فقه الدعوة الفردية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
فقه الدعوة الفردية
فقه الدعوة الفردية في المنهج الإسلامي

بقلم:الدكتور / السيد محمد نوح

تمهيد

حول " حقيقة الدعوة إلي الله تعالي علي وجه العموم "

لعل من نافلة القول أن نقدم بين يدي الحديث عن " الدعوة الفردية في المنهج الإسلامي " تمهيدا حول "

حقيقة الدعوة إلي الله تعالي علي وجه العموم " ، وذلك علي النحو التالي :

أولا : ماهية الدعوة إلي الله تعالي

الدعوة لغة : هي الصياح أو النداء والطلب ، تقول : دعوت فلانا ، أي صحت به واستدعيته ، وقد تتعدي بحرف الجر ( إلي ) فيراد بها الحث علي فعل الشىء ، تقول : دعاه إلي الشىء تعني : حثه علي قصده ، ودعاه إلي القتال ، ودعاه إلي الصلاة ، ودعاه إلي الدين ، وإلي المذهب : حثه علي اعتقاده .

وأما شرعا : فقد وردت فيها عدة تعاريف ، نذكر منها :

  • تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية : إذ يقول : " الدعوة إلي الله هي الدعوة إلي الإيمان به ، وبما جاءت به رسله ، بتصديقهم فيما أخبروا به ، وطاعتهم فيما أمروا " .
  • وتعريف الدكتور السيد محمد الوكيل ، إذ يقول : ( الدعوة إلي الله هي جمع الناس علي الخير ، ودلالتهم علي الرشد ، بأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، قال تعالي : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِوَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
  • وتعريف الشيخمحمد الصواف ، إذ يقول : ( الدعوة هي رسالة السماء إلي الأرض ، وهي هدية الخالق إلي المخلوق ، وهي دين الله القويم ، وطريقه المستقيم ، وقد اختارها الله وجعلها الطريق الموصل إليه سبحانه : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ) ، ثم اختارها لعباده ، وفرضها عليهم ، ولم يرض بغيرها بديلا عنها : ( ًوَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) .
  • وتعريف الشيخ فتحي يكن ، إذ يقول : ( الدعوة هدم وبناء ، هدم جاهلية بكل صورها وأشكالها ، سواء كانت جاهلية أفكار أم جاهلية أخلاق ، أم الجاهلية نظم وشرائع ، ومن ثم بناء المجتمع المسلم علي قواعد الإسلامي في شكله ومحتواه ، في مظهره وجوهره ، في نظام حكمه وأسلوب عيشه ، في تطلعه العقدي للكون ، والإنسان ، والحياة " .
  • وتعريف الدكتور توفيق الواعي ، إذ يقول : ( المعني الذي تحمله الدعوة الإسلامية وتحاول تبليغه للناس هو : جمع الناس علي الخير ، ودلالتهم علي الرشد بتنفيذ منهج الله علي الأرض قولا وعملا ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، وإرشادهم إلي الطريق المستقيم ، والصبر والمصابرة علي أعباء البلاغ ، مصدقا لقوله تعالي : (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) .

هذه تعاريف خمسة للدعوة ، وكلها تلتقي حول مضمون مهم ، جدا ، هو أن الدعوة ليست مقصورة علي مجرد التعريف والبلاغ ، بل قد تعدى ذلك إلي البناء والتكوين .

والذي نقوله في هذا المقام : إن الدعوة في حق الجاحدين والمعاندين والمُصرِين تعريف وبلاغ ، وفي حق المستجيبين من أصحاب الفطر السليمة والعقول الراشدة بناء وتكوين ، علي معني أنا إذا حاولنا مع الجاحدين والمصرين والمعاندين البناء والتكوين بعد التعريف والبلاغ ، فقد تجاوزنا بالدعوة حدودها ، وعرضناها للعبث والضياع ، وإذا وقفنا بها مع المستجيبين من أصحاب الفطر السليمة والعقول الراشدة عند حد التعريف والبلاغ ، ولم نتخط ذلك إلي البناء والتكوين ، فقد حَجٌَرْنا واسعا ، وعرضناها مع أولئك إلي الدمار والزوال .

ولعل ذلك هو ما ينطق به قوله سبحانه : (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ، (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ) ، (÷ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ) ، (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) .

ثانيا : مشروعية الدعوة إلي الله تعالي

والدعوة إلي الله تعالي - علي النحو الذي شرحنا - مشروعة علي سبيل الفرض والإيجاب ، لا يصح إهمالها ، أو التواني والتفريط فيها :

1 - للأوامر الواردة في هذا الشأن ، مباشرة أو غير مباشرة ، صريحة أو ضمنية .

فمن الأوامر المباشرة : قوله تعالي : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )

وقوله صلي الله عليه وسلم : " ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسي أن يبلغ من هو أوعى له منه " .

" بلغوا عني ولو آية " ، إذ هذه جميعا أوامر ، والأمر إذا أطلق يفيد معني الوجوب والإلزام ، ما لم تكن قرينة تصرفه عن الوجوب إلي غيره ، ولا قرينة هنا .

ومن الأوامر الصريحة غير المباشرة قوله تعالي : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ، (ِç وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ) ، (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) .

إذ هذا خطاب له صلي الله عليه وسلم وخطابه صلي الله عليه وسلم خطاب لأمته ما لم تقم قرينة تدل علي أن هذا الخطاب من خصوصياته صلي الله عليه وسلم ولا قرينة هنا ، بل إن قيام المسلمين بعده صلي الله عليه وسلم - من عهد أبو بكر إلي قريب جدا - بهذا الواجب ، لهو القرينة علي أن الخطاب يتناول الأمة ، ويكون ذلك من باب حفز همم الأمة وعزائمها للقيام بهذا الواجب ، وعدم التواني أو التفريط فيه لحظة واحدة ؛ لأنه إذا نبينا وإمامنا صلي الله عليه وسلم وهو الذي لا يتأني منه إهمال أو تقصير أو تفريط في هذا الواجب قد أمر به ، فكيف بنا نحن المسلمين الذين شأننا التقصير ؟ إن الأمر في حقنا إذن يكون أو كد وأوجب .

ومن الأوامر الضمنية ، قوله تعالي : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) ، (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) إذ الشهادة تقتضي البلاغ ، كما تقتضي الأسوة الطيبة ، فتكون واجبة مفروضة تبعا لوجوب وفرضية الشهادة

وقوله تعالي : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) .

وقوله صلي الله عليه وسلم : " نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه ، فرب حامل فقه إلي من هو أفقه منه ، ورب حامل فقه ليس بفقيه " .

إذ الكلام هنا ، وإن كان مسوقا بصيغة الخبر ، لكنه يحمل في طياته معني الأمر بناء علي القاعدة الأصولية من أن : " كل فعل كَسْبي عظمٌَه الشرع ، أو مدحه ، أو مدح فاعله لأجله ، أو فرح به ، أو أحبه ، أو أحب فاعله ... إلخ - فهو مأمور به " .

كأنه قال هنا : آمنوا بالله ورسوله ، وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ، يكن ذلك خيرا لكم إن كنتم تعلمون ، يغفر لكم ذنوبكم ...

وقال : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر وآمنوا بالله تكونوا خير أمة أخرجت للناس .

وكأن النبي صلي الله عليه وسلم قال في حديثه هنا : اسمعوا حديثنا واحفظوه وبلغوه تظفروا بالنضرة والحيوية والشباب ، فرب حامل فقه إلي من هو أفقه منه .

وإنما سبق هذا الكلام هكذا لفتة إلي أن المؤمن لكمال إيمانه ، ولرقة إحساسه وشعوره ، ليس بحاجة إلي أمر صريح مباشر ، وإنما حسبه أن يعلم - ولو من طرف خفي - أن هذا العمل يرضي عنه الله ورسوله ، فيبادر إلي الامتثال والتنفيذ ، ويأتي القرآن والحديث ليخبرا عنه بصيغة الخبر المقرون بالثناء والمدح فتكون هذه من خصائص المؤمنين دون من عداهم من الناس .

2 - ولأن رسالته صلي الله عليه وسلم وهو خاتم الأنبياء والمرسلين إلي قيام الساعة ، كما قال تعالي :

(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) ، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ، (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ، (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) .

وكما قال هو صلي الله عليه وسلم عن نفسه : " وكان النبي يبعث إلي قومه خاصة ، وبعثت إلي الناس عامة "

والناس جميعاً مخاطبون أن يعملوا بها وينزلوا علي حكمها : ((# qمèخ7¨?$#ur أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) .

ومقتضي عالمية الرسالة إلي قيام الساعة ، مع هذا الخطاب ، أن تكون الدعوة إليها كذلك إلي قيام الساعة ، فإن الله رحمة منه بعباده ما كان ليؤاخذهم قبل البيان والبلاغ ، كما قال سبحانه : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) ، (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ) .

وقد بين النبي صلي الله عليه وسلم في حياته بكل الأساليب والوسائل التي أتيحت له ، من الكلمة شفاها ومكاتبة ، مباشرة أو بواسطة رسله ، وكذلك بالسلوك التطبيقي ، إذ هو الأسوة والقدوة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ، وبين أصحابه من بعده ، وتتابع المسلمون علي ذلك ، ويجب أن يبقي الأمر علي هذا النحو ما بقيت الحياة فما يأتي زمان وما بعده شر منه ، والشر لا يواجه بالسكوت وإلا لتحولت الأرض إلي بؤرة من الشر والفساد ، كما قال سبحانه :( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) ، (tںwِqs9ur دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ) ، وإنما يواجه بالإيجابية التي تقضي عليه ، أو تحصره علي الأقل في دائرة محدودة لا يتعداها .

3 - وللوعيد الشديد الوارد في شأن من يكتمون العلم لا يبينونه للناس : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ، (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ) ، (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) ، والخروج من هذا الوعيد يقتضي القيام بواجب الدعوة إلي الله تعالي .

4 - ولأن التمكين لمنهج الله في الأرض لتحقيق الفلاح في الدنيا والآخرة ، وحفظ حق الحياة علي الناس من حولنا واجب ، والدعوة طريق لابد منها لتحقيق الواجب ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، كما يقول الأصوليون .

5 - ولإجماع المسلمين من عصر الصحابة إلي يومنا هذا علي وجوب الدعوة إلي الله تعالي ، حتى وإن قصرت الهمم ، وضعفت العزائم عن القيام بهذا الواجب .

ثالثا : أساليب الدعوة إلي الله تعالي ووسائلها في إجمال

وأساليب الدعوة إلي الله تعالي ووسائلها تتناول كل مناشط الحياة ، ذلك أن المسلم بمقدوره أن يتخذ من كل عمل يؤديه ، ومن كل نشاط يقوم به ، سبيلا إلي دعوة الناس إلي الله ، وهدايتهم إلي صراطه المستقيم ، فالطبيب ، والمهندس ، والفلكي ، والجغرافي ، والمؤرخ ، والصيدلاني ، والزارع ، والتاجر ، والصانع ، وغيرهم وغيرهم ... يمكنهم - بعملهم هذا - أن يكونوا دعاة إلي الله يتقرب به إلي الله أولا ، وينفع به أمته ثانياً ، وأحْسَنَ معاملة الناس في نفس الوقت .

ومنطلق هذه القاعدة : أن كل واحد من الناس له عمله اليومي الذي يعيش منه ، وينفع به أمته ، والدعوة إلي الله واجب علي كل مسلم وجوباً عينيا كما قدمنا .

ولا سبيل أن يهضم المسلم هذه المعادلة وأن يستوعبها ، إلا إذا كانت الحياة كلها - من أولها إلي آخرها - دعوة إلي الله ، وهداية إلي صراطه المستقيم .

وقد استوعب المسلمون الأوائل ذلك ، فكانوا يدعون الناس إلي الإسلام من خلال عملهم اليومي ، تجارة أو زراعة أو صناعة .

حتى أسلم علي أيديهم خلق كثير في الصومال ، وفي زيلع ، وفي بربر ، وفي صومع ، وفي أرتيريا ، وفي الحبشة ، وفي اندونيسيا ، وجنوب شرق آسيا ، وفي جهات كثيرة من العالم ، إذ قرر هؤلاء : ( أن الضعيف مأخوذ دائماً بتقليد القوى وأتباعه ، ذلك أن القوة في ذاتها دعوة إلي إتباع فضائل من يتحلي بها ، ولأن ضعف القلوب يقتبس من أسباب القوة عند الغالب " .

وعليه ، فإن كل مسلم بنبوغه في عمله ، وتفوقه فيه إلي حد القوة إنما يكون داعية إلي غيره ، ومؤثرا فيه بأقرب وأيسر السبل ، وكذلك ما هو معروف عن الإنسان من أنه إذا أحيط به لا يستطيع الفكاك أو الإفلات ، ولا يتم ذلك من خلال تحويل كل مناشط الحياة إلي أن تكون دعوة إلي الله ، وهداية إلي الخير ، وقد فطنت الجاهلية المعاصرة إلي هذا المنطلق فحاولت توظيف الحياة إلي الدعاية والإعلان والتربية علي باطلها ، فلا تكاد تري أو تسمع أو تلمس أو تشم أو تتذوق شيئاً في هذه الحياة إلا وهو موظف لهذا الغرض . وقد لفت المولي سبحانه وتعالي النظر إلي هذا فقال : (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا ) .

رابعاً : مسؤولية الدعوة إلي الله تعالي

وإذا كانت الدعوة إلي الله تعالي واجبة ومفروضة علي النحو الذي شرحنا ، فإنها مسئولية المسلمين جميعاً ، يعني مطلوبة من كل المسلمين ، كلٌ حسب طاقاته وإمكاناته ، ولا يعفي أحد من القيام بهذا الواجب ، أو هذا الفرض ، للأدلة التي قدمناها وهي :

1 - قوله تعالي : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) ، ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) ، إذ الشهادة علي الناس تقتضي البلاغ لهم ؛ ليظفروا بالثناء والمدح إن التزموا ، أو لتلزمهم الحجة إن أعرضوا أو قصروا ، وتمام البلاغ إنما يكون بتضافر كل الجهود الفردية والجماعية ، وذلك هو العموم أو عينية الوجوب .

2 - وقوله تعالي : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ، إذ الآية تفيد العموم أو الوجوب العيني ، سواء أكانت " من " للبيان أم للتبغيض .

أما كونها للبيان فواضح ، إذ المعني - كما يقول الطبري - : ( ولتكن منكم أيها المؤمنون أمة أو جماعة إلي الخير ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ) ، وكما يقول ابن كثير : ( والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن ، وإن كان ذلك واجباً علي كل فرد من الأمة بحسبه ، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " من رأي منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فغن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " .

وفي رواية : " وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " ) .

يقول الشيخ محمد عبده : ( جملة القول أن الدعوة إلي الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فرض حتم علي كل مسلم ، كما تدل الآية في ظاهرها المتبادر ، وغيرها من الآيات كقوله تعالي : ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ) وكذلك عمل الرسول صلي الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، وكون هذا حفاظا للأمة وحرزا ظاهر ، فإن الناس إذا تركوا دعوة الخير ، وسكت بعضهم لبعض علي ارتكاب المنكرات ، خرجوا عن معني الأمة ، وكانوا أفذاذا متفرقين لا جامعة لهم ، ولهذا ضرب الرسول صلي الله عليه وسلم للمداهن مثل راكب في سفينة يطوف علي جماعة معه بماء وكل ينفر مما معه

فقال لهم : إني في حاجة إليه وذهب ينقر في السفينة ، فإن أخذوا علي يده نجوا ونجا معهم ، وإلا هلك وهلكوا جميعاً ، ففشوا المنكرات مهلكة للأمة ) : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) فلابد للمرء في حفظ نفسه ومن معه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لاسيما أمهات المنكرات المفسدة للاجتماع ، كالكذب والخيانة والحسد والغش ، فهذا ليس من فروض الكفاية التي يتواكل فيها الناس كصلاة الجنازة ، إذ لا يجب علي كل من علم أن هنا ميتا أن ينتظر غسله ليصلي عليه ، بل يكفي أن يعلم أنه يوجد من يصلي عليه ، ولكنه إذا رأي منكرا وجب عليه أن ينهي عنه ، ولا ينتظر غيره لأنه تغير علي رأيه ) .

وأما كونها للتبعيض فمعناه : أنتم أيها المؤمنون مكلفون جميعاً بهذا الأمر وعليكم في سبيل تطبيق هذا التكليف أن تختاروا وأن تنتخبوا بعضا أو طائفة منكم لتقوم بهذا الواجب بل عليكم أن تؤازروها بتوفير حاجياتها التي تعينها علي أداء مهمتها ، وبالوقوف من ورائها ، وحمايتها من سطوة كل جبار عنيد ، فالكل إذاً في دعوة ، ولكن حسب طاقاته وإمكانياته التي وهب الله عز وجل .

يقول الشيخ محمد عبده : ( بقي علينا بيان معني الآية علي القول بأن " من " للتبعيض ، وتقدير الكلام : ولتكن منكم أمة متميزة تقوم بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمخاطب بهذا جماعة المؤمنين كافة ، فهم المكلفون أن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة فههنا فريضتان :

إحداهما : علي جميع المسلمين

والثانية : علي الأمة التي يختارونها للدعوة ، ولا يفهم معني هذا حق الفهم إلا بفهم معني لفظ الأمة ، وليس معناه الجماعة كما قيل ، وإلا لما اختير هذا اللفظ ، والصواب : أن الأمة أخص من الجماعة ، فهي الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمنهم ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنية الشخص ، والمراد يكون المؤمنين كافة مخاطبين بتكوين هذه الأمة لهذا العمل ، هو : أن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل في إيجادها وإسعادها ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة ، حتى إذا رأوا منها خطأ أو انحرافا أرجعوها إلي الصواب ، وقد كان المسلمون في الصدر الأول - لاسيما زمن أبي بكر وعمر وعلي - علي هذا المنهج من المراقبة للقائمين بالأعمال العامة ، حتى كان الصعلوك من رعاة الإبل يأمر مثل عمر بن الخطاب - وهو أمير المؤمنين - وينهاه فيما يري أنه الصواب ، ولا بدع فالخلفاء علي نزاهتهم وفضلهم ليسوا بمعصومين ، وقد صرح عمر بخطئه ورجع عن رأيه غير مرة ) .

3 - ولأن أساليبها ووسائلها لا تقتصر علي مجرد الكلمة ، بل يضم إليها السلوك علي النحو الذي ذكرنا آنفا ، غاية ما في الأمر أنها إذا كانت بالكلمة فلابد من إتقان أساليبها ووسائلها ؛ لتتحقق البصيرة والحكمة اللذين عليهما يتوقف النجاح والصلاح في الدعوة .

خامسا : فوائد الدعوة إلي الله تعالي وثمراتها

وللدعوة إلي الله تعالي فوائد وثمرات في الدنيا والآخرة ، نجملها فيما يأتي :

1 - استمطار :العون والمدد الرباني في معركتنا مع الباطل أو مع الجاهلية ، وذلك أننا بحولنا وقوتنا أمام جحافل وجيوش ودعاية هؤلاء ضعفاء ، ولكن بحول الله وقوته أقوياء ، وقد جعل الله للإمداد بهذا العون ، وذلك المدد ، سننا ونواميس لا تتخلف ، وكان من بين هذه السنن وتلك النواميس الطاعة والاستقامة :

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) ، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) .

والدعوة هي رأس الطاعة والاستقامة ؛ لأنها تتعدي النفس إلي الغير وذلك دليل كمال الإيمان : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " إذن فالحاجة إلي الدعوة ماسة وملحة ، حتى نظفر بتأييد الله وعونه ونصره .

2 - وتنبيه الغافلين: وانتشال الغارقين من الناس ، ولاسيما المسلمين ، فإن الإنسان خلق - يوم خلق - فطرة بيضاء نقية ، لديها استعداد للخير واستعداد للشر : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) .

والبيئة التي ينشأ فيها الإنسان أو التي تحيط به ، هي التي تساعد في صنعه علي شاكلتها ، فإن كانت خيرة كان خيراً ، وإن كانت شريرة كان شريراً : " المرء علي دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل " والناس اليوم - ولاسيما المسلمون - يعيشون في أجواء ساد فيها العفن وسقوط كثيرين ، وهؤلاء لهم علينا حق التذكير والعناية والرعاية ، لعلهم يتوبون أو يذكرون سيما ، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ، وما ندري ؟ فلعله يكون من بين هؤلاء من يكون سببا في فتح ونصر قريبين للمسلمين ، لقد كانوا يقولون عن عمر بن الخطاب : لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب .

وهداه الله وأسلم ، وكان إسلامه فتحاً وبركة ويمنا ونصراً للمسلمين بل كان باب حماية لهم لم يكسر ، ولم يلج منه العدو إلا بعد موته .

3 - وإقامة :الحجة علي المُصِريُن والمعاندين ، فإن نفرا من الناس في فطرتهم عوج والتواء ، وإصرار وعناد ، وأمثال هؤلاء لا يفيقون إلا في وقت الشدائد والمحن ، وواجبنا نحوهم التذكير والإنذار والتخويف ، حتى إذا نزلت الشدائد ، وكان العقاب ، لا يقولون : لو وجدنا من أرشدنا ودلنا علي الطريق ، لكُنٌَا أهدي الناس ، وأقومهم قيِلا ؟ ومن ثم يتوجهون إلينا بالتأنيب والتوبيخ والعتاب ، ويحاجون الله ، وله سبحانه الحجة البالغة ، ولذا قال عن حكمة بعثه رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي أهل الكتاب : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، وقال عن حكمة إرسال الرسل عموماً : (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) .

وإلي هذه الفائدة الثانية والثالثة أشار رب العزة في كتابه قائلا : (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .

4- وتكوين الرأي العام السليم الحر: الذي له دور كبير في حراسة وحماية آداب الأمة وفضائلها وأخلاقها وحقوقها ، وبناء شخصية وسلطان لها ، وهو أقوى من القوة ، وأنفذ من القانون ، بل والضغط علي هذه الجاهلية ، أو علي هذا الباطل حتى يسلم أو يزول ، أو علي الأقل يحجم دواعي الشر والإثم فيه ، فيعمل لهذا الرأي

- قبل أن يقدم علي أي خطوة تطاول أو هدم

- ألف حساب وحساب : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) .

5 - وإننا بالدعوة يحسن سلوكنا: وتستقيم أخلاقنا ، فنؤثر في عامة الناس من ناحية ، ونستمطر عون إخواننا العاملين معنا علي الطريق من ناحية أخري ، فإن تأثير السلوك الحسن والخلق القويم ، أوقع وأفعل في النفس من تأثير آلاف الخطب والمواعظ .

ولعل هذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالي : (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) .

6 - وإننا بالدعوة نفوز غداً بالجنة والرضوان : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

7 - وإننا بالدعوة ننجو من العقاب في الدنياوالآخرة:أو في الآخرة فقط ، فإن التقصير في القيام بواجب الدعوة يؤدي إلي انتشار الشر والفساد ، الذي يأتي علي الأخضر واليابس ، ولا يسلم منه أحد ، ويكون سببا في العقاب ، والنهوض بهذا الواجب يكون سببا في النجاة علي حد قوله تعالي : (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) .

وعلي حد قوله صلي الله عليه وسلم في حديثه لعائشة : " يغزو جيش الكعبة ، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم " قالت : يا رسول الله ، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم ؟ قال : " يخسف بأولهم وآخرهم ، ثم يبعثون علي نياتهم " وقد ضرب صلي الله عليه وسلم مثلا لهذه الفائدة في قوله : " مثل القائم علي حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا علي سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا علي فوقهم ، فقالوا : لو أنٌَا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا ؟ ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ، وإن أخذوا علي أيديهم نجو ونجوا جميعا " .

8 - وأن الدعوة هي أساس بناء الشخصية المسلمة الجامعة لكل خصال الخير :، والمتأبية علي كل خصال الشر ، والمستأهلة لعون الله وتأييده ونصره ، وبمعني آخر : الشخصية المسلمة التي يساوي فيها الواحد أمة من البشر ، أو الشخصية المسلمة القرآنية التي شعارها في هذه الحياة : (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) ، والتي هي ستار لتنفيذ قدر الله في الأرض ، وإذ بالدعوة يكون التبصير بالعيوب فيسهل العلاج ، ويكون الانتشال من الوهدة إلي القاع لذوي الهمم الفاترة والعزائم الضعيفة والإرادات النازلة ، وتكون الخبرات والتجارب ، ويكون القضاء علي الفراغ ، ومقاومة الفتور واليأس والقنوط ، ويكون تفجير الطاقات ، وبعث القوى والإمكانات ، والصبر والتحمل ... إلخ .

9 - وأن الدعوة هي طريق الوحدة بين المسلمين : لأنها تثير في النفس الإحساس بمعاني الأخوة والتكامل والتعاون علي البر والتقوى ، واهتمام المسلمين بعضهم ببعض ، وكلها معان تؤدي إلي الترابط والوحدة بين المسلمين ، وبالجملة فإننا لا يمكن أن نُمكٌَن لمنهج الله في الأرض من جديد إلا بالدعوة ؛ إذ هي تساعد علي إيجاد من يأتي بالنصر ، بل من يحرس ويحافظ علي هذا النصر ، والإتيان بالنصر شاق ، وحماية وحراسة هذا النصر أشق ، علي أن لنا في منهج رسول الله صلي الله عليه وسلم - حين مكٌن لدين الله في الأرض أول مرة

- الأسوة والقدوة : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) ، حيث بدأ يجاهد بالدعوة الفردية والتربية ، وأطال النفس في ذلك ، حتى إذا استقامت النفوس وطهرت القلوب ، لم يحتج إلي أي لون من المجاهدة ، وفي ذلك يقول الأستاذ أبو الحسن الندوى

جزاه الله خيرا : ( مكث رسول الله صلي الله عليه وسلم ثلاث عشرة حجة يدعو إلي الله وحده ، والإيمان برسالته واليوم الآخر في كل صراحة ، لا يكني ، ولا يلوح ، ولا يلين ، ولا يستكين ، ولا يحابي ، ولا يداهن ، ويري في ذلك دواء لكل داء ، وقامت قريش وصاحوا به في كل جانب ، ورموا عن قوس واحدة ، وأضرموا البلاد عليه نارا ليحولوا بينه وبين أبنائهم ، وإخوانهم ، فتقدم فتية من قريش لا يستخفهم طيش الشباب ، ولا يستهويهم مطمع من مطامع الدنيا ، وإنما همهم الآخرة ، وبغيتهم الجنة ...

فما كان من قريش إلا ما توقعوه ، فقد نثرت كنانتها ، وأطلقت عليهم كل سهم من سهامها ، فما زادهم كل هذا إلا ثقة ، وتجلدا ،وقالوا : (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ) ، ولم يزدهم هذا البلاء والاضطهاد في الدين إلا متانة في عقيدتهم ،وحمية لدينهم ، ومقتا للكفر وأهله ، وإشعالا لعاطفتهم ، وتمحيصا لنفوسهم ، فأصبحوا كالبٌَتْر المسبوك ، واللٌَجَيْن الصافي ، وخرجوا من كل محنة خروج السيف بعد الجلاء .

هذا ، والرسول صلي الله عليه وسلم يغذي أرواحهم بالقرآن ، ويربي نفوسهم بالإيمان أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم عن طهارة بدن ، وخشوع قلب ، وخضوع جسم ، وحضور عقل ، فيزدادون في كل يوم سٌَموٌ روح ، ونقاء قلب ، ونظافة خلق ، وتحريرا من سلطان الماديات ، ومقاومة الشهوات ، ونزوعا إلي رب الأرض والسموات ... ولم يزل الرسول صلي الله عليه وسلم يربيهم تربية دقيقة عميقة ، ولم يزل القرآن يسمو بنفوسهم ، ويزكي جمرة قلوبهم ، ولم تزل مجالس الرسول صلي الله عليه وسلم تزيدهم رسوخا في الدين ، وعزوفا عن الشهوات ، وتفانيا في سبيل المرضاة ، وحنينا إلي الجنة ، وحرصا علي العلم ، وفقها في الدين ، ومحاسبة للنفس ... وانحلت العقدة الكبرى

- عقدة الشرك والكفر - فانحلت العقد كلها ، وجاهدها الرسول صلي الله عليه وسلم جهاده الأول ، فلم يحتج إلي جهاد مستأنف لكل أمر ونهي ، وانتصر الإسلام علي الجاهلية في المعركة الأولي ، فكان النصر حليفه في كل معركة ... حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم ، بل حظ نفوسهم من نفوسهم ، وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيرهم ، وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة ، وفي اليوم رجال الغد ، لا تجزعهم مصيبة ، ولا تبطرهم نعمة الله ، ولا يشغلهم فقر ، ولا يطغيهم غني ، ولا تلهيهم تجارة ، ولا تستخفهم قوة ، ولا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم ، قوٌامين بالقسط شهداء لله ولو علي أنفسهم أو الوالدين والأقربين ، وطأ لهم أكناف الأرض ، وأصبحوا عصَمَة للبشرية ، ووقاية للعالم ، وداعية إلي دين الله ، واستخلفهم رسول الله صلي الله عليه وسلم في عمله ، ولحق بالرفيق الأعلى قرير العين من أمته ورسالته ) .

الفصل الأول

ماهية الدعوة الفردية وصورها ومشروعيتها

ونتحدث في هذا الفصل عن " الدعوة الفردية " من جانبين :

الجانب الأول : ماهية الدعوة الفردية وصورها

ماهيتها : ولعل أبسط وأوضح ما يقال في ماهية أو في تعريف الدعوة الفردية أنها : التوجه بالدعوة أو الخطاب إلي المدعو علي انفراد ، أو مع جمع قليل من الناس لهم صفة الخصوص دون العموم .

صورها : وتؤدي الدعوة الفردية علي شكلين أو نوعين أو صورتين .

الأولي :دعوة فردية تصدر من فرد ينتمي إلي جماعة

وخلاصتها : أن يقوم كل فرد من أفراد هذه الجماعة - بصفتها تدعو إلي الله تعالي - بواجب الاحتكاك المقصود الهادف بعناصر جديدة في محاولة لجذبها إلي الفكرة أولا ، وإلي الحركة أو الجماعة ثانيا .

الثانية : دعوة فردية تصدر من فرد ليس عضوا في جماعة وخلاصتها :

أن يقوم المسلم بصفته فردا من الأمة بواجب الدعوة إلي الله ، عن طريق الخطب والمحاضرات والمقالات والتأليف ، دون أن يكون لهذه الدعوة سند جماعي أو تنظيم حركي .

لا شك أن النوع الأول أجدى وأنفع لأنه جهد يضم إلي جهود أخري فتكون الثمرة الطيبة ، مع قلة التكاليف وقصر الطريق ، أما النوع الثاني - وهو الذي يقوم به الوعاظ والخطباء والكتاب - فإنه علي كثرة الجهد المبذول فيه قليل الأثر ، ولا يوصل إلي ما يحرص عليه المسلمون المخلصون ، وهو إقامة حكم الله في الأرض ؛ بدليل كثرة الخطب والمواعظ التي تلقي في العالم الإسلامي كل يوم جمعة من علي المنابر ، ويسمعها الملايين من البشر ، منذ سقوط الخلافة الإسلامية وإلي الآن ، والنتيجة ماذا ؟

وهذا لا يعني أننا نحتقر جهد هؤلاء وننقص من أقدارهم ، كيف وفيهم أناس يدعون إلي الله بحماس وصدق وإخلاص ، ولا يدخرون جهدا ، ولا يضيعون لحظة بغير عمل ؟ وإنما الذي نعنيه أن جهد هؤلاء مع ضخامته لا يتناسب مع حجم الثمرة التي تجني ، والسبب أنها جهود مبعثرة لا تربطها رابطة ولا ينتظمها شمل .

الجانب الثاني : مشروعية الدعوة الفردية

وهذه الدعوة بهذا التحديد مشروعة :

أ - لورودها في كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلي الله عليه وسلم ففي كتاب الله يقول الحق تبارك وتعالي : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ، (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) ،( وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ ) ، (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .

وفي السنة يقول النبي صلي الله عليه وسلم : " من دل علي خير فله مثل أجر فاعله " ، " من دعا إلي هدي كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلي ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " ، " من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " ، " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي ، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل .

والاستدلال بالآيات والأحاديث واضح وخلاصته : أن صيغ الخطاب الفردية التي ورد بها التكليف القرآني والنبوي هنا تؤكد المسئولية الفردية في حمل أعباء الدعوة الإسلامية .

ب - ولبدء الأنبياء مهمتهم ورسالتهم في الأرض بهذه الدعوة الفردية ، وبهدي هؤلاء الأنبياء اقتدي نبينا محمد صلي الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل : (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ) .

الفصل الثاني

فوائد الدعوة الفردية وخصائصها

وللدعوة الفردية فوائد وخصائص نجملها فيما يأتي :

1 - مخاطبة المدعو عن قرب وعلي انفراد ، الأمر الذي ييسر مفاتحته في كثير من المسائل والقضايا التي لا يمكن تناولها علي الملأ ، وفي جمع كثير من الناس .

2 - المواجهة بين الداعي والمدعو ، الأمر الذي يحمل علي جمع همته ونشاطه ، لشعوره بأنه وحده المقصود بالحديث والحوار .

3 - دوامها واستمرارها ، ولاسيما في أوقات الشدائد وساعات التضييق .

4 - كثرة التكرار ، فقد تقع في اليوم الواحد عدة مرات .

5 - سهلة ميسرة ، يقوم بها كل الناس ولا تحتاج إلا المجهود الذهني وترتيب الفكرة وأسلوب الحوار .

6 - مستورة عن أعين الناس ، ولاسيما الأعداء ، الأمر الذي يحمي من الرياء والسمعة من ناحية ، ويوفر لها الأمن من ناحية أخري .

7 - تخرج دعائم أو أسس وركائز العمل ؛ نظرا لطول الفترة التي تقضي معهم قبل أن يضعوا أقدامهم علي الطريق ، وقبل أن ينتظموا في صفوف الحركة .

8 - تساعد علي اكتشاف الطاقات والمواهب ، بحيث يوضع صاحب كل طاقة أو موهبة في الموضع الذي يناسبه .

9 - توجد صلة ترابط وتعاون بين الداعي والمدعو ، بحيث إذا لم يتيسر كسب المدعو إلي صفوف الحركة لم يكن من ورائه خطر ولا ضرر .

10 - تكسب صاحبها خبرة وممارسة للدعوة إلي الله التي هي من أوجب الواجبات .

11 - يدفع من يقوم بها إلي مزيد من التحصيل والزاد ؛ كي يتمكن من حسن الأداء .

12 - تحمل من يقوم بها علي مجاهدة نفسه حتى يكون أسوة وقدوة للمدعو .

13 - تتيح الفرصة للمدعو كي يستفسر عن كل ما يعن له أو يتسوب نفسه ، حتى إذا كان الترابط والتكوين كان علي نقاء ... إلي غير ذلك من الفوائد .

وقد يؤخذ علي الدعوة الفردية :

1 - أن المؤهلين للخطاب قد يكونون كثرة : بينما القائمون بها قلة ، فيصعب الاستيعاب ويكون التفلت ، ونقول : هذا صحيح ، ولابد من تخريج طائفة كبيرة من الدعاة تحسن القيام بهذه المهمة ، ولا تسد هذا الفراغ ، ولا عذر لأحد فإن الحاجة تفتق الحيلة .

2 - مردودها أو عائدها قليل ونقول : هذا صحيح ، ولكن العبرة ليس بالكم أو العدد ، وإنما هي بالكيف أو النوع ، ونفر واحد يتخرج من هذه الدعوة الفردية ربما يكون أجدى علي الأمة من عشرات بل مئات من المولعين بمجرد السماع للدعوة العامة ، وإن كان العمل الإسلامي لا يستغني عن النوعين جميعا ، أعني الدعوة الفردية والدعوة العامة .

3 - قد يصاب المدعو - لأنه فرد ولا مجال للمنافسة - بشيء من الفتور والسأم والملل ، ونقول : هذا صحيح ، ولكنا نوصي بالتنويع والتلوين في أسلوب هذه الدعوة .

وكذلك ألا تطول فترة التفرد هذه ، ويحسن أن يضم إلي قرين في مستواه بعد الأسابيع الأولي ، حتى يأخذ كل منهما الآخر .

يقول الأستاذ عبد البديع صقر ، وهو يتحدث عن الدعوة الفردية

مميزاتها

  • أنها كثيرة الحدوث : فقد تتفق للإنسان مرات في اليوم الواحد .
  • وأنها عابرة : لا تحتاج إلي جهد ولا إعداد ، وقد تكون خلال عمل آخر فلا تأخذ وقتا خاصا ، كالذي يكون في حفل عزاء ، أو عيادة مريض ، أو التهنئة بمولود .
  • وأنها يسيرة : ليس فيها التوتر والتحفز الذهني الذي يكون في الحفلات العامة ، ولا المجالات الكلامية المجهزة ، ويستطيع الداعية أن يكون فيها محررا من كل قيود النقد .
  • وأنها سهلة : يستطيع الإنسان ويستطيع كل مؤمن بدعوته أن يشارك فيها ولو كان أميا أو غير أهل هذه الصناعة ، بل هي حقل جيد للتدريب واختيار المواهب فكأنها التجربة للميدان الكبير .
  • وأنها مستورة : تحمي الداعية من الرياء والسمعة ، فكثيرا ما يصاب ( بمرض الميكروفون ) و ( داء الصدارة ) .
  • وأن فيها فرصة للتنفيس : حيث يبدي كل واحد ما عنده من وجهات النظر ، فكثيرا ما يستمع الإنسان إلي قضية جديدة بالنسبة له ثم يعرض له سؤال هام ، ولا يجد في المجال العام من يرد عليه ، فيبقي مشغولا به ، معرضا عما يتلوه ، إلي أن يفهم تلك النقطة التي ساورته من قبل .
  • وفيها الحديث الحر : فإن المرء يستطيع أن يعرض ما عنده من شكوك أو تساؤلات ، وأن يأخذ ويعطي بحرية كافية ، وهذا لا شك أجدي وأنفع ، فضلا عن أنه ينشئ الصداقة والمودة بين الداعية وبين من يتصل بهم علي هذه الطريقة .
  • وفيها دوام الإمكانية : فإنه خلال أحلك العصور التي مرت بالشعوب ، لم توقف الدعوة المحدودة ، بل زادت ونشطت ، وكأنها التعويض عن الكبت الذي تباشره السلطات أحيانا ؛ لأنها حديث النفس لنفس أخري تعاني مثل ما تعاني تلك ، وهو ما تعجز كل قوى الظلم عن السيطرة عليه .
  • وفيها من بركات النبوة : لأن الأنبياء صلوات الله عليهم بدأوا بها ولم يتوقفوا عنها ، بل كانت من أساليب حياتهم علي الدوام .

أثرها :

وقد يبدو لأول وهلة ، أن الدعوة الفردية بطيئة الأثر قليلة الإنتاج ، ولقائل أن يقول : إنه في المجتمعات الوفيرة العدد ، ذات الحاجات الملحة للإصلاح ، لا يتهيأ للملايين أن تصلها الفائدة المأمولة بواسطة الدعوة المحدودة .. هذا حق ، لكنه مع التسليم بضرورة الدعوة العامة - متى تيسرت أسبابها - تظل الدعوة الفردية هي الأساس في النجاح للمدى الطويل ، وأن الذين تفاهموا علي المستوي الفردي المطمئن هم دائما ركائز الدعوات ، وهم الأدوات الفعالة في كل الحركات الإصلاحية التي ظهرت عبر القرون ، ومثلهم كمثل الحواريين ( أتباع الأنبياء ) وكمثل تلاميذ الزعماء المصلحين ، وما أشبه الدعوة الفردية بالأساس الذي يقوم عليه البناء ، مع أنه الجزء المدفون تحت الأرض ، ومثل الدعوة في أثرها كمثل البناء ذاته ، فلا يستغني كلاهما عن الآخر .

علي أن الدعوة الفردية ليست بطيئة الأثر علي كل حال ، فربما كانت في بعض الظروف أسرع تأثيرا من الدعوة العامة وأسلم عاقبة منها ) .

ويقول الأستاذفتحي يكن ، وهو يتحدث عن الاتصال الفردي المباشر : ( للاتصال الفردي حسنات كثيرة لا مجال لحصرها .. ولكن يكتفي هنا بالإشارة إلي أن الاحتكاك الفردي يتيح للدعاة التعرف علي العناصر المراد جذبها إلي الدعوة وتبليغها الفكرة عن كثب ، كما يمكنهم الاحتكاك من الوقوف علي أوضاع هؤلاء ومشاكلهم ، ويسهل عليهم بالتالي عملية التشخيص والتوجيه والمعالجة ، بينما لا يتحقق في مجالات الاتصال الجماعي فوائد التأثير المباشر الذي يلامس العلة ذاتها ويعالج الداء نفسه .

ومن حسنات الاتصال الفردي كذلك أنه يضع الإخوان جميعا - بدون استثناء - أمام مسئولياتهم ووجباتهم ، وبهذا لا يبقي العمل الإسلامي محصوراً في عدد من الأفراد الذين يمارسون مهام التوجيه والإرشاد ، وإنما يفرض علي كل فرد من أفراد التنظيم أن يؤدي دوره الإنتاجي في حدود ما تسمح به إمكانياته وقدراته وطاقاته .

وهذا من شأنه أن يحول الجماعة إلي خلية عمل ، الكل فيها يعمل وينتج ، ولا مجال فيها للبطاقة والكسل .

ومن محاسن الاتصال الفردي أيضا أنه يجنب الحركة كثيرا من مواقف الإحراج ، التي تفرضها أحيانا الظروف السياسية ، ويعين الدعاة علي مواجهة كافة الأسئلة المطروحة بالنقاش الموضوعي وبالتبسيط والتفصيل ، مما لا تتجه أجواء الاتصال العام كأجواء الاحتفالات والمهرجانات والمحاضرات .

وبهذا يكون الاتصال الفردي الوسيلة المثمرة المنتجة التي تؤتي أكلها من غير ضجيج أو ضوضاء ، وتبلغ بالحركة الغاية المنشودة منها بأيسر التكاليف وأقصر الأوقات .

وأخيرا فليضع الدعاة أمام أعينهم باستمرار قول الرسول صلي الله عليه وسلم : " لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها " .

الفصل الثالث

مجالات المدعوين وأصنافهم في الدعوة الفردية لناس

بيد أن الظروف التي يمر بها العالم الإسلامي اليوم ، تقتضي المسارعة باستخلاص العناصر الجيدة المستعدة للتضحية والبذل والعطاء ، ونظمها في سلك واحد ليصنع بها قدر الله علي هذه الأرض .

من هنا كانت المفاضلة والتقديم لمجال أو لميدان علي آخر ، وكذلك المفاضلة والتقديم لصنف من الناس علي آخر .

  • فمثلا دعوة المسلم مقدمة علي دعوة غير المسلم : إذ المطلوب اليوم هو الانتقال بالمسلمين من الواقع المرير الذي يعيشونه ، وما فيه من قصور في فهم أو فتور في عمل ، أو غلو أو شطط أو نحو ذلك ، إلي فهم الإسلام فهما سليما شاملا نقيا كما جاء به رسول الله صلي الله عليه وسلم ، ومتطلبات هذا الإسلام ، ثم كيفية تحقيق هذه المتطلبات علي النحو الذي يُمَكٌن للإسلام ، ويضمن للمسلمين عز الدنيا وسعادة الآخرة .
  • ودعوة الأقربين نسبا وجيزة مقدمة علي دعوة الأباعد : نظراً لكونهم معروفين عند الداعية ، ولا يحتاج إلي جمع المعلومات عنهم ، وهم كذلك يعرفونه ، وربما عتبوا عليه إذا أهملهم وذهب إلي الأبعدين ، ثم هو مسئول عنهم بين يدي الله عز وجل ، فقد أخذ النبي صلي الله عليه وسلم علي قوم أنهم لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ، فتوعدهم بالعقوبة ، وأمهلهم سنة للقيام بهذا التكليف فقال : " ما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ، ولا يتفقهون ولا يتعظون ، والله ليعلمن قوم جيرانهم ، ويفقهونهم ، ويعظونهم ، ويأمرونهم ، وليتعلمن قوم من جيرانهم ، ويتفقهون ، ويتعظون ، أو لأعاجلنهم العقوبة " وأعاد ذلك مرارا حتى قال المعنيون بالخطاب : أمهلنا سنة فأمهلهم سنة ليفقهوهم ، ويعلموهم ، ويعظوهم ، ثم قرأ رسول الله صلي الله عليه وسلم هذه الآية : ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل علي لسان داود وعيسي ابن مريم ) .

وأيضا اقتداء وتأسياً برسول الله صلي الله عليه وسلم إذ عندما بدأ رسول الله صلي الله عليه وسلم بالدعوة أمره الله تعالي أن ينذر عشيرته الأقربين فقال : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) .

  • ودعوة الصغير مقدمة علي دعوة الكبير ، من حيث إن الصغير لم يصلب علي فكر أو سلوك معين ، والتعامل معه أسهل من التعامل مع الكبير الذي اختار طريقه ، وكثرت ارتباطاته ومسئولياته ، وحقق مركزا اجتماعيا أو مكاسب دنيوية يخشي عليها ، ثم إن الصغير الذي يقبل علي الدعوة يدخل مباشرة في الصياغة والتكوين ، ولا يبذل الداعية معه وقتا طويلاً في تخليته من الشوائب والعادات الجاهلية ، وإنما ينصرف إلي تحليته وتعبئته بالفضائل والعادات الإسلامية ، وصغير اليوم هو رجل الغد ، والناشئة هم مستقبل الأمة .
  • ودعوة المتواضع مقدمة علي دعوة المتكبر : لأن التواضع دليل علي إمكان قبول الحق والعمل به ، بينما التكبر دليل علي سفه الحق ، وغمط الناس ، علي أن أتباع الأنبياء والمرسلين كانوا ما بين غني شاكر متواضع ، وما بين فقير صابر ضعيف .
  • ودعوة المثقف مقدمة علي دعوة الأمٌي:نظرا للدور الذي يقوم به المثقف في المجتمع ، أضف إلي ذلك أن المثقف أقدر من غيره علي محاكمة الآراء ، واختيار الأفكار ، ومن يختار الفكرة عن وعي فإنه في الغالب يلتزم بها .
  • ودعوة غير المنتمي مقدمة علي دعوة المنتمي : لأن غي المنتمي يقع في مركز وسط بين المذاهب والتجمعات ، وأما المنتمي فقد انتقل من المركز إلي الطرف الآخر والجهد المطلوب لنقله إلي مركز التأثير أضعاف الجهد المطلوب لغير المنتمي مع مراعاة أن المنتمي إذا غير انتماءه عن قناعة وفكرة ، فإنه سيتحول إلي الدعوة والعمل لدين لله ، مع خبرة واسعة واستعدادات كبيرة .
  • ودعوة زميل العمل أو المهنة مقدمة علي دعوة غيره : نظرا لأن أفراد كل مهنة بينهم تعاون تلقائي ومباشر ، ومجالات الحديث بينهم مهيأة ، ونقاط الاشتراك كثيرة ، فالطيب مع الأطباء أقدر منه بين المهندسين ، والمحامي مع المحامين أقدر منه بين المعلمين .
  • ودعوة ذي التأثير والمنعة في قومه مقدمة علي دعوة من لا أثر له ولا منعة : نظرا لأن هذا يسهم في الإسراع في عملية التغيير ، وقد يغير كثيرا في المعادلة لصالح الدعوة ، ثم هو اقتداء بالنبي صلي الله عليه وسلم ، إذ كان يدعو ويقول : " اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب " .

وهو كذلك محاكاة لأول داعية بالمدينة " مصعب بن عمير " ، إذ لما أحسن دعوة " أسيد بن حضير وسعد بن معاذ " وأسلما ، وأسلم بإسلامهما سائر دار بني عبد الأشهل .

وهكذا ، فالداعية الحصيف يتخير الموضوع الأهم والأولي ، والمجال أو الميدان الأكثر عطاء ومن هو أسرع استجابة وتأثيرا ، ومن يكون الجهد معه أقل ، ومن يكون متناسبا مع طبيعة المرحلة التي تعيشها دعوته .

الفصل الرابع

صفات أو أخلاق المتصدر للدعوة الفردية

والمتصدر للدعوة الفردية لابد أن تتوافر فيه صفات أو أخلاق أهمها :

1 - الأسوة والقدوة

ومعني الأسوة والقدوة : أن يكون الداعية صورة صحيحة وصادقة لكل ما يدعو إليه ، ويريد غرسه في المدعو ، بل أن يكون فعله أو سلوكه قبل قوله أو كلامه ؛ نظراً لأن التأثر بالسلوك أو بالفعل يسبق التأثر بالقول أو بالكلام ، وما نجح المرسلون وعلي رأسهم محمد صلي الله عليه وسلم ، وكذلك ما نجح المسلمون الأوائل في التأثير في الناس إلا بهذا الخلق ، أي خلق الأسوة والقدوة .

وحسبنا أن من أسباب إسلام " هند بنت عتبة " تأثرها الشديد بعبودية المسلمين لله يوم الفتح ؛ إذ قالت : إني أريد أن أبايع محمدا ، فقال لها أخوها حذيفة بن عتبة : قد رأيتك تكفرين ، قالت : أي والله ، والله ما رأيت الله تعالي عبد حق عبادته في هذا المسجد قبل الليلة ، والله إن يأتوا إلا مصلين قياما ، وركوعا ، وسجودا .

2 - الإخلاص

ومعناه : أن يقصد الداعية بكل ما يصدر منه من قول أو فعل وجه الله ، وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته ، من غير نظر إلي مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر ، واضعا هذه الآية نصب عينيه : (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ ) .

إن هذا الخلق إن توفر في الداعية حمله علي بذل كل ما في طاقته ، وكل ما في وسعه ، في الدعوة إلي الله ، وكان سببا في عون الله وتأييده ، وتوفيقه ، ونصره ، فيكون النجاح والفلاح .

وفي سيرة الأنبياء والمرسلين وورثتهم علي مدار الزمان كله ما يقطع بأهمية هذا الخلق في حياة الدعاة إلي الله ، ونجاحهم في كل ما يقصدون .

3 - الصبر والاحتساب

ومعناه : أن يوطن الداعية نفسه علي تحمل كل ما يصيبه من أذي في ذات الله ، ويصبر ويحتسب ؛ لأنه يدعو إلي الانخلاع عن أخلاق وعادات وأعراف وتقاليد تأصلت في الناس حتى صارت كأنها جزء من حياتهم وما أنزل الله بها من سلطان ، وهذا يؤدي إلي معارضته معارضة شديدة ، وعليه فما لم يكن الداعية قد وطن نفسه علي التحمل والصبر والاحتساب فإنه سيتعب وييأس بسرعة ، وبالتالي يكون الفشل وعدم النجاح .

وحسبنا تكرار مادة الصبر في القرآن لأكثر من سبعين مرة ، وحسبنا دورانه مع كل الأنبياء والمرسلين : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ) وحسبنا وصية لقمان لولده : (¢÷ژة9ô¹$#ur عَلَى مَا أَصَابَكَ ) ، ووصية عمير بن حبيب بن حباشة الصحابي الجليل لولده إذ يقول : إذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف أو ينهي عن المنكر فليوطن نفسه قبل ذلك علي الأذى وليوقن بالثواب ؛ فإنه من يوقن بالثواب من الله تعالي لا يجد مس الأذى .

4 - الأمل والثقة في الله

ومعناه : ألا يفقد الداعية الرجاء من أحد يدعوه ، فكل إنسان لا يخلو من الخير ، والداعية الموفق هو الذي يهدي إلي مفتاح هذا الخير ، فيفتح به ويدخل ، وحسبنا أن الناس كانوا يقولون عن عمر : إنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب ، ومع هذا هداه الله ، وأسلم ، وأعز الله بإسلامه الإسلام والمسلمين ، وفائدة هذا الخلق أنه يحمل صاحبه علي المضي في الطريق وعدم التوقف ، وهو كذلك يحمل علي قدح الذهن لابتكار وسيلة إن لم تجد وسيلة سابقة ، فالحاجة - كما يقال - تفتق الحيلة ، والحاجة أم الاختراع .

5 - الفهم العميق

ومعناه : أن يكون الداعية علي دراية تامة بإسلامه ، وبمهمته في الحياة ، وبأي المدعوين يبدأ وأيهم يؤخر ، وبالظروف المحيطة بمن يدعوه ، وبأفضل السبل أو الأساليب لتوصيل الدعوة إليه .

وصدق الله العظيم : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) .

6 - التضحية

ومعناه : أن يجود الداعية بكل ما يملك من نفس ومن وقت ، ومن علم ، ومن مال ، حتى يحوز ثقة الناس من ناحية ، وحتى يؤثر فيهم بسرعة من ناحية أخري ، وحسبنا تضحية النبي صلي الله عليه وسلم بكل شيء ، حتى كتب الله لدعوته النجاح والخلود ، وكذلك سائر المسلمين المجاهدين إلي يومنا هذا .

7 - توقع الإخفاق أو الفشل

ومعناه : أن يوغل في المدعوين برفق ، واضعا في تقديره دائما أنه ليس من المأمول أن يستجيب كل هؤلاء المدعوين لدعوته ؛ لئلا يصاب بالإحباط أو خيبة الأمل ، فإن حدث واستجاب الجميع فذلك الله تعالي ومنته ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، و" إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء " و (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) .

8 - العمل مع أكثر من شخص

ومعناه : ألا يستهلك الداعية وقته وجهده مع شخص واحد أو إنسان بعينه رغبة في جذبه للدعوة ، فيقابله كثيرا ، ويلح عليه طويلا ، ويشغل نفسه به دوما ، بل عليه أن يجعل عمله مع أكثر من شخص ، فإن أخفق مع واحد نجح من غيره ؛ لأن العمل مع شخص واحد ، مع محاولة الضغط عليه ومحاضرته أمر يثير في نفسه الشكوك والظنون وقد ينفر ، وتكون النتيجة عكسية ، إلا من رحم الله .

9 - التأني أو التروي وعدم الاستعجال

ومعناه : أن يكون الداعية طويل النفس مع المدعو ، حتى يسبر غوره تماما ، وحتى ينضجه علي نار هادئة كما يقولون : فليست العبرة بالكم بقدر ما هي بالنوعية والكيف ، ولو أنك قدمت إلي دعوتك أخا جديدا في كل عام بما يسمي بمشروع الأخ الواحد ، لكان هذا أمارة النجاح ، وحسبك أنك ماض في طريقك لم تتوقف ، وأن الأجر لم يخطئك ، وأنك لم تحرم الثواب .

10 - الذكاء أو الفطنة

ومعناه : أن يكون الداعية لمٌاحًا ، تغنيه الإشارة عن العبارة ، والتلويح عن التصريح ؛ كي يتمكن من تنفيذ خطته مع المدعو بدقة ومهارة ، وكي يستشف كل ما عنده دون أن يدري ، ودون أن يشك أو يرتاب ، وكذلك حتى يتمكن من مواجهة المواقف المباغتة أو المفاجئة دون أن تنكشف خطته معه فيكون الفشل والابتعاد .

11 - الرفق أو اللين

ومعناه : رقة الطبع ودمائة الخلق ، ولين الجانب ، فلا فظاظة ولا خشونة ولا عنف ، قال تعالي في وصيته لموسي وهارون لما أرسلهما إلي فرعون : (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) ، ثم شرح هذا القول اللين فقال : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ) وقال تعالي عن فضله علي نبيه محمد صلي الله عليه وسلم بما كفل له النجاح في دعوته : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) وقد حفلت دواوين الحديث والسنة والسيرة النبوية بالنماذج الحية الناطقة برفقه ولينه صلي الله عليه وسلم في دعوته ، الأمر الذي أدي إلي فتح مغاليق القلوب ، وكسب ثقة الناس ومودتهم ، أو علي الأقل السلامة من شرهم وأذاهم .

بال أعرابي في المسجد ، فقام الناس إليه ليقعوا به ، فقال النبي صلي الله عليه وسلم : " دعوه ، وأريقوا علي بوله سَجْلا من ماء ذنوبا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين " .

وعن عائشة رضي الله عنها أن يهودا أتوا النبي صلي الله عليه وسلم فقالوا : السام عليكم ، فقالت عائشة : عليكم ، ولعنكم الله ، وغضب الله عليكم ، فقال صلي الله عليه وسلم : " مَهْلا يا عائشة ، عليك بالرفق ، وإياك والعنف والفحش " قالت : أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال : " أو لم تسمعي ما قلت ؟ رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ، ولا يستجاب لهم في " وفي رواية : " مهلا يا عائشة ، إن الله يحب الرفق في الأمر كله " ، وعن أنس رضي الله عنه قال : خدمت النبي صلي الله عليه وسلم عشر سنين ، فما قال لي أف قط ، وما قال لشيء صنعته لم تصنعه ؟ ولا لشيء تركته لم تركته ؟ .

12 - رعاية حقوق الأخوة الإسلامية

والمراد : أن يكون الداعية ممن يحافظ علي حقوق الأخوة الإسلامية ويرعاها من المواساة بالنفس أو بالمال أو بهما معا ، ومن إبراز الفضائل والمحاسن وإخفاء المعايب والرذائل ، ومن العفو عن الهفوات والزلات ، ومن الدعاء بظهر الغيب ، ومن الوفاء ، ومن ترك التكلف ، فهذه هي مدخله إلي قلب المدعو ، وبغيرها لن يستطيع التأثير فيه ، وإليك ما يصنعه العفو في قلوب الناس : أتي سعد بن أبي وقاص بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر ، فأمر به إلي القيد ، فلما التقي الناس قال أبو محجن :

كفي حزنا أن تطرد الخيل بالقنا وأترك مشدودا علي وثاقيا

فقال لابنة حفصة امرأة سعد : أطلقيني ولك - والله علي - إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد ، فإن قتلت استرحتم مني ، قال : فحلته حتى التقي الناس وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلي الناس قال : وصعدوا به فوق العذيب ينظر إلي الناس واستعمل علي الخيل خالد بن الوليد عرفطة فوثب أبو محجن علي فرس لسعد يقال لها : البلقاء ، ثم أخذ رمحا ثم خرج فجعل لا يحمل علي ناحية من العدو إلا هزمهم ، وجعل الناس يقولون : هذا ملك ، لما يرونه يصنع ، وجعل سعد يقول : الصب صبر البلقاء ، والظفر ظفر أبو محجن ، وأبو محجن في القيد .

فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد ، فأخبرت ابنة حفصة سعدا بما كان من أمره ، فقال سعد : لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلي للمسلمين ما أبلاهم ، فخلي سبيله ، فقال أبو محجن : قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد ، وأظهر منها ، فأما إذ بهرتني - يعني : أهدرتني - بإسقاط الحد عني ، فلم يعد أمامي مجال للتطهر إلا التوبة ، فو الله لا أشربها أبدا .

13 - التحرك من خلال خطة

والمراد : أن يكون لدي الداعية خطة محددة الأهداف والغايات والأساليب ، بل والبدائل عند الإخفاق أو الفشل في وسيلة ما ، ليوفر بذلك الجهد والوقت ، ويتجنب العثرات أو المعوقات ، ويملأ الفراغ علي المدعو ولا يدخل به في خلافيات أو فرعيات .

14 - أن تكون الدعوة إلي الله تعالي الشغل الشاغل

والمراد : أن تملأ الدعوة إلي الله تعالي علي الداعية كل أقطار نفسه ، فلا يقوم ولا يقعد ولا يتحرك ولا يسكن ، ولا يتكلم ولا يسكت إلا بهذه الدعوة .

ولنا في رسول الله صلي الله عليه وسلم الأسوة والقدوة ، إذ لم يؤثر عنه صلي الله عليه وسلم أنه انقطع لحظة واحدة عن الدعوة إلي الله سبحانه وتعالي أو قال : إني اليوم في إجازة من العمل لدين الله .

وحسبنا أنه صلي الله عليه وسلم عندما هاجر إلي المدينة المنورة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، لقي في الطريق بريدة بن الحصيب الأسلمى في ركب من قومه فيما بين مكة والمدينة ، فدعاهم إلي الإسلام ، فأسلم هو ومن معه - كانوا زهاء ثمانين بيتا - وصلي رسول الله صلي الله عليه وسلم العشاء فصلوا خلفه .

وكان صلي الله عليه وسلم في سفر ، فأقبل أعرابي ، فلما دني منه قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " أين تريد ؟ " ، قال : إلي أهلي ، قال : " هل لك إلي خير ؟ " قال : ما هو ؟ ، قال : " تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله " قال : هل من شاهد علي ما تقول ؟ ، قال : " هذه الشجرة " فدعاها رسول الله صلي الله عليه وسلم وهي علي شاطئ الوادي ، فأقبلت تخد الأرض خداً ، فقامت بين يديه ، فاستشهدها ثلاثا ، فشهدت أنه كما قال ، ثم إنها رجعت إلي منيتها ، ورجع الأعرابي إلي قومه فقال : إن اتبعوني أتيتك بهم وإلا رجعت إليك ، وكنت معك وكذلك كان الأنبياء والمرسلون من قبل لا يشغلهم عن الدعوة إلي الله شاغل .

وحسبنا أن يوسف عليه السلام عندما دخل السجن مظلوما ، لم يشغله السجن وضيقه وقسوته عن القيام بواجب الدعوة إلي الله تعالي ، فقد اغتنم سؤال السجينين عن رؤيا رأياها فقال لهما قبل أن يجيبهما ما أخبرنا الله به من قوله : (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) .

15 - التجرد من كل شيء إلا من حول الله وقوته

وأخيرا لابد أن يكون الداعية شاعرا بالعجز ، متجردا من كل شيء إلا من حول الله وقوته ، ليمده بأسباب القوة والتأييد والنصر : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) .

الفصل الخامس

مراحل الدعوة الفردية وأساليبها

والدعوة الفردية لابد لها من عدة مراحل ، ولابد أنها كذلك من التزام دقيق بترتيب هذه المراحل ؛ لئلا تكون هناك انتكاسة أو قعود ، ودونك هذه المراحل وخصائصها وأساليب الدعوة في كل منها :

المرحلة الأولي : التعارف

ونعني بالتعارف الفهم الدقيق لأحوال المدعو النفسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية ، والسلوكية ؛ وذلك لتحديد مستواه ونقاط الخلل عنده ، فيسهل بذلك تحديد بداية الطريق ونوع العلاج .

وخصائص هذه المرحلة تتلخص في :

1 - احترام المدعو وإشعاره عمليا بأنه محل رعاية واهتمام حتى ينفتح قلبه ، ويتهيأ لاستيعاب ما يقال له .

2 - تجنب الحديث أو المفاتحة في أي شأن من شئون الدعوة الإسلامية بالذات ، إذ ربما يكون ذلك سبب في نفوره وصدوده .

3 - استخراج أو إبراز جميع ما في نفس الدعوة وما يحيط به بكل ما يمكن من أساليب ووسائل ، ولكن بذكاء وفطنة .

4 - ملاحظة كل ما يصدر عنه ، بل عن أهله وولده بدقة تامة ، سواء في البيت أو في المسجد ، أو في الشارع ، أو في ميدان العمل ، أو في الرحلات والأسفار ، وكذلك في ساعات الشدائد والمحن .

وأساليب هذه المرحلة كثيرة وأهمها :

الحوار السريع أو الخاطف

والمقصود من هذا الحوار السريع أو الخاطف ، التعرف علي اسم ونسب المدعو ، ومهنته ، وموطنه ، ومنشأه ، وإقامته إن أمكن .

فقد جاء في الخبر عن الحسين بن علي رضي الله عنهما : " من الجفاء أن يدخل الرجل منزل أخيه فيقدم الشيء ليأكله فلا يأكل ، والرجل يصحب الرجل في الطريق فلا يسأل عن اسمه واسم أبيه ... " الحديث

ولأن هذه المعرفة الأولية تساعد في مواصلة الحديث أو قطعه ، وتساعد كذلك في حديد نوع الحديث ، إن كانت هناك مواصلة ، إذ ربما يظهر من اسمه أنه غير مسلم أو مسلم اسما لكنه معروف بعداوته الشديدة لله ولرسوله ولجماعة المؤمنين ، أو مشهور بأنه من ذوي الانتماءات الحزبية ، وحينئذ يكون إنهاء الحديث معه أفضل من مواصلته فإن أمثال هؤلاء ليسوا من أهدافنا الآن .

ومن طريف ما ذكر الدعاة : أنه كان في سفر بواسطة قطار السكة الحديد فجلس إلي جواره رجل ، فتجاذبا الحديث ، ولعاطفته القوية بدعوته نسي أن يسأله عن اسمه ونسبه ومهنته ، وأخذ في الحديث معه مباشرة عن دعوة الحركة الإسلامية وأهدافها ، وخصائصها ، ومزاياها ، وأثرها في الشعب المصري ، وعندما وقف القطار وهمٌَ كل منهما بالنزول سأله عن اسمه ، فأجاب بأن اسمه " جرجس " يعني أنه نصراني وطرق بدء الحوار كثيرة ومتنوعة ، لا يعدمها من أعمل فكره ، وقدح ذهنه ، ووقف علي تجارب الآخرين ، واستعان بالله وأخلص الوجهة له ، وهاك بعض تجارب من سبقوك علي الطريق في هذا الباب لتنسج علي منوالها :

يقول صاحب كتاب : الطريق إلي القلوب :( كنت أركب حافلة " أتوبيس " ، وصعد شاب ملتح لم يتجاوز السابعة عشر من عمره ، وجلس بجواري ، وكانت اللحية في ذلك الوقت مستغربة ونادرة ، وتحركت نحوه عاطفة أريد أن تعرف عليه قبل أن يغادر الأتوبيس فتضيع الفرصة ، فاتجهت نحوه بكل وجهي في ابتسامة خفيفة وقلت له : هل الأخ الكريم أطلق لحيته عادة أم عبادة ؟ فلم يفهم فأعدت عليه سنة أم غير ذلك ؟ قال : نعم إنها سنة عن رسول الله صلي الله عليه وسلم فقلت : ما شاء الله ، الله أكبر ، وأسرعت فقلت له : أخوك في الله من رشيد وأعمل في التجارة ، فقال أخوك في الله ... طالب في الثانوية العباسية فحفظت اسمه وعنوانه في الحال .

وقد تعمدت أن أبدأه باسمي ؛ لأني لو طلبت منه ذلك أولا فربما تتنازعه الظنون ، ولاسيما في تلك الظروف وبعد عدة محطات غادرني مسلما بشعور طيب وأصبح من السهولة بعد ذلك أن أتصل به في أي مناسبة إسلامية .

  • في أي رحلة سفر يكون معي " مصحف " أو " جريدة " أو " مجلة " .. ومن عادة أي جالس بجوارك أنه حين تقرأ أية جريدة فإنه يختلس النظر إليها .. وفي هذه الحالة يمكن أن تقدمها إليه ، وبعد أن يقرأها سوف يعيدها إليك مع الشكر ، وفي هذه الحالة يمكن أن تفتح معه أي موضوع جاء في الجريدة وتعلق عليه وتتسع دائرة الحديث حتى يتم التعارف .....
  • أحيانا ، في أي مكان وفي أي مناسبة يجلس بجواري شخص لا أعرفه ، وأفكر كيف أبدأ معه الحديث ، فإذا كانت بشرة هذا الإنسان بيضاء ناصعة البياض فإني أتوجه إليه بسؤال فيه سذاجة ، فأقول له الأخ الكريم سوداني ؟ فينظر إلي في دهشة واستغراب ، وكأنه يريد أن يقول لي: هل أنت أعمى ؟ ولكني أسرع فأقول : لا تؤاخذني فإني أعرف بعض السودانيين البيض ، وأقول له : طيب أنت من أي بلد ؟ وندخل في الموضوع بعد أن أكون قد حطمت حاجز الصمت وإذا كان هذا الشخص أسمر اللون أقول له : الأخ الفاضل من قبرص ، كي أفتح معه بابا للدخول معه في الحديث ...
  • كنا في سفر من الإسكندرية إلي مدينة أسيوط ، عاصمة صعيد مصر ، ولما كان السفر طويلا فقد أحضرنا معنا عددا كبيرا من السندوتشات ، وشاء الله تعالي أن يتعطل القطار في الطريق أكثر من ساعتين ، فقام احد الأخوة يقدم بعض المأكولات للمسافرين من باب " ومن كان له فضل زاد فليعد به علي من لا زاد له " [ رواه مسلم ] وبهذا فتحنا بابا للتعارف ولم نغادر القطار حتى تركنا أثرا طيبا في النفوس .
  • كنت قبل أن أكتشف الوسائل الإسلامية في الدعوة إلي الله تعالي ، أجتهد في ابتكار وسائل توصل إلي ذلك ومما أذكره أنني ذات مرة قمت بالضغط علي قدم أحد الواقفين بجواري في الترام ، فصاح في وجهي وقال : أنت أعمي فقلت له في غير انفعال : لا تؤاخذني يا أخي ، فأنا فعلا شبه أعمي ؛ لأن بصري ضعيف ، فانقلب الرجل معتذرا ومواسيا عما بدر منه ، فالتقطت الموقف ودخلت معه في التعارف .. ) ويقول كذلك : ( سافرت مع الإمام البنا إلي الجزيرة الخضراء بمصر ، وهي بلدة الأستاذ أمين مرعي المحامي رئيس الإخوان بالإسكندرية آنذاك ، وتقع هذه البلدة في مواجهة مدينة رشيد من الشرق ، وفي الطريق وقفت أمام كشك مرور كوبري الجدية ، ولاحظ فضيلة المرشد وجود " قلة ماء " أمام شرطي المرور ، فستأذنه للشرب ، فأسرع الشرطي مسرورا مرحبا به ، وتحدث معه كلمات ، فلما بدأت السيارة تتحرك قلت له : ربما تكون القلة غير صحية ، فنظر إلي وقال : لقد وقفنا لحظة ويجب الاستفادة بها في نشر الدعوة ) .
التزاور

والهدف من هذا التزاور إيجاد صلة مع المدعو من ناحية ، ومعرفة أحواله واهتمامه من ناحية أخري ، ويحسن بدء هذه الزيارة بمخاطبته باسمه بل أحب أسمائه إليه ، وتجنب ما يسوءه من الكني والألقاب ، إذ كان صلي الله عليه وسلم يعجبه أن يدعو الرجل بأحب أسمائه إليه ، وأحب كناه ، وهذا يقتضي تذكر اسم المدعو ، بل حفظه ؛ نظرا لأن المدعو قد يجد في نفسه إذا تكرر نسيان الداعية لاسمه ، بينما يشعر بالمفاجأة ، وأنه محل اهتمام وتقدير إذا خاطبه الداعية باسمه وهذا يرفع كثيرا من معنوياته .

فقد جاء في حديث كعب بن مالك قوله : ... فخرجنا نسأل رسول الله صلي الله عليه وسلم وكنا لا نعرفه ، ولم نره قبل ذلك ، فلقينا رجل من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال : هل تعرفانه ؟ قلنا : لا ، قال : فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه ؟ قلنا : نعم ، قال : وكنا نعرف العباس ، كان لا يزال يقدم علينا تاجرا ، قال : فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس ، قال : فدخلنا المسجد ، فإذا العباس جالس ، ورسول الله صلي الله عليه وسلم معه جالس ، فسلمنا ثم جلسنا إليه ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم للعباس : " هل تعرف هذين الرجلين ؟ " قال : نعم ، هذا البراء بن معرور سيد قومه ، وهذا كعب بن مالك ، قال : فوالله ما أنسي قول رسول الله صلي الله عليه وسلم : " الشاعر ؟ " قال : نعم ....... الحديث .

ثم يكون السؤال عنه وعن أحواله ومساعدته ، والسعي في قضاء حوائجه وحل مشكلاته إن كانت له حوائج ولديه مشكلات والسؤال عنه باستمرار ومتابعة هذه الزيارات ، فإن لها أثر كبيراً في تأليف القلوب ، شريطة أن تكون لله عز وجل ، فقد جاء في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال : كان غلام يهودي يخدم النبي صلي الله عليه وسلم فمرض ، فأتاه النبي صلي الله عليه وسلم يعوده ، فقعد عند رأسه فقال له : " أسلم " فنظر إلي أبيه وهو عنده ؟ فقال : أطع أبا القاسم ، فأسلم ، فخرج النبي صلي الله عليه وسلم وهو يقول : " الحمد لله الذي أنقذه من النار "

ولا بأس أن تخلل هذه الزيارات هدية ، ولو يسيرة ، فإن لها دورا مهما في استلال سخائم الحقد ، وأدران التنافس والحسد من القلوب ، ثم غرس أسمي معاني الثقة والمحبة والألفة والمودة ، جاء عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه كان يهدي للناس ، ويقبل هديتهم ، وكان يحرص علي أن يكافئ علي الهدية بمثلها أو أكثر ، وأمر بها فقال : " تصافحوا يذهب الغل ، وتهادوا تحابوا ، وتذهب الشحناء " ووعي الصحابة الكرام هديه صلي الله عليه وسلم الرفيع في الهدية فطبقوه وحثوا عليه : عن ثابت قال : كان أنس يقول : تبادلوا بينكم فإنه أود لما بينكم وكان عبد الله بن عمر تذبح له شاه فيسأل غلامه : أهديت لجارنا اليهودي ؟ أهديت لجارنا اليهودي ؟ فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : " مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لأن أعول أهل بيت في المسلمين شهرا أو جمعة أو ما شاء الله أحب إلي من حجة بعد حجة ، ولطبق بدانق أهديه إلي أخ لي في الله أحب إلي من دينار أنفقه في سبيل الله عز وجل .

ولقد تناقل المسلمون علي مدى عصور التاريخ الإسلامي هذا الهدي وطبقوه ودعوا إليه ، وحسبنا أنه كان من أساليب ووسائل دخول إمامنا الشهيد إلي قلوب الناس ... والتأثير فيهم أو علي الأقل كف أذاهم وتحجيم داعي الشر في نفوسهم - الهدية .

كتب في مذكرات الدعوة والداعية تحت عنوان " مجتمع الإسماعيلية " فقال : ( ومن النكات اللطيفة أن أحد قدامي المشايخ الذين قضوا بالأزهر الشريف سنوات طوالا علي نظامه الأول تقريبا ، وكان من المولعين بالجدل ، والنقاش ، ومحاولة إخراج الوعاظ والعلماء والمدرسين ، بطرح مسائل غير مطروقة والتعرض لمعان وموضوعات مما تضمنته الحواشي القديمة ، والتقارير الدقيقة العميقة ، حاول إحراجي ذات يوم ، وأنا أقص قصة إبراهيم الخليل عليه السلام علي الناس ، فسألني عن اسم أبيه فابتسمت وقلت له : يا مولانا الشيخ عبد السلام - رحمه الله - قالوا : إن اسمه : تارخ ، وإن عمه : آزر ، والقرآن يقول إن آزر أبوه ، ولا مانع من أن يكون عمه ، لاستخدام ذلك في لغة العرب وقد قال بعض المفسرين : إن آزر اسم لصنم ، لا لأبيه ، ولا لعمه ، وإن التقدير : إذ قال إبراهيم لأبيه اترك آزر أتتخذ أصناما آلهة ، ونطقت بكلمة تارخ " بكسر الراء " ولما كان هذا البيان شافيا لأمثالي رغم إيجازه ، لم يشأ أن يدع الموقف يمر في هدوء ، فقال : ولكن اسم أبيه " تارخ " بضم الراء ، لا بكسرها ، فقلت : فليكن ، وهو اسم أعجمي علي كل حال ، ونطقه الصحيح يتوقف علي معرفة هذه اللغة ، والمهم العظة والعبرة .

وأراد هذا الشيخ - رحمه الله - أن يتخذ معي هذا الأسلوب في كل درس ، ومعني هذا أن يهرب العامة ، والمستمعون من هذا الجدل العقيم ، ويدعوا للشيخين هذا الميدان الذي لا خير فيه .

فكرت في علاج الشيخ ، فدعوته إلي المنزل ، وأكرمته ، وقدمت له كتابين في الفقه والتصوف هدية ، وطمأنته علي أنني مستعد لمهاداته بما شاء من الكتب ، فسر الرجل سرورا عظيما ، وواظب علي حضور الدرس ، والإصغاء إليه إصغاء تاما ، ودعوة الناس إليه في إلحاح ، فقلت في نفسي : صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم : " تهادوا .. تحابوا " ، واستمرت هذه الطريقة ناجحة إلي حين ، وللنفوس تقلباتها ) .

ثم يكون حوار حول أحوال العالم بعامة ، والإسلامي بخاصة ، وسبيل الخلاص مما تعاني منه الأمة الإسلامية ، وتترك للمدعو الفرصة كاملة لإظهار كل ما عنده ، ومهمة الداعية حينئذ لا تتجاوز توجيه الحوار ، ثم الرصد .

المرحلة الثانية : تصحيح المفاهيم وتكوين الميول

ثم تأتي المرحلة الثانية ، وهي مرحلة تصحيح المفاهيم ، وتكوين الميول ، تبعا لما تم اكتشافه من حال المدعو في المرحلة الأولي .

ولا تخلو حال المدعو حينئذ عن صورة من الصور التالية :

أ - أن يكون جاهلا بالإسلام كلا أو بعضا ، ولكنه في نفس الوقت غير مجادل ولا ممار ولا متكبر ، وإنما لديه استعداد تام للمعرفة ، والمعرفة الصحيحة ، بل والعمل كذلك .

ومثل هذا يكون التركيز معه حول تصحيح مفهومه عن الإسلام ، وتكوين الميول لديه للعمل بهذا الإسلام ، وطريق ذلك :

1 - الحوار الفردي المستمر حول حقيقة الإسلام وماهيته ، ودوره في حياة البشر وموقفه من النحل والمذاهب الأخرى ، ولكن بعد إعداد دراسة دقيقة عن هذا الموضوع تستوفي كشف معالمه ، وتحيط بكل أبعاده ، وتجيب عن كل التساؤلات المتصلة به .

2 - الحلقات المفتوحة الموجهة ، كأن يكلف أحد الدعاة المتمكنين بتقديم سلسلة من الدروس حول هذا الموضوع ، مع التركيز علي حال المسلمين يوم كانوا يطبقون هذا الدين ويعملون به ، وحالهم الآن بعد أن أرادوا ظهرهم له وتحاكموا إلي المناهج الوافدة من هنا وهناك ، والمصنوعة بأيدي البشر .

3 - الكتب التي تدور حول هذا الموضوع ،

ونرشح منها

" الإعلام بمناقب الإسلام " لأبي الحسن العامري .

" هذا ديننا " للشيخ محمد الغزالي .

" إسلامنا " للشيخ سيد سابق .

" تعريف عام بدين الإسلام " للشيخ علي الطنطاوي .

" الإسلام " للشيخسعيد حوي ....... إلخ .

4 - العيش في أوساط وأجواء إسلامية معروفة بدقة وحسن فهمها للإسلام أو علي الأقل التنبيه ولفت النظر إلي رموز منها موجودة علي الساحة الإسلامية ليتولد في النفس معني الاقتداء والتأسي أو علي الأقل المحاكاة والمشابهة .

ب - أن يكون عارفا بالإسلام كلا أو بعضا ، ولكنها معرفة مشوهة ، محرفة ، وهو في نفس الوقت غير مجادل أو ممار ، وغير متكبر ، وإنما لديه استعداد تام للمعرفة في صورتها الحقيقة النقية البيضاء الزاهية ، بل والعمل .

ومثل هذا يكون الحديث معه حول الشبهات والأكاذيب التي تثار حول الإسلام ، وتعمل علي تشويه صورته في أذهانه الناس ،

ودور الغزو الفكري والعسكري في ذلك ، وطريق ذلك :

1 - الحوار الفردي المستمر حول هذه الشبهات وتلك الأكاذيب ، وموقف الإسلام منها ولكن بعد إعداد دراسة جيدة ودقيقة حول هذه الشبهات ، وسبيل الخروج منها ، شبهة شبهة .

2 - الكتب التي تدور حول هذا الموضوع

ونرشح منها الآتي :

" شبهات حول الإسلام " للأستاذ محمد قطب .

" الإسلام والسلام العالمي " للأستاذ سيد قطب .

" ظلام من الغرب ، الإسلام في وجه الزحف الأحمر ، الإسلام في مواجهة الرأسمالية ، الإسلام في مواجهة الاشتراكية " كلها

للشيخ الغزالي .

" الإسلام دين الله في الأرض والسماء " للدكتور جمال عبد الهادي .

" الإسلام والمذاهب الاقتصادية المعاصرة " للأستاذ يوسف كمال .

" الإسلام ونظرته السامية للمرأة " للأستاذ عمر التلمساني .

" الذريعة إلي مكارم الشريعة " للراغب الأصفهاني ... إلخ .

وهذا ولا داعي لدخول مثل هذا الصنف من الناس في حلقات مفتوحة موجهة ؛ حماية لخالي الذهن من هذه الشبهات أن يتأثر بها أو أن تصيبه بشيء من الشك والقلق ، فإن ضمت هذه الحلقات من لديهم شبهات واحدة ، ولم يختلط بهم غيرهم ممن حفظهم الله وحماهم من هذه الشبهات فلا بأس .

ج - أن يكون عارفا بالإسلام كلا ، ولكنه يقتصر في التطبيق والدعوة علي بعضه ، إما خوفا وإما جهلا بالأسلوب أو الوسيلة التي لابد منها للتطبيق .

ومثل هذا يكون التركيز معه حول علاج الأسباب التي أدت إلي هذا التبعيض ، وطريق ذلك :

1 - الحوار الفردي المستمر حول تفويض الأمر إلي الله وحده ، ولاسيما في قضية الآجال والأرزاق ، وكذلك حول آثار ومخاطر التبعيض علي الفرد والجماعة ، ويحسن عمل دراسة واعية ومستوعبة لهذين الموضوعين قبل بدء الحوار .

2 - الحلقات المفتوحة الموجهة ، بأن يكلف أحد الدعاة المتمكنين بتقديم سلسلة من الدروس القرآنية أو الحديثية ، ولكن في قصص القرآن والسنة ، ويكون التركيز فيها علي قضية الخوف وقضية التبعيض أو التجزيء التي وقعت فيها الأمم الأخرى ... وما جرٌ ذلك عليها من نكال ووبال ، وسبيل الخلاص .

3 - الحوادث اليومية المتكررة ، ومحاولة الاستفادة منها

فمثلا : نجاة واحد من حادث غرق أو زلزال ، أو صدام ، أو حريق ، مع أن الحسابات البشرية كانت تؤكد الموت لا محالة .

هذا يفيد كثيرا - لو أحسن توجيهه - في علاج الخوف واقتلاعه من جذوره من النفس .

والتنكيل اليومي المستمر بالعمل الإسلامي ، وكذلك الفتور والتواني ، كل هذا يفيد في علاج التبعيض أو التجزيء ، إذ لولا هذا التجزيء وذلك التبعيض ما تجرأ أعداء الله علي التنكيل بالعمل الإسلامي ، وما كان هناك فتور أو توان .

د - أن يكون عارفا بالإسلام كلا وعاملا به في نفسه ، ولكنه يؤثر العزلة والتفرد .

ومثل هذا يكون الحديث معه حول واجب الدعوة إلي الله ، وفوائدها ، وكذلك حول الجماعية في العمل وخطر العزلة أو التفرد

وطريق ذلك :

1 - الحوار الفردي المستمر حول الدعوة إلي الله ، وحول الجماعية في العمل ، وخطر العزلة أو التفرد ، وبحسن أن يكون ذلك بعد إعداد دراسة جيدة حول هذين الموضوعين تحيط بهما ، وتبين معالمهما ، وترد علي التساؤلات المثارة حولهما .

2 - الحلقات المفتوحة ، بأن يكلف أحد الدعاة المتمكنين بإلقاء سلسلة دروس حول الدعوة إلي الله ، والجماعية في العمل ، وخطر العزلة أو التفرد ، ويا حبذا لو كان ذلك من خلال الكتاب أو القصص والتاريخ الإسلامي .

3 - الكتب التي تدور حول هذا الموضوع

ونرشح منها :

" الدعوة الإسلامية فريضة شرعية وضرورة بشرية " للدكتور صادق أمين .

" أصول الدعوة " للدكتور عبد الكريم زيدان .

" فقه العمل الجماعي " لمؤلف عراقي .

" الجماعة في الإسلام " سلسلة مقالات منشورة بمجلة الدعوة المصرية المهاجرة .

" ماذا يعني انتمائي للإسلام " للأستاذفتحي يكن .. إلخ .

4 - واقع العالم الإسلامي المرير ، وإبرازه علي أنه أثر من آثار إهمال القيام بواجب الدعوة إلي الله ، وكذلك هو أثر من آثار اللجوء إلي العزلة أو التفرد وإهدار العمل الجماعي .

هـ - أن يكون عارفا بالإسلام كلا ، وعاملا به في نفسه وذنوبه ، ويدعو إليه ، ولكنه يدعو إليه بصورة فردية .

ومثل هذا يكون الحديث معه حول ضرورة العمل الجماعي وبيان مخاطر العزلة أو التفرد علي النحو الذي قدمنا منذ قليل . _ و - أن يكون عارفا بالإسلام كلا ، وعاملا به في نفسه وذويه ، ويدعو إليه ومن خلال جماعة ، ولكنها غير الجماعة التي تأخذ الإسلام بعمومه وشموله ، وتحرص علي أن يكون نظاما ومنهج حياة .

ومثل هذا يكون الحديث معه حول الجماعات الإسلامية علي الساحة ، وتقييم شامل لها ، حتى تكون النتيجة اليقين بأن الطريق هي طريق هذه الجماعة ، وسبيل ذلك :

1 - الحوار الفردي المستمر حول الجماعات الإسلامية الموجودة في ساحة العمل الفردي : تاريخ نشأتها ، وأهدافها ، وغايتها ، ومنهاجها في العمل ، وآثارها الإيجابية والسلبية ، وموقف كل منها من الآخر ، ولابد من دراسة جيدة حول هذا الموضوع تستوفي كل أركانه ، ومعالمه ، وتجيب علي التساؤلات التي تدور حوله .

2 - الحلقات المفتوحة الموجهة ، بأن يكلف أحد الدعاة بإلقاء سلسلة دروس حول الجماعات الإسلامية ، وأهدي هذه الجماعات سبيلا وأقومها قيلا .

3 - الكتب التي تدور حول هذا الموضوع

ونرشح منها :

" الطريق إلي جماعة المسلمين " للمرحوم حسين جابر .

" الدعوة الإسلامية فريضة شرعية وضرورة بشرية " للدكتور صادق أمين .

" الأصولية في العالم العربي " ترجمة عبد الوارث سعيد .

" حتمية الحل الإسلامي " للدكتوريوسف القرضاوي .

4 - معايشة هذه الجماعات عن قرب في ممارستها العامة ولو لمدة يسيرة كعشرة أيام أو كنصف شهر مثلا لكل جماعة ، حتى يطابق القول الواقع ، ويكون ذلك مدعاة حط الرحال عند الجماعة التي ذكرنا آنفا باعتبارها الجماعة الأم ، والتي تضم في ثناياها كل الجماعات الإسلامية الأخرى ، ولكن بإيجابيتها لا بسلبياتها .

وللأستاذ محمود عبد الحليم صاحب كتاب " الإخوان المسلمون أحداث صنعت تاريخ " تجربة عملية في هذا الجانب لا بأس من نقلها هنا للإفادة منها ، إذ كان بداية حياته وفديا حاملا راية الدعوة إلي حرب الوفد المصري والانخراط فيه ، ومديرا لكثير من حلقات النقاش المتصلة به ، ثم انتهت به الحال إلي أن صار من الإخوان ، وفي ذلك يقول:

( وفي أثناء إحدى هذه المناقشات تقدم طالب ، وأسر في أذني أنه يريد أن يتحدث إلي حديثا خاصا بعد انتهاء المناقشة في وقت مناسب ، انتحيت وهذا الطالب جانبا فقال لي : أنا زميل لك بالسنة الأولي ، ومن الفيوم ، واسمي " إسماعيل الخبيري " وأنا خالي الذهن عن أية أفكار أو مبادئ ، وقد استمعت إليك كثيراً ، وأعجبني أسلوبك في المناقشة ، وأحس فيه بالصدق والإخلاص وقد رأيت أن أسلمك نفسي لتوجيهي إلي المبدأ الذي تختاره لي ، وأنا أراك دافع عن الوفد ، فهل تختار لي أن أكون وفديا ؟ فقلت : لا ، فتعجب الشاب من هذا الرد الذي لم يكن يتوقعه ، قال : كيف تكون وفديا ، ولا تختار لي أن أكون كذلك ؟ قلت : إنك شاب عديم الخبرة بالمبادئ والأفكار ، وقد استشرتني ، والمستشار مؤتمن ولا أرضي لنفسي أن أستغلك منتهزا فرصة خلو ذهنك لأحشوه بما أريد ، قال : إذن فماذا تري ؟ قلت : الذي أراه أن تذهب بنفسك منتديات الأحزاب ، وتستمع بنفسك إلي قادتها ، وتناقشهم ، وتقضي في كل ناد عدة ليال ، وتجيء كل صباح تقص علي ما رأيت وما سمعت ، حتى إذا أتممت الجولة علي كل النوادي نجلس معا لتقرر بنفسك الاتجاه الذي تسلكه ... قال : إذن أرشدني إلي أماكن هذه النوادي ، فأرشدته ، وكانت هذه النوادي هي : الوفد ، والأحرار الدستوريون ، والسعديون ، ومصر الفتاة ، والحزب الوطني .

ويجدر بي بهذه المناسبة أن أذكر أنني منذ أقمت بالقاهرة ، وكان مقر دراستي وسكني بالجيزة ، كنت حريصا علي أداء صلاة الجمعة في مسجد الرفاعى بالقلعة ؛ لأن خطيب هذا المسجد الشيخ محمود علي أحمد ، كان خطيبا مفوها ، وكانت خطبه ذات اتصال بالحياة ، وكان رواد هذا المسجد الفسيح من أعلى طبقات القاهرة ثقافة ، وكنت ألاحظ دائما بعد الصلاة ، وفي مستهل الدرس الذي يلقيه الشيخ بعد الصلاة ، أنه كان يلفت نظر الحاضرين إلي شاب بين يديه مجلات يوزعها ، ويحثهم علي اقتنائها ، فكنت أحد الذين يشترونها ، وقد تركت هذه المجلة في نفسي - وكان اسمها : " الإخوان المسلمين " - أثرا عميقا عندما وقع نظري علي واجهتي غلافها ، فعلي وجهها وملء الصفحة رسمت الكرة الأرضية مركوزا عليها علم ، كتب عليه : ( إنما المؤمنون إخوة ) وتمسك بالعلم قبضة يد قوية كتب تحتها : " الإخوان المسلمين " أما ظهرها فيملأه أكلشيه بعنوان " عقيدتنا " تحته سبعة بنود ، يتكون كل بند من جزءين ، أولهما مبدوء بكلمة " أعتقد " والآخر بكلمة " أتعهد " ... ولقد لخصت هذه البنود السبعة الفكرة الإسلامية كما صورتها بجميع أبعادها إلا أن " التعهدات " قد نقلت هذه الفكرة المجردة إلي معترك الحياة في جميع ميادينها ، ... فكانت هذه أول مرة أصادف قوما يعتقدون ما أعتقد بتفاصيله ودقائقه ، فكان تجاوبا عجيبا ، ولكن تجربتي السابقة في جمعيات رشيد - التي أشرت إليها قبلا - أفقدتني الثقة في الذين يدعون العمل للإسلام .

وكان إسماعيل يقابلني في الكلية كل صباح ، ويقص علي ما سمع وما رأي في ليلته الماضية وأناقشه ويناقشني ويخرج في كل مرة برأي معين وتقييم لكل ما رأي وكل ما سمع ، حتى طاف بجميع الأحزاب والهيئات ولم أره شعر برضي عن أي منها ، فوجهته إلي جمعيات إسلامية كانت موجودة ، ومشهورة ، ومنها : جمعية مكارم الأخلاق ، والجمعية الشرعية ، وجمعية أنصار السنة ، فطاف بها جميعا ولم يخرج منها بشيء يرضي شغفه ، ويملأ فراغ نفسه ، وأحسست منه ضجرا مما قد يسلم إلي اليأس ، وتذكرت المجلة التي أشرت إليها آنفا ، فقرأت عنوان الدار التي تصدرها ، وقلت له : لم يبق في جعبتي إلا جمعية واحدة قرأ عن مبادئها فأعجبتني ، وملأت نفسي ، لكن عندي سوء ظن بالناس الذين يعملون بالجمعيات الإسلامية نتيجة تجربة لي سابقة فسأعطيك عنوان هذه الجمعية لذهب إليها ، لا لتناقش مبادئها وأفكارها ، بل لتراقب لي العاملين بها ، لاسيما رئيسها ، ولقد كنت تقضي في كل حزب أو هيئة ثلاث ليال أو أربع لكني أريد أن تقضي في هذه الجمعية فترة طويلة لا تقل عن الشهر ؛ لأن مراقبة العاملين تستغرق وقتا طويلا .

ذهب إسماعيل إلي هذه الجمعية في العنوان الذي كتبته له وهو 13 شارع الناصرية بالسيدة زينب بالقاهرة ، وكان كل صباح يقص علي ما رأي ، وما سمع ، وما لفت نظره ، وكان يمكث بالجمعية كل ليلة حتى تغلق أبوابها ، فأخبرني عن رئيسها ، ووصفه لي ، فتذكرت الرجل الذي زرته وصديقي جمال في حارة الروم ، ووجدت أوصافه حين وصفه إسماعيل تنطبق عليه تماما .

بعد انقضاء الشهر بأنني أصبحت مقتنعا بالعاملين في هذه الجمعية ، كما شعر بأن إسماعيل يبادلني نفس الشعور ، وقد قرر بمحض اختياره أنه يركن مطمئنا إلي هذه الجمعية ، وقد زكيت اختياره ، وقل له :

إذن فاذهب الليلة إليهم وحرر طلب الالتحاق بها وواظب علي اجتماعاتها .

فقال لي : أنا وحدي ؟ قلت : نعم أنت وحدك ، قال : ولم لا تكون أنت قبلي وأنت أحق مني ، وأنفع ؟ قلت : إن لي ارتباطات مع هؤلاء القوم ، والحركة السياسية الآن علي أشدها ولا أستطيع أن أنسلخ والحالة هذه ، فيقال : إني جبنت ، فذهب إسماعيل والتحق ) .

ز - أن يكون عارفا بالإسلام كلا ، ملتزما به في نفسه ، موقنا أن الطريق للتمكين لهذا الدين هي طريق الجماعة المذكورة آنفا ، غاية ما في الأمر أن لديه شبهات وتساؤلات حول هذه الجماعة لكثرة السهام التي صوبت ، وتصوب إليها .

ومثل هذا يكون الحديث معه حول الرد علي هذه الشبهات ، والإجابة علي هذه التساؤلات ، وطريق ذلك :

1 - الحوار الفردي المستمر حول هذه الشبهات وتلك التساؤلات ، ويحسن إحصاء هذه الشبهات وتلك التساؤلات أولا ، ثم إعداد ردود وإجابات عليها بصورة دقيقة حتى تقتلع من أساسها ، ولا يبقي لها أدني صدي في النفس .

2 - الكتب والرسائل التي تشرح أصول دعوة هذه الجماعة لاسيما الثوابت فيها

ونرشح منها :

" مجموعة رسائل الإمام البنا " لاسيما الرسائل : " بين الأمس واليوم " " التعاليم " " المؤتمر الخامس "

" مذكرات الدعوة والداعية " للإمام البنا .

" المدخل إلي جماعة الإخوان المسلمين " للشيخ سعيد حوي .

" الإخوان المسلمين والمجتمع المصري " ... إلخ .

3 - السماع من شيوخ هذه الجماعة وقادتها في جلسة مغلقة بما يفند مثل هذه الشبهات ، ويجيب علي تلك التساؤلات .

هذه هي الصور التي يكون عليها المدعو غالبا ، وذاك هو طريق التعامل مع كل صورة من هذه الصور في هذه المرحلة .

وجدير بالذكر أن نشير إلي أن أساس هذه المرحلة إنما هو فعله صلي الله عليه وسلم ، إذ كان يجيب علي التساؤل الواحد بإجابات متنوعة تبعا لحال وظروف السائل .

جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله : سألت رسول الله صلي الله عليه وسلم قلت ، يا رسول الله ، أي العمل أفضل ؟ قال : " الصلاة علي ميقاتها " قلت : ثم أي ؟ قال : " بر الوالدين " ، قل : ثم أي ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " ، فَسَكَتٌَ عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني .

وجاء عن أبي ذر رضي الله عنه قوله : سألت رسول الله صلي الله عليه وسلم : أي العمل أفضل ؟ قال : " أغلاها ثمنا ، وأنفسها عند أهلها " ، قلت : : فإن لم أفعل ؟ قال : " تعين صانعا أو تصنع لأخرق " ، قال : فإن لم أفعل ؟ قال : تدع الناس من الشر ، فإنها صدقة تصدق بها علي نفسك " .

وجاء عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وسلم سئل : أي العمل أفضل ؟ قال : " إيمان بالله ورسوله ، ثم الجهاد ، ثم حج مبرور " بل كان صلي الله عليه وسلم يوجه ويرشد كل واحد من الناس بما يتناسب مع الحال التي هو عليها ، فقد عرف عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه شدد علي نفسه في العبادة فقال له : " ألم أخبر أنك تصوم النهار ، وتقوم الليل ؟ " قلت : بلي ، يا رسول الله ، قال : " فلا تفعل : صم وأفطر ، ونم وقم ، فإن لجسدك عليك حقا ، وإن لعينك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا ، وإن لزورك عليك حقا ، وإن بحسبك أن تصوم في كل شهر ثلاثة أيام ، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها ، فإن ذلك صيام الدهر " .

وعرف عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان ينام الليل ولا يقوم ، فقال : " نعم الرجل عبد الله ، لو كان يصلي من الليل " ولقد أثرت هذه الكلمات في نفس ابن عمر حتى قال عنه ابنه سالم : فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام الليل إلا قليلا .

وكتبه صلي الله عليه وسلم للملوك والأمراء ورؤساء القبائل المجاورين بعد الحديية خيلا شاهد علي أنه صلي الله عليه وسلم كان يوجه الخطاب للمدعو تبعا للحال التي هو عليها .

علي أن الواقع الذي نعيشه يؤكد ذلك ، إذ عندما يمشي مريض إلي طبيب ماهر للداوي يجري معه الطبيب سلسلة من التساؤلات والاستفسارات ويقوم بفحصه ، ويكلفه بإجراء بعض التحاليل والاختبارات ، والرسومات والصور ، كل هذا بهدف الوقوف علي نوع المرض بيقين أو يظن غالب علي الأقل ، ثم يصف له الدواء الذي يناسب ذلك الداء ، وكذلك نحن مع المدعوين ، ينبغي أن نقف علي الداء ، ثم نحدد الدواء المناسب لهذا الداء .

المرحلة الثالثة : اختبار صحة الفهم وصدق الولاء

وفي هذه المرحلة يتم التحقق من صحة الفهم ، وصدق الولاء ، وسبيل ذلك الملاحظة من خلال المعايشة والمصاحبة ، والتجربة في كل ميادين الحياة ، وفي سائر التصرفات .

  • في المسجد ، حيث يقول الله عز وجل : (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) .

ويقول النبي صلي الله عليه وسلم : " إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد ، فاشهدوا له بالإيمان ، فإن الله تعالي يقول : ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتي الزكاة ...) الآية "

  • وفي البيت ، حيث يقول الله تعالي : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) .
  • وفي ساعات الشدة والرخاء ، حيث يقول الله تعالي : (* إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ tbqكJح!#yٹ ) .
  • وفي أثناء الحديث ومن خلال السمت العام ، حيث يقول الله تعالي : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ... ) ، (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ... ) .

ويقول النبي صلي الله عليه وسلم : " آية المنافق ثلاث : إذا حدٌَث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " ، " أربع من كنٌَ فيه منافقا خالصا ، ومَنْ كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ، إذا اؤتمن خان ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ، وإذا حدث كذب " .

  • وفي الطعام والشراب ، حيث يقول صلي الله عليه وسلم : " المؤمن يأكل في معي واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء " ، وفي رواية : أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ضافه ضيف وهو كافر ، فأمر له رسول الله صلي الله عليه وسلم بشاةٍ فحلبت ، فشرب حلابها ، ثم أخري فشربه ، ثم أخري فشربه ، حتى شرب حلاب سبع شياه ، ثم إنه أصبح فأسلم ، فأمر له رسول الله صلي الله عليه وسلم بشاة فشرب حلابها ، ثم أمر بأخرى فلم يستتمها ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " المؤمن يشرب في معي واحد ، والكافر يشرب في سبعة أمعاء " .
  • وفي سائر المعاملات ، مالية أو غير مالية .
  • وفي كل الأحوال ، في السفر ، وفي الحضر ، في التفرد ، وفي الاجتماع .

وينبغي أن يكون الميزان الذي توزن به كل هذه التصرفات الكتاب والسنة ، إذ يقول سبحانه : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) ، (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ) ، ولا بأس من الاستئناس أو الاستنارة بما أثر عن السلف والخلف في هذا الباب :

فقد أثني رجل علي رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،فقال له عمر :هل صحبته في سفر قط ؟ قال : لا ، قال : هل ائتمنته علي أمانة قط ؟ قال : لا ، قال : هل كانت بينك وبينه معاملة في حق ؟ قال : لا ، قال : اسكت ، فلا أري لك علما به ، أظنك والله رأيته في المسجد يخفض رأسه ويرفع .

وجاء عن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال : قالت لي عائشة : يابن أختي ، بلغني أن عبد الله بن عمرو مارٌ بنا إلي الحج .

فالقه فسائله ، فإنه قد حمل عن النبي صلي الله عليه وسلم علما كثيرا ، قال : فلقيته ، فساءلته عن أشياء يذكرها عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال عروة : فكان فيها ذكر : أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " إن الله لا ينتزع العلم من الناس انتزاعا ، ولكن يقبض العلماء ، فيرفع العلم معهم ، ويبقي في الناس رؤوساً جهالا ، يفتونهم بغير علم فَيٌُضَلٌَون ويَضلِون " ، قال عروة : فلما حدثت عائشة بذلك ، أعظمت ذلك ، وأنكرته ، قالت : أحدثك أنه سمع النبي صلي الله عليه وسلم يقول هذا ؟ .

قال عروة : حتى إذا كان قابل ، قالت له ، إن ابن عمرو قدم ، فالقه ، ثم فاتحه ، حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم ، قال : فلقيته : فساءلته ، فذكره لي نحو ما حدثني به في مرته الأولي ، قال عروة : فلما أخبرتها بذلك ، قالت : ما أحسبه إلا قد صدق ، أراه لم يزد فيه شيئا ، ولم ينقص .

وأثر عن سفيان الثوري رضي الله عنه أنه كان يختبر أخلاق مَنْ يريد مصاحبته ومؤاخاته بأن يصطنع معه خصومة مفتعلة ثم ينظر في الآثار والنتائج ، فإن وجد أنه حفظ سرٌَه ، ولم ينشره ، عاد معتذرا إليه وآخاه ، ولم يفرط فيه بعد ، وإن وجد أنه لم يحفظ سرٌَه بل ينشره ، وأذاعه بين الناس طرحه ، وأعرض عنه قائلا : ( علامة المنافق أنه إذا خاصم فجر ) .

وأثر عن الشيخ حسن البنا أنه - لحرصه علي معرفة حقيقة من يصحبه ومَنْ يمشي معه - جهز رحلة لبعض أتباعه من القاهرة إلي الإسماعيلية وكان موعد الرحيل : الساعة السادسة صباحا ، وتجمع هؤلاء في مكان السفر ، وقصد أن تصل الحافلة إلي هذا المكان بعد حلول الموعد بقليل ، وكان عدد الحضور يفوق عدد المقاعد ، وحين حضرت الحافلة أخذوا يتزاحمون في الصعود إليها حتى سبق الشباب ، والأقوياء ، الشيوخ والضعفاء في حجز الأماكن والقعود فوقها ، وهنا ألغي الرجل الرحلة معلقا : ( إذا كان هذا شأنكم وأنتم ههنا في رخاء ، فكيف لو صرتم إلي شدة أو محنة ) .

بل ينبغي أن يكون التركيز في هذا الاختبار علي ضرورة توافر الأخلاق الأساسية ، التي ينبغي أن يتخلق بها الإنسان فضلا عن المسلم ، مثل : الصدق ، والأمانة ، والشجاعة ، والتضحية ، والبذل ، وتعظيم الحرمات ، والبعد عن المراء والجدل ، والبعد عن التعصب الأعمى ، والذكاء ، وقوة الشخصية ، وبعد النظر وسعة الأفق ، والبعد عن العجلة ، والعنف ، واللين في موضع اللين ، والشدة في موضع الشدة .

وحين يظهر من هذا الاختبار صحة الفهم ، وصدق الولاء ، فإنه ينبغي السير في الطريق بدءاً من مرحلة البناء والإعداد والتكوين ، وانتهاء بمرحلة التنفيذ ، والعمل .

الفصل السادس

صور من الدعوة الفردية في العصر النبوي

ونعطر هذا البحث بصور من الدعوة الفردية في العصر النبوي ، باعتباره عصر التشريع ، وعصر الأسوة والقدوة ، وذلك علي النحو التالي :

الصورة الأولي : دعوة النبي صلي الله عليه وسلم أبا بكر الصديق

أورد الحافظ ابن كثير في " البداية والنهاية " صورة دعوة النبي صلي الله عليه وسلم أبا بكر الصديق فقال :

( أخرج الحافظ أبو الحسن الأطرابلسي عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرج أبو بكر يريد رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وكان له صديقا في الجاهلية ، فلقيه فقال : يا أبا القاسم ، فقدت من مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " إني رسول الله ، أدعوك إلي الله " ، فلما فرغ من كلامه أسلم أبو بكر ، فانطلق عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم وما بين الأخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلام أبي بكر ) .

ولعل السبب في هذه الاستجابة السريعة من أبي بكر رضي الله عنه ما تذكره كتب السيرة من أنه كان صاحب رسول الله صلي الله عليه وسلم قبل البعثة ، وكان يعلم من صدقه وأمانته ، وحسن سجيته وكرم أخلاقه ، ما يمنعه من الكذب علي الخلق ، فكيف يكذب علي الله ، ولهذا بادر - بمجرد ما ذكر له أن الله أرسله - إلي تصديقه ، ولم يتلعثم ، ولم يتوقف ، وقد صرح رسول الله صلي الله عليه وسلم بذلك فقال : " ما دعوت أحدا إلي الإسلام إلا كانت عنده كبوة ، وتردد ، ونظر ، إلا أبا بكر ما عكم عنه حين ذكرته ، ولا تردد "

الصورة الثانية : دعوة النبي صلي الله عليه وسلم الحصين والدعمران

أورد ابن حجر في " الإصابة " قصة إسلام الحصين هذا فقال :

( أخرج ابن خزيمة عن عمران بن خالد بن طليق بن محمد بن عمران بن حصين قال : حدثني أبي عن أبيه عن جده : أن قريشا جاءت إلي الحصين - وكانت تعظمه - فقالوا له : كلم لنا هذا الرجل ، فإنه يذكر آلهتنا ، ويسبهم فجاءوا معه حتى جلسوا قريبا من باب النبي صلي الله عليه وسلم فقال : " أوسعوا للشيخ " - وعمران وأصحابه متوافرون فقال - حصين : ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا ، وتذكرهم ، وقد كان أبوك حصينة وخيرا ؟ فقال : " يا حصين ، إن أبي وأباك في النار يا حصين ، كم تعبد من إله ؟ "

قال : سبعا في الأرض ، وواحدا في السماء .

قال : " فإذا أصابك الضر من تدعو " ؟ قال : الذي في السماء قال : " فإذا هلك المال من تدعو ؟ قال الذي في السماء .

قال : " فيستجيب لك وحده ، وتشركهم معه ، وأرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك ؟ " قال : ولا واحدة من هاتين .

قال : وعلمت أني لم أكلم مثله .

قال : " يا حصين ، أسلم تسلم " .

قال : إن لي قوما وعشيرة ، فماذا أقول ؟

قال : " قل : اللهم أستهديك لأرشد أمري ، وزدني علما ينفعني " .

فقالها حصين فلم يقم حتى أسلم .

فقام إليه عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه ، فلما رأي ذلك النبي صلي الله عليه وسلم بكي ، وقال : " بكيت من صنيع عمران دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران ، ولم يلتفت ناحيته ، فلما أسلم قضي حقه فدخلني من ذلك الرقة " .

فلما أراد حصين أن يخرج قال لأصحابه : " قوموا فشيعوه إلي منزله " فلما خرج من سدة الباب رأته قريش ، فقالوا : صبأ ، وتفرقوا عنه ) .

ولعل الذي حدا بالحصين والدعمران أن يسلم بهذه السرعة ، سلامة فطرته ، وحسن استعداده من ناحية ، وقوة حجة الرسول صلي الله عليه وسلم وسلامة منطقة من ناحية أخري .

الصورة الثالثة : دعوة النبي صلي الله عليه وسلم عدي بن حاتم

عن عدي بن حاتم قال : جاءت خيل رسول الله صلي الله عليه وسلم وأنا بعقرب ، فأخذوا عمتي ، وناسا ، فلما أتوا بهم رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : فصفوا له ، قالت : يا رسول الله ، بان الوافد ، وانقطع الولد ، وأنا عجوز كبير ما بي من خدمة ، فمنٌَ عليٌَ مَنٌ الله عليك ، فقال : " ومن وافدك ؟ " قالت : عدي بن حاتم ، قال : " الذي فر من الله ورسوله ؟ " قالت : فمُنٌَ عليٌَ ، فلما رجع ، ورجا إلي جنبه نري أنه علي ، قال : سليه حملانا قال : فسألته ، فأمر لها ، قال عدي : فأتتني فقالت : لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها ، وقالت : إيته راغبا أو راهبا ، فقد أتاه فلان ، فأصاب منه ، وأتاه فلان فأصاب منه ، قال : فأتيته ، فإذا عنده امرأة وصبيان - أو صبي - فذكر قربهم منه ، فعرفت أنه ليس ملك كسري ، ولا قيصر ، فقال له : " يا عدي بن حاتم ، ما أفرك ؟ أفرك أن يقال : لا إله إلا الله فهل من إله إلا الله ؟ ما أفرك ؟ أفرك أن يقال : الله أكبر فهل شيء هو أكبر من الله عز وجل ؟ " قال : فأسلمت فرأيت وجهه استبشر ، وقال : " إن المغضوب عليهم اليهود ، وإن الضالين النصارى " .

وفي رواية أخري أنه قال : لما بلغني خروج رسول الله صلي الله عليه وسلم كرهت خروجه كراهية شديدة ، فخرجت حتى وقعت ناحية الروم - وفي رواية : حتى قدمت علي قيصر - قال : فكرهت مكاني ذلك أشد من كراهتي لخروجه .

قال : قلت : والله لولا أتيت هذا الرجل فإن كان كاذبا لم يضرني ، وإن كان صادقا علمت .

قال : فقدمت فأتيته ، فلما قدمت قال الناس : عدي بن حاتم ، عدي بن حاتم ، فدخلت علي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال لي : " يا عدي بن حاتم ، أسلم تسلم " - ثلاثا -

قال : قلت : إني علي دين قال : " أنا أعلم بدينك منك " .

فقلت : أنت أعلم بديني مني ؟

قال : " نعم ألست من الركوسية ، وأنت تأكل مرباع قومك ؟ " قلت : بلي قال : " هذا لا يحل لك في دينك " .

قال : فلم يَعْدُ أن قالها فتواضعت لها

فقال : " أما إني أعلم الذي يمنعك من الإسلام

تقول : إنما اتبعه ضعفة الناس ، ومن لا قوة لهم ، وقد رمتهم العرب ، أتعرف الحيرة ؟ "

فقلت : لم أرها ، وقد سمعت بها ، قال : " فو الذي نفسي بيده ، ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ، وليفتحن كنوز كسري بن هرمز " .

قال : قلت : كسري بن هرمز ؟

قال : نعم ، كسري بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد " قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تأتي من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسري ، والذي نفسي بيده ، لتكونن الثالثة ؛ لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد قالها .

ولعل الذي حدا عدي بن حاتم أن يدخل في الإسلام بهذه الصورة المشرقة ، سلامة فطرته ، ونضج فكره من ناحية ، وقوة حجة الرسول صلي الله عليه وسلم واهتدائه إلي الطريق التي دخل منها إلي عقل وقلب عدي بن حاتم رضي الله عنه وأرضاه من ناحية أخري .

الصورة الرابعة : دعوة النبي صلي الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو الدوسي

ذكر ابن إسحاق فقال : ( كان رسول الله صلي الله عليه وسلم علي ما يري من قومه يبذل لهم النصيحة ، ويدعوهم إلي النجاة مما هم فيه ، وجعلت قريش حين منعه الله منهم ، يحذرونه الناس ، ومن قدم عليهم من العرب ، وكان طفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة ، ورسول الله صلي الله عليه وسلم بها .

فمشي إليه رجال من قريش - وكان الطفيل رجلاً شريفاً ، شاعراً لبيبا - فقالوا له : يا طفيل ، إنك قدمت بلادنا ، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا ، فرٌق جماعتنا ، وإنما قوله كالسحر يفرق بين المرء وبين أبيه ، وبين الرجل وبين أخيه ، وبين الرجل وبين زوجته ، وإنما يخشي عليك وعلي قومك ما قد دخل علينا ، فلا تكلمه ، ولا تسمع منه قال : فوالله مازالوا بي حتى أجمعت علي ألا أسمع منه شيئاً ، ولا أكلمه ، حتى حشوت أذنيٌ حين غدوت إلي المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني من قوله ، وأنا لا أريد أن أسمعه .

قال : فغدوت إلي المسجد فإذا رسول الله صلي الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة قال : فقمت قريبا منه ، فأبي الله إلا أن يسمعني بعض قوله .

قال : فسمعت كلاما حسنا .

قال : فقلت في نفسي : واثكل أمي ، إني لرجل لبيب شاعر ، ما يخفي علي الحسن من القبيح ، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول ؟ فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته ، وإن كان قبيحا تركته .

فمكثت حتى انصرف رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي بيته ، فاتبعته ، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه ، فقلت : يا محمد ، إن قومك قالوا لي كذا وكذا - للذي قالوا لي - فوالله مابرحوا يخوفونني أمرك ، حتى سددت أذني بكرسف ؛ لئلا أسمع قولك ، ثم أبي الله إلا أن يسمعنيه فسمعت قولا حسنا ، فأعرض علي أمرك ، فعرض علي الإسلام ، وتلا علي القرآن .

قال : فوالله ما سمعت قولا قط أحسن ، ولا أمر أعدل منه .

قال : فأسلمت وشهدت شهادة الحق

وقلت : يا نبي الله ، إني امرؤ مطاع في قومي ، وأنا راجع إليهم ، وداعيهم إلي الإسلام فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه .

قال : فقال : " اللهم اجعل له آية " القصة ) .

الصورة الخامسة : دعوة معاذ بن جبل وآخرين من بني سلمة عمرو بن الجموح

ذكر ابن إسحاق فقال : ( لما قدم الأنصار المدينة بعدما بايعوا رسول الله صلي الله عليه وسلم ظهر الإسلام بها ، وفي قومهم بقايا علي دينهم من أهل الشرك ، منهم عمرو بن الجموح ، وكان ابنه معاذ قد شهد العقبة وبايع رسول الله صلي الله عليه وسلم بها ، وكان عمرو بن الجموح قد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له " مناة " - كما كانت الأشراف يصنعون - يتخذه إلها ، ويطهره فلما أسلم فتيان بني سلمة :

معاذ بن جبل ، ومعاذ بن عمرو بن الجموح في فتيان منهم - ممن أسلم ، وشهد العقبة - كانوا يدلجون بالليل علي صنم عمرو ذلك ، فيحملونه ، فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة ، وفيها عِذَرُ الناس منكسا علي رأسه ، فإذا أصبح عمرو قال : ويلكم من عدا علي إلهنا في هذه الليلة ؟ قال : ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله ، وطهره ، وطيبه .

ثم قال : وايم الله لو أني أعلم ما صنع بك هذا لأخزينه ، فإذا أمسي عمرو ونام عَدَوا عليه ففعل به مثل ذلك .

فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما ، فغسله ، وطهره ، وطيبه ، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ، ثم قال : إني والله ما أعلم من يفعل بك ما تري ، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك .

فلما أمسي ، ونام عَدَوَا عليه ، فأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه معه بحبل ، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذرة من عذر الناس ، وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده مكانه الذي كان فيه ، فخرج في طلبه حتى وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت ، فلما رآه ، وأبصر شأنه ، وكلمه من أسلم من قومه أسلم - يرحمه الله - وحسن إسلامه ، وقال حين أسلم ، وعرف من الله ما عرف ، وهو يذكر صنمه ذلك ، وما أبصره من أمره ، ويذكر الله الذي أنقذه مما كان فيه من العمى ، والضلالة ، يقول :

والله لو كنت إلها لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن

أف لملقاك إلها مستدن الآن فتشناك عن سوء الغبن

الحمد لله العلي ذي المنن الواهب الرزاق ديان الدين

هو الذي أنقذني من قبل أن أكون في ظلمة قبر مرتهن

ولعل السبب في إسلام عمرو بن الجموح - بعد فضل الله عز وجل ومننه - يرجع إلي هذه الحيلة الكريمة التي صنعها ابن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل والتي بينت بشكل علمي واقعي أن ما يدعي من دون الله أو مع الله لا يملك ضرا ،ولا نفعا ، ولا موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا ، فضلا عن أن يملك ذلك غيره :

((#rنsƒھB$#ur مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ) ، (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ) وإذاً فمن الجحود أن يشرك الإنسان هؤلاء مع الله ، وهم لا حول لهم ولا قوة هذا من ناحية ، ثم سلامة فطرة عمرو بن الجموح ، واستعماله عقله ، واحترامه آدميته من ناحية أخري .

الصورة السادسة : دعوة عبد الله بن رواحة أبا الدرداء

قال الواقدي : ( كان أبو الدرداء رضي الله عنه فيما ذكر ، آخر أهل داره إسلاما ، لم يزل متعلقا بصنم له ، وقد وضع عليه منديلا ، وكان عبد الله بن رواحة يدعوه إلي الإسلام فيأبي فيجيئه عبد الله بن رواحة ، وكان له أخا في الجاهلية قبل الإسلام فلما رآه قد خرج من بيته ، وأعجل امرأته ، وإنها لتمشط رأسها فقال : أين أبو الدرداء ؟ فقالت : خرج أخوك آنفا ، فدخل بيته الذي كان فيه الصنم ، ومعه القدوم فأنزله ، وجعل يقدده فلذا ، فلذا ، وهو يرتجز سرا من أسماء الشياطين كلها : ألا كل ما يدعي مع الله باطل ، ثم خرج ، وسمعت المرأة صوت القدوم ، وهو يضرب ذلك الصنم فقالت : أهلكتني يا ابن رواحة ، فخرج علي ذلك فلم يكن شيء حتى أقبل أبو الدرداء إلي منزله ، فدخل فوجد المرأة قاعدة شفقا منه ، فقال : ما شأنك ؟ قالت : أخوك عبد الله بن رواحة دخل علي فصنع ما تري ، فغضب غضبا شديدا ، ثم فكر في نفسه فقال : لو كان عند هذا خير لدفع عن نفسه ، فانطلق حتى أتي رسول الله صلي الله عليه وسلم ومعه ابن رواحة فأسلم ) .

ولعل السبب المباشر في إسلام أبي الدرداء ، حكمة عبد الله بن رواحة في تعرية هذا الإله الخشبي الصنم من كل مظهر من مظاهر القدرة ، هذا من ناحية ، واستعمال أبي الدرداء عقله من ناحية أخري .

الصورة السابعة : دعوة أم سليم أبا طلحة الأنصاري

عن أنس رضي الله عنه قال : إن أبا طلحة خطب أم سليم - يعني قبل أن يسلم - فقالت : يا أبا طلحة ، ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد نبت من الأرض ؟ قال : بلي ، قالت : أفلا تستحي تعبد شجرة ؟ إن أسلمت فإني لا أريد منك صداقا غيره .

قال : حتى أنظر في أمري فذهب ثم جاء

فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله .

فقالت : يا أنس ، زوج أبا طلحة ، فزوجها .

ويرجع السبب في إسلام أبي طلحة إلي صفاء فطرته من ناحية ، وحكمة أم سليم في الدعوة من ناحية أخري .

الصورة الثامنة : دعوة مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة أسيد بن حضير

ذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وغيره أن أسعد بن زرارة خرجَ بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل ، ودار بني ظفر - وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة - فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر علي بئر ، يقال له : بئر مرق ، فجلسا في الحائط ، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم - وسعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني الأشهل ، وكلاهما مشرك علي دين قومه - فلما سمعا به قال سعد لأسيد : لا أبا لك انطلق إلي هذين الرجلين قد يأتينا دارينا ، ليسفها ضعفاءنا فازجرهما ، وانههما أن يأتيا دارينا ، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك ، هو ابن خالتي ، ولا أجد عليه مقدما قال : فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب : هذا سيد قومه ، وقد جاءك فاصدق الله فيه ، قال مصعب : إن يجلس أكلمه

قال : فوقف عليهما متشتما

فقال : ما جاء بكما إلينا ، تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة - يعني : إن كنتما تريدان الإبقاء علي حياتكما - فقال له مصعب : أو تجلس فتسمع ، فإن رضيت أمراً قبلته ، وإن كرهته كف عنك ما تكره .

قال : أنصفت .

قال : ثم ركز حربته ، وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام ، وقرأ عليه القرآن فقالا فيما يذكر عنهما : والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله ، ثم قال : ما أحسن هذا وأجمله ، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له : تغتسل فتطهر ، وتطهر ثوبيك ، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي فقام فاغتسل ، وطهر ثوبيه وتَشَهٌَدَ شهادة الحق ، ثم قام فركع ركعتين .

الصورة التاسعة : دعوة مصعب بن عمير وأسيد بن حضير سعد بن معاذ

ذكر ابن إسحاق أنه لما أسلم أسيد بن حضير قال لمصعب بن عمير ، وأسعد بن زرارة : إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن : سعد بن معاذ ، ثم أخذ حربته وانصرف إلي سعد وقومه ، وهم جلوس في ناديهم فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فلما وقف علي النادي قال له سعد : ما فعلت ؟ قال : كلمت الرجلين : فوالله ما رأيت بهما بأسا ، وقد نهيتهما فقالا : نفعل ما أحببت وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلي أسعد بن زرارة ليقتلوه ، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك قال : فقام سعد بن معاذ مغضبا مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة وأخذ في يده ثم قال : والله ما أراك أغنيت شيئاً ، ثم خرج إليهما سعد ، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيد إنما أراد أن يسمع منهما ، فوقف متشتما ثم قال لأسعد ابن زرارة ، يا أبا أمامة ، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني ، أتغشانا في دارنا بما نكره ؟ قال : وقد قال أسعد لمصعب : أي مصعب ، جاءك والله سيد وراءه من قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان .

قال له مصعب : أو تقعد فتسمع ، فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قبلته ، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ؟ قال سعد : أنصفت ، ثم ركز الحربة ، وجلس ، فعرض عليه الإسلام ، وقرأ عليه القرآن ، وذكر موسي بن عقبة أنه قرأ عليه أول الزخرف قالا : فعرفنا والله من وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله ، ثم قال لهما : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ، ودخلتم في هذا الدين ؟ قال : تغتسل فتطهر ، وتطهر ثوبيك ، ثم تشهد شهادة الحق ، ثم تصلي ركعتين .

قال : فقام فاغتسل ، وطهر ثوبيه ، وشهد شهادة الحق ، ثم ركع ركعتين ، ثم أخذ حربته فأقبل عائدا إلي نادي قومه ، ومعهم أسيد بن حضير ، فلما رآه قومه مقبلا قالوا : نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من

عندكم ، فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل ، كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا : سيدنا ، وأفضلنا رأيا ، وأيمننا نقيبة . قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله .

قال : فوالله ما أمسي في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة .

ولعل السبب في إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ بهذه الصورة ، إنما يرجع إلي حكمة مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة في الدعوة من ناحية ، وتحكيم عقل الرجلين ، واستجابتهما لنداء الفطرة من ناحية أخري .

الصورة العاشرة : دعوة النبي صلي الله عليه وسلم ضمادا رضي الله عنه

يروي ابن عباس رضي الله عنهما فيقول : قدم ضماد مكة - وهو رجل من أزد شنوءة - وكان يرقي من هذه الرياح ، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون : إن محمداً مجنون .

فقال : أين هذا الرجل ؟ لعل الله يشفيه علي يدي .

فلقيت محمداً فقلت : إني أرقي من هذه الرياح ، وإن الله يشفي علي يدي من شاء فهلمٌ .

فقال محمد : " إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له " - ثلاث مرات -

فقال : والله لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة ، وقول الشعراء ، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات فهلم يدك أبايعك علي الإسلام ، فبايعه رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال له : " وعلي قومك " .

فقال : وعلي قومي .

فبعث النبي صلي الله عليه وسلم جيشا فمروا بقوم ضماد .

فقال صاحب الجيش للسرية : هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئاًًً ؟ فقال رجل منهم : أصبت منهم مطهرة ، فقال : ردها عليهم فإنهم قوم ضماد ، وفي رواية فقال له ضماد : أعد علي كلماتك هؤلاء ، فلقد بلغن قاموس البحر .

ولعل السبب في إسلام ضماد بهذه السرعة صفاء فطرته وسلامة عقله من ناحية ، وحكمة النبي صلي الله عليه وسلم في دعوته ، وحسن تخيره الكلمات التي أسمعه إياها من ناحية أخري .

الخاتمة

وبعد : فقد كشفت لنا هذه الدراسة عن عدة حقائق في غاية الأهمية نوجزها فيما يلي :

1 - وجوب الدعوة إلي الله تعالي علي كل مسلم ومسلمة ، انطلاقاً من قوله صلي الله عليه وسلم : " ليبلٌغ الشاهد منكم الغائب " ، " بلغوا عني ولو آية .. " ، غاية ما في الأمر أن هذه الدعوة قد تكون مباشرة وقد تكون غير مباشرة ، فالمتفرغون لهذه الدعوة تكون مباشرة بالنسبة لهم ، والباقون الذين يعينونهم علي أمرهم تكون الدعوة غير مباشرة بالنسبة لهم .

2 - تتسع أساليب ووسائل الدعوة إلي الله تعالي بحيث تتناول كل مناشط الحياة ، فالطبيب ، والمهندس ، والفلكي ، والجغرافي ، والمؤرخ ، والصيدلاني ، والزارع ، والتاجر ، والصانع ، وغيرهم ، وغيرهم ، يمكنهم بعملهم هذا أن يكونوا دعاة إلي الله وهداة إذا أتقن به إلي الله أولا ، وينفع به أمته ثانيا ، وأحسن معاملة الناس في نفس الوقت .

3 - أن الدعوة إلي الله تعالي ثمرات وفوائد في الدنيا والآخرة يجمعها قول الله تعالي : (t وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

4 - أن الدعوة الفردية ذات فوائد وخصائص يجمعها الدوام والاستمرار مع الخلو عن التعقيد والتكلف ، ومع تخريج دعائم وركائز العمل الإسلامي .

5 - أن النجاح في الدعوة الفردية يعتمد علي الأسوة والقدوة ، وعلي الحكمة أو البصيرة ، مع الاستعانة بالله والاعتماد عليه أولاً وقبل كل شيء .

هذا وإذا كان لنا أن نقول شيئاً في هذا المجال ، فإننا نوصي ونقترح ما يلي :

1 - عمل دراسة شاملة ومستوعبة لكل أساليب ووسائل الدعوة إلي الله تعالي ، علي نحو ما قدمنا في الدعوة الفردية .

2 - تدعيم هذه الدراسة بالصور الواقعية التطبيقية ولاسيما هذه الصور المستقاة من حياة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين .

3 - متابعة الدعاة للمدعوين ؛ للتأكد من صحة هضم وتطبيق أساليب الدعوة ؛ لئلا يقع خلل في التطبيق فيكون مالا يحمد عقباه .

هذا وإنا لنرجو من الله قبول هذا العمل ، مع التوفيق والسداد ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

وكتبه
أبو يوسف / السيد محمد نوح