في اجتماع رؤساء المناطق والشعب

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
تحرير في اجتماع رؤساء المناطق والشعب


بقلم: الإمام الشهيد حسن البنا

2003-01-04

مقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين..

أيها الإخوة الفضلاء..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فقد خطر لي أن أشكركم على ما تجشمتم من مشقة وتحملتم من عناء وأنفقتم من نفقة في سبيل حضوركم هذا الاجتماع، ولكني سألت نفسي: أليس ذلك هو أيسر ما تقتضيه الدعوة من واجبات؟ وإذاً ففيم الشكر، وقديمًا قيل: لا شكر على واجب، ولهذا عدلت عن أن أتقدم إليكم شاكرًا، ولكن ذلك لا يحول بيني وبين أن أتقدم إليكم مبشرًا، بما أعد الله لعباده العاملين المخلصين من عظيم الأجر وجزيل المثوبة متى عملوا وأخلصوا واستجابوا لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم، فبشراكم أيها الإخوان..

إنكم ما خطوتم خطوة أو أنفقتم نفقة تبتغون بها إعزاز كلمة الله ونصر الدعوة والاجتماع على الحب في الله والتآخي في الله، إلا كتب الله لكم بها، ورفع لكم بها في الملأ الأعلى ذكرًا، وصدق الله العظيم: (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (التوبة:121)، كما أني أتقدم كذلك مهنئًا بهذا الموسم، موسم عيد الفطر، سائلاً الله تبارك وتعالى أن يعيده على الإنسانية التائهة بالهداية والتوفيق، وإن كان عيدنا الحقيقي يوم تنتصر دعوتنا، وتنهض دولتنا، وتعلو بنا كلمة الله في أرضه ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

أيها الإخوة الأحبة الفضلاء...

أي معنى جليل، وأي شعور نبيل يثيره اجتماعكم في نفس من يراكم، إذا اتصل شعوره بشعوركم، ونفذت بصيرته إلى أعماق نفوسكم، فرأى أي دافع كريم استولى عليكم فدفع بكم إلى هذا المكان، ورأى أي تفكير سام بريء طهور تزدحم به في هذه الساعات خواطركم، وأي جلال ووقار ورحمة وسكينة ورضوان تحف الآن بمجلسكم هذا وتتغشاكم في أماكنكم.

أمة جديدة: جديدة في قلوبها النقية البيضاء التي يغمرها الإيمان واليقين جديدة في عقولها المشرقة المستنيرة بتعاليم القرآن الكريم، وهداية رب العالمين.

جديدة في آمالها وأمانيها التي لا تمت إلى الأنانية بسبب، ولكنها تبقي الخير والسعادة للناس أجمعين. جديدة في وسائلها الواضحة الصريحة العادلة الرحيمة التي تبدأ بالحكمة والموعظة الحسنة وتنتهي بالإنصاف والعدالة والرحمة، وتنتظر مثوبة ذلك في قوله تعالى:(تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83).

أيها الإخوة الأحبة الفضلاء..

اذكروا نعمة عليكم واقدروا أنفسكم واقدروا دعوتكم، وأبشروا فالمستقبل لكم والله معكم ولن يتركم أعمالكم، وثقوا بأنكم تمثلون تمثيلاً حقيقيًا أمة وادي النيل التي يفوق عددها ثلاثين مليونًا، ومعها بقية الأمة العربية التي تناهز سبعين مليونًا، ومن ورائها العالم الإسلامي الذي يبلغ ثلاثمائة مليونًا من المسلمين، أنتم تمثلون هذه المجموعة من الناس تمثيلاً حقيقيًا صحيحًا قد تنكره عليكم الجهات الرسمية والشكليات العملية، ولكن هل يشك منصف عادل في أنكم هنا في اجتماعكم هذا تختلج نفوسكم بما تختلج به هذه النفوس جميعًا من المشاعر؟ وتمتلئ رؤوسكم بما تمتلئ به هذه الرؤوس جميعًا من الأفكار؟ وتنطلق ألسنتكم بما تردده تلك الألسن من الكلمات؟

ولو خُلّي بين هؤلاء وبين حريتهم لصافحت أيديهم أيديكم في حرارة وشوق، وضمت صدورهم صدوركم في حب ولهف، ودوّى هتافهم عاليًا قويًا مع هتافكم: الله أكبر ولله الحمد، وهي الأخوة التي لا تنفصم والتي جمع عليها القرآن قلوب المؤمنين به في كل مكان، وسجّلها لهم إذ يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10). فيا أيها الممثلون الحقيقيون لخير أمة أخرجت للناس اسمعوا.

أولاً: ما هي دعوتكم؟

لقد أعلنتم من أول يوم أن دعوتكم "إسلامية صميمة" على الإسلام تعتمد ومنه تستمد، وهتفتم بها من كل قلوبكم (الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا..) ولكنكم مع هذا فهمتم الإسلام فهمًا شاملاً:

1- فآمنتم به نظامًا اجتماعيًا كاملاً يصحح للناس أوضاع مجتمعهم في كل شئ، فلا يدع صغيرة ولا كبيرة من شؤون الحياة إلا تناولها، وأوضح ما فيها من خير ليقبل الناس عليه، وما فيها من شر ليجتنبوه.

2- وآمنتم كذلك بأن من واجب المسلم الحق أن يجاهد في سبيل هذا الإسلام حتى يهيمن على المجتمع كله، ويحتل مكانه الذي هيأه الله له في دنيا البشر.

3- وآمنتم كذلك بأن ذلك أمر ممكن ميسور لو أراده المسلمون واجتمعوا عليه.

وقد تكون هذه الأمور الثلاثة محلّ خلاف بينكم وبين فريق من المسلمين أنفسهم، فلا زال كثيرون لا يرون الإسلام إلا في صور من العقائد الصحيحة أو الفاسدة، والعبادات الكاملة أو الناقصة.. ولا يزال الكثيرون يرون أن الجهاد في سبيل هذا الإسلام أمر قد انقضى وقته ومضى زمنه.. ولا يزال الكثيرون يرون أن العقبات أمام المجاهدين في سبيل هذه الغاية أكبر من أن يُزيلها شئ.

ولهذا القصور في الفهم والصغر في الهمم واليأس في النفوس استسلم كثير من الناس للأمر الواقع، وظنوا أن ذلك يرفع عنهم اللوم في الدنيا والعذاب في الآخرة، ونسوا قول الله تبارك وتعالى:(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً)(النساء:97)، فقمتم أنتم أيها الإخوان المسلمون تنفضون عنكم وعن الناس أوضار القصور والضعف واليأس، وتنتظرون موعود الله تبارك وتعالى:(وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:40-41).

بين دَوْرَيْن

لقد جاء الإسلام الحنيف يقرر للدنيا أعدل المبادئ وأقوم الشرائع الربانية، ويسمو بالنفس الإنسانية ويقدس الأخوة العالمية، ويضع عقيدة الخلود والجزاء دافعًا إلى الأعمال الصالحة ومانعًا من الفساد في الأرض، ويرسم الطريق العملي لذلك كله في حياة الناس اليومية ثم في أوضاعهم المدنية، ويحيى على ذلك القلوب، ويجمع عليه الأمة، ويقيم على أساسه الدولة، ويوجب الدعوة إليه في الناس كلهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

ومضت على هذا حياة المسلمين حينًا من الدهر، علت فيها دعوتهم، وامتدت دولتهم، وتمكن سلطانهم، وسادوا أمم الدنيا، وكانوا أساتذة الناس، ووعدهم الله على ذلك أجمل المثوبة، وحقق لهم هذا الوعد:(فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:148).

ثم اختلط عليهم بعد ذلك الأمر، فاتخذوا الدين طقوسًا وأشكالاً، والعلم والمعرفة جدلاً ومراءً، ووزعوا مهمة الإصلاح لتكون أداة للدنيا ووسيلة للجاه والمال، ففسدت النفوس أولاً وتفرقت الكلمة بعد ذلك، ودالت الدولة تبعًا لهذا، وطمع في المسلمين من لا يدفع عن نفسه، فوقعوا تحت حكم غيرهم وسلطانه، وتغّيرت تبعًا لذلك كل أوضاع حياتهم الأدبية والعلمية.

وأراد المصلحون الغيورون أن يتداركوا الأمر، فقامت طائفة تحاول إصلاح النفوس، وقامت أخرى تحاول خدمة الشعوب، واختصت ثالثة نفسها بتقويم أداة الحكم، وأطلق كل على نفسه اسمًا يرضاه ووصفًا يعجبه، انتصر لمهمته، وانتقص مهمة غيره، وكان شرط هذا الاختصاص ـ ليكون نافعًا مفيدًا ـ أن تقوّى كل ناحية الأخرى وتكون سنادًا لها، فيدفع من يهيمنون على تربية النفوس أتباعهم إلى خدمة المجتمعات، وهؤلاء ينبهون من معهم إلى أن صلاح المجتمع بصلاح الحكم، حتى يتآزر الجميع على الإصلاح العام.

وكان شرط هذا الاختصاص كذلك أن تقوم هناك الهيئة الجامعة التي تأخذ بأطرافه وتجمع بين حواشيه، وكان شرط هذا الاختصاص أخيرًا أن يقوم به الأكفاء المخلصون، ولكن هذا كله لم يتوفر إلا نادرًا، والنادر لا حكم له.

مقاصد الدعوة ووسائلها العامة

وظهرت دعوتكم أيها الإخوان في ثنايا هذه السحب المتراكمة جميعًا، فلمعت كما يلمع البرق الوامض، ثم أنارت كما تنير الشمس المشرقة، تبعث في القوم النور والحياة واليقظة بعد طول نوم وخمود، فكانت أغراضكم وأهدافكم هي أغراض الإسلام الحنيف ومقاصده.

1- تصحيح فهم المسلمين لدينهم، وشرح دعوة القرآن الكريم شرحًا وضحًا، وعرضها عرضًا كريمًا يوافق روح العصر، ويكشف عمَّا فيها من روعة وجمال، ويرد عنها الأباطيل والشبهات.

2- ثم جمع المسلمين عمليًا على مبادئ كتابهم الكريم بتجديد أثره البالغ القوى في النفوس.

3- ثم خدمة المجتمعات وتنقيتها بمحاربة الجهل والمرض والفقر والرذيلة، وتشجيع البر والنفع العام في أية صورة.

4- ولن يستشعر أحد العزة والكرامة ويتذوق طعم الحياة الكريمة إلا إذا شبع بطنه واستغنى عن غيره، وتوفرت له ضروريات حياته، وإلي ذلك نظر الإسلام فلم يهمل المعاني الاقتصادية ولم يتغافل عن الإصلاح المالي، بل إنه وضع لذلك أفضل القواعد التي تنمي وحدة الأمة أفرادًا وجماعات، وترفع مستوى المعيشة وتقرب بين الطبقات، وتؤمن الجميع أنفسهم وذراريهم وأولادهم، وتضمن لهم العدالة الاجتماعية الصحيحة، وتوفر الفرص المتكافئة للجميع علي السواء.

لم يحتقر الإسلام المال، ولم يزهد في الثروة ولم يحرم الطيبات، بل اعتبر المال من نعم الله الواجبة الشكر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم المال الصالح للرجل الصالح)، واستعاذ من العوز والفقر وقرنه بالكفر فقال: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر)، وحث بعد ذلك على العمل والكسب، واعتبر ذلك قربة إلي الله تؤدي إلى حبه ومثوبته ومغفرته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب المؤمن المحترف) كما قال: (من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له)، وحرم السؤال والاستجداء لما في ذلك من مذلة وهوان.

ثم أوصى بعد هذا بالمحافظة على هذا المال والاعتدال في إنفاقه وابتغاء أفضل السبل به فقال القرآن الكريم: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء:5)، وقال:(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67).

ثم لفت النظر إلي منابع الثروة وأصول طرائق الكسب من التجارة والزراعة والصناعة والثروات الحيوانية والمعدنية والمائية والهوائية والقوى الكونية، وكل ذلك واضح في كتاب الله العلي الكبير، وحث المسلمين على استغلالها وتثميرها والانتفاع بها وعدم الغفلة عنها، جمع لهم ذلك في إشارة واضحة،(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان:20).

ثم حرم الكسب الحرام كله الذي إلي البغضاء والشحناء وفساد المجتمعات، لأن الإسلام حين أراد أن يوفر للفرد وسائل الحياة والرفاهية أراد كذلك أن يوفر للمجتمع حياة التكافل والطمأنينة، ويقضي فيه علي فحش الأثرة والأنانية، فحرم الربا وحرم النصب وحرم الاحتيال، ووضع في ذلك القاعدة المعروفة من تقديم المنفعة العامة على المنفعة الخاصة دائماً، فإذا تعارضت حقوق الفرد مع حقوق الجماعة أهدرت الحقوق الفردية وعوض عنها أصحابها، وأقيمت حقوق الجماعة بما يوصل للخير العام.

ولم يقف أمر النظام الاقتصادي الإسلامي عند هذا الحد، ولكنه رسم الخطط الأساسية للتقريب بين الطبقات فانتقص من مال الغني بما يزكيه ويطهره وينقيه ويكسبه القلوب والمحامد، وزهّده في الترف والخيلاء ورغّبه في الصدقة والإحسان، وأجزل له في ذلك المثوبة والعطاء وقرر للفقير حقاً معلوماً وجعله في كفالة الدولة أولاً وفي كفالة الأقارب ثانياً وفي كفالة المجتمع بعد ذلك. ثم قرر بعد هذا صور التعامل النافع للفرد الحافظ للجماعة تقريراً عجيباً في دقته وشموله وآثاره ونتائجه، وأقام الضمير الإنساني مهيمنًا عليها من وراء هذه الصور الظاهرية. كل هذا بعض ما وضع الإسلام من قواعد ينظم بها شأن الحياة الاقتصادية للمؤمنين، وقد فصلت الحياة الاقتصادية الممسوخة التي يحياها الناس في هذه الأعصر بين الاقتصاد والإسلام، فقمتم أنتم ومن أهدافكم وأغراضكم الإصلاح الاقتصادي بتنمية الثروة القومية وحمايتها، والعمل على رفع مستوى المعيشة، والتقريب بين الطبقات، وتوفير العدالة الاجتماعية، والتأمين الكامل للمواطنين جميعاً، وإقرار الأوضاع التي جاء بها الإسلام في ذلك كله.

5- وإذا كانت هذه الأهداف جميعاً لا تتحقق إلا في ظل الدولة الصالحة وقد عرفتنا الأيام ألوان الحكومات التي تقوم علي غير النظام الإسلامي، فإذا هي جميعاً لا تزيد الأمر إلا شدة، مع أن دستور البلاد الذي ارتضته نظاماً لنفسها يعلن في المادة (149) منه: (أن دين الدولة الإسلام ولغتها الرسمية اللغة العربية)، فكان لابد أن تطالبوا بحق الإسلام في إقامة الحكومة التي ترتكز على أصوله وأحكامه وتعاليمه، وشرط ذلك الحرية والاستقلال الكامل فكان طبيعياً أن يكون من أهدافكم ـ كدعوة إسلامية صحيحة كاملة ـ تحرير وادي النيل والبلاد العربية والوطن الإسلامي بكل أجزائه من كل سلطان أجنبي.

- ودعوة الإسلام الحنيف ليست قاصرة علي شعب دون شعب أو قطر دون قطر فإن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (سـبأ:28)، ويقول(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان:1)، ويقول:(لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (إبراهيم:1)، وذلك أول أساس روحي وعملي، وضع في هذه الأرض للوحدة العالمية التي يهتف بها الزعماء وتمهد لها المخترعات وتتجمع عليها أفكار الأرض وتتهيأ لها الشعوب والأمم في هذه الأيام، فمن دعواتكم أيها الإخوة الأحبة أن تساهموا في السلام العالمي وفي بناء الحياة الجديدة للناس بإظهارهم على محاسن دينكم وتجلية مبادئه وتعاليمه لهم وتقديمها إليهم بعد هذا الظمأ القاسي الذي التهبت به أكبادهم في هذه الحياة المادية الميكانيكية القاسية.

تلك هي مقاصد دعوتكم وأغراض هيئتكم، كلها من الإسلام الحنيف لا تخرج عنه قيد شعرة و(الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ) (لأعراف:43).

أما وسائلكم من هذه الغاية فهي وسائل الدعوة الأولي

1- نشر الدعوة للتبليغ وتربية النفوس على هذه التعاليم عملياً للتكوين.

2- ووضع المناهج الصالحة في شؤون الحياة للتوجيه والتقدم إلي الأئمة والهيئات النيابية والتنفيذية والدولية.

3- وفي أثناء ذلك من مهمتكم إسداء الخير والمعروف للناس.

هكذا كنتم منذ وضع الأساس الأول لدعوتكم في شهر ذي القعدة 1347هـ، 1928م، وعلي هذا ظللتم وثبتّم وستظلون وتثبتون حتى يحقق الله وعده إن شاء الله.

وصفنا:

وسيقول الناس ما معنى هذا وما أنتم أيها الإخوان؟ أننا لم نفهمكم بعد، فأفهمونا أنفسكم وضعوا لأنفسكم عنواناً نعرفكم به كما تعرف الهيئات بالعناوين.

هل أنتم طريقة صوفية؟ أم مؤسسة اجتماعية؟ أم حزب سياسي؟ كونوا واحداً من هذه الأسماء والمسميات لنعرفكم بأسمائكم وصفتكم.

فقولوا لهؤلاء المتسائلين: نحن دعوة القرآن الحق الشاملة الجامعة:

طريقة صوفية نقية: لإصلاح النفوس وتطهير الأرواح وجمع القلوب على الله العلي الكبير.

وجمعية خيرية نافعة: تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتواسي المكروب وتبر بالسائل والمحروم وتصلح بين المتخاصمين.

ومؤسسة اجتماعية قائمة: تحارب الجهل والفقر والمرض والرذيلة في أية صورة من الصور.

وحزب سياسي نظيف: يجمع الكلمة ويبرأ من الغرض ويحدد الغاية ويحسن القيادة والتوجيه.

وقد يقولون بعد هذا كله لازلتم غامضين فأجيبوهم: لأنه ليس في يدكم مفتاح النور الذي تبصروننا علي ضوئه... نحن الإسلام أيها الناس فمن فهمه علي وجهه الصحيح فقد عرفنا كما يعرف نفسه فافهموا الإسلام أو قولوا عنا بعد ذلك ما تريدون.!

نحن ووزارة الشؤون الاجتماعية

أيها الإخوة الأحبة..

على هذا الوضع الواضح الكريم نشأت دعوتكم ودرجت، ثم أنشئت خلال ذلك وزارة الشؤون الاجتماعية وكان من مهمتها تنشيط أعمال البر وتشجيع الهيئات الشعبية والجمعيات الخيرية وإعانتها ماديًا وأدبيًا على ما هي بسبيله من عمل الخير، ورأينا أن لا مانع من أن نتعاون معها في ذلك في الناحية التي تخصها من نشاطنا واتصالنا بها على هذا الأساس وأذنّا لشعب الإخوان أن تتصل بها كذلك، واستمرت صلتنا بوزارة الشؤون على هذا النحو من التفاهم والتعاون إلى الآن، حتى صدر القانون رقم 49 لسنة 1945م الخاص بتنظيم الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية والتبرع للوجوه الخيرية وفيه تحديد لمعنى الجمعية والمؤسسة.

وبتطبيق هذا التحديد على هيئة الإخوان المسلمين نراه لا ينطبق عليها بحال فلا هي جمعية خيرية ولا هي مؤسسة اجتماعية وإن كانت تعمل الخير وتخدم المجتمع فإنها تعتمد في ذلك أولاً على مال أعضائها وعلى ما يجمع من الجمهور.

هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن هذا ليس كل أغراضها ولم تنشأ له خاصة.

ولسنا نأبى أن نتعاون مع وزارة الشؤون في الخير وخدمة الناس فإننا نرحب بذلك ونوده ولكننا نريد أن توضع الأمور في وضعها الصحيح وألا نضع أنفسنا ودعوتنا التي وقفنا لها الدم والمال والحياة والأبناء وهي عندنا أمل الآمال في موضع يغل يدها ويحول بينها وبين العمل لتحقيق أغراضها والوصول إلي أهدافها.

هل يتوهم إنسان أن دعوة الإخوان وجماعتهم تكون في عرف القانون ومنطق الأوضاع السليمة الصحيحة ـ وهي الهيئة التي تعمل لتنشر في الدنيا دعوة القرآن وتحيي أمته وتقيم دولته وتواجه الدنيا بتعاليمه لينعم الناس في ظله بما يحلمون به من سعادة وسلام،(قََدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:15-16).

هذه الهيئة أيها الإخوان وهذا مقصدها، هل يتوهم أحد أن تكون في عرف القانون وفي منطق الأوضاع كجماعة لتكفين موتى الفقراء؟ وجماعة قطرة الحليب؟ وجماعة أنصار الإحسان؟ وعلم الله أننا لا نستصغر ناحية من نواحي البر ولا ننتقص عملاً من أعمال الخير مهما كان، ولكن لكل مقام مقال.

لهذا رأى مكتب الإرشاد أن يعدل النظام الأساسي تعديلاً يوضح أهداف الدعوة ووسائلها وضوحاً ينص علي انفصال ناحيتي البر والرياضة في إداراتهما وحساباتهما عن الهيئة الرئيسية لها تسهيلاً لمهمة التعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية ـ إن شاء الله ـ من جهة ومع كل الهيئات التي تعمل لهاتين الناحيتين من جهة أخري. وسيعرض عليكم مشروع التعديل وقرار المكتب في هذا الشأن كله في نهاية هذا الاجتماع، (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب:4).

ثانياً: حقوقنا الوطنية

أما فيما يتعلق بالأمر الثاني الذي اجتمعتم من أجله وهو التذكير بالحقوق الوطنية لوادي النيل وللعالم الإسلامي وتبيين طرق العمل لإحقاقها والوصول إليها فاسمعوا أيها الإخوان:

تأكدوا أن واجبكم أنتم في ذلك كأفراد وهيئة من أثقل الواجبات، وأن تبعتكم من أعظم التبعات، أنكم في ذلك تطالبون بأكثر مما يطالب به الناس، وتحملون منه أكثر مما يحملون، فلقد أراد الله أن تستيقظوا حين كان يغطّ غيركم في نومه، وأن تؤمنوا حين كان يهيم سواكم في شكه، وأن تأملوا حين تغشت الناس سحابة اليأس، وأن تتجمعوا وقد تشققت العصا واختلف أمر الهيئات والأحزاب، وأن يلتف الناس حولكم وتنتهي الثقة إليكم ويحف الأمل بكم حين فقد الناس أملهم وثقتهم، وكاد كل واحد يشك حتى في نفسه، ويظهر الله أمركم فلم يقف عند حدود مصر و[[السودان[[ بل جاوزها إلى غيرها من الأقطار والبلدان.

ويشاء الله لكم بعد هذا أن تمر بكم عواصف هذه الحرب الضروس ست سنوات كاملة، فتمزق من غيركم من الداخل والخارج ما شاء الله لها أن تمزق، ولكنها تمر بكم أنتم مرًا رفيقًا يُقوي ولا يُضعف ولا يزعزع وينبه ولا يوهن، ويزيدكم بنصر الله إيمانًا وبرعايته ثقة لأنكم بكلمته تنطقون ولدعوته تعملون فأنتم لذلك على عينه تصنعون(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (الطور:48).

ومن هنا كان واجبكم أكبر الواجبات وكانت تبعتكم أثقل التبعات.

انتهاز الفرصة

ثم تأكدوا بعد ذلك أنها الفرصة السانحة التي لا تعوض، وماذا تنتظرون بعد ذلك، ولقد انتهت هذه الحرب الضروس وخرج منها الحلفاء بنصر لم يكونوا يتوقعونه، وسلم لهم أعداؤهم بغير قيد ولا شرط، وعرفت حكوماتهم وهيئاتهم وشعوبهم قيمة الوقت، فلم يضيعوه سدىً ولم ينفقوه هباءً في الجدل الفارغ والخصومة القاتلة والنوم العميق، ولكنهم كانوا يحاربون ويرتبون، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها، كان مؤتمر سان فرانسيسكو ومؤتمر بوتسدام ومؤتمر وزراء الخارجية في لندن ولم تبق عليه إلا ليال وأيام، وفي خلال ذلك مقابلات واجتماعات وتصريحات وقرارات، وخطب ومقالات، وحكومات أثر حكومات، وهكذا تسير الدول الكبرى وتتأهل الدول الأخرى، في سرعة ويقظة واهتمام، ويقرر مصائر العالم ويحدد مستقبل الأمم والشعوب في هذه الساعات الفاصلة في تاريخ الناس، فإذا وقع الأمر فقلما يتغير إلا بالمجهود العنيف والدأب المخيف فما الذي تنتظرون؟

والأمر أمركم وأنتم موضع البحث والتقرير، على مصالحكم يشتد الجدل والخلاف، وإليها تتجه المطامع والآمال، أفلا ترون بعد هذا كله أنها ساعات لها ما بعدها بل إنها أحرج الساعات في تاريخنا الحديث.؟ بين الوطنية والاجتماع:

قال لي أحد أصدقاء الإخوان الذين لا يتهمون في رأي ولا في نصيحة منذ أيام قلائل: أليس الأروح للإخوان والأجدى علي الوطن أن تشتغل هيئة الإخوان بالأغراض الأدبية والاجتماعية والاقتصادية من برنامجها ـ وهي من الإسلام أيضاً ـ وتدع الناحية القومية أو الوطنية أو السياسية بعبارة أخري لسواها من الهيئات حتى لا يتعرض للعواصف القاسية هذا البناء العالي الذي أصبح للغيورين أملاً وفي تاريخ هذه النهضة عملاً؟.

فقلت له في صراحة وإخلاص وتأثر: والله يا أخي إني لأشاركك هذا الرأي، وأجد في أعماق نفسي هذا الشعور قويًا عميقًا، وأكره أشد الكراهية ما يصحب هذا النضال من مظاهر وآثار في النفوس وفي الصلات وما يجر إليه من نواحي الشهرة والجاه الكاذب الذي يلهي الناس عن الحقائق والواجبات، وكم كنت أتمني أن تكون الظروف معي ومعك، وأن تدع لنا الحوادث من الوقت ما يتسع لهذا الذي تحب وأحب، وليس ذلك عن حب للراحة أو إيثاراً للدعة، ولكن الأمور هي كما ترى الآن:

الدول الكبرى ـ وقد خرجت منتصرةً ـ تعمل جاهدةً ليل نهار وتحاول بل تتعمد أن تتغافل عن حقوقنا وأن تنسى ما بذلت لنا من عهود ومواثيق والوقت يمر مر السحاب.

والهيئات السياسية عندنا قد غفلت عن هذا الواجب واشتغلت عنه بما تقرأ في صحفها وجرائدها من تنابز بالألقاب وتخاصم علي الأسلاب، على أن الحوادث قد أعانت ذوي الأغراض على أن يفرقوا وحدتها، ويفضوا الناس عنها، ويظهروا رجالها أمام الرأي العام بمظهر الملوثين العابثين، ففقد الشعب ثقته بقادته، وخسر القادة الجنود، والأنصار فقدوا هم أيضاً الثقة بأنفسهم والثقة بحقهم.

والشعور الوطني كما تري في ثورة وقوة وحماس وبخاصة في هذا النفر من الشباب المثقف، وإن لم يكن في هذا الشعب كله الذي ألح عليه الفقر وأمضّه الجوع والعري وأكل منه الغلاء والجهد، وما لم تقده أيد حكيمة وتصرفه عقول مجربة فقد يسير في طريق لا تؤدي إلي نجاح ولا تصل إلي غاية.

وإلي جانب هذا الشعور الوطني هذا التهيؤ من جانب الأمة العربية وما جاورها من الإسلام للوحدة والاجتماع والرغبة في تنسيق الجهود والأعمال، وليست هيئة من الهيئات أقرب إلي قلوب هذه الشعوب وأقدر علي الظهور في هذا الميدان من الإخوان.

كل ذلك يا أخي جعلنا وقد قضينا سبعة عشر عاماً في الإعداد والاستعداد، وأفهمنا الناس فيها الأمر على حقيقته، من أن السياسة والحرية والعزة من أوامر القرآن، وأن حب الأوطان من الإيمان، ولم يتبق بعد هيئة من الهيئات على وحدتها وثقة الناس بها وأملهم فيها إلا الإخوان، كل ذلك يا أخي جعلني أشعر شعوراً قد ارتقى إلي مرتبة الاعتقاد، إننا لم يعد لنا الخيار، وإن من واجبنا الآن أن نقود هذه النفوس الحائرة ونرشد هذه المشاعر الثائرة ونخطو هذه الخطوة والله المستعان.

علي أن هناك نظرة أخرى ليست بأقل مما تقدم أهميةً.

ألست ترىيا أخي أن أهم عوامل الفساد والإفساد لحياة هذا الشعب المصري وغيره من الشعوب العربية والإسلامية هذا التدخل والتحكم الأجنبي الذي أفقدنا عزتنا ووجهنا غير وجهتنا وبدل أوضاع حياتنا وضحك علينا بالقشور وصرفنا عن اللباب، ثم هذا الضعف المتناهي من هذه الحكومات التي جعلت من نفسها أداةً طيعةً إن لم تكن مسرعةً في يد الأجنبي يتحكم بها في رقاب الناس كما يشاء وينفذ بها مطالبه وخططه كما يريد سافراً أو متستراً.

أولست ترى أن أول باب للإصلاح أن نجاهد هذين المظهرين، وأن يتحرر الناس من هذين النيرين، وإلا فكل مجهود إلي ضياع، وقد جربنا ذلك في أنفسنا وفي غيرنا ولمسناه وعرفناه، فإذا لم ندخل على القوم من الباب في هذه الفترة من الزمن فمتى إذن؟.

والله يا أخي لو كنا أمةً مستقلةً تصرف أمورها حكومة يقظة لكان في كل غرض من أغراض دعوتنا على حدة متسع لكل أوقاتنا ومجهوداتنا، فهذا الغرض العلمي من شرح دعوة الإسلام والكشف عمَّا فيها من روعة وجمال، وهذا الغرض الاجتماعي من مساواة المنكوبين ومعاونة البائسين، وهذا الغرض الاقتصادي من استنفاد الثروة القومية وتنميتها وحمايتها، كل غرض من هذه الأغراض يستغرق أضعاف وقتنا ويستنفد أمثال جهودنا ولكن ما كل ما يتمني المرء يدركه والله أعلم حيث يجعل رسالته.

وفي مثل هذه الساعات الهامة الفاصلة يكون هذا الجهاد الوطني فرضاً عينياً على كل الأفراد والهيئات... فقال ذلك الصديق الأخ في تأثر وحماس: صدقت سيروا علي بركة الله والله معكم.

أيها الأخوة الفضلاء..

تأكدوا كذلك أن لبلادنا حقوقًا ومطالب قوميةً لم تنلها بعد، ولا فائدة من ذكر العوامل التاريخية والحوادث التي أدت إلي انتقاص هذه الحقوق واغتصابها، ولكن الذي يفيد ويجدي أن نؤمن إيماناً قوياً جارفاً بهذه الحقوق، وأن نجاهد جهاداً داعباً عنيفاً في سبيل تخليصها والوصول إليها، وبالإيمان والجهاد والأمل والعمل ننتصر ونصل إن شاء الله وما ضاع حق وراءه مطالب.

ونحن حين نؤمن ونجاهد لا نعتمد في جهادنا على قوة السلاح وكثرة الجيوش والأساطيل، فنحن نعلم أننا عزل من ذلك كله، ونشعر أعمق الشعور بما يكبل أيدينا وأرجلنا من القيود والأغلال الثقال، وحسب العالم ما قاسى من الاعتماد على القوة ونبذ القانون وإهمال قواعد العدالة والإنصاف، ولكننا نعمد على أن هذا هو حقنا الطبيعي الذي لا ينكره علينا إلا جاحد ومكابر، فلسنا أمة بدائية تحتاج إلي الرعاية والوصاية والتوجيه ولكنا أمة ورثت أمجد الحضارات وأعرق المدنيات وأنارت الدنيا بالعلم والمعرفة وحين لم تكن هذه الأمم الحديثة تدري من أمر الوجود شـيئاً.

ونعتمد على أننا ساهمنا في المجهود العربي بأموالنا ودمائنا وأبنائنا وأرضنا ومواصلاتنا وأقواتنا وكل مرافق حياتنا، وعرضنا كل شيء للخطر الداهم، ووقفنا إلي جانب الأمم المتحدة وقفات كان لها أثرها في هذا النصر ولا شك، ولم نشأ أن نساوم في ساعة العسرة على حق من حقوقنا أو نثير مطلباً من مطالبنا، ولكنا تركنا ذلك كله وديعة بين يدي الضمير الإنساني العالمي معتمدين على نبل حلفائنا وصدق وعودهم.

ونعتمد على هذه العهود والمواثيق التي قطعها الحلفاء على أنفسهم ومنها ميثاق الأطلنطي، وتلك التصريحات والخطب، والكلمات والنشرات التي أعلنوا فيها شعوباً وحكومات، أنهم يحاربون في سبيل العدالة والتحرير ويريدون نصرة المظلومين وإنقاذ البشرية من العبودية والاستبداد، وإنشاء عالم جديد يقوم على التعاون وكفالة الحريات والقانون والإنصاف.

ونعتمد كذلك على التطور في التفكير العالمي وهذه اليقظة في الضمير الإنساني، ويا ويح الدنيا إذا كانت ستسودها وتصرفها من جديد الأفكار الرجعية، وتتحكم فيها المطامع الاستعمارية، وإذا كانت الدول المنتصرة تظن أن في استطاعتها أن تقود الدنيا من جديد بالحديد والنار، فما أبعد هذا الظن وأعرقه في الوهم والخيال، فإن موجة اليقظة التي أحدثتها هذه الهزات العنيفة لا يمكن أن يقف تيارها حتى يصل إلي غايته ويبلغ مداه، ولن يستقر بعد اليوم في الأرض السلام إلا إذا أدركت الدول الكبرى هذه الحقيقة واعترفت لغيرها من الأمم والشعوب بحقها في الحياة والحرية والاستقلال.

ولسنا من الغفلة وضعف الإدراك بحيث نعتقد أن في وسعنا أن نعيش بمعزل عن الناس وبمنأى عن الوحدة العالمية التي يتهيأ لها الأرض جميعاً والتي انطلق من حناجرنا نحن المسلمين أول صوت يهتف بها ويدعو إليها ويتلو آيات الرحمة والسلام (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107)، ولكنا ندرك أن الدنيا لم تكن في حاجة إلي التعاون وتبادل المصالح والمنافع في يوم من الأيام كما هي في حاجة إلي ذلك الآن، ونحن على استعداد لمناصرة هذا التعاون وتحقيقه، في ظل مُثل عليا فاضلة، تضمن الحقوق وتصون الحريات ويأخذ معها القوي بيد الضعيف حتى ينهض.

مطالبنا

ونحن حين نطالب بحقنا لا نغالي ولا نتعسف، ولا نريد علواً في الأرض ولا فساداً، ولكنا نقف عند الحق الطبيعي الذي لا يمكن أن يحيا بدونه فرد أو شعب حياة عزيزة كريمة. وادي النيل:

فنحن نطلب: لوادي النيل

1- أن تجلو عنه الجنود الأجنبية: فلا يكون هناك جيش احتلال في أية بقعة من بقاعه. وماذا تغني هذه الفئة القليلة من الجنود إذا فقدت الثقة وفسدت العلاقات وإرضاء النفوس والاعتراف بالحقوق هو أضمن وسيلة لتبادل المنافع والمحافظة على المصالح.

2- وأن ترفع هذه القيود والأغلال التي فرضت على تجارتنا وزراعتنا وصناعتنا إبان الحرب وقبل الحرب والتي قبلناها مساهمة منا في المجهود الحربي، وأن تلاحظ الدول الأجنبية أننا أمة يتكاثر عددها باضطراد وتضيق بها أرضها وموارد ثروتها، وأنه ليس من العدل أن يأخذ الأجنبي كل شيء أيضًا، إننا لا نكره الأجانب ولا نريد أن نقطع صلات التعاون بيننا وبينهم، ونحن نعلم تمامًا أننا لا نستغني عن رؤوس أموالهم وعن خبرتهم الفنية، ولكنا لا نريد كذلك أن يكون هذا التعاون على قاعدة أن لهم الغنم وعلينا الغرم.

والواجب أن تقدر كل هذه العوامل الاجتماعية والاقتصادية. إن عددنا يكثر ومستوى المعيشة عندنا أقل منه في أية أمة من الأمم الراقية، فأكثر من نصف المصريين يعيش أقل من عيشة الحيوان، ومع هذا يفكر الأجانب في الهجرة إلي أرضنا وفي تقييد حريتنا في التصدير والاستيراد والتجارة والزراعة والنقد.

ولا ينتج ذلك كله إلا حرج الصدور وإثارة الشعور، والضغط الشديد يولد الانفجار.

3- وقناة السويس ـ أرض مصرية حفرت بدماء مصرية وجهود أبنائها فيجب أن يكون لمصر حق الإشراف عليها وحمايتها وتنظيم شأنها، ولقد قارب أمد امتيازها الانتهاء وتفكر بعض الدول في التدخل في شأنها ويشاع أنها قد اشترت عدداً كبيراً من أسهمها.

إن مصير هذه القناة إلينا بعد عدد قليل من السنين، ومن واجبنا أن نتنبه لذلك من الآن وأن نطالب بزيادة عدد الموظفين من المصريين في الأقسام المختلفة وبخاصة الأقسام الفنية التي تحتاج إلي دراية ومران. يجب أن نستعد للمستقبل وألا ننتظر الحوادث حتى تفاجئنا ونحن علي غير استعداد.

ويجب أن تعترف لنا الدول بهذا الحق الثابت وتقرنا عليه.

4- والسودان: لا نقول أننا نطالب بحق مصر فيه فليس لمصر حقوق في السودان ولكن السودان جزء من الوطن فهو مصر الجنوبية ومصر هي السودان الشمالي وكلاهما وادي النيل، هذا كلام نريد أن يكون مفهوماً جيداً للدول الأجنبية كلها عامة ولإخواننا ومواطنينا أبناء السودان خاصة.

إن النيل الذي تتوقف عليه حياة مصر أرضاً ونباتاً وحيواناً وأناساً إنما ينحدر إليها من السودان ومن مائه ومن طميه تكونت أرض الجنوب كما نشأت أرض الشمال ومنها نشأت هذه الجسوم وجرت هذه الدماء فنحن أيها الأخوة السودانيون من ماء واحد وطينة واحدة وإذا قال لكم قائل أن مصر تريد أن تستعمركم لتستغل أرضكم وتستغلي عليكم وتستطيل بالسلطان في أرضكم فقولوا أنها فرية كاذبة نحن نريد السودان جزءاً من مصر كما أن مصر جزءاً منه للسوداني ما للمصري من حقوق وعليه ما عليه من واجبات.

إذا فتحت المدارس في مصر فتح مثلها في السودان وإذا أنشئت المحاكم في الشمال أنشئت في الجنوب وتتوحد الجنسية ويتوحد القانون ويتوحد كل شيء في مظاهر الحياة الاجتماعية في جزأي الوطن الواحد وادي النيل. وإذا كان المغرضون قد استطاعوا أن يصوروا الأمور علي غير وضعها الصحيح فإن ذلك الباطل لا يغني من الحق شيئاً.

لقد عملت الدعاية الأجنبية عملها في السودان، ولكن إخواننا السودانيين مؤمنون وأذكياء وهم يشعرون تماماً أن ما يجدونه الآن من ملاطفة ولين موقوت إلي حين ثم بعد ذلك ينكشف الاستعمار عن الاستعمار ويتحقق لهم قول الله العلي الكبير: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل:34).

ولقد حاولت الإدارة السودانية أن تفصل السودان الجنوبي عن السودان الشمالي فصلاً تاماً، والسودان الجنوبي هو منبع الثروة ومستقرها في السودان كله فهو موضع الغابات ومرعى الحيوان ومستقر المعادن، ولقد حجبته الحكومة عن أهل السودان الشمالي وضربت عليه نطاقاً من المراقبة الشديدة، وحرمت الذهاب إليه حتى على التجار من السودانيين أنفسهم، وأطلقت فيه الدعاية التبشيرية من مختلف الإرساليات وجعلته نهبًا مقسمًا بينها ومع هذا كله فلا زال الإسلام يشق طريقه إليه والله غالبٌ على أمره ومن الغريب أن حكومة مصر لا تهتم لكثير مما يقع في السودان ولا تخطو خطوة إيجابية في سبيله ولكنا لن نسكت على هذا الحال.

ونعتقد أن الهيئات السودانية التي تطالب الوحدة التامة مع مصر ـ إن وجدت هذه الهيئات ـ لو علمت هذا الوضع الصحيح الذي نعلنه ونؤمن به ونعمل علي أساسه لبادرت بأسرع ما يمكن لإعلان هذا الرأي وتقريره، فإن مصر إذا كانت تحتاج السودان لتطمئن على ماء النيل وهو حياتها فإن السودان أحوج ما يكون إلي مصر في كل مقومات الحياة كذلك وكلاهما جزء يتمم الآخر ولا شك، وذلك فضلاً عن وحدة اللغة والدين والمشاعر والمظاهر والأنساب والدماء.

وسنظل نطالب بهذا الحق ونستمسك به حتى نصل إليه إن شاء الله لأنه حق والحق لابد أن يعلو ويظهر, (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء:18).

برقة وطرابلس

5- ونريد بعد ذلك تأميناً لحدودنا، حدودنا الغربية، لا بأن نحتل برقة، ولا بأن نستعمر طرابلس، فنحن أكرم على أنفسنا والحق أكرم علينا من أن نذهب هذا المذهب الظالم، ولكنا إنما نأمن على حدودنا الغربية يوم تسلم ليبيا لأهلها العرب الذين جاهدوا في سبيلها عشرات السنين جهاد الأبطال، وكان ختام ذلك أن اشترك جيشهم الحديث في الحرب جنباً إلي جنب مع جنود الحلفاء، وتقوم فيها حكومة عربية مستقلة وتظل وطناً موحداً حراً مستقلاً، وإذا كانت إنكلترا قد حررت الحبشة من نير الاستعمار الإيطالي ثم سلمتها إلي امبراطورها مملكة مستقلة موحدة، فإن من واجبها أن تفعل ذلك في ليبيا وليس جهادها في سبيل حريتها بأقل من جهاد الحبشة.

وليس للتفريق بينهما في المعاملة إلا تأويل واحد هو أن روح التعصب للمسيحية على الإسلام لا زالت تتحكم في نفوس بعض الدول الغربية الراقية حتى في القرن العشرين، ومع هذا يقال أننا نحن المتعصبون وإلي الله المشتكي، وليس في الدنيا أبلغ في الاستهتار بكرامة العرب والمسلمين من أن يقال أن هناك تفكير من بعض الدول في إعادة المستعمرات الإيطالية إلي إيطاليا !! هذا عجيب ومدهش حقاً.. إيطاليا العدو المحارب ترد إليها حريتها ومستعمراتها والعرب الحلفاء المجاهدون يستبعد وطنهم ويسلمه حلفاؤهم رغم المواثيق والعهود ويريد الناس بعد ذلك أن يستقر في الأرض أمن وسلام !!.

وقريب من هذا ما يشاع من أن طرابلس ستكون لإيطاليا تحت إشراف هيئة دولية وأن ساحل برقة سيعطي لليونان وأن صحراء ليبيا ستكون للعرب تحت انتداب ثنائي مصري إنكلـيزي معـاً ! ما هـذا أيها المنتصرون؟ ما شأن اليونان بساحل برقة وأي غفلة هذه تغشى عقول المصريين ليتقدموا إلي صحراء تستنزف الدم والجهد والمال ليعمروها ثم يتركوها؟ وأي ذليل يرضى بأن يحكم كثباناً من الرمال تحت سلطان الانتداب والاحتلال.. وهل ترضى اليونان بهذا العدوان؟ وهل نسيت درس احتلال الأناضول من قبل؟.

والليالي من الزمان حبالى

مثقلات يلدن كل عجيب

نحن نريد أن تؤمن حدودنا الغربية باستقلال ليبيا ووحدتها وقيام حكومة عربية صديقة فيها ورد ما أخذ منا ظلماً وعدواناً فتعود إلينا جعبوب مصرية كما كانت من قبل. وفلسطين أيضًا:

كما نريد أن تؤمَّنَ حدودنا الشرقية بحل قضية فلسطين حلاً يحقق وجهة النظر العربية أيضاً يحول دون تغلب اليهود على مرافق هذه البلاد.

إن مصر والعالم العربي والإسلامي كله يفتدي فلسطين، فأما مصر فلأنها حدّها الشرقي المتاخم، وأما بلاد العرب فلأن فلسطين قلبها الخافق وواسطة عقدها ومركز وحدتها وهي ضنينة بهذه الوحدة أن تتمزق مهما كانت الظروف ومهما كلفها ذلك من تضحيات، وأما العالم الإسلامي فلأن فلسطين أولى القبلتين وثاني الحرمين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الحقيقة يجب أن تضعها الدول المتحدة نصب عينها، فصداقة المسلمين والعرب في كفة ومطامع اليهود في فلسطين في الكفة الأخرى، ولعل من خير اليهود أنفسهم أن يصرفوا وجوههم عن هذه الناحية.

لا شك في أننا نتألم لمحنة اليهود تألماً شديداً ولكن ليس معنى هذا أن ينصفوا بظلم العرب وأن ترفع عنهم بهلاك غيرهم والعدوان عليه، وفي الأرض مندوحة وفي الأوطان متسع، وكل تفكير أو تصريح أو عمل يتنافى مع إنصاف العرب ولا يحقق آمالهم في فلسطين لا يكون من ورائه إلا الإثارة والإحراج.

نحن نطالب بهذا لأنه تأمين لحدودنا ومصلحة مباشرة لنا ونطالب به كذلك لأنه حق أمتين عربيتين في الشرق والغرب هم منا ونحن منهم ولن يفرق بيننا شيء وما وحّده الله لن يستطيع أن يفصله الناس.

إريتريا وزيلع وهرر ومصوّع

ونريد بعد ذلك أن نؤمّن حدودنا الجنوبية بأن تحفظ حقوقنا في أريتريا ثم زيلع وهرر وأعالي النيل.. تلك المناطق التي اختلط بتربتها دم الفاتح المصري وعمرتها اليد المصرية ورفرف في سمائها العلم المصري الخفاق. ثم اغتصب من جسم الوطن ظلماً وعدواناً، وليس هناك اتفاق دولي أو وضع قانوني يجعل الحق فيها لغير مصر وإن أبى علينا ذلك الناس، ومن واجبنا ألا نتلقى حدود بلدنا عن غيرنا وأن نرجع في ذلك إلي تاريخنا ولنر أي ثمن غال دفعناه من الدماء والأرواح في سبيل تأمين حدودنا لا لمطامع استعمارية ولا لمغانم جغرافية ولكن لضرورات حيوية لا محيص منها ولا معدي عنها، والفرصة الآن سانحة لتطالب مصر برد ما أخذ منها في غفلة من الزمن وإهمال من الحكومات وذلك ما نطلب لوادي النيل.

أولاً: البلاد العربية

ونطلب للبلاد العربية أن تثق الدول الكبرى بالجامعة العربية وأن تفسح لها المجال لتقوى وتنهض، ففي نهضتها وقوتها أكبر عامل يساعد علي استقرار السلام والطمأنينة في الشرق العربي، كما يجب أن يعترف لكل أمة عربية بحقها في الحرية والاستقلال الكامل.. فتجلو القوات الأجنبية عن سوريا ولبنان.. وتعدل المعاهدة العراقية بما يحقق وجهة نظر الشعب العراقي ويصدق أملهم في الحلفاء.. ويعترف لشرق الأردن بحقه حتى تقتنع الشعوب الصغيرة بضرورة التجمع في زمن لم تعد تصلح فيه العزلة والانفراد، وتكف الدول الكبرى عن المطامع غير المشروعة في اليمن والحجاز.. هذا في الشرق.

وفي غرب مصر وليبيا خمسة وعشرون مليوناً من المسلمين في تونس والجزائر ومراكش... نكبوا بالاستعمار الفرنسي تحت اسم الحماية أو الفتح الظالم أو الاحتلال البغيض، وجاهدوا عشرات السنين وبذلوا في ذلك الضحايا غالية من الحريات والدماء فامتلأت بهم السجون والمعتقلات وسالت بدمائهم الأباطح والأودية وشرد زعماؤهم وشبابهم المجاهد في كل مكان، وحاول الاستعمار الغاشم أن ينال من دينهم بالتبشير ومن عروبتهم بالعجمة والتنصير ومن حريتهم بالضغط والقهر والجبروت، فلم يفد ذلك كله شيئاً وثبت المجاهدون على جهادهم كالرواسي الشامخات. وجاءت هذه الحرب الأخيرة وانهزمت فرنسا وانضمت للألمان وتنكرت لحلفائها الأقدمين واحتل الحلفاء إفريقيا الشمالية، فوجدوا من أبناء هذه الأوطان أعظم المساعدة واشتركوا معهم اشتراكاً فعلياً في القتال في إفريقيا وفي إيطاليا وفي حملة فرنسا وثبتوا معهم في أعنف المواقع وفي أحرج الساعات، وهل كان جيش فرنسا الحرة إلا هؤلاء الأبطال البواسل من أبناء المغرب الشهيد، وقد اعترف بذلك المستر تشرشل وأثنى على4 بطولة هؤلاء المجاهدين أطيب الثناء، وانتهت الحرب ولم تتورع فرنسا ـ وهي لم تنس بعد وقع أقدام المحتلين ـ عن أن تدك المدن والقرى بقذائف الطائرات، وأن تقتل في الجزائر في ثورة واحدة أربعين ألفاً من المدنيين، وأن تقضى على خمس وأربعين قرية عامرة، ولا ذنب لهؤلاء جميعًا إلا أنهم أرادوا أن يحقق الحلفاء وعودهم فقاموا يطلبون الحرية والاستقلال وهما الحق الطبيعي لهم. وتريد فرنسا المنهارة أن تذر في عيون الناس الرماد، فتدعي أنها ثورة خبز وطعام وتزعم لنفسها حقوقًا موهومة إن بررتها غفلة العرب والمسلمين في الماضي فقد مضى ذلك الأوان، وستتلاحق الثورات ويتنفس البركان، وها هي مراكش تشعل ناراً وجحيماً، ولا يقل عنها صدر الجزائر وتونس لهباً وحميماً، وليس على هذه المشاعر يبنى السلام أو يستقر الأمن والاطمئنان، فنحن نطلب لكل هذه الأوطان وهي قطع من قلب وطننا العربي الكبير أن تنال حقها وأن تنضم انضماماً فعلياً إلي جامعة الدول العربية، وإذا كان هناك استفتاء لشكل الحكومة التي يجب أن تكون في هذه البلاد فلابد أن يكون هذا الاستفتاء بإشراف مجلس الجامعة وأن تمثل فيه الدول العربية المستقلة علي الأقل.

البلاد الإسلامية والأقليات الإسلامية

ونطلب: للبلاد الإسلامية والأقليات الإسلامية أن تستقل وتتحرر وتنال حقوقها ويرفع عنها الظلم والحيف وتكون بمأمن من الظلم والعدوان.

فهذه إيران يجب أن تجلو عنها الجنود البريطانية والروسية طبقاً لتصريح الدول المشتركة في خلال ستة أشهر من انتهاء الحرب مع اليابان، وهذه إندونيسيا بأقسامها لا مبرر لأن تعود مرة ثانية إلي هولندا، وحسب هولندا وقد ذاقت مرارة الظلم والجبروت أن تقنع بأرضها وأن تعمل لمصالحها في ظل العدالة والإنصاف وتبادل المنافع وذلك خير وأبقى من استلاب الحقوق واغتصاب الحريات وقضية الهند يجب أن تحل حلاً يحفظ حقوق المسلمين في كل الولايات ويساعد علي رقيهم وحفظ حقوقهم في كل مكان، ولقد كانت في ألبانيا حكومة إسلامية قبل هذه الحرب بما أن غالب سكانها من المسلمين من بقايا المهاجرين من البلقان والترك، فمن الواجب أن تعود هذه الحكومة ومن العدل والنصفة أن تساعد مساعدة فعلية على أن تكون حامية لحقوق الأقليات الإسلامية في بلاد البلقان، ففي يوغسلافيا وفي اليونان وفي بلغاريا وفي غيرها أقليات إسلامية مظلومة يُعتدى عليها وتُستلب حقوقها ولا يدري بذلك أحد، والمسلمون في كل مكان أمة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم إذا اشتكى عضو منهم تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فمن الواجب أن تسند مهمة الإشراف على إنصاف هؤلاء إلى أقرب الحكومات الإسلامية إليهم.

ولقد فكرت تركيا بعد الحرب الماضية في الانسلاخ من الشرق والأمم الإسلامية والارتماء في أحضان الغرب والتزلف إلي الدول الأوروبية ظناً منها أن ذلك يساعدها على أن تطمئن في دارها وتأمن في أرضها، وأكبر الظن أنها بعد هذه الحرب قد أدركت مبلغ ما فاتها من الفوائد بهذه العزلة عن العرب وأمم الإسلام ولا نريد أن نحاسبها الآن على ما فات فنحن وإياها أحوج ما نكون إلي التعاون والتساند في هذا المعترك الطافح بالرغبات والأطماع ولن ندعها منفردة في محنتها ولعلها تدرك ذلك فتعود إلى ما نسيت من إسلامها وتتمسك من جديد بهذه الأخوة الخالدة التي تزول الدنيا ولا تزول، وتفنى الأيام وهي أبقى على الزمان الباقي من الزمن.

ونحن نريد بعد هذا كله ونتمنى للعالم كله أمناً وطمأنينة وسلاماً طويلاً وراحة بال ولا نظن ذلك يتأتى إلا بالعدل والإنصاف ونحن على هذه الفطرة جبلنا فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون.

ثالثـاً: حق الإسلام

أيها الأخوة الأعزة الفضلاء..

أريد بعد ذلك بعد ذلك أن أقول لكم أن الدول الكبرى قد صرحت أكثر من مرة، بأنها سوف لا تتدخل في شؤون الأمم الداخلية البحتة ومن ذلك شكل الحكومات، وبخاصة إذا اتفقت مع قواعد الديمقراطية العامة.

وقد ظفرت الفكرة الإسلامية بالتقدير الكامل في مؤتمر لاهاي سنة 1938، إذ قرر المؤتمر إنها شريعة مستقلة قابلة للتطور النماء متفقة مع أحدث قواعد التشريع.

كما ظفرت بهذا التقرير مرة ثانية في مؤتمر واشنطن مايو 1945 الذي مثَّل مصر فيه وزير العدل حافظ باشا رمضان، واستطاع أن يظفر من المؤتمرين بقرار يؤكد القرار السابق، ويحفظ لمصر بناء على ذلك الحق في أن يكون لها ممثل في محكمة العدل الدولية باسم الشريعة الإسلامية.

ذلك إلى أن الإسلام في ذاته نظام اجتماعي عالمي، يكفل للناس الخير والسعادة، ويحل لهم ما في مجتمعهم من مشكلات لو نفذوا إلى روحه وأنفذوه على وجهه. وقد قرر الدستور المصري في المادة 149 (أن دين الدولة الإسلام ولغتها الرسمية اللغة العربية).

وقد تهيأت الدنيا من جديد للعودة إلي روح التدين، وأدركت خطأ الفكرة القديمة.. فكرة التجرد من العقائد والأديان، حتى إن لجان التعليم في إنكلترا وأمريكا قررت وجوب إدخال الدين إلى المدارس وذهب بعضها في ذلك إلى حد أن يكون الدرس الأول في كل المعاهد صلاة عملية، وعلى هذا فنحن نطلب من أية حكومة مصرية أولاً وعربية أو إسلامية بعد ذلك أن تعود في نظام حياتها الإسلامية والمدنية إلي الإسلام.

ويكون من المظاهر العملية لذلك:

1- أن تعلن أنها حكومة إسلامية تمثل فكرة الإسلام دولياً تمثيلاً رسمياً.

2- أن تحترم فرائضه وشعائره وأن تلزم بأدائها كل موظفيها وعمالها وأن يكون الكبار في ذلك قدوة لغيرهم.

3- أن تحرِّم الموبقات التي حرمها الإسلام من الخمر وما يلحق بها، ومن الزنا وما يمهد له، والربا وما يتصل به من أنواع القمار والكسب الحرام، وأن تكون الحكومات قدوة في ذلك فلا تبيح شيئاً من هذا ولا تعمل على حمايته بسلطة القانون ولا تتعامل مع شعبها على أساسه.

4- أن تجدد مناهج التعليم بحيث تقوم على التربية الإسلامية والوطنية، ويعنى بها باللغة العربية والتاريخ القومي عناية فائقة، وتؤدي إلي طبع نفوس المتعلمين بتعاليم الإسلام وتثقيف عقولهم في أحكامه وحكمه.

5- أن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الأول للقانون.

6- أن تصـدر الحكـومات عن هـذا التوجيه الإسلامي في كـل التصرفات.

ذلك هو حق الإسلام علينا وقد بلَّغنا، اللهم اشهد، ولا نرى لهذا وقتاً أنسب من هذا الأوان.

يقول الناس وما تفعلون بالأجانب وبغير المسلمين من المواطنين، فنقول يا سبحان الله لقد حل الإسلام هذا الأشكال، وصان وحدة الأمة عن التشقق والانقسام، وقرر حرية العقيدة والتعبد وما يلحق بهما فقال القرآن الكريم (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة:256)، كما كان شعار التعامل بين المواطنين في أرض الإسلام دائماً (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، وليس وراء ذلك من التسامح زيادةٌ لمستزيد.

على أننا نعود فنقول: أي نظام في الدنيا – ديني أو مدني – استطاع أن يفسح في قلوب المؤمنين به والمتعصبين له والفانين فيه لغيرهم من المخالفين ما أفسح من ذلك الإسلام الحنيف الذي يفرض على المسلم أن يؤمن بكل نبي سبق، وبكل كتاب نزل، وأن يثني على كل أمة مضت، وأن يحب الخير لكل الناس، وأن يكون رحيماً بكل ذي كبد رطبة، حتى إن الجنة لتفتح أبوابها الثمانية لرجل أطفأ ظمأ كلب، وتسعر النار بأعمق دركاتها لامرأة حبست هرة، هذا الدين الرحيم لا يمكن إلا أن يكون مصدر حب ووحدة وسلام ووئام.

رابعاً: وسائلنا

أيها الأخوة الكرام..

ويقول الناس كذلك: وما وسائلكم أيها المغلوبون على أمركم لتحقيق مطالبكم والوصول إلى حقكم؟ ونقول نحن في سهولة ويسر: وماذا يريد منا الناس؟ ولو أننا مغلوبون على أمرنا مدفوعون عن حقنا؟ وهل يليق بكريم أن يذل ويستخزى والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أعطي الذلة من نفسه طائعاً غير مكره فليس مني)؟ والله يقول: (وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون:8).

إن لنا سلاحاً لا يفل ولا تنال منه الليالي والأيام هو (الحق) والحق باق خالد والله يقول: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء:18).

ويقول: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ) (الرعد:17)، ويقول: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الإسراء:81).

ولنا سلاح آخر بعد ذلك وهو (الإيمان). والإيمان كذلك سر من أسرار القوة لا يدركه إلا المؤمنون الصادقون، وهل جاهد العاملون من قبل وهل يجاهدون من بعد إلا بالإيمان، وإذا فقد الإيمان؟ فهل تغني أسلحة المادة جميعاً عن أهلها شيئاً؟.

وإذا وجد الإيمان فقد وجدت السبيل إلي الوصول، وإذا صدق العزم وضح السبيل، (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم:47)، ولئن تخلى عنا جند الأرض فإن معنا جند السماء (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) (لأنفال:12).

والأمل بعد ذلك سلاح ثالث فنحن لا نيأس ولا نتعجل ولا نسبق الحوادث ولا يضعف من همتنا طول الجهاد والحمد لله رب العالمين، لأننا نعلم أننا مثابون متى حُسنت النية وخُلصت الضمائر وهي خالصة بحمد الله، فكل يوم يمضي يكتب لنا فيه ثواب جديد والنصر من وراء ذلك لا يتخلف (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:21)، (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف:110)، ففيم اليأس وفيم القنوط. لن يجد اليأس إلى قلوبنا سبيلاً بإذن الله (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف:87).

وسنعمل على ضوء هذه المشاعر وسنعمل بالحق يدفعنا الإيمان ويحدونا الأمل، فنذيع النشرات والبيانات ونوضح للناس ما خفي عنهم من حقوقهم ونكشف لهم ما ستر من ألاعيب المخادعين لهم والمغررين بهم في الداخل والخارج وسنجمع كلمة الناس على هذا في مؤتمرات جامعة في كل مكان وسندعو إلى عقد مؤتمر عربي إسلامي جامع لتوحيد الجهود وتنسيق الخطط، وسنبعث بإخواننا في كل مكان من البلدان الأجنبية يثيرون الشعوب والحكومات في القضية الإسلامية الوطنية فإذا لم يفد ذلك كله ولم نجد النصفة من العالم الجديد الذي يريد أن تتركز الحياة فيه على الطمأنينة والسلام فسنعرف كيف نضبط أنفسنا ونضع حاجزاً حصيناً قوياً بيننا نحن المؤمنين وبين هؤلاء الظالمين المفترين، وسيرون أن هذا السلاح السلبي سيفوت عليهم قصدهم ويعكس عليهم عدوانهم ويرد عليهم كيدهم في نحورهم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ولنا النصر في النهاية والله معنا. (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ) (آل عمران:160).

أيها الأخوة الفضلاء..

إنها الساعات الفاصلة في تاريخكم ففكروا وقرروا واعملوا واثبتوا واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون والله أكبر ولله الحمـد.


والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الله أكبر ولله الحمد

المرشد العام للإخوان المسلمين

حسن البنا



المصدر