عمر التلمساني من التانجو في عماد الدين إلى زعامة الإخوان المسلمين

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
عمر التلمساني

من التانجو في عماد الدين

إلى زعامة الإخوان المسلمين

بقلم: عصام الغازي

توطئة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

الإهداء .

  1. إلي روح جدي المهيب عبد السلام عوض الغازي أحد رموز الرعيل الأول من الإخوان المسلمين " لا أذكر أنه قبلني يوما في طفولتي أو دعاني للجلوس معه!".
  2. إل ابنتي بيسان ...... أصغر أحفاد هذا الجد.

ماقبل المقدمة.

عندما فكرت في إعادة صياغة تاريخ الإخوان المسلمين وتوجهت بهذه الرغبة إلى المرحوم الأستاذ عمر التلمساني كانت تنازعني شاعر متضاربة في مقدمتها إعجابي وانبهاري بصلابة رجال هذه الجماعة في قبضهم على الجمر وإصرارهم على المبدأ .

ذلك الإصرار الذي يذكرني بمواقف الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم الذين تحملوا العذاب بكل صنوفه وأشكاله فأنشئوا حضارة أضاءت العالم وأسسوا دولة ترامت حدودها في قارات العالم لقديم واضمحلت في مواجهتها إمبراطوريات سائدة.

إلا أنني لم أكن عضوا في هذه الجماعة أو في التنظيمات التي انبثقت عنها لأسباب تتعلق بتوجهاتي الفكرية والسياسية فلقد نشأت في بيت تعقد فيه الاجتماعات الأسبوعية لجماعة الإخوان المسلمين في مدينة شربين,وكان جدي الشيخ عبد السلام الغازي هو الزعامة البارزة للإخوان في تلك المدينة رجلا مهيبا, وعالما ورعا.

ورأيت أن أحد من أبنائه لم يتعرض لأى نوع من الضغوط كي ينخرط في صفوف لجماعة واحترمت في الجد المهيب احترامه لتوجهات أبنائه وأحفاده الفكرية.

حين استجاب الأستاذ عمر التلمساني لرغبتي في صياغة مذكراته لنشرها في صحيفة الشرق الأوسط السعودية شرعت في إعداد الأسئلة لخاصة بكل حلقة من المذكرات بناء على طلبه بحي تغطي جميع حلقات الصراع التي خاضها الإخوان منذ تأسيس جماعتهم إضافة إلى أسرار حياته الشخصية.

وكان الرجل يجيب كتابة على أسئلتي معتمدا على ذاكرته فكنت ألجأ إلى بعض المراجع لتوثيق الأحداث والتواريخ التي تفضل بذكرها لتوثيق الأحداث إلى إعادة تبويب إجاباته أو إعادة صياغتها صحفيا .

وتصورت أنني سأحاصر الرجل في المناطق الحرجة من شبابه وعلاقاته بأصدقائه وتجاربه العاطفية في مقتبل حياته إلا أنه أعاد الكرة إلى ملعبي بمهارة وفاجأني بما لم أكن أتخيله من صراحة وشجاعة وصدق كان تصوري أن رجلا في مكانة عمر التلمساني الدينية والسياسية سوف يرفض تناول خصوصياته كما يفعل عادة"المشايخ" وإذا تناولها فإن ذلك سيأتي بشكل عام وعابر إلا أن الرجل حدثني عن ارتياده للملاهي الليلية شأنه شأن شباب طبقته وتعلمه الرقص ومجالسته للفتيات .

هل كان حلما ما أسمع؟

المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين يصارحني بأنه كان يرقص لتانجو والشارلستون والفوكس تروت.

يرتاد كباريهات عماد الدين .يصاحب الفتيات .يذهب إلى السينما .

يغار على زوجته من صوت رياض السنباطي وأعين حراس السجن ويمنعها من رؤيته عشر سنوات كاملة حتى لا يري وجهها رجل !

وحين نشرت الشرق الأوسط هذه الاعترافات ضاف مكتب الإرشاد بها وطالب الأستاذ عمر بتكذيبها فما كان منه إلا أن اتصل بي , وطلبني للقائه بشكل عاجل .

ثم سلمني ورقة كتب فيها ما معناه أنه يقرب ويعترف أن كل كلمة نشرتها صحيفة الشرق الأوسط على لسانه صحيحة وأنه لا كهنوت في الإسلام وانه بشر يخطئ ويصيب ونشرت الشرق الأوسط صورة لهذا الإقرار منه بخط يده على صدر صفحتها الأولي في اليوم التالي كنا كثيرا ما تختلف خاصة في رؤية كل منا لماهية ثورة 23 يوليو 1952 ودور الزعيم جمال عبد الناصر وشخصيته وكنت أسجل هذا الخلاف في مقدمات الحلقات التي تنشر بالشرق الأوسط فلم يكن يضيق أو يغضب وكان يقول لى بسماحة وحب : الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ولم يشك لحظة في أمانتي على ذكرياته أو على تاريخ جماعته.

كان عمر التلمساني يكره أن ألقبه بكلمة " شيخ " وطلب مني أن أناديه باسمه مجردا من أى لقب فلما اعترضت على ذلك قال لى : نادني بكلمة أستاذ لأنني أحبها .

وكان يكره الجلوس وراء المكتب الفاخر بغرفته في مجال " الدعوة ويجلس خلف منضدة خشبية متواضعة لم يتم طلاؤها .

قاد عمر التلمساني سفينة الإخوان في أيامها العصبية خلال حكم أنور السادات بهدوء وكأنه يرقص التانجو في الأيام الخوالي والآن..

أنشر المذكرات الكاملة عمر التلمساني من التانجو في عماد الدين إلى زعامة الإخوان المسلمين " تحية لروح هذا الرجل الذي لن يتكرر بمناسبة مرور25 عاما على كتابتها .

يونيو 2008.

مقدمة

دار بخلدي من سنتين أن أكتب مذكراتي وقد كان هذا المعني يراودني منذ سنة 1926,عن ما بدأت أدون ما مر بي من أحداث منذ ذلك العام إلى حين نشر المذكرات,مع ما يحضرني مما مر بي قبل سنة 1926 كنت أدون الأحداث الداخلية والخارجية في مفكرات ( أجندات ) وكنت أعتز بها وأجد فيها هواية تجذبني نحو أحداث العالم ما يختص بمصدر وما يتعلق بغيرها.

ولكن لما فتشوا بيتي في نوفمبر سنة 1954 أخذوا كل ما فيه من أوراق حتى تلك المذكرات وحتى ملفات الجنايات التي كنت أدرسها لأترافع فيها وظللت منذ ذلك التاريخ نزيل سجون عبد الناصر طوفت خلالها كل سجون المحافظات في الوجه القبلي تقريبا ولما خرجت من السجن بعد استيفاء مدة العقوبة ( 15سنة) مضافا إليها اعتقال في مزرعة ليمان طره دام حوالي العامين حدث عندي عزوف عن الاسترسال في هذه الهواية من الناحية النفسية ومن بعض الظروف التي تحيط بالموقف من جميع نواحيه .

هذا إلى نظرتي إلى مثل هذه المذكرات يجب أن تكون صادق مع الأحداث لا مع وجهة نظر من يتولي كتابة مذكراته لأن الأمر أمر تاريخ والتاريخ إما أن يسرد في صدق وأمانة وإما البعد عنه تحسبا من الخطأ والتضليل للأجيال القادمة إذا قرئ من ناحية واحدة إذا أضفنا إلى ذلك أن في حياتي بعض ما لا يرضي المتشددين من الإخوان أو غيرهم كالرقص الإفرنجي والموسيقي وحبي للانطلاق في حياتي بعيدا عن قيود التزمت التي لم يأمر به دين من الأديان خاصة إسلامنا الذي وصفه نبينا بما معناه أنه سمح لن يشاده أحدا إلا غلبه وطلب منا الإيغال فيه برفق لأن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي كنت أحجم دائما عن التعرض لكتابة المذكرات خاصة بعد أن خلت من يدي مراجعي الخاصة التي كتبت بها الأيام وأحداثها كما هي تماما .

وذات يوم زارني في مكتبي بمجلة الدعوة الأستاذ عصام الغازي مندوب جريدة الشرق الأوسط في القاهرة وتحدث معي في كتابة مذكراتي فكان جوابي أنني لا أستطيع كتابة مذكرات صحيحة مطابقة للواقع لأن مرجعي سلب من بين يدي.

ولكني إذا كتبت فسأكتب ذكرياتي أى ما يعلق بذهني مما مر بي في حياتي ومن المقطوع به أن الذاكرة ليست العماد الراسخ في سرد الأحداث لأنها عرضة للخطأ حينا وللنسيان أحيانا فقبل الرجل متفضلا ولما كنت أعرف أن مثل هذا العمل يأخذ صاحبه مقابلا ماديا ولما كنت لا أريد أن أنزل بذكرياتي إلى سوق المزايدة فاشترطت على المندوب أن يوضح توضيحا تاما أن ما أكتبه لم أكن أتناول عليه ثمنا لأنه تاريخ والتاريخ لا ينزل إلى عالم البيع والشراء لأنه ليس ملكا لفرد ولكنه حق أجيال قادمة .

ولزاما علينا أن ننير لها الطريق في إباء الصدق وشمم الصراحة اللائق بكل من يتعرض لمثل هذه الأمور ولرغبتي الصادقة في تصحيح الخطأ والتذكير بما نسيت شاكرا راضيا.

وقبل الرجل وقدمت على التدوين معتمدا على صاحب الفضل الأول والأخير جل جلاله , معتصرا لذاكرة باضت عليها طيور الزمن وسكنها صغار الطير يرزقها الله إذ تغدو خماصا وتروح بطانا .

وحدث ما توقعت فقد غضب البعض لبعض ما كتبته عن خصوصياتي والحق أني راض عما كتبت ليعلم الناس قاطبة أن الإخوان المسلمين بشر من البشر يعرض عليهم كل ما يعرض على غيرهم دون ادعاء بزهاده باطلة أو ورع مصطنع وأن الإخوان المسلمين حلبوا أشطر الدهر فذاقوا حلوه ومره وأنهم إذ يدعون إلى الله لا يدعون عن تعصب أو من بطن بوتقة عاشوا فيها بعيدا عن مجتمعهم بل إنهم يعرفون ما يعرف الناس وأنهم ليسوا أحلاف تعصب أو أنضاء تخلف عقلي أو اجتماعي .

أحببت أن أكتب هذه المقدمة لأسباب عدة منها مطالبتي كل قارئ أن يبادر إلى تصحيح ما يراه من وقائع خاطئ سببها اعتمادي – بعد الله طبعا – على ذكراتي والذاكرة كثيرا ما تنسي , والنسيان ليس بذنب ف رفع الله به المسئولية عن المسلمين مع الخطأ والإكراه

ومن الأسباب أنني أحببت أن أعلن عن حقيقتي في مختلف مراحل حياتي كما جاء في الذكريات وأثبته هنا للتأكيد والتذكير لم أخف شيئا إذ ليس في حياتي ما أخجل من ذكره وطرحه على الناصية وإن خالفني البعض في هذا بحجة أن هذا يليق وهذا لا يليق؟

والأمر في نظري ليس لياقة ولكنه أمر الصراحة التي يجب أن يتسم بها كل من تعرض لهذا الأمر حتى يعرف الناس ما لم يكونوا يعرفون,وفوق هذا كله فإني ألفت النظر بهذه المقدمة أنني كنت حريصا كل الحرص على شرح منهاج الإخوان المسلمين في شتي نواحي النشاط الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي علما وتربية وليعلم الخاص والعام أن للإخوان منهاجا وأنهم لا يتحدثون من فراغ وحرصت على أن أبين ما لهم من أثر في حياة المجتمع المصري بل والإسلامي كله , هذا الأثر الذي لا ينكره إلا صاحب هوي لا يريد إلا طمس معالم كل مجهود إسلامي وخاصة إذا كان هذا المجهود إخوانيا محضا .

ويعلم الجميع أن الصحف تدفع المقابل لهذه الذكريات فأردت أن أظهر طابع الإخوان في مثل هذه المناسبات وأنهم لا يتاجرون بالتاريخ ولا ينزلون به إلى سوق المبيعات والمشتريات وعلى القارئ أن يلاحظ بدقة أنني لم أتعرض لخلافات أو غيرها حدثت داخل الجماعة لأنها أمور وقعت وانقضت ولا مصلحة لأحد في نبشها وإخراجها من مثواها لتكون محل نقاش من جديد.

لقد ران التعتيم الإعلامي على الإخوان من سنة 1980 فأحببت أن أعيد الناس إلى التذكير بهذه الجماعة الطاهرة لتي اجتمعت كل القوي المعادية للإسلام على مهاجمتها والتشهير بها بغير الحق محاول أن تحد من نشاطها في ميدان الدعوة الإسلامية وكانت إرادة الله فوق كل إرادة فما من محنة حلت بهذه الجماعة إلا خرجت منها أصلب عودا وأكثر عددا وأصدق عزما وأصفي نية على مواصلة العمل في سبيل الله ولا أتجاوز الحقيقة كثيرا إذا قلت إن هذه المحن عرفت الناس بهذه الجماعة المخلصة على أوسع نطاق وبأكبر مما كان يمكن أن يعرف الناس بها وعنها .

عداي لهم فضل على ومنة
فلا أبعد الله عني الأعاديا

هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها

وهم نافسوني فاجتنيت المعاليا

وهكذا فشلت جميع خصوم هذه الدعوة في إخفاء نورها وصرف الناس عنها بعد أن تكسرت النصال على النصال فلم يعد لسهم منفذ إلى صميم هذه لدعوة التي ستبقي ما بقي الوجود بفضل الله ومعونته لأنها دعوة من أجله وفي سبيله ابتغاء مرضاته .

هذه الذكريات منهاج إخواني وجهاز إعلامي يستطيع القارئ معه أن يعرف الكثير مما لم يكن يعرفه عن الإخوان المسلمين ومدي نشاطهم وما إذا كان لهم مناهج أو ليس لهم كما حرصت على لبعد عن الشخصيات كيلا أدخل في نقاش مع أحد في مسائل لا جدوى من ورائها على أى حال .

وأسأل الله أن يكون فيها من النفع ما انعقدت عليه النية والله من وراء القصد.

عمر التلمساني 1985

صليت في السينما ورقصت التانجو والشارلستون!

يفتتح الأستاذ " عمر التلمساني" المرشد العام للإخوان المسلمين سجل ذكرياته يروي شهادته حول الدعوة والدعاة والأحداث التي هزت العالم الإسلامي كله خلال الأعوام الخمسين الماضية.

إن الشيخ الجليل الذي يتزعم أهم منظمة شعبية إسلامية في التاريخ الحديث والذي ينهي العقد الثامن من عمره الحافل في الرابع من نوفمبر ( تشرين الثاني ) 1984 يعيد صياغة تاريخ جماعة الإخوان المسلمين كما عاصره حلما ودعوة وكفاحا وسجنا لمدة ثمانية عشر عاما فيحكي لقاءه الأول بالإمام حسن البنا في بيته المتواضع في المغربلين , ومبايعته له في العام 1932م.

ويروي كيف نشأت الجماعة والأطر الفكرية والعقدية التي التزمتها طوال مسيرتها والمعارك التي خاضتها من أجل إظهار الدعوة ونشر العقيدة.. كما يسلط الأضواء على " النظام الخاص " التنظيم السري للجماعة..

وممارساته ووسائل تمويله وتسليحه .. وعلاقة الإخوان بالسعديين والوفد, ومصر الفتاة والضباط الأحرار قبل وبعد 23 يوليو ( تموز) 1952 وصراعه مع عبد الناصر والسادات .

وقد رفض المرشد العام للإخوان المسلمين أن يتقاضي حقه في ثمن المذاكرات معلنا أنه " لن يتاجر أبدأ بتاريخ الإخوان المسلمين.

سيرة ذاتية

يسلط عمر التلمساني الأضواء على طفولته وشبابه ويؤكد أنه كان إنسانا عاديا , أقبل على الحياة بكل مباهجها مثله مثل كل أبناء الطبقة لغنية .. فيقول : تعلمت الرقص الإفرنجي في صالات عماد الدين وكان تعليم الرقصة الواحدة في مقابل ثلاثة جنيهات , فتعلمت الدن سيت والفوكس تروث والشارلستون والتانجو وتعلمت العزف على العود.

كما يقول إن له محاولات في كتابة الشعر والأدب ولكنه يؤكد انه لم يجنح إلى المعصية في حياته لأسباب كان من أهمها زواجه المبكر والوازع الديني الذي كان يملأ روحه ووجدانه .

يقول" عمر التلمساني "

من أنا ؟

مواطن مسلم مصري على وشك أن يتم الثمانين من عمره في الحياة ولدت في القاهرة حارة ( خوش قدم) في الغورية قسم الدرب الأحمر,في 4 نوفمبر ( تشرين الثاني ) 1904 في حي قديم بكل معني القدم قديم في هندسة مبانيه,في ضيق الحواري,واتساع الغرف بشكل غير مألوف ... الحمامات تسحن مياهها ن خارجها بما يشبه سخانات اليوم الكهربائية والبوتاجازية.

والليوان"خارج الحمام مباشرة لتستريح فيه قليلا,قبل أن تخرج إلى الشقة ذاتها مساحة المنزل ثمانمائة متر مربع شقة واحدة في الشقة والحوش والسطح ثمانية حمامات بدورات مياهها بعضها بالرخام وبعضها بالبلاط العادي.

وما أن بلغت الثالثة من عمري حتى رحلت العائلة جدي وأبي ومن معهما إلى لعزبة – في قرية نوي مركز شبين القناطر من أعمال مدينة القليوبية – قبل أن تسمي محافظة – بينها وبين القاهرة حوالي الاثنين والعشرين كيلوا مترا فيها محطة للقطارات وكانت القطارات في تلك الأيام غاية في النظافة ومتوفر بها كل وسائل الراحة من الدرجة الثالثة إلى الثانية إلى الأولي .

بدأت أتبين ما حولي في الرابعة من عمري فإذا بالمسكن الذي نقيم فيه – يسمونه ( السراية) – جدي يسكن شقتين بزوجيته, وأبي يشغل شقتين بزوجتيه أمي وضرتها في شقتين متقابلتين وعمي يشغل شقة بزوجة واحدة, لأنه لم يكن بعد قد ملك من أمره شيئا.

سراية ضخمة

في السراية أربع جوار " حسنية وبرلة, وسعيدة وبخيتة" وثلاث عبيد " سرور, وريحان, وتحسين ويتبع السراية مطبخ يعمل فيه طباخ ومرمطون, وعربة خانة" للعربة ذات الحصان الواحد, ويعمل عليها العربجي والسايس وفي المؤخرة زريبة للمواشي بها ثور وشمبري وبقرة وجاموستان وجملان وثلاثة حمي يعمل عليها الكلاف ومساعده.

وتحيط بالسراية خمسة أفدنة موالح بها البرتقال واليوسفي والمانجو والعنب والبلح بأنواعه والمشملة والموز والتفاح والسفرجل والليمون الحلو والمالح والمشمش والبرقوق والعناب , وعلى وجه التقريب كل أنواع الفواكه التي كانت معروفة آنذاك " منذ أكثر من سبعين عاما"

وكان في حرم السراية حديقة للزهور بها الورد بأنواعه والسوسن والياسمين والفل المجوز والمفرد والأراولة الجارونيا والقرنفل والعطر ويقوم على رعايتها الجنايني.

كانت ثروة الجد " عبد القادر باشا التلمساني " ثلاثمائة فدان , منها مائة وثمانون في قرية نوي قليوبية ومائة وعشرون في قرية المجازر شرقية – وسبعة منازل في بعض أنحاء القاهرة – في منشية الصدر وحي العشماوي في شارع عبد العزيز بالقرب من العتبة الخضراء – كانت أوامر الجد " مايونية" لا يجرؤ أحد على مخالفتها وإلا كان نصيبه " الفلقة والخير زانة".

وكان سبب الإنعام بالباشوية على الجد من السلطان عبد الحميد لأن جدي اعتاد في أواخر أيام الحج أن يجمع كل من عجز ماليا عن العودة إلى بلاده من جنوب آسيا وإندونيسيا فقط ويستأجر لهم من المراكب ما يوصلهم إلى بلادهم وحقا كان الجد سخيا حتى إنه كان كل يوم سبت من كل أسبوع وهو يوم السوق في قرية نوي يشتري من اللحم ما يكفي لإعداد وجب عشاء لكي فلاحي العزبة ويجلس بينهم يتناول طعام العشاء معهم حتى ينتهي العشاء وتعود الأوضاع إلى حالتها.

فاتني أن أقول : إن عائلتنا أصلا من الجزائر من بلد اسمها تلمسان " وهذا سر اللقب فلم دخل الفرنسيون الجزائر كانت تلمسان آخر بلد احتلوها بعد أن دافع أهلها عنها دفاع المستميت حتى أعترف الفرنسيون بهذه البطولة فأفردوا في متحف " اللوفر في باريس جناحا خاصا فيه كل الأسلحة التي دافع بها التلمسانيون عن بلدهم حتى آخر لحظة من قدراتهم .

وفي تلك السنة ( 1830 ميلادية) هاجر جد أبي ومعه عائلته إلى مصر واشتغلوا بتجارة الحبوب والأقمشة بين مصر والخرطوم وسنغافورة ثم لما وصل الأمر إلى جدي صفي أعماله التجارية واقتص في دخله على العزبتين والمنازل التي في القاهرة.

الينابيع الأولي

كان الجد من أتباع محمد بن عبد الوهاب" وقد طبع كثيرا من كتب الوهابيين على نفقته الخاصة, ومنها ما هو موجود في مكتبات الحكومة السعودية وكان عالما يلبس العمامة كل أصدقائه من علماء الأزهر من أمثال المرحوم الشيخ "إمام السقا".

وكان كثيرا ما يدعو هؤلاء العلماء لقضاء يوم بزهائه في العزبة فإذا جاء موعد القطار الذي يقلهم من القاهرة يستقبلهم على " المزلقان" الذي يمر عليه القطار .. وكان حاضر البديهة فرذا ما جاؤوا جميعا , استقبلهم بقوله

ما شاء الله ! أتوني بأهلكم أجمعين . ألا يعتذر واحد منكم ولو مرة!.

فإذا مر بهم بعض الأوز أو البط أو الديك الرومية صاح في الدجاج ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) حتى إذا ما انتهت فترة الاستقبال, بدأت المناقشات العلمية, واحتدت حتى ليخيل للسامعين أنهم على وشك الاشتباك بالأيدي من حدة المجادلة والتمسك بالرأي حتى إذا ما حان وقت الغذاء صفا الجو واختفت حدة المناقشات وحلت الابتسامات والقفشات كأنه لم يكن هناك شئ بالمرة.

وكان يطيب لى أن أشهد تلك الجلسات وأصغي لتلك المناقشات حتى تكونت لدي الانعطافات والميل إلى علوم الدين والوقوف على كثير مما لم يتوفر لأترابي بل حتى لأخوي اللذين يكبرانني في السن وبدأ ذهابي إلى الكتاب في القرية كتاب سيدي على " ويقوم بالإشراف عليه المرحوم الشيخ عبد العزيز القلماوي " والمحروم الشيخ " أحمد الرفاعي " من أهل قرية " نوي " كنت مواظبا على الحفظ وكنب أحب العلم للعلم خاصة ما تعلق منه بأمور الدين نشأت في العزبة فأحببت الريف وحياة الفلاحين حبا ملك على كل عواطفي.

استحممت في الترعة وسبب لى ذلك مرض البلهارسيا الذي عانيت وما زلت أعاني منه كثيرا كنت أنزل إلى بطن الساقية على القواديس وأسبح فيها كذلك وإن كنت قد نسيت الكثير من وقاعد السباحة كنت أيام "دراس " القمح " أسوق النوارج وأنا على رمية القمح كنت أركب الخيل بلا سرج وأطلق لها العنان في رمال كانت بالقرب من العزبة.

كنت أعشق كل ما في الريف

الشجر ... الطير .. البساطة أسبح وأنا بمفردي ليلا في عالم لا أدري ما هو وتمسكا بالصدق ما كنت أسبح في ذلك الجو مسبحا أو مفكرا أو متدبرا ولكني أهيم في جو لا أدري ما هو ما مبتدأه وما منتهاه؟ ماذا أهيم في ملكوته ؟ لماذا أعشق ذلك المجهول الذي كنت مدلها فيه ؟ لماذا هذا " السرحان" الذي كنت أتوه بين لا نهائيته ؟ لست أدري لكني كنت به سعيدا كل السعادة كنت عاشقا لمن أو لماذا ؟ لست أدري هل كنت خياليا , وهل كنت واهما ؟ هل كنت مصابا بنوع من أنواع الأمراض النفسية ؟ كنت أحس في تلك اللحظات بأني أستطيع أن أطير بلا جناحين في أجواء الفضاء , أطير بغير ما هدف !

حب الطيران

أين تذهب بي أجنحتي أين يستقر بي مقامي ؟ وإلى أى مدي ارتفع عن سطح هذه الأرض ؟ كل ذلاك ما كان يشغل بالي ولكن الذي كان يستهويني أني كنت أحب أن أطير وقد بلغ بي هذا الهوى حد مزاولته في عالم الأحلام ربما إلى اليوم فأنا في النوم كثيرا ما أطير ولا تدهش إذ قلت لك:

إن رحلاتي إلى أوروبا وأمريكا وآسيا في سبيل الدعوة الإسلامية بلغت عشرات العشرات بلا سآمة ولا ملل.. طيران يسلمني إلى طيران, وطائرة تحملني إلى غيرها رغم ما بلغت من العمر ورغم تحالف الأمراض على هذا لجسد الذي باضت عليه صقور الدهر, وأفرخت نسوره, وكم أتمني حتى هذه اللحظة أن أعود لأحيا في الريف بين أحضان السكون الغامر والليل الساجي, مع النجم الساهر وصيحة الديكة في الفجر الباكر .

وزقزقة العصافير التي تبدأ فرادي كأنما يوقظ بعضها بعضا حتى إذا استيقظت كلها راحت تعزف ترنيمة الصياح مسبحة بحمد المبدع العلام الذي جعلها تغدو خماصا وتروح بطانا ولو أن البشر استمعوا إلى هذا الدرس الذي تطالعه بهم الطير كل صباح لعاشت الدنيا في أمن وافر وسلام غامر, ولكن لذلك خلقهم بحكمة اقتضت ما عليه وما كان لنا أن نناقش ربنا الحساب فهو الذي خلق وهو الأعلم بما يصلح لما خلق وكل الذي علينا أن يعود كل منا إلى تعاليم دينه فينفذ منها الأمر ويتجنب النهي .

وعابث وطائش وغافل ومتطفل من يحاول بعقله المحدود معرفة حكمه الذي براه وسواه وإرادته ومشيئته في قضائه وقدره ولست أهضم اشتغال الناس بأمور لا تنقص من إسلامهم ولا تزيده إذا تركوها لحكمة مصرف الأكوان .

تستطيع أن تقول : إنني كنت رومانسيا ولا أزال أحب الأدب الخلقي والفني وأعيش في الحياة .

فشل فتي

لست ميالا إلى الجدل وكثيرا ما كنت أتركه إذا ما رأيت في محدثي ميلا إليه رغم وضوح الحق في موضوع الجدل أحب الجمال في كل شئ في الإبداع التكويني للبشر .. في جمال الطير وتحليقه في رقة الغزال ونحافة سيقانه ..

في صبر الفيال في بريق عيني الأسد والنمور في خرير الماء, في حفيف أوراق الشجر في القطار يمضي وكأن الأرض هي التي تطوي وليس هو الذي يطويها في كل شئ جميل يمكن أن يخطر في بال إنسان ورغم أني وعيت الدنيا فوجدتني أصلي وأصوم ورغم بدء حفظي للقرآن وبعض الأحاديث والكتب الدينية في سن ما أظن حدا أو يافعا مارسها فيه فقد كانت تستهويني أعمال البطولة وحماية الشرف والعشق والهيام .. فقرات أول ما قرأت كتب أبي زيد الهلالي سلامة وقرأت عن عنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن.

ثم تدرجت إلى قراءة كل روايات "اسكندر ديماس " وابنه وتعرفت إلى أبطال قصصه الذين كانت شجاعتهم والدفاع عن معشوقاتهم تملك كل أوقاتي في شهور الأجازة .

قرأت الأرض" لأميل زولا, فلم تنل مني اهتماما لوقاحتها وخروجها عن حيز الذوق واللياقة رغم الطنطنة التي أثيرت حولها .

قرأت " البؤساء " وكل ما كتبه المنفلوطي وبكيت بحرارة مع مآسيه كنت نهما في القراءة, رغم كل هذا العشق للأدب لم أستطع أن أكون أدبيا, أو موسيقيا رغم حبي للموسيقي, وعزفي على العود لسنين ولم أستطع أن أكون شاعر رغم كل محاولاتي الفاشلة وعرضت ما أكتب من الشعر على بعض الشعراء فقالوا لي: إن كا تكتبه كلام مسجوع في أبيات وليس شعرا .

وكان آخر بيت شعر كتبته

خضعت لوحي قريحتي الأشعار
ورنت إليها الغرد الأطيار

ومن هذا البيت تستطيع أن تحكم إن كان هذا شعرا أو تخريفا فكففت ولسبب لا أدريه صرفني الله عن كل هذه المحاولات الفنية التي فشلت فيها فشلا لا مثيل له إن لم تكن مثالا للهزال الفني, أو الفن الهزيل السخيف.

وأقبلت على القراءات الدينية فقرأت تفسير الزمخشري وابن كثير والقرطبي وسيرة ابن هشام وغيرها من السير قرأت أسد الغابة والطبقات الكبرى ونهج البلاغة والآمال والعقد الفريد لابن عبد ربه والعقد الفريد لابن سيده والبخاري ومسلم.. من الجلدة إلى الجلدة ورغم كل ذلك فإني أؤمن بأن ما قرأته قطر من بحر لا تروي ظمأ .

الشئ الوحيد الذي استفدته من وراء كل هذه المعاناة أنني أعرف للناس أقدارها فلم أمس إنسانا بقلمي ولا بلساني حتى الذين هاجموني ونالوا مني لخلافي معهم في الرأي .

ولأنني أحترم رأيي ونفسي فقد كنت أحترم رأي الغير وشخصياتهم والتزمت جانب الموضوعية في ما أكتب مع تمسكي برأيي الذي أقتنع به مهما كلفني ذلك وقد قاسيت وما زلت أقاسي من هذا الكثير والكثير حبسا وإيذاء فلم ولن أنصرف عما أخذت نفسي من الحق ابتغاء وجه الله إنه عقيدة سرت مسري الدم في العروق والشرايين وزادها تعميقا أنني نشأت في بيت رأيت كل من فيه يصلي ويصوم, رجالا ونساء فتيانا وفتيات, حتى أنني لا أستطيع أن أتذكر متى صمت ومتى بدأت أصلي ولكنني لما تفتحت الدنيا أمام عيني وذهني جدتني أصوم وأصلي ولا أذكر أنه فاتني فرض من وقتها إلى الآن .

حتى إنني لما كنت أباشر عملي كمحام وأنزل يوم الجمعة لأحضر بعض الأفلام السينمائية وكنت أنتهز فرصة الاستراحة ( الانتراكت) لأصلي الظهر والعصر مجموعتين مقصورين في أحد أركان السينما لتي أكون فيها .

كنت أري بعض الناس إذا كان على موعد للذهاب إلى إحدى دور السينما أو المسرح اعتذر لمن معه في المجلس عن البقاء وطلب الانصراف لأمر مهم .

أما أنا فما كنت أتحرج من الاعتذار بسبب الذهاب إلى السينما فإذا تعجب الحاضرون أو غضبوا فإن ردي الوحيد الدائم : إن الله يعلم إلى أين أذهب فكيف لا أخشي الله ثم أخشي الناس والله أحق أن أخشاه خاصة وأن ما أفعله ليس حراما وإن دخل في دائرة المكروه .

هكذا كانت طفولتي هادئة سعيدة ميسرة كل ما أطلبه في متناول يدي كان لجدي سبعة من الأبناء هم رجال وخمس سيدات أما أبي فتوفي عن سبعة عشر, ثمانية ذكور وتسع إناث, وكنت موضع الحب الأول عند أبي لأني أنجح سنة بعد سنة دون رسوب أما أخواي اللذان يكبرانني فقد زهدا في التعليم واشتغلا بالتجارة وحتى هذه لم يفلحا فيها وكان بعض المدرسين من أصدقاء الوالد يحاولون مساعدتي بدروس خاصة ثم يرون أنني لست في حاجة إلى شئ من ذلك بالمرة إذن نجحت من أولي ثانوي إلى ثانية ثانوي أذاكر كل دروس سنة تالية في الأجازة : الدروس النظرية ..

التاريخ والجغرافيا والأحياء واللغة وما إليها ولذلك ما كنت أجد كبير معاناة في متابعة المدرسين طوال العام وكان ترتيبي في الفصل لا يقل عن الثالث وإن لم أفز بأولوية أبدأ .

وكان مدرس اللغة الانجليزية مستر جاكسون" إذا سأل طلبة الفصل عن معني كلمة" عقب على السؤال بقوله ما عدا " ما عدا معربة والبشري والتلمساني" فقد كان يعلم أن ثلاثتنا نستذكر دروسنا تماما .

كنت أقرأ جريدة " المقطم وأنا في سنة العاشرة وأتابع أحداث الحرب العالمية الأولي في شغف وكنت أرجو أن يهزم الانجليز لتتخلص مصر من الاستعمار البريطاني وما شاهدته في ذلك الحين من تصرفات تعسفية للمندوب السامي البريطاني – كما كانوا يسمونه – كانت الأوامر تصدر من المندوب السامي إلى رئيس الوزارة فإذا بنا نري الرجال تساق رغم أنفها إلى العمل في الجيش البريطاني .

وكانت الجمال والحمير تجمع بالقوة وكذلك القمح والذرة بأثمان زهيدة وبالإكراه فتولدت لدي جيلنا كراهية الحكم البريطاني وما أن انتهت الحرب العالمية الأولي حتى هب الشعب بثورته عام 1919 وما زالت تلك العوامل تتفاعل في نفس المصريين حتى انتهت بخروج الانجليز من مصر نهائيا عام 1956 بموجب اتفاقية عام 1954.

وبدأت مرحلة الدراسة الثانوية فالتحقت بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية ثم بمدرسة الرشاد الثانوي والإلهامير الثانوية بالحلمية .

بيت بلا نوافذ

بعد وفاة الجد انتقل أبي وزوجتاه وبنوه إلى بيتنا في حارة " خوش قدم عطفة السكري رقم7 وكما سبق القول كان المسكن غاية في الاتساع والشئ العجيب في هذا المنزل الذي تبلغ مساحته ثمانمائة متر مربع أنه ليس فيه نافذة واحدة تطل علي خارج المنزل كل نوافذه تطل على لحوش الواسع .

كان السبب في تنقلي بين المدارس الثانوية الثلاث موقفا حدث عندما كنت في السنة الأولي بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية إذ حدثت شوشوة بالفصل خلال لفسحة فحضر ضابط المدرسة وانتهرنا, وطلب الصمت الكامل واخذ يمر بين المقاعد فرأي طالبا اسمه " محمد على سالم" يتحرك فجذبه من بدلته فسال الحبر على ملابسه وعز علىّ هذا المنظر, وما كنت أعلم عن حالة هذا الطالب المالية شيئا وإن كان قد دخل مدرسة البوليس وترقي في مراتبها حتى المعاش ولكن رأيت حالة ظلم فلم أقو على السكوت فالتفت إلى الضابط صائحا: ما هذا الظلم ؟... فطلب منى مغادرة الفصل فأبيت .

فجذبني من ملابسي وكان أقوي طبعا, فلم أكن إلا يافعا وكان هو مكتمل الرجولة وأخرجني من الفصل بالقوة ثم تركني على الباب وذهب إلى الدرج الذي به كتبي وكراساتي وقذفني بها فتناولتها وقذفته بها وظللنا حوالي الدقيقة نتقاذف بالكتب حتى ضاق بي ذرعا فأمسك بي وجرني جرا إلى ناظر المدرسة وكان اسمه " كرارة " أفندي " فطلب من ناظر المدرس أن أخرج واحضر ولي أمري معي في الغد .. وذهبت إلى والدي وقصصت عليه ما حدث وصممت ألا أعود إلى هذه المدرسة أبدا.

ولم يرغمني فأكملت السنة الأولي في مدرسة الرشاد الثانوية وهي مدرسة أهلية في شارع درب الجماميز ,لم تكن الدراسة بها منتظمة شأن المدارس الأهلية في ذلك العهد وفي بدء العام الدراسي التالي التحقت بالمدرسة الإلهامية الثانوية وكانت تابعة للخاصة املكي.

وفي نهاية العام حصلت على الكفاءة وانتظمت في هذه المدرسة حتى حصلت على البكالوريا قسم أدبي وكان الناجحون على مستوي القطر – عام 1924 – في البكالوريا سبعمائة وسبعين طالبا كان ترتيبي من بينهم الواحد والسبعين .

التحقت بالقسم الأدبي لأني كنت أضيق بالحساب والهندسة ضيقا شديدا وظللت إلى يومي هذا لا أحب أن يناقشني أحد الحساب ..

لذلك لأني – والله على ما أقول شهيد – كا كلفني أحد بعمل وقبلت التكليف إلا وأعطيت العمل كل طاقاتي وقدراتي البشرية مستعينا بالله وما كانت نتيجة التكليف تهمني كثيرا ما دمت قد أديت الواجب فيما عهد إلىّ من عمل فقط ولم يكلفنا بتحقيق النتائج رحمه منه بعباده .

اغتزال الملاكمة مبكرا

وفي مدرسة الإلهامية بدأ شبابي وبدأ اهتمامي بمظهري كما كنت مهتما بمخبري فكان الحذاء دائم اللمعان والبنطلون كأنه خارج من تحت المكواة ذلك لأني إذا عدت من المدرسة آخر النهار جلست في غرفتي الخاصة وأخذت أنظف حذائي بالورنيش وأبخر البنطلون بشئ من الماء وأضعه بين مرتبتي السرير محافظة على استقامته وما عرفت في المدرسة الثانوية شقاوة الشباب, فلا أجري كما يجرون وراء بعضهم بعضا ولا ألعب الكرة بحذائي وحاولت أن أتعلم الملاكم ولكن معلمي إياها ضربني " بوكسا جعلني أعتزلها إلى الأبد .

ودخلت الكشافة المدرسية لكني سئمتها ولم أباشر أى نوع من أنواع الرياضة طوال دراستي الثانوية رغم اهتمامي بالأنباء الرياضية الداخلية منها والخارجية .

طوال دراستي الثانوية كنت تحت رقابة والدي وكانت رقابة دقيقة وشديدة كان يعلم أن الحصة الأخيرة تنتهي الساعة كذا.

المسافة بين الحلمية حيث نقيم تستغرق كذا دقيقة فلابد إذن أن أكون الساعة داخلا كذا داخلا من بوابة المنزل لأجده جالسا في السلالم والساعة في يده فأقبل اليد الكريمة وأصعد إلى غرفتي والويل كل الويل لى لو تأخرت عن الموعد المعتاد خمس دقائق أسمع من التقريع والتأنيب ما لا أستطيع معه أن اعترض أو أدافع أو أشرح .

ورغم ذلك فقد كنت سعيدا بهذه المعاملة التي كنت أشعر من ورائها بحب أبوي غامر تمنعه التقاليد أن يقول لابنه إنه يحبه فلم يكن مستساغا في لذلك الحين فالأب أب, والابن أبن ولكل منهما موضعه التقليدي مهما كان أحدهما يحب الآخر .

إنه كان ينتظرني بالدقيقة إشفاق علىّ أن أتأخر بسبب حادث كانت لمعة لراحة تلمع في عينه لمجرد رؤيتي عائدا في موعدي إنه ما كان يخشي علىّ الانحراف لأنه يعهد في ابنه عمر استقامة وجدية وإقبالا على لدراسة .

وسواء أصحت فراسته في ّ أو لم تصح فقد كانت هذه عاطفته نحوي وخوفه علىّ.

وأذكر أنه عقب ظهور نتيجة البكالوريا سنة 1924 أرسل الكثير من الطلبة الراسبين عدة شكاوي إلى الأهرام فنشرت شكاواهم وطلبت من زملائهم أن يقروهم أن ينكروا عليهم فأرسلت ردا إلى الأهرام نشر قلت فيه إن امتحان اللغة الانجليزية لم يكن صعبا ولكنه كان طويلا .

وما أن رأي أبي اسم ابنه ينشر في الأهرام حتى استطار من الفرح وأمسك بالأهرام يعرضه على كل من يعرف مفاخرا في صورة اللائم قائلا: وشف الولد العكروت كاتب إيه في الأهرام.

وكأنه يريد أن يقول لمن لم يقرأ الخبر: ابني أصبح يكتب في الصحف كان يحبني فعلا ولكنه لم يمتعني لكلمة الحب يوما .

امرأة في حياتي

حاول الأستاذ عمر التلمساني " المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين أن يؤكد على حقيقة هامة خلال تسجيله لمراحل حياته المبكرة...

أنه لم يكن طرازا خاصا من الشباب انفرد مع رفاقه من الرعيل الأول من الإخوان المسلمين بإدارة الظهر للحياة الدنيا والتطلع فقط إلى الحياة الآخرة إنما هو مثل كل البشر يتطلع بالحب إلى دنياه , ينهل من مباهجها ما حلله الله له, دون تماد أو إفراط.

فلم ينكر على نفسه أن غشي في صباه ملاهي وصالات عماد الدين حيث شارك الذين يضحكون ضحكهم, والذين يرقصون رقصهم لكنه توقف عند هذا الحد, حتى أنه أثار دهشة الفتايت اللائي شاركنه في الرحلة لإحجامه عن التمادي فيما ذهب إليه غيره في مثل هذه العلاقات, من تعاط للخمر والزني المغلف بالعواطف الكاذبة.

في حياة الشيخ " عمر" امرأة واحدة أحبها من سويداء قلبه وهام بها عشقا وكان متطرفا في غيرته عليه, إلى درجة جعلته يمنعها من سماع أغنيات الموسيقار " رياض السنباطي " لشغفها بألحانه, بل إنه ذهب إلى أكثر من ذلك بأن حرمها من أن تزوره في السجن عشر سنوات كاملة حتى لا يراها ضباط السجن ورفاقه من المسجونين عند زيارتها له!

تري من هي هذه الحبيبة التي ما زالت تستأثر على قلب هذا الشيخ ابن الثمانين وتثير شجونه ؟

قصة زواج عجيبة

يقول " عمر التلمساني "

في السنة الرابعة الثانوية فكر أبي أن يزوجني ليحفظ على نصف ديني .

كان لى إخوان أكبر مني فلم يفكر في زواجهما ولكنه فكر في زواجي أنا: لأني كنت أثيرا عنده, وأقرب إلى قلبه من غيري وكانت قصة زواج عجيبة.

مما قرأت فهمت أنه من حقي أن أختار شريكة حياتي وأن أختارها دون وساطة في هذا الاختيار ولكني كنت واهما وكان الواقع أبعد أثرا وأعمق فاعلية من الأوهام والقراءات والتصورات.

ففي يوم بعد عودتي من المدرسة قالت لى والدتي

إن أباك طلب مني أن أخبرك أن تذهب إلى منزل الشيخ " فلان" بعد صلاة مغرب الغد فسألتها ألا تعرفين السبب يا أمي ؟ قالت إنهم سيكتبون كتابك على ابنة الشيخ الذي ستذهب إلي منزله بعد مغرب الغد.

وللحق كان للخبر وقع طيب على نفسي

لأني كنت في سن العشرين وكان نداء الطبيعة يناديني بقضاء لبناته وحانت الفرصة وفي الحلال ولكن تمرد الشباب في داخلي وتسلط فكرة حرية الاختيار جعلاني أبدو في صورة الثائر

– الثائر أمام أمي فقط!

فقلت لها في عنفوان

إنني لن أذهب ولن أتزوج إلا من التي أختارها بنفسي فردت قائلة :

لا شأن لى بهذه اللخبطة التي تتحدث بها ,وسأخبر أباك بهذا الخروج على طاعته ليتدبر الأمر.

وجاء أبي فأخبراته أمي بما كان مني فقابل الأمر بهدوء كامل وقال لها

" إن شالله ما عنه راح. أنا حبيت أعمله راجل وأجلسه مع الرجال سأزوجه رغم أنفه فأنا ولى أمره وسيكتب الكتاب هذه الليلة.

غيرة زوجية

أخبرتني والدتي بما حدث ولما كنت أعرف إصرار والدي على رأيه خضعت للأمر الواقع بين راغب فيه وزاهد وكان الخير فيما ألهم الله به أبي, فقد توفي بعد زواجي بستة أشهر في يناير ( كانون الثاني) 1924 حفظ الله لى نصف ديني بهذا الزواج وأقامني على الصراط المستقيم فلم ترق امرأة في نظري بعد هذا الزواج, ولم أفكر في غيرها.

واقتصرت عليها ودام هذا الزواج الهنئ ثلاثة وخمسين عاما, حتى توفيت تلك الزوجة الوفية في رمضان 1399هـ - الثامن من أغسطس ( آب) 1979 بعد أن تسحرنا وصلينا الفجر معا وبعد مرض لازمها الفراش حوالي سبع سنوات ما زلت ابكيها بحرقة من كل قلبي إلى اليوم كلما مرت ذكراها بخاطري أو ذكرها أحد أمامي فقد كانت زوجة مثالية تطهو أشهي الطعام, وتساعد من تغسل الملابس يدا بيد وتقوم على نظافة المنزل مع الخادمة – لم تسألني فيما أفعل لم فعلت ؟ ولا فيما تركت لم تركت ؟

لم تطالبني بشيء لنفسها, لأني كنت أوفر لها كل ما تطلبه الزوجة من زوجها. وظلت بعد الزواج ملازمة للبيت حوالي سبعة عش عاما لا تخرج لزيارة أهلها أو حضور عزاء أو تهنئة إلا في سيارة ولم تركب طوال تلك السنين تراما ولا أتوبيسا أو تمشي في الطريق على قدميها لأني كنت شديد الغيرة عليها .

أغار عليها من الشمس أن تلقي عليها أشعتها ومن الهواء أن يلامس طرف ملابسها وكانت تعرف ذلك مني فلن تضق بي ولم تعاتبني هذا إن لم تكن هذه الغيرة ترضيها وتسعدها وقد رزقني الله منها بنسل كثير لم يبق إلا ذكران وانثيان أسأل الله أن يكون عنهم راضيا, فهم صالحون ومؤدبون ومطيعون, وأذكر هنا واقعة تتعلق بغيرتي عليها ..

فقد حدث لما قضيت في سجن عبد الناصر سبعة عشر عاما, من أكتوبر ( تشرين أول ) 1954 إلى يوليو ( تموز) 1971 كانت نعم الزوجة الصابرة المحتسبة.

ومرت عشر سنوات في السجن لم أرها فيها غيرة عليها أن يرها السجانون ومن معي من الإخوان حتى إذا ألح علىّ الإخوان ووجهوا لى اللوم على هذه القطيعة: أذنت لها بزيارتي في السجن واستقبلتها في اتزان وكأني لم أفارقها إلا يوما أو بعض يوم لم تسبب لى متاعب مع أهلي حتى ولو أسئ إليها في غيبتي من أم أو أخ أو أخت إنني أنصح – وعن تجربة – كل فتاة وفتي يريدان الزواج ألا يجعلا ما يسمياته الحب أساسا للعلاقة الزوجية .

إن الزواج إذا بدأ بهذه العاطفة الملتهبة التي يسمونها الحب لا يلب ثان تنطفئ جذوته بعد سنتين أو ثلاث وخاصة إذا بادرتهما الذرية بالمجئ .

الزواج يجب أن يقوم أولا على رضاء الوالدين ورضاء الزوج أما تخطي إرادة الوالدين فما الزواج إذ ذاك إلا نزوة اتصال حتى إذا تم الاتصال وتكرر وأصبحت المحبوب طوع اليمين, تبخر كل ذلك الغليان لعاطفي ولم تبق إلا صلة صداقة بينا الزوجين هي من أرقي صور الصداقة هذا إذا أخلص كل منهما للأخر وأعطي كل منهما حق الوفاء بهذه العلاقة الطاهرة التي على أساسها يقوم عمار البيوت وبالوفاء تدوم الزوجية سعيد هانئة.

والويل للزوج أو الزوجة إذا بدأ من أحدهما إعجاب أو استلطاف لآخر أو لآخري.

أذكر أنني اشتريت في العام 1936 جهازا للراديو فيليبس " ماركة النحاس باشا " فسمعت المرحومة زوجتي غناء لـ" رياض السنباطي " فأعجبها الصوت والتلحين وصارحتني بهذا فكان ردي أن عليك أن تغلقي الراديو بمجرد سماعك لاسم السنباطي مغنيا أو ملحنا فاستجابت دون تردد لما تعفه من غيرتي عليها وأنا أقول للفتيان والفتيات أحرصوا على رضاء الوالدين فيمن تختارون فغضب الوالدين له نتائج في غاية السوء ورضاهما له من الآثار الطيبة ما يوفر كل سعادة واستقرار .

رسبت في الحقوق

بدأت مرحلة الشباب بدخول الجامعة في العام 1924 في كلية الحقوق التي التحقت بها عن رغبة جامحة لأني كنت مغرما بمواقف المحامين في الجلسات ومرافعاتهم وارتفاع نبرات أصواتهم في الوقت الذي يجلس القضاة مستعمين صامتين كنت مغرما بما أقرأه عنهم من أنهم حماة الحرية العاملون على نصرة الضعفاء المطالبون بالحق الأحرار البعيدون عن قيود الوظيفة .

قلت فيما سبق إنني لم ارسب في حياتي الدراسية في المرحلتين الابتدائية والثانوية مطلقا .. لكنني رسبت في كلية الحقوق أكثر من مرة للعوامل التالية:

أولا : لأنني تزوجت وأنجبت وأنا طالب في الكلية وللزوجية والأبوة ما يقتطع من أوقات المذاكرة والمواظبة على حضور الدروس .

ثانيا : اشتغال الحركة الوطنية وكثرة ترددي على بيت الأمة والجلوس إلى سعد زغلول والاستماع إليه لأنه كان جذابا يرغم الصم على تتبع حركات شفتيه .

ثالثا : وفاة أبي وشرائي سيارة " رينو كابروليه" رقم 2751, وانصرافي إل الاستمتاع بحرية لم تكن متوفرة لدي فقد عرفت كل ما يعرفه الشبان الوارثون عدا الزني والخمر حتى تعلمت الرقص الإفرنجي في " صالات عماد الدين" وكان تعليم الرقصة الواحدة مقابل ثلاثة جنيهات فتعلمت " الدن سيت, والوفكس تروت والشارلستون والتانجو, وتعلمت العزف على العود وترددت على المسارح والسينمات كل ذلك كان من أسباب رسوبي أكثر من مرة في كلية الحقوق.

كان أستاذ مادة" القانون المدني" في كلية الحقوق هو المرحوم د. عبد الرزاق السنهوري.. وكان أستاذ حقا لا في مادته فحسب ولكن في حلقة ومعاملته للطلبة ومع ذلك لم ينج من قفشات الطلاب فقد كان في صوته ضخامة حتى أطلق عليه " عفريت الطلبة" إنه أول من نطق الفرنسية بالضاد....

ولما رأي تعثر بعض الطلبة في مادة القانون المدني جمعنا وأعد لنا حصة خاصة يشرح لنا فيها ما استعصي علينا من دروسه في الفصل وبلا مقابل ولم يكن " الدكتور السنهوري في ثراء بعض الدكاترة الحاليين الذين يجعلون من بيوتهم مدرسة للدروس الخصوصية التي يغالون في أجرها والتي لاكت الألسنة هذا التصرف غير المشروع ..

فأى احترام يقوم بين طالب يدفع لأستاذه مالا مقابل الحصول على المعرفة وبين هذا الأستاذ الذي يمد ليتناول الأجر ن الطالب ؟

إنه يغرس في نفس الطالب مبدأ أن كل شئ في هذه الحياة لابد أن يكون له مقابل مادي حتى العلم من هنا لا يطلب الطلبة العلم للعلم ولكنهم يطلبونه لما يفيضه عليهم من مادة وبهذا تنمحي في نفوسهم كل الأخلاق الحميدة ويصبح همهم الوحيد الحصول على المادة.

وقبل كل شئ فهم لا يطلبون العلم ليتفقهوا فيه أو يخترعواأو يكتشفوا كما هي الحال في أقرانهم من أبناء الأمم الناهضة لهذا تقدموا وتأخرنا ونمت قواهم وضعفنا ونسينا العلم للعلم ونسينا التضحية والبذل والإيثار وأصبح هم كل واحد منا السباحة فوق التيار ولو جرف التيار كلّ الآخرين .

لقد قلت

إن من الحلول التي ينبغي أن يؤخذ بها لهذه المشكلة أن تعين الحكومات الهيئات الدينية – مسلمة كانت أو مسيحية – لكي تمكن من تنظيم حلقات دراسية للطلبة المتخلفين في المساجد والكنائس حيث إن للمسجد هيبته عند المسلمين وللكنيسة هيبتها عند المسيحيين.

رفضت أن تحلق لى امرأة!

ليس للمرأة دخل في حياتي على الإطلاق فما أحببت بالصورة الخيالية السائدة لدي الفتيات والفتيان ولو حضرت مجلسا فيه من النساء أكثر من الرجال اعتراني طوفان من الخجل إنني لا أستطيع أن أنظر إلى امرأة في وجهها أو أحدق النظر إليها بل إني لا أحب الحديث إلى النساء قد يري المتحضرون أن هذا عيب, وقد يرونه جبنا ..

لكني لا شأن لى بالنظريات الحديثة ومساواة المرأة بالرجل, فأنا ما زلت أعتقد أن الرجل رجل وأن المرأة امرأة, ولذلك خلقنا الله ولا يستطيع البشر أن يغيروا حكمة الله في خلقه مهما قدموا لشبابنا المسكين من نظريات براقة تدعو إلى المساواة بين الرجل والمرأة إن المرأة التي تؤمن بمساواتها بالرجل امرأة فقدت أنوثتها قبل أن تخسر عفافها وكرامتها.

وكنت قد أعطيت تعليماتي لوكيل مكتبي ألا يدخل على امرأة بمفردها بل لابد وأن يدخل معها إلى مكتبي.

ولما حضرت مؤتمر للنساء في دولة الإمارات كنت أعدب من جرأة بعض السيدات في توجيه الأسئلة التي كنت أجيب عنها في لف ودوران! وكنت في فندق بمدينة كومو في إيطاليا .

وحددت موعدا في صالون الفندق للحلاقة فلما دخلت لم أرس إلا سيدات ... فسألت من سيحلق لى شعري ؟ فأشاروا إلى فتاة .

فقلت : أليس من رجل ؟ فقالوا : لا , فقلت " لا رجل , إذن لا حلاقة " وبات الفندق يتحدث عن هذه الواقعة وبت أحمد الله على أني لم أعصه في بلاد المتحللين.

هذا هو دور المرأة في حياتي . ليس إلا زوجة وفية, وفرت لى السعادة المنزلية جاءتني بأبناء وبنات هم موضع احترام كل من لقيهم وأنا أريد أن أنفي من أذهان الناس أن هذا التصرف احتقار مني للمرأة أبدأ ..

فالله وحده يعلم كم أحترم النساء وأري في تصرفي هذا غاية الاحترام لهن إنني من الدعاة إلى تعليم المرأة لكي تباشر من الأعمال ما يتناسب مع أنوثتها وشرفها حتى تكون دائما فوق مستوي الشبهات والأقاويل وحسب المرأة في الإسلام أن الله ساوي بينها وبين الرجل في الحقوق والواجبات وفي المثوبة والعقاب .

أنا وفدي قديم

أخذت السياسة مني وأنا في الجامعة اهتماما كبيرا فقد كنت وفديا بكل كياني وكنت كثير التردد على بيت الأمة وأّذكر أن سعد زغلول كان يرسل أحد الطلب ليجئ له بمجلة الكشكول يوم صدورها وكان يعجب بصورها الكاريكاتورية , ولا يغضب ولا يثور مما يكتب ضده في تلك المجلة التي كانت تشن أقصي الحملات على الوفد والوافدين.

وأنا رغم وفديتي كان لى في المرحوم إسماعيل صدقي باشا رأي أخالف به الكثيرين فالحق أن صدقي باشا لم يكن محبوبا من الشعب وكان قاسيا في حكمه على الجماهير وكان يصف الشعب المصري بأنه شعب كل حكومة!

وقد كان مخطئا في نظرته استبداديا في معاملته للجماهير لكني كنت أراه سياسيا واقعيا يدير سياسته على أساس من الواقع الذي يعيش فيه كانت سياسته أن الحقوق إذا استحال الحصول عليها كلها فمن الخير أن يحصل عليها جزءا بعد جزء وفي هذه السياسة ما لا يضر إذا ما تتابعت الجهود.

ولعلنا لا ننسي أن صدقي باشا وجهت إليه اتهامات كثيرة عندما عهد بطريق الكورنيش في الإسكندرية لشركة دانتمارو وقد أثبتت الأيام أنها كانت اتهامات باطلة وها هو الكورنيش أجمل ما يزين الإسكندرية في الطرقات التي ثبت نفعها وعادت على الإسكندرية بالخير الكثير ولكن أحدا لا يذكر لصدقي باشا هذه اليد التي قدمها للإسكندرية والباقية ما بقيت الإسكندرية.

كانت الخلافات بين الأحزاب في ذلك الحين على أشدها ولكنها كانت خلافات بين رجال مهما اشتدت الخصومة بينهم في القضايا العامة فقد كانت علاقتهم الخاصة على أحسن ما تكون كانوا يتزاورون ويسمرون بعيدا عن العداء الشخصي الذي نراه منتشرا بين الأحزاب القائمة ورجالاتها وما من شك أن الحزبية في صورتها الحالية نكسة مريرة في عالم الديمقراطية فما من حكومة حزبية ترضي لنفسها الفشل في أى مجال من مجالات الانتخابات.

ولكن هذا حدث في عهد وزارة يحيي باشا إبراهيم فقد سقط والقصر معه وفاز الوفد بأغلبية ساحقة ولو أن العلاقات الشخصية بين قادة الأحزاب وأعضائها أخذت ضعها السليم لرأينا في مصر انتخابات لا يشكك فيها أحد لا الفائز ولا المهزوم ولكن المؤسف أن الحكومات الحزبية لا تتورع عن أى أسلوب وفي يدها سلطان الحكم يصل بها إلى الأغلبية التي تحفظ لها البقاء في الحكم حتى ولو كره الشعب المغلوب على أمره ولن نصل إلى ما نرنو إليه من مكانة كريمة في المجتمع الدولي إذا ما بقينا مصرين على مثل هذه الأساليب.

وخرجت إلى الحياة العملية فقضيت مدة في مكتب أحد المحامين في العتبة الخضراء اسمه " إبراهيم بك زكي وكان قاضيا وأحيل للمعاش فاشتغل بالمحاماة ولعل هذه الخطوة غير المقصود التي بدأت بها حياتي العملية تدل على أني بعيد كل البعد عن فكرة التعصب وأن هذا مسلم وهذا مسيحي.

ما كانت هذه المعاني تخطر لى على بال ولست أدري أى شيطان ألقي بهذه المعاني وأشعلها في حكم السادات فتنة طائفية يعلم الله أنه لا فتنة هنا, ولا طائفية هناك, لكل مصري يدين بديانته دون تدخل ويباشر نشاطه دون عراقيل ويحيا حياته هادئا آمنا مستقرأ ,بعد انتهاء مدة التمرين اتخذت مكتبا لى في شبين القناطر وللحق لم أكن محاميا نابغا نابها .

كما أني لم أكن محاميا مغمورا وكانت لى قضايا في كل محاكم مديرية القليوبية كما كانت لى قضايا ف يكل جهات القطر حسب توفيق الله كانت أقصي قضاياي شمالا محكمة طنطا وأقصاها جنوبا محكمة طهطا آليت على نفسي ألا أخدع موكلا فإذا جائتني قضية مدنية استمعت للمدعي أو المدعي عليه واطلعت على مستندات ووقائع القضية والشهود إذا لزم الأم فإذا ما رجح لدي جانب كسب القضية قبلت لتوكيل فيها ومباشرتها وإذا ترجح جانب عدم الكسب نصحب صاحب القضية بالصلح مع خصمه, وليس معني القبول أن الدعوي مضمون كسبها ... أبد...

ولكن هذا تقديري المبدئي فقد أخسر بعض القضايا التي أقبلها وقد تنجح بعض التي أرفضها, إنما كان الأمر عندي مراعاة الله في الكسب الحلال فلا أقبل إلا ما أقتنه بصحته وقد أكون مخطئا في التقدير ولكني بذلت الجهد في التقصي قبل أن أكبد صاحب الدعوي أتعاب المحاماة ومصاريف الدعوي ...

أما النتائج فلا يعلمها إلا الله . أما في القضايا الجنائية ... فأقرأ الدوسيه الخاص بها .. فاتفق إما على البراءة أو على تخفيف الحكم للأعذار المختلفة .

مرشح عدة قوائم

وهكذا سارت حياتي في المهنة وكانت موفقة بإذن الله .

وأثناء ذلك رشحت نفسي لمجلس النواب كأخ مسلم ولكنني لم أفز رغم تكرار المحاولة ذلك لأني لم أكن خبيرا في الانتخابات ومقالبها وأساليبها الظاهرة والخفية فقد كانت الانتخابات تجري في كثير من ملابساتها على أساليب لا يقرها شرع ولا خلق ..

ففيها الشائعات الكاذبة وفيها الرشاوي والتهديد – وكل ما لم يكن لى به دراية ولا يوجد في تعاليم ديني ما يبيح مثل هذه الأساليب ورغم هذا كله كانت علاقتي بالناس على أحسن ما تكون فقد كان المسؤولون عن الوفد في القليوبية يكتبون اسمي في عضوية الوفد وكان الأحرار الدستوريون يكتبون اسمي في عضوية حزب الأحرار الدستوريين وكنت أسكت على استحياء لعدم قدرتي على رفض ما يطلب مني ما دام لا يخرجني من دائرة الحلال ولا يدخلني في دائرة الحرام.

وقد يسألني سائل لماذا لم يظهر اسمك مع الطلبة الذين كانوا يدخلون في اتحادات الطلاب أو تظهر أسماؤهم في صحف ذلك الزمان ؟

والرد: طبيعي العجيب الذي ينفر من الأضواء ومزاحمة الراغبين ولمتطلعين إلى الشهرة ولو أن ظروفا لا قبل لى في التغلب عليها لما ظهر اسمي في الصحف والمجلات ولما علم احد عني شيئا ولكنها ظروف قاهرة وبيعة خالصة على العمل في سبيل الله .. كائنة ما كانت التبعات والله أعلم بالنوايا وما تخفي الصدور.

وهكذا تري أن البيئة الدينية التي نشأت فيها والرغبة في البعد عن السفاسف والعبث ورعاية الوالد وطريقته في تربية أبنائه .. وحبي لمجالسة ومسايرة من هو أكبر مني سنا وعزوفي الكامل عن الدخول في المناقشات السفسطائية وحياتي واحترامي لمشاعر الناس جميعا كل ذلك كان له أكبر الأثر في التكوين النهائي الذي أنا عليه .

قابلني رئيس الوزراء والمسدس مصوب إلى رأسي!

ثمانية عشر عاما قضاها المجاهد " عمر التلمساني" وراء قضبان السجون والسجن في حياة المجاهدين ليس ترفا يتفاخرون به أمام الأجيال إنما هو تضحية لا يقدر عليها إلا من عرف معني الشرف ومعني الكرامة ومعني الحرية ومعني الإيمان.

ولقد وجد " عمر التلمساني " نفسه منذ فجر شبابه في خضم الحركة الوطنية المصرية " وعاصر زعامتها المختلفة والتقي واحتك وتحور مع العديد منه بدءا بسعد زغلول وانتهاء بحسني مبارك.

كيف بدأ " عمر التلمساني حياته السياسية ؟ وما نوعية الفكر السياسي الذي استخلصه لنفسه وارتضاه مرشدا على طريق الوطنية الصادقة ؟

وهل كان مغامرا يبحث لنفسه عن دور في دهاليز السياسة والزعامات والمجتمع ؟ يجيب " عمر التلمساني" عن كل هذه التساؤلات المطروحة فيقول:

أخذت على نفسي عهدا بألا أسئ إلى إنسان بكلمة نابية حتى ولو كنت معارضا له في سياسته وحتى لو آذاني .

ولذلك لم يحصل بيني وبين إنسان صدام لمسألة شخصية وإنما القضايا العامة أو على وجه الدق الكاملة أن عملي في حقل الدعوة الإسلامية أثار على جمهرة الكثيرين وما كان هذا ليحزنني لأني كنت على ثقة بأن ما أصاب به ليس لإساءات بدرت مني ضد غيري ولكن عملي في سبيل الله هو الذي حمل البعض على الإساءة إلى والنيل مني فكنت أكله إلى الله غير مبال بما يفعل ولا بما يترتب عليه تصرفاته نحوي لقيت من المرحومين إبراهيم عبد الهادي وعبد الناصر الكثير من الظلم فلم أحقد ولم أضمر سوءا.

موسم الاعتقالات

أما " إبراهيم عبد الهادي" فقد اعتقلني عام 1948 في معتقل " الهايكستب" ثم نفاني إلى جبل الطور ولما تعقدت الأمور بين يديه وأحس باهتزاز الكرسي من تحته استدعاني من الطور مع المرحوم الأستاذ البهي الخولي والأستاذ محمد الخضري أطال الله في عمره وكانا معتقلين معي في الطور وذهبنا في حراسة الشرطة إلى مقر رئاسة مجلس الوزراء وأجلسونا في غرفة واسعة أمام مكتب إبراهيم عبد الهادي , ثم نودي علينا فرادي لمقابلته.

ودخل المرحوم الأستاذ البهي أولا, ثم الأستاذ الخضري ثانيا ,أثناء وجود الأستاذ الخضري في غرفة رئيس مجلس الوزراء حضر المرحوم كريم ثابت باشا في خطي مسرعة وكأنما يطارده أحد , ودلف إلى حجرة إبراهيم عبد الهادي ولم يلبث إلا دقائق ثم خرج بالسرعة نفسها التي دخل بها فقد كان الجميع يعيشون في فزع نتيجة لما كانوا يتبعونه في سياسة الحكم من قمع وقسوة...

ولئن كان عبد الناصر أمعن في تلك المظالم فغنه بدأ من حيث انتهي إبراهيم عبد الهادي وبذا كان أستاذا لمن جاء بعده في فنون الإيذاء والتعذيب .

وكانت خاتمة حكم إبراهيم عبد الهادي مؤلمة لذوي الضمائر الحية فقد أقاله الملك ليلة العيد , وجاء في صحف ذلك العهد أن فاروقا جعل إقالته هدية العيد للشعب المكبوت , ويا ليت من جاء بعده أتعظ بهذه الخاتمة المخزية ولكن من يقرأ ومن يسمع ؟!

فجاء دوري فدخلت وعباءتي على كتفي فسلمتك وجلست على الكرسي المقابل لمكتبه لكنه لم يرد السلام ! فعذرته لما كان عليه من اضطراب وقلق ووقف خلفي بمسدسه بين كتفي ضابط كبير اسمه " عمر حسين" ولعله كان رئيس المباحث في ذلك الوقت ..

وحدثتني نفسي بأن أخرج من جيبي علبة السجائر لأدخن سيجارة ولكن في لمح البصر أدركت موقف الضابط الذي يقف خلفي بمسدسه بين كتفي وقدرت أن وضع يدي في جيبي قد يؤدي به إلى الظن بأنني سأخرج سلاحا رغم التفتيش الذي حدث قبل المقابلة فيفرغ رصاصة في رأسي وأموت " فطيسا" في غير معركة وإن كانت الميتة استشهادا حقيقيا.

وبدأ الكلام في الموضوع مباشرة ولكنه لم يخاطبني بلغة " أنور السادات ( يا عمر – يا عمر ) وكان ينقصه أن يقول :" ( يا عمر - يا عمر ) وكان ينقصه أن يقول : نعم يا سي عمر".

بدء كلامه

إني سائلك ثلاثة أسئلة يا أستاذ عمر , فإن أجبت أطلق سراحك وسراح الإخوان معك وإلا فذنب المعتقلين جميعا في رقابكم باعتبار كم أعضاء مكتب الإرشاد.

  1. أين مخازن الأسلحة ؟
  2. أين تقع محطة الإرسال التي تستخدمونها ؟
  3. من هم قادة النظام الخاص ؟

وكان ردي الصادق أنني لا أعلم شيئا عن كل ما سألتني عنه وعدنا إلى معتقل الهايكستب ولم نعد إلى الطور.

اغتيال حسن البنا

وفي استطراد بسيط يري القارئ موقف الإخوان من ذلك العهد وأننا كنا موضع نقمته ومطاردته لأننا كنا نفتح أذهان الشباب على الفساد والتفريط في حقوق البلاد في الوقت الذي لم يكن أحد يسمع شيئا عما يسمونه " تشكيل الضباط الأحرار " ثم يتهمنا عبد الناصر وأعوانه بأننا أعداء الانقلاب " الثورة وعملاء من اغتال إمامنا الشهيد " حسن البنا" وأقام الأفراح وسقي الشربات ابتهاجا بقتل الإمام الشهيد.

ومن الذي يتهمنا؟ الانقلاب ورجاله وكتابه ولا تزال هذه النغمة تتردد في كتابات كل من يريد تزلفا للحكام. كنا نحن الإخوان المسلمين " ننتقد " فاروق " ونهاجم تصرفاته وكان هؤلاء الكتاب الشرفاء الشجعان المغاوير يدبجون المقالات في مديح الفاروق العلم الأول .. والعامل الأول .. والمهندس الأول .. الأول ... الأول !! في غير ما تحرج ولا حياة حتى إذا ا جاء الانقلاب تحولت كل تلك الأقلام الجريئة الطاهرة إلى أنياب دامية تنهش فاروقها الأول .

ثم إذا ما قام الخلاف بين عبد الناصر والإخوان تحولت تلك الأضرس الطاحنة إلى سمعة وإيمان الإخوان تمزقها وتعلو بها إلى عنان السماء وهي تتركه معلقا في الهواء حتى إذا ما مات ..

كانت أول من لطخ عهده بأشنع الشناعات وهي الأقلام المادحة بالأمس القريب نفسه ثم وجدت لها ترانيم في حكم السادات تشيد به وتتغني ببطولاته في الوقت الذي تعرض الإخوان خلاله لأقصي المعاملات وكم كان حريا بالسادات أن يعتبر فيستبعد تلك الأقلام التي لا تجيد إلا مدح الحاكم ومهاجمة خصومه لكنه لم يعتبر وانتهي به الأمر إلى ما انتهي إليه فإذا بتلك الأقلام تقول فيه ما قال " الخطيئة في نفسه وفي الناس .

وجاء الانقلاب ثورة 23 يوليو أو التغير فوجد الجو مهيأ وتم كل شئ في غير ما جلبة ولا ضوضاء واستقبل الشعب جنوده وضباطه بالفرح والترحاب وليس في الأمر ما يعدو إقالة وزارة وإقامة أخري .

وبدأ عبد الناصر حكمه بإطلاق سراح كل المسجونين من الإخوان ومصر الفتاة واستبشر الشعب خيار وعرف الناس أن ما تم كان باتفاق بين الإخوان والضباط الأحرار وأن الإخوان سيعودون بالوطن والمواطنين إلى سالف مجد المسلمين لأنهم لا يقولون إلا ما يفعلونه وأنهم ليسوا أصحاب الوعود البراقة الخلابة التي يسمع لها جعجعة ولا يري لها طحن.

ومن قبل هذا توالت الأحداث السياسية في حياتي فقد كنت متابعا لقراءة المقطم يوميا حيث أخبار الحرب العالمية الأولي واكتساح الجيوش الألمانية لجيوش الحلفاء اكتساحا وكنت معجبا بهند بروج القائد الألماني المشهور وقدرته الفائقة في أسر مليون عسكري روسي في موقعة البحيرات وكنت متعاطفا مع ألمانيا لموقف الانجليز من وطني وأعمال السلطة ..

وكانت هناك تعبيرات صحفية لبعض الدول التي لم تدخل الحرب مثل تعبير الوقوف على الحياد المسلح مع الميل للحلفاء وكنا نستعمل التعبير في كثير من مزاحنا مع بعضنا البعض .

كنت أقرأ معظم الصحف التي تصدر في مصر الأهرام والسياسة والجهاد ومجلات المصور واللطائف والسياسية الأسبوعية والجهاد الأسبوعي والتجارة أقرأ كل ما فيها من الجلدة إلى الجلدة بلا ملل طوال فترة دراستي الثانوية عندما كان البال خاليا والقلب رائقا كنت أقرأ لمجرد القراءة أحب مشاهدة مباريات كرة القدم وإن لم أمارسها.

أستمع أكثر مما أتكلم ولو استطعت ألا أتكلم لفعلت كانت دراستي الثانوية والجامعية حافلة بالأحداث التاريخية فقد عاصرت كل التغييرات الوزارية في ذلك العهد .

وتعاقب رؤساء الوزارات وكان رئيس الوزراء يسمي " ناظر النظار " ... رأيت سعد زغلول وإسماعيل صدقي ومحمد محمود " اصحاب القبضة الحديدية وتوفيق نسيم" ويوسف وهبة ومحمد سعيد وأحمد زيور وتابعت مواقف عبد الحميد عبد الحق وسليمان غنام في مجلس نواب لم يكن فيه وفديون سواهما وموقف الأستاذ الجندي في مجلس الشيوخ الذي لم يكن فيه وفدي سواه .

وشاهدت الملك فؤاد يستفتي بلجيكا في مسألة تعيين الشيوخ المعينين والخلاف عليها بين سعد زغلول والملك فؤاد وكنت من بين المتظاهرين حول قصر عابدين وعندما سمع البلجيكي هدير المظاهرات فتح النافذة وقال لفؤاد لا داعي لأن تستفتيني فقد أبدي الشعب أيه .. وكانت الجماهير تهتف : " سعد أو الثورة"

التخرج في كلية الحقوق

كل هذه الأحداث التي كنت أعيشها فكريا وعاطفيا ما كانت تقعدني عن مواصلة دروسي حتى تخرجت في كلية الحقوق وكان عدد الناجحين في تلك السنة 1931 حوالي سبعمائة طالب وأذكر أن أعلي درجات كنت أحصل عليها كانت في الشريعة وأذك أن الذي امتحنني شفويا في سنة التخرج هما الأستاذان أحمد زيد بك وأحمد إبراهيم بك. ووجها إلى سؤالين عن المواريث على " التختة" فأجبت فاكتفيا ولكن طلبت سؤال ثالثا .

وكنت أعلم أن في هذا إرضاء لأستاذ الجليل أحمد بك إبراهيم وكان عجبا أن يطلب طالب الاستزادة في الأسئلة ولكن هذا الوضع كان مقصورا على علوم الشريعة فقط أما المواد الأخرى فكنت ( يا دوب أنفد فيها بجلدي)

ومن اللطائف التي أذكرها أن حسن باشا صادق الشيشيني كان يدرس لنما مادة الاقتصاد السياسي وكان بيت شيكوريل في ذلك العهد تطل بعض حجراته على الغرفة التي كانت نصيب الاقتصاد السياسي وفي احدي الحصص أي الأستاذ أن كل الطلبة كانوا منشغلين بالتطلع إلى بيت شيكوريل فنظر بدوره فرأي فتاتين في النافذة فخجلوا جميعا وقال الأستاذ : كفاية نستأنف دروسنا .

كان أساتذتنا في الدراسة الدكاترة عبد الحميد أبو هيف وأحمد أمين العشماوي والشيشيني والخيال وعبد المتعال ووحيد رأفت وأحمد إبراهيم وكامل مرسي والسنهوري وجنينة ومحمد صادق فهمي وغيرهم ممن غابت عني أسماؤهم.

وكانت كلية الحقوق على أيامنا زعيمه كليات الجامعة ترأس الاجتماعات الطلابية وتقود المظاهرات كانت عماد الحركة الوطنية في الأوساط الطلابية وكان الوزراء في ذلك العهد كلهم حقوقيون إلا النادر منهم ولذلك كان التخاطب بين طلاب كلية الحقوق بمجرد الالتحاق بها بـ " إكسلانس".

وكان الطالب يفخر بأنه من طلبة الحقوق ولعلك تعجب إذا علمت أن صداقات عميقة كانت تقوم بين بعض الوزراء على مختلف الاتجاهات وأن كثيرا من الصحفيين المعارضين كانوا على صلات طيبة مع الوزراء الذين يعارضون وكانت جلسات الوزير عبد الحميد عبد الحق مع كتاب الصحف الوفديين والمعارضة غاية في اللطف والأنس والانبساط وكانت لهجته الصعيدية تضفي كثيرا من الطرافة على حديثه معهم واختلف معهم على معني كلمة فسأله لديكم عجول " يريد عقول ؟

فقالوا : ومن يؤيدك في هذا المعني الذي تذهب إليه " قال : الجاموس " يريد الجاموس" ولم نر في حياتنا هذه المرارة في الخصومة الحزبية وخاصة بين كتاب ورؤساء التحرير.

وتمضي أيام الشباب هادئة ولعل السبب كما قلت أنني تزوجت مبكرا وكانت الخيرة فيما اختاره الله قد ساعدني ذلك على كثرة القراءة خاصة وأن مكاتب المحامين في المحاكم الجزئية ما كانت تفتح ليلا بل يكفيني بالعمل فيها من الساعة الثامنة صباحا إلى الثانية بعد الظهر تقريبا وقد ولعت بلعبة الشطرنج لكن عدم إقامتي في شبين القناطر سكنا وانتقالي إلى القاهرة شغلني عن هذه لهواية حتى كدت أنساها.

أناقة شباب الإخوان

وفي هذه الفترة قرأت من أمهات الكتب ما لا يتوفر لمثل من كان في ظروفي فهي كتب العلم الإسلامي حقا وهي المنبع الذي يجب أن يغترف منه كل من يريد أن يكون على بصيرة من دينه ودنياه وهي التي أعانتني على ما كل ما يريد أن يكون على بصرة من دينه ودنياه وهي التي أعانتني على ما أنا بصدده الآن وإذا كان الله يحب أن يري أثر نعمته على عبده فقد كنت أعني بظهور هذه النعمة على إذ كان المكتب يدر من الرزق ما يكفي ويفيض لقد كان الانسجام كاملا بين لونه البذلة والقميص والكرافت والمنديل والجورب والحذاء .

ليعلم الناس أ، المسلم يجب أن يكون حسن المظهر طيب الوجاهة في كل حلال وبعيد عن الحرام لم أكن وشباب الإخوان متعصبين كنا كما قالوا رهبان الليلة وفرسان النهار ..

رهبان الليل تعبدا وحسن صلة بالله سبحانه وتعالي وفرسان شجاعة وإقداما ووجاهة وحرصا على كل ما ينفع المسلم ويضعه وضعه الصحيح في المجتمعات التي يقيم فيها كنت أخطب الجمعة حيثما حللت إن هذه الدنيا لم تخلق لغي المسلمين فكنت أخذ نصيبي منها مأكلا وملبسا ومشربا ومسكنا وخادما ومركبا ..

لا أحرم نفسي من شئ أحله الله أبدأ ( ولا تنس نصيبك من الدنيا ) القصص : 77) كان معاوية بن أبي سفيان وجيها في كل شئ وحدثه عمر بن الخطاب في هذا فقال له معاوية إننا نجاور أمما للمظهر في التعامل معها تأثير كبير ومع كل فإن أمرتني بالإقلاع أقلعت فقال له أمير المؤمنين التقي الواعي لا أمرك ولا أنهاك"

ومما أعانني على السعادة في شبابي أنني كنت بحبوحا " أحب النكتة البريئة والقفشة الرقيقة متسامحا مع كل من أساء إلى بالقول والعمل واتركه إلى الله وما كنت أحب إحراج محدثي ولم أكن حريصا على أن أحاصر محدثي وأقنعه أن الحق إلى جانبي إذا ما ألفيته متعصبا لرأيه ووجدت الكلام قد دخل في باب اللجاجة الذي لا خير فيه ومن طبعي الذي فطرت عليه أنني أسمع أكثر مما أتكلم.

يتحدث الناس في مطلع شبابهن عن طموحهم وقد يقترفون في سبيل الوصول إلى ذلك الطموح وتحقيق الأحلام ما يتنافي كثيرا مع موازين القيم والشرع ولذلك ما كانت هذه الناحية تحظي من تفكيري بشئ كنت أقرأ لأعرف من علوم الشريعة ما يعنيني على تصحيح عبادتي وكنت أتعامل في مهمتي بأمانة ليكون دخلي من المهنة خلال كنت متسامحا لأني لا أحب أن أكون بيني وبين أحد قطيعة.

رشحت نفسي مرتين لمجلس النواب ولم أنجح لأصدع بكلمة الحق والدعوة الإسلامية في أعلي هيئة تشريعية في البلاد . أما أن أكون فقيها أو عالما أو وزيرا فما كان شئ من ذلك يشغل بالي على الإطلاق.

ولعل ذكرت فيما سبق أنه قد عرض على العمل في النيابة عام 1936م فرفضت كما عرض على العمل في القضاء فأبيت لا استعلاء ولا جحودا بفضلها ولكنه غرامي بالحرية وعدم رغبتي في أى قيد من قيود الوظيفة ...

كنت أحترم الناس ولا أخشاهم وأحب أن أتعامل على قدم المساواة مع كل المستويات بلا حرج ووجدت كل ذلك في مهنة المحاماة لأنها المهنة التي تفتح أمام الإنسان الكثير مما لا يتوفر للأطباء أو المهندسين أو غيرهم فهو يعف الكثير عن المهن الأخرى بطبيعة عمله واطلاعه على التقارير التي تقدم لمحاكم إذا انتدبتهم لأمر يدخل في اختصاص كل منهم.

فيعرف المحامي كيف عولج المريض وما نوع الأدوية التي كتبها له الطبيب ووجه الخطأ والصواب في كل هذا ويعرف كيف بني البيت أو العمارة وما نوعية المواد التي استخدمت في هذا البناء وموافقة التصميم الهندسي للقواعد المقرة في البناء وغير ذلك من أمور الهندسة على أنواعها مدنية أو مكانيكية أو كهربية أو غر ذلك كما يحيط من تقارير المهندسين الزراعيين بالكثير من الشئون الزراعية وكل هذا يتوفر للمحامي ولا يتوفر لغيره من الجامعيين الآخرين .

زد على ذلك أنها مهنة الدفاع عن الحق ونصرة المظلوم وأنها المهنة الرقيقة فليس فيها المباضع والمقصات والجراحة وليس فيها التردد على البنائين ومراقبتهم المستمرة أثناء عملهم وليس فيها الجري في الحقول والمراقبة المستمرة في الفصول الزراعية المختلفة .

هي مهنة العقل الراجح في إقامة الدليل والبرهان والكشف عن أمور إن لم تظهر فقد يكون فيها تدمير لأسر بأكملها .

كان طموحي يأتيني من خلال قراءاتي فكلما قرأت ازددت علما بأمور كثيرة يجهلها الكثير من الزملاء كان طموحي أن أكون محاميا نظيفا مهيأ للفوز بعز الدنيا وسعادة الآخرة وما عرفت القسوة يوما سبيلها إلى خلقي ولا الحرص في الانتصار على أحد ولذلك كنت لا أري لى خصوما اللهم إلا إذا كان ذلك في الدفاع عن حق أو الدعوة إلى العمل بكتاب الله على أن الخصومة من جانبهم لا من جانبي أنا .

لقد بدأت رجولتي الحقة بدءا فعليا منذ أن سرت في ركب دعوة الإخوان المسلمين .. يوم أن عرفت أن ديني يطالبني بالعمل على نشره ونصرته مهما لاقيت من متاعب وصعاب يوم أن عرفت أن القرآن ليس بركة فحسب يوضع في الجيوب أ يعلق في الحجرات أو يوضع في السيارات إنه كل هذا وأكبر من هذا .

إنه عقيدة وسياسة واقتصاد واجتماع وأخلاق وحرب وسلم وبيع وشراء وزراعة وتجارة وطب وكل شئ يمكن أن يزاوله الإنسان في الحياة الدنيا ضمانا للسعادة في الدار الآخرة إنه النظام الشامل الذي سعدت به الأمة الإسلامية ما تمسكت بيمينه سعدت الأمة الإسلامية بالعزة والحية والكرامة وكانت الدنيا بأسرها تصفي واعية لكل كلمة تخرج من فم أمير المؤمنين فلما انصرفت الشعوب الإسلامية عن تعاليم دينها وهان عليها أمر الخلافة الإسلامية وفقدت المتعة الروحية بلقب أمير المؤمنين لما انغمرت ما وصلنا إليه حتى أصبح يقضي في أمورنا من وراء أقفيتنا .

ويقضي الأمر حين تغيب تيم
ولا يستأذنون وهم شهود

ولن نستعيد ماضينا إلا إذا عدنا إلى تعاليم كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وإجماع فقهاء المسلمين وهذا ما وجدته في دعوة الإخوان المسلمين.

قصة انضمامي للإخوان

كانت صلتي بالإخوان المسلمين وعلاقتي بالإمام الشهيد قصة طريفة دلت بدايتها على منتهاها.

أول ما اتخذت لى مكتبا في شبين القناطر كنت أقيم في عزبة التلمساني وهي على بعد أحد عشر كيلو مترا من شبين القناطر والانتقال بينهما بالقطار والأتوبيس .

كنت أهوي تربية الدواجن من دجاج إلى حمام إلى أرانب وكان أمام السلاملك الذي أعيش فيه حديقة زهور تقرب من القيراط مساحة ومن خلفها الحوش الذي أربي فيه هذه الدواجن .

وفي يوم جمعة من أوائل العام 1933... كنت أجلس في حديقة الزهور فجاءني خفير العزبة يقول:

" فيه اتنين أفندية عايزين يقابلوك فصرفت حرمي وأولادي وأذنت لهما بالمجئ .. وجاء شابان أحدهما عزت محمد حسن وكان معاون سلخانة بشبين القناطر والآخر محمد عبد العال وكان ناظر محطة قطار الدلتا في محاجز أبي زعبل ومضت فترة في الترحيب وشرب القهوة والشاي ومرت فترة صمت قطعها معاون السلخانة قائلا:

ماذا تفعل هنا؟ فأثارني السؤال واعتبرته تدخلا فيما لا يعنيه فقلت ساخرا : أربي كتاكيت!

ولم تؤثر إجابتي الساخرة على أعصابه بل ظل كما هو موجها أسئلته قال : هناك شئ أهم من الكتاكيت في حاجة إلى التربية من أمثالك وقلت ومازلت غير جاد في الإجابة وما ذلك الشئ الذي هو في حاجة إلى تربيتي ؟

قال : المسلمون الذين بعدوا عن دينهم فتدهور سلطانهم حتى في بلادهم وأصبحوا لا شئ وسط الأمم . قلت وما شأني بذلك ؟ هناك الحكومات والأزهر الشريف بعلمائه يتولون هذه المهمة.

قال : إن الشعوب الإسلامية لا تكاد يحس بوجودها هل يرضيك أن تدعي هيئة كبار العلماء ليلة القدر من كل رمضان للإفطار إلى مائدة المندوب السامي البريطاني وإلى جانب كل شيخ سيدة إنجليزية في أبهي زينتها ؟

قلت : طبعا لا يرضيني ولكن ماذا أفعل ؟

قال : إنك لست اليوم بمفردك فهناك في القاهرة هيئة إسلامية شاملا اسمها جماعة الإخوان المسلمين ويرأسها مدرس ابتدائي اسمه " حسن البنا" وسوف نحدد لك موعدا لتقابله وتتعرف إلى ما يدعو إليه ويريد تحقيقه وشبت العاطفة الدينية الكامنة في دخيلة نفسي فملت إلى الرضا ووافقت على مقابلة الرجل , وانصرفا بغير ما استقبلا به .

وعلمت منهما قبل أن ينصرفا أنهما يؤديان مهمة في كل يوم جمعة بعد صلاة الفجر يجوبان القرى والعزب التابعة لمركز شبين القناطر يبحثان عن رجل يصلي ويصوم ويؤدي فرائضه فيتعرفان إليه ويعرضان الدعوة فإن قبل اعتبراه نواة لشعبه في موقعه وكان في كل مركز من مراكز القطر من يقوم بمثل مهمتهما من الإخوان المسلمين

وبعد أيام حضرا إلى في مكتبي واخبراني بأنهما حدّدا لى موعدا مع فضيلة المرشد العام وكان يسكن في حارة عبد الله بك في شارع اليكنية في حي الخيامية وفي الموعد المحدد طرقت باب الرجل .

" أخرج محفظته الجلدية وامتدت أصابعه في ثنياتها , لتخرج ممسكة بوريقة صفراء بالية عليها نصف جملة كتبها " حسن البنا" بخط يده يحتفظ بها وكأنها تميمة بجوار قلبه وارتعش الكلام في شفتيه وهو يقول : هذا الأثر الوحيد الذي أفلت من ( أيديهم ) لخط يد الإمام الشهيد عندي ".

نصف جملة على وريقة صفراء يحملها الرجل ابن الثمانين وكأنه عاشق يتفاني في الحرص على الخطاب الوحيد لمحبوبة رحلت وتركته مشبوب في صبابته..

يقول " عمر التلمساني " وهو يبسط الوريقة على راحته كنا في اجتماع بأحد البلاد وامتد بنا السهر حتى ساعة متأخرة من الليل فكتبت له ورقة استأذنه في الانصراف حتى لا أتأخر أكثر من ذلك على الناس الذين أنزل ضيفا عليهم .. فكتب له بخط يده على الورقة ومن أدراك أن اجتماعنا سنفض قبل أن يستيقظ هؤلاء الناس من نومهم . وبليت الورقة فضاع مني النصف الأخير من الجملة!

" كيف التقي الرجلان فدخل كل منها قلب الآخر ؟

وكيف تمت البيعة واستمرت المسيرة جهادا وإخلاصا وتضحية ؟ ولماذا أنشئ التنظيم السري للإخوان المسلمين ؟

يتعرض الأستاذ " عمر التلمساني" المرشد العام للإخوان المسلمين – لذكريات لقائه الأول بسلفه " حسن البنا في بيته المتواضع في الخيامية في القاهرة الفاطمية فيقول :

فتحت سقاطة الباب ودفعته ودخلت إلى حوش المنزل وصفقت فد على صوت رجل يقول : من ؟ قلت : عمر التلمساني المحامي من شبين القناطر فنزل الرجل وفتح باب غرفة على يمين الداخل من الباب الخارجي ودخلتها من ورائه وكانت مظلمة لم أتبين ما فيها ولما فتح النافذة الوحيدة في الحجرة المطلة على الطريق تبينت أن في الغرفة مكتبا صغيرا غاية في التواضع وبعض الكراسي من القش يعلوها شئ من التراب ..

وجلس إلى المكتب وقدم لي كرسيا لأجلس . وعز علىّ أن أجلس على مثل ذلك الكرسي بالبدلة الأنيقة فأخرجت منديلا من جيبي فرشته على الكرسي لكي أستطيع الجلوس هادئا في غير تضجر ولا قلق , وكان ينظر إلى ما أفعل وعلى فمه ابتسامة واهنة ظننتها تتعجب مما أفعل ومما أدعي إليه وشتان ما بين رجل يحافظ على أناقته , ورجل على وشك أن يدعي للعمل والجهاد في سبيل الله وحق له أن يتعجب إذ أن مظهري كان يدل على الرفاهية التامة وعدم تحمل مشاق العمل في سبيل الله , الأمر الذي يحتاج إلى الكثير من خشونة العيش مع عدم الانغماس في بلهنية الحياة وشئ من التجرد ..

ورغم هذا المظهر الذي لا يطمئن كثيرا فقد مضي الرجل يتحدث عن الدعوة وأن أول مطلب لها وآخره هو المطالبة بتطبيق شرع الله وتوعية الشعب وتنبيهه إلى هذه الحقيقة التي لن يتحقق الخير إلا عن طريقها ومن عجب أن يفتري بعض الناس على الإخوان بناءهم رسالتهم بالأمور الدينية فلما اشتغلوا بالسياسة بدأ الصدام بالأوضاع القائمة فأمعن خصوم الإخوان وقسوا في حرب الإخوان الذين لم يقصدوا بأحد شرا أو إساءة لأن الإخوان يؤمنون بأن التحول عن القانونين الوضعية إلى القوانين الإسلامية لابد يأخذ طريقه المشروع دون عنف أو إرهاب .

بداية العمل السري

أما النظام السري كما يسمونه وقد سبق الحديث عنه فلم يقم لقلب نظام الحكم بالقوة أو قتل الوزراء ولكن الإمام كان قد رأي بثاقب نظره وحسن بصيرته أن من العار على كل مسلم في أية بقعة من بقاع العالم أن تقوم دولة لإسرائيل على أرض إسلامية دون أن تجد من يقاومها ويدفع هذا الخزي عن المسلمين.

كما رأي أن من المحتوم على المسلمين أن يعدوا شبابا يقوم بإخراج الانجليز من مصر باعتبارها منارة العالم الإسلامي كله لهذا أقام هذا التشكيل المسمي بالنظام لدفع الأخطار التي تحيط بمصر وللأسف الشديد والحزن المرير أن الصليبية والشيوعية والصهيونية أدركت حقيقة هذا التشكيل وخطره عليها.

فتسللت إلى أذهان أحكام البلاد الإسلامية بأساليبها الخسيسة الخبيثة توسوس لهم هذا التشكيل خطير عليهم وأنه سيحد من سلطانهم إن لم يذهب به وصدق الحكام هذه الدسائس فكانا البادئين بالتنكيل بالإخوان المسلمين وأعداء الإسلام يمدونهم بالتقارير المزيفة المختلفة ليزيدوا النار اشتعالا.

وقد ساعد على ذلك بعض الأخطاء التي وقع فيها بعض الشباب من أعضاء النظام مثل قتل المستشار الخازندار فقد أساء بعض الشباب لفهم في تصرف قانوني سليم ولكن لجهلهم بالقانون اقترفوا جريمتهم دون وعي الأمر الذي أزعج المرشد كثيرا وأحزنه وأوقعه في الحرج.

وحقيقة هذا الحاد أن بعض الشباب المسلم كان يتعقب ضباط الجيش الانجليزي للتخلص منهم سعيا وراء تحرير بلدهم المسلم من حكم صليبي وقبض على بعض هؤلاء الشباب وحكم عليهم من المستشار الخازندار – رحمه الله – بعشر سنوات .

في تلك الأيام نفسها عثر على شابين مقتولين في حديقة " انطونيادس" في الإسكندرية ولم يعثر للفاعل على أثر فتقيد الحادث ضد مجهول ثم وجد ثالث بين الحياة والموت وأمكن إغاثته فشفي وقال إن مقاولا ثريا صحبه إلى تلك الحديقة بعد منتصف الليل وقضينا وقتا معا ثم شرع في قتله ولم يتركه إلا بعد أن ظن أنه فارق الحياة .

فقبض على هذا المقاول – الذي كان يدعي فتاوي وحوكم ولم يثبت عليه ارتكاب الجريمة الأولي لعدم ثبوت الأدلة وتثبت قضية الشروع في قتل الشاب الثالث ويحكم على فتاوى بالحبس ثمانية أعوام بالأشغال الشاقة وقد قارن الشاب المسلم بين الحكمين وبين الهدف منهما فظن مخطئوا الظنون بالسيد المستشار وأقدموا على قتله دون علم من قيادة الإخوان بما جري وقد فوجئت به القيادة الإخوانية كما فوجئ به الناس في الصحف .

وقد جعل أعداء الدعوة هذا الحادث وسيلة للإيقاع بجماعة الإخوان كلها وأثاروا على الإخوان حربا شعواء .

وأفاض فضيلة الإمام الشهيد " حسن البنا" – في لقائنا الأول – في أهداف لدعوة ووسائلها المشروعة وكان يتكلم في صدق المخلصين وأسي المحزونين على ما يصيب المسلمين في كل أنحاء الأرض والطعنة التي أصابت المسلمين بالقضاء على الخلافة وأنه إذا كان بعض الخلفاء قد أساؤوا أو انحرفوا فليس معني ذلك أن الخلافة هي التي أساءت أو انحرفت وهذا الأمر لا يجهله إنسان منصف فالنظرية شئ والتطبيق شئ آخر.

ولو كان الأمر على ما يصوره المغرضون لكان الإسلام أسوا دين في العالم لما عليه المسلمون الآن من تفريط المسلمين وقد قال أحد الذين أسلموا إنني لو رأيت المسلمين قبل أن أقرأ ما قرأت عن عظمة الإسلام لما أقدمت على الإسلام.

وتمت البيعة

لما أنهي حديثه الذي لم أقاطعه فيه مرة سألني هل اقتنعت ؟ وقبل أن أجيب قال في حزم :" لا تجب الآن" وأمامك أسبوع تراود نفسك فيه فإني لا أدعوك لنزهة ولكني أعرضك لمشقات فإن شرح الله صدرك فتعال في الأسبوع القادم للبيعة وإن تحرجت فيكفيني منك أن تكون صديقا للإخوان المسلمين.

وما كان لمن جلس هذه الجلسة وسمع ما سمعت أن يتواني عن البيعة لحظة وعدت في الموعد وبايعت وتوكلت على الله وإنها لأكبر سعادة لاقيتها في حياتي أن أكون من الإخوان المسلمين منذ أكر من نصف قرن وأن ألقي في سبيلها ما لقيت مما أحتسبه عند الله وأن يكون خالصا لوجه الله تعالي .

وكم أتمني أن يعي الشباب المسلم هذا الدرس من هذا الشيخ الذي على أبواب عبور الثمانين من عمره ليكون لهم درسا في الصبر والاحتمال والرضا بما قدر الله وعدم التبرم بقضائه وقدره وأن يعيننى الله حتى ألقاه وأنا جندي في هذه الساحة الطاهرة البريئة وما زال الأمل في وجه الله يحدوني والأمل في صدق موعوده يملأ كل جوانحي حتى لكأني أراه بعيني أو أمسكه بيدي لأن الله جعل العاقبة للمتقين أسأله أن يجعلني والإخوان المسلمين جميعا من المتقين المستحقين والمؤهلين لنصرة ومعونته .

رفضت أن أكون وكيلا

أذكر أنني بعد مضي سنوات عض على الإمام الشهيد أن أكون وكيلا لجماعة الإخوان المسلمين فلم أقبل مقسما له بأني لست أهلا لهذا المكان ولا أستطيع أن أملأ فراغه .... وحرام علىّ أن أخدع الإمام بقبول تلك المكانة في الإخوان المسلمين.

كما عرض علىّ فضيلته أن أتخذ مكتبا في القاهرة فلم أقبل كذلك مبررا رفضي بأني قد أنجح في المكتب ويدر على دخلا وفيرا فيقول البعض إن الإخوان هم الذين أوجدوا لى كيانا في عالم المهنة وهذا ما تأباه على أخلاقي ونشأتي وتربيتي إذ لا أرضي أن يكون لمخلوق علىّ فضل في هذه الحياة الدنيا أما فضل الله أولا ... ثم فضل المرشد ثانيا .. فالله يجزيهم عني فيه أفضل الجزاء.

هذه قصة اتصالي بالإمام الشهيد " حسن البنا" والإخوان المسلمين.. لم يعدنا إمامنا فيها بالدنيا وإقبالها والورود وازدهارها والأزاهير ونعومتها ولكنه أوضح أن طريق الدعوة ملء بالأشواك والمتاعب والصعاب فمن يقبل عن بصيرة ولا يلومن أحد فلم يخدعه أحد بالمرة .

وهكذا لما قبلوا راضين ألف الله بين قلوبهم أجمعين حتى تعجب الناس جميعا من قوة الروابط التي تربط بين قلوب الإخوان جميعا حتى قال قائلهم:

لو عطس أحد الإخوان في الإسكندرية لشمته الذين في أسوان وأقول لو تمني أحد الإخوان في أوروبا أمنية لحققها له أخ في كندا ما دام الأمر لم لم يكن فيه ما يغضب الله ... الله الذي التقي الإخوان عليه يتحابون فيه ويتباغضون .. ولا دخل للإمام الشهيد ولا لخليفته – الأستاذ الهضيبي في هذه المعاني .

إننا لم نلتق على " البنا" أو " الهضيبي" إنما التقينا على الله ولم نبايع حسن البنا أو حسن الهضيبي لكننا بايعنا الله حتى الذين بايعوا سيدنا محمد نبي هذه الأمة وأحب خلق الله إليه وكلا من وضع يده في يده إنما كان يبايع الله جلا وعلا بدليل قوله تعالي ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ) ( الفتح:10) وما دمنا كمسلمين نؤمن بكل آية في كتابه الكريم..

فليكف الذين يزعمون أن الإخوان يقدسون " حسن البنا" إننا لم نقدس أحد : لأن الله هو الملك القدوس ولكننا أحببنا " حسن البنا " وخليفته حبا ملك علينا كل جوانحنا لأنهما هما اللذان فتحا أعيننا على هذا النور وقادنا إلى هذه العقيدة في دقة وتوضيح .. فكيف لا نحبهما لله وفي الله في غير ما تقديس أو ما يشبه التقديس ؟

هكذا عرفت المرشد الأول وهكذا عشت معه مريدا أو تلميذا أو متلقيا ومحبا وإن كان ما بي للإخوان من نعمة فمن الله حقا وصدقا إلا أن الإمام هو الذي أخذ بأيدينا إلى تلك القمة وأجلسنا إلى المائدة في وقت كان فيه المسلمون أضيع من الأيتام على موائد اللثام ولئن فات هذا الفضل من كان يجب أن يكون أهله ودعاته إلا أن ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ( الأنعام : 124) ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) ( الجمعة : 4)

وزير مالية الإخوان

لقد ربانا الإمام الشهيد على الزهد في الدنيا وعدم التعلق بزخرفها ومغرياتها لأن ما عند الله خيرا وأبقي لذلك لم يكن لدي الإخوان من لموارد المالية إلا ما يجود به هم أنفسهم كل على قدر طاقته وكنت أعلم أن المساهمة في هذه تبدأ من القروش الخمسة إلى الجنيهات الخمسة شهريا "

اللهم إلا من بسط له في الرزق فزاد على ذلك بما يوفقه الله إليه.

وظللت فترة وزير مالية الإخوان " وما كان أسعدني في يوم أن أجد في هذه الخزانة مائة وخمسين قرشا فقد كنت وقتها أري أننا من الأثرياء إذ أن هذا المبلغ هو الفائض عن كل حاجات الخير.

وفقر بغير دين هو الغني الكامل كذلك ما كنت أسمح لأحد باستعمال التليفون إلا إذا دفع ( ثلاثة تعريفة)

وكان الداعية إذا ذهب إلى لقاء إخواني ليتحدث في الدعوة أعطيه ( ثلاثة تعريفة) .. منها ستة مليمات للذهاب ومثلها للعودة وثلاثة مليمات يشتري بها ما يروقه من الترمس والفول السوداني واللب الأسمر والأبيض كنا حينذاك أسعد أهل الأرض حبا ومودة وضاء لا يشغلنا إلا دفع الدعوة للأمام وكان عملي في دار الإخوان يبدأ من بعد صلاة العصر إلى ما بعد صلاة العشاء وبدون مقابل طبعا .

وبهذه المناسبة فالكثير من الناس يظنون أن المال هو كل شئ وإن كنت لا أنكر أن في هذا القول الكثير من الحق خاصة بعد أن قرأت لرسول الله صلي الله عليه وسلم ( نعم المال الصالح في يد الرجل الصالح) وقوله ( لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس ) ولكنني أعلم في الوقت نفسه أن الرجل هو الذي يأتي بالمال وليس المال هو الذي يأتي بالرجال .

وإذا ضاع المال فمن المحتمل أن يستعيد الرجل مركزه المالي ولكن إذا ضاع الرجل فمن الذي يأتي بالمال ولذلك أمرنا أن نطلب قضاء الحاجات بعزة الأنفس إذ استساغ بعض الناس أن يأخذوا أى مال مقابل أى عمل حتى ولو كان هذا العمل مما لا يجوز في عف النفوس المؤمنة الكريمة أن يؤخذ عليه مقابل ما دام العامل في غني عن هذا المقابل .

إذا استساغ بعض الناس هذا تخفيفا لدفع المؤاخذة عز نفسه فقد يظن أن كل الناس على غرارة.

ولكن الله حمي الإخوان من الوقوع في هذا الحرج ضنا بدعوته أن تكون موضع المساومة وإني هنا أتحدث عن نفسي وإن كنت أعتقد في الوقت نفسه أن الإخوان على هذا المستوي الرفيع مستوي الدعوة إلى الله ابتغاء وجهه.

السادات حاول رشوتي !

قابلت أحد رؤساء الوزارات المصرية – ولا يزال حيا – لعمل خاص بالإخوان في زمن السادات وبعد تبادلنا الحديث إذا به يعرج على الناحية المالية ويفاجئني قائلا بأن الدولة تدعم كل الصحف والمجلات المصرية ومجلة الدعوة كمجلة إسلامية أحق المجلات بهذا الدعم وأدركت ما يهدف إليه الرجل فتملكت أعصابي وأجبته في لغة عامية دراجة ( يا شيخ ... سايق عليك النبي ما تكلمنيش في هذه الناحية ) وانتهت المقابلة وانصرفت .

وذات مرة دعتني احدي المجلات الدينية التي لا تزال تصدر حتى اليوم إلى ندوة دينية تعقد في دارها .. حضرت وأثناء الحوار بالندوة ذهبت غلى دورة المياه وعند خروجي من الدورة وجدت أحد موظفي المجلة يقدم لي ورقة ويطلب مني التوقيع عليها قلت ما هذا ولماذا؟ قال : هذا مقابل حضورك الندوة قلت لو كنت أعلم أن الدعوة إلى الله تدفعون لها مقابل لما حضرت .

قال : مصاريف الركوب والانتقال .. قلت عندي سيارة أعدها الإخوان لمثل هذه الأمور قال ولكنهم جميعا يأخذون قلت : إنني لست من هذا ( الجميع) أنا رجل على باب الله, وانصرفت طبعا دون قبض أو توقيع.

ومرة كنت أؤدي فريضة الحج وفي ( جدة) قابلني الأخ (م. ص) ولا يزال حيا أطال الله في حياته قال : إن كبيرا يريد مقابلتي ليس من الأسرة السعودية وإن كان له بها صلة, فرحبت مؤملا في خير للدعوة وتحدد الميعاد وذهبت قبل الميعاد بخمس دقائق وهي عادتي في كل مواعيدي لابد من الذهاب إلى الموعد متقدما خمس دقائق على الأقل وحل الميعاد واستدعي الكبير سكرتيره ودعاني للدخول فوجدت أحد أبناء المرحوم الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود موجودا معه ولم يتحرك الرجل من مكانه حتى وصلت إليه أمام كرسيه فوقف ولعله فعل ذلك محرجا وسلم وقد كنت ألبس شبشبا وجلبابا أبيض غير وجيه .

وجلس الكبير يتحدث عن الدعوة الإسلامية ثم عرج على مجلة الدعوة وكانت لم تصدر بعد وقال : إنه يريد تدعيمها فأدركت هدفه وقلت له مقاطعا سيادتكم طلبتم مقابلتي كداعية لا كجاب, ولو كنت أعلم أنك ستتحدث معي في مسألة نقود كنت اعتذرت عن المقابلة ولذلك أرجو أن تسمح لى سيادتكم بالانصراف فتلقي الرجل هذه الغضبة في هدوء وقال : إني لم أقصد ما ذهبت إليه ولكني كمسلم أردت تدعيم عمل إسلامي وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما قال ما معناه ( واستغن عمن شئت تكن أميره ) .

ولما انتهت المقابلة خرج وركبا الآخر معي حتى أوصلاني إلى باب المصعد ولم ينصرفا إلا بعد أن أخذ المصعد في النزول .

وأذكر كذلك مرة أني ذهبت إلى أحد بلاد المنطقة العربية بمناسبة افتتاح موسم ثقافي وبعد ما تحدثت في حوالي عشرة أمكنة جاءني أحد الرسميين ومعه ظرف به خمسة وعشرون ألف درهم فقلت ما هذا ؟ وظن الرجل أنني أستصغر المبلغ فقال إن غيرك يأخذ نصف هذا المبلغ فقلت إنك في واد وأنا في واد آخر أنا لا أخذ أجرا على كلمة ألقيها في سبيل الله وإن كان لابد من دفع هذا المبلغ فضعه في بنك من البنوك لحساب مجاهدي أفغانستان الأبرار .

طلبت بعض الصحف أن أكتب فيها متوصلا بأجر فرفضت لأني لست صحفيا أولا.... وسواء أكنت مصيبا أو مخطئا فإنه أفضل دائما أن يكون كلام الدعاة بلا مقابل فذلك أدعي لاحترامهم وأدعي أن يكون الكلام يبتغي به وجه الله والله من وراء النية والقصد.

لقد كان لدروس الثلاثاء التي كان يلقيها |الإمام الشهيد أثر بالغ في تربية الرجال والشباب الذين كانوا يزحفون على المركز العام بالحلمية الجديدة قبل مغرب كل ثلاثاء زرافات ووحدانا لا من القاهرة وحدها ولكن من المديريات القريبة والبعيدة وكانوا يقبلون على المركز العام بوجوه مستبشرة قلوب منشرحة ورغبة متلهفة وكان الإمام رضوان الله عليه يصلي بهم المغرب جماعة ثم يبدأ الحديث في حوش المركز العام.

حيث الآلاف لا المئات من المستمعين الذين تعج بهم الدار من كل جنباتها وشرفاتها وما حولها وكأنما الناس في مهرجان تحفه الملائكة وتغشاه الرحمة وتحيط به السكينة لا شوشرى ولا ضوضاء والكل متعلق ذهنا وقلبا وعينا بلؤلؤ النصائح وجواهر التوقيت وكأنهم كانوا ينتظرون حسن البنا من المهد أو من قبل عشرات السنين.

أو كأنما وجدوا ضالة حفيت أقدامهم في البحث عنها والجري وراءها وكلت جهودهم حتى ساقها الله إليهم في صورة إنسان اسمه حسن البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ويظل الدر يتحدر من بين شفتيه إلى أن يؤذن لصلاة العشاء فيصمت الشهيد حتى ينتهي المؤذن ثم يواصل محاضرته التي كان يتمني الكل ألا تنتهي حتى صلاة الفجر .

وقد أحس بخطر هذه الحركة النامية أعداء الإسلام خارج مصر قبل أن يحس بها كارهو المد الإسلامي في كل مكان فبدأت المكائد والمؤامرات التي أثرت فعلا على مواصلة الميسرة وبطء أثرها وإن لم تؤثر على حيويتها وبقائها ..

فقد كان الإخوان يلقون دروس الثلاثاء داخل السجون وفشلت كل المحاولات التي بذلت لصرفهم عنها وكأنها ميراث يلتقاه جيل عن جيل كابر عن كابر مجاهد عن مجاهد صابر عن صابر ولله عاقبة الأمور .

وقد بدأت صورة دروس الثلاثاء بدءا متواضعا جدا فكان مريدو الإمام الشهيد ومحبوه يذهبون إلى منزله بالسبتية بعد محطة السكة الحديد بقليل وكانوا في حدود العشرات وكنا نجلس على حصيرة بيضاء في صالة واسعة شأن غرف المنازل القديمة وكان الشاي يقدم إلينا في فناجين صغيرة جدا ملؤها رشفات قليلة لا عن بخل أو شح فما كان البخل يعرف طريقه إلى جيب الأستاذ أو يده سبيلا وإنما كانت حدود الإمكانيات هكذا ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها .

ولو أنك رأيت الإمام الشهيد تلك الأيام عشرات على حصيرة ثم هو على المنصة في المركز العام بالحلمية يحاضر لمئات بل الألوف لعجبت غاية العجب أن " حسن البنا " الذي لم يكن يعرفه أحد في الثلاثينات إ لا القليل هو " حسن البنا" الذي أصبح ملء السمع والبصر والسهل والجبل في الأربعينيات والخمسينيات تواضعا وأدبا وعزوفا عن الأضواء وبعدا عن الشهرة .

مسافر درجة ثالثة

كان الإمام يدعوني إلى السفر معه في بعض رحلاته داخل القطر ويسألني هل السفر على حسابك أو على حسابنا ؟ فإن كنت ( متريشا) من أتعاب قضية دسمة الأتعاب قلت السفر على حسابي .

وأقطع لهم تذاكر في الدرجة الثانية حيث تعودت السفر والانتقال أما إذا كنت ( مفرقع ) الجيب .

قلت السفر على حسابكم فكان يقطع التذاكر في لدرجة الثالثة فكنت أجلس ورأسي إلى الأرض حتى لا يراني أحد من معارفي وأنا أركب الدرجة الثالثة التي آنف ركوبها وكان الأستاذ يبتسم لمنظري الخجل حتى إذا ما طالت عشرتي للإخوان أصبح ركوب الدرجة الثالثة عندي كركوب الأولي الممتازة دون حساسية أو تحرج.

كنت أحس بأنني قريب من قلب الإمام الشهيد فما اختلفت يوما مع أخر أو رفعت إليه الشكوى من أحد أو حملته شيئا من متاعبي لخاصة أو العامة وما تأخرت مرة واحدة عن تنفيذ أمر أصدره إلى مهما كبدني التنفيذ من متاعب أو كلفني من ماديات .

لم يكن في الإخوان محام قلبي فكنت الوكيل الأصلي في كل القضايا العامة للإخوان أو التحقيق فيها سواء كانت في القاهرة أو خارجها كانت كل معرفتي بمصر لا تعدو شبين القناطر والقاهرة أو المحاكم التي يكون للإخوان فيها قضايا ..

فلما التحقت بالإخوان جبت القطر كله إما مع فضيلة [الإمام الشهيد وإما نيابة عنه .

ذكريات مع حسن البنا

كان المرشد العام الأول " حسن البنا" زعامة عبقرية لدعوة إصلاحية أرادت أن توقظ الشرق والمسلمين .. دعوة هزت الأمة هزا لينهار كل زائف ودخيل على حضارتنا ا وقيمنا الإسلامية .

( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ( الرعد : 17)

أرادها صحوة ضد التغريب والهوان والاستسلام تعيد للإسلام مجده وقوته اللذين غابا منذ مكان الخلفاء الراشدين .

كان يدرك جسامة المهمة التي نذر نفسه لها الطريق إلى شرع الله يبدأ بإعادة تربية الأمة وتطهير النفس والعقل من احتلال القيم الداخلية وتحري النفس العقل هما الطريق إلى تحير الأرض كان يدرك أن غيبة الإيمان من قلوب الناس هي بيت الداء الذي أتاح للفساد والضعف والهوان أن يستشري في جسد الأمة وكان يدرك أنه لو كان فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله .

كان " حسن البنا" كما عرفه مريدوه روحا نقية وقلبا رقيقا شفافا لكنه كان أيضا عقلا عبقريا أتاح له الله قدرة الفهم الصحيح والتحليل العلمي والاستشراف للمستقبل , ومن هنا تبلورت شخصيته الزعامية وحضوره الإنساني كقدوة لقد أتي للناس بقطرات الندي الإيماني وفي وقت التهبت فيه الحلوق من الظمأ للعدل والمحبة ونور الإيمان .

يواصل الأستاذ المرشد عمر التلمساني الإدلاء بشهادته حول عمر عاشه في أتون الدعوة وهو هنا يواصل استشراف ذكرياته مع " حسن البنا" فيقول:

كان هذا الرجل يهتم بأبسط عادات مريديه ليكفل لهم الراحة وما ألفوه في حياتهم فتزداد صلتهم به قوة وحبهم له عمقا لن تجد أحدا عاشر المرشد ثم لم يذكر رقته ولما حيته في هذه النواحي .

ذهبت معه مرة إلى طنطا بدعوة من أحد وجهائها لافتتاح مسجد وبعد الحفل والكلمات التي ألقيت ذهب الإخوان إلى المسجد للمبيت فيه وانتحي فضيلته بالداعي, فأخذني أنا واثنين من الإخوان إلى دار الباشا حيث أدخلنا غرفة نوم غاية في الفخامة في التأثيث .

فإذا بي أفاجأ بأحد الأخوين يحوقل قلت : ما بك ؟ قال : هذه الرياش والأموال التي أنفقت فيها أما كان الأجدر أن تنفق في سبيل الله ؟ قلت : يا أخي رحمني ورحمك الله ما الذي جاء بك في هذه الرحلة إذ ها لك مثل هذه لتي ننام فيها ولعل أحدنا لم يحظ بالمبيت في مثل هذه ( النغنغة) ألا تري أن الأمر يستحق الحمد لله بدلا من الحوقلة ؟

خيال المآتة

وفي الصباح ذهبنا جمعا إلى محطة طنطا لنأخذ القطار إلى القاهرة وصلينا الفجر على رصيف المحطة ورذاذ المطر الخفيف يداعب وجوهنا وملابسنا ووصلنا القاهرة وذهب كل منا إلى منزله ليستكمل راحته وذهب هو وحده رضوان الله عليه إلى مدرسة أم عباس في السبتية ليلقي دروس الحصة الأولي التي كانت بجدول حصصه في ذلك اليوم.

أرأيت كيف يجمع للمخلصين بين كثرة الأعمال وضيق لأوقات كيف يجمع بينهما ومن يتوكل على الله حق توكله فهوة حسبه ألا إن فضل الله كبير عظيم وتمر الأيام ويصل أحد الأخوين اللذين كانا معي في طنطا إلى منصب كبير وتنتابه وعكة فذهبت لأعوده ودخلت عرفة نومه فإذا بها فخمة حقا والبطاطين من أغلي الأنواع ..

ونظرت إليه قائلا:عافاك الله ... في رنة لها معناها:وأدرك الرجل معني النظرة ورنة النغمة فعاجلاني: اسكت يا أستاذ عم لقد أدرك الرجل بذكائه ما أهدف إليه .

وعادت به الذكريات إلى أيام طنطا وافتتاح المسجد فيها والغرفة ذات الرياش الفاخر الثمين: أرأيت كيف يفعل الله بالناس ؟ يجعل من يشاء منتجا ويجعل من يشاء عقيما يثبت من يشاء بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخر مع كل الناس وفي كل الظروف والمناسبات ويجعل بعض الناس كخيالات " المآتة" تدور مع الريح حيث تدور بل إذا تمكن وبأسرع من هبوب الريح " اللهم ثبتنا على الحق " وأعنا على تحمل كل ما نلقاه مما يرضيك في طريقنا إليك فليس لنا من أمنية إلا أن نلقاك وأنت راض عنا كل الرضا.

هذا الرجل ما كان اليأس يعرف نفسه سبيلا أبدأ وكانت آماله أوسع من الدنيا وما فيها يستخرج من اليأس أملا ويأتي من الضيق بالفرج لأنه كان موهوبا وكان قلبه متعلقا برب السموات والأرض والملك والملكوت وكانت قوته واحتماله أقوي من الفولاذ الصافي لنقي إن مدده كان قدير على كل شئ بلا استثناء ولقد كان لكل قاعدة استثناء ( إن الله على كل شئ قدير ) القرة : 20 قاعدة بلا استثناء على الإطلاق .

درس في القيادة

وذهبت معه مرة إلى مدينة طوخ احدي مدن مديرية القليوبية وكان الحفل حاشدا وبهيجا والأصوات عالية والهتافات مدوية وكل شئ على ما يرام وانتهي الحفل وعدنا إلى القاهرة في الليلة نفسها وفي الطريق سألني فضيلته ما رأيك في الحفل ؟

قلت : إن الصخب الشديد والأصوات العالية المدوية لا تطمئنني كثيرا كالطبل يدوي إذ ما طرقته فإذا نظرت داخله رأيته أجوف لا شئ فيه قال : اسمع نحن على قدم رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يعرض على الناس في الأسواق .

فلا يلقي إلا السخرية والإيذاء فهلا نصبر على بطء الاستجابة إننا لو خرجنا من هذه الآلاف بواحد فقط فذلك خير لنا من الدنيا وما فيها وهكذا كان يزرع الأمل في قلوبنا وهكذا كان يصبرنا على احتمال كل ما نلقاه في سبيل الدعوة لا يعلمنا ذلك في مكتبه أو محاضراته, أو نظريا أو فلسفيا ولكن يعلمنا الثبات والتثبت والصمود عمليا في تنقلاتنا معه في القرى والدساكر والكفور, أقدامنا تغوص في الرمل والزلط والأرض الرطبة ومناديلنا تكاد تعصر من العرق الذي نجففه من طول ما نمشي كنا نبيت مع الإخوان على الحصير في المساجد أو في الأجران – إن تعثر المبيت في المسجد أو المضيفة الأكل أقله وأخشنه كان الوفاء بالبيعة يلزمنا بالنزول عند رغبة من بايعناه في غير معصية .

وإليك مثلا من أمثلة الخلق الرقيق والتربية العملية الواقعية ذهبت معه يوما إلى المنزلة وبعد الحفل صعدنا إلى الطابق الثاني في منزل لنأخذ قسطا من الراحة إن كان في تلك الرحلات راحة مادية وإن كانت مترعة بالراحة القلبية ودخلت معه إلى حجرة بها سريران وعلى كل سرير ناموسية لأن المنطقة كانت زاخرة بجحافل الناموس والتي لا ترتوي إلا من امتصاص دماء البشر وإن كنت قد قرأت في بعض ما قرأت أن البعوضة تعيش ما دامت جائعة فإذا شبعت وامتلأت ماتت.

ودخل سريره وأرخي ناموسيته وفعلت مثلما فعل على السرير الآخر وكان التعب والإجهاد قد بلغ مني مداه فاعتراني قلق وبعد خمس دقائق تقريبا سألني فضيلته هل نمت يا عمر ؟ قلت : ليس بعد.

ثم كرر السؤال فترة بعد فترة حتى ضقت بالأمر وقلت في نفسي : ألا يكفيني ما أنا فيه من إجهاد وقلق حتى تضاعف على المتاعب ؟ ألا تدعني أنام ؟ كان هذا حديثا صامتا يدور بيني وبين نفسي فصممت على ألا أرد على أسئلته موهما إياه أنني نمت فلما اطمأن إلى نومي نزل من سريره في هدوء كامل وعند الباب أخذ ( القبقاب) بيده وسار حافيا حتى وصل إلى دورة المياه حيث توضأ وأخذ سجادة صغيرة وذهب إلى آخر الصالة بعيدا عن الغرفة التي ننام فيها .. وأخذ يصلي ما شاء الله له أن يصلي ونمت أنا ما شاء الله لى أن أنام.

وصحوت وتبينت حقيقة الدرس العملي الصامت الذي مررت به ليلتي تلك.

مرشد وأتاه الله جلدا في طاعته ... فهو يخطب ويتحدث فإذا انصرف الناس ليستريحوا خلا إلى ربه مصليا ومتهجدا وهو قادر على ذلك بما وهبه الله من احتمال على مواصلة الطاعات ليل نهار .

ومريد لم يشتد بعد عوده ولم يصبح – بعد – قادرا على مثل حال شيخه وشيخ يعرف هذا من مريده فيشفق عليه ولا يرضي أن يحرجه طبعا لأنني إذا رأيته يقوم للتهجد لفعلت مثله ولو متحاملا على نفسي والله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر وفضيلته يطبق التربية القرآنية على مريده فيطمئن أولا على راحته ثم يؤدي ما يقدمه لربه تعبدا وتقربا .

هذه هي التربية الواقعية والدرس العملي الذي يجب أن يعيش فيه كل من يتولي أمر شعب أو جماعة راحة الشعب أو الجماعة أولا ثم راحته هو شخصيا لا في المقام الثاني ولكن في آخر المقامات .

كان إذا أنهي محاضرته اختلي بالصفوة ممن يتوسم فيهم الخير ودائما ما يصح توسمه وتصدق فراسته كان حركة دائبة لا تكل ولا تمل وروحا لا يكفيها أن تحيي جسد صاحبها ولكن تفيض من حيويتها على كل من تلقاه .

وفي يوم من الأيام طلع علينا طه حسين بكتابه " مستقبل الثقافة في مصر وتلقاه المغرضون وخصوم الإسلام بالتهليل والتكبير والدعاية الواسعة العريضة حتى تأثر كثير من الشباب بتلك الدعاية المسمومة وظنوها صادقة , وأحس الإمام الشهيد بالكارثة تعم فطلب من إدارة الجامعة أن تسمح له بإلقاء محاضرة ينقد فيها ذلك الكتاب .

,ترددت إدارة الجامعة, ولكن إلحاح الطلبة الداعين أرغم إدارة الجامعة على قبول الطلب فقدم طلبا مكتوبا موقعا عليه بإسمه المعروف للجميع " حسن البنا"

ولكن للأسف كانت إدارة الجامعة تافهة في تصرفاتها إذ رفضت الطلب بهذا التوقيع واشترطت أن تكون باسم " حسن أحمد عبد الرحمن"

والرجل فوق هذه الصغائر وأكبر منها فلم يتردد وأجاب إدارة الجامعة لما أرادت لأنه لا يريد أن تقف الشكليات عقبة أمام الأهداف السامية الكبيرة.

وازدحم المدرج حتى ضاق بمن فيه ووقف حسن البنا المدرس الابتدائي يشرح الكتاب " مستقبل الثقافة في مصر " وخطورته على العقيدة حيث يري طه حسين أن نأخذ الثقافة بخيرها وشرها وحلوها ومرها , إن كنا نريد أن نصل إلى القرب من مستوي الغرب المادي والعلمي .

وظل الساعات العديدة ينتقد ويفصل يبين مكامن الخطر في ذلك الكتاب , حتى ذهب كل أثر له في نفوس الشباب وأهمل الكتاب وعرض الناس عن قراءته فبارت سوقه في مجالات التأليف والمكتبات وهكذا انتصر مدرس ابتدائي على دكتور عالمي يسمونه عميد الأدب في الشرق العربي, وما هو بالعميد ولا بالمجيد وعرف الناس حقيقة طه حسين الذي سمي أولاده بأسماء فرنسية لن الأسماء لعربية الإسلامية لا تتفق ومزاجه الرقيق !

نقد مؤدب

(إن نصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) ( محمد : 7) لم يمس شخص طه حسين بكلمة نابية أو لفظ جارح حتى لقد علمت أن طه حسين شكره على ذلك وأثني عليه .

إن التربية ليست بالأمر الميسور يسر التعليم قد يتعلم الإنسان ثم لا يكون أكثر من كتاب .. أو كتب متنقلة وقد يعلم ولكن لن ينتج تعليمه علماء إنها لقسوة ساحقة للطالب أن يري تصرفات أستاذ تخالف كل المخالفة ما يكتب وما يقول إن من السهولة بمكان أن تعلم الطالب فريضة الصلاة أركانها ومبطلاتها ومستخباتها ومكروهاتها ..

لكن من العسير أن تربية على أنها ( تنهي على الفحشاء والمنكر) ( العنكبوت : 45) ولذلك يقول صلي الله عليه وسلم ( من لم تنهه صلاته لم يزدد من الله إلا بعدا) .

فهل يمكن أن تتصور بوعي أن هذه الفريضة الكبرى قد تكون أداؤها بشكلياتها سببا في لبعد عن الله سبحانه وتعالي ونحن لا نصلي إلا لنقترب من رحاب الله بسبب تصرفاتنا قبل وبعد أداء الفريضة لذلك كان " حسن البنا" نابغة في تربية الإخوان على مفاهيم الصلاة قبل أن يكون معلما لشكلياتها وحركاتها إنه علمنا أن أداء الصلاة قد يرد عنا المؤاخذة الظاهرة ولكنه لن ينفعنا بشئ إن لم نحرص على أهدافها ومراميها حقا إنه مربي الجيل دون منازع فالخشوع والصدق والتواضع كانت بين ما يشرحه الإمام الشهيد ويحرص على غرسه في قلوب مريديه.

عداء عقائدي

إن الشيوعية والصليبية والصهيونية لا تكره أحدا بقدر ما تكره حسن البنا والإخوان المسلمين لأنهم العقبة الكأداء في إيقاف الزحف الشيوعي إلى هذه لمنطقة إنهم يطبقون تعاليم دينهم علما وعملا إنهم حريصون على التخلص من كل زحف عسكري أو فكري دخيل مسموم إنهم يستميتون في أن تستمع الشعوب الإسلامية بالحرية وانتشا حقوق الإنسان ,واقعيا, ويحبون أن يتمتع المسلمون بخيرات بلادهم وفيها اكتفاء ذاتي لهم إنهم يريدون أن تقوم العلاقة بينهم وبين حكامهم على المودة والحب والعدل والإنصاف والاحترام.

لقد علمنا حسن البنا أن للحكام حقوقا على المحكومين منها السمع والطاعة والالتزام كما شرح لنا أنه يجب علي الحاكم أن يشيد حكمه على الحق والعدالة لا على البطش والتسلط إن عمر بن الخطاب كان لا يحب قاتل أخيه زيد .

وقد سأله هذا القاتل بعد إسلامه , وهل شعورك هذا يحرمني حقي عندك ؟. فقال عمر : لا. فقال الرجل : إذن لا يبكي على الحب إلا النساء . علمنا حسن البنا أن عواطف الحاكم – حبا وبغضا – لا يجب شرعا أن تكون سببا في حرمان الرعية من حقوقها .

وقد مر بي حديث لا أدري مداه من القوة أن من يحاول إذلال السلطان لا توبة له هكذا لم يكن الإمام الشهيد إرهابيا ولا ثوريا ولا انقلابيا بل كان داعية مصلحا ينشر الحب والسلام أينما حل أو سار لكن بعض المسئولين في العالم الاسمي لا يدركون هذا وينزلون الإخوان منزلة الخصوم والأعداء , ظنا منهم أن الإخوان ينافسونهم حكما وسلطانا وهم في حقيقة الأمر لا يريدون إلا إصلاحا وإحسانا ألا ما أبعد الشقة بين الاتجاهين .

أيها المنكح الثريا سهيلا
حسبك الله كيف يلتقيان

هي إذا ما استهلت شامية

وهو إذا ما استهل يمان

كامب ديفيد

أري من المناسب هنا أن أتعرض لمعاهدة " كامب ديفيد" وإن كانت قد عقدت بعد استشهاد الإمام بسنوات طويلة قد تقترب من الثلاثين ذلك لأن موقف الإخوان المسلمين منها واستنكارهم كان من نتائج تربية الإخوان تربية سياسة تقوم على أسس عقدية فالإسلام دين ودولة.

والمتتبع لتطورات إقامة إسرائيل على أرض فلسطين يري أنها ترمي إلى أبعاد عميقة الغور رغبة في القضاء على الإسلام ومن ظن غير ذلك فهو لا يحس بالنار إلا بعد أن تعلق بملابسه وتحرق أوصاله لقد كان في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية أماكن تتسع لهذا الشعب لو كان الغرض الحقيقي هو إقامة دولة لهم وقد تجد هنالك المناخ المناسب لمثل هذه الدولة العجيبة الميلاد.

ولكن التخطيط الذي وضع وبدي في تنفيذه بدقة فائقة لا يزال يأخذ طريقة المرسوم له لتحقيقي الهدف المقصود منه في هذه المنطقة العريقة في إسلامها .

بدأت إنجلترا بإحلال المهاجرين اليهود في فلسطين وسلحتهم بكافة الأسلحة وفي الوقت نفسه أصدرت القوانين المشددة في تجريد الفلسطينيين من كل سلاح حتى سكاكين المطابخ.

وبدأ اليهود في حماية انجلترا يقومون في حماية الدولة المنتدبة على فلسطين – انجلترا – وبدأت مقاومة الشعب الفلسطيني يؤيدها البعض المسئولين في العالم العربي والإسلامي يفهمون, أو يصححون فهمهم أو ينظرون تحت أقدامهم للحفر الغائرة في بطن الكيد والخبث الصليبي والشيوعي والصهيوني ليلمسوا بأنفسهم الهاوية التي تعد لهم ولشعوبهم لمن يظنونهم أصدقاء وهم ش من الأعداء .

أنا لا أشك لحظة في أن كل مسئول عربي ومسلم لن تعيب عنه هذه الحقائق المرة المداهمة بل لعلهم يعلمون عنها أكثر مما نعلم ثم تتملكني الحيرة والمرارة .. كيف يتصرفون؟

إنهم إن ظنوا أنهم وأسرهم ناجون من هذا المصير التعس فهم في غفلة فلما أيسر أن يجحد هؤلاء الأصدقاء كل البلايين التي في حوزة هؤلاء اليهود الأعداء وبكل بساطة لأتفه الأسباب المفتعلة المختلفة .

إنهم لا عصمة لهم ولا وقاية بعد الله إلا الصلح مع شعوبهم وتدعيم روابط الثقة بينهم وبين شعوبهم متنازلين عن الكثير مما يظنونه حقوقا لهم ولا حق لحاكم في هذا الوجود على شعبه إلا السمع والطاعة ما أقام فيهم الدين والعدل والإنصاف وكفهم عن المعاصي وعن المحرمات.

إن المخطط الصهيوني سينتهي بنا جميعا إلى جعل وضع لإسرائيل في هذه المنطقة – في فلسطين – أمرا طبيعيا لا استنكار له ولا محاولة لإزالته ثم ما يتبع ذلك من مصائب وويلات لا نهاية لها .

التطبيع مع اليهود

إن تطبيع العلاقات أى جعلها طبيعية أمر خارج عن طبائع الأوضاع البشرية , هل يتصور أحد أن اليهود يمكن أن تكون علاقتهم طبيعية مع إنسان غير يهودي ؟....

كيف يمكن لبشر أ يغير من السنة الكونية ؟ إنها محاولة خاتمتها الدمار والخراب للمسلمين جميعا إننا مسلمون والله الذي نؤمن به يقول ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود)( المائدة: 82) إنه التقرير إلهي لا لبس فيه ولا غموض إن العداوة منهم وليست من جانبنا كما هو صريح نص الآية فهل نحن أعلم باليهود وكراهيتهم للمسلمين من الله ؟

إن الإخوان المسلمين الذين تملأ قلوبهم رحمة الإسلام وسلامة لا يقولون برمي إسرائيل في البحر ولا يقولون بشنق آخر إسرائيلي بأمعاء آخر شيوعي ليس سفك الدماء من طبيعة الإسلام ولكننا نقول إنهم يستطيعون العيش في فلسطين كشعب فلسطيني أما كحام يريدون أن يهددوا المنطقة كلها فلا.

إن كل الأقليات في كل أرجاء العالم تعيش مع الأكثرية في هدوء ووئام ولكن كيف يمكن التصديق بأن أشد الناس عداوة للمسلمين يمكن أن يكون حاكما عادلا مع المسلمين من رعيته هيهات.

ومكلف الأيام ضد طباعها
متطلب في الماء جذوة نار

فلابد أن تجمع شعوب المنطقة وحكامها على التخلص من هذا الإخطبوط الذي يمتص دمها رويدا رويدا وأن نقضي على هذا السرطان الذي يهدد كيانها إن الحر الأبي يموت كريما أو يحيا كريما وبين أن يموت الإنسان كريما تشهد له الأجيال بالبطولة والخلود وبين أن يحيا مهانا ذليلا إلا الرضا بالحياة الخسيسة والضعة المحضة ألا يمكن أن يقوم سلام إلا على أساس استبقاء الناهب ما نهب في حيازته وملكيته ؟..

أى سلام هذا والهول كل الهول أهون منه ؟ أى سلام هذا مهما كانت ظروفنا ؟ إن جيشنا العزيز استطاع أن يعمل شيئا كان من الممكن أن تكون له ثماره في جميع أرجاء هذه المنطقة فما بالنا لو اجتمعت شعوب المنطقة وحكامها على خطة موحدة لا شك أن النتائج ستكون أعز وأكرم ولكن الناس من خوف الفقر في فقر ومن خوف الخوف في خوف ومن خوف الذل في ذل .

إن شبابنا يمكن أن يتربي على مقومات الرجولة وصناعة المواقف الخالدة – ولكن ولعلها وسائل التخطيط الصهيوني – بقاء أجهزة الإعلام على ما هي عليه لا يبش بقيام جيل يغار على عقيدته وكرامة بلاده وحريتها أو يفكر في حقوقه المسلوبة كي يستعيدها وكلما قام الشباب بتهيئة نفسه للمواقف الفاصلة بينه وبين إسرائيل ومن وراءها لاحقته الضربات والمطاردة في كل بلد من بلاد منطقة الشرق الأوسط أو حتى إندونيسيا وما حولها .

إن التطبيع الذي يرفع التكليف سكون أكبر عون لإسرائيل على تحقيق مطامعها آمنة مطمئنة في حماية القوانين الملحقة بمعاهدة السلام.

إن العمل الصالح هو الذي تبقي آثاره وهذه المؤتمرات الإسلامية التي تقام في جميع القارات رغم ما يعتريها من غبش هي أثر من آثار الإمام الشهيد لجمع كلمة المسلمين وما أخالها إلا ستأتي ثمارها في يوم من الأيام إذ من الخير أ ن يجتمع الدعاة دواما في لحين بعد الحين يتعارفون ويتعاونون ويشد بعضهم أزر بعض وأول الغيث قطرة ثم ينهمر والله في عون العبد مادام العبد يعمل ويحاول حتى إذا استنفد العبد كل حيله ووسائله الأرضية وعلم الله منه الصدق والإخلاص تدخلت يد القوي العزيز ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض ) ( النمل : 62)

لا أحد سوي القادر المقتدر القدير لكافي إنا في صدق وعده لموقنون وإن كان لا يعجل لعجلة عبده .

البنا قائد ثورة 23 يوليو

يفجر الأستاذ عمر التلمساني قضية العلاقة بين الإخوان وثورة 23 يوليو.

يبدأ بالجذور حيث يتصدر شباب الإخوان كتائب الفدائيين في الحرب العربية الإسرائيلية الأول عام 1948م.

وحيث يخوض المرشد الأول معاركه القوية في مواجهة الإقطاع والفساد السياسي والانجليزي وهو يذهب بتحليله لمسار تلك المرحلة إلى أبعد مما كان يتصور جيلنا فيقول:

إن حسن البنا بصوفيته هو صانع ثورة 1952 ينفي أن الإخوان بادؤوا نظام ثورة 23 يوليو العداء بل إنهم عملوا على دعمه وحماية البلاد من عمليات التخريب انتصارا لإرادة التغيير ويرد على خصوم الإخوان المسلمين مدافعا ومفندا وشاحا لمنطلقات فكرهم كما شارك في إرسائها جنبا إلى جنب مع المرشد الأول حسن البنا .

يقول الأستاذ عمر التلمساني لابد أن نعرض لحياة الإمام الشهيد لنعرف كيف اختمرت دوافعها في نفسه وكيف بدأ العمل من أجلها .

ولد " حسن البنا " عام 1906 في مدينة المحمودية – إحدى مدن قرية البحيرة – وهي أقرب إلى الإسكندرية منها إلى القاهرة وقد نشأ في بيئة دينية لأن والده المرحوم أحمد عبد الرحمن البنا" كان من العلماء الزاهدين.

وقد اشتغل كثيرا بعلوم السنة وله فيها مؤلفات آخرها " الفتح الرباني" في شرح المسند للإمام أحمد بن حنبل وهو لا شك مؤلف ضخم الفائدة غزير النفع للمشتغلين في ميادين السنة وعلوم القرآن في هذا اللقاء الروحي نشأ إمامنا الشهيد ولم يعن كثيرا بكتابة المؤلفات وفضل عليها تأليف الرجال وإيجاد المجاهدين وقد كانت اهتماماته منذ حداثة سنة موجهة إلى الناحية العملية ...

فأنشأ خلال دراسته الأولي مع زملائه جميعه ( الأخلاق الأدبية) ومن اسم الجمعية تستطيع أن تتبين ملامح اتجاهاته في باكورة حياته.

حديث مع الأطفال

وكان كريم الأخلاق يألف ويؤلف لم نره عابسا ولا يزور عن محدث أو متحدث. الأدب كان طابع كل معاملاته مع الصغير والكبير ذهبت معه مرة إلى مدرسة المحمدية الابتدائية بناحية العباسية ليلقي محاضرة هناك وطلب مني أن أتحدث إليهم فنظرت إليه متعجبا وقلت لم يبق إلا أن أتحدث إلى أطفال وأنا الذي أترافع أمام القضاة والمستشارين فابتسم ابتسامته الحلوة البديعة وقال:

خل عنك , ونزل من فوق منصة الفصل حيث توجد السبورة ووقف وسط الأطفال يتحدث إليهم وكأنه من أترابهم بلغتهم التي يعرفونها وبأسلوبهم الذي يتحدثون به وما انتهي حتى عجبت ن التفاف الأطفال حوله وتعلقهم به وكأنهم لا ييدون أن يفارقهم ويفارقوه للهجة الحنان التي كان يتحدث بها وللأدب لجم في إغضائه عن الكثير من ( عفويتهم وعبثهم الصبياني ).

ثم أنشأ جمعية منع المحرمات والاسم يشي إلى أهدافه فقد فشت المخدرات وكثر اليونان والأورام الذين يقيمون " الخمّارات في كل قري مصر يبدأ الواحد منهم مفلسا ثم ينتهي به الأمر إلى ثراء يستطيع به الاستيلاء على كثير من أرض الفلاحين المنحرفين .. هذا إن لم يستعن على رواج تجارته ببعض الغانيات من بنات جنسه لتتمكن المصيدة من الإيقاع بالفلاحين في بساطة.

رأي فضيلته أن منع المحرمات من أولي الخطوات لإنقاذ لفلاحين مما يراد بهم وهم عنه غافلون والتحق في فجر حياته بمشايخ الطريقة الحصافية ولا شك أن هذه النزعة الروحية تدل على صفاء النفس وتعلقها بمن سواها وألهمها تقواها:

إن الصوفية عندي أقي مراتب الإيمان على الصورة التي هي خليقة بها تجرد من علائق الدنيا دون مقاطعتها وتفرغ لطلب الآخرة دون قعود عن عمارة الدنيا فهي مزرعة الآخرة ولن نحصد هناك إلا ما نزرعه هنا .

الصوفية هي الرهبة من الله لا من الخلق هي اليقين بأن ما يصيبنا ما كان ليخطئنا وما أخطأنا ما كان ليصيبنا هي إرجاع كل الأمور إليه دون خوف من آدمي لا يملك لنفسه نفعا ولا أذي ما دام السالك طريق الذيل عفيف النفس زاهدا في كل ما في أيدي الناس مطمئنا إلى ما عند مسبب الأسباب .

الصوفية ذروة الإيمان من تقي وجرأة وإقدام وإخلاص .. وليست الصوفية دق الدفوف وإعلاء البيارق وجمع النذور ( والله لا يقطع عادة ) هكذا أخذ إمامنا الشهيد الصوفية فلما أغرته إنجلترا بالمال ليحاضر في الديمقراطية .. سألهم كما أفهمها أم كما تريدونها ؟

قالوا: نحن في حرب وفي حاجة إلى الدعاية من أمثالك .. فأدار لهم الظهر وانطلق ينشر دعوته ولما هدده الحاكم أنذاك استخف بتهديده وعالج مباذلة بالنصح والإرشاد ولما حاربه الإقطاع ثبت في مكانه وكتب الله له الفوز إن حسن البنا بصوفيته هو صانع " انقلاب 1952م" وإن كانوا يتهموننا اليوم بأننا أعداء هذا الانقلاب .

بذور التغيير

إن السلطة لم تقتل ولم تحاكم ولم تعتقل أى ضابط من الضباط الأحرار لكنها سجنت الإخوان واعتقلتهم واغتالت مرشدهم لأنه كان يعمل ظاهرا وهم يعملون في الخفاء إن الإمام الشهيدٍٍ حرث أرض العقول والنفوس بتوجيهاته وألقي بذور التغيير في أذهان الشعب مما جعل الشعب في لهفة إلى التغيير فلما تحرك الضباط الأحرار بالاتفاق مع الإخوان المسلمين وجدوا شعبا متلهفا إلى حركتهم مهيأ لانقلابهم فاستقبلهم بالدعاء وقام الإخوان المسلمون بحاسة كل المنشآت الأساسية في البلد خوفا من أن تتعرض للتخريب ممن كانوا يكرهون هذا التغيير ثم لا يجد خصوم الإخوان تهمة يوجهونها إلا أنهم أعداء ذلك الانقلاب .

وكم ذا بمصر من المضحكا
ت ولكنه ضحكم كالبكا

ثم انتقل " حسن البنا" إلى مدرسة المعلمين في دمنهور عام 1920م ليتخرج فيها مدرسا إلزاميا , لكن همته ومشاعره الفياضة وآماله العراض كانت فوق هذا المستوي بكثير فما أن تخرج في هذه المدرسة حتي التحق بمدرسة دار العلوم عام 1923 في القاهرة حيث تخرج فيها عام 1927 وكان ترتيبه الأول ومن المفارقات اللطيفة أن ناظر مدرسة المعلمين كان المربي الفاضل المحروم عبد العزيز عطية ثم تتلمذ هذا الناظر على يد طالبه في دعوة الإخوان المسلمين .

وتميزت دعوة الإخوان المسلمين عن كل الدعوات الإسلامية ببعدها عن الخلافات الفرعية والمنازعات الجانبية وترك خصومه ينالون منه كما يشاؤون دون أن يدخل معهم ف يعراك فالدعوة التي أقامها في ذي القعدة عام 1347هجرية – مارس 1928 ميلادية بدأت دعوة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية على ضفاف القنال مكونة من ستة رجال الإمام الشهيد الأخ الصولي والأخ حسب الله وغابت عن ذاكراتي بقية الأسماء ولعلي أتذكرها أو أعثر عليها فأضيفها إلى هذه المذكرات .

مصحف وسيف

كانت جهوده مركز ة على تنشئة جيل يعتنق دينه على أنه دين ودولة ومصحف وسيف وعبادات ومعاملات وتربية وأخلاق سياسية واقتصاد واجتماع وقضاء وكل شئ في هذه لحياة .

نظام شامل وقانون كامل بتنظيم لحياة في أسمي مراقيها إلى آخر مطالبها حتى الدخول في دورة المياه وبدأت دعوة الإخوان المسلمين تصل إلى قلوب الشباب والعمال والفلاحين وسائر طبقات الأمة ..

بل ومن بعض أبناء الأثرياء من عائلات عبد النبي وعبد الرازق والدلة وأي منها المسلمون شيئا جديدا لم يألفوه فيما كان مطروحا على الساحة الإسلامية من مذهب وآراء .

إذ جمعت الدعوة كما يقول فضيلته كل المذاهب والتيارات ( دعوة إسلامية شاملة ) وفي العام 1932 انتقل حسن البنا إلى القاهرة ولم يغفل عن المديريات أو المحافظات بل كان دائم التنقل بين قراها ودساكرها شارحا لهم أن دعوة الإخوان المسلمين ليست دعوة مقصورة على مصر ولكنها دعوة للناس جميعا.

فبدأ يتصل بالبلاد الإسلامية ولو طالت به الحياة لأقام في العالم كله شعبا للإخوان لأن هذا هو الإسلام ( يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) ( الأعراف : 158) فالإسلام دعوة عالمية ليست مقصورة على جنس دون جنس ولا لغة ولا لون دون غيرهما ومن كانت هذه همته فلا عجب أن يصل إلى بغيته لقد توفي رسول الله صلي الله عليه وسلم فحمل أبو بكر الراية ثم عمر وعثمان وعلى ووصلوا بالإسلام إلى ما وصل إليه .

وقد ارتد ضعاف الإيمان وتنبأ من تنبأ وظنوا بالإسلام الظنون وعلى قدم هؤلاء الأبرار اغتيل حسن البنا فحمل الراية حسن الهضيبي ولقي به فتعاون الإخوان على حملها لأننا لم نقدس حسن البنا.

وما كان هذا هدفنا ولكن كان الله غايتنا ما كان حسن البنا إلا إنسانا يموت كما يموت أى إنسان ولكن دعوة الله التي انزلها على محمد صلي الله عليه وسلم وتكفل بحفظها.

فليس الشأن شأن حسن البنا أو أى مرشد ولكن الشأن دين تكالب عليه خصومه ويخشي الإخوان عليه فهم يحمونه بأرواحهم سواء أكان هناك مرشد أو لم يكن فالذين يتهمون الإخوان بتقديس حسن البنا قلوبهم منكرة وأفهامهم معوجة وعقولهم ليست على سنن رتيب, ومما يقطع بالعالمية دعوة الإخوان المسلمين أن مرشدهم دعاهم للجهاد كي ينقذوا بلدا إسلاميا من أيدي أشد الناس عداوة للمسلمين ولبي الإخوان النداء فكانت دماؤهم الطاهرة أول دماء روت أرض فلسطين الشهيدة ولولا أن المسئولين في هذه المنطقة تقاعدوا وتكاسلوا واكتفوا بالتصريحات النارية والأحاديث الملتهبة كان الحال غير الحال في فلسطين .

لم يكتفوا بالقعود عن نصرة فلسطين عمليا بل حاربوا الإخوان المسلمين في كل مكان وكأنما الإخوان أجرموا في نظر هؤلاء المسلمين يوم أن تصدوا لليهود تصديا كان من الممكن أن يقتلعهم من المنطقة اقتلاعا.

ولكن ماذا عسي لملي أن يقول إلا ترديد قول الشاعر .

من غص دواي بشرب الماء غصته
فكيف يفعل من قد غص بالماء

والأمر لله من قبل ومن بعد وسيرون من ربهم حسابا لا يخطر لهم على بال وكان بودي أن أتحدث عن كيف بدأت الدعوة وكيف كانت تتم ولكني أترك هذا لما وقر في نفسي من تعاليم الإمام الشهيد ولا أزال أذكره حتى اليوم فقد صارح فضيلته الناس بدعوته على أنها كما يقول :

أضوء من الشمس وأوضح من قلق الصبح وأبين من غرة النهار وأنها دعوة بريئة نزيهة لا ترقي إليها الشبهات بعيدة عن الأغراض والأهواء فلا يريد الإخوان من الناس أجرا ولا ثناء ولا حمدا ولا طبلا لا زمرا وكانوا يحبون من كل قلوبهم أن يكونوا الأتقياء الأخفياء, الذين لا يعرفون إذا حضروا ولا يفتقدون إذا غابوا وحسبهم أن يعلمهم الله ويراهم حيث يحب ويرضي, كان حسن البنا يحرص على أن يخاطب الناس بعواطفه الرقيقة بعيدا عن التعقيدات اللفظية أو الأساليب الأفلاطونية.

هكذا علمنا أن نفني في هذه الدعوة لنكون نحن هي ولتكون هي نحن وليس معني هذا أن نتمنع عن هذه الدنيا فلا نأبه بها .. أبدأ فالإخوان يمشون في مناكب الأرض ويأكلون من رزق الله أطيب ما يفيضه عليهم ولكن إذا تعارض أى شئ من مطالب الدنيا مع ما نحب لدعوة غبنا عن هذه الدنيا وعشنا فيما يطلبه الله منا وما أظن بعد منهج الكتاب والسنة من وضوح ويتجني بعض الناس عن عمد أو غفلة فيتهمون الإخوان بأنهم يعتبرون من ليس منهم غير نسلم!

افتراء على الإخوان

وهذا منتهي الافتراء على جماعة هي أبعد الناس عن هذا الفهم السقيم إننا نعتبر المسلمين جميعا مسلمين موحدين وأن إيمانهم بالله إيمان راسخ لا تشوبه شائبة وعندما فصل بعض أعضاء اللجنة التأسيسية لجماعة الإخوان المسلمين قال الأستاذ الهضيبي مرشد الإخوان حينذاك إننا لم نفصلهم لشك في دينهم أو مغمز في خلقهم ولكنهم فصلوا لأنهم خرجوا على نظام الجماعة الأمر الذي لا تستقيم بدونه جماعة أو هيئة من الهيئات .

إننا نتعامل مع المسلمين جميعا فقد يكون بعضهم أقوي إيمانا من بعض الإخوان وكل الذي نراه في المسلمين أنهم أهملوا تعاليم دينهم وغفلوا عنها ولم يتعاملوا فيما بينهم بها فدعتهم دعوة الإخوان المسلمين إلى العودة اليقظة المتحركة في تناول شئون حياتهم كلها على أساس هذا الدين الحنيف إن دورنا مع الناس عن طريق هذه الدعوة أن نوقظ نائما أو ننبه غافلا كما يفعل المؤذن في إشعار الناس أن وقت الصلاة قد حان .

إننا لم ندع يوما أننا خير من غينا .. هذا إلى جانب أننا لا نتهم أصحاب الدعوات الأخرى أنهم كذا أو كذا ولكننا نناقش هذه الدعوات نقاشا موضوعيا على أساس من المعقول .

إن هذه المذكرات وخاصة ما تعلق منها بدعوة الإخوان المسلمين كلها مما تعلمته على يد إمامنا الشهيد وما علق بالذهن من محاضراته ورسائله لم أرجع فيها إلى مراحل ولكني أردت أن تكون اختبارا لما حصلته من إمام هذه الدعوة وهل لا تزال لتلك الحصيلة آثارها وبصماتها على الذهن والترصف أم باعدت الأيام بيني وبينها ؟

ورأيت أن تسجيل هذه الملاحظات ضروري وإن كنت لم أتقيد في مذكراتي بنظام رتيب فقد أتحدث عن أمر ثم أعود إليه في مكان آخر إذا دعت المناسبة التي تربط بينه وبين تلك الذكريات وجل من لا ينسي ولا يغفل ولا تغفل عنه شاردة أو واردة والخطأ أمر مفروض فكل ابن آدم خطأ وخير الخطائين التوابون وإني لأشكر من قلبي من يلفتني إلى ما غاب عني أو تصحيح خطأ وقعت فيه عن غير قصد ولا إصرار عليه .

انتشار الدعوة

بدأ إمامنا الشهيد دعوته بالتنقل بين " القهاوي" والمحلات العامة يحمل تحت إبطه سبورة صغيرة يستعين بها على شرح ما يريد ونظرا لما وهبه الله من أسلوب محبب إلى القلوب عند الكلام عن الدعوة تزاحم عليه أصحاب المقاهي بالإسماعيلية كل يريد أن يكون الحديث في مقهاه .

وكانت هذه الوسيلة تجري يوميا بعد الفراغ من عمله في المدرسة وظن الناس في أول الأمر أنه واعظ من الذين ألفوهم وإن كان يتميز عنهم في العرض والأسلوب وحتى شركة قنال السويس على ما كان فيها من الدعاة المفكرين خدعوا بهذا المظهر في أول الأمر.

وساهمت الشركة في إقامة مسجد للجماعة بالإسماعيلية بملحقاته من مدرسة أمهات المؤمنين وغيرها من المؤسسات الاجتماعية وتحضرني حادثة طريفة إذ كان أحد الإخوان يعمل سائقا بالشركة وكانت له دراجة يحضر بها يوميا من منزله إلى مقر الشركة قبل الموعد المحدد للعمل , فكان موضع تقدير من رؤسائه , ثم بدأ هذا الأخ يتأخر عن موعد العمل فدهش رئيسه وسأله عن سبب تغيير عادته الدقيقة..

فقال الآخر : كانت لى دراجة أحضر بها قبل الميعاد ولكني دعيت للمساهمة في عمل من أعمال الإخوان فبعت الدراجة وقدمت ثمنها لفضيلة المرشد وأنا اليوم أحضر على قدمي فاضطر للتأخر عن موعدي .

وقدر له رئيسه هذه الأريحية فاشتري له دراجة جديدة وعاد الأخ إلى المحافظة على مواعيده الدقيقة ولعل هذا الحادث يدلنا على مدي اقتناع الإخوان بالفكرة والثقة في مشدها والاستجابة الفورية لكل ما كان يدعوهم إليه من الإنفاق في سبيل الله .

ثم بدأ الاجتماع بالإخوان في المسجد الجديد الذي كان يزدحم ليليا برواده للاستماع إلى محاضرات فضيلة المرشد فلما انتقل إلى القاهرة بدأت الاجتماعات في مساء كل ثلاثاء بالمركز العام الذي أذكر انه تنقل ما بين منزله أولا ثم إلى دور أرضي في حي السيدة زينب ثم إلى لوكاندة البرلمان في العتبة الخضراء ثم استقر درس الثلاثاء أخيرا في المركز العام في الحلمية الجديدة.

في هذه الفترة بدأ طلبة الجامعة ينتبهون إلى هذا الحديث الخطير فكان الجامعيون منهم يبثون الدعوة في كليات الجامعة بين زملائهم الذين بدأ عددهم يتزايد مع مرور الأيام إلى أن وصل الرأي العام الإسلامي في الجامعة إلى أن ينجح كل أو أغلبية مرشحي الطلبة الإخوان في اتحادات الطلبة الأمر الذي أزعج الحكم والأحزاب التي أحست أن الشعب أخذ ينحو ناحية جديدة بعيدة عن فكرة الأحزاب.

وبدأت مقاومتهم للإخوان وفكرة الإخوان وفي الوقت نفسه بدأ الفاهمون في القرى والأرياف ينتقلون بين أهليهم وأصدقائهم يبشرون بالنور الجديد فقامت شعب الإخوان في قرية بعد قرية ثم تتالت المناطق ومراكز الجهاد في كل أنحاء القطر.

وهنا أدرك أعداء الإسلام خطورة هذه الدعوة عليهم وبدأ التدبير السيئ الخبيث ضد هذه الجماعة الطاهرة وكل يحاول القضاء على هذا المد الجديد لكنها محاولات باءت بالفشل وكان الطالب الجامعي أو الأخ الداعي في المدينة والقرى إذا ما استوثق من صدق إيمان محدثه يقوم بتوجيه الدعوة إليه للقاء فضيلة المرشد ليقدم بيعته على العمل في سبيل الله لا في سبيل حسن البنا أو جماعة الإخوان المسلمين ..

بدليل أن البيعة كانت تختتم مع المرشد بأنه لا سمع له ولا طاعة إذا أمر بمعصية مما يقطع كما قلت بأننا لم نبايع شخصا لذاته ولكن كنا نبايع الله عزوجل ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم