفش في تاكسي وذهبت نحو مطار ألماظة وكنت متفق مع الضابط عبد المنعم أنه يقابلني خارج المطار مع زميله حسين ذو الفقار وقابلوني قبل المطار فدخلنا المطار ووضعنا العفش في الطيارة وطرنا وبعد عبشر دقائق على ما أظن ظهر في الطيارة نار. فاضطر الطيار أن ينزل فسالته: الحتة دي إيه؟ فقال لي: أظن الخانكة، فنزلنا من الطيارة بعد ما كسرنا شباكها لأن الباب حصل به خلل ومكنش ممكن فتحه ولما نزلنا من الطيارة أردت أعرف الحتة دي إيه ومشينا مسافة طويلة تطلع خمسة كيلو، من غير أن نقابل أحد، وفي النهاية وجدت أننا على طريق فظنته الطريق الذي في الخانكة لعين شمس فمشينا إلى أن صادفنا اثنين من الأهالي وسألناهم الجهة دي إيه؟ قالوا: قليوب. والرجوع إلى الطيارة كان يأخذ ساعة على الأقل فتركت فكرة الرجوع إلى الطيارة لأخذ العفش فمشيت في سكة قليوب للبحث عن سيارة فلم أجد ومشيت على أن رحت البلد القديمة اللي اسمها المحطة وخطر في بالي أن أبحث عن سيارة بواسطة البوليس فرحت المركز وكانوا نايمين كلهم فلقيت عسكري وقلت له عندك ضابط بوليس قال لي نعم قلت له من هم وبعد ما افتكر شوية قال لي معاون اسمه الطلباوي. وأنا أعرف الطلباوي لأنه كان ضابط في مدرسة البوليس لما كنت مدير لها وسألت على بيته فوجدته أمام المركز في بناء يظهر أنه أميري فقلت للعسكري نادي له، ويظهر أنه تخوف أن ينزل بالليل فأنا زعقت له من تحت فبص لي من الشباك وعرفني ونزل، وقلت له أنا كنت معزوم في حتة مع بعض الناس –وانكسرت عربتي وشوف لي عربة وفيه عندهم عربة في الجهة دي أرسل يشوفها فقالوا له البطارية ناقصة وبعدين قال لي أنه عنده عربة صغيرة بتاعته هو أو بتاعة المركز معرفش.

فأخذتها وركبت مع إخواني اللي معي وجئنا إلى مصر في ميدان الأوبرا. ووصلنا ميدان الأوبرا حوالي الساعة 3 ولا أعرف الوقت بالضبط ثم صرفت العربة التي كانت معنا وركبنا في تاكسي إلى جوار الجامعة وصرفته وفي هذه المدة كنت أفتكر أروح فين فأخذت الضابطين وديتهم في بيت وأبقيتهم هناك وأمس قبض علي.

س- لما نزلتم من التاكسي عند الجامعة أين ذهبتم؟

ج- لما نزلنا رحنا على بيت ولا أريد أن أقول عليه.

س- كم من الوقت مكثتم بهذا المنزل؟

ج- ما أقدرش أقول.

س- أنت قبض عليك في منزل عبد القادر رزق أمس فهل المنزل الذي نزلتم به أولاً هو غير منزل عبد القادر رزق ؟

ج- نعم هو غير منزل عبد القادر رزق .

س- ما هي المدة التي مكثتها بمنزل عبد القادر رزق ؟

ج- نعم هو غري منزل عبد القادر رزق .

س- ما هي المدة التي مكثتها بمنزل عبد القادر رزق ؟

ج- أنا آسف وما أقدرش أقول.

س- من وقت نزولك في البيت الأول إلى الوقت الذي قبض عليه فيه بمنزل عبد القادر رزق هل يمكن أن تقول لنا عن كنت نزلت في منزل واحد أو أكثر؟

ج- أنا أقدر لكن السبب اللي خرجت من أجله سأقرره في التحقيق. ويعتقد الناس أنه سبب شريف وأنا ما كنتش قاتل ولا سارق والناس اللي نزلت عندهم ولم يبلغوا عني على نحوهم واجب أن لا أبوح بأسمائهم في مقابل النبل والشهامة والشرف التي أظهروها نحوي وإن كان في بلد غير دي يمكن لو نزلت عند أحد يقول أن فيه مكافأة للتبليغ و الناس اللي نزلت عندهم أشراف ولو كانوا ناس منحطين لقلت عنهم ربما أن القانون وضع لعقاب الأخلاق الذميمة وهؤلاء أعتقد أصحاب شرف ونبل وعدم تبليغي عنهم هو مساعدة للقانون.

س- كم شنطة أخذتها معك بالطيارة؟

ج- كان معي أربع شنط وشنطة للبرانيط وشنطتين صغيرتين.

س- أين كانت هذه الحقائب؟

ج- كانت معي في البانسيون ما عدا اللفة الكبيرة اللي فيها البطانيات كانت لازالت في البيت هي وشنطة للبرانيط في المنزل بعين شمس.

س- متى أخذت لفة البطانيات وشنطة البرانيط من منزلك؟

ج- مش متذكر ويمكن أكون أخذتهم من البيت قبل خروجي من البانسيون بيومين تقريبًا ورحت بهم البانسيون.

س- كأنك خرجت من البانسيون بكل الحقائب!

ج- نعم.

س- من الذي نقل لك الحقائب من البانسيون إلى سيارتك؟

ج- البواب بتاع البيت وأنا أقصد بواب البيت الذي فيه البانسيون.

س- ومتى نقلت العفش من البانسيون إلى السيارة؟

ج- أنا تعشيت في البانسيون وقال يجوز تعشيت بره مش متذكر والمدة يمكن استنتاجها بالتقريب من وقت سفر الطيارة لأني كنت في المطار حوالي الساعة 1 على توقيت الصيف.

س- أين كنت تضع سيارتك وأنت في البانسيون؟

ج- كنت أضعها في جراج بشارع شامبليون قريبًا من البانسيون.

س- هل خرجت بسيارتك الخاصة في يوم 15 مايو سنة 1941 قبل أن تخرج بها من البانسيون؟

ج- أنا عادتي آخذها من الجراج لأنه قريب وأعمل بها مشاويري وأعيدها ويمكن خرجت بها مرة أو مرتين في ذلك اليوم.

س- هل كنت تدفع أجرة السيارة في الجراج مقدمًا أو مؤخرًا؟

ج- أنا رحت بالسيارة في الجراج يوم 5 مايو تقريبًا وخرجت يوم 15 منه وأصولهم أنهم يأخذوا الأجرة مقدمًا ولكن تذكرت الآن أني دفعت مؤخرًا وهم يعرفوني، ففي يوم 15 مايو رحت الجراج وأخذت السيارة وأعطيتهم جنيه فأعطوني خمسين قرشًا الباقي واعتبروا أن السيارة مكثت عندهم نصف شهر وأصولهم أن الواحد يدفع أول الشهر أجرة وضع السيارة مقدمًا.

س- ماذا صنعت بعد أن أخذت السيارة بالحقائب من البانسيون؟

ج- أنا مشيت، وفي شارع العباسية عند قبة الفداوية قابلت تاكسي فتركت السيارة بتاعتي في الشارع ونقلت العفش منها إلى التاكسي ومشيت بالتاكسي على مصر الجديدة. وهناك قرب الكنيسة كنت متفق مع الضباط أنهم يقابلوني في شارع اسمه شارع الفيوم على ما أظن ووقفت بالتاكسي شوية وبعدين حضروا الضباط الاثنين ماشيين وهم يعرفوا سكة المطار فودوني بعد ما نقلوا عفش في أتوموبيل بتاعتهم وكانت الدنيا ظلام ومعرفش شكلها.

س- أنت قلت أن الضابطين حضروا إليك ماشيين!

ج- أنا وقفت بالتاكسي في الظلام ونزلت أتمشى شوية جنب التاكسي فوجدت الضابطين جايين نحوي ماشيين ولما تقابلنا قالوا ننقل العفش في عربتهم فنقلوه في عربتهم ورحنا المطار.

س- وهل كان مع الضابطين حقائب لما قابلتهم؟

ج- معرفش ومش متذكر.

س- مع من تركت سيارتك الخاصة وهل سلمتها لأحد عندما تركتها في شارع العباسية.

ج- أنا سبتها في الشارع من غير ما أسلمها لأحد واللي عاوز يسافر ميسألشي على حاجة.

س- ما الذي جعلك تأخذ سيارتك من الجراج المجاور للبانسيون وتذهب بها مسافة طويلة حتى شارع العباسية؟ ما دمت تريد أن تتركها وكان الأسهل أن تأخذ تاكسي من جهة قريبة من البانسيون وأنت تقول أنك كنت تبحث عن تاكسي فعلاً!

ج- ده صحيح ولكن اللي حصل كده وربما افتكرت أني أخذت على طول لغاية مصر الجديدة وأغير في مصر الجديدة ولكني وجدت تاكسي في العباسية والتأثير الذي حصل جعلني أخذ تاكسي.

س- وكيف تترك سيارتك في الطريق مع أنك على ما يظهر رتبت جميع أمورك قبل السفر حتى أنك أخذت مع حقيبة البرانيط؟

ج- الواحد وهو مستعجل بعض ساعات يأخذ الحاجة اللي ملهاش لزوم ويترك الحاجة اللي لها لزوم.

س- هل مفاتيح السيارة تركتها بها أم أخذتها معك؟

ج- والله ما كنش معي ويظهر أني تركتهم فيها.

س- هل سعت سيارتك كل الحقائب؟

ج- نعم.

س- الربطة التي كانت بها البطانيات وفرش النوم وكانت كبيرة الحجم وعدك كما رأينا حقائب كبيرة أيضًا فهل وضعت كل ذلك في السيارة؟

ج- نعم وضعتها فيها كلها وإذا كانت عندكم السيارة تقدروا تضعوا فيها الأشياء وتجربوا.

س- هل قابلت أحد في البانسيون وأنت خارج منه؟

ج- أنا مش متذكر إذا كان خدام البانسيون كان موجود أم لا وقت خروجي وكذلك صاحبة البانسيون وإنما دفعت لها الحساب قبل خروجي ويمكن كانت نامت لما خرجت وأنا غير متذكر هذه التفصيلات.

س- سألنا خدام البانسيون وصاحبته فقالا أنك خرجت بحقيبة أو حقيبتين صغيرتين فأين كانت بقية الحقائب؟

ج- الآن فهمت ويظهر أني عملت حسابي أني لما أنزل متأخر بالليل لا أجد أحد يحمل لي الحقائب الثقيلة فأنزلتها في فترة العشاء حوالي الساعة 8.30 تقريبًا وأنزلت الحقائب الثقيلة فقط كي لا أحتاج إلى حملها من فوق وأظن أن الخدام أو البواب هو اللي ساعدني في إنزال الحقائب الثقيلة أولا.

س- هل اتفق معك عبد المنعم عبد الرءوف وحسين ذو الفقار على المقابلة في مصر الجديدة أو في مكان آخر.

ج- هم اتفقا على مقابلتي في مصر الجديدة.

س- ألم تقابل أحد منهما قبل مصر الجديدة؟

ج- أنا غير متذكر.

س- من الذي نقل لك حقائبك من سيارتك إلى التاكسي؟

ج- آه تذكرت الآن عبد المنعم كان هناك عند القبة الفداوية والموعد الأول بيني وبينه كان هناك وعبد المنعم وأنا نقلنا الشنط من السيارة للتاكسي ويمكن يكون سواق التاكسي ساعدنا.

س- أين كان مكان المقابلة مع عبد المنعم؟

ج- كان عند قبة الفداوية لأن ده مكان ظاهر.

س- أنت قلت أنك وأنت سائر في شارع العباسية بسيارتك قابلت التاكسي فاستوقفته فهل كان التاكسي سائرًا في الاتجاه الذي كنت تسير فيه آتيًا في الجهة المقابلة لك؟

ج- أنا بصيت لقيت تاكسي واقف على يمين الشارع وكان الميعاد مع عبد المنعم هناك فنزلت ووقفت وجدت عبد المنعم وهناقال أن التفاصيل الصغيرة الخاصة بالضابطين التي يمكن أن تكون محل مناقشة فأنتم تعذروني إذا كنت لا أبت فيها بصراحة أما عن نفسي فأنا أقول لكم كل شيء بصراحة وذلك لأن الضابطين صغيرين وفي اعتقادي أنهما لم يجرما في شيء.

س- لماذا أخذتهم نقطة قبة الفداوية للمقابلة مع أن منزل عبد المنعم عبد الرءوف في السيدة زينب وأنت كنت نازل في بانسيون بجهة قصر النيل؟

ج- لأن اتجاهنا كان مصر الجديدة وهي في الطريق.

س- ألم يكن هناك شخص آخر ينقل معكم العفش من سيارتك إلى التاكسي في قبة الفداوية؟

ج- لا مطلقًا.

س- سألنا سائق السيارة التاكسي الذي نقلكم إلى مصر الجديدة فشهد بأنك أحضرت الحقائب من الجهة المقابلة في الشارع وكان يساعدك رجل أسمر اللون يلبس جلابية بيضاء؟

ج- لا لم يحصل.

س- من الذي دفع أجرة التاكسي لما وصلتم إلى مصر الجديدة؟

ج- أظن أنا.

س- هل تذكر كم دفعت أجرة التاكسي؟

ج- في الوقت الذي يركب الإنسان فيه مثل هذا الخطر يدفع جنيه وكل ما أفتكره أن السواق تشكر لي وقال ربنا يطول عمرك وده لازم علشان دفعت له أجرة زيادة.

س- نسألك عن مقدار الأجرة لنعرف من أين جاء التاكسي أولاً، أي مقدار المسافة التي قطعها قبل أن يصل مصر الجديدة؟

ج- التاكسي كان مع عبد المنعم وحضر فيه من مصر ولا أعرف من أي جهة أخذه.

س- هل قمت بزيارات في يوم الخميس 15 مايو 1941 لأحد من أصدقائك قبل ذهابك إلى البانسيون لآخر مرة؟

ج- لابد أني عملت زيارات لناس أصدقائي أفتكر أنه لو حصل لي حاجة في الطيارة أو شيء أنها تحصل من غير ما أشوفهم واعذروني إذا كنت لا أقول عنهم لأنهم ما كانوا يعلمون بقصدي وأكثرهم لو كانوا يعملوا لحاولوا منعي.

س- وبعد خروجك من البانسيون بالسيارة قاصدًا موعد المقابلة مع عبد المنعم ألم تقم بزيارة أحد؟

ج- الجواب هو ما أجبت به على السؤال السابق.

س- كيف اتفقت مع الضابطين حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف على الخروج من القطر المصري ولماذا؟

ج- من جهة حسين ذو الفقار مكنتش أعرفه قبل السفر ببضعة أيام وشفته مرة واحدة أو اثنين وعبد المنعم هو الذي عرفني به وأحضره عندي في البانسيون. وأما عبد المنعم فمعرفتي به ترجع إلى زمن خروجي من الخدمة أي بعد خروجي بقليل وذلك أني لاحظت ضابط يؤدي إلى التحية وأنا ماشي في الشارع ذات يوم فكلمته وسالته أنت من؟ فقدم لي نفسه، وقال لي: أنا ضابط في الطيران، فكلمته كام كلمة عن وظيفته فوجدته نبيه وله خلق وقلت له أكون مبسوط لو تزورني، فجاء لي في بيتي بعين شمس في يوم وحضر بعدها مرتين ثلاثة. وكان معتاد أنه يزورني خصوصًا بعد انتهاء الأجازة أي بعد أن قررت الحكومة فصلي نهائيًا من الخدمة. فكثير من الضباط كانوا يزوروني مجاملة ولإظهار أسفهم ولا أعرف أسماء ستين في المائة منهم لأني أعرفهم بالشبه فقط وإنما كان يسرني أ ن يحضر لي شبيبة منهم تحضر لتستفيد من بعض تجاربي حتى عبد المنعم معرفتش اسمه إلا أخيرًا وهو نفسه قال لي أنا كنت عندك مرة وكان عندك فلان وفلان فقلت أنا لا أتذكر هذه الأسماء. ومن يوم أن قررت الحكومة الاستغناء عني ومنحي أجازة لأسباب سياسية أصبحت في حالة عصبية غير طبيعية لانه كان لي الحق في الخدمة خمس سنين وزيادة وكان في الإمكان تمضيتها خارج الجيش في أي وظيفة وبما أني رجل أشعر في نفسي بالاندفاع للعمل فمنع هذا العمل عني يوجه هذا الاندفاع ضد شخص حسبما ومعنى وكنت أشتكي للكثير من الإخوان وتمنيت لو أمكنني مغادرة البلاد والخروج إلى تركيا مثلاً حيث لي بها أصدقاء ثم تغيير عسى أن يكون في ذلك تأثير حسن على أعصابي وعسى أن أجد عملاً يلهيني عما أنا فيه من الكدر وفعلاً استحصلت على جواز سفر في آخر يوم خروج رفعة على ماهر باشا من الوزارة ولكن لم يسمح لي بالمرور من فلسطين. ثم كررت طلبي مرة أخرى فأشير علي بالبقاء في مصر حتى في موسم الحج أردت أن أسافر لأقيم بعد الحج بالطائف وأبتعد عن هذا الوسط المنغص ففهمت أن هذا الطلب لا يكون له نصيب من الحظ مثل ما سبق. فبدرت من ذات مرة أمام عبد المنعم أني كنت أتمنى أن أكون طيارًا وأخرج بهذه الواسطة من مصر على بلاد محايدة فقال لي وأي بلد محايدة والعالم في حرب خصوصًا أن مدى طيران أن طائراتنا المصرية بسيط يسمح أن يصل بها الإنسان إلى بلاد فارس مثلاً أو إلى الحجاز، ففكرت في بيروت لأنها في الواقع بلد محايد بعد ما انتهت الحرب في فرنسا. ومن هناك يمكنني أن أترك الطائرة وأذهب إلى تركيا أو أظل في سوريا حيث المسألة العربية دخلت في حيازة جديدة وأني من الذين اشتغلوا بها في مبدأي.

كلامي هذا ولد في رأس عبدالمنهم فكرة مساعدتي لهذا الأمر ولم يبده لي في حينه، ثم حصلت مسائل تفتيش المنزل واستجوابي وقرار الوزارة بفصلي نهائيًا من الخدمة والمعاكسات التي كانت جلية في أعين الناس التي خلقت جوًا في كثير من المصريين المتعلمين وعلى الأخص الشبان جوًا ملائمًا لي. أظن أن كل هذه الحوادث هي التي دفعت هذا الشاب النبيل أن يتحدث في هذا الموضوع مع صديقه ذو الفقار ويظر أن الشعور كان عامًا بين هؤلاء الشبان لصالحي ففوجئت يومًا بأن عرض على عبد المنعم الطيران إلى حيث شئت. فسررت جدًا ولكن نظرت إلى حداثة سنه ومستقبله وإلى صديقه ونصحتهما أن يكفا عن هذا لأنه قد يكون مستقبلهما في خطر. فأجابا إنا نعمل لصالح العدل ونراك مظلومًا فإن فقدت فلنفقد معك ثم فكرت في صالح مصر العام وفكرت في نفسي وفي هذين الشابين وغيرهما تجاه هذا الصالح العام المصري الشرقي وتجاه ما يجابهه العالم بأسره من تغيير اجتماعي يكاد يشبه انقلاب الأديان فوجدت أننا من حيث الضآلة لا تساوي شيئًا يذكر بل استحببت أن أنصح لهؤلاء الشابين الجريئين أن يتعلما الحذر في الوقت الذي تحتاج مصر ورجالها فيه إلى الإقدام وإلى التضحية. فشوقتهما ودفعتهما بكل قدرتي على أن يعملا ويجهزا هذا العمل تجهيزًا دقيقًا وأن يتوكلا على الله ففعلا وضربا بذلك مثلاً للشرف وللشبيبة المصرية أن في حياة الأمم التضحية هي الحلية الكبرى التي تليق أن يقابل الإنسان ربه وهو لابسها، وأما كيف اتفقنا على الخروج من القطر المصري فإن الاتفاق حصل في بيتي في عين شمس والبانسيون بيني وبين هذين الضابطين.. فقط ولا يعلم به أحد غيرهما.

س- هل اتفقتم على كل تفصيلات الخطة للخروج؟

ج- أنا قلت لهما فقط لا تهملا في شيء والتفصيلات الفنية هما أدرى بها وأما المقابلة في شارع العباسية وفي مصر الجديدة فاتفقت عليها معهما قبل السفر بيوم في البانسيون.

س- هل الأسباب التي ذكرتها هي التي كانت السبب وحدها في الخروج من مصر؟

ج- هذه هي الأسباب الأساسية ولكن ظهر بجانبها سبب آخر قوي جدًا هو الذي عجل على القرار على السفر وهذا السبب هو ما كان يردده المقصود (يرد) يوميًا على إخواني من قرب حدوث القبض علي واعتقالي فكانت ترد لي هذه الأخبار شفويًا ويطلبني البعض طلبًا مني بالتليفون مما أوجد في نفسي خواطر دفعتني بسرعة السفر وقد انتخبت بيروت لأنها بلد محايد أو كانت إلى ذلك اليوم بلدًا محايدًا وكنت مصمم على المكث فيها أو في تركيا مدة طويلة لذلك تزودت كما تعلمون بكثير من الحقائب وغيرها وكان في النية إعادة الطائرة من بيروت إلى مصر.

س- ألم يكن لك غرض آخر بعد وصولك إلى بيروت؟

ج- لاشك هذا الغرض ظهر من حادث حصل بيني وبين جهة أجنبية أخرى هي إنجليزية كان أن ثم أدى إلى خير عظيم في الشرق.

س- نريد تفصيلاً أوفى عن هذا الغرض وهذا الحادث؟

ج- أرجو أن يسمح لي أن لا أزيد عن قولي بأنه كان بخصوص إجراء صلح في العرقا لصالح الطرفين وربما توسع لصالح حلف عربي.

س- وهل كلفك بإجراء هذا الصلح أحد خاص أو فهمته تلميحًا من أحد وبين من كان يراد إتمام هذا الصلح في العراق؟

ج- المسألة لم تكن قد وصلت إلى درجة التكليف ولكنها كانت في حيز تبادل آلاء بيني وبين جهة إنجليزية لا أريد أن أذكرها الآن وأراني لست حرًا في ذكرها الآن، وسافرت قبل أن آخذ الجواب عنها والصالح (المقصود الصلح) الذي كان يراد إتمامه في العراق وهو بين الإنجليز وبين العالم العربي.

س- ألا يمكنك تذكر لنا أسماء من كنت تتحدث معهم في مصر عن هذا الشأن أي شأن الصالح المذكور؟

ج- قدمت أني آسف جدًا لأني لست حرًا في ذكر الأسماء.

س- ألا تعتقد أن سفرك قبل تلقي جواب حاسم من الجهة الإنجليزية بشأن هذا لصالح ربما يؤدي إلى عكس ما أنت قاصد؟

ج- لم يدر في خلدي أن الطائرة ستسقط بعد عشر دقائق من قيامها فإن كنا وفقنا للوصول إلى بيروت أحرارًا من كل سلطة عرضنا تقديم خدمة لانقلب سوء الفهم إلى حسن ظن كبيرة وأكرر أن أسباب التعجيل بالسفر هو تواتر أخبار القبض علي من جهة والميعاد الإنجليزي الذي كان بعد ثلاثة أو أربعة أيام من جهة أخرى الذي أعطي إلي لتلقي الرد وما كان هذا الميعاد محددًا بالضبط بل كان معلقًا على عودة شخص من خارج القطر المصري وربما تؤخره ظروف إلى أكثر من هذه الأيام. تمت أقواله مؤقتًا وأمضى؛؛

النائب العام

(إمضاء)

وقفل المحضر على هذا في تاريخه الـ 9.45 مساء.

للاستراحة وتناول الطعام؛؛

النائب العام

(إمضاء)

أعيد فتح المحضر في تاريخ الساعة 10.55 أفرنكي مساء. بالهيئة السابقة.

استدعينا عزيز المصري باشا وأعدنا سؤاله بالآتي:

س- هل كنت تعرف عند من ستنزلون في بيروت إذا وصلتم إليها؟

ج- مثل نبيه بك العظمة والأمير عادل أصلان وشكري بك القوتلي وعائلة برو وكثيرون غيرهم.

س- أما كنتم اتصلتم بأحد من هؤلاء من قبل لإخبارهم بعزمكم على الحضور عندهم؟

ج- ذلك كان غير ممكن لانقطاع المواصلات.

س- متى وصلت بالضبط لمنزل عبد القادر رزق ؟

ج- أرجو المعذرة إذا كنت لا أذكر ذلك.

س- لماذا اخترتم منزل عبد القادر رزق للاختفاء فيه؟

ج- أنا أزور المعارض التي يقيمها الفنانون وعرفته في أحد هذه المعارض في الشتاء على ما أظن، وطلب مني أن يعمل لي تمثال فرحت في بيته، مرتين أو ثلاثة ولذلك عرفت البيت وجه في بالي أخيرًا فرحنا عنده، وأما التمثال فكان لم يتم لأنه لم يكن عندي وقت أروح له وهو قد فوجئ في الواقع لما دخلنا عنده وأنا قلت له إحنا مش رايحين نضايقك كثير وراح نقعد مدة وجيزة جدًا فهو كان لطيف وقال أنا في خدمتكم.

س- هل يمكنك أن تحدد لنا ساعة وصولكم إلى منزله بقطع النظر عن تاريخ وصولكم إليه؟

ج- ما أقدرش أقول شيء وكل اللي أقدر أقوله أني لما رحت عنده كلفته بمأمورية وهي أني كنت لما أسافر في أي جهة أعطي توكيلاً للأستاذ لا هو فاري المحامي لاستلام خطاباتي التي ترسل إلي عن طريق محل كوك وفي هذه المرة لم أتذكر إذا كنت تركت هذا التوكيل لاهو فاري أولاً فكتبت جواب لمحل كوك بتسليم جواباتي للأستاذ لاهو فاري وسلمت هذا الخطاب لعبد القادر علشان يعطيه إلي فقال أنا معرفش لاهو فاري فقلت له سلمه لزميل لاهو فاري المشترك معه في الوكالة عني وهو الأستاذ فتحي رضوان فقال أنا رايح أجتهد أعطيه له ولا أعرف إذا كان أوصل هذا الخطاب إلى فتحي رضوان أو لا.

س- ألم تكلف عبد القادر رزق بمأمورية أخرى؟

ج- لا.

س- ألم تكلفه بطلب شيء من شخص اسمه خيرت؟

ج- غير متذكر.

س- ألا تعرف شخصًا اسمه خيرت؟

ج- أعرف واحد اسمه خيرت ضابط في البوليس كان تلميذ عندي في المدرسة، عرضنا عليه الورقة الصغيرة المكتوب فهيا "خيرت اعتمد كل الاعتماد على حامل هذه وأجب على ما يريد، والإمضاء عزيز" وسالناه عما تشير إليه هذه الورقة فقال أن هذه الورقة بخطي وإمضائي وتذكرت الآن أني كتبتها لخيرت الضابط الذي في البوليس والذي قلت عنه الآن وأنا أعطيتها لعبد القادر رزق وقلت له يجتهد أن يقابل هذا الضابط علشان يعرف درجة التحريات عني وإيه الحالة الآن بالنسبة لي.

س- وما اسم خيرت هذا بالكامل؟

ج- أنا لا أعرف اسمه كاملاً وأعرف أن اسمه خيرت فقط وكان قبل سنتين أو ثلاثة ضابط بسواري البوليس ولا أعرف أين مقره الآن وأظن أنه تخرج سنة 1930 وأنا ليس لي به علاقة من سنتين وإذا كانت هذه الورقة لم تصل له فإنه سيندهش إذا سألتموه عن شيء يختص بي لأني لم أتصل به من سنتين.

س- ما الذي جعلك تفكر فيه مع انقطاع العلاقة بينك وبينه من عدة سنين؟

ج- هو كان من الضباط الطيبين وكان دائمًا الأول والثاني في المدرسة وكنت أعتقد أن عنده أخلاق وأنه لو جاء له سؤال مني مش رايح يمسك اللي بيسأله ويبلغ عنه ويمكن أثق فيه وأعتمد عليه. س- ألا توجد أي علاقة أخرى بينك وبينه؟

ج- لا.

س- ألم يحصل أن زارك في منزلك من مدة خروجك من المدرسة إلى الآن. ج- لا.

س- متى كتبت هذه الورقة؟

ج- كتبتها يوم دخولي منزل عبد القادر وبالطبع قررت أني لا أريد أن أذكر يوم دخولي عنده.

س- لما وصلتم لمنزل عبد القادر هل وجدتم به أحدًا غيره؟

ج- وجدته هو وأخته ودول مساكين ونكبا بسببنا وبالطبع لم يكونوا يعلموا بحضوري.

س- ألم ترى أخاه عبد الحميد؟

ج- لا لم أره إلا أمس وقت القبض علينا فسألته أنت مين؟ فقال: أنا عبد الحميد، فقلت: لازم يكون قريب عبد القادر لأنه كان لابس بيجامة وأخته كانت واقفة جنبه وقلت له أنت فين؟ فقال: أنا في مدرسة الفنون الجميلة.

س- هل تعرف أحدًا بمدرسة الفنون الجميلة؟

ج- أعرف مدير المدرسة محمد حسن وأعرف ناجي مديرها السابق لمحمد حسن وأعرف أساتذة بالشبه ولكن ناسي أسمائهم الآن.

س- هل تذكر من الذي فتح لكم الباب عندما وصلتم لمنزل عبد القادر رزق ؟ ج- أظن أخته.

س- من الذي كان يطبخ لكم الطعام.

ج- هي.

س- ومن الذي كان يقدم لكم الطعام في غرفة الأكل؟

ج- قلت لها مش ضروري تحضر سفرة وكانت تضع الأكل على الترابيزة وأقول للضباط ساعدوها وأنا في الحقيقة معجب بهذه السيدة لأنها كانت مالكة شعورها وقت القبض علينا. ولما خبط البوليس على الباب جاءت وسألتني وقالت لي: البوليس جه أقوله لهم إيه؟ فقلت لها: استني لما أفكر شوية، وبعدين بصيت وجدت البوليس دخل وبعد ذلك لما قبض علينا قلت لها إحنا ضايقناك وشوفي عملنا إيه، فتبسمت وقالت: لا محصلش حاجة وكان موقفها تشجيع لنا.

س- هل تذكر متى بدأ عبد القادر يصنع التمثال لك؟

ج- في الشتاء الماضي.

س- الجواب الذي سلمته لعبد القادر ليعطيه إلى لاهو فاري لاستلام خطاباتك من كل كوك مؤرخ 28 أبريل 1941 فهل كتبته في ذلك التاريخ.

ج- أنا كنت في منزل عبد القادر أخيرًا وأرخته 28 أبريل سنة 1941 حتى لا أحرج مركز لاهو فاري إذا سلمته لمحل كوك.

س- من أين أحضرت الورق الذي كتبت عليه هذا الخطاب؟

ج- الورق كان معي وحتى أحضرته معي إلى هنا في السجن.

س- وهل تعلم ماذا كان يصنع لاهو فاري بخطاباتك عندما يستلمها من محل كوك؟ ج- كان يحفظها لحين عودتي وأنا في الواقع كنت قلت له أنه يأخذ جواباتي في كل أسفاري ويفتحها ويطلع عليها وإذا كان فيها شيء مهم يخبرني عنه لما سأله عنه، وفي هذه المرة كنت ناوي أنه إذا استلم جوابات يفتحها ويبقيها عنده وأنا أبقى أتصل به وأساله عما فيها بواسطة شخص مثل عبد القادر مثلاً وغرضي أن لاهو فاري كان يبقي الجوابات عنده حتى إذا وصل على علم الحكومة أنه يستلم خطاباتي فيقدمها وفعلاً هو لم يكن يعرف محلي وأن وصيت عبد القادر أن يقول أني أنا لست عنده.

س- هل ضبط معك نقود وكم مقدارها؟

ج- أنا كان معي وقت ضبطي 1450 جنيه ومقدار آخر أوراق أخرى لم أعدها تقرب من الخمسين جنيه ولا أعرف عددها بالضبط وهذا المبلغ أصله ألفين جنيه وكسور أخذتها من الحكومة مكافأة عن مدة خدمتي دفعت منها ديون لأشخاص علي وهذا هو المبلغ الباقي منها.

تحت أقواله وأمضى

النائب العمومي

(إمضاء)

وقفل المحضر على هذا في يوم الأحد 8 يونيو سنة 1941 الساعة 12.45 صباحًا

النائب العمومي

(إمضاء)

أعيد فتح المحضر في يوم الأحد 8 يونيو سنة 1941 الساعة 10 افرنكي صباحًا بالهيئة السابقة.

استدعينا عزيز المصري باشا واعدنا سؤاله بالآتي:

س- هل كنتم اتصلتم بأي جهة رسمية في سوريا لنزول الطائرة؟

ج- لا مكناش اتصلنا بأحد أبدًا.

س- وكيف كنتم تريدون النزول بالطائرة وهي حربية من غير تصريح؟

ج- أنا كنت متوقع أننا لما ننزل سيقبض علينا وسيستجوبنا البوليس الحربي الفرنسي أو الجهات المختصة وربما يقبض علينا وحتى كان يمكن أن يطلق علينا النار قبل نزولنا ولكن كنا معتمدين على أن الطيارة غير مسلحة، وهذا يظهر من الخارج وعلى أننا سنعمل إشارات يفهم منها أننا ليس لنا غرض عدائي وكنت أعتقد أنه لو قبض علي يمكنني أرسل أحد من المطار في الحال إلى أصدقائي في سوريا الذين سبق قلت عنهم وهم يسعون في إطلاق سراحنا.

س- وأي إشارات كنتم سترسلونها لإظهار أنه ليس لكم غرض عدائي؟

ج- أنا كنت سألت الطيارين فقالوا لي نقدر نعمل إشارات بيضاء بقماش أبيض وكنا معتمدين على الوصول وقت الفجر فيمكن رؤية هذه الإشارات.

س- وكيف كنتم ستدخلون البلاد السورية بغير جوازات سفر؟

ج- كنا معتمدين على مخابرة أصدقائنا.

س- إذا كنت أزمعت الخروج من القطر المصري لمضايقتك من خير العزم على القبض عليك وأنت تعتقد أنه ربما قبض عليك عندما تنزل في المطار في بيروت مع الاستهداف إلى أخطار أخرى أشد من ذلك كالضرب بالرصاص كما تقول فما هو الدافع الشديد على هذه المغامرة إذن.

ج- كما قدمت الغرض الأصلي من الخروج من مصر هو خدمة القضية العربية التي كنت مؤسسها وأما ما قدمت من سوء معاملة الحكومة المصرية إلى من منعي عن العمل والتهديد الدائم بالقبض علي وغير ذلك ما هي إلا ممرضات عصبية عملت أمر الخروج والإنسان في حياته أما أن يعيش حرًا فالحياة لا قيمة لها.

س- وما الذي كنتم نويتم على عمله فيما يختص بالطائرة؟

ج- أنا كنت ناوي إننا لما نصول أقول للسلطات هنا بأي وسيلة بأني أنا لمسئول عن هذا الحادث وأني أنا خدعت الضابطين الطيارين وخرجت بهما مع الطائرة ولم يقبلا البقاء معي فأعدتهما مع الطائرة، وإذا كان الضابطان لا يقبلان العودة إلى مصر فكنت أبقيهما معي وأسلم الطائرة للقنصل المصري يتصرف فيها كيف يشاء.

س- ألم تكونوا وضعتم خطة معينة محددة عند وصولكم لبيروت؟

ج- أن اللي كنت فكرت في هذا وحدث وما كنت فاتحت الضابطين لأني ربما لو كنت أعطيتهما تفاصيل كانا يمتنعان عن الذهاب معي، فأبقيت هذه التفاصيل في نفسي للمستقبل وأن بالطبع كنت عازم على عدم العودة وهما يعرفان ذلك إلا إذا تم اتفاق شريف أنفع به بلدي فأعود ثانية وأقصد بالاتفاق الشريف المسألة المعروفة تحت عنوان الحلف العربي أو حلف البلاد التي تتكلم العربية. وأنا أعتقد أن الضابطين كانا يعتبرانني كوالدهما يتصرف في أمرهما كيف يشاء وقبلاً أن يخرجا بي بالطائرة من غير قيد ولا شرط والمسألة تمت بسرعة لأن الاتفاق حصل قبل السفر بيومين على ما أظن. وأكثر الكلام حصل حول صلاحية الطائرة والاستعداد اللازم لها وسألوني عن الملابس اللازمة لهما لهم كل واحد يأخذ ملابس كأنه مسافر لأوروبا شهرًا أو شهرين وأنه محدش عارف المستقبل فيه إيه.

س- وجدنا ضمن الملابس التي في حقيبة من حقائبك قطعة من القماش الصوف مثلثه الشكل حمراء اللون عليها رسم بالحرير الأسود فما هي هذه القطعة وما منفعتها؟

ج- هذه شارة عائلة من أقرب أقاربنا في القوقاز.

س- ولماذا حملت هذه الشارة معك؟

ج- دي صغيرة كالمنديل وكل ما أروح في جهة أعلقها وكانت معلقة في بيتي في عين شمس. س- أليست هي راية أو علامة خاصة تدل على إشارة خاصة مثلاً؟

ج- لا.

س- قال لنا أحد الخبراء أنها علم فاشيستي؟

ج- أنا مشفتش هذه العلامة عند الفاشست ولا في أي بلد.

س- هل أنت متأكد أنها إشارة خاصة بإحدى العائلات وأنها ليست علم فاشيستي؟

ج- أنا متأكد أن هذه شارة عائلية فبالتأكيد وهي عائلة في استامبول مناسبة للسلطان عبد العزيز وهي عائلة عثمان باشا المشير وفؤاد باشا والعائلة اسمها شامي بلن أي الرأي الأحمر أو الملك الأحمر أو الرئيس الأحمر وهذه الشارة هي شارتها وهذه العائلة كان سيكون فيها نسب بيني وبينهم وأصحابي من زمان وبما أن النية كانت أني أروح استامبول فمن باب المجاملة حملتها معي لأنها تذكار من إحدى سيدات تلك العائلة عملتها لي هدية.

س- الخبراء هنا يؤكدون أنها راية فاشيستية!

ج- يتفلقوا بأة ويقولوا اللي يقولوه.

س- هل نقلتم شيء من الطيارة عند نزولكم بقليوب؟

ج- لا لأننا سمعنا صوت يقترب منا وربما يكون عساكر حضروا فلم يكن فيه وقت لنقل شيء من الطائرة حتى البيجامات التي وجدت في البيت أثناء القبض علينا اشتريناها من هنا.

س- من الذي اشتراها لكم؟

ج- ما أقدرش أقول واحنا اشتريناها أول ليلة أي أول يوم نلزنا.

س- أليس هو عبد القادر رزق الذي اشتراها؟

ج- لا لأننا ما كناش رحنا له.

س- كم بيجامة اشتريتم؟

ج- أنا اشتريت بيجامتين أعطيت واحدة منهما لأحد الضباط وأخذت الثانية والضابط الثاني أخذ بيجامة من البيت اللي كنا نازلين فيه.

س- لما ذهبت لمركز قليوب بعد نزولك من الطائرة وكلفت أحد العساكر بنداء المعاون هل ذكرت له اسمك؟

ج- أنا لم أقل للعسكري اسمي لأني لم أكن أريد أن يعرفني وأنا ذكرت اسم واحد من ضباط من اللي كانوا معه في المدرسة حتى إذا نزل يعرفني ولكن لما طل من الشباك شفته بنفسي.

س- ما هو اسم الضابط الذي ذكرته للعسكري؟

ج- ذكرت له اسم الألفي وأقصد به اليوزباشي الألفي الذي كان موظفًا في مدرسة البوليس وكان الطلباوي معاصرًا له وزميله في مدرسة البوليس.

س- علمنا من التحقيق بخبر بعض الزيارات التي قمت بها في يوم 15 مايو سنة 1941 وقبل ذلك بقليل ونذكر لك منها زيارة للأستاذ لاهو فاري فهل وقعت هذه الزيارات حقيقة.

ج- نعم زرت لاهو فاري لأنه المحامي بتاعي وكنت مكلفه بنظر أعمالي الخاصة.

س- هل أعطيته نقود؟

ج- أعطيته مائة جنيه لدفع بواقي علي وماهيات خدم الجنينة المنزل.

س- هل قمت بزيارة لمنزل الدكتور سيد بك شكري؟

ج- ما اتذكرش لكن أنا أزوره كل يومين ثلاثة وهو صديقي من قديم.

س- هل قابلت سيد بك شكري يوم الزيارة الأخيرة؟

ج- لا أتذكر لأني دايما أروح عنده.

س- هل زرت منزل اليوزباشي سليمان عبد الرحمن محمود في يوم 15 سنة 1941؟

ج- نعم زرته ولم أجده وزوجته قالت لي دلوقت يجي فقلت لها معلهش واليوزباشي سليمان كان الياور بتاعي.

س- هل قمت بزيارة الدكتور سامي كمال بمنزله؟

ج- نعم.

س- هل تركت له سيارتك ليحفظها وأعطيته مفاتيحها؟

ج- نعم.

س- هل هذه هي مفاتيح سيارتك؟ وعرضنا عليه المفاتيح المضبوطة.

ج- نعم هي.

س- أما كنت تحفظ عنده بعض حقائب من حقائبك؟

ج- لا، ودول أصدقائي هو وسيد شكري وأمثالهم ولا أحب أن أشركهم في أي شيء.

س- ألم تذكر لأحد من هؤلاء الذين زرتهم بعزمك على الخروج من القطر المصري؟

ج- لا حتى لا تشيع المسالة ولا أحرجهم.

س- عبد القادر رزق يقر أنكم نزلتم عنده من يوم الجمعة 16 مايو سنة 1941 صبحًا إلى أن قبض عليكم!

ج- هو مسكين لأنه عاوز يأخذ كل المسئولية على نفسه وفي الحقيقة هو مظلوم.

س- ألا يمكنا تحديد المدة التي قضيتها في منزل عبد القادر رزق ؟

ج- إحنا فاجئنا في الحقيقة ولا أريد أن أذكر المدة التي قضيتها عنده.

س- هل هو الذي اشترى البيجاميتن؟

ج – أنا لا أريد أن اذكر شيئا عن عبد القادر رزق واعذروني إذا كنت لا أجيب على هذه الأسئلة

س – هل كان معكم ملابس داخلية كألبسة وفانلات عند دخولكم منزل عبد القادر

ج – لا ثم قال نعم كان معي وحاجات لا أتذكرها وأرجو أن تسألوني عن ذلك وقصدي أني لا أحرج أحدا

س – عثرنا في الغرفة التي كنت بها وقت الضبط على بعض ياقات للقميص نمرة 42 مكوية بالنشاء وكذا جوارب جديدة فهل هي لكم

ج – الياقات ليست لي ولا أعرف هي لمن وأما الجوارب فربما كان لي وربما كان لأصحاب البيت

تمت أقواله وأمضي

النائب العمومي

إمضاء

وقفل المحضر على هذا في تاريخه الساعة 1.30 أفرنكي مساء

النائب العمومي

إمضاء

أعيد فتح المحضر على هذا في تاريخه الساعة 5.40 أفرنكي مساء بالهيئة السابقة

استدعينا عبد القادر محمد رزق واعدنا سؤاله بالاتي:

س – قرر لنا عزيز باشا المصري أنه أعطاك الخطاب المرسل منه إلى محل كوك لتسليمه إلى محاميه لاهوفاري فقلت له أنك لا تعرف فكلفك بأن توصل هذا الخطاب إلى الأستاذ فتحي رضوان المحامي وقد ضبط هذا الخطاب في جيبك فهل أنت مصر على أن عزيز باشا لم يكلفك بهذه المأمورية

ج – أفكر أن عزيز باشا قال لي مرة تعرف المحمي اللي اسمه لاهوفاري فقلت له معرفوش ولكن غير متذكر أنه قال لي وصل الجواب لفتحي رضوان

س – قرر عزيز باشا أيضا أنه لم يمكث بمنزلك ألا أياما قلائل ولم يحضر ألا أخيرا قبل ضبطه أي أنه هو وزميلاه لم يحضروا من يوم الجمعة 16 مايو سنة 1941 كما قررت فما هي الحقيقة

ج – أنا مصمم على كلامي

س – ممن هو خيرت الذي كلفك عزيز باشا أن تسلمه الورقة الصغيرة التي ضبطت في جيبك

ج – لا أنا أعرفه ولا شفته ولم يكلفني عزيز باشا أني اطلب منه شيئا

س – قرر لنا عزيز باشا أن أختك هي التي فتحت له الباب عند حضوره هو وزميليه

ج – أنا اللي فتحت لهم وأختي لم ترهم

س – هل حضروا عندك بالبيجامات

ج – لا

حضروا من غير بيجامات وأنا اشتريت بيجامتين من محل صغير في شارع سليمان باشا واشتريتهم بعد ما حضروا بثلاثة أربعة أيام

س – وماذا صنعوا في المدة من وقت حضورهم إلى أن اشتريت البيجامتين أي إذا كانوا يلبسون

ج – أنا كان عندي ثلاث بيجامات واحدة ألبسها أنا وأعطيتهم أثنين وواحد من الضباط كان يلبس بنطلونه لغاية ما اشتريت البيجامتين

تمت أقواله وأمضي،

النائب العمومي

(إمضاء)

ملحوظة: كنا طلبنا من حضرة صاحب السعادة حمدي محبوب باشا تكليف رجال البوليس بالحبث عن خيرت الضابط بالسواري الذي ورد ذكره بأقوال عزيز باشا المصري. وقد أبلغنا سعادته اليوم ظهرا أنه عرف من التحري أن الضابط المقصود هو عبد الحميد أفندي خيرت الملازم أول ببوليس السواري وهو متخرج سنة 1930 كما قال عزيز باشا فأمرنا بتفتيش مكتبه ومنزله وضبط ما يوجد به من الأوراق وإحضاره إلينا.

وقد حضر الآن اليوزباشي محمد إبراهيم إمام أفندي وقدم لنا محضرا بتفتيش المكتب والمنزل المذكورين وأخذنا أنه احضر أوراق الملازم أول عبد الحميد خيرت التي ضبطها بمنزله وسلمها إلينا فلم نجد بها ما يثير الشبهة أو له علاقة بهذا التحقيق.

تمت الملحوظة،

النائب العمومي

(إمضاء)


استدعينا عبد المنعم عبد الرءوف وسألناه.

اسمي عبد المنعم عبد الرءوف س 27 مولود بصر ومقيم بعمارة رأفت شارع قدري باشا بالسيدة زينب وطار أول بسلاح الطيران الملكي المصري.

س _ أنت قمت بالطائرة من مطار ألماظة في ليلة 16 مايو الماضي مع عزيز باشا المصري وحسين ذو الفقار وسقطت بكم بقرب قليوب أليس كذلك؟

ج – حصل ذلك.

س- أرجو أن تروي لي الحادث بتفاصيله ابتداء من تعرفك بعزيز باشا المصري إلى أن قبض عليك أول أمس.

ج- قبل سفري بحوالي سبعة وعشرين يومًا كنت ماشي على كوبري قصل النيل حوالي العصرية أتنزه على الكوبري، فجأة قابلت عزيز باشا المصري كان سائرًا أيضًا فحييته فناداني. وسألني: هل أنت ضابط وكنت لابس ملابس ملكية فقلت له: أيوه. فسألني عن وجهتي فقلت إلي أتنزه فدعاني للسير معه وسرت معه، وأخذنا نتحدث عن الطقس وننظر للبحر (المقصود نهر النيل) حوالي نصف ساعة طلبت منه السماح لي بالانصراف وقبل أن يسمح لي بالانصراف دعاني لزيارته وأعطاني عنوانه بعين شمس كما أنه دعاني لتناول الشاي معه وكان ذلك بعده بثلاثة أيام فذهبت حوالي الساعة 5 وكان في انتظاري فجلسنا معًا في الحديقة وشربنا الشاي وأخذنا نتكلم عن حديقته وعما فيها من مزروعات وعن الألعاب الرياضية. وبعد حوالي ساعة استأذنت فأذن لي وقال لي أن بيتي موجود وفي أي وقت تشرف فشكرته. وبعد حوالي عشرة أيام زرته بالمنزل فلم أجده وبعد ذلك بحوالي ثلاثة أيام أيضًا زرته مرة أخرى فوجدته هناك وجلسنا نتكلم ودعاني للعشاء. فقبلت وبعد ذلك انصرفت وفي يوم من الأيام قبل السفر بحوالي عشرة أيام أو اثني عشر يومًا تقريبًا كنت مطلوبًا لتأدية شهادة في سرب المواصلات ولما وصلت السرب وطرقت الباب الذي يجري فيه التحقيق في هذا الموضوع وجدت مجلس التحقيق مشغول فدخلت حجرة زميلي الطيار الأول حسين ذو الفقار صبري أنتظر دوري فجلست معه ثم أخذنا نتكلم سويًا. وجاء ذكر حديقة المطار فقلت له أنني أرى تحسينها وزيادة الورد الموجود فيها وعمل مظلات يستريح فيها الضباط عند الغروب كما شاهدت في حديقة سعادة عزيز باشا المصري فذكرت له مقابلتي له وذهابي إليه وإعجابي بشخصيته فقال لي كم أحب أن أتعرف بهذه الشخصية. وأني أتذكر أن هذا اليوم كان يوم خميس وطلب مني أن أعرفه بسعادة عزيز باشا المصري وأعطاني ميعاد في نفس اليوم إذا وجد نفسه خاليًا. وأعطيته الميعاد في محطة كوبري الليمون حيث تقابلنا هناك وسافرنا إلى عزيز باشا المصري فسألنا عنه هناك فأخبرونا في بيته أنه انتقل إلى بانسيون فينواز فسألت أحد الخدامين عن نمرة التليفون فأعطاني نمرة تليفون البانسيون وتكلمت مع البانسيون من تليفون منزل عزيز باشا فعلمت من البانسيون أن عزيز باشا يحضر الساعة 8 وكان زميلي حسين ذو الفقار وقت ذلك في الحديقة فرجعنا لغاية ما وصلت الساعة 8 وذهبنا إلى البانسيون وانتظرنا هناك حوالي أربعين دقيقة. ولما لم يحضر عزيز باشا تركنا له خبرًا أننا سنحضر في اليوم التالي صباحًا الساعة 9 أي يوم الجمعة وكان ذلك قبل سفرنا بالطائرة بأسبوع تمامًا. وفي يوم الجمعة تقابلت مع زميلي حسين ذو الفقار وطلعنا البانسيون وسألنا أحد الخدم فقادنا إلى حجرة عزيز باشا المصري فطرقنا الباب ودخلنا وسلم علينا وعرفت زميلي حسين ذو الفقار صبري بسعادة عزيز باشا المصري وقلت له أن زميلي حسين ذو الفقار شاب متعلم ومطلع ويحب أن يتعرف بسعادتك فطلب لنا قهوة وأخذ يسأل حسين أفندي أنت في أي سرب من المطار وهل أنتما الاثنين في سرب واحد؟ فقال له زميلي: كل واحد منا في سرب وحسين أفندي في سرب المواصلات لنقل الوزراء والشخصيات العظيمة في البلد. فعزيز باشا قال أنا ركبت في الطائرة دي وأعرف أنها مريحة وكويسة. وبعد حديث عادي لا أتذكر موضوعه فاتحنا عزيز باشا المصري في الموضوع وقال أنه جاء له واحد قائمقام إنجليزي ومعه آخر روسي وأخبروه بأنهم مش مبسوطين من الحركة التي قامت في العراق في هذا الوقت وأنهم يودوا لو أن عزيز باشا المصري يتوسط حل الإشكال القائم بين العراق وبين الإنجليز فقال عزيز باشا المصري لهما أن هذا ممكن إذا أرضوا العراقيين بما يطلبونه فرد عليه القائمقام الإنجليزي أن هذا كلام نظري وإحنا عايزين عملية وعرضوا على سعادة عزيز باشا المصري توصيله إلى العراق بطيارة إنجليزية للتوسط بين العراقيين والإنجليز فقال لهما عزيز باشا المصري أنه إذا قبل ذلك فيظن العراقيون أنه مرسل من الإنجليز وبذلك يصحب حل الإشكال فسألنا عما إذا كان من الممكن أن تقوم بتوصيله إلى العراق بطائرة مصرية فأجاب زميلي حسين أفندي ذو الفقار أنه لا يمكن للطائرة المصرية أن تصل إلى العراق مباشرة ويمكن وصولها إلى بيروت مثلاً فقال لنا عزيز باشا فكرًا في هذا الموضوع على أن نجتمع يوم الاثنين في أي مكان تشاءان وتعطياني رأيكما. فاجتمعا في منزله ثم قال قبل ذلك ونحن نازلين على السلم بعد انصرافنا من عند عزيز باشا اتفقت مع زميلي حسين أفندي أن يحضر لي بمنزلي قبل موعد عزيز باشا بوقت كاف لدرس الموضوع. وفعلاً حضر لي حسين ذو الفقار في المنزل قبل حضور سعادة عزيز باشا بنحو ساعة وكان ذلك بعد الظهر في يوم الاثنين فأخذنا نتحدث عما إذا كان ممكن تنفيذ السفر إلى بيروت وطريقة التنفيذ فوجدنا أن الطائرة لا يمكن أن تصل إلا إلى بيروت وليس للعراق وقلنا له أنه يجب أن يتم السفر في نوبتجية زميلي حسين أفندي ذو الفقار إذ أن بعض الطائرات تحت قيادته ويكون من السهل عليه إخراج أي طائرة وبعد ذلك قبل عزيز باشا أننا نروح لغاية بيروت وانصرفنا على أن نجتمع قريبًا في قصر البارون إمبان ومنها نذهب لمنزل زميلي حسين ذو الفقار صبري علشان عزيز باشا يشوف طريق السير بتاعنا على الخريطة وكان هذا الميعاد بعد يوم أو اثنين من مقابلتنا في منزلي. ولا أتذكر بالضبط وفعلاً تقابلت مع عزيز باشا قريبًا من قصر البارون إمبان وكان معي حسين ذو الفقار وعزيز باشا حضر بسيارته، وكانت هذه المقابلة حوالي الساعة 8 مساء وذهبنا إلى منزل حسين أفندي ذو الفقار وهناك أخرج زميلي حسين ذو الفقار صبري خريطة لشرق البحر الأبيض المتوسط وأخذنا ندرس خط السير واتفقنا على أن يكون من ألماظة إلى بلطيم ثم إلى بيروت وقبل أن ننصرف طلب سعادة عزيز باشا المصري من زميلي حسين ذو الفقار أن يذهب للبانسيون لأخذ بعضا لحقائب ويحضرها لمنزله أي لمنزل حسين أفندي ذو الفقار وانصرفنا ووصلني عزيز باشا بأتمبيله لغاية بيتي في السيدة. وأعرف أن زميلي حسين ذو الفقار راح لعزيز باشا في البانسيون وأخذ منه بعض الحقائب وأبقاها عنده في منزله. وفي يوم الحادثة وهو يوم الخميس حوالي الساعة 10.30 مساء وضعت أمتعتي في حقيبتي ولبست ملابسي العسكرية وأبلغت السيدة حرمي بأني مطلوب مأمورية لمدة كم يوم ونزلت بعد لما ودعتها وأخذت معي الأمتعة في شنطتين واحدة منهما كنت استلفتها من أخي الصاغ عبد القادر أفندي عبد الرءوف. وركبت الترام نمره 22 من السيدة ةنزلت في باب الخلق ثم ركبت تاكسي لأني وجدت نفسي متأخر عن الميعاد. ووصلت إلى أول شارع كمال بالعباسية حيث كنت اتفقت مع عزيز باشا أننا نتقابل هناك في ذلك الوقت ووقفت بالتاكسي في الترتوار اليمين بالنسبة للذاهب إلى مصر الجديدة أما شارع كمال فعلي يسار الذاهب لمصر الجديدة. واوقفت التاكسي ونزلت وعبرت الشارع إلى الجهة اليسرى بأول شارع كمال فوجدت عزيز باشا منتظرا ومعه حقائبه فأخذت الواحدة بعد الأخرى ووضعتها في التاكسي ولا أعرف عدد هذه الحقائب بالضبط وإنما كانت أكثر من ثلاثة وركبنا وسرنا إلي منزل زميلي حسين ذو الفقار ووقفنا في ميدان مجاور هناك لان الدنيا كانت ظلام ولم نتمكن من معرفة البيت بالضبط ونزلت من التاكسي وبحثت عن المنزل إلى أن وجدته فوجدت عربة حكومية واجون بتاعة الجيش واقفة على الباب وكان بها زميلي حسين أفندي ذو الفقار فركبت معه العربة ورجعنا حيث كان واقفا عزيز باشا المصري ونقلنا الامتعة من التاكسي إلى العربة الواجون ثم ذهبنا إلى المطار. وهناك وقفت العربة الواجون وأمر زميلي حسين أفندي الميكانيكية بإخراج الطائرة الانسون من الحظيرة واخذ الميكانيكيون في نقل الأمتعة من العربة الواجون إلى الطائرة ووقفت أباشر حركة أي عملية تدوير الطائرة. وبعد أن تم تدوير المحركين لاحظت أن المحرك الأمن وقف عن الحركة فاسرعت ونبهت الطيار والميكانيكية إلى ذلك فأداروه من جديد وكان في هذه الأثناء زميلي حسين أفندي ذو الفقار في مكان القيادة وسعادة عزيز باشا المصري في مكان الراكب.وبعد أن تم التدوير أمر بإزالة الحواجز الخشبية التي أمام الطائرة ثم ركبت وأعطيت لزميلي حسين أفندي ذو الفقار القيادة فأخذ في السير والصعود في الجو. وعند ارتفاع حوالي 500 قدم ابتدأ زميلي حسين أفندي ذو الفقار في وضع الزاوية الأولى وهي إلى بلطيم كما اتفقنا وعلى ارتفاع حوالي ألف قدم تقريبًا لاحظت أن الانوار الكاشفة أخذت في الإنارة وكنت في هذه الأثناء جالسًا على الافريز بين الطيار وبين الراكب بعرض الطائرة ودائم الاتصال بين قائد الطائرة الأول وبين سعادة عزيز باشا المصري. ولما أنارت الأنوار الكاشفة لاحظت أن زميلي حسين أفندي ذو الفقار صبري أخذ يهرب من الأنوار الكاشفة فقال لي بانزعاج أن الماكينة اليمين تحترق وطلب مني أن أعطي البراشوت لسعادة عزيز باشا المصري ليقفز من الطائرة فأعطيته الجزء الأعلى من البراشوت وبينما أخذت في البحث عن الجزء الأخر لاحظت أن الطيار قافلا الماكينة تقريبا وأخذ في الهبوط وبدت لي الأرض قريبة فتأكدت أنه لا داعي للقفز بالبراشوت. ثم تركت هذا الجزء واقتربت من الطيار أشجعه على إجراء هبوط مضبوط ولقد كان القمر يسهل علية هذه المأمورية فنزلنا وأخذنا نبحث عن باب الطائرة. فلم يفتح الباب بسهوله فكان هناك جزء صغير أو أطار صغير داخل الباب ففتحناه وخرجنا منه بعد أن كسرناه.وبعد إن نزلنا من الطائرة لاحظنا وجود أشجار نخيل كبيرة فافتكرنا أنا في الخانكة وسرنا. وكانت الكلاب تنبح وعلى ضوء القمر مشينا فوجدنا ترعة صغيرة اجتزناها إلى أن وصلنا إلى الطريق العام مرصوف بالأسفلت فسألنا أحد المارة عن هذا المكان فأخبرنا بأننا في قليوب. ثم استمرينا في السير وأخذ سعادة عزيز باشا المصري يبحث عن عربة ينقل أمتعته أن أمكن وسرنا إلى أن وصلنا إلى نقطة البوليس عرفها لنا أحد المارة. وهناك سأل عزيز باشا أحد رجال البوليس عن أسم الضابط فقال له أن اسمه الطلباوي فانتحيت وزميلي حسين ذو الفقار مكانا إلى أن طل عليه الطلباوي أفندي وعرفه عزيز باشا بشخصيته فنزل الطلباوي أفندي وبعد برهة أرسلوا لنا شربات وقهوة. وبعد حوالي نصف ساعة ركبنا عربة وكنت أنا وزميلي مداريين في الظلام ولا أعرف من احضر لنا الشربات والقهوة أن كان خفير أو خدامه. والضابط وعزيز باشا كانوا قاعدين في جنينه على ما أظن وإحنا مقعدناش معهم وبعدين سمعنا صوت عربة وصوت بيقول العربة جاءت فرحنا جهتها وركب عزيز باشا في المقعد الأمامي وأنا وزميلي في الخلف والسواق ركب والعربة مشيت وأنا كنت متعب جدًا – ولم التفت إلى أن كان الضابط جه لما ركبت أم لا لأني تعبان وسرنا بالسيارة لغاية ميدان الأوبرا بالقاهرة. وفي ميدان الأوبرا تركنا السيارة وركبنا تاكسي ووصلنا إلى مكان الجامعة ومن هناك أخذنا نسير مع سعادة عزيز باشا المصري ولا أعرف مدة سيرنا بالضبط لاني كنت تعبان وكنت أنام وأنا ماشي إلى أن دخلنا منزل الأستاذ رزق وبقينا فيه إلى أن قبض علينا.

س – أنت صدقت في التفاصيل التي قلتها إلى أن ذكرت أنك وصلت مع زميلك إلى الجامعة لكن وصولكم إلى منزل عبد القادر رزق في تلك الليلة غير صحيح.

ج – أحنا وصلنا على طول لبيت عبد القادر رزق .

س – كيف وصلتم راكبين أو ماشيين.

ج – وصلنا ماشيين.

س – متى وصلتم.

ج – وصلنا الفجر وكان فيه قمر.

س – من الذي فتح لكم الباب في بيت عبد القادر رزق .

ج – عزيز باشا كان معه مفتاح أخرجه من جيبه وفتح الباب.

س – وهل من المعقول أن شخصا يكون مزمع الخروج من القطر المصري ويحتفظ بمفتاح سكن شخص آخر.

ج – أحنا خبطنا على الباب.

س – المسافة بين الجامعة ومنزل عبد القادر رزق في امبابة طويلة جدًا تبلغ سبعة أو ثماني كيلو مترات فهل سرتم فيها أو ركبتم مع العلم بأن عزيز باشا رجل مسن ولا يستطيع السير كل هذه المسافة.

ج – عزيز باشا كان ماشي زي أي شاب تمام.

س – هذه الواقعة غير صحيحة أي إنكم قصدتم منزل عبد القادر رزق في تلك الليلة لان نفس عزيز باشا المصري قال إنكم لم تذهبوا إليه في تلك الليلة والأولى لك أن تقرر الحقيقة وتستمر في روايتك بالصدق.

ج – أنا سأقول الحقيقة لمجرد الصدق فقط لأني أحب أن أكون صادقا والحقيقة هي أننا لما نزلنا عند الجامعة رحنا في بيت الأستاذ شوكت التوني في الجيزة لأنه شقيق أحد أصدقائي وهو الأستاذ أبو المجد التوني وأنا رحت ضربت الجرس فواحد فتحلي الباب. فقلت له من فضلك نادي الأستاذ شوكت التوني فأيقظه من النوم فحضر الأستاذ شوكت وقلت له على أن معي سعادة عزيز باشا المصري وأحد زملائي وأن الطيارة وقعت بنا لأنه كان عاوز يسافر بيروت. ولكن لم تفلح المحاولة وعما إذا كان من الممكن المبيت عندك في هذه الليلة. فأجاب تقدروا – تشرفوا دلوقت شوية لكني أفتكر أن الأحسن أنكم تبلغوا عن نفسكم فقلت له سأعرض الأمر على سعادة عزيز باشا وأشوف أيه رأيه. فذهبت وناديت سعادة عزيز باشا ودخل معي هو وحسين ذو الفقار وجلسنا قليلا وطلبت منه ثانية المبيت فأصر على أنه يجب أن أبلغ عن الحادث فجلسنا حوالي عشر دقائق ورجوته أن يعطينا عربته لتوصيلنا فأعطانا العربة وركبنا أحنا الثلاثة وهو صحي السواق بتاعه احضر العربة وركبنا وكان ذلك قبل طلوع النهار بقليل وذهبنا إلى – كوبري الزمالك نزلنا وبعد أن أنصرف السواق ذهبنا إلى منزل الأستاذ رزق مباشرة.

س – سبق أن قلنا لك أن أقول عزيز باشا نفسه تكذبك في هذه الواقعة أي واقعة ذهابكم لمنزل عبد القادر رزق يوم الجمعة صباحًا.

ج – أحنا رحنا بيت الأستاذ عبد القادر رزق وبس.

س – متى تخرجت من الكلية الحربية.

ج – في فبراير سنة 1938.

س – هل تخرجت في دفعة واحدة مع حسين ذو الفقار.

ج – نعم وإحنا بعد ما تخرجنا من الكلية الحربية أتممنا دراسة الطيران والتحقنا بسلاح الطيران مباشرة بعد تخرجنا.

س – أين اشتغلت بعد ذلك أنت حسين ذو الفقار.

ج – عينت في الدخلية وقعدت في مطارها نحو سنة ثم وقعت الحرب فأنرنا بالانتقال إلي مطار الماظة مع احتفاظنا باسم محطة الدخلية وببقاء كل محطة منفصلة عن الأخرى في الماطر أما حسين فكان في محطة ألماظة من الأول.

س – هل تقابلت أنت وحسين بعد انتقال مطار الدخلية إلى ألماظة.

ما كنتش أتقابل معه أبدا في الخارج وإنما في ميس الضباط فكنا نتقابل من وقت لأخر.

س – ألم يسبق بينك وبين حسين حديث تناول عزيز باشا المصري قبل يوم الخميس الذي ذكرته.

ج – لا أبدا.

س – هل كنت مقابلتك الأولى لعزيز باشا حصلت من 27 يوم كما تقول قبل الحادثة.

ج – بالتقريب ولا تزيد عن شهر وحصلت في أثناء هذه الفترة زيارتي له.

س – هل قابلت أحدا من الضباط في منزل عزيز باشا يوم ذهابك في أول مرة أو في المرة التالية.

ج – لا.

س – هل تعرف متى بدأ إعجابك بعزيز باشا.

ج – من يوم ما تقابلت معه على الكوبري وحييته وتكلمنا.

س – هل سبق أن رأيت عزيز باشا قبل ذلك.

ج – كنا نستيقظ في الصباح ونغسل وجهنا في الحمام ونفطر وكانت أخت صاحب المنزل تجيب لنا الأكل وتضعه علي دولاب صغير في الصالة وتخبط على باب أودتنا فنخرج نجيب الأكل ونفطر في الاوده التي فيها الترابيزه بين غرفتنا وغرفة عزيز باشا. وكنا نقرأ كتب كثير من المكتبة التي في نفس الغرفة اللي كنا فيها والغداء والعشاء على هذا النظام.

س – من أين جاءتكم الملابس الداخلية.

ج – الباشا أشترى لنا أنا وحسين كل واحد بيجامة وفانلة ولباس وكلف الأستاذ رزق بشرائها واشتراها في بحر المدة اللي كنا فيها.

س – من الذي كان ينظف غرفكم وأسرتكم.

ج – هي أيضًا.

س – أما كنتم ترسلونها إلى الخارج بشراء حاجيات أو إرسال خطابات أو غيره.

ج – لا وبس هي كانت تقول لنا فيه غسيل فنعطيها الغسيل.

س – هل كانت تتناول الطعام معكم في بعض الأحيان.

ج – لا أبدا ولا مرة.

س – ومن الذي كان يتناول معكم الطعام.

ج – بعض الأحيان كان يأكل معنا الأستاذ رزق.

س – هل كان أخوه عبد الحميد يأكل معكم.

ج – لا لم يأكل معنا ولا مرة.

س – متي اشترى لكم عزيز باشا البيجامات.

ج – أفتكر بعد ذهابنا لمنزل الأستاذ رزق بيوم أو يومين.

س- ألم تأخذوا شيئا معكم من الملابس عند ذهابكم لمنزل الأستاذ رزق.

ج – لا.

س – ألم تلبسوا شيئا من ملابس عبد القادر رزق .

ج- لا.

س- أنتم وصلتم بغير ملابس داخلية لمنزل الأستاذ رزق كما يقول ولم تأخذوا منه شيئًا من هذه الملابس ومكثتم يوم أو يومين قبل أن يشتري لكم البيجامات فماذا كنتم تلبسون قبل شراء البيجامات.

ج- كنا بالبنطلون والقميص.

س- عبد القادر رزق قال أنه أعطاكم بيجامات من عنده.

ج- لم يحصل.

س- هل عزيز باشا اشترى بنفسه شيئًا من الملابس الداخلية؟

ج- اللي خلاه اشترى لنا لازم يكون اشترى لنفسه.

س- وماذا كان يلبس عزيز باشا في اليومين الذين مكثها في منزل عبد القادر رزق قبل شراء البيجامات؟

ج- أنا شفته لابس بيجامة ومعرفش جابها منين.

س- لما دخلتم منزل الأستاذ رزق في أي غرفة أجلسكم أولاً؟

ج- أجلسنا في الأوضة التي لها باب مستقل على السلم وهذه هي الغرفة التي خصصت لنومنا فيها بعد.

س- هل كانت بها أسرة وقت وصولكم؟

ج- لا والأستاذ رزق أحضر لنا سريرين في هذه الغرفة وإحنا لما وصلنا كنا متعبين جدًّا فنمنا على مرتبة ولما صحينا طلب إلينا أن نساعد في نقل سريرين فنقلنا السريرين من الأوضة في مواجهة الداخل من باب الشقة الآخر الذي يفتح في الصالة وهي الغرفة التي ينام فيها هو وكانت المراتب في نفس الأوضة ولكن على الأرض.

س- ما الحكمة في نقل السريرين إلى هذه الغرفة هل كنتم قد انتويتم الإقامة هناك؟

ج- إحنا كنا صممنا على البقاء عنده.

س- هل أخبرتم عبد القادر رزق بهذه النية؟

ج- لا وإحنا تابعين عزيز باشا لأنه هو اللي يعرف صاحب البيت.

س- ألم تساعدكم أخته على نقل الفراش؟

ج- لا.

س- ألم يكن في المنزل خادم أو خادمة لما وصلتم؟

ج- لا ما شفتش خدام خالص.

س- وهل كانت أخته موجودة في المنزل لما وصلتم؟

ج- أنا لم أنظرها إلا بعد نحو ثلاثة أيام أو أكثر ومعرفش إن كانت موجودة في البيت أصلاً أو حضرت بعد حضورنا.

س- وفي هذه الثلاثة أيام التي لم تر فيها صديقة كيف كنتم تأكلون ومن الذي كان يصنع لكم الطعام؟

ج- الأستاذ رزق كان بيجيب لنا الأكل من الخارج.

س- ألم يحصل طهي طعام في مدة الثلاثة أيام المذكورة؟

ج- لا.

س- متى أحسست أول مرة بوجود أخت الأستاذ رزق؟

ج- لما ابتدأ الأكل ينتظم ويبقى فيه طبيخ.

س- هل أخبرتم عبد القادر رزق عند وصولكم بالحادث الذي حصل لكم؟

ج- عن نفسي أنا لم أقل له ولا أعرف إن كان عزيز باشا أو حسين قالا له شيء أولاً.

س- ألم يسألك هو عن الموضوع؟

ج- لا.

س- هل كنتم تقرأون الجرائد في تلك المدة؟

ج- نعم والأستاذ رزق هو الذي كان يحضر لنا الجرائد وطبعًا عرف كل حاجة منها.

س- أين كنتم عند القبض عليكم؟

ج- كنا في حجرة سعادة عزيز باشا وأول من دخل علينا الأفندي الضابط الطويل الذي حضر إليكم الآن وانصرف وكان لابس جاكتة بيضاء وهو طويل.

الضابط الذي كان حضر إلينا هو اليوزباشي محمد إبراهيم إمام أفندي ملحوظة.

س- وكيف تم القبض عليكم؟

ج- إحنا كنا في أوضة عزيز باشا ودخل علينا هذا الضابط ففوجئنا ومعرفش إيه اللي حصل بالضبط لأن المفاجئة جعلت عندنا اضطراب.

س- ألم تكن سمعت قبل ذلك حركة ما تشعر باقتراب رجال البوليس؟

ج- لا.

س- ألم يخطركم أحد بوجود رجال البوليس؟

ج- لا.

س- بصفتك شخصًا مسئولاً وضابط وقد أخذت طائرة بدون إذن وسافرت بها هل فكرت في إقامتك في بيروت وسبيل العودة إن كنت فكرت في العودة؟

ج- طبيعي إننا فكرنا في العودة وكان المفروض أن عزيز باشا سيتوسط في الصلح بين إنجلترا والعراق وبمجرد أن يتم الصلح نرجع إلى مصر معه.

س- هل كانت هذه الخطة محل بحث بينكم في المقابلات المتعددة أم لا؟

ج- هذا هو الذي استطعت أن أفهمه من كلام عزيز باشا وهو أنه بمجرد أن يعمل صلحًا نعود.

س- وكيف يكون التصرف بالنسبة للطائرة أثناء وجودكم في بيروت؟

ج- كنا ننتظر في بيروت والطائرة تبقى بها لغاية ما نرجع ونعود بها.

س- ومن أين لكم الوقود في حالة العودة؟

ج- افتكر إنه يمكن أن نتزود بالوقود من سوريا.

س- ألم تفكروا في السفر بالطائرة وتوصيل عزيز باشا بها من بيروت إلى العراق مادام التزويد بالوقود ميسورًا من سوريا كما ذكرت.

ج – لا لم نفكر أي في الذهاب للعراق.

س – يؤخذ من أقوالك أن الفكرة الأولى كانت متجهة حسب رغبة عزيز باشا في أن يذهب للعراق رأسا لولا أن مدى الطائرة لا يسمح بذلك.

ج – أحنا كنا رايحين ننتظره في بيروت ويمكن هو يجيب لنفسه أذن ويسافر للعراق.

س – الم نكن الفكرة أن يسافر بطائرة مصرية حتى لا يثير الشكوك إذا سافر بطائرة إنجليزية فلماذا لا يتم سفره بطائرة مصرية إلى العراق.

ج – مكنش ممكن النزول في العراق ولا بد من النزول في بيروت.

س – ألم تبحثوا كيفية سفر عزيز باشا من بيروت إلى العراق.

ج – لا لم يقل لنا عليه.

س – ألم يخبركم عزيز باشا أنه لا ينوي العودة إلى مصر.

ج – لا

س – ألا تعلم أنك أخللت بواجبك كضابط وخالفت القانون العسكري بخروجك على هذا الحال من القطر المصري.

ج – أنا أعرف أني خالفت الأوامر.

س – نصفتك ضابط طيار كنت تعلم بعض الأسرار الحربية المصرية كعدد الطائرات في الجيش المصري أو في مطار ألماظة وأنواعها وأسلحتها ومدى طيرانها وسرعتها وقوة سلاحها وغير ذلك. وتعلم أيضا أن عزيز باشا المصري كان رئيس هيئة أركان حرب الجيش المصري وبصفته هذه كان مطلعا علي أسرار الجيش وأسرار الدفاع على البلاد المصرية فخروج مثل هذا الشخص وأنت معه من القطر المصري بطريقة سرية قد أحيط بكل أنواع الكتمان تدل على أنكم قصدتم الاتصال بجهة أو بدولة يهمها الانتفاع من الأسرار التي تحملونها وفي هذا العمل خطر شديد على البلاد.

ج – أننا لم نفكر إلا في شيء واحد وهو مساعدة عزيز باشا المصري للتوسط في الصلح بين العراق والإنجليز.

س – وما الذي يهمك أنت من أمر الصلح بين العراقيين والإنجليز.

ج – بصفة انجلترا دولة حليفه لمصر وأن العراق أمة شرقية فكنت مدفوعا بحب إيجاد صلح بينهما وأن وجود مصريين في هذا الصلح مما يشرفنا كمصريين.

س – هل كنت تعتقد أن عزيز باشا يكمنه عمل هذا الصلح

ج – كنت واثقا من ذلك.

س – على أي شيء بنيت هذه الثقة.

ج – لأن القائمقام الإنجليزي قال له أننا لنا رغبة شديدة في صلح.

س – هل أنت رأيت هذا القائمقام الإنجليزي أو تعرف أسمه.

ج – لا

س – وكيف تأكدت أنه طلب من عزيز باشا هذا الطلب.

ج – هذا الكلام بناء علي أقوال رجل كعزيز باشا لازم الواحد يصدقه.

س – وما دخل هذا في ثقتك بإتمام الصلح على يدي عزيز باشا.

ج – لأني أعرف من تاريخ عزيز باشا أنه كان سبق عمل صلح أما في اليمن أو في شرق الأردن.

س – هل أخبركم عزيز باشا أنه تم الاتفاق بينه وبين الإنجليز على الأساس الذي يريدونه للصلح وألا كيف يفاوض العراقيين وعلى أي أساس.

ج – هو لم يقل لنا يحمل شروط صلح أو حاجة زي دي.

س - أذن فكيف كان سيتعاوض.

ج – معرفش.

س – هل تعرف أن الحكومة المصرية عرضت وساطتها رسميا على العراق للتوسط في الصلح.

ج – لا معرفش.

س – ألم تقرأ شيئا عن ذلك في الجرائد.

هامش ج – لا وجايز ماقرأتهاش لأني مش أقراء كل حاجة في الجرائد.

س – أنت تقول أن عزيز باشا ينوي التوسط في الصلح بين الإنجليز والعراق وإنك تنوي مساعدته في ذلك فكيف لا تهتم بأخبار العراق في الجرائد.

ج – أنا طبيعي مهتم بكل مسألة بقدر الامكان تهتم بالشروق ولكن لم أقرا موضوع توسط الحكومة المصرية بين الإنجليز والعراق.

س – إذا كان الإنجليز يريدون أن يوسطوا عزيز باشا بطريقة خفيه للتكلم في الصلح بينهم وبين العراق فهل كانوا يعجزون عن تدبير طائرة مصرية له بطريقة رسمية وترحب حكومة مصر بذلك لأنها هي المتقدمة للتوسط في الصلح.

ج – أفكر أن الحكومة الإنجليزية بسهل عليها مثل هذا وكنت أتمنى أن أكون أنا الطيار المنتدب لهذا العمل.

س – ولماذا أذن لم تناقش عزيز باشا في أرادته في الخروج سرا وبطريقة تدعو إلى الشك في غرضه.

ج – موضوع إيجاد صلح بين أمة شرقية والحليفة جعلني أتقبل العمل بصدر رحب وأنا لم أشك في صدق عزيز باشا.

س – ألم تقرا في الجرائد أو أتسمع بأي طريق آخر سمع للطائرات الألمانية بالمنزل في سوريا وأن الثوار العراقيين طلبوا مساعدة ألمانيا.

ج – لا لم أقرا هذا.

س – ثابت أن الوقت الذي اخترتموه للطيران إلى بيروت كان قد سبقه أتفاق يسمح بنزول الطائرات الألمانية في مطارات سوريا وأنه كان لها فعلا طيارات ألمانية قبل هذا التاريخ فكيف كان يمكنكم النزول في مثل مطار بيروت مع وجود هذه الرسائل المعادية.

ج – لم أقرا هذا الخبر ولم أعلم به قبل سفرنا.

س – لو كنت علمت بنزول طائرات ألمانية في مطارات سوريا فهل كنت مع هذا تذهب بالطائرة إلى بيروت.

ج – لو علمت بهذا ما كنت أذهب أبدا لأن دي بلد تحتلها الأعداء.

س - هل كنت تطالع الجرائد قبل سفرك.

ج – مكنتش اقرأ الجرائد باستمرار وأنا في العادة أقرأ جريدة الأهرام.

س – هل علمك بثورة العراق مستمد من عزيز باشا أو من الجرائد.

ج – من الجرائد أحيانًا ومن أحاديث الناس.

س – في أثناء ذلك الم يصل إلى علمك شئ عن موقف سوريا أو الأمم الشرقية المجاورة للعراق.

ج – لا

س – هل تظهر أن سوريا كانت ستسهل لكم مأموريتكم وعمل الصلح كما تقول.

ج – نعم بشخصية سعادة عزيز باشا وإحنا فكرنا أننا نوصل عزيز باشا هناك وهو يعرف شغله.

س – هل كان هناك احتمال أطلاق المدافع المصرية المضادة للطائرات عليكم مادمت تقول أن حين كان يجتهد في تفادي الأنوار الكاشفة.

ج – نعم مادمنا لم نخطر بقيامنا.

س _ وهل كان احتمال أطلاق النار عليكم موجود أثناء مروركم أو في بيروت عند نزولكم فيها.

ج – كنا متوقعين أننا لو وصلنا سيكون وصولنا في ضوء يسمح برؤيتنا ويعرفوا أننا بطائرة مصرية ويشفونا نازلين فلا يضربوا علينا المدافع.

س – وما الذي جعلكم تتعرضون لمثل هذه الأخطار فضلا عن الخروج عن الواجب.

ج – علشان الصلح.

س – لو كان الغرض حقيقة التوسط في الصلح لكان الطريق أمامكم مفتوح ويمكن لكم الحصول أما خروجكم بطريقة سرية برغم ما في ذلك من أخطار الموت في مصر والخارج تدل على أنكم قصدتم عكس ما تقول أي الانضمام إلى الثوار أو تشجيعهم على الثورة.

ج – لم نسافر إلا على فكرة التوسط في الصلح ولم يجعل يخاطمنا الانضمام إلى الثوار.

س – بماذا تصف عمل ضابط أو عسكري يغادر بلده في هذا الظرف ومع قيام حالة الطوارئ ويسافر إلى بلد أجنبي وبماذا يوصف هذا العمل من وجهة نظر القوانين العسكرية.

ج – أسميها مغادرة الأشلاق بدون أذن أو مخالفة الأوامر.

س – وهل تقدر مسئوليتك على هذا العمل كبيرة.

ج – أنا مسئوليتي أخف أو مثل أي ضابط يأخذ طياره من غير أذن ويلعب بها فيقع وينكسر وأنا غرضي شريف.

س – إذا كان غرضك شريف وذنبك كما تقول ليس عظيما وعقابك بالطبع لا يكون شديدا وأنت تعتقد أنك غير مجرم في شيء آخر فلماذا اختفيت أنت وزميلاك بعد سقوط الطائرة.

ج – الخجل منعني من الظهور ولو كان الأمر يتوقف على وخاص بي وحدي لكنت ظهرت وتحملت مسئولية وما كان لي أن أنفرد عن زميلي لأني مرتبط بمصيرهم.

س – ولماذا لم يتقدم معك زميلك الضابط حسين ذو الفقار ما وقع مادام قصدكما شريفا خصوصا بعد أن نصحكما كما تقول أحد المحامين صديق لك.

ج – الخجل منعني والخجل من عدم نجاحنا.

س – وهل يخجل الإنسان من عدم نجاحه في عمل شريف.

ج – أنا ريح أقول إيه بس.

س – هل تعرف شيئا عن علاقة عزيز باشا المصري بالإنجليز أن كانت طيبة أو غير ذلك.

ج – معرفش حاجة عن علاقته بالإنجليز.

س – ألا تعرف أن عزيز باشا كان رئيسا لهيئة أركان حرب الجيش ومنح أجازة إجبارية.

ج – نعم أعرف أنه كان أعطى أجازة إجبارية ولا أعرف السبب.

تمت أقواله وأمضي،

النائب العمومي

إمضاء

وقفل المحضر على هذا في تاريخه الساعة 12 أفرنكي مساء،

النائب العمومي

إمضاء

أعيد فتح المحضر في تاريخه الساعة 6 مساء بالهيئة السابقة

حسين ذو الفقار صبري

استدعينا حسين ذو الفقار صبري وسألناه بالأتي:

اسمي حسين ذو الفقار صبري ش 26 مولود بصر ومقيم بمصر الجديدة شارع كفر الدوار نمرة 3 شقة 11 وطيار أول بسلاح الطيران الملكي المصري.

س – هل أنت الذي قدت الطائرة التي قام بها عزيز باشا المصري وعبد المنعم عبد الرءوف في ليلة 16 مايو الماضي.

ج – نعم.

س- كيف تعرفت بعزيز باشا المصري وكيف اتفقتم على هذه الرحلة وما الذي حدث من ذلك الوقت إلى أن قبض عليكم؟

ج- في الأسراب الثالثة قائد سرب اسمه إسماعيل أفندي حقي وله مكتب خاص والأسراب مكونة من قسمين وأنا قائد سرب فيهم ولي مكتب خاص. وفي يوم الخميس 8 مايو كان فيه مجلس تحقيق منعقد في مكتب إسماعيل أفندي حقي، والطيار أول عبد المنعم عبد الرءوف كان شاهد في مجلس التحقيق فحضر ليؤدي شهادته. ولكن بما أن دوره لم يكن قد جاء فدخل مكتبي وانتظر عندي لأننا من دفعة واحدة وكان لنا مدة لم نتكلم سوى لأن عملنا في المطار ما كان يسمح لنا بالمقابلة ونحن أصحاب ومتخرجين من سنة واحدة. فصرنا نتكلم وتطرق بنا الحديث إلى ذكر عزيز باشا المصري وأظن الحديث كان بشأن تصليح حديقة المطار وعبد المنعم قال لي إنهم بيشتغلوا فيها جمعتين ومعملوش حاجة مع إن فيه ناس عندهم حدائق منتظمة جدًّا ومنهم عزيز باشا المصري فقلت له إيه عرفك فقال لي أنا تعرفت به صدفة فقلت له إزاي؟، فقال: كنت ماشي صدفة أتفسح فلقيته في وشي مرة واحدة ومع أني لابس ملكي ارتبكت ورحت معظمه فافتكرني من البوليس وقال لي أنت ضابط بوليس ومن دفعة سنة كان فقلت له أنا ضابط طيران وسأله عن شغله في الطيران. فأنا قلت لعبد المنعم هل هو ظريف أم متكبر فقال لي لا ظريف، ويحدثني بدون تكليف فقلت له أنا أحب أتعرف به والباعث لي على ذلك وإن كنت لم أصرح به إلى عبد المنعم أني كنت في الكلية الحربية أحب دروس التاكتيك كثير ولما رحت الطيران وأهملت التاكتيك وصرت أطلع في أمور الطيران. ولكن أخبار الحرب الحالية جعلتني أتشوق لدراسة الأمور العسكرية العامة وكنت ابتدأت أطالع كثيرًا وأتناقش مع زملائي في الأمور العسكرية. فوجدت أن دي فرصة وأن رجل مثل ده كان له خبرة عسكرية كبيرة خصوصًا بعد ما أكد لي عبد المنعم أنه يحادثه بدون تكلف ولذا طلبت من عبد المنعم أن يعرفني به فقال لي إذا كنت تحب أنا فاضي النهاردة وقابلني الساعة 5 عند محطة كوبري الليمون ونروح له في بيته وسألته هو ساكن فين فقال لي في عين شمس فرحنا الساعة 5 في الميعاد عند محطة كوبري الليمون، أظن قمنا بقطار الساعة 5.30 ووصلنا عين شمس ولكن وجدنا أنه أجر البيت والجنايني قال لنا أيه مش هناك بعد ما أجر البيت فسألناه عن عنوانه فالجنايني قال ما أعرفش ولكن هو سايب نمرة التليفون علشان لو تجيله جوابات أو حاجة فعبد المنعم كلمه من تليفون المنزل بعد استئذان الراجل فردت عليه واحدة وكلمته بالفرنساوي ولم يفهمها جيدًا ولكنه أخذ منها العنوان وهو بنسيون فيبنواز بجوار قصر النيل فنزلنا ورحنا على البانسيون وسألنا عن الباشا فلم نجده، وانتظرنا نحو نصف ساعة وكان وصولنا نحو الساعة 7.30 مساء وانتظرنا لغاية الساعة 8.15 تقريبًا. ولما لم يحضر ترك له عبد المنعم ورقة وذكر له أننا سنمر عليه ثاني يوم الساعة 9 صباحًا وكان يوم الجمعة. وفي ثاني يوم انتظرت عبد المنعم الساعة 9 صباحًا على باب البانسيون ولما حضر طلعنا سوى وانتظرنا في غرفة الانتظار لغاية لما يقول للباشا فراح الأول عبد المنعم وبعدها أرسلوا في طلبي فدخلت وكان الباشا لابس وجالس في أوضته يتناول الفطور فقدمني عبد المنعم له. وقال له أنني كنت أريد أن أتعرف بسعادتك فسلم علي الباشا وطلب لنا قهوة وسألني أسئلة تتعلق بالعمل. وبعد ذلك ابتدأنا نتكلم في شئون عسكرية عامة منها الحرب الحالية ونظام الكلية الحربية بتاعتنا ونظام المدرسة الحربية التي تعلم فيها الباشا وقعدنا معه حوالي ثلاثة أرباع ساعة أو ساعة وكان يكلمنا ببشاشة فأنا استرحت جدًّا لحديثه وما كنت أنتظر أن فريق يكون متواضع مع طيار أول مثلي. فعزمته أن يحضر عندي في المنزل بعد تردد وقال لي أنه سيحضر يوم الاثنين الساعة 8 مساء وقلت لعبد المنعم أن يحضر هو أيضًا لأني ما كنت دعوت عبد المنعم في منزلي ولكن الباشا رجع قال لي أنه ميعرفش شارع كفر الدوار كويس وخاف يتوه في الظلام فقلت له أنا مستعد أنتظرك في أي جهة فقال لي انتظرني بقرب سراي البارون امبان. ثم قال أظن أن الميعاد كان الساعة 9.30 أو الساعة 10 مساء وقد انتظرته في الميعاد في النقطة المعينة بعد أن كان حضر لي عبد المنعم وخرج معي لانتظار عزيز باشا. وانتظرنا نحو ربع ساعة لغاية ما حضر ورحنا على البيت ودخلنا في أوضة المكتب. وتكلمنا في مواضيع عسكرية وبعد ذلك الباشا قال تعرفوا يا أولاد أن فيه كولونيل إنجليزي جاء إلى البنسيون وعرض علي أني أتوسط بين حكومة العراق والإنجليز بصفتي أعرف معظم العراقيين الذين في الحكم لأنهم كانوا زملائي في الجيش التركي ولكن أنا قلت له في مقابل إيه للعراق لأنه لازم تعطوهم حاجة علشان يتفقوا معكم وأن الكولونيل الإنجليزي قال لعزيز باشا انتظر خمسة أيام أو أسبوع لما يجي الجنرال ولم يعين اسمه. وأنا استنتجت أنها لجنرال ويفل لم يفصح باسمه وأنا لم أسأله. وأضاف عزيز باشا إلى هذا قوله لو أروح بواسطة الإنجليز أنا خايف أن العراقيين يفتكروا إني جاي كجاسوس فإيه رأيكم لو أروح بنفسي من غير وساطتهم من بلد محايدة وأعرض عليهم التوسط أظن ده يكون أوقع فأنا قلت دي فكرة كويسة. فقال الباشا أنهم مش راضيين يعطوين تصريح أني أخرج من البلد فإيه رأيكم لو نروح بطيارة فقلت طيارة جنسها إيه فقال تأخذوني أنتم في طيارة من عندكم فقلت له مفيش طيارات تودينا للعراق فقال لي أنا قصدي بلد محايدة ففكرت شوية وقلت له والله فيه طيارة تودينا لسوريا فقال لي هي إيه فقلت له الأنسون وهي موجودة في السرب الثالث الذي أنا فيه فقال لي أنا عارفها لأني سافرت مرة فيها لما كنت رئيس هيئة أركان حرب وقال لي يستحسن أننا نعمل الحكاية دي بره ونفاجئهم لأن دي ستكون خدمة لمصر ولم يقل من سيفاجئ ولكني استنتجت أنه يقصد الإنجليز لأنهم هم الذين عرضوا عليه التوسط فقلت طيب لما أفكر وأشوف الطيارة جاهزة والا لأ فقال لي طبعًا ما تقولش لأحد لأنهم بعدين يمنعونا ولو أن كل الناس رايحة تنبسط بعد ما نتم الحكاية دي، وبعد ذلك دخلنا في التفاصيل وقال لي لكن تعمل إيه في النوبتجية مش يصح يمنعونا فقلت أنا سأكون ضابط عظيم نوبتجي لأما يوم الخميس أو يوم الجمعة. وأنا أكون وقتها مسئول عن المطار ومشرف عليه فرايح أفوت عليه يوم الأربعاء وأقول لسعادتك إذا كان ممكن في الأسبوع ده ولا لأ فقال لي تقدر تجيب عربية علشان أعطيك شنط لأني مش رايح أقدر لو فرض أننا سنسافر هذا الأسبوع أن أجيب كل الشنط معي فأنا في نفسي اندهشت لأنه ظهر أنه رايح يجيب لي أخ بسلاح الطيران وهو طيار ثاني علي صبري عنده عربة فاستلفت عربية يوم الأربعاء وذهبت لبنسيون فينواز قبل المغرب بقليل ولم أجد عزيز باشا فانتظرته وحضر بعد خمس دقائق وأعطاني شنطتين كبيرتين فقلت له لكن يا سعادة الباشا إحنا مش رايحين نقعد كثير والشنط كثيرة أو حاجة بهذا المعنى فقال لي لا تنسى أنا لأمر فيه بعض الخطر لأننا رايحين بطيارة حربية في بلد محايدة بدون إذن ويصح أن السلطات الفرنسية تعتقلنا فقلت له يبقى عملنا بدون نتيجة فقال الواحد لما يجازف قليلاً في سبيل الخدمة اللي رايحين نعملها لبلدنا تبقى دي حاجة بسيطة فقلت الطيارة جاهزة يوم الخميس أي في اليوم التالي وتقدر تقوم حوالي الساعة 1.15 لأن الفجر حوالي الساعة 4.15 أو الساعة 4.30 علشان تقدر تنزل في مطار بيروت. وقال ليس يستحسن أنك تمشي في منطقة بعيدة عن البحر علشان عند الفجر ما تلحقناش طيارات القتال تضربنا في السكة فقلت له أني أنا من نفسي رايح اطلع تجاه الشمال بين بلطيم ودمياط علشان ما تضربش علينا المدافع المضادة في منطقة القتال ولما توصل هناك اكسر على اتجاه بيروت، وبعد ذلك أخذت الشنطتين ونزلت ولما رجعت البيت قعدت أفكر في الحكاية اللي قال لي عليها وهي أن السلطات الفرنسية تعتقلنا وجاء لي شيء من التردد ولكن فيه حاجة ثانية دفعتني على أن أقدم على هذا العمل وهي اعتقادي أن القطر المصري لا يمكن مهاجمته من الغرب وخشيت لو أن ثورة العراق تكبر أن الألمان يبقى لهم رجل هناك وساعتها يصبح أنهم لو استولوا على العراق أن يهجموا من الشرق على مصر من طريق فلسطين وشرق الأردن وتصورت ساعتها ضرب المدن بالقنابل قبل الهجوم كما حصل في بروكسل وأمستردام وبلغراد وهذا الضرب بيكون شديدًا جدًّا وليس كالغارات العادية لأن الأخيرة مش غارات هجوم. وأنا طبعًا لي أهل في القاهرة منهم زوجتي وهي حامل فجازفت وقلت أنه لو تمت المسألة يصح ما يجيش حرب جهة مصر أبدًا وهكذا كله كان خاطرًا في نفسي ولم أذكره لأحد. وفي ثاني يوم أي الخميس رحت المطار الصبح كالعادة ومعي الشنطة الصغيرة فيها بيجامة لأني كنت ضابط عظيم نوبتجي وبإشراف عملي كالمعتاد. وحوالي الساعة 11 أو 11.30 مساء أخذت عربة من المطار ورحت على البيت وكان فاضي لأني لما أكون نوبتجي تبات زوجتي عند والدها والخادمة تذهب لمنزلها فأحضرت شنطتين. ووضعت ملابس كثيرة فيها للسبب الذي قال لي عنه عزيز باشا وناديت العسكري سواق العربة وأخذ الشنط ووضعها في العربة وانتظرت لأنه كان متفقًا مع عزيز باشا في يوم الأربعاء أننا نتقابل عند البيت بتاعي ولما قرر أنه ما يعرفش البيت قال أخلي عبد المنعم عبد الرءوف يتصل به ويأخذه من جهة رايح يقول له عليها ونسيت أن أقول أن عبد المنعم ما كنش مفروض أنه يجيء معنا في هذه الرحلة ولكني أقنعت الباشا بعد كما كنت كلمت عبد المنعم أنه في رحلة مثل هذه ضروري يكون فيه اثنين طيارين علشان لو جرى حاجة يبقى هو يطير ولو أنه سرب آخر وعمره ما طار على الطيارة دي. ولما انتظرت بعربة المطار أمام البيت في يوم الخميس حضر لي عبد المنعم حوالي 12 أو الساعة 12.30 ماشيًا على رجليه أمام البيت وقال لي الباشا مستنيك هنا قريب فقومت العربية ومشيت من شارع محمد علي وبعد 50 متر عند شريط المترو وجدت تاكسي واقف وفيه بقية الشنط بتوع الباشا وشنط عبد المنعم فنقلناها. ومشيت بالعربة على المطار ورحت على السرب الثالث وكنت نبهت على العساكر النوبتجية أنهم يباتو في السرب لأنه ليس من عادتهم المبيت دائمًا في السرب. وخبطت على شباك خلف الحظيرة وصحيتهم وأمرتهم بأن يخرجوا الطيارة أنسون 205 وكنت أمرت العساكر بعد ظهر ذلك اليوم أن يفتشوا عليها لأني قلت لهم يمكن تطير بالليل أو الفجر فواحد منهم قال لي أن فيها عداد الأفق الصناعي في التصليح فقلت له ده مش مهم لأنه يستعمل فقط للطيران في السحاب. ولما أخرجوا الطائرة أمرتهم بأن يدخلوا الشنط من العربية للطائرة ويدوروا المحركات وقلت لهم مش عايزين ميكانيكي معنا لأنه ما فيش داعي والحتة اللي إحنا رايحينها فيها ميكانيكية وأظن واحد سألني قلت له رايحين أسوان ونسيت أن أقول أنني لما أمرت السواق أن ينقل الشنط فقلت له قوام أحسن ده مندوب جلالة الملك وبعد ما دارت الماكينة أمرت برفع الحواجز الخشبية وطلعت بالطيارة وسبت الأرض. واتجهت في الاتجاه بتاعي بعد نحو خمس دقائق الأنوار الكاشفة فأتت علي ويظهر أن فيه مدفع مضاد للطائرات ضرب لأني شفت الوميض بتاعه وكان على يميني وبعد لحظة وجدت نار طالعة من الماكينة اليمين فظننت ساعتها أنه يمكن تكون أصبنا لأن الضرب عمل تخلخل في الهواء والجناح سقط شوية ولكني لم أحس بضربة جامدة أو حاجة في طيارة وكنت طول هذه المدة أتفادى الأنوار الكاشفة بأن أغطس أو ألف يمين أو شمال حسب الحالة. وبعد ذلك وجدت أن اللهيب الطالع من الماكينة اليمين وصل لغاية الجناح والجناح خشب فخشيت أن تمسك النار في الجناح ففضلت أني أنزل بدلاً من أن تحترق بنا الطائرة وخصوصًا أننا في أول عشر دقائق والرحلة ثلاث ساعات وزيادة فوصلت قرب الأرض. ظهرت الأرض من ضوء القمر وكانت سرعتي كبيرة جدًا فأبطأت سرعة الطيارة وإلا كانت تهشمت بنا وفضلت طاير قرب الأرض لغاية ما تهيأ لي أن الأرض كويسة أمامي وليس فيها أشجار عالية فقفلت الماكينة خالص ونزلت. وأول ما وقفت الطيارة كانت النار لا تزال مشتغلة في الماكينة اليمين فقلت لعبد المنعم انزلوا قبل الطيارة ما تنحرق فلم يمكنه أن يفتح الباب فكسر الباغة وأنا فتحتها خالص ونزلت منها، وانتظرت الباشا لأنه مش رايح يقدر ينط فطلع جسمه من هذه الفتحة واستند على أكتافي ونزل. فالتفتنا حولنا وجدنا أنفسنا في وسط أشجار فحاولنا أن نخرج منه وكان فيه أسلاك شائكة من ناحية وشجر سقط من الناحية الأخرى فوجدت فجوة وخرجنا منها وسرنا في الطريق وقت ذلك وقف الباشا قال لي إيه اللي جرى فقلت له مش عارف بالضبط ونار كانت طالعة من الماكينة اليمين ولا أعرف سببها فقال لي أيوة أنا شفتها وقلت سعادتك سمعت ضرب المدافع المضادة فقال لي أيوة شفت الطلقات. وسألته رايحين نعمل إيه الوقت فقال ما أعرفش شوفوا إحنا فين الأول ولما وصلنا إلى طريق زراعي مشينا فيه وفي الطريق سرنا نتكلم فقال الباشا دلوقت رايحين يفتكروا إننا كنا هاربين وبعدين يمكن يحاكمونا وفضلنا ماشيين لغاية ما قابلنا اثنين فلاحين وسألناهم عن الجهة التي نحن فيها فقالوا أنها قليوب فالباشا قال لواحد تعالى وصلني أحسن مش عارفين السكة ومشينا لغاية ما وصولنا إلى مزلقان وسألنا عن مركز البوليس في الطريق قابلنا خفير. فسأله الباشا عن اسم المأمور والمعاون أو أي ضابط ملازم أول أو ملازم ثاني وبعد ذلك وصلنا إلى بناء أظنه المركز وكان هناك عدة أشخاص فسأل الباشا عن المعاون فقال له واحد من الأشخاص أنه اليوزباشي الطلباوي أفندي فقال له ناديه لي ووقت ذلك أنا مشيت في جهة أخرى وركنت على شجرة لأني كنت سرحان من المفاجأة التي حصلت. وبعد قليل جاء بجواري عبد المنعم، والطباوي أفندي نزل وقعد مع الباشا في جنينة وراء البيت وإحنا وقفنا بعد شوية أحضرت لنا بنت صغيرة شربات وقهوة وشربنا وبعدها نادوا علينا وواحد قال لنا اتفضلوا فرحنا وجدنا الباشا راكب في عربة فورد صغيرة بتاعة بوليس وقاعد بجوار السواق وكنا قبل ذلك خلعنا بدلنا الرسمية لأن الباشا قال لنا اخلعوا ملابسكم الرسمية علشان ما حدش يعرفنا ولكن الدنيا كانت برد فأنا قلبت الجاكتة ولبستها بالمقلوب أي أن البطانة كانت برة. وركبنا في العربة مع الباشا ووصلنا لغاية ميدان الأوبرا ونزلنا من عربة البوليس وأخذنا تاكسي لغاية الجامعة والباشا هو اللي قال للتاكسي روح على الجيزة ولما نزلنا أمام الجامعة لم يكن مع الباشا ولا أنا نقود فكة فوقف عبد المنعم يحاسب سواق التاكسي ومشيت أنا والباشا في اتجاه الجيزة فتأخر عبد المنعم وكان واقف بيحاسب السواق فنادينا عليه وحضر ومشينا. والباشا قال نشوف حتة نبات فيها لغاية الصبح وبعدين نشوف نعمل إيه فرجعنا في الطريق العمومي بتاع الجيزة عند العجوزة ووصلنا إلى إمبابة ودخلنا في شارع وراء الكيت كات والباشا قال انتظروني وطلع خبط على شقة في الدور الثاني وبعدين نادى علينا فطلعنا وقابلنا واحد هناك وجاب لنا مرتبة في أوضة أنا وعبد المنعم وكنت أنا تعبان فنمت على طول وبقينا في هذا البيت إلى أن قبض علينا ولم نخرج أبدًا.

س- هل ذهبتم مباشرة إلى منزل عبد القادر رزق في إمبابة؟

ج- نعم ذهبنا على طول.

س- أنت نسيت أن تقول شيئًا عما حدث في طريقكم إلى منزل عبد القادر رزق .

ج- نعم الباشا تركنا ليتكلم في التليفون وأنا وعبد المنعم وقفنا في الطريق العمومي.

س- زميلك عبد المنعم قرر غير ذلك الحقيقة أننا واحنا ماشيين فكر عبد المنعم في أن له صديق محامي في الجيزة وقال لنا نروح عنده ونسأله نعم إيه فوقفت أنا وعزيز باشا وهو راح خبط على الباب ودخل ثم خرج واستدعانا فدخلت أنا وعزيز باشا وقابلنا هذا المحامي وسألناه بعد أن روينا له الواقعة بالاختصار أننا أخذنا طيارة ووقت بنا فقال لنا أي لي أنا وعبد المنعم الأحسن تقدموا أنفسكم. وأما عزيز فهو حر يتصرف كما يريد وبعدين عزيز باشا تكلم في التليفون وطلب حسن حسني الزبدي باشا وعرفه بنفسه وسأله عما إذا كان حصل غارة جوية في هذه الليلة فقال له معرفش وبعد ذلك خرجنا من المنزل والمحامي أحضر لنا سواقه وسيارته وركبنا والباشا قال له روح على الزمالك وكانت الساعة وقتها حوالي الفجر ولما وصلنا كوبري الزمالك أوقف عزيز باشا السيارة وقال للسواق روح وعزيز باشا اتجه بنا في الشارع الذي خلف كازينو الكيت كات ولما وصلنا هناك طلع عزيز باشا إلى المنزل واحنا وقفنا على السلم وهو خبط على الباب وبعد شوية حضر الأستاذ رزق واحنا طلعنا ودخلنا معه ومكثنا عنده إلى أن قبض علينا.

س- عزيز باشا المصري قرر أنكم لم تذهبوا لمنزل عبد القادر رزق في يوم الجمعة بل ذهبتهم إلى جملة منازل قبل ذلك ولم تمكثوا في منزل رزق إلا بضعة أيام؟

ج- الحقيقة أنه وقت ما حضر البوليس السياسي للقبض علينا قلت لعزيز باشا ما ذنب الأستاذ رزق وأخته وأخوه وهم عملوا فينا معروف وآوونا كل هذه المدة فقال الأحسن أننا نقول أننا لم نحضر عندهم إلا اليوم فقط ويظهر أن كلام عزيز باشا كان لهذا الغرض ولكني وجدت الأوفق أن أقول الحقيقة.

س- من هو المحامي الذي دخلتم في منزله في الجيزة وتكلم عزيز باشا في التليفون من عنده؟

ج- ما أعرفش اسمه ثم قال عبد المنعم تكلم فيما بعد عن اسمه وقال أنه شوكت التوني وأنا ما كنت أعرفه من قبل ولا أعرف بيته.

س- ما هي المدة التي مكثتموها في منزل هذا المحامي؟

ج- عبد المنعم طلب منه في الأول ولكن الباشا قاطعه في الحال وقال لا الأحسن تعالوا معي.

س- أما كنت تعرف عبد القادر رزق من قبل؟

ج- لا والباشا هو اللي كان يعرفه لأني عرفت فيما بعد أنه كان يصنع له تمثال والتمثال كان في الأوضة اللي كنا فيها.

س- هل تعرف لماذا تكلم عزيز باشا مع الزبدي باشا في التليفون وسأله عن حدوث غارية جوية.

ج- أظن السبب علشان يعرف إذا كان عرفوا أن الطيارة وقعت أو لا لأننا كنا معتقدين لغاية ذلك الوقت أن الطيارة وقعت بسبب ضربة من المدفع.

س- أين تلقيت العلم؟

ج- أولاً في مدارس الفرير بمصر وحصلت على البكالوريا المصرية منها ودرست اللغتين الإنجليزية والفرنسية فيها ثم التحقت بكلية الهندسة ولم أتم دراستي بها وبعد ذلك دخلت كلية ريدج بإنجلترا في سنة 1935 ولم أمكث بها سوى أربعة أشعر وكانت وجهتي تعلم زراعة الألبان ولما عدت للقطر المصري التحقت بالكلية الحربية وتخرجت في فبراير سنة 1938 وقبل ذلك بأيام التحقت بسلاح الطيران في مدرسة الطيران العالية وحصلت على النجاح في أكتوبر سنة 1938 أي أتممت دراستي والتحقت بالسرب الأول تعاون في يناير سنة 1939 والتحقت بالسرب الثالث مواصلات في فبراير سنة 1940.

س- هل تعرف عبد المنعم عبد الرءوف من قبل؟

ج- نعم وكان زميلاً في الكلية الحربية وتخرجنا في دفعة واحدة.

س- هل كانت تربطكما رابطة صداقة خاصة؟

ج- صداقة عادية ولم أعني أقابله خارج المطار لأني لم أتعود أن يكون لي علاقات وثيقة بأحد خارج العمل وإنما كنت أقابله داخل المطار.

س- يؤخذ من أقوالك أن مقابلتك لعزيز في البانسيون يوم الجمعة 9 مايو كانت الأولى من نعوها فهل فلم يسبق لك مقابلته؟

ج- أنا نظرته مرة واحدة قبل ذلك وكانت المرة الأولى وذلك أنه زار المطار إذ كان مفتشًا للجيش. ولا أذكر متى حصلت هذه الزيارة.

س- تقول أنك كنت مهتم بالمسائل الحربية الفنية ولاسيما بمناسبة ما أظهرته المعارك في هذه الحرب الحالية فهل كنت تطلع على الجرائد بانتظام.

ج- نعم كنت أطلع من الجرائد عادة الأهرام والمقطم وكنت أطالع مجلات أمريكية اشتريتها من المكاتب وكتب عسكرية.

س- هل علمت بحوادث العراق وقت أن قامت الثورة فيها؟

ج- علمت من الجرائد.

س- هل كنت تتبع هذا الميدان الجديد؟

ج- نعم أسوة بباقي الميادين.

س- ألم يرد ذكر لحوادث العراق في المقابلة الأولى لعزيز باشا في البانسيون يوم الجمعة؟

ج- إحنا تكلمنا في مواضيع كثيرة وفي مدة إقامتنا مع الأستاذ رزق كنا نتكلم في مواضيع مختلفة ولذلك لا أعرف الحديث بالضبط.

س- لما حصلت هذه المقابلة يوم الجمعة بالبانسيون ألم يرد خلالها حديث خاص بعزيز باشا نفسه؟

ج-دار الحديث حول عدة مسائل تتعلق بعزيز باشا نفسه مثل حوادث ماضية له.

س- ألم يعرب عن رغبته في مغادرة البلاد؟

ج- لأ والحديث لم يجيء عن خروجه فيما بعد إلا بمناسبة خروجه المتوسط في الصلح بين العراق والإنجليز.

س- هل تذكر جيدًا أن واقعة زيارة الضابط الإنجليزي لعزيز باشا لم تذكر إلا يوم الاثنين وفي منزلك؟

ج- أرجح ذلك.

س- ألم تحصل مقابلة مع عزيز باشا وعبد المنعم في غير منزلك بعد يوم الجمعة؟

ج- نسيت أن أقول أنني قابلت في منزلي عبد المنعم وذلك أني لما دعوته لزيارتي دعاه أيضًا عبد المنعم وحصلت المقابلة فعلاً في منزل عبد المنعم وربما يكون حضر في منزل عبد المنعم أولاً ثم حضر لي بعدها.

س- متى ورد ذكر منع عزيز باشا عن السفر للخارج وما هي الجهة التي منعته؟

ج- الحكاية دي حصلت عندي في البيت لما عرض علينا السفر وأنا لم أفهم من الذي منعه ولم أتطفل عليه بالسؤال وأنا استنتجت أنهم أي الإنجليز مش عاوزينه يروح بلد محايدة وافتكرت أنهم عاوزينه يروح البصرة أو شيء من ذلك.

س- من الذي عرض فكرة السفر وهل أنتم وحدكم أو أحدكم البادئ بها أو عزيز باشا الذي عرضها؟

ج- عزيز باشا هو الذي عرضها علشان يروح بلد محايدة ومش بواسطة الإنجليز.

س- لكن يؤخذ من أقوالك أن العرض كان على أساس السفر للعراق.

ج- لأن أنا اللي غلطت وهو كان قال لي نسافر لبلد محايدة فأنا قلت له خطأ أن الطيارة لا تصل للعراق فقال أنا قلت لك بلد محايدة.

س- ولماذا لا يسافر للعراق فقال أنا قلت لك بلد محايدة؟

س- ولماذا لا يسافر للعراق رأسًا وما هي الفكرة في النزول في بلد محايدة؟

ج- أظن أن الفكرة أنه يقوم بالمفاوضة مع ممثلي الدولتين في بلد محايدة كوريا وهذا استنتاج مني أنا.

س- متى وضعتم خطة السفر لبيروت؟ ج- الخطة وضعت على مراحل من يوم الاثنين إلى يوم الخميس وأما طريق سفر الطائرة فأنا الذي وضعته لأني أنا قائد الطيارة.

س- متى استقر الرأي على سفر عبد المنعم معكم؟

ج- بعد ما وضعت أنا الفكرة على أننا نطير من ألماظة متجهين ما بين بلطيم ودمياط ثم يخرج إلى بيروت كاكاشقت عبد المنعم لأني في حاجة لمن يوافقني فقبل وهذه التفاصيل جميعها كنا نعيدها في كل مرة نتقابل فيها.

س- متى كنت عالمًا بأنك ستكون ضابط عظيم نوبتجي في يوم الخميس 15 مايو سنة 1941؟

ج- قبلها بأسبوع كنت علمت أني سأكون نوبتجي يا إما يوم الخميس أو يوم الجمعة وغالبًا علمت صباح الاثنين تقريبًا أني نوبتجي يوم الخميس لأني قابلت زميلي الذي عليه الدور وعلمت أنه عرفني من النوبتجية.

س- أنت رتبت تفصيلات السفر من هنا فهل رتبت جيدًا ما يمكن أن يقع لكم في بيروت إذا ما وصلتم إلى المطار بعد تصريح للطائرة وجوازات سفركم؟

ج- والله أنا تركت المسألة لعزيز باشا وقال غالبًا تنجح وأنا قلت له أن الترتيب الذي علمته أنه لو ضربوا علينا أنزل وأظن ولو على الشاطئ.

س- وكيف كنتم ستخرجون من المطار لأنه لابد من انتقالكم إذا نزلتم به بغير تصريح؟

ج- أنا مسألتش ولا حاجة وهو اعتمد علي في ترتيب الطيارة وأنا اعتمدت عليه في ترتيب الباقي.

س- أنت قلت أن كثرة الحقائب التي أخذها عزيز باشا ألفتت نظرك ودعتك إلى شيء من التحفظ فسألته عن السبب فأخبرك باحتمال اعتقالكم فكيف ظننت أنه سينجح؟

ج- كان فيه احتمال أنه سينجح.

س- ألم تدبروا طريقًا لعودتكم؟

ج- على حسب أقوال عزيز باشا كنا لما نوصل هناك إما نرجع بالطيارة ونحضر وقود من هناك وإما ننتظره ونعود معه.

س- هل تحققت وقام لديك دليل على ما قاله عزيز باشا من أن ضابطًا إنجليزيًا اتصل به وطلب إليه التوسط في الصلح بين العراق والإنجليز؟

ج- أنا فاكر بالضبط أنه قال لي أنه جاي له كولونيل إنجليزي متعلم وبيتكلم إنجليزي وروسي وألماني كويس وأنا وثقت بكلامه.

س- هل تعرف موقف الحكومة المصرية بإزاء حركة العراق؟

ج- أعرف أنها عرضت المتوسط في الصلح وأهمل الرد عليه.

س- إذا كان هذا موقف الحكومة المصرية فهل كان من العسير الأذن لعزيز باشا بالخروج على طائرة مصرية.

ج- الفكرة كانت كبيرة ومفاجئة لدرجة أننا لم نفكر في التفاصيل السياسية ومناقشتها.

س- هل تعرف أن خروجك بالطائرة على هذا الشكل مخالف للواجب كضابط؟

ج- أعرف ذلك ولكن أظن في حالة نجاحنا الحكومة تتغاضى عن هذا العمل.

النائب العمومي

إمضاء

وقفل المحضر على هذا في تاريخ الساعة 9.30 أفرنكي مساء

النائب العمومي

إمضاء


أعيد فتح المحضر في تاريخ الساعة 6 مساء بالهيئة السابقة.

استدعينا عزيز باشا المصري وأعدنا سؤاله بالآتي:

س- إعادة سؤال عزيز المصري باشا.

س- هل تذكر أنك ذهبت لمنزل عبد المنعم عبد الرءوف يوم الاثنين 12 مايو 1941؟

ج- يجوز إذا كانوا أهم قالوا كده فيكون صحيح وكذلك عن ذهابي لمنزل حسين ذو الفقار.

س- هل قلت لعبد المنعم وحسين ذو الفقار أنك تريد الذهاب إلى العراق؟

ج- لا أتذكر وإذا كانا قالا ذلك فهما لا يكذبان ويمكن أكون قلت لهما وإنما النية الحقيقية بتاعتي تحضير كل شيء في سوريا الآن القضية العربية أصبحت هناك وسوريا مركزها خصوصًا بعد إطلاق سراح رجال الحركة الوطنية.

س- هل ذهبتم بعد نزولكم من التاكسي أمام الجامعة إلى منزل الأستاذ شوكت التوني المحامي؟

ج- أعذروني لأني كما سبق قلت لا أريد أن أتكلم في شيء عن هذا الموضوع.

س- علمنا أنك تكلمت في التليفون مع شخص من منزل شوكت التوني؟

ج- إجابتي واحدة في هذا الموضوع كله.

س- هل أعطاكم شوكت التوني سيارته الخاصة وأوصلكم إلى الزمالك أو إلى كوبري الزمالك؟

ج- إجابتي هي هي.

س- قلت لنا في دفاعك أن ضابطًا إنجليزيًا عظيمًا حضر إليك في البانسيون وتكلمتم في موضوع التوسط في الصلح بين العراقيين والإنجليز فهل تريد أن تقول لنا اسم هذا الضابط الإنجليزي؟

ج- أنا لا أعرف إذا كان هو نفسه يريد أن يذكر اسمه أم لا وإذا كنتم تريدون معرفة ذلك فإني أروي لكم أنه في يوم القبض علي أحضرني إلى هنا الأمير ألاي فيتز باتريك بك وكيل الحكمدار وقال لي في أثناء الطريق أن الأمير ألاي الغلاني تكلم معي عن حديثكم معه وذكر اسم الضابط العظيم الذي نوهت عنه ويمكن فيتز باتريك بك يسأله إذا كان يحب اسمه يذكر أم لا.

س- ذكر حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرءوف أن الغرض الوحيد من الخروج من القطر المصري كان ذهابك للعراق للتوسط في الصلح؟

ج- نعم حصل مثل هذا الكلام ولكن النتيجة هذا المسعى كانت في علم الغيب وإذا كنت أقدر أسافر العراق أو لا أسافر فهذا متروك للمستقبل لأنه كان جائزًا أن العراقيين يرسلوا وقودًا إلى سوريا.

س- ولماذا أخذتم طريق السفر خفية ما دمتم خارجين للغرض الذي قلته عنه؟

ج- لأسباب كثيرة أولاً أني ما كنت أستطيع السفر إلى فلسطين لأن العراقيين كانوا في حرب مع الإنجليز ولا يستطيعون الحضور لفلسطين وسوريا بلد محايدة، ثانيًا: رؤساء الحركة الوطنية في سوريا، ثالثًا: اضطراري لتعجيل الحركة والسفر للتخلص لما يكنه لي من أغراض غير ودية.

تمت أقواله وأمضى

النائب العمومي

(إمضاء)

الوقائع المصري 31 أغسطس 1939 – النشرة العسكرية – مركز رياسة الجيش المصري 27 أغسطس 1939 – مرسوم بتعيين رئيس هيئة أركان حرب الجيش.

نحن فاروق الأول ملك مصر

بناء على ما عرض علينا وزير الدفاع الوطني وبعد موافقة مجلس الوزراء ورسمنا بما هو آت:

مادة: عين الفريق عزيز باشا على المصري المفتش العام رئيسًا لهيئة أركان الحرب.

زغز الجيش

مادة 2 على وزير الدفاع الوطني تنفيذ هذا المرسوم صدر بسراي المنتزه في 4 رجب 1358 (20 أغسطس 1939)

فاروق

بأمر حضرة صاحب الجلالة


رئيس مجلس الوزراء


علي ماهر


وزير الدفاع الوطني


محمد صالح حرب

قائمة المصادر والمراجع

أولاً: وثائق عربية غير منشورة:

1- قضية محاكمة عزيز المصري 1941.

2- قضية اغتيال أمين عثمان القضية رقم 1129 عابدين 1946، ورقم 202/1946 كلي نوع القضية: جناية 5 يناير 1946 أول صفر 1365.

3- دار الوثائق القومية – محفظة الجيش رقم 5.

4- ملف عزيز المصري بصحيفة الأهرام تحت رقم 2371.

وثائق أجنبية غير منشورة:

ثانيًا: وثائق منشورة:

تقرير عن حال البوليس بأوروبا ومقترحات لإصلاح البوليس ومدرسته مقدم من حضرة صاحب العزة عزيز المصري بك مدير مدرسة البوليس والإدارة 1932 وثائق المفاوضات المصرية البريطانية نشر الحكومة المصرية 1954.

المصادر العربية:

أحمد شفيق: الحولية الثانية.

بول كارل – ثعالب الصحراء – ترجمة كمال الشريف.

جمال عبد الناصرفلسفة الثورة.

هربرت فيشر – [[تاريخ أوروبا الحديث – دار المعارف (الطبعة الخامسة).

[[سامي القيس: ياسين الهاشمي.

عبد الرحمن الرافعي : مقدمات ثورة 23 يوليو الطبعة الأولى النهضة المصرية 1957 محسن محمد التاريخ السري لمصر دار المعارف 1980محمد التابعي – أسرار الساسة والسياسة (مصر ما قبل الثورة).

مطبوعات روزاليوسف 1972.

محمد جمال الدين المسدي وآخرون – مصر والحرب العالمية الثانية الأهرام 1978.

محمد شفيق غربال – تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية الجزء الأول.

محمد حسين هيكل – مذكرات في السياسة المصرية الجزء الثاني مطبعة مصر 1953.

أنور السادات – قصة الثورة كاملة – دار القاموس الحديثة بيروت بدون تاريخ.

محمد عبد الرحمن برجقناة السويس أهميتها السياسية والاستراتيجية وتأثيرها على العلاقات بين مصر وبريطانيا – دار الكتاب 1968.

محمد عبد الرحمن برجعزيز المصري والحركة العربية – الأهرام 1979 – مجيد خدوريعزيز المصري وحركة القومية العربية ترجم بالأهرام الاقتصادي 15/9/67 – محمد صبيح بطل لا ننساه عزيز المصري وعصره المكتبة العصرية بيروت.

مراجع أجنبية:


Cromer: Modern Egypt (London 1911).

Kirk: The M.E. in the war (Oxf. 1953).

Hasluk: The Second World war (London 1947).

Don Peryz: The M.E of today (U.S 1963).

Evans: The Killearn diaries. London 1973.

Lioyd: Egypt since Cromer (London 1934).

Jean et Simon Lacouture: L'Egyptian en Mouvement 1956.

Marlow (John) Anglo Egyptian relation (London 1954). Toynbee: Survey of international affairs (oxf 1937 )>

الدوريات:

[[[جريدة الأهرام|الأهرام]] – المساء – الأخبار – المصري – المقطم – الجمهورية – سنوات 1934، 1939، 1941، 1946، 1951، 1960 مجلة الاثنين والدنيا يناير 1960.

مجلة الاثنين والدنيا يناير 1960.

آخر ساعة 14 ديسمبر 1960، 10/6/1964.

الجيل 13 مارس 1961.

المصور 25/6/1965

الأهرام الاقتصادي 15/9/1967 به عرض لكتاب مجيد خدوري بعنوان موقف عزيز من حركة القومية العربية.