في الأمن والسياسة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
في الأمن والسياسة...
مذكرات حسن أبو باشا
شاهد عن قرب على أحداث تاريخية خطيرة
يناير 1977
أكتوبر 1981
رمضان 1987


غلاف الكتاب


الرجل وتجربته...!!بقلم: خالد محمد خالد

الرجل الذي عاد إلى الحياة من ثقب إبرة يدعونا لسماع شهادته ورؤية تجربيه كرجل أمن عايش السياسة ورجل سياسة احترف الأمن.

ولعلكم ستسألون: ماذا تعني بقولك: عاد إلى الحياة من ثقب إبرة؟؟

ويجيبنا عن هذا التساؤل الطبيب الألماني الكبير الذي أطلق هذه العبارة بعد أن أبلى بلاءه الحسن الإشراف على علاج، بل إنقاذ مريضه الذي تلقى في كل أنحاء جسده حشدا من الرصاص المدمر والقاتل...

وحيث لبث ستة أشهر يتلقى مبضع الجراحين في سباق عنيد بين جسده المتهتك وبين المبضع الجوال المنهك هو الآخر من كثرة ما صال في الجسم المتداعي وجال....!!

نظر الطبيب الألماني بروفيسور كلاودي إلى المريض الذي فكت عنه ضماداته وزال عن وجهه شحوبه وبللت بسمة ندية شفتيه اللتين كان يكسوهما الجفاف ثم نظر إلى الأطباء الحافين حوله وقال:

إن حسن أبو باشا قد عاد إلى الحياة من ثقب إبرة...!!

وهو يريد أن يصور جسامة وفظاعة الجريمة التي كانت النجاة منها ضربا من المستحيل...!!

ذلك أن كمية الموت التي غزت جسده كله، لم تكن لتهزم أمام جميع محاولات الأطباء والجراحين.!

وكان لابد بكل مقاييس الحياة والموت أن يفقد الحياة، ويغادرها متأبطا ذراع الموت إلى يومه الأخير....!!

ولقد فعل ... بيد أنه ما كاد يقف على حافة المنية حتى قرر أن يعود!!!

ولكن كيف واحتمالات الموت تحاصره وتدثره؟؟؟!!

سيعود ولو من ثقب إبرة..!!

سيعود لأن لله عبادا، إذا أرادوا .... أراد!!!

وهو بما وقع عليه يومئذ من ظلم مبين وبما ألح به على الله في ضراعة المؤمنين تبوأ مكانا بين أولئك العباد...!!

هذا هو حسن أبو باشا الذي تصده نفر من القتلة في مساء 5 مايو 1987 وهو عائد من وليمة إفطار رمضانية عند السيدة كريمته، وزوجها الأمثل الدكتور حسام البدراوي ولقد كانت عودته إلى الحياة دليلا ناصعا على أن مصاير الناس جميعا عند مليك مقتدر وأن الذي يخرجونه من الحساب، يخطئون الحساب....!! ولو كان لي من الأمر شيء لأخذته من سرير المستشفى بعد أن أبل وعوفي إلى كرسي الوزارة: ليلقى القدر العظيم به درسه البليغ للذين أحكموا محاولة اغتياله قائلا لهم:

انظروا ها هو ذا من أردتم منازعة الله فيه يعود إلى الحياة وإلى مسئوليات الحكم حاملا من جديد أعباءه الثقال ساخرا من جريمتكم متحديا تطرفكم تعلموا الدرس جيدا واذكروا أن الله غالب على أمره ولكنكم لا تعقلون....!!

في صباح اليوم التالي للأمسية الكئيبة التي حاولوا فيها اغتياله كانت أدلف إلى غرفته الشاحبة والممتقعة والعابسة وما إن رآني حتى قال:

شايف ياي أستاذ خالد؟؟ ماذا صنعت لهم حتى يكافئوني بهذا العدوان الأثيم...؟

ولم أجد كلمات أعقب بها على احتجاجه الأسيف فقد كانت شفتاي تتلقيان القطرات المالحة من دموعي المنثالة واكتفيت بمسح جبهته بكفي اليمنى متمتما بدعاء سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم:

باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك اللهم ربا لناس أذهب البأس اشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما...

كانت أنباء الجريمة مفزعة وبدا التفاؤل صفقة خاسرة ومغامرة بائرة إذ كيف ينجو من انفجار الرصاص المقذوف في عظمة فخذه اليمنى الرئيسية فأحالتها إلى مزق ونثارات وفتتها إلى أربع وثلاثين قطعة ثم استقرت بقاياه في عظام الحوض ثم جاء دور المضاعفات فإذا جلطات كثيرة تغلق الرئتين ويهوى ضغط الدم إلى درجة الاحتضار ثم تقف الكليتان عن العمل تماما لمدة شهر وتتبعها في التوقف الكبد وثم يفقد الإبصار شهرا كاملا ويفقد الذاكرة خمسة عشر يوما ويستدعي الأطباء المشرفون على علاجه في يأس يستدعون أولاده من القاهرة ثلاثة مرات لتوديعه: فقد انطفأ كل أمل لهم في الشفاء...!!

كيف عاد هذا المتداعي إلى الحياة؟؟ تلك إرادة الله ليجعل منه آية تقول للذين يهدمون ما يبنى.. ويميتون ما يحيي... ويقضون في مصائر خلقه بهواهم المريض وحقدهم الأسود وغبائهم النزق أنهم ليس لهم من الأمر شيء وأنهم لا يقامرون بحياتهم الآثمة والمتورطة فحسب بل يقامرون أيضا بسمعة الدين وسلامة الوطن... وستكون عاقبة أمره مخسرا....؟؟

ومن قبل محاولة اغتياله جاءوا بغلام مراهق في السابعة عشرة من عمره ليشهد ما لقنوه إياه أن اللواء حسن أبو باشا قام أثناء تحقيقه معه بتمزيق المصحف الشريف وإلقائه على الأرض ثم داسه بقدميه...!! أهذا إسلام؟؟ أهؤلاء مسلمون؟؟

لمثل هذا يذوب القلب من كمد

إن كان في القلب إسلام وإيمان

هذا هو الرجل الذي أقدمه في هذه السطور...

فماذا عن ذكرياته أو مذكراته...؟؟

ليس من صالحي أن اعتقا شوق القراء إلى مطالعتها ومن ثم سأكتفي ببضع إيماءات إليها، وبعض ومضات منها تدل عليها...!!

ولكن قبل ذلك دعوني أحدثكم: كيف تآخينا هو وأنا... فقد سعدت بمعرفته في الشهور الأولى من توليه وزارة الحكم المحلي أو ما يسمى الآن الإدارة المحلية ومن أول لقاء غمرني إحساس بهيج بأنني عثرت على مجموعة من الأصدقاء في صديق واحد...!!

وقضينا ولا نزال نتبادل الزيارات ويوثق عري صداقتنا عشقنا المشترك للحرية وإيماننا الحق بالديمقراطية وأشهد: ما التقينا يوما إلا بادر فأخذ بزمام الحديث كي يوجهه شطر القضية الكبرى الديمقراطية....!!

وقد تختلف معه في بضع التفريعات أو التحفظات المرحلية لكن تبقى الديمقراطية كقضية هي الوطن الأم لفكره السياسي ومنهجه الحضاري ورؤاه الإصلاحية وحين يتحلى رجل الأمن والضبط والربط بهذه السمة العظيمة فإنه لا يكون لا ريب رجلا في مذكراته هذه يكاد يرفض الحديث عن نفسه إلا حين يكرهه السياق والأحداث على أن يرفع عنها الستار فيرفعه على استحياء..!!

ذلك أنه كما يقول فيها لم يرد تقديم سيرة شخصية وإنما ركز على دلالات هامة لأحداث تاريخية لها أهميتها في الماضي وأبعادها في المستقبل وهو لهذا كما يقول أيضا يتوخى عمق الصورة وتأكيد ملامحها كي تظهر في النهاية غير قابلة للتشويه أو التأويل... ورجل الأمن هذا له وجهة نظر وفلسفة تجاه التاريخ والأحداث والناس... ولنطالع قوله في مذكراه أثبتت حقائق التاريخ أن الأحداث الهامة في تاريخ الشعوب لا تأتي من فراغ وإنما تسبقها دائما مقدمات طويلة مداها، أو يقصر وتتوقف على عمق تفاعلاتها أبعاد الحدث ومدى تأثيره الفوري والمستقبلي.

ثم يحدثنا عن منهجه فيقول إن شهادتي محكومة بالاعتبارات التي تحكم أي شهادة وهي أن زوايا الرؤية تحدد نطاق هذه الرؤية فشهادتي من أساسها شهادة رجل أمن وسياسة، أدرك بحكم التجربة أن الأمن في أي مجتمع لا ينفصل عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يمر بها المجتمع وإذا كنت سأتحدث في هذه المذكرات عن أحداث وقضايا محددة فإن البحث في المقدمات والظروف التي مهدت لها وأحاطت بها سيحتم علينا أن نتعرض بالتنقيب والاستقصاء خلال مراحل سابقة لكي نصل إلى أعماق وجذور ما تعرض له من أحداث واقعية متجنبا تماما كل الأسرار التي تتعلق بالأمن القومي.

ووفق هذا المنهج الذي يدل على ثقافة واسعة لصاحبه يمضي السيد حسن أبو باشا الوزير سابقا للداخلية ثم للحكم المحلي مزيحا الستار عن كثير من الحقائق المخبوءة وممسكا بتلابيب الإرهاب والعنف في جذورهما الغائرة وأصولهما البعيدة...

مذكرا دائما بأن غياب الديمقراطية كان المسئول الأول وربما الأوحد عن كل ما أصاب مصر وما سوف يصيبها من أزمات ومشكلات ومخاطر إذا لم تجد ديمقراطيتنا تكاملها وكمالها وإذا لم نرفض تماما كل نقص في نفوذها...!!

وبعد فلا أدري عن أيهما أعتذر الإطالة أم التقصير؟؟ على أية حال يستطيع الصديق العزيز أن يتقدم إلى القراء، حاملا كتابه بيمينه تاليا عليهم تجربة حياته ونبأ يقينه مرددا في صدق هو له أهل قول ربنا الكبير..

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت

وما توفيقي إلا بالله.

عليه توكلت .. وإليه أنيب.

تمهيد

ترددت لفترة طويلة في حقيقة الأمر قبل أن أبدأ في خوض هذه التجربة وأعني بها إخراج هذه المذكرات إلى حيز الوجود.

فقد اعتدت أن أعمل دائما في صمت ولم يرد على خاطري في يوم من الأيام أن أقوم بمثل هذا العمل ولكن كثيرا من الأصدقاء على اختلاف مواقعهم ألحوا أن أتخلى عن هذا التردد وأن أكتب شهادتي للتاريخ وكانت وجهات النظر التي ساقوها أنه التزام معنوي بل التزام وطني أن يتقدم للشهادة من كل له دور عام، خاصة من عايش أحداثا بعينها ولها أهميتها التاريخية وستكون دائما من المنعطفات التي يقف أمامها المؤرخون بالتمحيص والاستقصاء والتحليل ولا سبيل أمام المؤرخ لجمع مادته إلا وثائق هذه الأحداث وشهادات من عايشوها ووقفوا على وقائعها لكي يأتي التدوين في النهاية محيطا بكل الجذور والزوايا المحددة للأبعاد الحقيقية لكل حدث بعيدا عن الظواهر التي يمكن أن تكون متأثرة بهوي أو ميل أو مصلحة ولكما تحقق ذلك تحقق عمق الصورة وتأكدت ملامحها لكي تظهر الحقائق في النهاية غير قابلة للتشويه أو التأويل.

ومع قوة هذه الحجة وسلاسة منطقها فقد ظل التردد يصاحبني والإحجام عن خوض التجربة يحول بيني وبين مجرد التفكير في أن أبدأ المحاولة وفي حقيقة الأمر لقد كان وراء هذا التردد والإحجام أسباب كثيرة أولها: إشفاق على النفس من الجهد الشاق الذي تفرضه التجربة

وثانيا: أنني أرفض أن أكتب مذكرات يكون محورها شخصا بذاته

وثالثها: أنني أعرف مقدما الأشواك التي سأسير عليها والتي تحيط بمثل هذا العمل وتضاعف من صعوبته وحساسيته.

محاولة الاغتيال

ومع كل ذلك فقد طرأ علي مجرى حياتي مالم أكن أتوقعه فقد تعرضت لمحاولة اغتيال غادرة في 5مايو عام 1987 مساء أحد أيام شهر رمضان المعظم ولكن إرادة الله جل علاه كانت فوق إرادة من اتهموا بخيال أسود ومريض وكاذب ثم حاكموا وأصدروا الحكم وقاموا بتنفيذه وكل ذلك في الظلام الدامس كأننا في مجتمع غابة، ولكن الحياة كتبت لي بإرادته سبحانه وتعالى.

ولدق نتج عن الإصابات التي لحقت بي إجراء عدة عمليات جراحية في مصر والخارج واستمر علاجي مدة ستة أشهر ممتالية كنت طريح الفراش خلالها.

وخلال تلك الفترة الطويلة لم يكن أمامي إلا أن استغرق في التفكير والتأمل مستعرضا حياتيا الوظيفية والسياسية منذ بدايتها وحتى محاولة الاغتيال.

ولقد تغلب على تفكيري في نهاية الأمر الاتجاه إلى أن أبدأ هذه التجربة اقتناعا بأن هناك من الأحداث الهامة التي لها الكثير من الدلالات والمؤشرات التي يجب أن نقف أمامها لكي نستخلص منها العبر والدروس المستفادة وكان تفكيري أن هذا التوجه كفيل بأن تخرج هذه المذكرات إلى حيز الوجود بعيدة عن السيرة الشخصية وإنما مركزة على دلالات هامة لأحداث تاريخية لها أهميتها في الماضي ويمكن أن يمتد تأثيرها إلى المستقبل.

وكان تفكيري أيضا أنني بذلك العمل أرضي ربي سبحانه وتعالى الذي أرادت حكمته وقدرته وبتوفيق منه جلا علاه أن أصل في مواقعي الوظيفية والسياسية إلى شغل تلك المناصب على مستوى القيادة العليا كنائب لمدير مباحث أمن الدولة في مايو 1971 ثم مديرا لذلك الجهاز في إبريل 1975 وحتى يوليو 1977.

ثم عودة ثانية لإدارة نفس الجهاز في الأيام الأولى التي أعقبت اغتيال الرئيس الراحل السادات لمواجهة أوضاع خطيرة من التردي الأمني في أكتوبر عام 1981 ثم وزيرا للداخلية في يناير عام 1982 ثم وزيرا للحكم المحلي في يوليو 1984 حتى تركت المنصب الوزاري في التعديل الذي تم في نوفمبر 1986.

وكان دافعي أيضا أن أبدأ هذه المحاولة إبراء لذمتي أمام كل مواطن علي أرض مصر من حقه أن يعرف الحقيقة ثم إرضاء لضميري ما دام يمكنني أن أبصر ببعض الأضرار التي يمكن أن يتعرض لها الوطن.

فقد أثبتت حقائق التاريخ أن الأحداث الهامة في تاريخ الشعوب لا تأتي من فراغ وإنما تسبقها دائما مقدمات يطول مداها أم يقصر ويتوقف على عمق تفاعلاتها أبعاد الحدث ومدى تأثيره الفوري أو المستقبلي ويخطئ من يظن أن مثل تلك الأحداث تقع بصورة عارضة بعيدة عن تراكمات سابقة كما أنها بدورها يمكن أن تمثل مقدمات لتطورات مستقبلية يتوقف مداها هي الأخرى على مقدرة استيعاب مغزى ما سبقها من أحداث ومعالجة أسبابها.

فتلك هي حكمة التاريخ الذي تتولى مراحله في تداخل حتمي لتؤثر كل مرحلة سلبا أم إيجابا فيما سيتلوها من مراحل بقدر القدرة على استيعاب تلك السلبيات وإذا أخذنا التاريخ القريب نموذجا لهذه الرؤية فإننا نجد أن ثورة يوليو مثلا لم تأت من فراغ وإنما سبقتها مقدمات تفاعلت وتراكمت على المستويات الاقتصادية والاجتماعية أدت جميعها إلى ترد سياسي واجتماعي كان من أسباب إشعال هذه الثورة كما أننا يمكن أن نعزو أسباب مؤامرة أكتوبر عام 1981 إلى مقدمات تراكمت طوال مرحلة حكم الرئيس الراحل السادات وانتهت تفاعلاتها بتلك الأحداث الدامية التي كادت تعصف بكيان البلاد.

ولعلي أعلم مقدما أن بعض ما سأقوله سيغضب ذلك الطرف أو ذاك الجانب وقد أشفق على البعض فعلا من الهجوم الذي يمكن أن أتعرض له من بعض الأطراف ولكن اقتناعي العميق انتهى إلى أنني وقد بدأت المحاولة واستهدفت منها وجه ربي ثم بلدي فليس أمامي إلا أن أعد القارئ بأن تأتي كل كلمة أسطرها معبرة عن واقع عايشته أو وجهة نظر استخلصتها من هذا الواقع دونما زيادة أو نقصان.

كما أنني أبادر هنا فأقول إن شهادتي محكومة بالاعتبارات التي تحكم أي شهادة هي أن زوايا الرؤية تحدد نطاق هذه الرؤية فشهادته من أساسها شهادة رجل أمن وسياسة أدرك بحكم التجربة والممارسة الطويلة أن الأمن في أي مجتمع لا يمكن أن ينفصل عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يمر بها هذا المجتمع وهي ليست بطبيعة الحال شهادة رجل اجتماع أو رجل اقتصادي أو مؤرخ وقد تاتي وجهة النظر التي أتعرض لها بالاستقصاء والتحليل مستندة إلى العوامل الواقعية أكثر مما هي مستندة حرفيا إلى نظريات فكرية أو أكاديمية ولكنني على وجه اليقين لا أدعي بأنني أثير مفاهيم جديدة تتناقض مع النظريات العملية وإنما كلما جاء الاستقصاء والتحليل معبرا عن الواقع الحقيقي وأمكن إسناده في النهاية إلى أساسيات علمية في مجالاتها المختلفة.

وهنا لابد من أن أبادر فأقول إنني لا أكتب مؤلفا وثائقيا وإنما أتعرض لأحداث ومواقف لها أبعادها المختلفة وقد عايشتها جميعها لحظة بلحظة ويوما بيوم في جميع دقائقها ووقائعها وكانت لها مقدماتها التي تفاعلت وتراكمت لكي تفرز في النهاية تلك الأحداث والمواقف وتؤثر على التطورات التي اقترنت بها.

بعيدا عن الأسرار

وإذا كنت سأتحدث في هذه المذكرات عن أحداث وقضايا محددة، فإن البحث في المقدمات والظروف التي مهدت لها وأحاطت بها سيتحتم علينا أن نتعرض بالتنقيب والاستقصاء خلال مراحل سابقة وتحليل الملابسات التي أحاطت بها لكي نتصل إلى أعماق وجذور ما نعرض له من أحداث واقعية كما أنني وضعت نصب عيني أن يأتي البحث والاستقصاء بعيدين عن أسرار تتعلق بالأمن القومي لا يجوز لي أن أتناولها على وجه الإطلاق وفي الوقت نفسه فإنني أعرض كل ذلك من منطلق رؤية شخصية بمنظور أمني وسياسي وإذا كان البعض من الكتاب وهم جميعا موضع التقدير والاعتزاز قد تناول هذه الأحداث في مذكرات أو كتب نشرت لهم فقد تجردت تماما من أي قراءة لي حول هذه الموضوعات لكي يأتي ما أتناوله عنها من دقائق وتفصيلات معبرا تماما عن تقديري الشخصية لهذه الموضوعات ولعل هذا التفسير يتفق إلى حد كبير مع مقولة للراحل الكريم الدكتور طه حسين وردت في كتابه المعنون (مستقبل الثقافة في مصر) أشار فيها إلى أنه عندما يبحث الباحث في أي موضوع أدبي يجب عليه أن يتجرد من أي إطلاعات له ويدخل إلى الموضوع بفكره الخالص غير متأثر بآي آراء أو كتابات عن الموضوع نفسه وأعتقد أن المنهج نفسه يمكن الأخذ به في بحث وتحليل القضايا السياسية الهامة وتبقى ملاحظة أخيرة، ذلك أننا عندما نسعى في الاستقصاء إلى العودة للوراء بحثا عن الجذور قد نستشهد ببعض ما كتب حول نقاط بعينها لمؤلفين آخرين كتبوا عن الموضوع نفسه ولكن كل ذلك يتم في أضيق نطاق ممكن.

أحداث يناير 77

وعلى سبيل المثال فلا يمكن أن نتحدث عن أحداث يناير 1977 دون أن نتعرض إلى الملابسات التي أحاطت بانتقال السلطة للرئيس الراحل السادات والتي بدأت بأزمة الصدام مع من أطلق عليه مراكز القوى ولكن نعرض لتأثير هذا الصدام على توجهات الرئيس الراحل السادات لابد من أن نعرض لبعض جوانب التطورات السياسية خلال مرحلة الرئيس الراحل عبد الناصر وتأثيرها على مجريات الأمور بعد وفاته.

مؤامرة أكتوبر 81

كما أننا عندما نتعرض لمؤامرة أكتوبر 1981 لابد من أن نبحث وراء نشأة العنف باسم الدين في مصر وكيف دخل التيار السياسي تحت الرداء الديني في لعبة التوازنات السياسية سواء قبل ثورة يوليو أم بعدها ثم لابد من أن نعرض لماذا أعطي الرئيس الراحل السادات الضوء الأخضر للتيار السياسي الديني وكيف انتهى الأمر باغتياله على يد هذا التيار، ثم من الأهمية بمكان أن نعرض لتفصيلات مؤامرة أكتوبر وحلقاتها المتتالية ولماذا فشلت ولم تصل إلى غايتها ومستندين في أغلب الوقت إلى حيثيات حكم محكمة الجهاد التي نظرت هذه القضية كذلك نعرض لأسباب الأزمة الطائفية وكيف انتهت بالتحفظ على البطريرك في دير الأنبا بشوى ثم نعرض لفلسفة الحوار الديني مع فكر التيار المتطرف تحت الرداء الديني ودوافعه كأسلوب جديد في مواجهة هذه الظاهر التي تمتد إلى ما يقرب من نصف قرن مضي وأخيرا ماذا يمكن عمله للخروج من هذا المأزق الذي تخلقه هذه الظاهرة على الاستقرار والشرعية؟

البعد الديمقراطي

كما أننا عندما نعرض للبعد الديمقراطي في الممارسة السياسية بعد تولي الرئيس مبارك مسئولية الحكم في أعقاب ذلك التردي السياسي والانهيار الأمني الذي انتهى باغتيال الرئيس الراحل السادات، لابد أن نتعرض للمهام الأولى لنظام الرئيس الراحل السادات لابد من أن نتعرض للمهام الأولى لنظام الرئيس مبارك لمعالجة الأوضاع الداخلية وخلق مناخ جديد يفسح المجال لحرية الحركة السياسية ومن أهمية أن نعود هنا للوراء لنعرض ملامح التطبيق الديمقراطي قبل ثورة يوليو وبعدها حتى اغتيال الرئيس الراحل السادات ثم نتعرض لأول انتخابات تتم في عهد الرئيس مبارك ودلالتها وهل استوعبتها القوى السياسية أم انحصرت نظرتها في المصلحة الحزبية السريعة ثم نعرض دور الحكم المحلي في توسيع مساحة الممارسة الديمقراطية وتعميق تطبيقاتها وأخيرا نتحدث عما يطلق عليه أزمة الديمقراطية في مصر وما المخرج إذا كان هناك أزمة؟

ولقد يسأل البعض لماذا اختيار هذه الموضوعات الثلاثة بذاتها لتكون موضوع هذه المذكرات فهناك الكثيرة من الأحداث الأخرى التي عايشها كانت هذه السطور بحكم المواقع التي شغلها لماذا لا يكتب عنها أيضا ولكنني في حقيقة الأمر فكرت كثيرا في المحتوى الذي تضمه هذه المذكرات وأركز عليه ورأيت في نهاية الأمر وأرجو أن أ:ون مصيبا أنه من أفضل كثيرا ألا نقف عند الجزئيات أو المتفرقات من الأحداث والمواقف التي يموج بها أي مجتمع وإنما يجب أن نتجه مباشرة إلى الكليات التي تمثل قضايا محورية أو حاكمة خاصة أن تناولنا لهذه القضايا سيحتم علينا أن نتناول كثيرا من المقدمات البعيدة والقريبة التي مهدت لها وبذلك تتسع دائرة البحث والتحليل لتشمل تلقائيا كثيرا من الجزئيات والتفصيلات وبذلك تغطي جانبا كبيرا من التطورات التي أحاطت أو اقترنت بهذه القضايا.

باب المجهول

لعلي أضيف إلى كل ذلك إيضاحا آخر يفسر لماذا اعتبرت هذه القضايا الثلاثة بمثابة قضايا محورية أو حاكمة؟

ولماذا نركز عليها في هذه المذكرات لتكون هي بذاتها الموضوع المحوري الذي تدور حوله كل التفصيلات والتحليلات؟ فقد كان التقدير أن قضيتين من القضايا الثلاثة المشار إليها وأعني بهما أحداث يناير 1977 ومؤامرة أكتوبر 1981 تمثلان ظاهرتين أساسيتين ليس لهما مثيل منذ قامت ثورة يوليو 1952 فكلتاهما استهدفت لأول مرة، في مدة لا تتجاوز خمس سنوات، إسقاط الشرعية الدستورية القائمة من خلال العمل الاثاري بين الجماهير أو من خلال العنف والاغتيال تمهيدا لإشعال ثورة سعبية أيضا وذلك باستثناء محاولة اغتيال الرئيس الراحل عبد الناصر عام 1954 ولنا حديث عنها في الفصل الثاني وفي المرة الأولى كان لأقصى اليسار المتطرف دور كبير في التفجير والتصعيد وفي المرة الثانية كان أقصى اليمين المتطرف هو الخطط والمفجر وفي كلا الحدثين كان باب المجهول سيفتح على مصارعيه لتواجه البلاد مثيرا لم يكن من اليسير على أي محلل أن يتنبأ بنتائجه أو تداعياته فهل يترك مصير أمة لتقرره جماعة تنتمي إلى ذلك الفكر أو ذالك وتسعي في تدبيرها وتخطيطها خلف استثمار بعض المشكلات الداخلية للقفز على السلطة من خلال العمل التآمري أو الانقلاب أم أنه قد آن الأوان ليرسخ في وجداننا جميعا أن الاستقرار الدستوري أصبح مسألة حياة أو موت لهذا الشعب وأنه الكفيل تعميق الممارسة الديمقراطية يوما بعد يوم حتى نتجه بكل قوانا لمعالجة أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية.

ومن هذا المنطق نفسه تحدد القضية الثالثة لهذه المذكرات وأعني بها قضية البعد الديمقراطي في الممارسة السياسية وتطوراتها بعد مؤامرة أكتوبر تلك التطورات التي فتحت الباب ثانيا للممارسة الديمقراطية بمنطق جديد مستفيدا إلى حد كبير من دروس الماضي ونأمل جميعا أن تتسع مساحتها يوما بعد يوم في أفضل مناخ صحي يقفل الباب تماما أما أي محاولات تسعى إلى إعادة العجلة إلى الوراء.

الحقيقة ... وحدها

تلك هي محاور شهادتي والهدف منها، وأحسب أن دواعي التجرد فيها أوسع من نوازع الانحياز إلى هذا الرأي أو ذاك أو هذه المجموعة أو تلك فإنا أكتبها وقد تجاوزت بحمد الله الخامسة والستين من عمري، وبعد أن انتهيت من أداء رسالتي العامة، ولا مطمع لي الآن، إلا ذلك الشعور بالسعادة الذي يستشعره الشاهد عندما يقرأ في عيون سامعيه لقد كان الرجل شاهد صدق وهذا ما أسعى إليه، ويعمق من التزامي بالحقيقة والحقيقة وحدها بقدر ما تطيق القدرة على التركيز والتشخيص والتحليل وما توفيقي إلا بالله.

حسن أبو باشا.

الفصل الأول أحداث يناير 1977

كانت أحداث هذا الشهر أحد المنعطفات الهامة في مرحلة حكم الرئيس الراحل السادات، بل إنها بجميع المقاييس تعبير أحد أهم الأحداث التي دلالاتها الكثيرة منذ قامت ثورة يوليو فهي المرة الأولى منذ قيام هذه الثورة عام 1952 التي خرجت فيها جماهير الشعب بهذا الحجم متصرفة بكل هذا العنف على امتداد يشمل تسع محافظات في مواجهة النظام الذي استمد شرعيته الفعلية من التفاف الجماهير حوله، وهي أيضا كانت المرة الأولى منذ بداية ثورة يوليو التي تخرج فيها القوات المسلحة من ثكناتها لتعيد النظام إلى الشارع بعد أن عجزت قوات الأمن عن ملاحقة أحداثه وتداعياته.

ولقد أطلق الرئيس الراحل السادات على هذه الأحداث وصف انتفاضة الحرامية ردا على ما وصفت به من جانب بعض القوى السياسية بأنها كانت تمثل انتفاضة شعبية وظل الرئيس السادات يردد هذا الوصف في كثير من خطبه السياسية بعد ذلك وحتى اغتياله في أكتوبر 1981.

وكان الانطباع الجماهيري العام أن الرئيس الراحل كان يحمل في ثنايا مشاعره من الداخل كثيرا من الغيظ والغضب نتيجة لهذه الأحداث وكانت نبرات صوته وانفعاله يعبران بوضوح عن هذه المشاعر كلما تعرض في خطبه لهذا الموضوع.

بل إن جانبا من الرأي العام الخاص في أوساط المثقفين قد أصبح على اقتناع كبير بأن تلك الأحداث كان لها تأثيرها العميق بعد ذلك على توجهات القيادة السياسية وألقت بظلالها على كثير من مواقفها وقراراتها.

ويخطئ من يتصور تلك الأحداث بأنها كانت مجرد انتفاضة حرامية كما كان يحلو للرئيس الراحل أن يسميها أو أنها كانت مجرد حدث عارض وقع فجأة وانتهى كما بدأ، وإذا فعلنا ذلك فكأنما نضع رؤوسنا في الرمال ونطرح وراء ظهورنا أهمية استخلاص الدروس المستفادة من التفاعلات الاجتماعية والسياسية التي تفجر مثل هذه القضايا الهامة، والتي قد تفاجئنا في لحظات حرجة باحتمالات قد يصعب حصارها ووضع حسابات لنتائجها.

وليس هناك أدنى شك أن أحداث يناير 1977لها أهميتها الخاصة حيث اقتربت كثيرا في لحظات معينة بعد اشتعالها لكي تأخذ شكل الثورة الشعبية العارمة ولعل هذا البعد الخطير الذي كادت الأمور تتطور إليه يتعارض كثيرا مع ذلك الوصف الذي أطلقه الرئيس الراحل عليها وفي الوقت نفسه فإنني بدوري لا أسعى إلى أن أعطيها بعدا خاصا يضاعف من حجمها أو أهميتها وإنما أسعى قدر الطاقة لإبراز حقائق الأمور وإلقاء الضوء على الخلفيات التي أحاطت بهذه الحقائق من جميع جوانبها اقتناعا بأن الهدف الأسمى لشهادة من يتصدى للقضايا العامة بالتسجيل والتحليل يجب أن يتركز أولا وأخيرا في مساعدة المؤرخين على استخلاص الحقائق من جملة ما يكتب عن هذه القضايا ثم يجب أن يتجه ثانيا للمساهمة في استخلاص عبر الماضي تجنبا لتكرارها في الحاضر أو المستقبل.

ولقد وصف الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه خريف الغضب أحداث يناير 1977 من حيث أهميتها وآثارها، بأنها أحدثت شرخا في نظام حكم الرئيس الراحل عبد الناصر وهو وصف يترجم بدوره كم كان عمق هذه الأحداث التي كادت تؤثر على شرعية النظام وتفتح بابا مجهولا لسلسلة من التقلبات الداخلية لا يمكن تحديد أبعادها.

كما ذكر السيد أحمد بهاء الدين في كتابه محاوراتي مع السادات أن الرئيس الراحل ذكر له خلال حديث بينهما عن تلك الأحداث أن المسألة أحداث 18، 19 يناير على أي حال قد صارت أكبر من معرفة الفاعل أو توافر الأدلة القضائية ضده وما حدث لا يمكن السماح بتكراره مهما حدث لو لجأت إلى الحديد والنار وهو بدوره تعبير يترجم إلى حد كبير كم كان رد الفعل عميقا وقاسيا في فكير الرئيس الراحل نتيجة ما حدث في هذا الشهر.

وثيقة سرية

ولعل مضمون وثيقة من الوثائق التي تم ضبطها لدى أحد عناصر تنظيم حزب العمال الشيوعي وهو تنظيم سري يعلم تحت الأرض كان لكثير من عناصره دور بارز في تفجير المواقف في هذين اليومين على التفصيل الذي سيرد فيما بعد أقول لعل مضمون هذه الوثيقة يعطينا بعض المؤشرات عن المدى الذي تصوره من ساهموا في تفجير الموقف لكي تصل الأمور إليه فقد ورد بها: إن الذين تصدوا لقيادة الجماهير في الشارع لم يضعوا في اعتبارهم مدى استعداد المواطن المصري لمواصلة الحركة بأسلوب حزب العصابات كما أن اهتماما مسبقا من جانبهم يقصد عناصر التنظيم لم يبذل لاستمالة قواعد من قوات الشرطة والقوات المسلحة وصغار الضباط في كليهما. ولكن إذا كان هناك من خطط مسبقا لتفجير الموقف استثارا لملابسات سابقة ولاحقة على التفصيل الذي سنتحدث عنه فيما بعد وإذا كان هذا التخطيط قد وضع في اعتباره احتمالا التداعيات على هذه الصورة التي وردت في تلك الوثيقة السالف الإشارة إليها فإنه من الأهمية أن نضع هذه الأحداث ومسبباتها في حجمها الحقيقي، خاصة أنها ترتبط في أبعادها بعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية بجانب أخطاء تنفيذية مهدت لها الأرضية والمنطلق.

ومن المنطقي الآن قبل أن نبدأ في عرض تفصيلات هذه الأحداث أن نسأل أنفسنا هل وقعت فجأة وبلا مقدمات وفي غياب كامل للأجهزة الأمنية والمؤسسات التنفيذية في الدولة أم أن الأمر كان له مؤشراته وتفاعلاته لكي تصل الأمور خلال يومين اثنين إلى بداية ثورة شعبية كان في طريقها لكي تنتشر على مستوى الجهورية بأكملها؟ إننا في سعينا للإجابة الشاملة عن هذا التساؤل لابد من أن نعرض أولا للمتغيرات السياسية التي مهدت مع غيرها من متغيرات أخرى لهذا التفجير الذي حدث صباح يوم 18 يناير 1977 وهو ما نعرض له اتباعا.

المتغيرات السياسية الماركسيون وثورة يوليو

كان التيار الماركسي يقف موقفا معاديا في ثورة يوليو في السنوات الأولى بعد قيامها بل وصل به الأمر إلى أنه اتهم قيادات الثورة بأنهم قاموا بها بتنسيق أمريكي مصري لخدمة المصالح الأمريكية في المنطقة وظل موقف التيار الماركسي بتنظيماته السرية يهاجم توجهات الثورة طوال مرحلة الخمسينيات تقريبا عندما اتخذت الثورة في نهاية قرارا باعتقال أعداد كبيرة منهم وكان ذلك من أسباب ذلك الخلاف الطارئ الذي نشب بين الرئيسين عبد الناصر وخروشوف في تلك الفترة.

ثم حدث تحول حاد بعد ذلك في موقف التيار الماركسي من ثورة يوليو بعد أن بدأت معالم التحول الاجتماعي في برامج الثرة تتأكد وبعد أن قطعت الثورة شوطا بارزا في سياستها التحررية على المستوى العالمي وإذا بالتيار الماركسي يتخذ قرارا غير مسبوق في مرحلة الستينيات بحل جميع تنظيماته السرية ويصدر بيانا يعلن فيه أنه اتخذ هذه الخطوة إيمانا من جميع فصائله بالبعد التحرر والتقدمي للثورة وأن منهجها يؤكد أنها تحقق تحولات اجتماعية عميقة وأن جميع هذه المنطلقات تدفع الفصائل الماركسية بأكملها إلى حل منظماتها والوقوف جنبا إلى جنب مع ثورة يوليو لمؤازرتها ومساندتها في جميع جوانب كفاحها.

ولقد أدت هذه الخطوة بعد ذلك إلى شكل من التعاون أو التحالف بين الثورة وبين التيار الماركسي وكان من مؤدي ذلك أن كثيرا من العناصر الماركسية وصلت إلى مواقع متعددة على المستويين القيادي والقاعدي في تشكيلات الاتحاد الاشتراكي بتنظيمه الطليعي، كذلك في المؤسسات الصحفية وبعض المواقع الإعلامية الأخرى.

وفي حقيقة الأمر فقد كانت هذه الخطوة من جانب فصائل التيار الماركسي بتنظيماتها السرية محيرة إلى درجة كبيرة فهل كانت موقفا مبدئيا أم مجرد إجراء تكتيكي وموقف مرحلي يرتبط بشكل ما بتطورات العلاقة بين مصر والاتحاد السوفيتي والتي كانت قد وصلت إلى درجة كبيرة من التعاون في المجالات العسكرية والاقتصادية وقد كانت بحق أهم مراحل التصنيع وبناء السد العالي وتنفيذ الخطة الخمسية الأولى؟ أتصور أن التطورات التالية ستعطينا بعض الأضواء لنجد فيها إجابة منطقية عن هذا التساؤل.

سر مظاهرة 68

فقد استمر ذلك التعاون أو التحالف بين الثورة وفصائل التيار الماركسي بعد ذلك طوال مرحلة الستينيات ولم يظهر فوق السطح بالمنظور الأمني، أي مواقف تلفت النظر للمجموعات الماركسية حتى وقعت مظاهرات الطلبة عام 1968 بعد الأحكام التي صدرت ضد بعض القيادات العسكرية التي نسب إليها الإهمال في حرب 1967 وكنت في ذلك الوقت أشعل موقعا في جهاز أمن الدولة يدخل ضمن مسئولياته بحث خلفيات مثل هذه الأمور التي تتصل بأمن الدولة وكان من المفاجآت التي لفتت النظر أن كثيرا من العناصر الماركسية هي التي كان لها الدور القيادي في تفجير الموقف الطلابي على النحو الذي سارت عليه الأمور في تلك المظاهرات وأذكر أن من بين أهم الاستخلاصات التي برزت أمامي وأكدت عليها في تقريري النهائي عن أبعاد هذه المظاهرات أن الزعامات التي قادتها استهدفت من بني ما استهدفته من قيادة هذه المظاهرات كسر حاجز الخوف بين جموع الطلاب من مثل هذه التحركات الجماعية التي كانت الأولى من نوعها تقريبا إذا استثنيا تلك الإضرابات العمالية التي حدثت في بداية الثورة بمنطقة كفر الدوار وأعدم فيها اثنان من العمال الماركسيين وكان لافتا للنظر أيضا أن غالبية هذه العناصر الماركسية كانت منخرطة في منظمة الشباب والتنظيم الطليعي السري الذي تشكل في مرحلة الستينيات كجناح كادري عقائدي لتنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي.

وعلى أي حال فقد تم بعد ذلك الإفراج عن جميع الطلبة الذين قبض عليهم في هذه الأحداث وعولج الموضوع بمرمته في الإطار السياسي وكانت هذه الظاهرة هي الأخيرة في حلقات مواقف العناصر المركسية في مرحلة الستينيات حتى وفاة عبد الناصر في سبتمبر عام 1970 لكي تبدأ حلقات أخرى أكثر تطورا وعلى أرضية مغايرة تماما لما كان قائما قبل ذلك، وهو ما نتحدث عنه حالا.

صدام مراكز القوى

فقد كانت المفاجأة الأولى السريعة بعد شهور قليلة من وفاة جمال عبد الناصر ذلك الصدام الذي حدث بين الرئيس الراحل السادات وبين تلك المجموعة من القيادات العليا التي أطلق عليها مسمى مراكز القوى وأسارع هنا لكي أوضح أنني لست في مقام إبداء وجهة نظر خاصة حول الأسباب الحقيقية لذلك الصدام كما أنني لست في مقام استعراض تفصيلاته ولكنني فقد أتعرض له من تلك الزاوية التي تتصل بالموضوع الذي نحن بصدده الآن.

فلقد كان الاتهام الموجه إلى تلك المجموعة أنها كانت تدبر لإسقاط الشرعية الدستورية وتمت محاكمة أعضائها على هذا الأساس أمام محكمة خاصة وحكم على غالبيتهم بأحكام تراوحت بين الإعدام والأشغال الشاقة المؤيدة والسجن لمدد مختلفة وكانت وجهة نظر أعضاء هذه المجموعة وقد سمعت جانبا منها في مناقشات مبدئية مع بعضهم فور القبض عليهم أن الموضوع برمته لا يخرج عن خلاف في وجهات نظر حول عدد من التوجهات السياسية لعل من أهمها على ما أتذكر الموقف من الاتحاد الثلاثي الذي كان على وشك الإعلان عنه كذلك الموقف من قضية الحرب مع إسرائيل وأذكر أن الفريق فوزي ذكر في عبارة عارضة أنه يريد من الرئيس الراحل أن يتذكر حديث معه حول الخطة جرانيت وموعد تنفيذها ثم أخيرا الخلاف حول قضية العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتي وما بدأ يطرأ عليها من متغيرات.

والذي يهمنا في هذا الموضوع أن الانطباع العام الذي ساد جانبا من الرأي العام ومعه بعض القوى السياسية أن المجموعة التي ضربت في ذلك الصدام كانت مثل التوجه الذي يؤيد دعم التعاون بين مصر والاتحاد السوفيتي وأنها تمثل الجناح اليساري في السلطة وأن ضربها يشير إلى متغيرات عميقة في توجيهات الرئيس الراحل أنور السادات مغايرة في أبعادها السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية لتوجيهات سلفه الرئيس الراحل عبد الناصر.

وكانت الظاهرة الأولى التي تكشفت للرئيس الراحل السادات بعد تصفية مجموعة مراكز القوى والتي كانت على مجموعة هامة من المواقع الحساسة ومن بينها تنظيم الاتحاد الاشتراكي بتشكيله السري التنظيمي الطليعي كذلك منظمة الشباب وإن كانت قد تعرضت بعد مظاهرات عام 1968 لتغيرات متعددة أضعفت من فاعليتها أقول كانت الظاهرة اللافتة للنظر أن هذين التشكيلين العلني والسري كانا أعجز من أن يشكلا أي خطورة على المستوى الجماهيري العام في تلك اللحظات الحرجة التي بدأت خطورة على المستوى الجماهيري العام في تلك اللحظات الحرجة التي بدأت بالقبض على مجموعة القيادات السياسية ومعهم عدد من قيادات الاتحاد الاشتراكي وتنظيمه الطليعي السري.

ولقد بات واضحا بعد ذلك أن الرئيس الراحل السادات أحكم سيطرته على تشكيل الاتحاد الاشتراكي وإن تأكد في الوقت نفسه أن التفكك والانهيار قد أصابا التنظيم الطليعي وأصبح خبر كان ومن المفارقات أنه بعد ضبط كثير من المستندات المتعلقة بالتنظيم الطليعي لدى بعض العناصر التي تم ضبطها خلا تلك الفترة أن من بين أعضاء هذا التنظيم كثيرا من العناصر السياسية المرموقة التي لمعت في عصر الرئيس الراحل السادات، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر أسماء المرحومين ممدوح سالم وفؤاد محيي الدين رئيس الوزراء السابقين والسيد نبوي إسماعيل وزير الداخلية الأسبق ومجموعة محدودة من ضباط الشرطة أذكر أنها كانت موضوع دهشة بيننا في جهاز أمن الدولة فلم نكن نتصور أن التنظيم الطليعي وهو بمثابة نواة حزبية كادرية يمكن أن يمتد إلى جهاز الأمن الذي يأتي في مقدمة تقاليده أنه جهاز قومي يحمي الشرعية ويؤكد سيادة القانون ولا ينخرط في أعمال سياسية أو حزبية.

وبعد الانتهاء من قضية مراكز القوى وما رفع خلالها من شعارات أمام الرأي العام بأنهم كانوا يمثلون عائقا أما انطلاق الحريات العامة للمواطنين ويشكلون حائطا للإرهاب والقسر بدأ الرئيس الراحل السادات يتفرغ للقضية الأهم وهي قضية الحرب مع إسرائيل وكانت تمثل بالنسبة للرأي العام القضية الأهم ومحور الاهتمام العام على جميع المستويات.

ثم كانت الظاهرة الثانية اللافتة للنظر عندما أطلقت خلال عامي 71و 72 مسميات عام الحسم وعام الضباب وكان واضحا منها أنها تستهدف طمأنة الرأي العام وتعبئته في الوقت نفسه استعداد للمعركة القادمة مع إسرائيل فقد أطلق عام الحسم أولا ثم عام الضباب ثانيا عندما تشابكت وتأزمن كثير من المواقف الدولية وخلال هذين العامين 71و 72 بدأت المظاهرات الطلابية تتجدد بين وقت وأخر وتعلن في وضوح كامل هجومها على القيادة السياسية تحت ستار الدعوة لاستئناف الحرب وكانت غالبية هذه المظاهرات بقيادة العناصر الماركسية ومعهم بعض العناصر الناصرية.

ولقد كانت مظاهرات الطلبة بقيادة العناصر الماركسية في منتصف عام 1972 من أهم ما وقع فيها من مظاهرات إذا انتهت إحدى هذه المظاهرات باعتصام عدة مئات من الطلاب وغالبيتهم من العناصر الماركسية بميدان التحرير بل إن الأمر انتهى بهم وكأنهم قد احتلوا الميدان وأصبح خارجا عن سيطرة الأجهزة التنفيذية المسئولة.

كنت في ذلك الوقت أشغل منصب نائب مدير مباحث أمن الدولة الذي صعدت إليه عقب أحداث مايو 1971 ولم يكن هذا الموقف على هذه الصورة ليمر دون اهتمام خاص من جانبينا في جهاز أمن الدولة وكانت وجهة النظر المبدئية تتحسب من اقتحام الميدان تخوفا من أن يسفر هذا الاقتحام عن خسائر بشرية وضحايا بين الطلاب واتجه التفكير في ضوء هذا التحسب إلى الاكتفاء باستمرار متابعة الموقف مع تحويل حركة المرور بعيدا عن الميدان وكان المتوقع أن هذا الإجراء مع انقطاع وسال الراحة عن المعتصمين سيدفعهم إلى إنهاء اعتصامهم ومغادرة الميدان.

ولكن المعتصمين برغم إجراءات الضغط التي تقررت على النحو المشار إليه أصروا على الاستمرار في موقعهم وواصلوا الاعتصام وفي حوار بيني وبين المرحوم اللواء سيد فهمي وكان قد شغل منصب مدير الجهاز عقب أحداث مايو 1971 خلفا للمرحوم اللواء حسن طلعت اتجه حوارنا إلى أن الموضوع على هذه الصورة أكبر من أن ينتظر إليه على أنه مجرد اعتصام مجموعة من الطلاب في الطريق العام فالواضح أن المعتصمين اختاروا مجموعة من الطلاب في الطريق العام فالواضح أن المعتصمين اختاروا مكن اعتصامهم بعناية بهدف له مغزى خاص ومن هنا كان اختياره لميدان التحرر كأكبر ميدان في قلب العاصمة وأن إغلاق الميدان عليهم مع استمرارهم في الاعتصام لهذه الفترة الطويلة سيظهر الأمر وكأنهم نجحوا في تحدي سلة الدولية وسيكون الأمر علاوة على ذلك موضع اهتمام وتعليق وكالات الأنباء العالمية بصورة قد تبالغ إلى الحد الذي قد يظهر الموقف وكأنه يمثل موقفا داخليا متأزما يضاف إلى كل ذلك أن استمرار الاعتصام على هذا الشكل يمكن أن يمثل بؤرة ينعكس صداها في مناطق أخرى سواء بالقاهرة أو خارجها يسعى البعض إلى محاولة تقليدها وكان أخر ما اشتمل عليه ذلك الحوار أنه يبدو أن الماركسيين يسعون إلى أن يكون احتلالهم لميدان التحرر وكأنه يتشبه بموقف ماركسي شهير عندما احتل الماركسيون الميدان الأحمر في موسكو في خضم الثورة الروسية وأصبح ذلك الميدان يحلم رمزا خاصا في تاريخ تلك الثورة.

ولقد انتهى هذا الحوار إلى ضرورة إجراء تقييم للموقف بالميدان صورة نهائية واتفق على أن أتوجه شخصيا بشكل عادي وغير لافت للنظر لاستطلاع الموقف قبل إقرار الإجراء النهائي المناسب وقد لفت النظر أثناء المرور بأنحاء الميدان أن أعدادا من الحضور يقفون في مجموعات في مناطق متفرقة من الميدان وتجري بينهم مناقشات كان يتصدرها في غالبيتها شخص يقف في وسط المجموعة ليدير مناقشات كان يتصدرها في غالبيتها شخص يقف في وسط الميدان وتجري بنيهم مناقشات كان يتصدرها في غالبيتها شخص يقف في وسط المجموعة ليدير المناقشة كما كان لافتا للنظر أن ثمة أشخاصا يغادرون الميدان وبينما يدخل غيرهم بين وقت وأخر وأصبح واضحا بما لا يدعو إلى أي شك أن تلك الحلقات وما يدور فيها من مناقشات قد بدأت تتحول إلى ما يشبه البؤر الثورية لتأكيد التصميم على مواصلة الاعتصام بالميدان إلى أطول وقت ممكن لينعكس صداه ولينكسر حاجز الرهبة على المستوى الجماهيري من اتخاذ مثل هذه المواقف بكل ما تحمله من معاني التحدي للسلطات المسئولة.

وبعدها مناقشة ما أسفر عنه هذا الاستطلاع من دلالات بيني وبين المرحوم اللواء سيد فهمي كان القرار النهائي أنه يجب إنهاء ذلك الاعتصام فورا وصدرت التعليمات للقيادات المسئولة التي اقتحمت الميدان قرب منتصف الليل بقواتها وانتهى الاعتصام.

كان واضحا تماما في ذلك الوقت ومع جميع هذه الملابسات وأن تنظيم الاتحاد الاشتراكي بعد تفكك تنظيمه الطليعي يفتقد الفاعلية المؤثرة على المجال الجماهيري بصفة عامة وعلى المجال الطلابي بصفة خاصة وأن القدرة الحركية للعناصر الماركسية في المجال الطلابي تتجاوز بكثير قدرة الاتحاد الاشتراكي.

وكانت الظاهرة الأولى بعد إسناد أمانة الاتحاد الاشتراكي للسيد محمد عثمان إسماعيل أن بدأت تظهر في المجال الطلابي ما يسمى بالجماعات الإسلامية وكان ذلك المؤشر بداية عودة ثانية للمصالحة مع التيار السياسي الديني في عهد الرئيس الراحل السادات، وعلى أي حال فإننا سنتحدث تفصيلات في الفصل التالي عن مؤامرة أكتوبر عن دور التيار السياسي الديني في لعبة التوازنات السياسية ولكننا هنا في هذا الجزء نتناول هنا الزاوية التي دفعت الرئيس الراحل السادات لإعطاء الضوء الأخضر لهذا التيار ممثلا في الجماعات الإسلامية في مبدأ الأمر وكان واضحا أنه يريد بذلك أن يحاصر حركة التيار الماركسية في المجال الطلابي بصفة خاصة الذي كان مصدر الإزعاج على الساحة السياسية.

ولقد ركز أمانة تنظيم الاتحاد الاشتراكي بعد ذلك على دعم تلك الجماعات الإسلامية التي بدأت يتوالى إنشاؤها في الكليات الجامعية المختلفة بجميع الإمكانات والأساليب بل كانت تدفعها إلى الصدام مع العناصر الماركسية لدى أي مناسبة يتاح لها فيها أن تختلف مثل هذا الصدام وأذكر أن أحد قيادات أمانة التنظيم اتصل ذات يوم تليفونيا بمدير مباحث أمن الدولة المرحوم اللواء سيد فهمي وطلب منه المساعدة في تدبير أكبر عدد من سيارات الإسعاف لتكون جاهزة للتحرك السريع إلى جامعة القاهرة وكانت الإخطارات قد أشارت إلى ثمة تجمعات طلابية في هذه الجامعة في صورة مظاهرات داخل الحرم الجامعي وعندما استفسر مدير الجهاز من تلك القيادة عن السبب في طلب إعداد هذا العدد الكبير من سيارات الإسعاف كانت الإجابة أنها ستنقل الجرحى من الشيوعيين الذين ستسيل دماؤهم (على حد قوله) بعد أن يتصدى لهم أعضاء الجماعات الإسلامية.

وكم كان مضمون هذا الاتصال التليفوني مدعاة للتهكم بيننا في جهاز أمن الدولة وإن كان قد أعاد إلى الأذهان تلك الصدامات التي كانت تحدث في الجامعات قبل ثورة يوليو بين الطلاب الوفديين وبين الطلاب الإخوان والتي وصلت في أوقات متعددة إلى استخدام العصي والأسلحة البيضاء بل والقنابل في بعض الأحياء وكان يتفوق فيها في الأغلب ذلك الطرف الذي كان يجيد استخدام القنابل والأسلحة وهو طرف الإخوان بطبيعة الحال ومع ذلك فإن التوقع الذي افترضته أمانة التنظيم بالاتحاد الاشتراكي عن نتائج ذلك الصدام ذلك الصدام بين العناصر الماركسية وبين أعضاء الجماعات الإسلامية لم يسفر عن أي إصابات وانتهت المسالة بسلام.

ولكن لماذا لم تلجأ أمانة الاتحاد الاشتراكي منذ البداية إلى الاستعانة بكوادر منظمة الشباب في المجال الطلابي وكانت لها إمكاناتها وانتشارها، بدلا من الالتجاء إلى تشكيل الجماعات الإسلامية لتواجه بها حركة التيار الماركسي؟ أعتقد أن الاعتبارات التي أحاطت بالتنظيم الطليعي هي الاعتبارات نفسها التي حددت الموقف من منظمة الشاب والتي كان كثير من عناصر التيار الماركسي قد تسللوا إليها ولذلك فقد تفككت بدورها في السنوات الأولى بعد وفاة الرئيس الراحل عبد الناصر.

ولدق تكشفت أيضا في تلك المرحلة المبكرة أن التنظيمات الماركسية السرية قد أعادت تشكيلاتها السرية كما كانت وبمسمياتها نفسها ولعل تلك السرعة التي عادت بها على هذا النحو من القدرة الحركية تؤكد أن ما السرعة التي عادت بها على هذا النحو من القدرة الحركية تؤكد أن ما أعلنت عنه في مطلع الستينيات عن حل تشكيلاتها السرية إنما كان مجرد إجراء تكتيكي فرضته ظروف واقعية نشأت بعد أن تجاوزت الثورة في تطبيقاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية منطق هذا التيار وتوجهاته، ولذلك اتخذ هذا الموقف المرحلي مفضلا أن يمارس دوره من خلال القنوات التي أتيحت له في المجالين السياسي والإعلامي وسرعان ما تحول ثانيا للعمل من خلال تنظيماته السرية بعد تلك المتغيرات التي أعقبت وفاة الرئيس الراحل عبد الناصر.

يبقى بعد ذلك المتغير الأخير الذي حدث على الساحة السياسية ممثلا في المنابر السياسية التي تشكلت في أول الأمر داخل تنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي في مارس عام 1976 وسرعان ما تحولت إلى أحزاب سياسية في نوفمبر من العام نفسه لتبدأ التعددية الحزبية وذلك موضوع سنتحدث عنه تفصيلا في الفصل الأخير من المذكرات عن البعد الديمقراطي في الممارسة السياسية ولكن الذي يعنينا هنا أن أحد الأحزاب الثلاثة التي تولدت عن المنابر الثلاثة التي كانت قائمة هو حزب التجمع الوحدوي التقدمي، وكان منذ البداية يضم في أكثريته التيار الماركسي متحالفا معه جناح من التيار الناصري، والظاهرة الهامة التي تلفت النظر أنه مع تشكيل حزب شرعي يضم التيار الماركسي فإن التنظيمات السرية لها التيار التي تعمل خارج إطار الشرعية ظلت قائمة كما هي بل إن كثيرا من عناصر هذه التنظيمات انضموا إلى عضوية الحزب مع استمرارهم في الوقت نفسه كأعضاء في تلك التنظيمات السرية.

تلك كلها كانت ملامح عريضة عن التطورات السياسية التي استجدت على المسرح السياسي بعد ولاية الرئيس الراحل السادات والتي كان من أبرزها قضية مراكز القوى وما لحقك بها من تفكك في التنظيم الطليعي ومنظمة الشاب ثم تلك المتفرقات من الأحداث التي فجرتها عناصر التيار الماركسي في المرحة المبكرة بعد ولايته وإعادة تشكيل تنظيماتها السرية وأخيرا بداية ظهور الجماعات الإسلامية كطليعة لدور أكثر فاعلية يلعبه التيار السياسي الديني فيما بعد.

ولكن هذه المتغيرات السياسية لم تكن وحدها هي التي طرأت على الساحة السياسية وإنما لحقت بها متغيرات اقتصادية هامة كان لها بدور إسهام مباشر وغير مباشر في تطورات الأحداث وهو ما تتحدث عنه في الجزء التالي.

-2-

المتغيرات الاقتصادية

أذكر بعد هزيمة يونيه 1967 وكانت جماهير الشعب قد خرجت يومي 9، 10 يونيه على امتداد الجمهورية بأكملها تعلن رفضها للهزيمة وإصرارها على مواصلة الحرب، كان لدينا في جهاز مباحث أمن الدولة في المرحلة اللاحقة لتلك الحرب تركيز على ذلك الجانب النفسي للمناخ الجماهيري العام نعم لقد أعلن الشعب رفضه للهزيمة واستعداده للتضحية ولكن نتيجة الحرب قد تركت رغم ذلك آثارها الهامة على معنويات الشعب بصورة كان واضحا منها أن حالة من الإحباط العام تسود قطاعات عريضة من الشعب.

ولقد تركز الاهتمام في ذلك الوقت على تحديد بعض الظواهر التي يمكن أن تفتح الطريق لمضاعفة روح الإحباط مع احتمالات استثمارها من جانب قوي خارجية أو قوى داخلية معارضة تتصور أن الوقت مناسب لتصفية حساباتها مع الثورة وكان الهدف من هذا الاهتمام بذلك الجانب أن المتطلبات القومية في تلك الفترة كانت تتطلب أكثر مما تتطلب رفع معنويات الجماهير العريضة وتحقق أقصى درجات الاستقرار الداخلي تمكينا للقيادة السياسية من وضع خططها القومية في المجالين العسكري والاقتصادي بصفة خاصة لتجاوز أثار ونتائج تلك الهزيمة العسكرية. ولقد قمت في ذلك الوقت وكنت مساعدا لرئيس فرع النشاط الداخلي بجهاز أمن الدولة بإعداد دراسة شاملة حول هذا الموضوع كان من أولى توصياتها أهمية السيطرة على ما يتصل بالأوضاع المعيشية للجماهيرية العريضة حتى لا تمتد أثار المعركة العسكرية الخاسرة إلى جوانب الحياة السلبية التي خلفتها تلك المعركة على المستوى الجماهيري العام كذلك حتى يمكن من خلال السيطرة على ذلك الجانب الحيوي من حياة كل مواطن تحقيق درجة مناسبة من التوازن النفسي للمواطن لكي يتأكد في يقينه أن تضحياته السابقة واللاحقة نتيجة هذه الحرب بما نتج عنها من أثار وأعباء لن تصل إلى درجة من الإرهاق المادي والمعنوي الذي قد يؤدي إلى تحول روح الإحباط إلى روح من اليأس العام وحينئذ تتعرض الجبهة الداخلية إلى مخاطر جسيمة.

ثم عرضت هذه الدراسة على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وأعيدت بتأشيرات بخطة بالموافقة على جميع التوصيات التي وردت بها بل يبدو أنه اقتنع بها لدرجة أنه أمر بصرف مكافأة تبلغ مائتي جنيه لكل من شارك في إعداد هذه الدراسة.

وتحقق فعلا في أعقاب حزب 1967 اهتمام خاص بالجانبين الاجتماعي والاقتصادي فيما يتعلق بجمع الجوانب التي تتصل بالنواحي المعيشية للجماهير ووجهت القيادات السياسية والتنفيذية في تلك الفترة كثيرا من الإجراءات والقرارات إلى ذلك المجال لسد جميع الثغرات التي فرضتها حالة الحرب، وظهرت نتائج إيجابية ملحوظة سواء في مجال توافر جميع مستلزمات الإنتاج أو السيطرة بقدر الإمكان على مؤشرات الأسعار.

وخلال الفترة من عام 1967 حتى عام 1971 لم تحدث أي قلاقل داخلية لها أهمية خاصة خلاف مظاهرات الطلبة التي اندلعت في فبراير 1968 في أعقاب المحاكمات العسكرية والتي يقودها عناصر التنظيم الطليعي ومن بينهم عدد من العناصر الماركسية وكانت معظم الشعارات التي رفعت خلال تلك المظاهرات تنحصر في الموت للخونة تسقط المحاكمات السرية لا اشتراكية بدون حرية ويلاحظ أنه لم يرد بها أي شيء يتعلق بالجانب المعيشي.

كيف انقلب الوضع؟

كان ذلك إذن هو الموقف بعد الهزيمة عن ذلك الجانب الذي يتصل بالأوضاع المعيشية للمواطنين فكيف إذن ينقلب الحال بعد نصر أكتوبر 973 لينفجر الوضع الداخلي على هذه الصورة التي حدثت بعد ذلك بأربع سنوات في يناير 1977 كانت هناك فعلا متغيرات اقتصادية وفرضتها ظروف ما بعد الحرب وما ما سنتحدث عنه حالا ولكنني أتصور أن سياسة الصدمة التي اتبعت في تلك الفترة وتأثيرها السلبي على نفسية الجماهير، هي الثغرة التي استغلتها بعض أجنحة التيار الماركسي لتفجير الموقف على الصورة التي حدثت وذلك هو موضعنا في الجزء التالي عن سياسة الصدمة وسياسة المصارحة وتأثير كليهما على المناخ الجماهيري العام.

وحتى بداية حرب أكتوبر 1973 لم تكن هناك متغيرات اقتصادية واجتماعية لها أهمية خاصة بخلاف ارتفاع تدريجي بسيط في أسعار بعض السلع وكان مجمل الإرهاصات الداخلية منحصرا في تلك المظاهرات والاعتصامات التي قادتها عناصر التيار الماركسي على النحو السالف الإشارة إليه فيما سبق علاوة على حادث أخر له أهمية خاصة والمعروف بحادث الفنية العسكرية ولكننا نؤجل الحديث عنه إلى الفصل القادم عندما نتحدث عن الإرهاب الديني ومع كل ذلك تبقى حقيقة مضيئة لابد من ستجيلها فقد وقف الشعب بأكمله بجميع طبقاته وتياراته السياسية خلال حرب أكتوبر متماسكا خلف قيادته السياسية وقواته المسلحة يؤازرها بكل قواه وطاقته وتأييده ويحافظ على استقرار جبهته الداخلية بروح وطنية رائعة ويكفي تدليلا على ذلك أنه رغم سريان قانون الطوارئ في ذلك الوقت فإن مواطنا واحدا لم يعتقل تطبيقا لهذا القانون ولم يقع حادث واحد يدعو إلى مجرد التفكير في تطبيقه.

الانفتاح الاقتصادي

ولكن الحرب وقد انتهت بذلك الانتصار التاريخي فقد كان من المنطقي تماما أن يوجه الاهتمام الأكبر للبعد الاقتصادي فقد تحمل الاقتصاد المصري أعباء جساما نتيجة تلك الحروب الثلاثة التي خاضتها مصر على مدى ستة عشر عام فقط بدءا من حرب 1956 وبعدها حرب 1967 ثم أخيرا حرب 1973 وكان واضحا بعد نهاية حرب 1973 أن أوجه علاج كثيرة أصبحت حتمية لمعالجة كثير من الظواهر المرضية التي طرأت على الأوضاع الاقتصادية العامة وكانت البداية هو ذلك التحول في المسار الاقتصادي تحت مسمى الانفتاح الاقتصادي.

وكانت الآمال الجماهيرية قد تعلقت فعلا بعد انتصار حرب أكتوبر والتي أعلنت أنها آخر الحروب بيننا وبين إسرائيل على تحقيق ثمار سريعة لمرحلة السلام على المستويين الاجتماعي والاقتصادي وكان التبشير بسياسة الانفتاح ونتائجها المتوقعة هي الجرعة الأولى التي أعطيت للجماهير كمنطلق جديد تماما لمعالجة أوجه القصور في الجمود الذي أصاب النمو الاقتصادي وأضافت المبررات التي صاحبت الإعلان عن هذه السياسة، أنها استجابة حتمية لمتغيرات الظروف الاقتصادية المحلية والعالمية بكل معطياتها التي ستفتح آفاقا غير محدودة للاستثمارات المحلية والعربية والعالمية وأخيرا ما يعكسه كل ذلك من نتائج سريعة تحقق انتعاشا ضخما للاقتصاد القومي.

ولكنني أسارع هنا إلى إيضاح أنني لست الآن في مجال تقييم تلك الساسة فذلك له خبراؤه الاقتصاديون وإنما أعرض لها من زاوية وحيدة تركز على انعكاساتها على الجوانب المعيشية للمواطنين بعد بداية الآخذ بها وكيف مهدت بكثير من الانعكاسات السلبية للموضوع الذي نحن بصدده الآن عن أحداث 18، 19 يناير.

لكن الحقيقة تقتضي في الوقت نفسه أن نذكر بأنه لم يكن من المتصور أن تتبلور معطيات هذه السياسة في مرحلة مبكرة وإنما كان الأمر يحتاج إلى فترة زمنية مناسبة يسودها الاستقرار والتخطيط السليم حتى تبدأ في إعطاء ثمارها وها نحن الآن نرى كثيرا من مجتمعات أوربا الشرقية بل وروسيا والصين تعدل من سياسات اقتصادها المنغلق إلى سياسات أخرى من حتميات التطور والتقدم التي يفرضها العصر وكننا كما قلنا حالا نركز هنا على تلك الزاوية التي تمثلت في عدد من السلبيات التي أفرزتها سياسة لها تأثيرها المباشر على المناخ الجماهيري العام وبصفة خاصة على ذلك البعد الذي يتصل بالجانب المعيشي والأوضاع الاجتماعية.

عوامل الإحباط والإثارة

وتحديدا لتلك الانعكاسات السلبية والتي فتحت الباب لكثير من عوامل الإحباط والإثارة معا فإنني أركز على الملامح التالية:

• مبالغات وسائل الإعلام والمؤسسات التنفيذية في حجم جرعات الآمال والتفاؤل التي غذت بها الجماهير حتى تولد إحساس عام بأن باب الرخاء قد فتح على مصراعيه للجميع وقد وصلت المبالغة في ذلك إلى الدرجة التي دفعت جهاز الأمن السياسي إلى إعداد تحليل لهذه الظاهرة صورها في تقييم كاريكاتيري بأن البعض دفعته الآمال إلى تصور أن الكل سيغتني وأن السماء ستمطر ذهبا في يوم من الأيام وكان هذا الوصف يريد أن يجسد خطورة استشراء هذا الإحساس المبالغ في التفاؤل على الحالة النفسية للجماهير التي يصدمها الواقع بين وقت وآخر ويبدد أحلامها.

• ما شاب هذه السياسة في مراحلها الأولى من سلبيات حيث تمت دون تخطيط اقتصادي سليم كان من نتائجه المباشرة أن ثروات طائلة طفيلية وانتهازية تحققت في سرعة مذهلة وقد استشرت هذه الظاهرة إلى درجة بدأت تضر الاقتصاد القومي وتفرز كثيرا من الظواهر الأخرى الأكثر خطورة.

أغنياء الحرب

بدأت تطفو على السطح كثير من مظاهر الخلل الاجتماعي لتتفاوت الدخول وتختل التركيبة المنطقية للمجتمع وقد أعاد هذا الخلل إلى الأذهان صورة من كان يطلق عليهم أغنياء الحرب أثناء الحرب أثناء الحرب العالمية الثانية عندما كانت تتحقق ثروات طائلة لكل من يتعامل مع قواعد قوات الاحتلال وانتشرت في ذلك الوقت مقولة بأن كل من لم يثر في هذه الفترة لن يثري بعد ذلك.

• تجسدت جميع مظاهر الخلل في بؤرة الاهتمام الجماهيري العام لتبدأ روح من الإحباط تسود مجالات شعبية كثيرة خاصة على مستوى الطبقة الوسطى التي كانت تمثل دائما المركز الحقيقي لتوازن المجتمع.

ارتفاع الأسعار

• ثم كانت المحصلة الأخيرة لتلك السلبيات والتي تمثلت في بداية ظهور موجات التضخم التي بدأت بدورها تؤثر على الخط البياني للأسعار لترتفع أسعار كثير من السلع يوما بعد يوما.

وكما قلنا سابقا فلم تكن هذه الظواهر لتمر دون أن تترك بصماتها على الوضع الجماهيري العام كما أنها بدأت تفتح كثيرا من الثغرات لعوامل الإثارة التي يستجيب لها بعض المواطنين بين وقت وآخر ومن هنا بدأت تتكرر بعض الأحداث التي أطلق عليها في وسائل الإعلام في ذلك الوقت الحوادث المؤسفة في صورة تظاهر أو أعمال شغب، وإن كانت في غالبيتها في نطاق محدود وتدخل في إطار السيطرة الأمنية ولكن شعارات الهتافات التي ترددت خلال هذه المظاهرات كانت تعبر عن روح السخط التي بدأت ستود بين الجماهير وتركز على الجانب المعيشي مثل مش كفاية لبسنا الخيش جايين تاخدوا رغيف العيش. إحنا الطلبة مع العمال ضد تحالف رأس المال.

تقرير أسبوعي عن التموين

ولقد وصلت حساسية هذه المتغيرات وتأثيرها على الوضعي الداخلي العام خاصة في عامي 75، 1976 إلى التركيز عليها من جانب جهاز الأمن السياسي ليضعها في دائرة الاهتمام والمتابعة اليومية وكنت قد صعدت إلى موقع مدير ذلك الجهاز في إبريل 1975 واستجابة إلى انعكاسات هذه المتغيرات الاقتصادية فقد بدأ الجهاز يعد تقريرا أسبوعيا عن الموقف التمويني العام يتناول تفصيلات الخط البياني لأسعار جميع السلع المتداولة بالأسواق سواء تلك التي ينتجها القطاع العام أو الخاص ومؤشرات ارتفاع أسعارها وأسبابه ومدى الوفرة في حجم المعروض منها وملاءمتها لحجم الطلب ومن المفارقات أن الاهتمام بهذا التقرير بلغ مداه في عهد وزارة السيد ممدوح سالم، وكان يوزع على أعضاء مجلس الوزراء ليقف السادة الوزراء على ما يخص أعمال وزارتهم في هذا المجال ومع ذلك فقد وقعت أحداث يناير 1977 خلال اضطلاع هذه الوزارة بمسئولية الحكم وسيأتي بالتفصيل أن المنطلق الأساسي والمباشر الذي فتح ثغرة تفجير الموقف في ذلك اليوم يتصل بشكل مباشر بحركة الأسعار نتيجة تلك القرارات الاقتصادية التي أعلنت فجأة وعلى خلاف التوقع الجماهيري العام صباح يوم 18 يناير من ذلك الشهر وكان ذلك هو منطق سياسي الصدمة التي نتحدث عنها فورا في الجزء التالي ولنقارن بينها وبين سياسة المصارحة.

-3-

سياسة الصدمة ... الشرارة

لقد حاولت كثيرا أن أجد مسمى لذلك الأسلوب الذي نفذت به قرارات 18 يناير 1977 فلم أجد تعبيرا يوصف به هذا الأسلوب أفضل من تعبير سياسة الصدمة فقد صدرت هذه القرارات وكأنما أريد بها أن تفعل فعل الشرارة الكهربائية لتصدم المواطنين وتهز مشاعرهم وتحليلهم في لحظة واحدة إلى بركان ثائر ينظر من يشعله ليفجر ويثور.

لم يكن خافيا على أي مستوى مسئول خاصة منذ بداية عام 1976 أن هناك مشكلة لها بعد اقتصادي واجتماعي ولا انعكاساتها السلبية على الجبهة الداخلية أفرزتها المرحلة الأولى لتنفيذ سياسة الانفتاح الاقتصادي على النحو الذي أشرنا إليه في الجزء السابق وكان واضحا تماما أن هذه المشكلة تمس بصفة أساسية الطبقة المتوسطة والقواعد الشعبية محدودة الداخل وأن الجميع يتطلعون باهتمام وتركيز إلى الجهود الحكومية للتخفيف من أعبائهم.

وكان طبيعيا أن تبدأ أجهزة الإعلام المختلفة في التركيز على الإعلام بالجهود التنفيذية التي تبذل لحل مشكلات الجماهير وفي مقدمتها ما يتصل بحركة الأسعار واستمرت وسائل الإعلام في تبشيرها بتلك الجهود إلى الحد الذي اقتنع معه جمهور كبير من المواطنين بأن خطة تنفيذية محكمة قد وضعت للسيطرة على الموقف وأن ثمة تراجعا في حركة أسعار كثير من السلع سيتحقق في وقت قريب.

دراسة لأمن الدولة

ولكن على الجانب الآخر من المستوى الأمني لم تكن الصورة لدينا على هذا النحو المتفائل الذي كانت تبشر به أجهزة الإعلام كانت كل مؤشرات المتابعة تؤكد تصاعد روح القلق والسخط على المستوى الشعبي العام وأن محاولة تخدير الجماهير بآمال ليس لها انعكاس واقعي يلمسونه يمكن أن يكون لها أوخم العواقب وانطلاقا من هذا المفهوم فقد أعد جهاز أمن الدولة دراسة خلال شهر مارس 1976 اشتملت على تقييم شامل للموقف الداخلي مع إيضاح كامل للثغرات الاقتصادي والاجتماعية التي تسود الموقف، وانتهى التقييم بأن استمرا هذه التفاعلات السلبية على المستوى الجماهيري العام من شأنها أن تغرس في كيان المجتمع كثيرا من العوامل القابلة للتفجير ليتعرض المجتمع في أي لحظة إلى هزات غير محسوبة في نتائجها وأوصى التقرير بضرورة اتخاذ إجراءات شاملة لمعالجة تلك الثغرات.

ومع كل ذلك فقد ظلت سياسة التبشير الإعلامي والحكومة هي السائدة طوال عام 1976 ويقابلها في الجانب الأخر واقع تعيشه الجماهير وتشكو منه ولكنها تتغلب عليه بتلك الآمال التي أخذت تغذيها بها تصريحات المسولين وأجهزة الإعلام منتظرة اللحظة القريبة التي يتحقق فيها ما تبشر به.

تخطيط شيوعي

وكان هناك في الوقت نفسه من يتربص لاستثمار هذا المناخ المتوتر بما يتفق وتوجهاته وأغراضه السياسية فقد كشفت متابعة جهاز الأمن السياسي في مجال متابعته لحركة الجبهات والتنظيمات السرية التي تعمل خارج إطار الشرعية والقانون أن أحد التنظيمات الشيوعية السرية المسمى تنظيم حزب العمال الشيوعي وكان واحدا من أهم تلك التنظيمات الشيوعية في ذلك الوقت يخطط لتفجير ما أطلق عليه انتفاضية شعبية على مستوى الشارع وأن قرارات تنفيذية بمناسبة إعداد الميزانية تمس الجوانب المعيشية للمواطنين وكن في تقدير هذا التخطيط أن التوقيت المرتقب للبدء في تنفيذه سيكون في النصف الثاني من شهر يناير، استنادا إلى أن القرارات التنفيذية التي تتصل بإعداد الميزانية تصدر في هذا الوقت.

وكانت خطورة هذه المعلومات وأهميتها واضحة أمامي تماما فالأرضية الجماهيرية مليئة بعوامل السخط والتذمر ووميض النار نحت الرماد كثير وينتظر من يلقي عليه بعض اللهب لتشتعل الأرض بأكملها وكنا قد اقتربنا من شهر يناير الذي كانت تعلن فيه ميزانية الدولة وجميع القرارات المحلقة بها ولكنها منذ ذلك العام وبسبب ما حدث خلال ذلك الشهر عدل موعد الإعلان عن الميزانية إلى شهر يوليو من كل عام أقول كانت هذه المعلومات بمثابة جرس إنذار هام لا يمكن تجاهل صداه ومن هنا فقد اتخذت قرارين

• عرض المعلومات المتوافرة عن هذا التخطيط بأدلتها إلى النيابة العامة أولا بأول طبقا لما تسفر عنه عملية المتابعة والتنسيق مع النيابة في جميع الخطوات.

اقتراح بإجهاض المخطط

أعدت مذكرة شاملة في 27 ديسمبر 1976 بتفصيلات هذا الموضوع من حيث التخطيط لتفجير الموقف والمنطلقات التي ستحدد ساعة الصفر للتنفيذ وانتهت الدراسة إلى أهمية إجهاض المخطط في وقت مبكر وفيما يتصل بالمسؤولية الأمنية اقتراح ضبط 67 شخصا من القيادات المسئولية في ذلك التنظيم السري والضالعين في تدبير هذا المخطط على مستوى الجمهورية وتقديمهم إلى النيابة وأرسلت تلك الدراسة بهذه المقترحات إلى وزير الداخلية وكان المرحوم اللواء سيد فهمي في ذلك الوقت.

وبعد حوالي أربعة أيام أعيدت المذكرة من مكتب وزير الداخلية دون التأشير عليها بأي رأس سواء من حيث الموافقة على ما ورد بها من اقتراحات أمنية أو ما يشير إلى أن منطلقات ذلك التخطيط فيما يتعلق بالموازنة العامة للدولة لن تشمل أي قرارات تمس الجانب المعيشي للمواطنين.

ونظرا لما كان واضحا تماما من خطورة هذا التخطيط في ظل تفاعلات سلبية كثيرة تم رصدها فقد أعدت الاتصال تليفونيا بوزير الداخلية وناقشته ثانيا في مضمون هذه الدراسة وأهمية اتخاذ قرار بشأن ما ورد بها من مقترحات واتفق على إعادة الدراسة ثانية إليه لدراستها.

لا تضبط الشيوعيين

ومضى بعد ذلك يومان وأعيدت المذكرة ثانيا من مكتب وزير الداخلية ومؤشر عليها بتلك العبارة الوجيه هو عدم ضبط شيوعيين في هذه المرحلة ويكتفي بالمتابعة ثم فهمت بعد ذلك بوقت قليل أن الموضوع عرض على رئيس الوزراء وأن مرجع هذا التوجيه أنه كانت تتم في ذلك الوقت عملية مراجعة لجدولة الديون مع الاتحاد السوفيتي وأذكر أنني علقت في ذلك الوقت بما معناه وما علاقة ذلك بأشخاص مصريين يدبرون للخروج على القانون واعترف أن التبرير لم يكن مقنعا لي.

ولعله من المناسب هنا أن أوضح نقطة هامة فالأجهزة التي تعمل في مجال الأمن القومي في العالم أجمع تتحدد طبيعة مسئوليتها في أنها أجهزة جمع معلومات وتقدير مواقف واحتمالات لتضعها أمام السلطة المسئولية في الدولة لتتخذ بشأنها القرار المناسب ومن الطبيعي أمام السلطة المسئولية في الدولة لتتخذ بشأنها القرار المناسب ومن الطبيعي أن هذه المسئولية تفرض عليها الإحاطة بجميع المؤثرات التي يمكن أن تمس الأوضاع الداخلية لتكون أمام صاحب القرار بكل ملابساتها وأبعادها.

لم يكن أمامنا بعد هذا القرار إلا الاستمرار في عمليات المتابعة الأمنية المعادية ولكنني انتهزت فرصة حديث صحفي معي أجراه أحد المحررين بجريدة الأهرام في الأسبوع الأول في شهر يناير 1977 وتعمدت أن أشير فيه إلى أن أجهزة الأمن على علم بما يدبره البعض للإخلال وباستقرار الجبهة الداخلية استثمارا لبعض المشكلات التي تعاني منها الجماهير وكان في خلفية تفكيري في تلك اللحظة ذلك المخطط الذي يدبره ذلك التنظيم السري في محاولة إلى دفع قياداته وغيره من جبهات أخرى تعمل خارج إطار الشرعية والقانون للتراجع عن أي محاولات تدبر للإخلال بالاستقرار العام.

ثم تأتي المفارقة الأخيرة في ذلك الوقت متمثلة في بعض البيانات التي نشرتها الصحف قبل بداية الأحداث بأيام قلائل والتي أعطت مؤشرات بأن قرارات تتصل بالسيطرة على الأسعار ستصدر خلال أيام قلائل بما أوحي ثانيا إلى الجماهيري بأن الموضوع بأكمله تحت السيطرة الكاملة للحكومة فعلا ولكن الحقيقة كانت غير ذلك تماما فقد كان القرارات قد أعدت على وجه اليقين وكان التفكير كيف تصدر ويبدو أنه انتهى أخيرا لكي يتم ذلك بأسلوب الصدمة.

الصدمة .... والمصارحة

وهنا لابد من أن تكون لنا وقفه قصيرة نناقش فيها سياسة الصدمة التي اتبعت في يناير 1977 وسياسة المصارحة في معالجة الوضع الاقتصادي التي تسير عليها الدولة الآن فثمة تشابه في الموضوع وإن اختلف أسلوب العلاج جذريا فقد كانت الدولة عام 1977 تجري مفاوضات مع صندوق النقد الدولي لإصلاح الخلل في هيكل الاقتصاد القومي وكان من بين شروط الاتفاق إعادة النظر في هيكل الأسعار لتخدم أغراض العلاج الاقتصادي المتفق عليه وهو الموضوع نفسه الذي تعالجه الدولة حاليا مع الصندوق نفسه ولكن ماذا كان منطق الدولة حاليا إزاء هذه المشكلة أمام الجماهير؟ ذلك ما نركز عليه إجمالا فيما يلي:

• كانت الصراحة هي سمة الدولة في عرض أبعاد المشكلة الاقتصادية أمام الجماهير بل إن رئيس الجمهورية شخصيا في خطبه السياسية حرص على الإفاضة في عرض جميع الزوايا التي تتصل بهذه المشكلة مركزا على خلفياتها وملابساتها ووسائل علاجها والسياسات التي تقررت حيالها.

• البعد التام عن تخدير الجماهير بوعود يتعذر تنفيذها بالعكس صحيح، فإن الجماهير وضعت أمام مسئوليتها في صراحة تامة بالنسبة لذلك الجانب الذي يتصل بدورها في قضايا بعينها كقضية الإنتاج وقضية الانفجار السكاني.

• لم تصادر الدولة على حق الأحزاب والجماهير والهيئات أن تبدي آراءها ووجهات نظرها المتباينة في هذه القضية سواء بالنقد أو التأييد من خلال قنواتها الشرعية مما أتاح للرأي العام أن يحيط بجميع دقائق القضية والمعرفة المسبقة بخطوات الدولة وإجراءاتها للإصلاح

• لم تغفل الدولة ذلك الجانب الذي يتصل بالأجور ليتوازن بقدر الإمكان مع الارتفاع التضخمي للأسعار وكان هناك دائما إقرار صريح من الدولة أن ارتفاع الأسعار يسبق فعلا زيادات الأجور التي تتقرر كل عام تقريبا مع إيضاح مخاطر التضخم التي يمكن أن تقترن بزيادة الأجور بقدر يفوق إمكانات الدولة دون أن يقابلها زيادة في الإنتاج ولقد سعيت إلى هذه المقارنة السريعة في حقيقة الأمر لكي استخلص منها عددا من المؤشرات أتصور أنها يمكن أن تؤكد معاني لها أهميتها ودلالاتها:

• احترام الرأي العام وتأكيد الثقة بين الحاكم والمحكوم فلك مؤشر تؤكده سياسة المصارحة.

• استقرار سياسات وقرارات الدولة فعلا تعلق على ردود فعل غير محسوبة ثم تنفذ أو تلغي بناء على مدى رد الفعل فذلك مبدأ تحققه سياسة المصارحة عندما تشرك الرأي العام في المسئولية التي يجب أن يتحملها وتحيطه بأبعادها وعكس ذلك تماما في سياسة الصدمة ولدينا المثل الواضح على ذلك عندما اضطرت الدولة إلى إلغاء تلك القرارات التي أصدرتها في يناير 1977 تحت ضغط عنف رد الفعل لقراراتها بالرغم من تعارض ذلك تماما مع حتميات إصلاح الهيكل الاقتصادي ولكنها جاءت دون أدنى تحسب واعتبار لتفاعلات الأرضية الشعبية.

• تأكيد البعد الديمقراطي في الممارسة السياسية ذلك البعد الذي يعني مشاركة الشعب في إصدار القرار وعندما يناقش القرار بهذه الصورة العلنية على مستوى جميع مؤسسات الدولة السياسية والتشريعية والتنفيذية ثم يناقش على هذا المستوى الإعلامي الذي يطرح جميع وجهات النظر فإن القرار النهائي لابد أن يصدر مستجيبا بقدر الإمكان لتوجهات الرأي العام في حدود إمكانات الدولة المتاحة ولعل الدليل المؤكد على ذلك أن الدولة وهي في سبيلها لعلاج الهيكل الاقتصادي لم تغفل جانب الأجور لتقرر زيادتها كل عام بنسبة معينة ومهما قيل عن ارتفاع معدل التضخم عن النسبة المقررة لزيادة الأجور فإن ذلك لا ينفي جانبا هاما له دلالته وهو أن الدولة تسعى إلى الموازنة بين الالتزام والحق ولا تصدر قرارها غافلة عن تفاعلات الرأي العام الشعبي وهي تؤكد في الوقت نفسه على أهمية زيادة الإنتاج حتى يمكن زيادة الأجور بنسبة أكبر.

الحزب لم يناقش القرار

وعكس ذلك تماما كان المنطق الذي حكم قرارات يناير 1977 فقد كانت التعددية الحزبية قائمة وكان هناك حزب مصر صاحب الأغلبية البرلمانية ولكن الموضوع لم يناقش على مستوى الحزب، ولا على مستوى هيئة البرلمانية وأذكر أن اجتماعا لمجلس الشعب كان منعقدا مساء يوم 19 يناير وقت حظر التجوال وكان يحضره وزير الداخلية المرحوم اللواء سيد فهمي وبعد عودته إلى مكتبه وفي حوار بيني وبينه ذكر أنه انفعل في حديثه مع أعضاء الحزب وتساءل لماذا يبقون بالقاهرة في هذه الظروف الحرجة ولا يتوجهون فورا إلى دوائرهم الانتخابية للعمل على تهدئة الأمور كقيادات حزبية.

وفي الوقت نفسه فإن أبعاد المشكلة لم تناقش على أي مستوى آخر سياسي أو تنفيذي أو تشريعي وكان الإعلام في اتجاه أخر تماما للاتجاه الذي تعتز الدولة السير عليها وعندما صدرت القرارات، كان موضوع التوازن بينها وبين الأجور خارج دائرة الاعتبار ومن هنا تصاعدت حدة رد الفعل والاستجابة السريعة للإثارة والتفجير.

نصل في النهاية إلى آخر حلقات المفارقات في أسلوب الصدمة لقد حذر جهاز الأمن مرارا من التفاعل السلبي على مستوى الرأي العام نتيجة تلك السلبيات التي صاحبت سياسة الانفتاح يضاف إلى ذلك التحذير تلك الظواهر المتكررة التي طفت على السطح بين أن وآخر في صورة مظاهرات وأعمال شغب وكانت عطي مؤشرات واضحة عن حالة من القلق تسود القواعد الشعبية ثم كان تحذير الأمر الأخير في شهر ديسمبر قبل الأحداث بثلاثة أسابيع وكان قاطعا في دلالاته من أن هناك من يتربص للتفجير الموقف الشعبي في صورة انتفاضة شعبية هكذا بنص الكلمات وأن منطلق التفجير وساعة الصفر الخطط لبداية التنفيذي فيها سيكون إصدار قرارات تمس الجانب المعيشي للمواطنين بمناسبة إعداد الميزانية هكذا أيضا بنص الكلمات ثم اقترح جهاز الأمن من وجهة نظره الأمنية الموافقة على ضبط عدد من القيادات التي تخطط لهذا التفجير وتقديمها للنيابة.

صاحب القرار كان يعلم

• إنني أكرر هذه العبارات وقد أشرت إليها فيما سبق من هذا الجزء لكي أصل إلى النتائج المنطقية التالية:

1- أطلع صاحب القرار على سبيل القطع على جميع هذه التفصيلات ورأي من وجهة نظر سياسية عدم الموافقة على اقتراحات جهاز الأمن.

2- ينبني على ذلك أن الصورة كانت واضحة أمامه بأن جبهات معينة تخطط للإثارة وتفجير موقف شعبي فور إصدار قرار تتصل بحركة الأسعار.

3- كان من مقتضى ذلك منطقيا أن تخطر أجهزة الأمن للاستعداد لمواجهة احتمالات ردود الفعل للقرارات المزمع إصدارها قبل إعلانها بوقت كاف حتى يمكن اتخاذ كثيرا من الإجراءات الأمنية على مستوى الأجهزة المختلفة كذلك كان يجب تهيئة الجماهير نفسيا بحيثيات منطقية للقرارات الاقتصادية التي تقرر اتخاذها.

مفاجأة لأجهزة الأمن

ومع كل ذلك فقد كانت هذه القرارات مفاجئة لأجهزة الأمن بأكملها ولم يكن هناك أدنى ترتيبات أمنية مسبقة معدة لمواجهة هذا الموقف الطارئ ولقد ذكرت بعض الأقلام التي تعرضت إلى موضوع هذه الأحداث أن خطة أمنية طارئة أعدت قبيل إصدار القرارات بيومين على الأقل ولكنني لوجه الحقيقة أكد أن جهاز الأمن قد تعرض لنتائج سياسية الصدمة مثله مثل الجمهور العادي وكان ذلك سببا رئيسيا في أن الأحداث في تطوراتها تجاوزت قدرات جهاز الأمن لأسباب متعددة سأشير إليها في الجزء التالي بما تحتم معه في نهاية الأمر نزول القوات المسلحة للسيطرة على الموقف على التفصيل الذي نتحدث فيه عن انفجار الأحداث ولحظاتها الحرجة.

-4-

انفجار الأحداث ولحظاتها الحرجة

للمتنبي بينت من الشعر أتصور أنه ينطبق على ذلك السيناريو الذي بدأ حلقاته تتوالى في سرعة منذ الصباح الباكر في يوم 18 يناير 1977 ولا أدري لماذا تذكرته وأنا أبدأ كتابة هذا الجزء وكم ذا في مصر من مضحكات ولكنه ضحك كالبكا ولكن لماذا تلك العبارات بذاتها أبدا بها هذا الجزء فلقد كانت الصورة غريبة فعلا منذ بداية شهر يناير من ذلك العام حتى وصلت الأمور إلى ذلك الانفجار الشعبي يوم 18 من ذلك الشهر وكان استرجاع هذه الصورة يثير الضحك والبكاء معا فناك من التناقض في المواقف والنوايا ما يحتاج إليه مخرج مسرحيات درامية كوميدي لكي يثير ضحك الجمهور وبكاءه معا.

كان لدينا الطرف الأول وهو الجمهور بجميع قطاعاته ومعه جهاز الأمن بأكمله كان الجمهور ينتظر بفارغ الصبر الانتهاء من مشروع الميزانية لكي تصدر قرارات تحقق أماله خاصة بعد ذلك التركيز الإعلام الذي يشير بأن الحكومة في سبيلها إلى رفع المعاناة عن الجماهير واتخاذ إجراءات سريعة للسيطرة على الأسعار كذلك فإن جهاز الأمن كان يتوقع ذلك خاصة بعد أن تكشفت له أبعاد ذلك المخطط والمنطلقات التي ستهيئ له فرصة تنفيذه ولم يكن هذا الطرف من الجمهور ومعه جهاز الأمن أيضا بعد كل هذا التبشير الإعلامي والتحذير الأمني يخالجه أدنى شك في أن الأمور يمكن أن تنتهي إلى عكس ذلك تماما.

• أما الطرف الثاني ممثلا في الحكومة فقد كان يستعد بصدمته الكهربائية لشيء آخر تماما، كان هذا الطرف لديه الإلمام الكامل بآمال وتفاعلات الطرف الأول، وكانت لديه تحذيرات جهاز الأمن ولكنه رأى لأسباب لا أدعي أنها عرفت حتى الآن، أن يستمر في تخدير ذلك الطرف، وأن يمنيه بالوعود ولا يصارحه أبدا بنواياه وما يعتزم اتخاذه من إجراءات وقرر في النهاية أن يسد أذنيه ويغلق عينيه، حتى لا يرى وهج صدمته الكهربائية ولا يسمع دوي انفجارها إذا ما أصابت بعض وميض النار تحت الرمان لقد قدر أنها مفاجأة وصدمة ستبدأ وتنتهي في لحظة واحدة وكان شيئا لم يحدث وتسير الأمور سيرها الطبيعي بعد ذلك ولكنه اضطر في النهاية إلى إلغاء قراراته لكي يظهر متخبطا في حساباته وتستمر الأزمة الاقتصادية في دوامتها.

• ثم كان هناك أخيرا الطرف الثالث مستعدا للانقضاض بكل خبراته السابقة بكل حساباته التي قدرها لكي تبدأ لحظة الانقضاض والتفجير لقد قدر في يسر وسهولة أن تناقض حاد بين موقف الأول الجمهور ويبين موقف الطرف الثاني الحكومة سيهيئ أمامه راضية قابلة للاشتعال والانفجار وليس عليه إلا أن يبدأ بعود كبريت واحد هنا وهناك حتى يشتعل المسرح بأكمله لقد سبق له أن أجرى بروفات كثيرة في مناسبات متعددة وفي أماكن مختلفة ونجح فيها ولكنه في هذه المرة لا يريدها بروفات محدودة النطاق والزمان وإنما يريدها على حد ما خطط ودبر وتوقع أن تكون انتفاضة شعبية وذلك هو التعبير نفسه الذي أطلقه ذلك التنظيم الماركسي السري حزب العمال الشيوعي الذي بدأ يخطط له منذ شهر ديسمبر الذي تمكن جهاز الأمن السياسي من اختراقه واكتشاف ما يدبر له من إشعال انتفاضة شعبية على مستوى الشارع.

كانت هذه العبارات نصا حرفيا لما عرضه جهاز الأمن يوم 27 ديسمبر عن تفصيلات ذلك المخطط وبطبيعة الحال لم يكن جهاز الأمن يقرأ الغيب فليس لديه منجمون وكذبوا وإن صدقوا كما يقول معنى الحديث الشريف وإنما تمكن من الإحاطة بتفصيلات هذا المخطط نتيجة اختراق ناجح أمكن من خلاله تحديد أسماء جميع الأشخاص الضالعين في هذا التدبير ثم لقد كان في تقدير من خططوا لتفجير هذه الانتفاضة الشعبية أنها فور أن تبدأ وينشر لهيبها فإن جميع الرفقاء أينما كانوا ومهما تنوعت انتماءاتهم التنظيمية في المنظمات السرية الأخرى سيلقون مزيدا من عيدان الكبريت لتتسع مساحة اللهب وتصبح انتفاضة شعبية شكلا وموضوعا.

وينتهي السيناريو في النهاية ليكون الفائز الوحيد في نهاية الأمر هو الطرف الثالث فقط، أما الطرف الأول الجمهور ومعه جهاز الأمن فقد فاجأته الصدمة التي جاءت على عكس جميع توقعاته فانتفض الجمهور انتفاضة شعبية وخسر كثيرا من الضحايا (64 قتيلا تقربا) وخسر أموالا قدرت بعشرات الملايين وخسر علاجا مثمرا لاقتصاده المريض أما جهاز الأمن فقد تعرض إلى مواقف حرج فاقت حساباته وتوقعاته نتيجة مفاجأة لم تمكنه من تدبير موقفه، أما الطرف الفائز، متمثلا في تلك المنظمات الماركسية التي سرعان ما شاركت كلها في التفجير والإشعال فإنها وإن لم تحقق غايتها النهائية لكي تتحول الانتفاضة الشعبية إلى ثورة شاملة فقد حققت مكسبا جزئيا تمثل في ذلك الشرخ الذي أصاب النظام على حد التعبير الذي وصف به الأستاذ محمد حسنين هيكل نتائجها في كتابه خريف الغضب.

كيف توالت الأحداث؟

ولقد بدأت الأحداث تتوالى بسرعة رهيبة منذ الصباح المبكر يوم 18 يناير كنت بمنزلي وفوجئت بعد الاطلاع على الصحف اليومية بالقرارات الاقتصادية التي نشرتها جميع الصحف في صدر صفحاتها الأولى وكانت من الشمول بحيث لم تترك سلعة واحدة تدخل في إطار الاحتياجات اليومية للمواطن العادي دون أن يرتفع سعرها بنسب تراوحت بين 20٪ و 30٪ وليس من قبيل المبالغة يقينا إذا قلت إن أسلوب النشر بالطريقة التي تم بها شكلا ومضمونا كان في حد ذاته عاملا مثيرا للاستفزاز وكافيا تماما لأي شرارة تلقى لكي تشعل الموقف بأكمله.

تساؤلات في الطريق

ولقد توقعت على الفور في ضوء جميع الخلفيات التي عايشتها أن الأمر أصبح ينذر بأوخم العواقب وأن فرص إشعال الموقف أصبحت متاحة إلى درجة خطيرة ولم يكن أمامي إلا أن أغادر منزلي على الفور متوجها إلى مكتبي لكي أتمكن من متابعة التطورات دقيقة بدقيقة وفي طريقي بالسيارة قفزت إلى الذهن كثيرا من التساؤلات التي لم أجد لها إجابة في حقيقة الأمر:

• كيف تسير الأمور بهذا المنطق المعكوس كيف تتجاهل المستويات السياسية والتنفيذية العليا روح السخط العامة الواضحة للعيان وتصدر مثل هذه القرارات دون أدنى تحسب لنتائجها؟

• وكيف تتجاهل ظواهر متعددة كانت تعطي مؤشرات واضحة عن حالة القلق الجماهيري من المصاعب الاقتصادية التي تمس جوانب حياتها ثم كيف تتجاهل تحذيرات الجهاز الأمني المسئول وكانت كلها تؤكد احتمالات التداعيات وأن هناك من يتربص لإشعال الموقف؟

• وإذا كانت لم تستشعر هذه الروح الجماهيرية ولم تلتفت إلى تلك التحذيرات فلماذا أخذت تمني الجمهور بوعود وهي تعلم أنها لن تحققها لماذا لم تهيئ الجمهورية نفسها على الأقل قبل أن تقدم على هذه الخطوة؟ • لماذا لم يخطر جهاز الأمن قبل ذلك حتى يتخذ ما يمكن اتخاذه من إجراءات أمنية تجنبا لمفاجآت تتجاوز إمكاناته في ظل هذا الموقف المفاجئ؟

اندلاع المظاهرات وتداعياتها

وفور وصولي إلى مكتبي صحت جميع هذه التوقعات فإذا الإخطارات تتوالى عن مظاهرات جماهيرية صاخبة بدأت تنطلق في القاهرة من المناطق العمالية بحلوان ومن كلية الهندسة بجامعة عين شمس وفي مدينة الإسكندرية بدأت أيضا المظاهرات تنطلق من الترسانة البحرية ومن كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية ثم توالت الإخطارات بعد ذلك عن تعاطف جماهير الشارع مع المظاهرات وانضمامهم إليها وبعد ساعات قلائل كانت المظاهرات قد انتشرت في مدينتي القاهرة والإسكندرية انتشار النار في الهشيم وأصبح الموقف ينذر بالخطورة خاصة بعد أن بدأت المظاهرات تتجه إلى الأسلوب التخريبي في المنشآت العامة والخاصة.

وكان واضحا منذ بداية اندلاع المظاهرات والتي بدأت في مواقع التكتلات الجماهيرية كالمواقع العمالية والطلابية بشعارات تنادي بسقوط القرارات الاقتصادية وتهاجم الحكومة أن التجاوب الجماهيري مع تلك البدايات كان شاملا بحيث أخذت مواقع أخرى كثيرة في الجامعات المختلفة والمصانع والشركات تشارك في التظاهر بل إن النساء في المنازل كن يزغردن للمتظاهرين حال مرورهم في المناطق المختلفة وبدأت ساحة المظاهرات تغطي مدينة القاهرة من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، والأمر نفسه تكرر في مدينة الإسكندرية التي غطتها المظاهرات من أقصى الغرب إلى أقصي الشرق.

ولقد استمرت تلك المظاهرات التي سادت مدينتي القاهرة والإسكندرية طوال يوم 18 يناير على هذه الصورة من الانتشار والعنف وإن بدت في القاهرة أكثر عنفا وحين بدأ المتظاهرون يتصدون لراكبي السيارات الخاصة أو تلك السيارات التي تنتظر فارغة ويشعلون فيها النيران إلى الدرجة التي فضل معها كثير من المواطنين الالتزام في منازلهم وعدم مغادرتها ثم كانت تلك الظاهرة الواضحة عندما انضم كثير من الغوغاء إلى أعمال التخريب والنهب يضاف إلى كل ذلك أن عمليات التظاهر والتخريب استمرت حتى الساعة الواحدة من صباح يوم 19يناير كما لم يحدث مثيل له من قبل مع تكرار استخدام الأزقة والطرقات الضيقة هروبا من رجال الأمن أو الانطلاق منها ثانية لمواصلة التظاهر والتخريب.

وكانت الظاهرة الخطيرة في ذلك اليوم الأول، أن نطاق المظاهرات على هذا الاتساع بمدينتي القاهرة والإسكندرية كان يفوق قدرات أجهزة الأمن المسئولة عن التصدي لأعمال الشغب فعلاوة على الإرهاق الكبير الذي تعرضت له القوات نتيجة استمرار المظاهرات طوال النهار وحتى ساعة متأخرة من الليل فقد كان هناك سبب جوهري أخر ضاعف من خطورة هذه الظاهرة حيث كان هناك أولا عجز خطير في قوات الأمن المركزي المخصصة بصفة أساسية لمواجهة أعمال الشغب نتيجة عدم استكمال ذلك العجز في موعده، ولكن اللحظات الأكثر خطورة كانت في طريقها لتسيطر على الموقف بأكمله بداية من صباح اليوم التالي (19يناير) حيث بدأت المظاهرات بالأسلوب نفسه منذ الصباح الباكر في ذلك اليوم لتبدأ أيضا من مراكز التكتلات الجماهيرية في مدينتي القاهرة والإسكندرية ثم ليتسع نطاقها عندما تنتقل العدوي إلى مواقع أخرى وعندما يتجاوب جمهور الشارع وفي مقدمته عناصر الغوغاء ولكن الخطورة تتضاعف أكثر وأكثر عندما تبدأ الإخطارات تتوالى عن اندلاع المظاهرات بنفس المنطق والأسلوب نفسه في محافظات أخرى وليتسع نطاقها قبل ظهر ذلك اليوم فيشمل تسع محافظات في الوجهين البحري والقبلي من بينها محافظة أسوان حيث كان يوجد بها رئيس الجمهورية الراحل منذ بضعة أيام سابقة.

لم يكن هناك شك في تلك اللحظات أن الموقف يتطور في سرعة مذهلة ليأخذ شكل الثورة الشعبية الشاملة لقد وجد من أشعل الشرارة، ووجدت الأرضية الغاضبة التي صدمت في أمالها وتوقعاتها على عكس ما وعدت به تماما وبدأت تطفو فوق السطح بعض مؤشرات لها دلالاتها الخطيرة، لعلي أشير إلى أهمها في تلك النقاط:

مبارك أنقذ الموقف

فقد استجد تطور هام طرأ على موقف الاتحاد العام لنقابات العمال في ذلك الوقت حيث ترددت أنباء عن بيان كان على وشك الإصدار يوضح تجاوب الاتحاد العام مع مطالب جماهير الشعب التي أعلنتها في تظاهرها وكان التقدير أن إصدار مثل هذا البيان يمكن أن يكون دافعا لبعض المراكز العمالية ذات الثقل الخاص سواء في القاهرة أو غيرها من المحافظات الأخرى، لكي تنضم إلى أعمال التظاهر لتضاعف الخطورة أكثر وأكثر ولكن إجراء سريعا اتخذه السيد نائب رئيس الجمهورية السيد الرئيس مبارك في ذلك الوقت وكنت على اتصال تليفوني دائم به وهو يتابع الموقف وتطوراته حال دون إصدار ذلك البيان وأذكر أن وفدا من قيادات الاتحاد العام قد قابل سيادته في ذلك اليوم وتم إقناع هذه القيادات بالتريث في اتخاذ أي موقف قد يفسر على أنه تأييد من الاتحاد لعمليات المظاهرات وما اقترن بها من عمليات تخريب وإتلاف.

تليفون: القاهرة... تحترق

وصل الإحباط الذي سيطر على بعض قيادات الشرطة يوم 19 يناير بصفة خاصة إلى أن مدير أمن القاهرة أجرى اتصالا تليفونيا بوزير الداخلية حوالي الساعة الثانية عشرة ظهر ذلك اليوم ليبلغه بأن القاهرة تحترق وأنه يعتبر هذا الاتصال بمثابة أخر استغاثة منه وكان الرجل معذورا فقد كانت المظاهرات وأعمال الشغب والتخريب تتجاوز قدرات قوات الشرطة بكثير ولقد فوجئت بوزير الداخلية يتصل بي تليفونيا وكان صوته يشير إلى أنه في حالة انزعاج عالية قائلا: (يبدو أن الموقف في القاهرة يتداعي إلى درجة أن المدير قال لي الآن أنه يستغيث الاستغاثة الأخيرة وأن المدينة تخترق وتم الاتفاق مع الوزير على تكليف عدة مجموعات من ضباط أمن الدولة لتقوم بصفة عاجلة بإعادة تقييم الموقف بالمدينة في وضوء هذا الإخطار الخطيرة وكانت نتيجة التقييم تشير فعلا إلى خطورة الموقف نتيجة عاملين أساسيين،

أولهما عدم كفاية قوات الأمن، التي كانت على درجة كبيرة من الإرهاق مقارنة بحجم المظاهرات

وثانيهما: استشراء عمليات الحريق والتخريب في المنشآت العامة والخاصة مع تعمد المتظاهرين إعاقة رجال المطافئ عن أداء أعمالهم ولكن التقييم رغم ذلك لم يؤكد أن الحالة وصلت إلى مرحلة الانهيار الكاملة فلازالت القوات تواجه أعمال الشغب كما أن الحرائق لم تصل بعد إلى منشآت لها خطورة أو أهمية خاصة.

ما بدأ واضحا بعد ذلك أن قوات الأمن لم تستطع بحجمها ليس في القاهرة والإسكندرية فقط وإنما في المحافظات التسع الأخرى التي اندلعت فيها مظاهرات تخريبية مماثلة أن تتصدي لهذه المظاهرات مع جميع الاحتمالات التي كانت ترجح استمرار انتشار المظاهرات وأعمال الشغب وامتدادها إلى محافظات جديدة.

الإصرار على التصعيد

وفي الوقت نفسه استمرت محاولات تصعيد الموقف إلى درجة لافتة للنظر وبدا واضحا أن الإصرار على تداعي الأحداث أصبح يضيف عوامل خطورة أخرى وتمثل ذلك في ظاهرتين أساسيتين:

• أولاهما: أن مجلس الوزراء انعقد في جلسة عاجلة طارئة ظهر ذلك اليوم (19 يناير) وأصدر بيانا ذكر يه أنه تقرر إلغاء جميع القرارات الاقتصادية التي أعلنت صباح اليوم السابق، وكان من المنطقي ومن المتوقع في الوقت نفسه أن يكون هذا القرار كافيا لكي تتوقف أعمال المظاهرات والشغب ولكن النتيجة كانت مفاجئة تماما فقد استمرت أعمال الشغب والتظاهر بنفس حدتها وعنفها في المحافظات التسع.

• كانت الظاهرة الثانية: أنه تأكد من خلال متابعة كثير من المظاهرات خاصة في القاهرة والإسكندرية قامت بها مجموعات فنية خاصة ومعها كاميرات تصوير أن متزعم هذه المظاهرات المحمولين على أكتاف المتظاهرين طوال يومي 18، 19، يناير من العناصر الماركسية سواء من أعضاء تنظيم حزب العمال الشيوعي السابق تحديدهم أثناء المتابعة السابقة على النحو السالف الإشارة إليه أو من أعضاء تنظيمات شيوعية سرية أخرى مع عدد قليل من العناصر الناصرية.

نزول القوات المسلحة

ثم تقرر بعد ذلك في ضوء جميع هذه التطورات أن تنزل القوات المسلحة لتعيد السيطرة على الموقف وقد علمت بهذا القرار من السيد نائب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت وكان يتابع الموقف لحظة بلحظة طوال هذين اليومين ثم صدر قرار أخر في اليوم نفسه بحظر التجوال في مدينة القاهرة طبقا لمواعيد معنية حددها القرار.

كان حجم الخسائر البشرية قد وصل حتى عصر يوم 19 إلى حوالي 64ا بجانب عدد كبير من الجرحى لجأ أغلبهم إلى منازلهم بخلاف تلك الأضرار المادية التي لحقت بعدد كبير من الممتلكات العامة والخاصة وكانت مظاهر التصعيد مازالت قائمة حتى بعد ذلك القرار الذي أصدره مجلس الوزراء بإلغاء قرارات رفع الأسعار ولم يكن هناك مفر من ضرورة اتخاذ إجراء أمني شامل يساعد على حسم الموقف بعد جميع هذه الخسائر ثم في ضوء ما أسفرت عنه العمليات الأمنية في متابعة المظاهرات من مؤشرات عن دور واضح لعناصر التنظيمات السرية الماركسية في قيادتها.

قرار بضبط 300

ولقد دارت مناقشة مستفيضة بين وزير الداخلية المرحوم اللواء سيد فهمي وبيني حول هذا الإجراء وكان المنطق الذي حكم المناقشة أن الاعتبارات الأمنية التي تتعلق بتأمين الوطن في لحظات الخطر الشامل لابد من أن تتسع إلى المدى الذي يضمن الإحاطة بجميع العوامل والمؤثرات التي تعمل عن عمد لتصعيد حالة الخطر والوصول بها إلى أقصى مدى من التداعيات ومن البديهي والمنطقي في مثل هذه الظروف أن تختلف طبيعة الإجراءات الأمنية عن مثيلاتها التي تتخذ في الظروف العادية في مواجهة حالات فردية أو محدودة التأثير من حيث النطاق المكاني، أو احتمالات التداعيات وفي هذا المنطق فقد تطلبت الاعتبارات الأمنية للحد من التداعيات ومن الخسائر البشرية والمادية ضرورة اتخاذ قرار فوري لتتسع دائرته وتشمل ضبط حوالي 300 شخص من عناصر التنظيمات الشيوعية المختلفة الذين أشارت متابعات سابقة على الأحداث وأثناءها أن لهم دورا بارزا في محاولات تصعدي الموقف.

ولقد نفذ هذا القرار الفوري أثناء فترة حظر التجوال مساء يوم 19 يناير واتخذت الإجراءات القانونية لعرض من تم ضبطهم على النيابة العامة والملاحظة التي يجدر تسجيلها الآن أنه بداية من صباح يوم 20 يناير لم يقع حادث ظاهر واحد على مستوى الجمهورية وأعتقد أنه لا مجال لأي تعليق أخر أكثر من ذلك فقد حوصرت عناصر التفجير ولم يعد في مقدورها إلقاء مزيد من عيدان اللهب ولكنني فقط أعود هنا لكي أذكر بتلك الوثيقة التي أشرت إليها في صدر هذا الفصل والتي ضبطت لدي أحد القيادات الهامة في تنظيم حزب العمال الشيوعي قدمت إلى النيابة العامة وكانت تتضمن تحليلا عن أسباب فشل أحداث يناير في الوصول إلى غايتها وأرجعه إلى عدم تقدير مدى قابلية المواطن المصري لمواصلة أسلوب حرب العصابات بالشوارع والأزقة وإلى إغفال أهمية اختراق قوات الشرطة من رجال الأمن المركزي ومعهم صغار الضباط من العاملين بأجهزة الأمن والقوات المسلحة.

موكب السادات

ولقد تقرر مساء يوم 19 أن يعود رئيس الجمهورية الراحل بالطائرة من أسوان وكان قد أقلقه كثيرا تلك المظاهرات التي اندلعت في أسوان وكانت تهتف بشعارات عدائية ضد النظام، وكانت هي الأخرى بقيادة عدد من العناصر الماركسية وقد وصل إلى مطار القاهرة ولم يكن الموقف قد وقع تحت السيطرة الأمنية الكاملة خاصة أن القوات المسلحة لم تكن قد انتهت من نشر قواتها في أنحاء العاصمة ولم يكن ميعاد سريان قرار حظر التجوال قد بدأ بعد ولم يكن من السهل في كل هذه الظروف أن يخترق ركب رئيس الجمهورية الراحل طريقه المعتاد من المطار إلى منزله بالجيزة ولذلك فقد أخذ الركب طريقه إلى الجيزة بعيدا عن قلب العاصمة واخترق كثيرا من الطرقات الجانبية حتى وصل إلى الجيزة.

• نشر الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه خريف الغضب حول هذه النقطة أن الرئيس الراحل راودته فكرة أن يعود من أسوان إلى القناطر الخيرية مباشرة ويدعو مجلس الوزراء إلى الاجتماع به في مقر إقامته باستراحة القناطر الخيرية وأنه نصح الرئيس الراحل بالعدول عن تلك الفكرة حتى لا يفسر الأمر سياسيا داخليا وخارجيا على أن الأمور تهاوت إلى الدرجة التي تمنع رئيس الجمهورية من دخول عاصمة البلاد.

-5-

ظلال التطورات اللاحقة

كان طبيعيا بعد أن انتهت الأحداث على هذه الصورة أن تلقى بظلالها على عدد من التطورات والمواقف وهو ما نتعرض له في النقاط التالية.

• أجرى تعديل وزاري ضيق بعد انتهاء الأحداث وقد تردد أن بعض الوزراء قد انتقدوا سياسة الحكومة وموقفها في هذا الموضوع خلال ذلك الاجتماع الذي عقده مجلس الوزراء وأصدر فيه قرار بإلغاء تلك القرارات الاقتصادية وطالبوا باستقالة الحكومة وقد شمل التعديل الوزاري خروج اثنين من الوزراء هما المرحوم اللواء سيد فهمي وزير الداخلية إلى المرحوم ممدوح سالم بجانب رئاسته للوزارة مع تعيين نائبي وزير له، أحدهما اللواء نبوي إسماعيل لشئون الأمن والثاني اللواء كما خير الله لشئون الشرطة وتعيين الدكتورة أمال عثمان وزيرة للشئون الاجتماعية.

ولدق علمت بذلك التعديل الوزاري في الصباح المبكر في اليوم الذي تقرر فيه إجراء ذلك التعديل وعندما اتصلت بالمرحوم اللواء سيد فهمي لأحيطه علما بأبعاد التعديل الذي سيحدث وجدت الرجل مندهشا إلى درجة لافتة للنظر وكاد لا يصدق ما أحيطه علما به كان على يقين من أنه أدى دوره على أكمل وجه وأن أجهزة وزارته قد قامت بدورها قبل الأحداث وأثناءها بصورة كاملة وكان قد أودع أمانة مجلس الشعب عددا من الوثائق التي تؤكد ذلك عندما نوقش الموضوع أمام المجلس في أعقاب الأحداث مباشرة ومن بينها تلك المذكرة التي عرضت يوم 27 ديسمبر عن الخطط الذي يدبره ذلك التنظيم الماركسي السري.

اجتماع برئاسة السادات

• في أعقاب الأحداث بأيام قلائل دعا رئيس الجمهورية الراحل إلى عقد اجتماع بمقر إقامته بالجيزة حضره نائب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير الداخلية ونائبا وزير الداخلية الجديد أن ورؤساء أجهزة الأمن القومي المخابرات العامة- مباحث أمن الدولة- المخابرات الحربية)

وكان الهدف من الاجتماع ينحصر في مناقشة احتمالات الموقف بعد جميع هذه التطورات وكان واضحا تماما عمق الغضب الذي يحمله الرئيس الراحل مما حدث وكان أخر توجيه له أنه لن يسمح أبدا بتكرار ما حدث وأنه يجب الضرب في المليان لدي أول بادرة لأعمال شغب مماثلة.

أتمنى التحقيق

• في أعقاب التشكيل الوزاري الجديد وفي اجتماع من اللواء نبوي إسماعيل الذي عين نائبا لوزير الداخلية للأمن في ذلك التعديل حرص أن يذكر في بداية الاجتماع أن تحقيقا سيتم لتحديد المسئولية عما وقع من أحداث وكان الرد أنني أتمنى فعلا هذا التحقق حتى تتضح الحقائق كاملة وحتى نضع أيدينا على جميع سلبيات ما حدث سياسيا وأمنيا ولكن بطيعة الحال فإن شيئا من ذلك لم يتم على وجه الإطلاق.

• وفي الوقت نفسه فقد ركز السيد ممدوح سالم رحمه الله بعد أن تولى مسئولية وزارة الداخلية ثانيا على انتقاد دور أجهزة الأمن في المناسبات المختلفة التي يجتمع فيها بقيادات الوزارة ومن بينها بطبيعة الحال جهاز الأمن السياسي ولقد رأيت من واجبي أن أناقشه في هذا التعميم الذي لا يتفق مع الواقع وطلبت من اللواء فتح الله سلامة مدير مكتب رئي الوزراء أن يحدد لي موعدا لمقابلته وتمت المقابلة في اليوم نفسه بمقر مجلس الوزراء وبدأت الحديث مستفسرا عن سبب نفقده لدور جهاز الأمن السياسي معيدا على مسمعه جميع الخطوات التي أتخذها الجهاز والسالف الإشارة إليها تفصيلا وإذا به يظل صامتا لفترة قصيرة ثم رد على حديثي قائلا بالنص يا حسن اللي حصل ده كان كبير قوي وأنا كان لازم أستقيل ولم يكن أمامي إزاء هذه العبارة إلى أن أرد عليه بأننا نعتز به كأول ضابط شرطة يصل إلى مرتبة رئيس الوزراء ولذلك فإنني لا أجد ما أقوله أكثر من أننا نتمنى له التوفيق في الاضطلاع بمسئولياته.

كبش الفداء

ولعلي أضيف هنا أنه كان واضحا تماما بعد جميع هذه التطورات أنه كان مطلوبا إيجاد كبش فداء تتوارى خلفه جميع الأخطاء السياسية والتنفيذية التي اقترنت بتلك القرارات الاقتصادية وكان ذلك هو السبب الرئيسي في إبعاد اللواء سيد فهمي عن منصبه كوزير للداخلية بعد تحميله مسئولية تلك الأحداث بالرغم من الصداقة الوطيدة والقديمة التي كانت تربط بينه وبين المرحوم ممدوح سالم حيث عملا معا لسنوات طويلة كزميلين في جهاز أمن الدولة بالإسكندرية ولكنها السياسة التي لا تعرف ضوابط محددة وتقفز فوق الاعتبارات في أحيان كثيرة وقد يسوقنا ذلك إلى قول فكاهي منسوب إلى ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا وقت الحرب العالمية الثانية وأحد ساستها العظماء فقد كان يوما يزور المقابر فوجد منقوشا على أحد شواهد القبور هذه العبارة هنا يرقد السياسي العظيم والرجل الأمين....)

فنظر تشرشل إلى المحيطين به وتساءل قائلا: هل تضعون رجلين في تابوت واحد وكان المعنى المقصود أن السياسي كثيرا ما يضطر إلى الاستجابة لمناورات السياسية وألاعيبها والتفافها حول الحقيقة في أحيان كثيرة.

تشكيل الحزب الوطني

ولكن تفاعلات الموقف السياسي تستمر بعد ذلك لكي تحدث تلك المفاجأة الهامة عندما أعلن الرئيس الراحل أنه قرر النزول إلى العمل السياسي في الشارع بنفسه ولذلك فقد قرر تشكيل حزب سياسي جديد على نهج الحزب الوطني القديم إلى الدرجة التي وصلت إلى التفكير بأن يتخذ الحزب الجديد مقرا له في نفس المبنى الذي كان مقرا للحزب القديم بشارع نوبار، وكان قد أصبح مقرا لإحدى المداس الابتدائية ولكن المحاولة لم تنجح واستقر مقر الحزب بالمقر السابق للاتحاد الاشتراكي وكان واضحا تماما أن الرئيس الراحل اتخذ هذه الخطوة اقتناعا بأن حزب مصر يفقد الحد المناسب من الفاعلية على مستوى الشارع.

وزارة مصطفى خليل

ثم تنفجر بعد ذلك تلك الأزمة التي تعرض لها حزب مصر عندما تحول غالبية أعضائه للحزب الجديد وبداية أفول دور المرحوم ممدوح سالم على المسرح السياسي بعد تغيير الوزارة وإسناد رئاستها إلى السيد مصطفى خليل.

ثم تبدأ بعد ذلك مرحلة أخرى ظهر فيها حزب الوفد على الساحة السياسية لأول مرة بعد ثورة يوليو، برئاسة السيد فؤاد سراج الدين ثم يبدأ الرئيس الراحل في الإعداد لزيارة إسرائيل في إطار استراتيجية سياسية السلام التي أعد لها.

أزمة قرارات سبتمبر

ولكن ملامح التوتر السياسي تستمر وقد بدأت بتلك الأزمة مع حزب مصر ثم بظهور حزب الوفد الذي سرعان ما انسحب من الساحة السياسية معلنا حل الحزب بعهد هجوم شديد شنه الرئيس الراحل على قيادة الحز ثم تطفو على الساحة ظواهر التطرف الديني مع تكرار الأعمال الإرهابية التي بدأت اغتيال الشيخ محمد حسين الذهبي في يوليو عام 1977 وتستمر بشكل عنيف طوال عامي 79، 1980 ثم يتوتر الموقف السياسي بشكل غير طبيعي عندما تزداد حدة المعارضة في انتقاداتها وهجومها على سياسات القيادة السياسية وتبدأ الأزمات الطائفية تأخذ بعدا خطيرا في لحظات متكررة وتكاد القوى السياسية الشرعية وغير الشرعية تتحد في مواقفها الناقدة لسياسة النظام لتنتهي الأمور في النهاية بأزمة قرارات سبتمبر الشهيرة ليتأزم المناخ السياسي من أكتوبر عندما بدأت مؤامرة أكتوبر بحادث المنصة واغتيال رئيس الجمهورية الراحل وهو موضوعنا في الفصل الثاني من هذه المذكرات.ط

وتبقى كلمة أخيرة في هذا الفضل فليس القصد من كل ما سبق إيضاحه عن هذه الأحداث هو إدانة أطراف بعينها سواء على المستوى الرسمي أو مستوى الجبهات غير الشرعية إنما القصد الأول والأخير هو تسجيل حقائق بعد محاولات كثيرة بذلك لتشويه الواقع وتلوينه بما يتفق والأغراض والأهواء الحزبية ولعلي هنا أعلق تعليقا سريعا على ذلك الهجوم الذي شنه التيار الماركسي على أجهزة الأمن في محاولاته للتنصل من مسئولية هذه الأحداث وكان سنده الرئيسي في ذلك هو الحكم ببراءة غالبية من قدموا للمحاكمة في هذه الأحداث.

رغم حكم البراءة

وبعيدا تماما عن التعرض بأي وجه من الوجوه لحكم القضاء الذي نجله ونحترمه فإنني أشير فقط إلى النقاط التالية:

• أن جهاز الأمن لم يستخدم قانون الطوارئ في هذا الموضوع وإنما قدم جميع من ضبطوا إلى النيابة العامة للتحقيق معهم وقد قام بذلك في إطار مسئولياته طبقا للقانون العادي وعرض ما كشفت عنه عمليات المتابعة وما توصل إليه من أدلة وقرائن على النيابة العامة قبل الأحداث بأيام طويلة وبعدها ولا يقدح فيما قدمه الأمن من معلومات وقرائن وأدلة وكذلك ما اقتنعت به النيابة العامة طبقا لنتائج التحقيق الذي أجرته أن تبرئ المحكمة ساحة غالبية المتهمين الذين قدمتهم النيابة للمحاكمة.

• وليس من نافلة القول أن المحكمة عندما تحكم بالإدانة أو البراءة إنما تضع في اعتبارها جميع الظروف والملابسات العامة والخاصة المحيطة بالموضع الذي تنظره.

• ودونما تعقيب على حكم المحكمة فلا أحد ينكر أن الظروف العامة دفعت جموع المواطنين للاستجابة الفورية للبدايات التي تربصت لتفجير الموقف ولقد جاء من بين عناصر هذا التحلي أن ما بادروا بتفجير الموقف الجماهيري لم يطلقوا شعارات عقائدية لإحداث هذا التفجير فلم يقولوا تحيا الشيوعية وإنما أتت شعاراتهم تسقط القرارات الاقتصادية إلى غير ذلك من الشعارات المتعلقة بالأوضاع المعيشية العامة.

• يضاف إلى كل ذلك أن الإجراءات القانونية التي اتخذتها أجهزة الأمن كانت لاحقة للأحداث مما أعطى فرصة للضالعين في التدبير للتخلص من أي أدلة أو قرائن تدينهم بعد أن وصلت الأحداث إلى ذروتها وتقرر نزول القوات المسلحة وحظر التجوال وأعيد التذكرة هنا على سبيل المثال لا الحصر بذلك التحليل الخطي الذي أشرنا إلي مضمونه في صدر هذا الفصل حول أسبا فشل التخطيط لتفجير هذه الأحداث.

الفصل الثاني مؤامرة أكتوبر سنة 1981

تتجسد أهمية مؤامرة أكتوبر سنة 1981في أبعادها الخطيرة التي كادت تصل بالبلاد إلى مرحلة من التداعيات يصعب على كثير من المحللين السياسيين أن يحسبوا المدى الذي كان يمكن أن تصل إليه ولعل أبلغ وصف لخطورة هذه المؤامرة ما وصفته بها حيثيات حكم محكمة أمن الدولة العليا التي نظرت هذه القضية حيث قالت عنها إنها كانت من الخطورة إلى الدرجة التي كادت تؤدي إلى انهيار المجتمع بأكمله واعتقد أن هذه العبارة وحدها تحمل في طياتها إلى حد كبير صورة واضحة عن المدى الذي كان يمكن أن يصل إليه ولعل أبلغ وصف لخطورة هذه المؤامرة ما وصفته بها حيثيات حكم محكمة أمن الدولة العليا التي نظرت هذه القضية حيث قالت عنها: إنها كانت من الخطورة إلى الدرجة التي كادت تؤدي إلى انهيار المجتمع بأكمله واعقد أن هذه العبارة وحدها تحمل في طياتها إلى حد كبير صورة واضحة عن المدى الذي كان يمكن أن تصل إليه تداعيات هذه المؤامرة وكم من الأرواح البريئة كانت ستزهق في خضم هذا الانهيار الذي كاد المجتمع يتعرض له.

وعلاوة على ذلك فهي المرة الأولى في تاريخ مصر الحديث التي يتم فيها اغتيال حاكم البلاد إذا استثنينا تلك المحاولة التي تمت عام 1954لاغتيال الرئيس الراحل عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية ولم يكتب لها النجاح ويشاء القدر أن تتم المحاولة الأولى الفاشلة على يد التيار الديني السياسي بعد أن تحالف مع ثورة يوليو في بدايتها لتحقق معه نوعا من التوازن السياسي وتتم المحاولة الثانية الناجحة على يد جناح أخر متطرف ينتمي لنفس التيار بعد أن أعطى له الرئيس الراحل السادات الضوء الأخضر في بداية ولايته ليحقق به توازنا مع التيارين الماركسي والناصري كذلك هي المرة الأولى التي يتم فهيا اغتيال وإصابة هذا العدد الضخم من الشخصيات ورجال الأمن الذين جاوزوا المائة قتيل وما يتجاوز مائتي جريح.

تحت ستار الثورة الإسلامية

ثم يضاعف من خطورة هذه المؤامرة أن اغتيال رئيس الجمهورية الراحل لم يكن هو الهدف النهائي لمن خططوا وقاموا بالتنفيذ وإنما كان هذا الاغتيال مجرد حلقة في سلسلة من حلقات أخرى متعددة كان من المقرر أن تمم حلقة بعد أخرى لكي تؤدي تداعياتها في نهاية الأمر إلى إسقاط النظام بأكمله وإشعال ما سماه المخططون بالثورة الإسلامية وصولا إلى الاستيلاء على الحكم.

وتشاء المحكمة الإلهية ألا تصل هذه المؤامرة إلى غايتها وإما تتهاوى حلقاتها حلقه بعد أخرى وتتجنب البلاد أعاصير كثيرة كانت ستهب وتقتلع استقرارها ووحدتها ولكن الشريعة الدستورية تنتصر ويتأكد من مؤشرات كثيرة أن الشعب يرفض منطق التآمر مهما كان لون الرداء الذي يرتديه المتآمرون.

وليس من المنطقي أن نتحدث عن أبعاد أحداث أكتوبر وكأنا كانت أحداث مفاجئة أو أفرزتها عوامل وقتية ولكنها في حقيقتها كان لها مقدماتها وتراكماتها ثم أن لها جذورها التي تتفق فيها مع منطق ساد الحركة الدينية السياسية في مراحل سابقة كان العنف والاغتيال هو أسلوبها ثم امتد هذا الأسلوب لكي تنتهجه جماعات أخرى خرجت من نفس المنبع كذلك فإن تلك الظاهرة لها تأثيرها الخطير على البعد الديمقراطي في الممارسة السياسية بصفة عامة وإذا كان هذا البعد هو قضية الحاضر والمستقبل فإن دلالات استمرار أسلوب العنف والاغتيال تصبح الخطر الأول الذي يعترض المسيرة الديمقراطية بأكملها.

لكل ذلك فإننا نتناول أبعاد مؤامرة أكتوبر من زواياها المختلفة مسجلين جميع الحقائق والمواقف التي مهدت لها ثم كيف تهاوت حلقاتها حلقة بعد حلقة أخرى وأخيرا كيف يمكن مواجهة ذلك المأزق الذي يسببه استمرار هذه الظاهرة ولكننا نبدأ الجزء التالي مباشرة لنناقش فيه ظاهرة العنف في الحركة الدينية السياسية لنتطرق منها بعد ذلك إلى مناقشة بقية موضوعات هذا الفصل.

-1-

خلفيات نشأة الإرهاب في مصر الإسلام ضد العنف

على الرغم من أن تعاليم الدين الإسلامي شديدة الوضوح في التركيز على الدعوة بالتي هي أحسن فإن التاريخ السياسي في ظل الدولة الإسلامية عرف الكثير من أحداث العنف والاغتيال لتبعد ابتعادا واضحا عن تعاليم الدين الحنيف.

ويرجع الكثير من المرخين بداية بروز العنف والاغتيال في التاريخ السياسي الإسلامي إلى وقت حدوث الانشقاق الأول بين علي كرم الله وجهه ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فمنذ ذلك التاريخ وبنجاح معاوية في اعتلاء إمارة الحكم وتأسيسه الدولة الأموية وتحويله نظام الحكم إلى نظام وراثي عرف الإسلام الجماعات الخارجية عن الحكم التي تعمل على إسقاطه بالعنف وبالفكر وبشتى الأساليب.

ويرى الكثيرون أن العنف بدأ من معسكر الشيعة أنصار سيدنا علي وهو في رأي عدد من المؤرخين كان أمرا طبيعيا ذلك أنهم خسروا معركة الخلافة ولم يكن أمامهم سوى العنف وسيلة لتغير الأمر الواقع بينما يرى البعض الأخر أن العنف بدأ من معسكر معاوية حيث اغتصب الخلافة من وجهة نظرهم بالخديعة وبحد السيف.

ونحن إن كنا الآن لسنا بصدد التأريخ لبدايات العنف السياسي بعيدا عن روح الإسلام السمحة وتعاليمه في التاريخ الإسلامي البعيد ولسنا أيضا بصدد الحكم على أي من المعسكرين يحلم أوزار بدايات العنف فإنه من اللافت للنظر أن بدايات الاختلاف لم تكن لأسباب دينية في الأساس ولكنها كانت لأسباب سياسية تتعلق بالحكم ومن يتولاه ومع ذلك فإن منطق التكفير المتبادل بين الأطراف لم يبدأ إلا في مراحل لاحقه.

وإذا كان علم التاريخ كما يقولون بحق هو علم قراءة المستقبل باعتبار أن الماضي هو الأب الحقيقي للحاضر و المستقبل فإن الإشارة إلى أحداث الماضي هنا ليست بعيدة عن موضوعنا الذي نتحدث عنه الآن ولا خارجة عنه.

وإذا كان القرن الإسلامي الأول هو قرن الفتوحات والتوسع فهو أيضا القرن الذي بدأ فيه ظهور الفرق الإسلامية التي اتخذت من العنف طريقا ومن الاغتيال وسيلة نتيجة لكثير من التوترات الاجتماعية والاقتصادية التي سادت المجتمعات الإسلامية بعد هذه الفتوحات.

وفي ظل هذه العوامل وغيرها من عوامل مساعدة والشعور العام بفداحة الخسارة التي لحقت بالركب الإسلامي نتيجة اغتيال أحفاد الرسول صلى الله عليه وسلم في كربلاء تكاثرت الفرق الإسلامية التي انتهجت العنف وسيلة للخروج على الحاكم.

فرقة حسن الصباحي

ويستلفت النظر في تاريخ تلك الفرق الشيعية التي اتخذت أسلوب العنف والاغتيال أسلوبا ومنهجا تلك الفرق التي شكلها حسن الصباحي في القرن الثالث عشر في شمال سوريا فلم يسبقها في التاريخ الإسلامي أي جماعة استحدثت العنف المنظم والمدبر والخطط له على المدى الطويل لنشر الرعب كسلاح سياسي بينما كان العنف قبل هذه الجماعة يمارس من خلال مجموعات صغيرة قليلة الحيلة والتأثير جماعة الخناقين في العراق- جماعة السفاحين في الهند) وغالبا ما كان يتم بطريقة فردية.

  • بينما أدرك حسن الصباحي مؤسس هذه الجماعة ورائدها وأميرها ومنظمها أن دعوته لن تستطيع أن تواجه قوة الدولة الإسلامية إلا عن طريق العنف المنظم ولذلك كان تركيزه في تدريب عناصر هذه الجماعة على مبدأ الطاعة العمياء للأمير مع الولاء الكامل له، بما يدفعهم إلى تنفيذ ما يكلفون ه من عمليات انتحارية بأعلى قدر من التفاني والإقدام دون أن يكون هناك للإرادة الفردية أدنى وجود أو تأثير ولقد وصل الأمر أن انتشر عن هذه الجماعة مسمى فرقة الحشاشين تعيرا عن ذلك التفاني الانتحاري الذي كان يسيطر على أسلوب أدائهم بصورة تظهرهم وكأنهم مخدرون ومسلوبو الإرادة تماما استمرت بعد ذلك تلك الفرق المختلفة التي انتهج أسلوب العنف والاغتيال تقوي وتضعف صعودا وهبوطا مع ضعف وقوة الدولة الإسلامية وكانت ثورة 1919 قد اندلعت قبل ذلك بسنوات قلائل في مر أعقبها أصدر دستور 23 ثم نشأة حزب الوفد، وبعد ذلك بسنوات بدأ ظهر ميلشيات شبه عسكرية في إيطاليا وألمانيا في الثلاثينيات ممثلة في أصحاب القمصان الخضر والحمر والسود لكي تنتقل العدوى بعد ذلك إلى مصر عندما ظهرت على الساحة جماعة الإخوان المسلمين وبعض ميلشيات عدد من الأحزاب السياسية.

الإخوان المسلمون

وتشير وقائع التاريخ الحدث إلى أن العنف باسم الدين قد ظهر في مصر مع مطلع الأربعينيات بعد سنوات قلائل من نشأة جماعة الإخوان المسلمين وبالرغم من أن هذه الجماعة بدأت أولى مراحل نشأتها جماعة الإخوان المسلمين وبالرغم من أن هذه الجماعة بدأت أول مراحل نشأتها من منطلق ديني له أسانيده المنطقية التي تركز على القيم الإسلامية ونشر الوعي الإسلامي السليم بين جموع المواطنين وخاصة الشباب فإن الأهداف السياسية للقيادات باتساع القواعد الشعبية التي انخرطت في صفوف الجماعة تحت تأثير الاقتناع بسلامة أغراضها الدينية وبدا ذلك التحول يتجسد أكثر ما يتجسد في اتجاه القيادات العليا للجماعة إلى تشكيل تلك الأجهزة السرية التي عمدت إلى اختيار عناصرها من أشخاص منتقين ثم ليوضعوا تحت الاختبار لفترة تمهيدية في فرق الجوالة بصفة خاصة ثم يتم انخراطهم في الأجهزة السرية طبقا لطقوس خاصة يلتزم خلالها من وقع عليه الاختيار بمبدأ السمع والطاعة بعد قسم يؤديه على المصحف الشريف.

ويستلفت النظر هنا في معرض الحديث عن الغايات السياسية والغايات الدينية للجماعة أن الغايات السياسية كانت دائما الخلفية الحقيقية التي تحكم حركة القيادات العليا للجماعة ولم تكن تفصح عنها للقواعد الشبابية التي انخرطت في تنظيماتها وإنما كان جوهر الاستقطاب لجموع الشباب ينصب على الغايات الدينية والتركيز على جوانب السلبيات التي يعاني منها المجتمع وخاصة القطاع الشبابي وإسناد أسباب المعاناة إلى غياب الالتزام بالحكم بشريعة الله والتسلسل بعد ذلك إلى أهمية الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الدين.

ويلاحظ كذلك أنه في نفس التوقيت تقريبا في بداية الأربعينيات الذي بدأت فيه جماعة الإخوان المسلمين تشكيل جهازها السري، أن حزبين آخين هما الوفد ومصر الفتاة اتجها بدورهما إلى تشكيل مليشيات شبه عسكرية فكان هناك تشكيل القمصان الرزق للوفد وتشكيل القمصان الخضر لمصر الفتاة ألا أنه كان واضحا تماما أن هذين التشكيلين كان ينقصهما التنظيم الدقيق، وكان الإطار العام الذي يحكم بحركتهما شبيها إلى حد كبير بتنظيمات فرق الكشافة وطقوسها بينما اتجه الجهاز السري لجماعة الإخوان إلى اتجاه مخالف تماما حيث شكل بطريقة ممعنة في السرية وبأسلوب تنظيمي صارم ودقيق وكان له منهجه العقائدي الذي ربط بين الناحيتين الفكرية والتنظيمية في إطار محكم لم يترك للعضو أي خيار لمناقشة ما يتلقاه من توجيهات وتكليفات التزاما بذلك المبدأ الصارم الذي أسبغ عليه مفهوما دينيا وهو مبدأ السمع والطاعة للأمير والولاء التام للجماعة.

مبدآن خطيران

وحول المنطق الذي حكم تشكيلات الجماعة والتزامات الأعضاء العقائدية والتنظيمية يذكر السيد طارق البشري في كتابه الحركة السياسية في مصر ص52 ما نصه والحاصل أنه في المؤتمر الثالث للإخوان الذي أنعقد في أوائل 1935 وضع منهاج لنشاط الجماعة ولطريقة التكوين العملي لأعضائها وتكوينها الإداري وموقف الجماعة من التيار العامة والحركة الفكرية الإسلامية وتضمنت قرارات المؤتمر مبدأين بالغي الأهمية ولهما على كل مسلم أن يعتقد أن هذا المنهج كله منهاج الإخوان المسلمين من الإسلام وإن كل نقص منه نقص من الفكرة الإسلامية الصحيحة وثانيهما 3- كل هيئة تحقق بعملها ناحية من نواحي منهاج الأخوان المسلمين يؤيدها الأخ المسلم في هذه الناحية 4- يجب على الإخوان المسلمين إذا أيدوا هيئة ما من الهيئات أن يستوثقوا أنها لا تتنكر لغايتهم في وقت من الأوقات وكان من الواجبات التي يلتزم عضو الجماعة الأخ العامل تنفيذها -25- أن تتخلى عن صلتك بأي هيئة أو جماعة لا يكون الاتصال بها في مصلحة الدعوة وبخاصة إذا أمرت بذلك ووجه خطورة المبدأ في مصلحة الدعوة وبخاصة إذا أمرت بذلك ووجه خطورة المبدأ الأول أن الجماعة تصادر به الدين لمصلحتها وبهذا لا تصبح مجرد جمعية تطبق الدين كما يحاول غيرها أن يفعل وإنما تؤكد أن منهجها وحده هو الإسلام الصحيح فلا يعتبر غيره كذلك وبهذا يكون تنظيم الجماعة تجسيدا للإسلام ومؤسسة مهيمنة عليه فيكون من لم يوالها خارج على الإسلام ذاته.

ووجه أهمية المبدأ الثاني أن لعضو الجماعة ولاء وحيدا لها دون غيرها من الهيئات وأن تأييده الهيئات الأخرى يكون في الناحية التي تراها الجماعة فقط والاستيثاق من عدم تنكر الغير لهم يعني فيما يعني الحرص على الاستقلال والذاتية وألا يحترم الإخوان إلا أهداف جماعتهم كتنظيم والمبدأ الأول يسعى للسيطرة على الإسلام لا للاتصاف به فقط، والمبدأ الثاني من ملامح التنظيمات السياسية ويعني ذلك أن ثمة تنظيما سياسيا يسعى لاحتواء الإسلام كدين ذلك ما ورد حرفيا في كتاب الحركة السياسية في مصر للأستاذ طارق البشري.

وبجانب الاستخلاصات التي وردت في هذا النص على تلك القرارات التي أعلنت في المؤتمر الثالث لجماعة الإخوان فإن لنا تعليقا عليها نوجزه في النقاط التالية:

فكرة التكفير

• يلاحظ أن ذلك المؤتمر قد انعقد في المرحلة الأولى من مراحل تشكيل جماعة الإخوان بعد سنوات قلائل من ظهورها على الساحة كجماعة دينية.

• إن تلك التكليفات والالتزامات التي صدرت عن ذلك المؤتمر تبرر إلى حد كبير التزام عضو الجماعة بصفة عامة وعضو الجهاز السري بصفة خاصة بمبدأ السمع والطاعة كذلك مبدأ الولاء أولا وأخيرا للجماعة.

• إن نفس التكليفات تشير في وضوح كبير إلى ذلك المبدأ الذي ورد في كتاب معالم على الطريق للمرحوم سيد قطب عن جماعة المسلمين وتكفير كل من هو خارج عن هذه الجماعة وبالتالي فإن جماعة الإخوان التي تمثل دائرة جماعة المسلمين هي التي تنفرد بالدعوة إلى الإسلام الصحيح بل أنها الجماعة المسلمين هي التي تنفرد بالدعوة إلى الإسلام الصحيح بل أنهاالجماعة التي تمثل الإسلام وتحتويه وليس مجرد الاتصاف به كغيرها من أي جماعة إسلامية أخرى تدعو للسلوك الإسلامي والقيم الإسلامية وانطلاقا من هذا المفهوم نشأت فكرة التكفير التي حملت لواءها أولا جماعة الإخوان ثم امتدت بها ثانيا بقية الجماعات المتطرفة التي تشكلت في السبعينيات ثم لعل هذا المفهوم نفسه هو الذي يسيطر على منطق جماعة الإخوان حتى الآن تسعى إلى الإيحاء وكأنها هي وحدها المسئولة أولا وأخيرا عن نشر الدعوة الإسلامية والمناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية .

قوة الجهاز السري

وعودة ثانيا إلى موضوعنا عن تشكيلات الأحزاب وبداية تشكيل الجهاز السري للإخوان فقد انتهت تشكيلات حزب الوفد وحزب مصر الفتاة إلى التفكك السريع بينما استمر الجهاز السري للإخوان الذي أخذ يقوى يوما بعد يوم وتوافرت لعناصره تدريبات مكثفة على كيفية استعمال الأسلحة والمفجرات بل وتصنيع نوعيات معينة من قنابل المولوتوف.

ويضيف طارق البشري ص 72 في كتابه السالف الإشارة إليه عن الجماعة بعد أن اكتمل بنيانها جهازها السري فيقول المهم بعد ذلك أن جماعة الإخوان المسلمين كتنظيم سياسي انتشرت خلال الحب وبعدها مباشرة انتشارا واسعا وضم التنظيم عددا واسعا من الأعضاء فضلا عن المؤيدين واعد فرقا للجوالة وجمع السلاح ونظم جهاز خاصا مسلحا ودرب أعضاءه على الانصياع الكامل وكان كل ذلك معلقا ومربوطا في يد فرد لا يعرف له موقف محدد صريح في أي مسألة ولا يمكن التنبؤ ما سيتخذه من مواقف مستقبلا وأصبحت الجماعة بها كالقنبلة التي لا يعرف متى تنفجر ولا من سيكون ضحيتها والحاصل أن مواقف زعيم الجماعة والجماعة من ورائه كانت دائما في صالح السراي وحكومات الأقلية.

• ويستطرد نفس المؤلف ص 74 في تحليله لدور جماعة الإخوان في تلك المرحلة فيقول والمهم كذلك أن حركة الإخوان بوضعها هذا نجحت في امتصاص جزء كبير من حيوية الشعب السياسية وابقتها بعيدة عن المشاركة الإيجابية في أحداث الفترة، وكانت قيادة الجماعة تطلق حماس رجالها وتشغلهم بالأحاديث والاجتماعات والمواكب والتدريبات وكان يمكن أن يستخدم ذلك في أعداد جماهيرها أعدادا صلبا تفيد الجماعة بهم الحركة الوطنية ولكنها وجهتهم إلى أهداف غير معلومة ألا لقيادتها فكان جهد جماهير الإخوان حيوية مبددة توجه لأهداف علنية غير واضحة لهم.

ممارسة اللعبة السياسية

ومع نمو القواعد العلنية لتشكيلات الإخوان كذلك النمو الذي توازي معه بالنسبة للجهاز السري من حيث الإعداد التنظيمي والتدريب والتسلح بدأت قيادات الجماعة تستشعر تماما القوة المضافة التي حققها لها الجهاز السري على المسرح السياسي، وبدأت على الفور تمارس اللعبة السياسية في مواجهة القوى الأخرى الموجودة على الساحة والتي تركزت في القصر والمستعمر ثم حزب الوفد وأحزاب الأقلية.

وليس هناك من شك أن اللعبة السياسية في ذلك الوقت كان يحكمها في كثير من جوانبها اعتبارات القضية الوطنية التي استحوذت على الاهتمام الجماهيري العام وكانت الحركة السياسية لجميع الأطراف تركز جانبا كبيرا من محور حركتها فيما يتصل بدورها في القضية الوطنية ومن هذا المنطلق بدأت جهات متعددة تضع قوة جماعة الإخوان في حساباتها سواء بالحصار أو التعاون معها دفاعا عن ثقل كل طرف على المسرح السياسي أولا ثم تأكيدا لتوازنات سياسية تراها الأطراف في مصلحتها ثانيا.

ولكن الجماعة في غالبية الوقت كانت تتعاون مع جانب الملك وأحزاب الأقلية وكان منافسها الرئيس هو حزب الوفد وكثيرا ما تكررت صدامات الجماعة مع المجموعات الوفدية سواء داخل الجامعات أو خارجها ووصلت هذه الصدامات إلى حد الاعتداء بالعصي والأسلحة البيضاء بل والقنابل في بعض الأحيان وكان الوفد من جانبه ينظر إلى الجماعة على أنها المنافس المشاغب على الساحة السياسية ذلك أن نمو الجماعة كان في أغلب الوقت سحبا من رصيد الوفد على المستوى الشعبي وقد ساعدها على ذلك تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وعدم وضوح برامج الوفد في بعدها الاجتماعي حيث كانت مجرد برامج إصلاح لا تغوص في غمق المشاكل الاجتماعية واستنادا لهذا الواقع أتيح لجماعة الإخوان أن تجذب اهتمام القواعد الشبابية بصفة خاصة التي تصورت أنها ستجد الحل هناك لدي الجماعة.

وبدأت الاغتيالات

وفي خضم هذا الصراع السياسي بدأت جماعة الإخوان تسخر حركة جهازها السري لتأكيد ثقلها السياسي على المسرح وبدأت عمليات العنف تتوالى في صورة اغتيالات وتفجيرات شملت شخصيات سياسية وقضائية بل امتدت هذه العمليات إلى تصفية بعض عناصر الجهاز السري الذين خرجوا على مبدأ السمع والطاعة.

• وشملت تلك العمليات اغتيال الدكتور أحمد ماهر رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت ومحمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء ووزير الداخلية المستشار أحمد الخازندار وكان ينظر أحدى قضايا الجهاز السري، محاولة نسف محكمة مصر اغتيال اللواء سليم زكي حكمدار القاهرة اغتيال السيد فايز عضو الجهاز السري المنشق بنسف منزله، إلى غير ذلك من عمليات أخرى كالشروع في قتل حامد جوده رئيس مجلس النواب وإبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء ووزير الداخلية.

• كانت تلك المرحلة بين عامي 46، 48 مرحلة صدام بين السراي وعها أحزاب الأقلية وبين جماعة الإخوان بعد مرحلة من التعاون الكامل بين الطرفين وتستمر عمليات العنف من الجانبين حتى يتم اغتيال المرحوم الشيخ حسن البنا مرشد الجماعة ومنشئها بتدبير من القصر وعدد من المسئولين التنفيذيين طبقا لما كشفت عنه التحقيقات التي أجريت بعد ثورة يوليو ثم تتطور الأمور بعد ذلك في عهد مرشد الجماعة الجديد المرحوم حسن الهضيبي ليعود التعاون بين القصر والإخوان مرة أخرى.

• وتنشب خلال عام 48 حرب فلسطين ويتطوع عدد من عناصر الجهاز السري للإخوان المشاركة في هذه الحرب وبالرغم من ذلك الدور التاريخي فإن اعتقادا ساد جهات سياسية وأمنية في ذلك الوقت بأن قيادات الجماعة قد فتحت هذا الباب لعناصر الجهاز السري لتحقيق هدفين رئيسيين أولهما تأكيد دور جماعة الإخوان القومي على المستويين المحلي والعربي وثانيهما تحقيق خبرة عملية لأكبر عدد ممكن من عناصر الجهاز السري على العمليات العسكرية واستعمالات الأسلحة والقنابل باعتباره هدفا يخدم على المدى الطويل استراتيجية الجماعة على العمل الداخلي على المسرح السياسي.

العنف والاعتقال

ولابد هنا من التعرض لنقطة هامة كثيرا ما أثيرت في السنوات الأخيرة خصوصا من جانب جماعة الإخوان أو بعض المحللين السياسيين فثمة ادعاء بأن عمليات العنف وإنشاء الأجهزة السرية تولدت نتيجة العنف الذي تعرض له أعضاء الإخوان في المعتقلات والسجون إلا أن الحقائق التاريخية بشتى أنواع الأسلحة والمفرقعات كان سابقا على أي إجراءات اعتقال أو عنف تعرض لها أعضاء الجماعة بل أن الاعتقالات التي تمت في الأربعينيات لم تبدأ إلا بعد أن قام الجهاز السري ببعض عمليات الاغتيال والعنف يضاف إلى ذلك أن عمليات الاعتقال التي تمت عام 1954 بعد ثورة يوليو لم تبدأ إلا بعد أن قام الجهاز السري للإخوان بمحاولة اغتيال الرئيس الراحل عبد الناصر كذلك نفس الأمر في عهد الرئيس الراحل السادات فإن الاعتقالات لم تبدأ إلا في شهر سبتمبر سنة 1981 عقب كثير من عمليات العنف التي قام بها تنظيم الجهاد بل إن حادثي الفنية العسكرية واغتيال الشيخ محمد حسين الذهبي في السبعينيات لم تتخذ بشأنها أي إجراءات اعتقال وإنما اقتصر الأمر على ضبط المتهمين وتقديمهم للنيابة العامة التي أحالتهم للمحاكمة وأسارع هنا إلى تأكيد أنني عندما أسجل هذه الحقيقة لا أتعرض لما أثير عن تلك التجاوزات التي أثيرت بين الحين والأخر والتي تعرض لها المعتقلون وإنما أسجل حقيقة مجردة أن العنف والإرهاب كانا سابقين على أي إجراءات اتخذتها السلطات الحاكمة سواء قبل ثورة يوليو أو بعدها.

الحصان الأسود

ومع بداية ثورة يوليو 1952 طرأت ظروف سياسية داخلية قلبت الموازين السياسية على المستوى الداخلي رأسا على عقب وكانت جماعة الإخوان حتى تلك اللحظة برغم كل الإجراءات التي اتخذت ضدها في نهاية الأربعينيات مازالت تمثل ذلك الحصان الأسود الذي يمكن اللعب عليه في لعبة التوازنات السياسية في مواجهة حزب الوفد بصفة خاصة وهو دور كانت له أهميته السياسية في السنوات الأولى للثورة ثم له تأثيره الممتد بعد ذلك وهو ما نتحدث عنه في الجزء التالي.

-2-

الثورة والإخوان ولعبة التوازنات السياسية

كان واضحا تماما منذ اللحظات الأولى لثورة يوليو 1952 أن تأييد شعبيا جارفا قد قوبلت به الثورة وكان من المنطقي أن يكون هذا التأييد الشعبي سندا كافيا لقيادات الثورة فيما خططوا له لتلك المواجهة التي تمت بعد ذلك بوقت قليل بينما وبين الأحزاب السياسية المختلفة.

إلا أنه من اللافت للنظر أن قيادة الثورة قد نظرت إلى جماعة الإخوان نظرة مختلفة تماما عن تقديرها لدور الأحزاب الأخرى وفي مقدمتها حزب الوفد والذي كان حتى تلك اللحظة مازال يحظى بأغلبية شعبية ملحوظة أظهرتها انتخابات 1950 التي حصل فيها على أغلبية ساحقة إلا أن قيادة الثورة وجهت إلى حزب الوفد نفس الاتهامات التي وجهت إلى الأحزاب الأخرى فيما يتصل بدورها في الإفساد السياسي إلى غيرها من الاتهامات الأخرى وصدر قرار مجلس قيادة الثورة في النهاية بحل جميع الأحزاب السياسية ومحاكمة عدد من قياداتها بينما استثنى هذا القرار جماعة الإخوان من الحل، وإن كان قد اعتبرها جماعة دينية وليست حزبا سياسيا.

وتشير جميع الشواهد التي تلت هذا القرار أنه بالرغم م أن استثناء جماعة الإخوان من قرار حل الأحزاب السياسية قد جاء من منطلق اعتبارها جماعة دينية فإن مبعث هذا الاستثناء في حقيقة الأمر قد استند إلى اعتبارات وأهداف سياسية بحتة من وجهة نظر عدد من قيادات الثورة على الأقل.

هل كان التوازن السياسي هو الذي فرض هذا الاستثناء في مواجهة شعبية حزب الوفد؟ هل كان التحسب من دور الجهاز السري للإخوان واحتمالات تحركه في صورة اغتيالات وأعمال عنف تهز الاستقرار المطلوب في بداية الثورة هو مبعث هذا الاستثناء؟ هل كان الإيمان بسلامة أهداف الجماعة وأغراضها الدينية هو السبب؟ تلك كلها تساؤلات اعتقد أن الحقائق التالية تجيب عنها بوضوح:

  • كان واضحا أن قيادات الجماعة قد انطلقت بشكل حاسم في تأييد الثورة وأهدافها منذ اللحظات الأولى وكان هذا التأييد من منطلق سياسي بحت من وجهة نظر قيادات الجماعة الذين تصوروا أن الجماعة ستحقق ثقلا سياسيا ملحوظا على الساحة السياسية من خلال علاقتها الخاصة والمتميزة بالثورة.

• ما تكشف من أن بعض قيادات الثورة كان لهم ارتباط فكري وتنظيمي بالجماعة ومن المؤكد أنه كان لهم دور ما في تأكيد تلك العلاقة الخاصة التي ربطت بين الثورة والجماعة في تلك المرحلة المبكرة من الثورة.

• إن الثورة بدأت تستعين العناصر الإخوانية في المجال السياسي ورشحت أحد أعضائها البارزين وزيرا للأوقاف بل إن ذلك التعاون أمتد إلى مجال الأمن السياسي عندما ألحق بعض ضباط الشرطة الذين انخرطوا في عضوية الجماعة بل في جهازها السري بجهاز مباحث أمن الدولة على خلاف جميع التقاليد التي تحتم أن يكون العاملون بمثل هذه الأجهزة بعيدين تماما عن الانتماء لأي تنظيمات سياسية أو دينية وكان لافتا للنظر ن اثنين من هؤلاء الضباط فضلا أن يعملا في قسم الأرشيف وهو القسم الذي يحتوي على جميع الملفات الخاصة بأوجه النشاط المختلفة.

• ما تطورت إليه الأمور بعد ذلك عندما رشحت قيادة الجماعة في بداية عام 1954 اثنين من أعضائها البارزين لعضوية الوزارة وعدم موافقة قيادة الثورة على هذه الترشيحات.

• تركيز قيادة الثورة على حركة الجهاز السري للجماعة إلى الدرجة التي وصلت إلى استقطاب رئيس هذا الجهاز وتغييره من جانب الجماعة برئيس أخر.

الصدام مع الثورة

وفي ضوء جميع هذه الحقائق فإن خلفيات ذلك الالتقاء بين الثورة ويبين جماعة الإخوان والتي انتهت بذلك الصدام الذي فاق في عنفه ومداه ما وقع من صدام بين الجماعة وبين نظام الحكم قبل الثورة في نهاية الأربعينيات يمكن تحديدها في النقاط التالية:

• إن استثناء جماعة الإخوان من قرار حل الأحزاب السياسية لم يكن مرجعه إلى اقتناع قيادة الثورة بأنها جماعة دينية بحتة وإنما مرجعه في الحقيقة هو هدف سياسي يتصل بتقديرات خاطئة أم صائبة عن القوة السياسية التي تتمتع بها الجماعة على المسرح السياسي وخاصة مع قدرة جهازها السري على تأكيد هذا الدور بأساليب العنف علاوة على الصلة التي ربطت بعض قيادات الثورة بهذه الجماعة.

• إن قيادات الجماعة سارعت إلى تأييد الثورة في إطار مفاهيم اللعبة السياسية وكان لديهم بدورهم تصور خاطئ أم صحيح إن هذا التأييد يمكن أن يفتح للجماعة آفاقا غير محدودة في مجال تأكيد ثقل دورها على المسرح السياسي بل إن هذا التصور قد وصل لدى بعض قيادات الجماعة في وقت ما إلى مدى أبعد من ذلك وكأن الأمور يمكن أن تتطور وتفتح الطريق للجماعة للوصول إلى الحكم.

• إن بوادر الصدام بين الثورة وبين الجماعة قد بدأت تقع عندما تكشف لكل طرف الأهداف الحقيقة للطرف الأخر من ذلك الالتقاء المظهري بينهما ولعل هذه الحقيقة قد تكشفت من خلال الدور الذي لعبته الجماعة إلى جانب الرئيس الراحل محمد نجيب في خلافه مع قيادات الثورة وكان على وشك تفجير أزمة سياسية على المستوى الشعبي عندما لعب بدوره على حصان جماعة الإخوان ثم تكشفت هذه الحقيقة أيضا عندما رفضت الثورة تعيين اثنين من قيادات الجماعة كوزيرين في مواقع هامة وكان من نتائج كل ذلك إصدار قرار بحل الجماعة في الشهور الأولى من عام 1954 واعتقال أعداد من قيادات وأعضاء الجماعة ولكنه كان صداما هادئا من جانب كلا الطرفين فلم تكن الجماعة قد قامت بأي أعمال عنف كما أن الاعتقالات تمت في هدوء ولم تثر الجماعة أي شكاوى عن تجاوزات تمت داخل المعتقل.

في شركة السكر

وبالرغم من أن مظاهر الصدام بدأت تظهر في الشهور الأولى من عام 1954 فإنه من المعتقد أن التربص بين كلا الطرفين قد بدأ قبل ذلك منذ عام 1953 وأذكر تأييدا لهذا التصور أنه في الشهور الأولى من عام 1953 وأذكر تأيدا لهذا التصور أنه في الشهور الأولى من عام 1953 وكنت في ذلك الوقت رئيسا لمكتب مباحث أمن الدولة بمنطقة الحوامدية باعتبارها من المناطق العمالية الهامة وخلال تلك الفترة عقد مؤتمر عمالي كبير داخل مقر شركة بالمدينة حضره الرئيس الرحل محمد نجيب وعدد من قيادات الثورة والمحروم عبود باشا رئيس الراحل محمد نجيب وعدد من قيادات الثورة والمرحوم عبود باشا رئيس مجلس إدارة هذه الشركة ومنشؤها ومالك الأغلبية من أسهمها.

ولم يكن الرئيس عبد الناصر قد ظهر على الساحة بعد كقائد للثورة، وكانت المرة الأولى التي أشاهده فيها وبعد أن ألقى الرئيس الراحل عبد الناصر ليلقى كلمة وكانت الملاحظة الأولى أن عبود باشا كان يبدي اهتماما ملحوظا به إلى درجة أنه قام من مقعده ليعدل من وضع الميكرفون أمامه، وفور أن وقف الرئيس الراحل عبد الناصر قوبل بهدير من الهتافات بشعارات الإخوان وكانت منطقة الحوامدية من مناطق التركز الإخواني واستمر الهتاف بشعرات الإخوان لمدة لا تقل عن ثلاث دقائق وقف خلالها عبد الناصر صامتا ومتأملا في الجموع ثم بدأ كلمته بعد ذلك بهذه العبارة (أيها الإخوان لا تكونوا كالببغاء تردد مالاتعي وكان واضحا من نبرات وصته أنه يخفي غيظا مكتوما ثم استمرت كلمته مؤكدا أن العمل ليس بشعارات يهتف بها وإنما بعلاج مشاكل المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية إلى أخر هذه المعاني وقد ساد اقتناع بيننا كرجال أمن أن الصورة التي تمت بها تلك الشعارات في مواجهة جمال عبد الناصر بصفة خاصة كان مقصودا بها إحراجه وتأكيد ثقل الإخوان في هذا المجال العمالي كما أن عبارات التي بدأت بها كلمته ردا على تلك الهتافات قصد بها التأكيد بأنه يدرك أنهم يرددون مالقنوا به دون وعي أو إدارك حقيقي من جانبهم.

محاولة اغتيال عبد الناصر

• ولكن الأمور تنتهي سريعا إلى تصالح مؤقت مرة ثانية بين الجماعة والثورة ويفرج عن المعتقلين من أعضاء الجماعة بعد شهر واحد ويلغي قرار حل الجماعة وتود ثانيا إلى ممارسة دورها على المسرح السياسي ثم تتطور الأمور سريعا ليتكشف أن ذلك التصالح لم يكن إلا تأجيلا لانفجار أخر بين الطرفين وتبادر الجماعة بالتخطيط لاغتيال جمال عبد الناصر وتتم محاولة الاغتيال بميدان المنشية في شهر أكتوبر من نفس العام خلال مؤتمر شعب كبير ويطلق الرصاص على جمال عبد الناصر ويصاب بعض المحيطين به ولكنه ينجو من محاولة الاغتيال ليقع بعد ذلك صدام عنيف بين الثورة وبين الجماعة ويصدر قرار بحلها مرة ثانية ويقبض على عدد كبير من قياداتها وأعضاء تنظيمها العلني والسري ويحكم على عدد من القيادات بالإعدام وعلى آخرين بالأشغال الشاقة والسجن لمدد متفاوتة بجانب اعتقال أعداد من الأعضاء يربو على ثلاثة ألاف شخص.

هل هي تمثيلية؟

ولقد لجأت جماعة الإخوان بعد ذلك أن نشر إشاعات كثيرة تشير كلها إلى أن هذا الموضوع برمته أي محاولة الاغتيال كان مجرد تلفيق من قيادة الثورة وتمثيلية أحبك أخراجها بهدف التخلص من الجماعة والقضاء عليها بل أن الأمر تعد مجرد نشر الشائعات حول هذا المعنى حيث تناول بعض كتاب الجماعة تأليف بعض الكتب التي تؤكد ذلك وكان مما قيل واستند إليه هؤلاء الكتاب في كتاباتهم لتأكيد وجهة نظرهم إن هناك ثمة تقريرا وصل إلى أيدي عدد من أعضاء الجماعة متضمنا تفصيلات اجتماع عقد برئاسة السيد زكريا محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة ووزير الداخلية الأسبق قبل محاولة الاغتيال وأن تفصيلات هذه التمثيلية قد نوقشت وتحددت في هذا الاجتماع حتى تتخذ ذريعة بعد ذلك لإنهاء وجود الجماعة على المسرح السياسي.

ومن المفارقات أن هذا الادعاء وقد بدأ كشائعات متناثرة هنا وهناك وانتهى باختلاق وجود تقرير سري تسرب إلى أيدي بعض أعضاء الجماعة قد بدأ بعد ذلك يتردد بين الكثيرين وكأنه حقيقة واضحة كأن محاولة الاغتيال كان تمثيلية فعلا وانقلب الميزان نتيجة لذلك لكي تصبح الحقيقة تمثيلية وتصبح التمثيلية حقيقة ولكن أين الحقيقة بين كل هذا الركام من الشائعات والتأويلات أنني أتجاوز جميع الحقائق التي ثبتت أثنا تلك المحاكمات وما أدلى من اعترافات وأتعرض لواقعة كنت شاهد عيان عليها ولنا تعليق عليها بعد سرد تفصيلاتها.

اختفاء مريب

• كنت أعمل في ذلك الوقت من عام 1954 قبل محاولة الاغتيال ضابطا بجهاز مباحث أمن الدولة بالجيزة وكان التوتر في ذلك الوقت يسود العلاقة بين قيادة الثورة وقيادة الإخوان بالرغم من إلغاء قرار حل الجماعة الأول والإفراج عن أعضائها الذين اعتقلوا وحدث خلال تلك الفترة أن امتنع عدد من قيادات الجماعة وعلى رأسهم المرشد العام للجماعة عن الظهور وتردد على المستوى السياسي والأمن أن هذا الاختفاء يحمل وراءه كثيرا من الاحتمالات وقد يشير إلى أن الجماعة تدبر شيئا ما لم يكن معروفا مداه أو كنهه على المستوى الأمني على وجه التحديد، وقد تبين فيما بعد أنهم جميعا انتقلوا إلى شقق مفروشة بالقاهرة والجيزة والإسكندرية استأجروها لهذا الغرض.

• وكان طبيعيا أن يثير هذا الاختفاء اهتمام أجهزة الأمن وصدرت تكليفات لجهاز الأمن السياسي بأن يعمل على كشف هذا الغموض وتحديد الأماكن التي اختفت فيها قيادات الجماعة والدافع لهذا الاختفاء وكان من بين الإجراءات المبدئية التي اتخذت في ذلك الوقت حصر العناصر الذين تتوافر معلومات عن انخراطهم في الجهاز السري للجماعة وتفتيش منازلهم وصولا إلى أي خيوط تلقى ضوءا على أي تحركات غير عادية للجهاز السري بصفة عامة أو تكشف عن أماكن اختفاء قيادات الجماعة وأسبابها.

• ولقد أسند لي شخصيا في ذلك الوقت تفتيش منزل أحد عناصر الجهاز السري للجماعة ولم يكن مستواه التنظيمي في ذلك الجهاز معروفا على وجه التحديد لجهات الأمن كان هذا العضو طالبا بليسانس كلية آداب القاهرة ويقيم بمنطقة بين السرايات.

• وأثناء تفتيش حجرته عثر على مظروفين في طيات أحد الكتب بداخل كل منهما مسودة خطاب أولهما موجه للمرحوم المحامي إبراهيم الطيب ويطلب فيه منه أن يعمل على تسليم خطابه المرفق للمرشد العام للجماعة في مخبئه ويركز عليه بضرورة تسليمه له على وجه السرعة للأهمية.

خطاب للمرشد العام

أما المظروف الثاني فكان يحتوي على مسودة الخطاب المرسل للمرشد العام وكان جوهر فحواه بعد الديباجة الأتي أن المرسل يذكر المرشد العام بالقرارات السرية التي اتخذت في المؤتمر العاشر للجماعة والتي كان من بينها أن الجماعة يجب أن تسعى إلى القيام بأي عمل انقلابي إلا بعد أن تتحقق لها قاعدة قوية في الجيش والشرطة وأن الجماعة لم تحقق مثل هذه القاعدة حتى الآن وأن أي عمل يقوم به الإخوان الآن لن تكون له من نتيجة إلا بحورا من الدماء يغرق فيها الإخوان.

وإيضاحا لمضمون هذين الخطابين من حيث الظروف العامة التي كانت تحيط بالموقف بين جماعة الإخوان والثورة ثم من حيث ما تكشف عن دور كل من المرسل والمرسل إليه نشير إلى ذلك في النقاط التالية:

1- كان محمد نجيب قد خسر معركته مع جمال عبد الناصر ونحي جانب محمد نجيب ومع رشاد مهنا وكان الإعداد لاغتيال عبد الناصر في ذلك الوقت واختفائه من المسرح فرصة يمكن أن يعيد لجماعة الإخوان ثقلها على الساحة مرة أخرى وقد يمكنها من ميراث الثورة في تلك المرحلة المبكرة

2- تبين بعد ذلك أن إبراهيم الطيب كان العنصر المسئول عن الخلية التي اسند إليها القيام بعملية الاغتيال ومعه آخرون أحدهم المحامي هنداوي دوير وقد حكم على أعضاء هذه الخلية بالإعدام ونفذ الحكم.

3- وبالنسبة لمرسل هذين الخطابين فقد تبين بعد ذلك أنه أحد القيادات العليا في الجهاز السري ومسئول السلاح في ذلك الجهاز على مستوى الجمهورية وقد حكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.

4- ليس هناك أدنى شك أن مضمون هذا الخطاب وذلك التحذير كان يعني أن محاولة الاغتيال كانت قد تقررت قبل اختفاء قيادات الجماعة ولعل دلالة اختيار المحامي إبراهيم الطيب قائد خلية الاغتيال لتوصيل خطاب التحذير إلى المرشد العام ثم الاستعجال في توصيل ذلك الخطاب إليه في مخبئة فيهما التفسير الكافي لهذه الحقيقة.

5- يستلفت النظر كثيرا تركيز جماعة الإخوان منذ بداية نشأتها على الامتداد في استقطابها إلى القوات المسلحة والشرطة وهو نفس الهدف الذي سعى إليه تنظيم الجهاد الذي قام بأحداث أكتوبر سنة 1981.

محاولة 65

ولقد استمر الصدام بعد ذلك بين نظام حكم الرئيس الراحل عبد الناصر وبين جماعة الإخوان وتجسد ذلك أكثر ما تجسد في محاولة إحياء الجهاز السري مرة أخرى عام 1965 بقيادة المرحوم سيد قطب لاستئناف عمليات العنف مرة ثانية ولكنها بدورها كانت محاولة انتهت إلى الفشل وتم إلقاء القبض على العناصر الضالعة في التخطيط لتلك العمليات وقدموا للمحاكمة وحكم على بعضهم وفي مقدمتهم سيد قطب بالإعدام بينما حكم على آخرين بالسجن لمدد متفاوتة.

• ولعل الأهمية الخاصة لتلك المحاولة التي تمت عام 1965 وتزعمها سيد قطب تتجسد في أنها تمثل بداية مرحلة جديدة في مفهوم الفكر الديني السياسي استنادا لمحتوى كتاب معالم على الطريق لمؤلفة سيد قطب فيما يتصل بنظرته إلى المجتمع وما يقترن بها من قضايا الحاكمية والتكفير والجهاد وهي مفاهيم كان لها تأثيرها الواضح على توجهات المجموعات التي بدأت في الظهور في مرحلة السبعينيات والثمانينيات بمسميات مختلفة تشترك جميعا في جوهر الفكر وأن اختلفت في الأسلوب والهدف المرحلي.

ولذلك فإن حديثنا في الجزء التالي يركز على مسار ذلك التيار بمسمياته المختلفة وعلاقة جماعة الإخوان بتلك الجماعات الجديدة التي مارست العنف في أقصى صوره وكانت نهايته مؤامرة أكتوبر 1981.

-3-

مرحلة السبعينيات وتصاعد التطرف الديني

كانت مرحلة السبعينيات إلى نهايتها مرحلة شاذة في تطوراتها وتناقضاتها فخلالها تحقق نصر تاريخي في معركة أكتوبر 1973 وخلالها أيضا بدأت التعددية الحزبية طريقها لتكون إطارا جديدا للممارسة السياسية بعد انقضاء ربع قرن كان التنظيم السياسي الواحد هو الإطار الذي يحكم هذه الممارسة ومع هذه الإيجابيات فإن هذه المرحلة شهدت أحداثا جساما تهدد الشرعية والديمقراطية معا، وكان غريبا حقا أن يكون اليسار المتطرف هما حاملي لواء هذا التهديد للشرعية والديمقراطية فكما قلت سابقا كان لليسار المتطرف الدور الأول في التفجير والتصعيد في أحداث يناير سنة 1977 كانت التعددية الحزبية مازالت تحبو في مراحلها الأولى ثم كان اليمين المتطرف هو حامل لواء هذا التهديد في مرات متتالية كما سيأتي حالا ولنا أن نتساءل هنا: لماذا اليسار المتطرف أولا واليمين المتطرف ثانيا؟ هل هي مجرد مصادفة؟

أم أن كليهما له منطق آخر يرفض أي شرعية وأي ديمقراطية غير شرعيته هو ومنظوره هو للديمقراطية؟

هل هو خطأ في منطق الممارسة السياسية بأكملها عندما كانت تمارس في إطار الحزب الواحد لمدة ربع قرن تقريبا ثم عدنا إلى التعددية الحزبية بمنطق خاطئ أيضا لم يستوعب دروس الماضي؟ هي كلها على أي حال تساؤلات تحتاج من وجهة نظري إلى تمعن دقيق فمازالت الأخطار قائمة ومازال التهديد للديمقراطية موجودا ولكنني من جانبي أسعى إلى الإجابة عنها فيما أتناوله من تفصيلات في فصول هذه المذكرات الثلاثة لعلها تلقى بعض الضوء على الإجابات المطلوبة لجميع هذه التساؤلات.

التنظيم الدولي للإخوان

كانت جماعة الإخوان المسلمين هي الجماعة الوحيدة على الساحة الداخلية التي تمثل التيار الديني السياسي طوال المرحلة من الثلاثينيات حتى نهاية الستينيات وإذا كان هناك بعض جماعات دينية أخرى فقد كانت كلها جماعات هامشية ليس لها تأثير يذكر على الساحة السياسية ونتيجة للصدام الذي وقع بين الجماعة وثورة يوليو فقد انحسر دورها في المجال السياسي إلى درجة كبيرة بعد محاكمات أعضاء الجماعة على أثر محاولة اغتيال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ولم يظهر لها دور على الساحة الداخلية إلا في عام 1965 كما سبق إيضاحه عندما حاول سيد قطب إحياء دور الجهاز السري من جديد وخلال تلك الفترة كانت أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة قد غادروا البلاد إلى أعداد أخرى غادرت البلاد إلى بعض الدول العربية وخاصة دول الخليج العربي وكونوا ثروات كبيرة بجانب أعداد أخرى غادرت البلاد إلى بعض الدول الأوربية وخاصة سويسرا وألمانيا الغربية وتشكل خلال هذه الفترة ما أطلق عليه التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي مثل فيه قيادات للجماعة تنتمي إلى جنسيات إسلامية مختلفة أغلبها من جنسيات عربية.

السادات يكرر اللعبة

وبعد ولاية الرئيس السادات في نهاية عام 1970 حدث تحول هام وتاريخي في موقف نظام الحكم من التيار الديني السياسي ويكاد التاريخ يعيد نفسه فكما حدث في بداية يوليو عندما دعت اعتبارات التوازن السياسي الثورة إلى ذلك الالتقاء المرحلي مع جماعة الإخوان لكي تكون سندا شعبيا لها في أولى مراحلها فقد تصور الرئيس الراحل السادات أنه يمكن أن يلعب نفس اللعبة مرة أخرى ومع أنه عاصر خلفيات ذلك الصدام السياسي بين الثورة وجماعة الإخوان وأطلع على تفصيلاته بل شارك في محاكمات قيادات الإخوان عام 1954 فإنه وقع بدوره تحت تأثير ذلك الوهم في لعبة التوازنات السياسية عندما يلجأ الحاكم إلى ضرب قوى سياسية بقوى أخرى تختلف معها في الفكر والمنهج تصورا بأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى نوع من التوازن السياسي الذي يحقق له استقرار في الوضع السياسي العام.

كانت الخطوة الأولى التي اتخذها الرئيس الراحل السادات بعد صادمه مع مجموعة من أطلق عليهم مراكز القوى هي إعطاء الضوء الأخضر لتشكيل ما سمي بالجماعات الإسلامية في الجامعات وكان واضحا أنه لجأ إلى هذه الخطوة لكي يحقق توازنا على الساحة السياسية في مواجهة التيار الماركسي الذي وقف ضد نظام حكمه منذ اللحظات الأولى بعد ولايته ولكن يبقى هنا تساؤل هام فهل كان ذلك المنطق هو الأسلوب الوحيد لمعالجة التفاعل السياسي على الساحة الداخلية وكان هناك الاتحاد الاشتراكي وتنظيمه الطليعي وكان قد تم التخلص من المجموعة التي اختلفت معه في سياساته؟ لماذا إذن لم تدعم فاعلية هذا التشكيل بالفكر والحركة لتحقيق التوازن المطلوب في مواجهة التيار الماركسي؟ هل كان التقدير أن ذلك التشكيل لا يصم في إطاره تيارا يؤمن بمبادئ ثورة يوليو ليحقق ذلك التوازن السياسي المطلوب بتفاعل طبيعي ألم يكن ذلك أسلوبا مرحليا في اتجاه التعدية الحزبية بدلا من ترك الساحة لينفرد بالتفاعل عليها تياران يمثلان أقصى اليسار وأقصى اليمين ولم يكن لديهما وجود قانوني أو شرعي؟

ولكن التقدير انتهى إلى نتيجة عكس ذلك تماما واتجهت الأمور إلى شبه تجميد لدور تنظيم الاتحاد الاشتراكي وانفراد التيار الماركسي وفي مواجهته التيار الديني السياسي بالتفاعل السياسي على الساحة الداخلية كل حسب قدرته الحركية والفكرية.

عودة الإخوان ... والمتطرفين

ولقد استمر بعد ذلك نمو الجماعات الإسلامية في اطراد ملحوظ وامتد نشاطها وحركتها خارج إطار الجامعات إلى كثير من القرى والمدن على مستوى المحافظات المختلفة اقترن بذلك النمو عدد من الظواهر الهامة نشر إلى أهمها في النقاط التالية:

• الأولى أن حركة جماعة الإخوان الفكرية والتنظيمية بدأت تعود إلى الساحة مرة ثانية منذ عاد من الخارج أعداد كثيرة من أعضائها الذين حققوا ثروات كبيرة ليضيفوا إليها قوة اقتصادية كما أعادت إصدار جريدتها الدعوة لتكون منفذا إعلاميا لفكرها وموقفها السياسي ثم لتبدأ ثانيا في تنظيم شعبها على مستوى المحافظات وإن عدلت عن تشكيل جهاز سري أخرى على نمط جهازها المسلح السابق اكتفاء بتلك الشعب غير العلنية مسايرة لعدم حصولها على شرعية الحركة بصفة رسمية.

• كانت الظاهرة الثانية هي بداية ظهور جماعات جديدة أكثر تطرفا تحت مسميات أخرى كان أهمها جماعة الجهاد وجماعة التكفير والهجرة وجماعة السماوي إلى غير ذلك من الجماعات الأخرى الهامشية.

• أما الظاهرة الأخيرة فقد أصبحت الجماعات الإسلامية بعد انتشارها في جميع المحافظات هي المفرخة التي يتنافس على استقطاب عناصرها جميع التنظيمات الدينية المتطرفة ومعهم جماعة الإخوان المسلمين وتطورت الأمور لكي تصبح هذه الجماعات هي أداة جميع هذه التنظيمات على المستوى القاعدي في الجامعات وخارجها في جميع المحافظات.

النيل .........الأحمر

لم يكن غريبا إذن أن تتطور الأمور لتبدأ أجراس الإنذار تقرع الواحد بعد الآخر منذرة بخطورة نمو ظاهرة العنف والإرهاب مرة أخرى بعد انحسارها في الخمسينيات والستينيات واعتقد أن الرئيس الراحل السادات لم يطرأ على مخيلته ولو للحظة واحدة عندما فتح الباب على مصراعيه لذلك التيار كي يتصاعد بتشكيلاته وحركته ابتداء من عام 1971 أنه كان يعطي السلاح الذي اغتاله به بعد ذلك بتسع سنوات وفي مناقشة دارت بيني وبين أحد معاوني الرئيس الراحل والمقربين منه سألت ذات مرة ماذا تتصور لو أن الأمر انتهى بإصابة السادات وكتبت له النجاة وعلم أن التدبير لاغتياله كان على يد التيار الذي أعطاه الضوء الأخضر في بداية حكمه؟ وكانت الإجابة بذلك أن الرئيس الراحل كان سيتخذ من الإجراءات العنيفة ما يقضي على هذا التيار من جذوره.

وكما قلنا حالا فقد بدأت أجراس الإنذار تقرع بداية من عام 1973 بعودة عنيفة لظاهرة العنف والإرهاب تمثلت في حادثين لهما أهميه خاصة ودلالة لا يغيب مغزاها نعرض لهما بإيجاز في النقاط التالية:

مفاجأة....... للأمن

• كان الحادث الأول هو ما أطلق عليه حادث الفنية العسكرية وقد وقع هذا الحادث في شتاء عام 1973 قبل حرب أكتوبر بحوالي ثمانية شهور وفي حقيقة الأمر فقد كان هذا الحادث في جانبه الأكبر من حيث التنظيم والإعداد والتوقيت مفاجأة لجهاز الأمن ولم يكن متوافرا عنه قبل وقوعه معلومات كافية وتتمثل خطورة هذا الحادث في الأبعاد التالي:

• الأولى أن حركة جماعة الإخوان الفكرية والتنظيمية بدأت تعود إلى الساحة مرة ثانية منذ عاد من الخارج أعداد كثيرة من أعضائها الذين حققوا ثروات كبيرة ليضيفوا إليها قوة اقتصادية كما أعادت إصدار جريدتها الدعوة لتكون منفذا إعلاميا لفكرها وموقفها السياسي ثم لتبدأ ثانيا في تنظيم شعبها على مستوى المحافظات وإن عدلت عن تشكيل جهاز سري أخر على نمط جهازها المسلح السابق، اكتفاء بتلك الشعب غير العلنية مسايرة لعدم حصولها على شرعية الحركة بصفة رسمية.

• كانت الظاهرة الثانية هي بداية ظهور جماعة جديدة أكثر تطرفا تحت مسميات أخرى كان أهمها جماعة الجهاد وجماعة التكفير والهجرة وجماعة السماوي إلى غير ذلك من الجماعات الأخرى الهامشية.

• أما الظاهرة الأخيرة فقد أصبحت الجماعات الإسلامية بعد انتشارها في جميع المحافظات هي المفرخة التي يتنافس على استطاب عناصرها جميع التنظيمات الدينية المتطرفة ومعهم جماعة الإخوان المسلمين وتطورت الأمور لكي تصبح هذه الجماعات هي أداة جميع هذه التنظيمات على المستوى القاعدي في الجامعات وخارجها في جميع المحافظات.

النيل .. الأحمر

لم يكن غريبا إذن أن تتطور الأمور لتبدأ أجراس الإنذار تقرع الواحد بعد الأخر منذرة بخطورة نمو ظاهرة العنف والإرهاب مرة أخرى بعد انحسارها في الخمسينيات والستينيات وأعتقد أن الرئيس الراحل السادات لم يطرأ على مخيلته ولو للحظة واحدة عندما فتح الباب على مصراعيه لذلك التيار كي يتصاعد بتشكيلاته وحركته ابتداء من عام 1971 أنه كان يعطيه السلاح الذي اغتاله به بعد ذلك بتسع سنوات وفي مناقشة دارت بيني وبين أحد معاوني الرئيس الراحل والمقربين منه سألت ذات مرة: ماذا تتصور لو أن الأمر انتهى بإصابة السادات وكتبت له النجاة وعلم أن التدبير لاغتياله كان لع ىيد التيار الذي أعطاه الضوء الأخضر في بداية حكمه؟ وكانت الإجابة أنه يتصور أن مياه نهر النيل كانت ستتحول إلى اللون الأحمر قاصدا بذلك أن الرئيس الراحل كان سيتخذ من الإجراءات العنيفة ما يقضي على هذا التيار من جذوره.

وكما قلنا حالا فقد بدأت أجراس الإنذار تقرع بداية من عام 1973بعودة عنيفة لظاهرة العنف والإرهاب تمثلت في حادثتين لهما أهمية خاصة ودلالة لا يغيب مغزاها نعرض لهما بإيجاز في النقاط التالية:

مفاجأة.... للأمن

• كان الحادث الأول هو ما أطلق عليه حادث الفنية العسكرية وقد وقع هذا الحادث في شتاء عام 1973 قبل حرب أكتوبر بحوالي ثمانية شهور وفي حقيقة الأمر فقد كان هذا الحادث في جانبه الأكبر من حيث التنظيم والإعداد والتوقيت مفاجأة لجهاز الأمن ولم يكن متوافرا عنه قبل وقعه معلومات كافية وتتمثل خطورة هذا الحادث في الأبعاد التالية:

1- كانت القيادة لذلك التنظيم لشخص يدعى صالح سرية، وهو عراقي من أصل فلسطيني وكان من العاملين بجهاز الجامعة العربية بالقاهرة وقد ثبت أنه كان له انتماء سابق لجماعة الإخوان المسلمين ثم انتماء لحزب التحرير الإسلامي.

2- كانت القاعدة التنظيمية لهذا التنظيم من الشباب الذي ينتمي عدد كبير منه للجماعات الإسلامية التي شكلت بالجامعات ومعهم مجموعة من طلبة الفنية العسكرية.

3- كان التخطيط فيما يتصل بأسلوب التحرك وتوقيته، ويحمل منق العمل الانتحاري والمباغتة فقد كان من المقرر أن تتجمع عناصر التنظيم في منطقة قريبة من الفنية العسكرية في ساعة صفر محددة لينضم إليهم جانب من طلبة هذه الكلية بعد أن يتمكنوا من الاستيلاء على أكبر كمية من السلاح من داخ الكلية بعد مباغتة الحرس ثم التحرك سريعا إلى مبنى الاتحاد الاشتراكي لاغتيال القيادات السياسية في اجتماع كان مقررا انعقاده في نفس اليوم والتقيت للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي.

4- حال دون اكتمال عناصر الخطة ذلك الصدام الذي حدث داخل الكلية الفنية العسكرية بين مجموعات الطلبة وفشل خطة الاستيلاء على الأسلحة والخروج بها من الكلية.

5- يلاحظ هنا أن القيادة الفاعلة في هذا التنظيم كان لها انتماء إخواني سابقة بالعراق ثم انتماء تال لحزب التحرير وسيأتي بعد ذلك في عرضنا لمؤامرة أكتوبر 1981 أن قيادة أحد التنظيمين المندمجين في تنفيذ هذه المؤامرة كان عنصرا أردنيا من أصل فلسطيني وله انتماء سابق أيضا لحزب التحرير الإسلامي.

حزب التحرير الإسلامي

6- من المهم هنا أن نوضع أن حزب التحرير الإسلامي كان نشأته الأولى بالأردن وهو بدوره حزب متطرف في منهجه وحركته ويدعو إلى إسقاط جميع نظم الحكم في الدولة العربية ويعمل على إيجاد تنظيمات له داخل هذه الدولة ومن بينها مصر وقد ضبطت تنظيماته السرية في مصر أكثر من مرة أخرها في بداية الثمانينيات إلا أن المقر الثابت لهذا الحزب الآن غير مستقر يضاف إلى ذلك علامات استفهام كثيرة مازالت تحيط به فيما يتصل بخلفيات نشأته وتمويله وأسباب تركيزه على ضرورة إسقاط جميع نظم الحكم بالدول العربية ومع ذلك فهناك اقتناع بأن هذه الخلفيات وما يحيط بها من علامات استفهام لها ارتباط بصورة أو بأخرى ببعض المنظمات الدولية.

اغتيال الذهبي

وبالرغم من دلالات هذا الحادث فإن استيعاب مغزاه ومؤشراته لم يكن كافيا لكي يعاد النظر في ذلك الضوء الأخضر الذي أعطى للتيار الديني السياسي لكي ينفرد على الساحة في مواجهة التيار الماركسي سارت الأمور على نفسي المنوال حتى وقع الحادث الثاني الذي تمثل في اغتيال المرحوم الشيخ محمد حسين الذهبي في يونيه سنة 1977 والذي نعرض له بإيجاز فيما يلي:

• بدأ يظهر على الساحة ما سمى بجماعة التكفير والهجرة وكان يقود حركتها لشكري مصطفى حكم بإعدامه في حادث اغتيال المرحوم الشيخ الذهبي وكان بدوره من المنتمين أصلا إلى جماعة الإخوان ثم شكل جماعته الجديدة بداية من عام 1974.

• كان الفكر الذي يحكم منطق هذه الجماعة هو نفس الفكر الذي يكفر المجتمع ويصفه بالجاهلية ويدعو إلى الهجرة حتى يعدوا أنفسهم للجاهد وعندئذ تكون عودتهم لدار الحرب للقضاء على المجتمع الجاهلي.

• وبدأت هذه الدعوة تنتشر بين الشباب بصفة خاصة وكم كان مذهلا أن أعداد غير قليلة من هذا الشباب بدأوا يكفرون آباءهم وأمهاتهم وإخوانهم ويتركون منازلهم للإقامة في أطراف المدن في غرف صغيرة يستأجرونها بل إن الكثيرين منهم وكان من بينهم الأطباء والمهندسون والصيادلة تركوا أعمالهم في هذا المجتمع الجاهلي وأخذوا يمارسون مهنة أخرى كبائعين جائلين يبيعون بعض أنواع الحلوى.

• وبطبيعة الحال كان يتم رصد حركة هذه الجماعة كما تم اختراقها لكشف مسارات حركتها وإمكاناتها وما تعد له من أعمال غير مشروعة وأمكن خلال مراحل الرصد والاختراق إحداث انشقاق ملحوظ بين صفوف الجماعة وبدأ عدد غير قليل من أعضائها يعلن انشقاقه عليها.

• ولكن قيادة الجماعة خططت من جانبها لكي توقف هذا الانشقاق بعمليات اعتداءات جسيمة على المنشقين وخصصت مجموعات كانوا يتوجهون إلى منازل المنشقين في ساعات متأخرة من الليل ويعتدون عليهم بالجنازير والمطاوي مع تهديدهم بالعودة إلى صفوف

الجماعة أو القضاء عليهم. تحذير في 1976

• إزاء استشراء نشاط الجماعة على هذا النحو أخطرت النيابة العامة في شهر ديسمبر عام 1976 بتقرير شامل عن حركة هذه الجماعة من حيث مستويات تشكيلها السري بدءا من مجلس الشورى إلى المستويات القاعدية وما تعد له الجماعة من أعمال غير مشروعة والإمكانات التي أعدتها لتنفيذ أغراضها وأصدرت النيابة العامة أمرا بالقبض على عدد كبير من أعضاء الجماعة وتم فعلا تنفيذ ذلك بينما تمكن البعض الآخر من الهروب وعلى رأسهم أمير الجماعة شكري مصطفى.

كنت في ذلك الوقت أشغل منصب مدير جهاز مباحث أمن الدولة وقد هالني النمو السريع الذي تحققه هذه الجماعة كبذلك انخراط أعدد غير قليلة من المثقفين من خريجي الجامعات في عضويتها وقدرت من جانبي أن المشكلة ليست مشكلة أمن فقط وإنما لها أبعاد أخرى يجب أن تكون في بؤرة اهتمام كثير من الجهات المعنية وقد أدليت بحديث صحفي نشر في عدد مجلة أكتوبر الصادر بتاريخ 13 ديسمبر 1976 وما نصه حرفيا بالآتي:

الأجراس تنذر وتدق بشدة لتصل إلى أذان العلماء من رجال الدين والاجتماع والفكر والتربية والإعلام ليتصدوا لهذه الظاهرة الخطيرة إنه سرطان سري بسرعة وعلاجه ديني ونفسي واجتماعي وإعلامي ويجب أن تعقد ندوات واسعة تذاع بالتليفزيون والإذاعة وتنشر بالصحف ليكون حوارا موسعا يحضره علماء الدين ورجال التربية ورجال الاجتماع والأطباء النفسيون باعتبارها ظاهرة لها أبعاد نفسية لأن جميع أعضاء الجماعة أصبحوا مسلوبي الإرادة ويتكلمون بلسان رئيسهم وكل ذلك يرجع إلى القصور الشديد من جانب الأجهزة المعنية في الدولة وزارة الأوقاف والأزهر والدعوة الدينية وجميع أجهزة الإعلام إذ أنها لابد أن تخصص برامج دورية لعلاج هذه الظاهرة وغيرها.

ذلك كان نص الحديث الصحف الذي أدليت به في 13 ديسمبر 1976 وكان الهدف الرئيسي من هذا الإنذار هو حماية الشباب من الوقوع فريسة لهذه الادعاءات التي يتم استقطابهم على أساسها ولكن أيا من الأجهزة المعنية لم يحرك ساكنا ليقوم بدور ما في مواجهة هذه الظاهرة بل إن الأحزاب السياسية وكانت قد ولدت من المنابر الثلاثة نفسها التي تشكلت قبل ذلك في نفس العام لم تهتم بالظاهرة ولم تنظر إليها على أنها تمثل تهديدا للديمقراطية الوليدة في ذلك العام والتي تحتاج أكثر ما تحتاج إلى الاستقرار وتأكيد الشرعية وكأن الممارسة الحزبية لا شأن لها بأي ظواهر إرهاب أو عنف تظهر على الساحة خارج إطار الشرعية وسنجد بعد قليل عندما نصل للمقدمات التي سبقت أحداث أكتوبر 1981 أن نفس الموقف قد تكرر من الحركة الحزبية بالنسبة لأعمال الإرهاب والعنف التي تصاعدت حتى بلغت ذروتها قبل قرارات سبتمبر الشهيرة.

ومع ذلك فقد استمرت عمليات متابعة حركة فلول هذه الجماعة الهاربة حتى أشار المعلومات إلى أن بعض هذه العناصر يخططون لخطف إحدى الشخصيات الدينية أو الشخصيات العامة وكلفت الجهات المعنية بتركيز البحث عن العناصر الهاربة لتقديمهم للنيابة العامة.

خطة بحث شاملة

وخلال شهر يونيو التالي بعد عودتي من مهمة رسمية في ألمانيا الغربية أخطرت بحادث خطف المرحوم الشيخ محمد حسين الذهبي فور وصولي إلى مطار القاهرة وكان قد مضى على خطفة 48 ساعة وضعت على الفور خطة بحث شاملة في محاولة لإنقاذه أولا ثم لضبط العناصر الضالعة في التخطيط والتنفيذ وكان من بينهم مع الأسف الشديد أحد ضباط الشرطة المفصولين بسبب انخراطه في عضوية الجماعة ومن خلال ثغرة اكتشفها جهاز الأمن السياسي نتيجة خطأ وقع من أحد عناصر الجماعة تم اكتشاف مخابئ جميع العناصر الهاربة في أطراف مدينة القاهرة كما تم الاستدلال على المكان الذي نقل إليه الشيخ الذهبي بشقة مفروشة بمنطقة الهرم وخلال 72 ساعة كان قد تم ضبط جميع الهاربين وعلى رأسهم أمير الجماعة كذلك ضبطت جميع الأدلة التي تدين الجماعة من حيث التخطيط والتنفيذ بجانب السلاح المستعمل في الحادث وقد تأكد خلال تلك العمليات أن ضباط الشرطة المفصول هو الذي قام بتنفيذ عملية الاغتيال حيث توجه إلى الشقة التي نقل إليها الشيخ الذهبي بتكليف من أمر الجماعة وأطلق الرصاص على عينه اليسرى في نفس يوم اختطافه والمعروف أن أمير الجماعة كان يهدد دائما بإطلاق الرصاص على العين اليسرى لمن يهدده وكم ذكر هذه العبارة لضابط الأمن عندما تم القبض عليه صائحا فيهم سأرث الأرض ومن عليها وسأطلق الرصاص عليكم في أعينكم اليسرى وكأن ذلك أحد التزامات الدينية.

وكانت الجماعة خلال تلك الأيام الثلاثة التي تلت عملية الاختطاف قد حاولت القيام ببعض عمليات التفجير في ميدان العتبة وإحدى دور السينما الصيفي بمنطقة المهندسين بالجيزة ومسرح سيد درويش بشارع الجلاء ولكنها كانت جمعيا عمليات فاشلة لم تسفر عن قتلى، ثم ثبت خلال عمليات الضبط والتفتيش أن الجماعة كانت تخطط كبديل للشيخ الذهبي لخطف النائب العام في ذلك الوقت، المستشار القليوبي وعثر على خريطة توضح المسار من منزله بمنطقة الدقي إلى نفس الشقة التي يصل إليها الشيخ الذهبي.

• وكان الذنب الوحيد الذي ارتكبه المرحوم الشيخ الذهبي واستحق أن يغتال بسببه أنه كتابا ينتقد فيه فكر التكفير.

عند هذه النقطة وصلت جماعة التكفير والهجرة إلى نهاية المطاف ولم يظهر لها أي ذيول على الساحة ليظهر بعد ذلك تنظيم الجهاد في صورة أكثر عنفا كانت نهايتها حادث المنصة وما تلاه من أحداث على التفصيل الذي سيرد فيما بعد ولكن يبقى تساؤل يحتاج فعلا إلى إجابة ماذا كان الهدف من كل تلك العمليات من وجهة نظر الجماعة فقد كانت كلها في الحقيقة مجرد محاولات لهز الاستقرار وإثبات الوجود والتأكيد على قدرة التيار الديني المتطرف على الاستمرار وتحدي السلطة الشرعية.

ولقد قلنا حالا أن دور جماعة التكفير انتهى عند هذا الحد ليظهر بعدها تنظيم الجهاد ولكن يبقى تساؤل أخر ماذا عن جماعة الإخوان؟ وما موقفها من هذه المجموعات المتطرفة وماذا كان مسارها بعد ذلك الضوء الأخضر الذي أعطاه الرئيس الراحل السادات للتيار الديني السياسي؟

استراتيجية الإخوان

• لقد أشرنا قبل قليل أن عددا غير قليل من عناصر الجماعة عاد من الخارج بثرواته بعد ذلك الضوء الأخضر الذي أعطاه الرئيس الراحل السادات للتيار الديني وبدأت الجماعة تعيد تشكيلاتها غير المعلنة على مستوى المحافظات ولكنها خططت لاستراتيجية أخرى تتحدد معالمها في النقاط التالية:

• الانتشار الأفقي على مستوى محافظات الجمهورية كمستوى قاعدي

• الظهور على المسرح بقيادة الجماعة بصرف النظر عن اكتسابها شرعية الوجود من عدمه.

• دعم القدرة الاقتصادية التي تعززها تلك الثروات التي حققها كثير من عناصر الجماعة مع الدخول في مشروعات استثمارية متعددة كالبنوك الإسلامية والمدارس الخاصة لتربية أجيال وغيرها من مختلف المشروعات في مجالات مختلفة.

• التركيز على الوجود بالمؤسسات الشعبية كالنقابات المهنية –اتحادات الطلبة – نوادي هيئات التدريس... إلخ.

• السعي للوصول إلى المؤسسة التشريعية كم حدث في انتخابات 84، 87 من خلال الاندماج مع الأحزاب الشرعية في قوائمها.

• تجنب الصدام مع السلطة في مرحلة تدعيم الوجود.

• أهمية وجود منفذ إعلامي وقد تحقق لها ذلك بإعادة إصدار جريدة الدعوة في السبعينيات وحاليا من خلال إحدى الجرائد الحزبية كان ذلك هو الإطار الذي تحدد لاستراتيجية العمل الإخواني ومازالت الجماعة تسير عليه حتى الآن.

لماذا لم يقاوموا؟

تبقى نقطة أخيرة عن موقف الجماعة من جماعات العنف المتطرف التي تعددت في السبعينيات بمسمياتها المختلفة: هل كانت تشجعه بصورة غير مباشرة؟ هل تفرضه وترى أنه يضر بتخطيطها الاستراتيجي؟

فقد كان غريبا حقا أن تتولى عمليات العنف والإرهاب في مواجهة قيادة سياسيةي أفرجت عن جميع المعتقلين وشجعت التيار الديني على والوجود على الساحة بصورة شبه شرعية وشددت من عقوبة جريمة التعذيب التي كانت محل شكوى من جانبهم وجعلتها لا تسقط بالتقادم فلماذا لم تقف جماعة الإخوان وهي الأقدم والأكثر عددا وانتشارا والأقوى اقتصاديا والأكثر خبرة في عمليات الأجهزة السرية وإعمال العنف والإرهاب لماذا لم تقف موقفا حاسما في هذه الجماعات لقد كان موقفها في حقيقة الأمر موقفا زئبقيا منذ بداية تلك العمليات خلال عام 73 وما تلاه حتى عام 1981 وكان ذلك سببا في صدامها مرة أخرى مع الرئيس الراحل عندما قرر اعتقال قرارات سبتمبر عليهم ولكن التساؤل مازال قائما هل بدأت الجماعة تنظر إلى تلك الجماعات المتطرفة التي تخصصت في عمليات العنف والإرهاب على أنها بمثابة بديل مرحلي لجهازها السري السابق؟

لماذا يتصادف أن تكون قيادات هذه الجماعات ممن لهم انتماء إخواني سابق؟ هل يحرثون الأرض للجماعة الأم؟ هل كلها تساؤلات مازالت تحتاج إلى إجابة وإن كانت هناك إجابة تتردد من وقت لأخر على لسان جماعة الإخوان أن أعيدوا لنا الشرعية كحزب سياسي ونحن كفيلون باحتواء كل ذلك؟

ونصل بعد ذلك إلى المقدمات المباشرة التي مهدت لقرارات سبتمبر 1981وهو ما نتحدث عنه في الجزء التالي.

-4-

مقدمات قرارات سبتمبر

وبداية من عام 78 كان الاهتمام موجها لعقد معاهدة السلام مع إسرائيل وانعكاسات ذلك على الموقف العربي العام من مصر ثم ظهور حزب الوفد الجديد على الساحة وبداية تصاعد حدة الخلافات السياسية بين النظام والقوى السياسية المختلفة.

اقترن بذلك أن بعض عمليات العنف بدأت تطفو على السطح، وكان بدايتها ضبط مجموعة بالإسكندرية تحت مسمى تنظيم الجهاد خلال عام 1979 وفي حيازة أعضائها كميات من الأسلحة النارية والقنابل الطائفية بعدد من المحافظات وخاصة محافظات الصعيد وأصبح واضحا للعيان أن ثمة محاولات تبذل على الاستقرار الداخلي وضرب الوحدة الوطنية.

ومع تكرار الأحداث ذات البعد الطائفي تصاعدت حدة التوتر وأخذت مظهرا خطيرا عندما بدأت بعض القيادات القبطية تأخذ موقف الدفاع المتحفز في مواجهة عمليات الاعتداء على بعض الشخصيات القبطية وزاد الأمر سوءا أن القيادات القبطية الدينية بدأت توجه انتقاداتها لقيادة النظام وتتهم الدولة بالوقوف موقفا عاجزا في مواجهة ما تتعرض له الطائفة من اعتداءات ولعلنا نشير في هذا الشأن إلى موقف القيادة القبطية عندما قررت عدم الاحتفال بأعياد الميلاد كمظهر من مظاهر الاحتجاج بجانب مواقفها الأخرى التي عمدت إلى تصوير الأمر وكأنه موقف جماعي للطائفة يعبر عن خصومة مع الدولة.

وفي نفس الوقت بدأت الخيوط تتقطع بين النظام وبين جماعة الإخوان بعد أن تكشفت للقيادة السياسية أن الجماعة لعبت دورا في تأييد حركة الجماعات المتطرفة من خلال جريدتها التي أيدت بشكل مباشر كثيرا من التجاوزات التي صدرت عن هذه الجماعات وتأكيد للقيادة السياسية في النهاية أن اللعب على حصان جماعة الإخوان قد خذلها مرة ثانية بعد تجربة ثورة يوليو مع الجماعة ولكن ذلك جاء في وقت متأخر فقد خرج المارد من القمقم بل أصبح له روافد أخرى تحت مسميات مختلفة.

ضرب الوحدة الوطنية

ثم تتصاعد حدة عمليات العنف لضرب الوحدة الوطنية وكان من أبرزها داعيات حادث الزاوية الحمراء الذي بدأ كحادث عادي في صورة مشاجرة بين طرفي مسلم وطرف قبطي وانتهى بعمليات إطلاق رصاص وإشعال حرائق وقتل وكانت الظاهرة اللافتة للنظر أن عناصر تنتمي للتنظيمات المتطرفة من خارج المنطقة قد سارعت إلى الوجود على مسرح الأحداث وقامت بقتل عدد من المواطنين الأقباط ثم بدأت في توزيع منشورات تدعو جمهور المسلمين إلى مقاطعة كل ما هو قبطي وكان واضحا أن ثمة محاولة تؤكد أن تلك التنظيمات السرية تسعى إلى إشعال صدام طائفي على مستوى عدد من المحافظات خاصة أنه قد تبع ذلك بفترة وجيزة إلقاء عدد من القنابل على جمهورية من المواطنين بكنيسة مسرة بشبرا أصاب عددا من المسلمين والأقباط الذين تصادف وجودهم بالكنيسة لحضور حفل زفاف ثم أحداث أخرى متفرقة في صورة اعتداءات بالأسلحة الرشاشة على بعض محالات الصاغة المملوكة لمواطنين أقباط وسرقة كميات من الذهب مع قتل عدد من المتردين عليها إلى غير ذلك من أحداث أخرى لعل أبرزها حجز بعض الطلبة الأقباط كرهائن أثناء إحدى المظاهرات بجامعة المنيا...

كان من نتائج كل ذلك أن تجسد موقف متحفز من جانب القيادات القبطية يتجاوب معه جمهور الأقباط كان من نتيجته أن عددا من القيادات الدينية القبطية أخذ يشحن جمهور المتردين على الكنائس بروح السخط والتحفز وبدأت جريدة وطني الناطقة بلسان الكنيسة القبطية تأخذ نفس الموقف وأصبح الأمر في النهاية وكأنه صداما طائفيا وشيك الوقوع في البلاد...

ثم تظهر بداية تأزم سياسي بين النظام وبين القوى السياسية ويقرر حزب الوفد حل نفسه والانسحاب من الساحة السياسية ثم تصعيد حاد من جانب أحزاب المعارضة في انتقاداتها للسياسات العامة للنظام سواء فيما يتصل بالسياسة الخارجية وكان من أبرز محاورها في تلك الفترة سياسة السلام مع إسرائيل أو فيما يتعلق بالسياسات الداخلية في شتى مجالاتها وعدم إدانة ظاهرة استشراء أحداث العنف ومحاولات ضرب والوحدة الوطنية بحيث بدأ الأمر في النهاية وكأن جميع القوى الشرعية قد التحمت مع القوى غير الشرعية في موقف واحد ضد النظام والقيادة السياسية.

قرارات سبتمبر

اقترن بكل ذلك قلق متزايد على مستوى القيادة السياسية من احتمالات تداعيات الموقف الداخلي بأكمله خاصة بعد أن أصبح الموقف الأمن بدوره يعاني من حالة اهتزاز ملحوظ كان من علاماتها الواضحة استشراء حالات العنف واتساع نطاقها في عدد من المحافظات.

تلك كلها كانت ملامح عامة تمثل غيوما كثيفة كانت تغطى الموقف السياسي الداخلي وبدا واضحا أن أزمة سياسية داخلية تتصاعد حدتها ويقترن بها موقف أمني مهتز وأوضاع اقتصادية واجتماعية غير مستقرة، وكانت الخاتمة قرارات سبتمبر التي أضافت بدورها غيوما أكثر وأضافت كثيرا من عوامل التردي على المستويين السياسي والأمن ثم على مستوى الرأي العام بأكمله الذي ساده اقتناع بأن الأمور تكاد تصل إلى طريق مسدود.

ولكننا لابد الآن أن نناقش تلك القرارات التي صدرت استنادا للمادة 74 من الدستور من عدة زوايا خاصة أن بعض الكتاب قد اعتبر هذه القرارات وكأنها هي السبب الوحيد الذي دفع الأمور إلى ما وصلت إليه يوم 6 أكتوبر بحادث المنصة وهو ما تناوله النقاط التالية:

لم تكن السبب

• ليس صحيحا على وجه الإطلاق أن مؤامرة أكتوبر التي بدأت بحادث المنصة كانت نتيجة قرارات سبتمبر فقد ثبت باليقين بعد السيطرة على الموقف الأمن عقب تلك الأحداث أن تدبير هذه المؤامرة والتخطيط لحلقاتها لم يكن وليد اللحظة بعد صدور هذه القرارات وإنما تم التدبير والتخطيط قبل ذلك بعام على الأقل واستعدت قيادات وعناصر تنظيم الجهاد لساعة الصفر خلال تلك الفترة من حيث الإعداد التنظيمي والتثقيف الفكري ثم الإعداد المادي من خلال تخزين الأسلحة بأنواعها والمفرقعات بشتى أشكالها والتدريب عليها في أماكن مختلفة من المحافظات وقد ثبت كل ذلك من خلال عمليات الضبط التي تمت والتحقيقات التي أجرتها النيابة العامة ثم من خلال تحقيقات محكمة أمن الدولة العليا على النحو الذي سيشار إليه فيما بعد.

• ثبت أيضا من تحقيقات النيابة العامة ومحكمة أمن الدولة العليا أن محاولات متعددة سابقة على شهر سبتمبر بفترة طويلة بذلك من جانب عناصر تنظيم الجهاد للإعداد لاغتيال رئيس الجمهورية الراحل كحلقة أولى في سلسلة حلقات تدبيرهم الشامل للتمهيد لما أسموه بالثورة الإسلامية الشاملة لعل أبرزها تلك المعاينة التي قام بها بعض عناصر التنظيم للمرسى الذي يستعمله الرئيس الراحل أثناء إقامته باستراحة القناطر الخيرية لتنفيذ عملية الاغتيال أثناء تحركه بين مقر إقامته وبين ذلك المرسى ولكن الإعداد للتنفيذ في ذلك المكان لم ينجح لشدة ودقة الحراسة.

• ثبت أيضا أن تحديد ساعة الصفر لعملية اغتيال رئيس الجمهورية الراحل قد تمت حوالي يوم 25 سبتمبر في اجتماع حضرته قيادات التنظيم بمنطقة مصر الجديدة نوقش فيه ذلك الموضوع وكان المنطلق الذي ووفق على أساسه على تنفيذ عمليه الاغتيال يوم 6 أكتوبر مستندا إلى عاملين أولهما تلك الفرصة العارضة التي أتيحت لخالد الإسلامبولي الضابط السابق بالقوات المسلحة للاشتراك في العرض العسكري يوم 6 أكتوبر وثانيها أن قيادات التنظيم قدرت أن المناخ المتوتر الذي ساد الموقف بعد قرارات سبتمبر يمثل فرصة فريدة للبدء في تنفيذ حلقات المؤامرة توقعا بأن استجابة جماهيرية واسعة ستنحاز لتحركهم بمجرد الإعلان عن الخطوة الأولى لإشعال تلك الثورة الشاملة.

• ثبت كذلك على وجه اليقين أن أحد من المنتمين للأحزاب السياسية الشرعية أو العناصر المستقلة التي شملتها قرارات سبتمبر لم يكن ضالعا بأي صورة في حركة هذا التنظيم وما أعده من الخطط بل ثبتي أن كثيرا من قيادات هذه الأحزاب كان مقررا اغتيالهم في حالة نجاح تلك الثورة.

عجز أمن وسياسي

• يلاحظ كذلك أن جهاز الأمن السياسي قد أتيح له طبقا لهذه القرارات اعتقال حوالي 1300 شخص من عناصر التنظيمات المتطرفة ومع ذلك فإن هذا الإجراء لم يمس هيكل تنظيم الجهاد الذي دبر لأحداث يوم 6 أكتوبر وإنما اقتصر الإجراء الأمني على عناصر هامشية غير ضالعة في التخطيط والتنفيذ ودليل ذلك أنه بعد شهر واحد فوجئ جهاز الأمن بأخطر مؤامرة سياسية تعرضت لها البلاد في تاريخها الحديث سواء من حيث الهدف أو الإعداد أو الضحايا الذين تجاوزوا ثلاثمائة قتيل وجريح ف مقدمتهم رئيس الجمهورية الراحل.

• ولعل كل ذلك يقودنا إلى نقطة هامة، فلقد عجز التشخيص السياسي والأمني عن تقدير وتحديد مصدر الخطورة الحقيقي ومن هنا فقد صدرت قرارات سبتمبر بمنطق عشوائي وشملت أطرافا متعددة على المستويات السياسية والدينية مسلم وقبطي والثقافية والمهنية بينما ابتعدت في واقع الأمر عن مصدر الخطر الحقيقي بل أنها خلقت مناخا كان يمكن أن يكون من عوامل التداعي السريعة لولا فشل اكتمال حلقات المؤامرة.

وقد تقودنا تلك النقطة إلى نقطة أخرى أكثر أهمية فعلا من تقع مسئولية ذلك التردي السياسي الذي تجسد في تقطيع أوصال العلاقة الصحية بين السلطة السياسية وبين القوى السياسية الشرعية؟ ولكنني من جانبي أتصور أن المسئولية في تداعي الموقف السياسي تقع على الطرفين فالسلطة السياسية كان يمكنها أن تعالج الشطط السياسي من جانب القوى الشرعية بمنطق ديمقراطي يضعها أمام مسئوليتها السياسية والحزبية في مواجهة خطر واضح كان يهدد الشرعية والديمقراطية معا والقوى السياسية بدورها لم تفرق بين دورها المعارض وبين تغذية جبهات تعمل خارج إطار القانون إلى الدرجة التي تهدد الشرعية وتهدد كياناتها هي نفسها ومن هنا حدث ذلك الخلط في قرارات سبتمبر التي حاولت علاج الموقف وكأن القوى السياسية الشرعية هي المسئولة عن التردي الأمني.

اجتماع 7 سبتمبر

ومن المفارقات التي تؤكد غياب القدرة على التشخيص السليم لعوامل الخطر في ذلك الوقت عندما دعا وزير الداخلية في ذلك الوقت القيادات العليا لوزارته لاجتماع بمكتبة صبيحة اليوم التالي الذي نفذت فيه قرارات سبتمبر لمناقشة الموقف الأمن العام وبعد أن شرح وزير الداخلية ما اتخذ من قرارات وجه اللواء فاروق الحيني، وكان مساعدا للوزير للمنطقة المركزية سؤالا عن أثار شمول هذه القرارات على النحو الذي صدرت به واحتمالات استغلال ذلك من جانب الأنشطة السرية كما وجهت سؤالا من جانبي عن احتمالات قيام تنظيمات سرية مسلحة باستغلال تلك الظروف وقد طلب وزير الداخلية من مدير جهاز مباحث أمن الدولة الإجابة عن السؤالين وكانت الإجابة أنه قد لا توجد تنظيمات سريعة مسلحة أو تسعى إلى الحصول على أسلحة كان ذلك الاجتماع حوالي 7 سبتمبر وبعد ذلك بشهر واحد فوجئ جهاز بذلك التنظيم المسلح كما لم يحدث من قبل وتمكن من اغتيال رئيس الجمهورية إلى أخر الحلقات التي قام بها وليس هناك أدنى شك أن تلك الإجابة كانت ترجمة واقعية عن التردي الأمن الذي وصلت إليه الأمور في ذلك الوقت.

ومع ذلك فإن تطورات أخرى خلال شهر سبتمبر أكدت أن الموقف الأمن يسير إلى الأسوأ وأن قرارات سبتمبر في شقها الذي شمل حوالي 1300 شخص من العناصر الدينية المتطرفة كانت بعيدة تماما عن صلب الهيكل الحقيقي لتنظيم الجهاد الذي كان يدبر لأحداث أكتوبر ونشير بإيجاز إلى هذين الموضوعين:

• خلال النصف الأول من شهر سبتمبر أثناء مرور أحد رجال الشرطة السريين بمنطقة قسم الساحل بشبرا قام بضبط ثلاثة أشخاص كانوا يسرقون خزينة أحد مكاتب البريد بالمنطقة وعندما سئلوا أمام رئيس المباحث الجنائية بمديرية أمن القاهرة اعترفوا بأنهم أعضاء تنظيم سري وأنهم كانوا يريدون الحصول على بعض المال لشراء أسلحة به وكان طبيعيا أن يحال الموضوع برمته لجهاز مباحث أمن الدولة لفحصه في ضوء اختصاصه بمثل هذه الأمور ولكن الجهاز رأى أن يستعين بهؤلاء الأشخاص كمصادر معلومات في هذا المجال وانتهى الموضوع عند هذا الحد ولا تثريب هناك على وجه النظر التي اقتضت ذلك ولكن الموضوع كان يعطي مؤشرا لا يخيب بأن ثمة محاولات تبذل من جانب مجموعات سرية للحصول على أسلحة لارتكاب أعمال غير مشروعة ولكنه لم يأخذ الاهتمام الكافي بعد ذلك.

عبود الزمر

• في أوائل النصف الثاني من سبتمبر تقدم مواطن ذكر أنه يعمل سائق تاكسي إلى مكتب اللواء حسن السماحي مدير الأمن العام في ذلك الوقت وأبلغ بأن أشخاصا آخرين قد سعوا إلى ضمه لتنظيم سري يسعى إلى الحصول على أسلحة وأنهم طلبوا منه محاولة تدبير بعض المدافع الرشاشة واتصل بي مدير الأمن العام تليفونيا وكنت في ذلك الوقت اشغل منصب مساعد أول الوزير للأمن العام وذكر تفصيلات البلاغ ونظرا لأهمية مضمونه فقد طلب من مدير الأمن العام أن يرسل المبلغ بصحبة أحد الضباط لمدير مباحث أمن الدولة وأن يتصل في نفس الوقت بوزير الداخلية ويحيطه علما بموضوع البلاغ وما اتخذ من إجراء وقد أجرى جهاز مباحث أمن الدولة بعد ذلك إجراءات فنية لفحص الموضوع وتمكن من تحديد شخصية الشخص الذي طلب تدبير هذه الأسلحة من المبلغ ومن خلال هذا الشخص اكتشف صلته بالعقيد عبود الزمر الضابط بالمخابرات الحربية في ذلك الوقت والذي تمكن من الهرب فور شعوره باكتشاف أمره ولعلنا نذكر تلك العبارة التي وجهها الرئيس الراحل في خطابه يوم 28 سبتمبر المذاع على الهواء في مؤتمر الحزب الوطني عندما قال الضابط اللي هربان وهو سامعني دلوقتي أحسن له يقدم نفسه.

من يغتال الرئيس؟

وكانت مصلحة التقدير بعد هذين الموضوعين أن هناك من يسعى لاغتيال رئيس الجمهورية الراحل ولكن من؟

وكيف؟ ومتى فكلها أسئلة لم تكن هناك إجابات شافية عنها وكان جل المعلومات المتوافرة والتي أحيط رئيس الجمهورية الراحل بها قبل خطابه المشار إليه أن هناك ضابطا يدعى عبود الزمر مضلعا في عملية قد يكون من أهدافها محاولة الاعتداء على حياته.

تلك كلها كانت ظلال الصورة المحيطة بالأوضاع السياسية والأمنية قبل وبعد قرارات سبتمبر وكانت في حققتها ظلالا بدايتها صباح بذلك اليوم السادس ومن أكتوبر 81 الذي بدأ بسماء صافية احتفالا بعيد قومي تحتفل به الأمة ويحتفل به صاحب قرار الحرب كأكبر انجاز تاريخي له ولكن العاصفة تهب على غير انتظار لتبدأ أول حلقات المؤامرة بما أطلق عليه حادث المنصة.

ولأننا نستعرض في هذا الفصل أبعاد مؤامرة أكتوبر كحدث هام في التاريخ السياسي والأمن في مصر فإنه من الأهمية بمكان أن نتناول أبعادها من زوايا مختلفة فنتحدث أولا عن التطورات الأمنية والسياسية التي أسهمت في إجهاضها ثم نتحدث عن التخطيط التآمري لحلقاتها وكيف تهاوت حلقة بعد حلقة مستندين إلى فقرات استخرجت بنصها من حيثيات حكم محكمة الجهاد ثم نعرض أخيرا لوجهة نظر عما يمكن عمله لمعالجة ظاهرة الإرهاب التي تكون ظاهرة مزمنة.

ونبدأ حديثنا في الجزء التالي عن الجهود الأمنية والسياسية التي أسهمت في إجهاض هذه المؤامرة.

-5-

الجهود الأمنية والسياسية التي أسهمت في إجهاض المؤامرة

لم أكن أدري في صباح يوم 6 أكتوبر أن القدر قد رسم لحياتي الوظيفية تلك النهاية لأبدأ دورا سياسيا بعد ذلك بفترة وجيزة وكنت قد نقلت من موقعي كمدير لمباحث أمن الدولة قبل ذلك بأربع سنوات خلال شهر يوليو 1977 وكان النقل بالصورة التي تم بها بمثابة صدمة نفسية لي سواء من حيث التوقت أو من حيث ملائمة الموقع الجديد من الناحية الأدبية مقارنا بموقعي السابق وكان واضحا أن الأمر في مجمله كان متعلقا بحسابات وهمية عن المستقبل السياسي للقيادات العليا بالوزارة وابتعدت تماما منذ وهمية عن المستقبل السياسي للقيادات العليا بالوزارة وابتعدت تماما منذ ذلك الوقت عن الاتصال بحقل العمل في الأمن السياسي كان ذلك بعد أحداث يناير ستة أشهر وبعد حادث اغتيال الشيخ محمد حسين الذهبي وفي صباح يوم 6 أكتوبر وكالمعتاد في مثل هذه المناسبات توجه وزير الداخلية إلى قصر عابدين وبصحبته أعضاء المجلس الأعلى للشرطة لتسجيل تهنئة هيئة الشرطة بهذه المناسبة وبعد انتهاء مراسم التهنئة اقترح وزير الداخلية أن أصحبه إلى منصة العرض العسكري وكان من المعتاد أن توجه الدعوة إلى جميع أعضاء المجلس الأعلى للشرطة ولكنني اقترحت على الوزير أن استمر في مكتبي لأتابع الحالة الأمنية بصفة عامة وانضم معي اثنان من الزملاء هما اللواء فاروق الحيني مساعد الوزير للمنطقة المركزية واللواء أحمد رشدي مساعد الوزير للأمن الجنائي في ذلك الوقت.

كان طبيعيا أن نتابع العرض العسكري بالتليفزيون وفجأة اختل العرض وسمعت أصوات تصيح الخونة – الخونة وتدافعت في أذهاننا نحن الثلاثة على الفور احتمالات كثيرة تبرر ما حدث ولكن الدهشة كانت تسيطر تماما على تفكيرنا.

حراسة مبنى التليفزيون

وبصرف النظر في أي احتمالات وردت على خواطرنا فقد كانت المسئولية الأمنية تحتم اتخاذ عدة قرارات فورية وبعد محاولات للاتصال بمدير أمن القاهرة الذي كان موجودا خارج نطاق العرض بمدينة نصر أجاب بأنه لم يتمكن من معرفة شيء محدد وإن كان يرى أن شيئا غير طبيعي حدث بمنطقة المنصة وفي ضوء هذا الغموض كان على ألا أنتظر قرارا من وزير الداخلية وكان الاتصال به مقطوعا وأصدرت قرارين أولهما بتكليف اللواء أحمد رشدي بالتوجه فورا إلى مبنى التليفزيون والإذاعة وقيادة القوات المخصصة لتأمينه مع تعزيز هذه القوات وثانيهما أمر صدر إلى أدارة اللاسلكي لإخطار جميع أجهزة الشرطة بتنفيذ الخطة 100 وهي خطة موضوعة مسبقا لتنفذ في حالة الطوارئ القصوى وتتضمن كثيرا من الإجراءات الأمنية وتستهدف في مجملها تدعيم الوجود الأمني على مستوى العاصمة بأكملها وبعد حوالي نصف ساعة اتصل وزير الداخلية تليفونيا وكانت نبرات صوته تنم عن انفعال شديد.

وسأل عن الإجراءات التي اتخذت وأحيط علما بمضمون هذين القرارين وسيأتي بعد ذلك عندما نعرض لحلقات المؤامرة كيف كان هناك تدبير لاقتحام مبنى التليفزيون وإذاعة ميثاق الثورة الإسلامية وبعد ساعات قليلة من حادث المنصة تقل عن 48 ساعة كانت المفاجأة المثيرة الثانية عندما هاجمت مجموعات كبيرة مسلحة بالمدافع الرشاشة والقنابل مبنى مديرية أمن أسيوط فجر يوم 8 أكتوبر وقت صلاة عيد الأضحى وقتلت جميع أفراد حرس المديرية الموجودين بالاحتياطي واستولوا على أسلحتهم ثم لاحقوا ضابط عظيم المديرية بتربة عميد وتصادف أن كان مسيحي الديانة وأخذوا يطاردونه من غرفة إلى غرفة حتى قتلوه ومثلوا بجثته ثم حصنوا أنفسهم داخل مبنى المديرية واحتلوه كمركز لمقر قيادة الشرطة بالمحافظة وفي نفس الوقت هاجمت مجموعات أخرى متعددة أقسام ونقط الشرطة ومواقع تمركز قوزات الأمن المركزي التي كانت تنتشر بالمدينة للتأمين وقتلوا حوالي مائة ضابط وجندي وعلاوة على 150 جريحا واستولوا على عدد كبير من أسلحة الشرطة بالإضافة إلى حوالي 20 قتيلا من المواطنين الذين تصادف وجودهم بالقرب من مسارح تلك العمليات.

ولقد كانت هذه المفاجأة المثيرة بدورها إضافة جديدة للغموض الذي أحاط بالموقف الأمني، وأصبح واضحا تماما أن احتمالات تداعيات الموقف يمكن أن تتوالى بشكل سريعة كما أكدت هذه المفاجأة في نفس الوقت مدى التحدي الذي تواجهه الدولة في تلك اللحظات الحرجة وجسدت الأهمية القصوى للتحرك السريع لفرض هيمنة الدولة والإحاطة الشاملة بأبعاد المؤامرة للسيطرة على أي تداعيات أخرى محتملة.

سافرت إلى أسيوط

وفي ضوء تأزم الموقف على هذا النحو تلقيت تكليفا بالسفر فورا على أسيوط على متن طائرة حربية خاصة أعدت لذلك وغادرت القاهرة مصطحبا معا اللواء عبد الله جمال الدين مدير إدارة التفتيش بالوزارة في ذلك الوقت والعقيد أحمد شعراوي مدير مكتبي بالأمن العام وكانت المناقشات بيننا في الطائرة تدور حول تساؤلات كثيرة لم يكن لدينا في الحقيقة إجابة عنها في تلك اللحظة لماذا هذا العنف الذي لم يحدث له مثيل من قبل؟ إلى أين يمكن أن تصل الأمور إذا استمرت التداعيات على هذا النحو وكم من الأبرياء يمكن أن تسيل دماؤهم دون أ جريمة عليهم؟

من أين يمكن الإمساك بخيوط هذه المؤامرة في غياب الحد الأدنى من المعلومات عن أبعادها الحقيقية، كيف يمكن أن يصل حجم المفاجأة إلى هذا المدى من الخسائر البشرية بدءا من رئيس الجمهورية ومعه عدد من الشخصيات المصرية والأجنبية إلى ذلك العدد الضخم من رجال الأمن بما لم يكن له مثيل على مدى التاريخ المرئي هل يجسد ذلك منطق تيارات العنف تحت الرداء الديني وأسلوبها في مواجهة من تعتبرهم من الخصوم وماذا يمكن أن يفعلوه إذا قدر لهم السيطرة على مقدرات الأمور وكم من الأرواح ستزهق إذا كان ذلك هو منطقهم وأسلوبهم؟

ولدى وصول الطائرة إلى مطار أسيوط كان المطار خاويا تماما ويسوده الصمت وفي الطريق بالسيارة من المطار إلى مبنى مديرية الأمن وكانت الساعة قد وصلت إلى الخامسة مساء كانت أصوات الأعيرة النارية تصل إلى أذاننا من جهات متعددة وتصاعدت أصواتها عندما اقتربنا من مدخل المدينة التي بدت كمدينة أشباح يغلفها جو كئيب ومتوتر ولما كانت المقتحمون لمبنى مديرية الأمن قد غادروه بعد احتلاله لمدة ست ساعات فقد توجهنا على الفور إلى مبنى المديرية حيث دعوت إلى اجتماع عاجل ضم جميع القيادات الموجودة وكان واضحا أن عنصر المفاجأة وحجم الخسائر التي لحقت بالقوات قد ترك مسحة الأسى والحزن على وجوه الكثيرين.

السيطرة خلال يومين

ولكن الموقف كان يحتم تجاوز كل تلك المشاعر واتخذت على الفور عدة قرارات للتنفيذ الفوري والتي استهدفت في مجملها عدة أهداف أولها تأكيد الاستقرار الأمن وثانيها ضبط العناصر التي لها صلة بالأحداث وكان الكثيرين منهم قد اقتحموا مساكن المواطنين وتحصنوا بها بالأسلحة وثالثها ضبط جميع الأسلحة التي سرقت من الشرطة.

وبعد يومين تقريبا كان قد تم السيطرة على المدينة بأكملها وضبط عدد كبير من عناصر تنظيم الجهاد الضالعين في تلك العمليات وأعيد سلاح الشرطة الذي سرق بأكمله ومع ذلك فقد ظل هناك تساؤل عن مدى الصلة بين ما حدث في أسيوط وبين حادث المنصة قبل ذلك يومين ثم تلك الأحداث المتفرقة التي حدثت بالقاهرة والجيزة في الأيام التالية مباشرة لحادث المنصة وقتل خلالها أحد ضباط مباح أمن الدولة عندما توجه للقبض على أحد العناصر المشتبهة فيها وأطلق عليه الرصاص من مدفع رشاش كذلك عندما توجهت القوات لضبط الضابط عبود الزمر بعد الاستدلال على مخبئة فألقيت القنابل على القوات وأطلقت المدافع الرشاشة عليها كانت كلها مؤشرات تؤكد أن هنا تنظيما على مستوى الجمهورية وأن تخطيطا مسبقا يسعى ذلك التنظيم إلى تنفيذه بإصرار واستماتة ولعل الغموض الذي كان يكتنف الموقف الأمني في تلك الفترة كان من الأسباب الرئيسية التي ألقت بظلالها على مراسم تشييع جنازة الرئيس الراحل والتي تمت في منطقة نائية بمدينة نصر بعيدا عن التكتلات الجماهيرية التي كان يمكن أن تشارك في تشييع الجنازة ولكن الموقف من جوانبه السياسية والأمنية لم يكن يتحمل أي مجازفة تخل بهيبة المناسبة

عودة المباحث أمن الدولة

وبعد العودة للقاهرة فوجئت بأن قرارا قدر بأن أعود ثانيا للأشراف على جهاز مباحث أمن الدولة لمواجهة تداعيات الموقف الأمني عد غياب استمر أربع سنوات وكانت الخطوة الأولى وضع تقيمي عام للموقف في ضوء جميع المؤشرات المستخلصة قبل حادث المنصة وبعده وتحددت الإجراءات التي يجب اتخاذها لتأمين الجبهة الداخلية كهدف رئيسي مع السيطرة على أي تداعيات محتملة من خلال الإحاطة بأبعاد ذلك المخطط من جميع زواياه.

وفي نفس الوقت تم التنسيق الكامل بين أجهزة الأمن المختلفة وكان يعقد لهذا الغرض اجتماع يومي يحصره اللواء فاروق الحيني واللواء عبد الرحمن الفرماوي قائد قوات الأمن المركزي في ذلك الوقت تناقش فيه جميع الإجراءات السابقة وما يجب اتخاذه من إجراءات متكاملة علاوة على المجموعات المتخصصة من جهاز مباحث أمن الدولة التي تولت مسئولية جمع المعلومات وربطها وتقييمها واقتراح مهام قوات الشرطة بالنسبة لعمليات التأمين أو الضبط وكان ذلك بطبيعة الحال بالتشاور مع وزير الداخلية اللواء نبوي إسماعيل الذي حرص على متابعة تقييم الموقف أول بأول.

تنظيم هرمي مسلح

ولكن المفاجآت تتوالي يوما بعد يوم ويتكشف أننا أمام تنظيم هرمي له مستوياته القاعدية والقيادية وأن إمكاناته من حيث الإعداد والتسليح والتدريب تتجاوز كل التقديرات المبدئية وأصبح السباق مع الزمن عنصرا هاما للغاية لكي يقفل الباب تماما أمام أي تداعيات أخرى خصوصا في ظل المؤشرات التي دأت تتوالى بعد ضبط كميات كبيرة من الأسلحة والمفرقعات بشتى أنواعها والتي وصلت إلى مئات من المدافع الرشاشة والبنادق والمسدسات وكمية من مدافع R. B.G علاوة على مئات من القنابل وكميات غير محدودة من الذخائر والمتفجرات إضافة إلى المستندات الخطية عن فكر التنظيم وأهدافه.

ومع منتصف شهر نوفمبر كان قد تم الإمساك بجميع خيوط الموقف وبدئ على الفور بعد ذلك في تصفية موقف جميع من تم ضبطه سواء بالإحالة للنيابة العامة أو الإفراج وكان عددهم قد وصل إلى حوالي 2000 شخص.

وهنا لابد أن أشهد بكل الاعتزاز بأن أحدا من رجال الأمن على مختلف مستوياتهم وفي جميع مجالاتهم لم يهنوا ولم يتراجعوا ولو للحظة واحدة عن مواجهة جميع الأخطار وكان الجميع يدركون عظم المسئولية وخطورة الموقف واستمروا في العطاء بلا حدود فمنهم من استشهد ومنهم من أصيب ولم يبخلوا بأرواحهم ودمائهم بل وصل الأمر بالكثيرين إلى أنهم كانوا يعملون ليل نهار بلا انقطاع ونسوا تماما أن هناك أهلا لهم حقوقهم عليهم.

ادعاءات التعذيب

واستطرد بعد ذلك مباشرة في التحدث عن إدعاءات التعذيب التي نسبت إلى عدد من الضباط استنادا إلى ما جاء بحيثيات حكم محكمة أمن الدولة العليا والتي جاء فيها بالحرف قرر الدفاع الحاضر مع المتهمين أمام المحكمة العسكرية وأمام هذه المحكمة تفاصيل هذا الاعتداء وأسماء المعتدين والغرض من الاعتداء وقد أخطرت المحكمة المستشار النائب العام بصورة من البلاغات المقدمة من الدفاع الحاضر مع المتهمين عن الاعتداءات التي وقعت عليهم أثناء وجودهم تحت سيطرة أجهزة الأمن كما أرسلت صورة كاملة من جميع التقارير الطبيبة الشرعية الموقعة على المتهمين وطلبت منه اتخاذ اللازم قانونا.

ولعل هذه الشكاوي وقد شكلت اقتناعا لدى المحكمة بأن عددا من المتهمين قد تعرض لبعض الاعتداءات من جانب رجال الشرطة طبقا لما ورد بأقوالهم أمام المحكمة وطبقا لما ورد بتقارير الطب الشرعي عن الإصابات التي وجدت أثراها ببعضهم وغالبيتها طبقا لما ورد بهذه التقارير كانت أثارا لإصابات سطحية بحتة لعل كل ذلك كان السبب في أن المحكمة طرحت كثيرا من الاعترافات ولم تأخذ بها كما جاءت حيثيات الحكم وحكمت ببراءة من أدلوا بها وأحالت الموضوع برمته للنائب العام وقد انتهت النيابة العامة من تحقيقات هذه الشكاوي وأحالت عدد 44 ضابطا إلى محكمة الجنايات لمحاكمتهم عما نسبه إليهم المتهمون من وقائع ودون ما تعليق على الحكم وحيثياته بأي صورة من الصور إلا أنه للأمانة وللتاريخ لابد أن نشير إلى عدد من النقاط لمجرد الإيضاح والتسجيل

• أسارع أولا إلى التأكد بأن قصدي من هذا التعليق لا يتجه بأي صورة من الصور إلى تبرير أي عمليات تعذيب يتعرض لها أي متهم في جريمة جنائية أو سياسية فالوصول إلى الحقيقة له أساليبه العلمية القانونية والفنية التي تغني عن أي أساليب أخرى.

• أفضل كذلك أن أبدأ تعليقي بفقرتين من كتاب معالم الإسلام للمستشار محمد سعيد عشماوي عن ظاهرة التعذيب حيث ورد بها حرفيا ص69 ونظام الأمن في المجتمع ونظام الشرطة ذاته يقوم على أساس مواجهة الجريمة العادية المفردة أو الجرائم المألوفة المحدودة فإذا لجأ التطرف الديني إلى العنف والإرهاب ولا مفر من أن ينتهي إلى ذلك فإنه لابد أن يدفع بأجهزة الأمن إلى بعض التجاوزات التي تلزم لمواجهة تيار من الجرائم وشلال م العنف واتجاه إلى التدمير لا يمكن للوسائل العادية أن تواجهه ولا يتسنى للنظام الطبيعي أن يقفه والتعذيب الذي يدعي به على أفراد من أجهزة الأمن لم يقع في تاريخ مصر الحديث في أغلب الواقعات إلا ردا على درجات العنف التي بدأها التطرف الديني فالتعذيب والإرهاب وجهان لعملة واحدة وإذا كان التعذيب إرهابا لفرد أو لعصبة فإن الإرهاب تعذيب لأمة بأسرها أن التعذيب في أي طرف أمر مرفوض ممجوج والإرهاب تحت أي مسمى أمر مرفوض وممجوج كذلك غير أن الذي يحدث في مصر عادة ألا تؤخذ المسائل من وجهة نظر متكاملة تربط النتائج بالأسباب وتحكم على رد الفعل بعد ربطه بالفعل الذي أثاره نتيجة لترسبات الماضي حيث كانت السلطة الحكومية أداة في يد المستعمرين فلقد صار من المعتاد أن ينظر إلى مجرد الادعاء بالتعذيب بعيدا عمن استثاره ومجردا عن كل ظروفه واعتباره ظاهرة عامة محققة حتى من قبل صدور حكم قضائي وهو مالابد أن يوجه مشاعر عدائية تجاه رجال الأمن ثم يعمل ولو في بطء وبطريقة غير محسوسة على تجريد الأمن من فاعليته وتخويف رجال الأمن من الادعاء عليهم بالتعذيب وبقائهم رهن المحاكمات التي يعمد البعض إلى مدها سنين طويلة وتعقبه بالتهديد والتشهير والتلويح بالتأثير على مستقبلهم فيما بعد انتهى ما جاء بكتاب معالم الإسلام ولا تعليق على مضمونه فصاحبه أحد رجال القانون والقضاء ولكنني أضيف من وجهة نظري تعلقا أخر حول ما أثير من وقائع نسبت إلى الضباط في النقاط التالية:

• إن التردي الأمني الذي حدث بصفة خاصة بعد اغتال رئيس الجمهورية الراحل ثم اغتيال ما يزيد على مائة من رجال الأمن ضباط وجنودا وإصابة ما يزيد على مائة وخمسين آخرين بالرصاص والقنابل بما لم يحدث له مثيل في تاريخ مصر الحديث بما أن ضخامة هذا التردي على هذا النحو لم تحدث في أي دولة أخرى عربية أو أوربية فلم نسمع أن حاكما في هذه الدولة قد اغتيل وقتل وأصيب مئات من رجال الأمن في عمليات اعتداء تشبه العمليات العسكرية وكان واضحا تماما احتمالات التداعيات التي كان من الممكن أن تترتب على هذه الأحداث بكل ما يعينه ذلك من مآسي كان يمكن أن يتعرض لها أبرياء إلى مدى غير محسوب.

الاستفزاز

• ليس هناك شك، أن الوحشية التي تم بها اغتيال رجال الأمن وإصابة أعداد كبيرة منهم بالرصاص والقنابل سواء في أسيوط أو القاهرة والجيزة قد استفزت مشاعر أعداد كبيرة منهم إلى درجة دفعتهم إلى التحفز السريع ضد أي محاولات للمقاومة أو استعمال الأسلحة.

• إن أعداد كبيرة من المتهمين في تنظيم الجهاد قد ضبطوا سواء في الأيام الأولى لأحداث أكتوبر أو فيما بعد خلال عمليات تشبه العمليات العسكرية من حيث مقاومة رجال الأمن بالرصاص والقنابل ولا يمكن لأحد أن يتصور بأن عمليات القبض والضبط في مثل هذه الظروف وذلك المناخ ستتم بهدوء دون بعض تجاوزات من بعض رجال الأمن ضباطا وجنودا ومن المؤكد أن عددا من المتهمين قد أصيب خلال هذه العمليات ببعض الإصابات ولكن الحقيقة المؤكدة أن الخسائر كانت من نصيب رجال الأمن فهم الذين قتلوا وأصيبوا بالمئات وفي المقابل فإن مجمل ما أصاب بعض المقبوض عليهم من المتهمين ينحصر في نسبة ضئيلة مجمل ما أصاب بعض المقبوض عليهم من المتهمين ينحصر في نسبة ضئيلة منهم وجلها إصابات سطحية نتيجة انفعال بعض رجال الأمن خلال عمليات الضبط.

• ثمة حقائق أخرى هامة ثبتت في تحقيقات النيابة واعترف بها عدد من المتهمين وتشير إلى تعمد كثير من المتهمين الذين قدموا للمحاكمة إلى افتعال إصابات ببعضهم البعض بأساليب مختلفة كإطفاء السجائر في ظهورهم أو شد سير من الجلد على ظهورهم حتى تلتهب جلودهم والادعاء بعد ذلك أن هذه الإصابات نتجت من تعذيبهم للحصول على اعترافات منهم كوسيلة من وسائل الدفاع كما أن البعض الأخر الذي أصيب خلال عمليات الاشتباك مع الشرطة سواء أثناء القبض عليهم أو أثناء مشاركتهم في أعمال شغب بالسجون ادعى أيضا بأنها إصابات نتيجة التعذيب للحصول على اعترافات منهم.

حيثيات البراءة

• ونأتي في النهاية إلى حيثيات الحكم الذي أصدرته محكمة الجنيات التي حاكمت الضباط الذين أحالتهم النيابة بتهمة التعذيب وعددهم 44 ضابط فقد حكمت هذه المحكمة ببراءة جميع الضباط وجاء في حيثيات الحكم أنه ثبت في يقين المحكمة أن أعداد من الشاكين قد افتعلوا إصابات بأنفسهم وادعوا أنها حدثت نتيجة تعذيبهم كما ثبت للمحكمة أن أعدادا أخرى من هؤلاء الشاكين قد أصيبوا خلال عمليات الشرطة أثناء القبض عليهم أو أثناء اشتراكهم في أعمال شغب وادعوا أنها حدثت أثنا تعذيبهم للحصول على اعترافات ولكن هذه الأسباب وغيرها أصدرت المحكمة حكما ببراءة جميع الضباط الذين قدموا للمحاكمة.

• ذلك كان دور جهاز الأمن في التصدي لأبعاد تلك المؤامرة وتصفية خلاياها وجيوبها ثم تعليقي على ما نسب لبعض الضباط الذين شاركوا في عمليات الضبط من اتهام ظالم أو مبالغ فيه على الأقل.

• يبقى أن نسجل أن التطورات السياسية السريعة التي أعقبت حادث المنصة قد أسهمت بصورة فعالة في تأكيد هيبة الدولة وتماسك مؤسساتها وإذا كان المخططون للمؤامرة قد استهدفوا أحداث فراغ سياسي وتنفيذي خلال عملية الهجوم على المنصة كما سيأتي ذكره بعد قليل عن فشل حلقات المؤامرة فإن النجاة كتبت للقيادات السياسية والتنفيذية العليا ولم يحدث الفراغ المستهدف.

الدولة سيطرت

وبالرغم من حالة الغموض العارض التي سادت الموقف في اللحظات الأولى التي أعقبت مصرع الرئيس الراحل فإن الخطوات السياسية والدستورية التي اتخذت فور الإعلان عن وفاته أكدت بشكل حاسم قدرة مؤسسات الدولة على السيطرة على زمام الموقف المضي قدما في تنفيذ ما تقضي به مواد الدستور لنقل السلطة دستوريا في مواعيدها المقررة

وفي نفس الوقت فإن بعض المظاهر الإيجابية اقترنت بمراحل نقل السلطة دستوريا وكان لها مغزاها على مستوى الرأي العام المحلي والأجنبي وأكدت القدرة على تجاوز تلك الأزمة وتحقيق الاستقرار العام ومنها على سبيل المثال.

• الالتزام الدقيق في جميع مراحل نقل السلطة بما نصت عليه مواد الدستور شكلا موضوعا وفي مواعيدها المقررة تماما مع وضع الرأي العام في الصورة الكاملة بجميع الخطوات التي اتخذت.

• حالة الوجوم المبدئية التي أصابت الرأي العام في كتلته الجماهيرية مريضة في اللحظات التالية لعملية المنصة والتي تحولت بعد وقت قليل إلى مظهر من الرفض العام للمجهول الذي كانت البلاد ستساق إليه في حالة نجاح المؤامرة.

• ذلك الاستفتاء التاريخي الذي أجرى على ترشيح الرئيس مبارك رئيسا للجمهورية ودلالته التي سنعرض لها بالتفاصيل في الفصل الأخير عن البعد الديمقراطي في الممارسة السياسية بعد أكتوبر 1981. يبقى بعد ذلك أن نستعرض بالتفصيل الحلقات التي خطط لها لتتداعى حلقة بعد أخرى تصورا بأن اكتمالها يمكن أن ينتهي بإشعال تلك الثورة التي أرادها المخططون كهدف نهائي لهم وهو ما نعرض له في الجزء التالي:

-6-

حلقات المؤامرة وأسباب فشلها

أن دافعنا إلى تناول حلقات هذه المؤامرة كما توقعها المخططون يرجع في حقيقة الأمر إلى عدة اعتبارات أولها هو أهمية ذلك الحدث التاريخي الذي أودى بحياة رئيس الدولة وكاد يعرض المجتمع إلى الانهيار بكل ما يعنيه ذلك من خسائر غير محدودة كانت ستلحق بمواطنين أبرياء فضلا عن الأضرار الكبرى التي كانت ستلحق بالاقتصاد القومي ودافعنا ثانيا أن عددا من الكتاب قد تناولوا الموضوع من زوايا متعددة ليس من بينها هذه الزاوية فالبعض تصور أن الهدف كان مجرد اغتيال رئيس الجمهورية الراحل وتناول الموضوع من هذه الزاوية بما تشمله من أبعاد سياسية تتفق مع اقتناع الكاتب السياسي أو موقفه من نظام الرئيس السادات والبعض الآخر تناول الموضوع دون ربطه بجذوره أو أهدافه النائية وقد وصل الأمر إلى أن كثيرا من قطاعات المواطنين وفي مقدمتهم أعداد كبيرة من المثقفين بل أجزم أن عددا من القيادات التنفيذية مازال حتى الآن ينظر إلى المسألة عن أنها مجرد عملية اغتيال لرئيس الجمهورية الراحل وشغب من بعض طلبة مدينة أسيوط وهكذا كادت الحقيقة تطمس ويضيع معها معالم حدث من أهم الأحداث الداخلية في التاريخ الحديث من حيث أبعاده والأضرار التي كان يمكن أن تصيب المجتمع فيما لو انتهى إلى أغراضه النهائية بجانب ما تمثله أبعاد الحدث من حيث أهداف التيار المتطرف الذي خطط له من مخاطر مستقبلية على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل حقيقة تؤكد استمرار هذا التيار في منهجه وأسلوبه وتدبيره.

وفي ضوء كل ذلك فإننا نتناول حلقات هذه المؤامرة موضحين أسباب فشلها حلقة بعد أخرى وهو ما نتناوله فيما يلي:

1- سبق الإشارة إلى أن التخطيط لمؤامرة أكتوبر لم يكن تخطيطا عشوائيا أو متعجلا وإنما امتد هذا التخطيط إلى مرحلة طويلة سبقت البدء في التنفيذ الفعلي وكان من أهم ملامح هذا التخطيط هو تهيئة مناخ طائفي متوتر يدفع طرفي الوحدة الوطنية المسلمين والأقباط إلى التحفز في مواجهة بعضها البعض وقد نجح التخطيط لهذا الهدف في تحقيقه على درجة ملحوظة من خلال الأحداث الطائفية المتكرة التي أشرنا إلى بعضها كذلك من خلال تجسيم دور الكنسية القبطية فيما يتصل بتجاوزات دورها الديني إلى دور سياسي وانتهى الأمر في النهاية بعد أن تصاعدت حدة التوتر الطائفي إلى إصدار قرارات سبتمبر التي شملت بطريرك الأقباط ووضعه تحت التحفظ في أحد الأديرة كذلك بعض القيادات الإسلامية كمرشد جماعة الإخوان المسلمين أو بعض المساجد.

أهداف الثورة الإسلامية

ولقد تعمدت أن أبدأ الحديث عن حلقات مؤامرة أكتوبر بدءا بتلك الزاوية التي تتعلق بتركيز التخطيط على خلق ذلك المناخ المتوتر على المستوى الجماهيري العام كحلقة أولى لأن هذا الهدف لم يكن منفصلا عن الغاية النهائية للمؤامرة فقد كانت تلك الغاية تنحصر أولا وأخيرا في إشعال ما سمي بالثورة الإسلامية في صورة انطلاقة جماهيرية عارمة لجماهير المسلمين من منطلق ديني بصفة أساسية وصولا جماهيرية عارمة لجماهير المسلمين من منطلق ديني بصفة أساسية وصولا إلى تعيين مجلس العلماء لتولي المسئولية السيادية في نهاية المطاف ولقد تحددت شخصيات هذا المجلس بصفة تقريبية واختير أحد أعضاء مجلس قيادة ثورة يوليو السابقين ممن لهم اتجاه ديني لرئاسة هذا المجلس بشكل مبدئي ومقت لمجرد المظهر الشكلي التكتيكي أمام الرأي العام بصفة عامة والقوات المسلحة بصفة خاصة.

• بل إن التدبير لتفجير الموقف الديني في اللحظات المناسبة لتداعي الموقف قد وصل إلى التفكير في أحداث تفجير في المشهد الحسين ومشهد السيدة زينب وبطريريكة الأقباط في يوم واحد لكي تشتعل حماس المسلمين والأقباط في مواجهة بعضهم البعض تأكيدا للبعد الديني للثورة ووصل التدبير في ذلك الموضوع إلى حد أن أحد المتهمين وهو عضو قيادي بتنظيم الجهاد نبيل المغربي) سعي إلى دخول بطريريكة الأقباط تحت دعوى عضويته في جمعية وهمية باسم جمعية الإخاء بين المسلمين والأقباط بهدف معاينة البطريركية من الداخل تمهيدا لعملية التفجير المنتظرة 2- تحددت الحلقة الثانية للمؤامرة بعد تنفيذ قرارات سبتمبر عندما تصور المخططون أن الموقف الداخلي برمته على حافة هاوية ويحمل قدرا من شحنات التفجير تكفي أي شرارة لكي يشتعل الموقف بأكمله وتتهيأ الفرصة الفريدة عندما تقرر اشتراك الملازم خالد الإسلامبولي في العرض العسكري وعندئذ تقرر تنفيذ الحلقة الثانية المتمثلة في حادث المنصة.

هل الجو مهيأ؟

• وهنا لابد أن يطرح تساؤل هام: هل كان الرأي العام في أغلبيته مهيأ فعلا للانقياد التلقائي عن اقتناع ورضا بأهداف القائمين بتلك المؤامرة أو بأهداف الحركة الدينية السياسية بصفة عامة؟ ولعل الإجابة عن ذلك التساؤل ليس على درجة م السهولة كما يتصور البعض فثمة دلائل كثيرة تشير إلى أن المخططين ومن ساندهم فكريا قبل فترة طويلة من حادث المنصة كانوا يضعون في اعتبارهم الاحتمالات التالية:

أولا: أن التوتر الطائفي الذي تحقق على مستوى الرأي العام الإسلامي والقبطي سيدفع جميع أجنحة التيار الديني السياسي للمشاركة في الانطلاقة الجماهيرية المخطط لها.

ثانيا: أن جمهورا غير قليل سيتعاطف مع هذه الانطلاقة وستحفزه على ذلك الشعارات الدينية التي سترفعها أجنحة ذلك التيار خصوصا بعد استنفار غالبية القوي السياسية المعارضة التي شملتها قرارات سبتمبر.

ثالثا: أن جمهورا غير قليل سيتعاطف مع هذه الانطلاقة وستحفزه على ذلك الشعارات الدينية التي سترفعها أجنحة ذلك التيار خصوصا بعد استنفار غالبية القوى السياسية المعارضة التي شملتها قرارات سبتمبر.

ثالثا: أن الواقع سيفرض نفسه في النهاية على الأغلبية الصامتة أو الساكتة عندما تتحقق التداعيات التي ستفرزها تلقائيا بقية حلقات المؤامرة

وفي ضوء كل ذلك تقرر البدء في تنفيذ ثانية الحلقات المتمثلة في حادث المنصة وكان الهدف الأساسي فيها هو أحدا فراغ سياسي وتنفيذي يهيئ الأمور لتداعيات تالية سنعرض لها بعد قليل.

القيادات كانت مستهدفة

• وكما سبق القول فإن حادث المنصة لم يستهدف الرئيس الراحل فقط كما تصور بعض الأقلام التي تعرضت لهذا الموضوع وكما ركزت بعض الشائعات التي أطلقها عناصر تنتمي لذلك التيار بصفة خاصة نعم كان الرئيس الراحل مستهدفا كأولوية أولى باعتباره قمة النظام، ولكن بقية القيادات العليا السياسية والتنفيذية وجميعها كانت تجلس في الصف الأول حول الرئيس الراحل كانت مستهدفة بصفة أساسية أيضا ودليلنا على ذلك عدد من الحقائق التي يؤيدها المنطق البسيط والعلمي ... ثم النتائج التي أسفر عنها حادث المنصة وأول هذه الأدلة أن ثلاثة قنابل ألقيت على الصفوف الأولى للمنصة وقد انفجرت أحداها ولم ينفجر اثنتان لسبب خارج عن إرادة مجموعة الاغتيال والمعروفة منطقيا وعلميا أن القنابل تحدث لدى انفجارها أثرا تدميريا في دائرة إلقائها دون أي سيطرة من الملقي وكان من المقدر بديهيا في حالة انفجار القنابل الثلاثة التي ألقيت على الصفوف الأولى للمنصة أن تحدث أثرا تدميريا وقاتلا لمجموعة القيادات العليا التي كانت تحيط برئيس الجمهورية الراحل في هذه الصفوف وثانيا فإن وابل طلقات الرصاص الذي أطلق على الصفوف الأولى وإن كان في جانب منه قد ركز على موقع رئيس الجمهورية الراحل إن جانبا كبيرا أخر وجه إلى موقع بقية الحضور في المنصة في المنطقة المحيطة برئيس الجمهورية بطريقة عشوائية ويؤكد ذلك أن جميع من قتلوا أو أصيبوا كانوا في مواقع قريبة وملاصقة لرئيس الجمهورية والدليل الأخير إن المجموعة التي اقتربت في النهاية من المنصة وكانت ذخيرتها قد أوشكت على النفاد وطلقوا ما تبقى لديهم في اتجاه المنطقة المحيطة مباشرة برئيس الجمهورية الراحل لتأكيد عملية الاغتيال وكان يجلس فيها القيادات العليا السياسية والتنفيذية

3- كانت النتيجة بعد كل ذلك أن ثانية الحلقات لم تحقق غايتها في أحداث فراغ سياسي وتنفيذي شامل بعد أن تدخل القدر وانحصر الأمر في اغتيال رئي الجمهورية بينما نجت بقية القيادات العليا ومع ذلك فهل يئس المخططون وقرروا التوقف أم قدروا أن اغتيال رئيس الجمهورية يمكن أن يحدث قدرا من الفراغ السياسي الذي يتيح لهم المضي في تنفيذ بقية الحلقات؟

إذاعة بيان الثورة

• ثم كانت الحلقة الثالثة هي إذاعة بيان الثورة الإسلامية بعد نجاح عملية الاغتيال في المنصة لكي تتلوها مهاجمة مبنى التليفزيون والإذاعة لإذاعة بيان الثورة وكان من المقرر طبقا للخطة الموضوعة الاستعانة بأسلحة أحدى الوحدات العسكرية التي خطط للاستيلاء عليها بمعاونة أحد الصولات الذي تم استقطابه للتنظيم مسبقا وعهد إليه بحكم رئاسته لقوة الحراسة تخدير قوة الحرس من خلال تقديم حلوى لهم وضع عليها كمية من مادة مخدرة أعدها خصيصا صيدلي من أعضاء التنظيم وأعدت فعلا المجموعة التي كانت ستقوم بالاستيلاء على هذه الأسلحة ونقلها بسيارة أعدت لهذا الغرض إلى مجموعة أخرى كانت تنتظر بقرب منى التليفزيون بماسبيرو وبرئاسة الضابط عبود الزمر وكان من المقرر طبقا للتخطيط الموضوع أن تتم إذاعة بيان الثورة بعد نجاح عملية اقتحام مبنى التليفزيون بمعرفة بعض العاملين في داخل المبنى ممن تم استقطابهم لعضوية التنظيم لكي يقوموا بضم القنوات وإذاعة بيان مسجل سبق تسليمه إليهم وكانت إذاعة هذا البيان هي الإشارة لمجموعات التنظيم في جميع المحافظات للبدء في تنفيذ الحلقة التالية والتي سنتحدث عنها بعد قليل.

• ولكن هل نجح المنفذون في تنفيذ خطوات هذه الحلقة؟ لقد فشلت أولا عملية الاستيلاء على أسلحة تلك الوحدة العسكرية نتيجة عدم تأثير المخدر بجانب عزوف المجندين عن تناول الحلوى نتيجة تغير مذاقها بسبب زيادة كمية المخدر ثم فشلت ثانيا عمليا مهاجمة مبنى التليفزيون بمعرفة المجموعة الاحتياطي التي استعدت بالقرب منه نتيجة الإجراءات الأمنية العاجلة التي اتخذت بتعزيز الحراسة على المبنى كما سبق الإيضاح في اللحظات الأولى التي تلت عملية المنصة ونتيجة لعدم إذاعة بيان الثورة فقد أصاب الشلل المؤقت بقية مجموعات التنظيم عن المضي في تنفيذ الحلقة التالية طبقا للمخطط الموضوع ومع ذلك فهل استمر ذلك الشلل وعدل عن المضي في تنفيذ بقية الحلقات أم حاولوا الاستمرار ثانيا؟

الإصرار على المضي في المؤامرة.

4- كان من المنطقي بعد فشل الحلقة الثالثة من المخطط أن يتوقف المخططون عن المضي في تنفيذ الحلقة التالية والتي تعتبر في حقيقة الأمر من أهم حلقات التنفيذ لاقترابها من الغاية النهائية للمؤامرة وهي إشعال الثورة الإسلامية ولكن هذا التوقع المنطقي لم يحدث وإنما بدأت عناصر التنظيم أولى مراحل الحلقة الأخيرة في اليوم التالي مباشرة لعملية المنصة وتشير كثير من الشواهد والاستخلاصات التي كشفت عنها أقوال قيادات المتهمين في تحقيقات النيابة ثم أمام محكمة أمن الدولة العليا كذلك من المضبوطات التي ضبطت أن الإصرار على المضي في تنفيذ الحلقة الأخيرة من المؤامرة كان يستند من وجهة نظر قيادات التنظيم على العوامل التالية.

• أن هناك انتشار فاعلا لعناصر التنظيم على مستوى عدد كبير من المحافظات يمكن أن يكون له تأثير ملحوظ في حالة التحرك الجماعي وأن هذا التحرك سيعضده بطبيعة الحال عدد غير قليل من جمهور المتعاطفين فضلا عن دور الغوغاء التلقائي في مثل هذه الظروف كما أكدت سوابق كثيرة عند وقوع أعمال تظاهر وشغب وعنف وأقربها إلى الذاكرة أحداث حريق القاهرة 1952 وأحداث يناير 1977

• أن أحد الأهداف الرئيسية لحلقات المؤامرة السابقة على الحلقة الأخيرة كانت تهدف إلى إسقاط هيبة الدولة وكسر حاجز الخوف لدى المواطنين من قدرة أجهة الأمن على التصدي لأي تحرك جماهيري عام وإذا كانت عملية المنصة لم تحقق جميع أهدافها واقتصر الأمر على اغتيال رئيس الدولة وعدد من الشخصيات الأخرى غير المؤثرة على المستوى السياسي والتنفيذي فإن النجاح في اغتيال رئيس الدولة لابد أن يكون قد أسقط جانبا من هيبة الدولة لا يستهان به فضلا عن أنه أحدث ارتباكا في أجهزة الدولة يجب استثماره على وجه السرعة بعملية أخرى تحقق مزيدا من إسقاط هيبة الدولة حتى ينكسر تماما حاجز الخوف على المستوى.

• الجماهيري العام وحتى تندفع الجماهير في الحركة لإشعال تلك الثورة الإسلامية ومن المؤكد أن قيادات وعناصر التنظيم قد وضعت في اعتبارها عندما قررت المضي في تنفيذ خطوات هذه الحلقة الأخيرة فاعلية ما أعدته من أسلحة وذخيرة ومتفجرات بلغت المئات كما سبق الإشارة إليه وكان التصور لدى المخططين أن الاستعانة بهذه الإمكانات الضخمة من الأسلحة والمتفجرات والذخيرة سيتيح لعناصر التنظيم في عدد من المحافظات وخاصة في محافظتي القاهرة والجيزة وبعض محافظات الوجهين القبلي والبحري أن تحقق نتائج مؤثرة من الخسائر والتخريب في مواجهة أجهزة الأمن لتؤكد مزيدا من إسقاط هيبة الدولة فضلا عن الأثر النفسي الذي سيتحقق على المستوى الجماهيري العام ليدفعها إلى التجاوب مع هذا الاتجاه.

العنف يتوالى

وانطلاقا من هذا الاقتناع بدأت عمليات العنف تتوالى في الأيام التالية مباشرة لعملية المنصة وكانت أولاها إلقاء قنبلة على معسكر قوات الأمن بمنطقة شبرا بالقاهرة يوم 7 أكتوبر ثم اغتيال أحد ضباط مباحث أمن الدولة عندما توجه لضبط

العنف يتوالى وانطلاقا من هذا الاقتناع بدأت عملية العنف تتوالى في الأيام التالية مباشرة لعملية المنصة وكانت أولاها إلقاء قنبلة على معسكر قوات الأمن بمنطقة شبرا بالقاهرة يوم 7 أكتوبر ثم اغتيال أحد ضباط مباحث أمن الدولة عندما توجه لضبط أحد عناصر التنظيم بمنطقة شبرا بالقاهرة ثم بلغت ذروتها بعد 48 ساعة بأحداث أسيوط والتي وصلت إلى درجة من الجرأة والعنف لم يسبق أن حدثت في التاريخ الأمني بمصر.

ومن السذاجة أن يتصور أحد أن تلك الأحداث وقد أشرنا فيما سبق إلى حجم الخسائر البشرية التي ألحقتها بقوات الأمن فضلا عن احتلال مقر القيادة العليا للشرطة بالمحافظة كانت بلا هدف إلا اغتيال أعداد من رجال الأمن فإن المنطق وجميع الشواهد وأقوال المتهمين أمام النيابة وأمام محكمة أمن الدولة العليا تؤكد أن تلك العمليات كانت بمثابة رسالة ذات شقين أولهما لعناصر التنظيم بالمحافظات الأخرى وخاصة القاهرة والجيزة كعاصمة للدولة وتضم أكبر كثافة سكانية لكي يبادروا بعمليات مماثلة مستعينين بما لديهم من أسلحة ومتفجرات وذخائر وثانيهما إلى جمهور المتعاطفين بصفة خاصة والغوغاء بصفة عامة لاجتياز حاجز الخوف من قدرات الدولة وأجهزتها للتحرك في صورة مظاهرات وأعمال عنف شاملة لينتهي الأمر بإشعال الثورة الإسلامية.

قوائم الاغتيالات

ولعل أضيف هنا ملاحظة جانبية أتصور أن مجالها الآن بعد أن وصلنا إلى هذه المرحلة من تنفيذ حلقات المؤامرة فقد كان من بين المضبوطات التي ضبطت أثناء عمليات المواجهة الأمنية كثير من المضبوطات الخطية عن التخطيط ومراحل التنفيذ والخطوات التي ستتخذ بعد نجاحها وكن من بين ما ضبط من مستندات الكشوف التي تضم عددا من الشخصيات القيادية في جميع الأحزاب الشرعية وعددا أخر من الشخصيات السياسية والتنفيذية المقرر اغتيالهم بعد نجاح الثورة.

وبطبيعة الحال فإن القيادات الحزبية لم تكن تدري أي شيء عن أسمائها المدونة بالكشوف المرشحة للاغتيال وكانت تتعاطف مع هذا التيار سواء قبل قرارات سبتمبر أم بعدها وكأنها كانت تقدم أعناقها له لقمة سائغة ولعل هذه الحقيقة في حد ذاتها توضح دون لبس أو غموض النظرة المستقبلية لعناصر هذا التنظيم وغيره من مجموعات التيار الديني السياسي لمنطق الممارسة السياسية أو أسلوبها في مواجهة من ستعتبرهم من الخصوم ولكنني أشير هنا إلى هذه الحقيقة لمجرد الذكرى فهي تنفع المؤمنين.

نهاية تهاوي حلقات المؤامرة

ونعود ثانيا إلى حديثنا السابق عن الرسالة التي استهدفتها أحداث أسيوط وغيرها من متفرقات الحوادث الأخرى فهل وصلت الرسالة لقد أوضحنا فيما سبق كيف كانت أجهزة الأمن تسابق الزمن لكي تتساقط خلايا التنظيم بأسلحتها وقنابلها وذخيرتها يوما بعد يوم وكان هذا التساقط سريعا إلى الدرجة التي دفعت بعض الخلايا إلى إلقاء مئات القنابل بإحدى الترع بمحافظة الجيزة، وكان كل ذلك من علامات نهاية حلقات المؤامرة وعزز من كل ذلك تلك التطورات السياسية والدستورية التي أشرنا إليها فيما سبق.

وإذا استعرضنا جانبا من الفقرات المستخلصة حرفيا من حيثيات حكم محكمة أمن الدولة العليا التي نظرت هذه القضية سنرى أن ما ورد بها يتفق تماما مع ما وصلنا إليه من تحليل واستخلاص اعتمد في جميع دقائقه على المعايشة اليومية لتطورات هذه الأحداث والخلفيات التفصيلية لوقائعها وهو ما نعرض له فيما يلي:

حيثيات الحكم

فقرات من واقع حيثيات حكم محكمة أمن الدولة العليا:

حيث إن النيابة العامة اتهمت المذكورين بعد (302 متهم) لأنهم خلال عامي 1980، 1981 بجمهورية مصر العربية وخارجها:

أولا: المتهمون من الأول حتى التاسع والتسعين بعد المائتين عدا المتهمين من 162 حتى 166 حاولوا بالقوة تغيير دستور الدولة وشكل الحكومة فيها وقلب نظامها الجمهوري بأن ألفوا فيما بينهم جماعة إرهابية مسلحة تولي زعامتها المتهمون الاثنا عشر الأولون وتولى المتهمون من رقم 13 حتى 29 ومن رقم 04 حتى 131 قيادات فيما تقوم على تكفير رئيس الجمهورية ومعاونيه وإباحة اغتيالهم وتستهدف إسقاط الحكومة القائمة عن طريق القيام بثورة مسلحة للاستيلاء على زمام الحكم في البلاد بالقوة ودبروا لتنفيذ مخططهم لاغتيال كبار المسئولين في الدولة والقيادات السياسية والعسكرية والشخصيات العامة والتعدي على أفراد قوات الأمن بسرقة أسلحتهم وشل مقاومتهم لهم أثنا تحركهم واحتلال مباني وزارة الدفاع ووزارة الداخلية والإذاعة والتليفزيون والسنترالات التليفونية وغيرها من المباني العامة والحكومية لأحكام السيطرة على البلاد وإعلان بيانات الاستيلاء على السلطة وتوجيه أفرادهم من خلالها وقد نفذوا مخططهم باغتيال عدد من المسئولين أثناء مشاهدتهم العرض العسكري للقوات المسلحة احتفالا بذكر انتصارها في السادس من أكتوبر.

كما حاولوا تخدير جنود الحراسة على مخزن أسلحة لإحدى الكتائب العسكرية لسرقة ما به من أسلحة واستخدامها في احتلال مبنى الإذاعة والتليفزيون والسيطرة عليه لإذاعة بيانات تفيد نجاح جماعتهم في الاستيلاء على الحكم واقتحموا مقار الشرطة والمباني العامة الحكومية بمدينة أسوط وقتلوا وشرعوا في قتل عدد من ضباط وجنود الشرطة فيها واستولوا على أسلحتهم بغية السيطرة على المدينة وخططوا لقذف السيارات الحاملة لجنود الأمن المركزي الموجودة بميادين وشوارع القاهرة والجيزة بالمواد المفرقعة توصلا لشل مقاومتهم لهم وليتمكنوا من الاستيلاء على ما يحمله الجنود من أسلحة وذخائر وأحبطت محاولتهم مقاومة الأمن والشرطة لهم وضبطهم وتسلموا وقبلوا مبلغ 21 ألف دولار أمريكي 10400 مارك ألماني 126 ألف جنيه مصري من بعض المتهمين وآخرين من المقيمين بالخارج وكان ذلك في سبيل ارتكاب الجرائم التي خططوا لها.

تنظيم فرج

وحيث إن واقعة الدعوى كما استقرت في يقين المحكمة واطمأن إليها وجدانها مستخلصة من الأوراق وما تم فيها من تحقيقات بالنسبة لعدد 110 متهمين من مجموع المتهمين.

- تأسيس تنظيم المتهم محمد عبد السلام فرج (إعدام)

في أوائل عام 1979 فكر المتهم محمد عبد السلام فرج المهندس بإدارة جامعة القاهرة في إنشاء تنظيم غير مشروع ذي طابع شبه عسكري وذلك بإنشاء جماعة إرهابية سرية الغرض منها الدعوة إلى مناهضة المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة والمنصوص عليها في دستور جمهورية مصر العربية الصادر في 11 سبتمبر عام 1971 والتحريض على مقاومة السلطات العامة وذلك بعد أن لاحظوا أن تطبيق بعض المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة أدى إلى انتشار الفساد والإفساد في المجتمع والابتعاد عن تطبيق شرع الله برغم أن المادة الثانية من الدستور تنص على أن الإسلام دين ودولة ومبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع وبعد أن استقر فكر محمد عبد السلام فرج على إنشاء هذه الجماعة الإرهابية السرية وضع مستودع فكره في كتيب أعطاه عنوان الفريضة الغائبة استخلصه من قراءاته لبعض كتب السلف وطبع منه خمسمائة نسخة ويخلص هذا الفكر في أن طواغيت هذه الأرض لن تزول إلا بقوة السيف وأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد بشر بإقامة الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة وأن إقامة الدولة الإسلامية أمر من أوامر المولي واجب على كل مسلم بذل قصارى جهده لتنفيذها كما أن حكم إقامة شرع الله على هذه الأرض فرض على كل مسلم وبالتالي فإن أحكام الله فرض على المسلمين وإقامة الدولة الإسلامية فرض على المسلمين لأن مالم يتم الواجب إلا به فهو واجب أيضا وأنه إذا كانت الدولة الإسلامية لن تقوم إلا بالقتال وجب على المسلمين القتال ثم عقد مقارنة بين حكام التيار وحكام اليوم وانتهى إلى أن صفات حكام التيار هي ذات صفات حكم العصر وحاشيتهم الموالية لهم الذين عظموا أمر الحكام أكثر من تعظيمهم لخالقهم وانتهى إلى وجوب الخروج على الحاكم وأن القتال الآن فرض على كل مسلم وأنه يجب على المسلم أن يعد نسه للجهاد في سبيل الله وأن ترك الجهاد هو السبب فيما يعش فيه المسلمون اليوم من ذلك ومهانة وتمزق وأن المسلمين أحرار في اختيار أسلوب القتال المناسب وأن يحققوا النصر بأقل الخسائر وأيسر السبل.

تنظيم الرحال

-تأسيس تنظيم محمد سالم الراحل (أردني – أبعد خارج البلاد قبل الأحداث بشهرين)

وفي ذات الوقت الذي كان المتهم محمد عبد السلام فرج يدعو فيه إلى تأسيس تنظيمه الحزبي غير المشروع ذي الطابع شبه العسكري لمناهضة المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة والتحريض على مقاومة السلطات العامة والقيام بثورة شعبية لإقامة الدولة الإسلامية كان المتهم محمد سالم الرحال الطالب بجامعة الأزهر ويقيم برواق الشوام) يسعى بدوره لتأسيس تنظيم آخر يقوم على ذات الفكر الذي يدعو إليه محمد عبد السلام فرج ولكن عن طريق مختلف وهو الانقلاب العسكري وبدأ محمد سلام الراحل في وضع أسس هذا التنظيم ومقوماته ولائحته ومنهاجه للوصول إلى الحكم وتجميع معلومات عن بعض الشخصيات العاملة في أجهزة الدولة واستمر محمد سالم الرحال في اتصالاته واجتماعاته لدعوة بعض الشباب للانضمام إلى التنظيم الذي أسسه إلى أن أمرت سلطات الأمن بترحيله خارج البلاد ي شهر يوليو سنة 1981 واستكمل كمال السعيد حبيب هذا النشاط ملتزما ذات المنهج الفكري لمحمد سالم الرحال.

دور عبود الزمر

وضع خطة التنظيم وجمع المعلومات وأحكام السرية:

- في شهر فبراير سنة 1981 بدأ عبود الزمر كان ضابط بالقوات المسلحة بالمخابرات الحربية في وضع خطة التنظيم لتحقيق أغراضه وهي مناهضة المبادئ التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة والتحريض على مقاومة السلطات العامة بهدف إقامة الدولة الإسلامية وتتلخص هذه الخطة في إعداد مجموعة من الأفراد المدنيين وتدريبهم إلى مستوى معين إعداد عدة من الأسلحة تمكن من القيام بعمليات أحكام على بعض الأهداف الرئيسية والقيام باغتيال بعض القيادات السياسية وتنفيذ الثورة الشعبية من خلال توجيه مظاهرات شعبية ثم بعد ذلك اختيار مجلس علماء ومجلس شورى من علماء المسلمين يتولون بعد تفجير الثورة أمر البلاد.

- وفي سبيل تنفيذ هذه الخطة قاموا بتدريب أعضاء التنظيم على النحو الذي سبق إيضاحه ثم بدأوا في جمع المعلومات عن بعض الشخصيات على التفصيل التالي:

- قام عبود الزمر بجمع المعلومات عن تحركات رئيس الجمهورية السابق ومكان استقراره في استراحته بالقناطر الخيرية.

- كلف عبود الزمر أحد أعضاء التنظيم بجمع المعلومات عن مبنى الإذاعة والتليفزيون.

- وقام ذلك العضو بذلك بأن تمكن من دخول المبنى بحجة زيارة صديق وعاين المبنى من الداخل كما اتصل بأحد العاملين الجهاز (مهندس صوت) وحصل منه على بعض المعلومات ونقلها إلى عبود الزمر.

- كما كلف عبود الزمر أحد عناصر التنظيم بالحصول على معلومات عن مبنى وزارة الداخلية ومقر مباحث أمن الدولة ومقر الأنبا شنودة بالكاتدرائية وقام بتنفيذ ذلك.

- كما قام عبود الزمر بتكليف بعض عناصر التنظيم بجمع معلومات عن قائد الحرس الجمهوري وقائد الأمن المركزي ومنزل نائب رئيس الجمهورية.

- وبدأ عبود الزمر بعد ذلك في وضع الخطط اللازمة لاغتيال القيادات السياسية.

- ولما كان استعمال القوة والعنف والإرهاب ملحوظا في إنشاء التنظيم الحزبي غير المشروع لذلك وجه مؤسسوه وأعضاؤه اهتماما ملحوظا نحو إحراز القنابل والمتفجرات والأسلحة السالفة والأسلحة البيضاء من سيوف وسونكات وخناجر ومطاوي وبلط وسكاكين وتجدر الإشارة هنا إلى حجم تلك المفرقعات والأسلحة فقد ضبط مئات من القنابل ومئات من المدافع الرشاشة ولبنادق والطبنجات بما فيها الأسلحة التي سرقت من الشرطة وعشرات الكيلو جرامات من الديناميت ومادت T.N.T شديدة الانفجار كميات غير محدودة من الذخيرة قذائف R.B.G التي يمكن أن تهدم مباني كميات كبيرة من الأسلحة البيضاء.

- تلك كلها مقتطفات وردت حرفيا في حيثيات حكم محكمة أمن الدولة العليا عن إجماليا خطة مؤامرة أكتوبر سنة 1981 ومازال من المهم أن نتناول بعض مقتطفات أخرى من هذه الحيثيات لإلقاء مزيد من الضوء على تفصيلات أكثر إيضاحا لأبعد ذلك الحدث وهو ما نتناوله في الفقرات التالية:

تعليمات بالاختفاء

عقب ضبط عضو التنظيم الذي أبلغ عنه سائق التاكسي على النحو السابق إيضاحه وما تبين من صلته بعبود الزمر الضابط بإدارة المخابرات الحربية وما أسفر عنه تفتيش منزل ذلك الضابط من ضبط عدد كبير من الأسلحة النارية والذخائر يوم 25/5/1981 فقد أدت هذه الإجراءات على أن صدرت تعليمات إلى جميع أعضاء التنظيم بحلق اللحى والهروب من مساكنهم مع مداومة الاتصال فيما بينهم لتدبير الأمر وقد أسفرت هذه الإجراءات عن اتحاد إرادة باقي أعضاء التنظيم الذين لم يتم التحفظ عليهم على التعجيل بتحقيق هدف التنظيم من إنشاءه وهو إقامة الدولة الإسلامية بمحاولة تغيير دستور الدولة وشكل الحكومة فيها وقلب نظامها الجمهوري بالقوة.

خطة اغتيال السادات

في يوم 28 سبتمبر سنة 1981 حضر كل من كرم محمد زهدي وفؤاد محمود حنفي وعاصم عبد الماجد وأسامة إبراهيم حافظ إلى منزل عبد الحميد عبد السلام عبد العال أحد أفراد المجموعة التي نفذت عملية المنصة وإعدام والتقوا بكل من محمد عبد السلام فرج وخالد أحمد شوقي الإسلامبولي فعرضا عليهم خطة الاغتيال التي وضعها الأخير فوافقوا عليها وانعقدت إرادتهم على تنفيذ الخطة بالتفاصيل التي عرضت عليهم على أن يقوموا بإمدادهم بالذخيرة اللازمة لتنفيذ عملة الاغتيال وبعد أن عرضت خطة اغتيال رئيس الجمهورية السابق على الحاضرين عرض محمد عبد السلام فرج إنه سوف يقوم بواسطة مجموعات القاهرة والجيزة بمهاجمة الإذاعة والتليفزيون وغرفة عمليات القوات المسلحة بهدف السيطرة على مدينة القاهرة على أن يقوم أعضاء التنظيم بالوجه القبلي بالسيطرة على مدينة أسيوط بمجرد سماعهم صوت الأعيرة النارية وانقطاع الإرسال ثم يزحفون على المحافظات البحرية للسيطرة عليها وذلك لتأييد الثورة الإسلامية وانتهى الاجتماع بموافقة الجميع على الخطة بجميع مراحلها.

كسر حاجز الخوف

وتنفيذا لما انعقد عليه إجماع أعضاء التنظيم على الوجه السابق إيضاحه وضع عبود الزمر خطة لكسر حاجز الخوف أمام الشعب لا مكان تحريكه يوم 6 أكتوبر وذلك بضرب سيارات جنود الأمن المركزي المتمركزة في ميادين الجيزة والدقي والتحرير بالمفرقعات وكلف بعض القيادات بإرسال المجموعات التابعة لهم لتنفيذ التكليف وسلمها عددا من القنابل اليدوية والعبوات الناسفة التي صنعها.

بعد أن انتهى محمد سالم الرحال من تأسيس تنظيمه الحزبي غير المشروع ذو الطابع شبه العسكري لمناهضة المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة والتحريض على مقاومة السلطات العامة تمهيدا لإقامة الدولة الإسلامية عن طريق الانقلاب العسكري بدأ ممارسة نشاطه غير المشروع والمتمثل في ضم عناصر إليه من رجال القوات المسلحة ثم بدأ التنظيم في جمع الأسلحة النارية والذخائر والقنابل والمفرقعات وتخزينها لاستعمالها في الوقت الذي يحدده محمد سالم الرحال.

اعترافات خطيرة

ذكر محمد عبد السلام فرج في أقواله أن المتهم عبود عبد اللطيف الزمر وضع خطة للسيطرة على الدولة وإقامة الدولة الإسلامية وتتلخص في قتل الشخصيات القيادة وتحريك ثورة شعبية واحتلال الأماكن الحساسة وأن يقوم أعضاء التنظيم بالوجه القبلي بثورة شعبية في الصعيد وقام عبود الزمر بعرض الخطة على أعضاء مجلس الشوري المستوى الأعلى في التنظيم فوافقوا عليها وأنهم بدأوا يجمعون معلومات عن الشخصيات التي سيتم اغتيالها ومنها رئيس الجمهورية ووزيرا الدفاع والداخلية ورئيس أركان القوات المسلحة وقائد الأمن المركزي وأن التنظيم اتخذ قرارا بتدريب أعضائه على استعمال السلاح منذ خمسة أشهر سابقة.

قرر عبود عبد اللطيف الزمر في أقواله أنه وضع خطة عامة تتلخص في أعداد مجموعة من الأفراد وتدريبهم وأعداد عدة من الأسلحة للقيام بعمليات أحكام على بعض الأهداف وقتل بعض الشخصيات القيادية السياسية وتفجير الثورة الشعبية من خلال توجيه مظاهرات واختيار مجلس شورى ومجلس علماء وبدأ في تنفيذ الخطة بجمع المعلومات كما وضع منهجا للأمن استقاه من خدمته كان يدرسه المسئولون عن الجماعات لأعضاء التنظيم واعد شفرة خاصة بالتنظيم لاستخدامها في تبادل الرسائل.

الفريضة الغائبة.. خوارج

تناولت المحكمة بعد ذلك استعراضا للتقرير الذي أرسله الشيخ جاد الحق على جاد الحق مفتي الجمهورية وشيخ الأزهر بعد ذلك عن رأيه في كتيب الفريضة الغائبة ونوجز فيما يلي بعضا مما ورد في حيثيات الحكم عن هذا التقرير:

إنه لا يحل تكفير مسلم بذب اقترفه سواء كان الذنب ترك واجب مفروض أو فعل محرم منهي عنه وأن من يكفر مسلما أو يصفه بالفسق يرتد عليه هذا الوصف إن لم يكن صاحبه على ما وصف به وإن يتولى التفصيل وبيان الحكم هم العلماء بالكتاب والسنة فليس لمسلم أن يحكم بالكفر أو الفسق على مسلم.

إن ما ورد بكتيب الفريضة الغائبة من قول أن أحكام الكفر تعلو البلاد وإن كان أكثرها مسلمين هو قول يناقض الواقع فالصلاة تؤدي والمساجد تبني ومفتوحة والزكاة تؤدي والناس تحج إلى بيت الله فحكم الإسلام ماض في الدولة ألا في بعض الأمور كالحدود والتعامل بالربا وغير هذا مما شملته القوانين الوضعية وهذا لا يخرج الدولة عن أنها دولة مسلمة وشعبها شعب مسلم لأن الجميع حكاما ومحكومين يؤمنون بتحريم الربا والزنا والسرقة ونعتقد صادقين أن حكم الله خير وهو الأحمق بالإتباع بل إننا كلنا حكاما ومحكومين نبتغي حكم الله وشرعه ونعمل به في حدود استطاعتنا والله سبحانه وتعالى يقول (اتقوا الله ما استطعتم)

لا خروج على الحاكم

إن الإسلام لا يبيح الخروج على الحاكم وقتله ما دام مقيما على الإسلام ويعمل به حتى ولو بإقامة الصلاة وإن على المسلمين إذا خالف الحاكم الإسلام أن يقوموه بالنصح والدعوة السليمة المستقيمة وإذا لم يقم الحاكم حدود الله وينفذ شرعة تماما فليس له طاعة فيما أمر به من معصية أو منكر وإن السبيل المستقيم أن نطالب جميعا بتطبيق أحكام الله دون نقصان بالأسوة الحسنة والحجة الواضحة لا بالقتل والقتال وتكفير المسلمين وإهدار حرماتهم.

أنه لا وجه للمقارنة بين التتار وحكام اليوم كما ورد في كتيب الفريضة الغائبة فالتتار هم الوثنيون الذين سفكوا دماء المسلمين بالقدر الذي لم يفعله أحد من قبلهم وهم الذين حاربهم ابن تيمية وافى بشأنهم فتاويه.

إن كتيب الفريضة الغائبة لا ينتسب إلى الإسلام وكل ما فيه أفكار سياسية وإن جملته هو أفكار الخوارج وهم جماعة من أتباع سيدنا على بن أبي طالب رضي الله عنه وخرجوا عليه بعد قبوله التحكيم ثم انقسموا إلى عشرين فرقة كل فرقة تكفير الأخريات وهو في ذات الوقت أفكار استشراقية روجها المستشرقون وأتباعهم في مصر وغيرها من بلاد المسلمين محرفين الكلم عن مواضعه.

أنه لا توجد في القرآن والسنة أمر بالقتال موجه ضد المسلمين أو ضد المواطنين من غير المسلمين وهم أهل الذمة لهم ما لنا وعليهم ما علينا من حقوق وواجبات وأنه إذا حدث ما يستدعي القتال دفاعا عن الدين والبلاد وهذا ما يدعو إليه الإسلام ويحرص عليه فيكون بالجيش الذي استعد وأعد وهذا هو الجهاد قتالا ويكون الجهاد بمجاهدة النفس والشيطان وهذا هو الجهاد المستمر الذي ينبغي على كل إنسان.

الأمن لا يعلم

وفي نهاية ذلك التلخيص لجانب من حيثيات حكم محكمة أمن الدولة العليا في تلك القضية فإنه من المهم أيضا أن نعرض لذلك الجانب من حيثيات الحكم الذي يتعرض لمسئوليات جهاز الأمن قبل أحداث أكتوبر حيث أشارت هذه الحيثيات إلى الآتي:

• من الأمور التي استقرت في يقين المحكمة أن أجهزة الأمن الدولة وعلى مختلف مستوياتها لم تكن لديها معلومات عن التنظيم منذ إنشائه خلال عام 1980 وحتى بدأ في تنفيذ مخططه بمحاولة قلب نظام الحكم في الدولة رغم أن التنظيم كما هو ثابت من التحقيقات التي تمت كان له نشاط ممتد في جميع محافظات الجمهورية يعقد الاجتماعات ويجند الأفراد ويشتري السلاح ويدرب الأعضاء ورغم أن أعضاء التنظيم كثفوا من نشاطهم بعد قرارات التحفظات الصادرة في 2 سبتمبر سنة 1981 لعقد لقاءات في محافظات الوجه القبلي والقاهرة والجيزة التنقل بين هذه المحافظات وشراء مزيد من الأسلحة النارية وتوزيع ما لديهم من مفرقعات وقنابل على أماكن آمنة في نظرهم.

تلك كلها كانت فقرات حرفية مستخلصة من حيثيات حكم محكمة أمن الدولة العليا وهي تؤكد في مضمونها ما سبق إيضاحه عن حلقات هذه المؤامرة التي شاء الله سبحانه وتعالى أن تتهاوى حلقة بعد أخرى لتنصير الشرعية في النهاية ويتأكد الاستقرار.

والآن فإن ذلك كله كان استعراضا مركزا لنشأة العنف والإرهاب في مصر والذي كانت مؤامرة أكتوبر أحدى أهم حلقاته على مدى نصف القرن الماضي والظاهرة اللافتة للنظر أن حلقات العنف والإرهاب طوال هذه الفترة الطويلة من الزمن قد تتراجع في وقت ما ولكنها تعود لتنطلق ثانيا تحت مسميات جديدة أو بأسلوب متطور أكثر عنفا وليس لذلك من تفسير إلا أن مواجهة هذه الظاهرة وعلاج أسبابها لا زال يحتاج إلى منطق آخر وإلى نفس أكثر طولا وإذا كان تأثير هذه الظاهرة لا يقتصر على الاستقرار العام وإنما يمتد ليؤثر بصورة أكثر عمقا على المسار الديمقراطي ثم على خطط التنمية فإن من الأهمية الكبرى أن نتحدث الآن عن تصورنا عن ماذا يمكن عمله لحصار هذه الظاهرة وهو ما نسعى الإجابة عنه في الجزء التالي.

-7-

كيف نواجه الإرهاب؟

موضوعنا في هذا الجزء عن ماذا نفعل في مواجهة ظاهرة العنف والإرهاب تحت الرداء الديني، التي كادت تصبح ظاهرة مزمنة وقد مضي عليها الآن ما يقرب من نصف قرن؟

أتصور أنه أصبح من الأهمية بمكان أن نتجه مباشرة إلى أصل الداء لنناقش عددا من التساؤلات ونسعى للإجابة عنها:

• لماذا استمر هذا العنف تحت الرداء الديني طوال هذه الحقبة؟

• هل مرجع ذلك هو أسلوب المواجهة طوال هذه المرحلة أم أن هناك أسبابا سياسية وما يمكن أن يقترن بها من أسباب اقتصادية واجتماعية؟

• هل يمكن أن يكون المرجع الحقيقي هو أيديولوجية دينية، وإذا كان الأمر كذلك فهل تستند في مقوماتها إلى أسانيد صحيحة من القرآن والسنة والفقه الإسلامي؟

• لقد كانت هذه التساؤلات أمامنا في جهاز الأمن بعد أحداث أكتوبر محاولين أن نجد إجابات موضوعية وواقعية عنها لتكون مدخلنا في أسلوب مواجهة هذه الظاهرة اقتناعا بأن متغيرات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي ليس على المستوى المحلي فقط وإنما على المستوى العربي والعالمي تحتم تناولا جديدا ومتميزا مع الظواهر المؤثرة في مسار المجتمع سلبا أم إيجابا بما يتلاءم مع متغيرات العصر...

• لقد كان واضحا تماما مت تلك المراجعة أن استمرار ظاهرة العنف الديني في مصر لا يمكن أن تستند إلي سبب واحد وإنما هناك أسباب متباينة امتزجت ببعضها لتهيئ المناخ الأنسب لهذا التيار ليستمر كامنا في بعض المراحل ومتصاعدا ومتفجرا في مراحل أخرى.

• ولكنه في جميع الأوقات مازال يمثل مصدرا مقلقا على الاستقرار الداخلي بصفة عام والشرعية الدستورية بصفة خاصة.

• وكان التقدير أن البداية المناسبة لا بد أن تضع في اعتبارها البعد الإيديولوجي أو الفكري كأولوية أولى ذلك أن هذا البعد هو الذي يولد الحركة بين وقت وآخر ولذلك كان الحوار مع هذا الفكر هو الأسلوب الأمثل والجديد فهو أولا له زواياه الدينية والحضارية والديمقراطية هو ثانيا قد يفتح الطريق لنضع أيدينا على الأسباب الأخرى التي تغذي هذا التيار وأولوياتها سواء كانت أسباب سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية.

• فقد كان أسلوب السلطة في جميع الأنظمة قبل ثورة يوليو وبعدها في التعامل مع التيار الديني المتطرف يقوم على منطق الفعل ورد الفعل المماثل بمعنى واجهة عمليات العنف والاغتيال بعمليات قمع مناسبة كانت تتم دائما بأسلوب الاعتقال والمحاكمات وتتسع مساحة ذلك الأسلوب أو تضيق طبقا لخطورة الحدث وتأثيره على الاستقرار الداخلي ولكنها كانت تخضع بالضرورة وبحكم التوتر الأمن التقديرات قد يكون مبالغا فيها أحيانا وكانت هناك دائما تلك الشكاوي عن التجاوزات التي يتعرض لها المعتقلون.

• وكانت الظاهرة المشتركة أنه في جميع تلك المراحل لم يكن هناك اهتمام يذكر بذلك الفكر وتلك العقيدة التي انضوى تحت لوائها الآلاف من شباب الوطن.. والتي اندفع تحت التأثر بها والإيمان برسالتها المئات من الشباب ليحملوا المدفع والقنبلة ولينخرطوا في أجهزة سرية وليتنازلوا عن طيب خاطر عن إدارتهم الحرة تحت مبدأ السمع والطاعة للأمير ولينتهي بهم الأمر في النهاية ليصبحوا مجرد أدوات تقتل وتغتال وتنسف تحت وهم زائف بأنهم أنما يجاهدون في سبيل الله وأن جزاءهم عند الله هو جزاء الشهداء الإبرار وكان من المنطقي أن يتجه هذا المنهج الجديد في التعامل مع ظاهرة العنف والإرهاب إلى ذلك السياج الذي أحاط بتلك الظاهرة وحولها إلى مراسم دينية والذي تحدد أولا وأخيرا في ذلك الفكر الذي يقام دائما إنه يأخذ منطقة وأساسياته من القرآن الكريم وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام ومبادئ الفقه الإسلامي على مراحل التاريخ.

• وكان ذلك هو بداية التفكير في مبدأ الحوار الذي بدأ في أعقاب أحداث أكتوبر سنة 1981 وكان المنطق الذي حكم تلك التجربة الرائدة يقوم على الاعتبارات التالية:

• أن الغاية الأولى هي الوصول إلى جذور ذلك الفكر وإسنادها إلى مصادرها الحقيقية.

• مدى اتفاق هذه المصادر بالدليل القاطع مع أحكام القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وما اتفق عليه فقهاء المسلمين على مر العصور

• أن تتم المناقشات في حرية تامة دون أي مصادرة رأي أو أدلة يعرضها الأشخاص الذين سيقبلون مبدأ الحوار معهم.

• وهنا لابد أن أسارع لأذكر أن مبدأ الحوار في إطار ذلك المفهوم لم يكن إلا بداية لمنطق جديد وأسلوب جديد يجب أن يواجه التيار الديني المتطرف لكي يخرج إلى الساحة العلنية بأسانيده ومنطقة في مواجهة أسانيد مماثلة ومنطق مماثل يطرحه العلماء والفقهاء والمتخصصون في الدراسات الإسلامية بدلا من تلك الشعارات المبهمة التي تطرح لمجرد التأثير النفسي وكان التصور أن الأمر لا يخرج عن احتمال من احتمالين: أين الصواب وأين الخطأ أين السند الصحيح وأين السند الباطل، أين الشعار الذي له بعد ديني صحيح، وأين الشعار الذي يطرح لمجرد التأثير والاستهلاك؟

وهي كلها يجب أن تكون تساؤلات موضوع اهتمام كلس مسلم يريد أن يعرف دينه ويلم بتعاليمه وقيمه وجوهره دون أي شائبة تسند إليه.

نجحت الندوة الأولى

وكانت البداية عرض الفكرة على عدد من كبار الفقهاء الذين وافقوا على الاضطلاع بما بترحيب كبير وكان اقتناعهم جمعيا أنهم يسهمون بعلمهم في ترشدي الدعوة الإسلامية وتنقيتها من أي تأويل أو سند باطل ثم كانت الخطوة التالية بعرض الفكرة على عدد من القيادات التي ضبطت خلال أحداث أكتوبر من تنظيم الجهاد وقبل البعض مهم أن يتحاور مع الفقهاء ورفض البعض الآخر وبذلك تمت أولى الندوات وحققت نجاحا ملحوظا من حيث الصراحة المطلقة التي تم الحوار بها وعمق الأسانيد التي طرحها العلماء الأفاضل في مواجهة كثير من الأفكار التي طرحها أعضاء تنظيم الجهاد وبدأت تتوالى ندوات مماثلة حققت بدورها نفس هذا النجاح.

وكان من أهم الملاحظات على جميع هذه الندوات حضور أعدا كبيرة من المتحفظ عليهم وتقديمهم لأسئلة متعددة للعلماء وحرصهم على الاستماع للمناقشات التي تدور حولها.

وفي ضوء تلك الإيجابية التي تحققت كان من الضروري ألا تظل المناقشات العلمية والفقهية التي تعرضت لكثير من الأسانيد الخاطئة التي عرضت خلال الندوات حبيسة الأشرطة التي سجلت عليها وكان التفكير المنطقي أن تتم إذاعة هذه الأشرطة من خلال برنامج تليفزيوني لإطلاع الرأي العام بأكمله على منطق هذا الفكر ومصادره الحقيقية وما يحتوي عليه من أخطاء نسبت ظلما إلى القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة.

موافقة فؤاد محيي الدين

إلا أن ثمة تحفظات متعددة اعترضت في بادئ الأمر على مبدأ إذاعة هذه الحلقات تحت تأثير اقتناع بأنها يمكن أن تفتح بابا للجدل الديني السلبي، وكان واضحا أن هذا التخوف كان مجرد إحجام عن الخوض في تجربة غير مسبوقة وكان من المحتم في ضوء ذلك أن يفصل رئيس الوزراء المرحوم الدكتور فؤاد محيي الدين في الموضوع وانطلاق من ذلك فقد عرض على سيادته في عرض خاص بمقر مجلس الوزراء شرائط ندوتين وسئل عن انطباعه بعد مشاهدتهما، وكان تعليقه أنه من المهم أن يستمع كل مسل والشباب بصفة خاصة إلى تلك الحقائق التي تدمع في وضوح تام كثيرا من المفاهيم الخاطئة التي تقتحم على الفكر الإسلامي الصحيح وبدئ بعد ذلك في عرض تلك الندوات في برنامج أسبوعي تحت مسمى ندوة للرأي.

ولابد هنا أن يثار تساؤل عن الغاية الرئيسية التي استهدفتها إذاعة برنامج خاص يذيع تفصيلات المناقشات التي دارت خلال الندوات المسجلة وهل كان الغرض مجرد إطلاع الرأي على تلك المناقشات وما أفصحت عنه من مفاهيم وأسانيد خاطئة؟ لم يكن ذلك بطبيعة الحال هو الغاية الوحيدة إنما كانت الغاية متعددة في مراميها ونتائجها ولعلنا نشير إلى أهم تلك النتائج في النقاط التالية:

حماية الشباب

كانت النتيجة الأولى المستهدفة هي حماية جموع الشباب على وجه التحديد من الوقوع فريسة الفكر الخاطئ من خلال استقطابه في تلك التنظيمات المتعددة تحت مسمياتها المختلفة فهذا تنظيم التفكير والهجرة وذاك تنظيم الجهاد ثم تنظيم السماوية ثم المعتزلة شعوريا إلخ تلك المسميات وكان واضحا تماما أن جميع هذه التنظيمات توجه كل وسائلها وإغراءاتها للشباب بصفة خاصة وتحت ضغوط أوضاع اقتصادية أو اجتماعية أو ضآلة الإلمام بكثير من دقائق الفكر الإسلامي السليم كان كثير من الشباب يستجيب لتلك الدعاوي وينخرط في هذه التنظيمات التي بدأت تحقق نموا سرطانيا يوما بعد يوم ثم الويل كل الويل لمن يحاول من هذا الشباب المنخرط في تلك التنظيمات الانشقاق عنها في أي وقت فقديما كان الإخوان المسلمون يغتالون من ينشق على الجهاد السري وحديثا جماعات التكفير والجهاد تخصص مجموعات للاعتداء على المنشقين قد تصل على التصفية الجسدية إذن كان من الأهمية الكبرى أن يطرح هذا الفكر بكل أسانيده الخاطئة على ملايين الشباب بجانب الرأي العام الكلي... لكي ينتشر من خلال كل ذلك الوعي الديني السليم ولكن يتحصن الشباب بذلك الوعي ضد كل الدعاوي المغرضة التي تطرح أمامه بهدف استقطابه.

ثم كانت النتيجة الثانية المستهدفة تدور حول إعطاء فرصة لجميع المتورطين في تلك التنظيمات المتطرفة لكي يراجعوا أنفسهم في ارتباطهم بهذه التنظيمات بعد أن يستمعوا إلى الشرح الصحيح للفكر الإسلامي وإلى أسانيده السليمة التي غابت عنهم عندما وقعوا فريسة لفكرة خاطئ وأسانيد خاطئة.

تلك بصفة عامة كانت النتائج المباشرة التي استهدفت من تخصيص برنامج تليفزيوني مذاع في تلك الندوات. وقد أشار القياس المبدئي للرأي العام أنها بدأت تحظى باهتمام جماهيري عام وفي نفس الوقت بدأت بعض الدولة العربية تطلب مدها بحلقات هذا البرنامج واستجاب التليفزيون المصري واستقرار فعلا برنامج تلك الحلقات بهذه البداية المثمرة.

استطلاع ميداني

ثم كان من المحتم أن يتم استطلاع ميداني لتأثير إذاعة هذه الندوات الجديدة في أسلوبها ومضمونها على حركة التنظيمات المتطرفة من حيث قدرتها على المضي في الاستقطاب السريع لجموع الشباب، كذلك مدى تماسك عناصرها في ضوء ردود الفعل المبدئية للمناقشات المذاعة على الملأ وكانت المؤشرات التي بدأت تظهر يوما بعد يوم تؤكد أن ثمة انحسارا في قدرة تلك التنظيمات على الاستقطاب الجديد وكانت الظاهرة المؤكدة لهذا المؤشر متجسدة في ذلك التراجع الملحوظ في حركة كثير من التنظيمات المتطرفة علنا وسريا إلى درجة اقتربت من الجمود الكامل ثم تأكد هذا المؤشر بصورة قاطعة عندما بدأت موجات الانشقاق عن تلك التنظيمات تعلن في وضوح كامل دون أن تقترن بأي محاولات للاعتداء على المنشقين كما كان يحدث في الماضي يضاف إلى كل ذلك الاهتمام الجماهيري العام بعد أن تكشف للرأي العام حقائق دامغة إدعاءات كثيرة تتناقض مع حقائق الدين وأسانيده العلمية والفقهية.

ولكن هل كان ذلك نهاية المطاف وهل كانت تلك البداية كفيلة بذاتها ووحدها بالقضاء نهائيا على ظاهرة استمرت قرابة نصف قرن؟ أم أنها كانت مجرد بداية في الاتجاه الصحيح لابد أن تتلوها خطوات وخطوات حتى يبرأ المجتمع من هذا الداء المقلق؟

بداية يجب أن تستمر

لعل هنا أجيب فورا عن ذلك التساؤل بأنها كانت مجرد بداية في الاتجاه الصحيح وقد أثمرت برغم ذلك فتراجع النشاط الإرهابي تماما إلى درجة اقتربت من الجمود طوال أعوام 82، 83، 84، 85، ولكن لأننا اكتفينا بالبداية فقد بدأ ثانيا يطفو على الساحة بداية من عام 86 ولقد تعرض كاتب هذه السطور لمحاولة غادرة للاغتيال في مساء أحد أيام شهر رمضان المعظم سنة 1987 وكنت قد تركت موقعي الوزاري قبل ذلك بخمسة شهور تقريبا كوزير للحكم المحلي وقبلها كنت قد تركت موقعي الوزاري كوزير للداخلية عام 1984 ومرورا على ظروف الحادث والمعاناة الصحية التي أسفر عنها فقد سئلت أمام محكمة أمن الدولة التي حاكمت المتهمين في هذا الحادث الذين شكلوا تنظيما سريا منذ عام 1986 منبثقا عن تنظيم الجهاد تحت مسمى الناجون من النار أقول سئلت أمام هذه المحكمة عن وجهة نظري عن السبب في محاولة اغتيالي وكانت إجابتي أنها كانت مجرد رسالة لجهاز الأمن كما فعلوا في الماضي البعد مع أحد رجال القضاء المستشار الخازندار وحديثا مع أحد رجال الدين الشيخ الذهبي ثم أخيرا أيضا بعد محاولة اغتيال مع أحد رجال الصحافة مكرم محمد أحمد وهي كلها رسائل تستهدف هز دعائم مؤسسات المجتمع الأمنية والقضائية والإعلامية فتحا للطريق أمام الهدف الانقلابي النهائي الذي تسعى هذه المنظمات والجماعات إلى تحقيقه ولكنني كنت أتصور أن أكون أخر من يفكر أمثال هؤلاء المتهمين في اغتياله فلقد تعاملت مع ظاهرة التطرف بمنطق الحوار وهو منطق له منطلقة الديني والحضاري ولنا في القرآن الكريم القدوة فقد قال سبحانه وتعالى وجادلهم بالتي هي أحسن فإذا كان هناك من زال يرفض هذا المبدأ ويفضل أن يناقش بالقنبلة والمدفع فهو امتداد لتلك الظاهرة التي لازال العض يغذيها ويسعى إلى بعثها كل وقت .

ولقد عاودت هذه الظاهرة الظهور على الساحة بصورة حادة بدءا من عام 1987 ولعلي هنا أقارن بين مبدأ الحوار الذي ترفضه بعض القيادات وبين مبدأ التعامل بالقنبلة والمدفع الذي أسفر في الأعوام الثالثة الأخيرة عن مصرع ما يزيد على 60 شخصا من عناصر هذه المجموعات في مواجهات عقم وساذجة بينهم وبين قوات الأمن...ولعلهم يسألون أنفسهم عمن يتحمل مسئولية دماء هؤلاء الشباب أمام الله سبحانه وتعالى.

دور للجميع

ومع كل ذلك فلقد قلنا حالا أن مبدأ الحوار بالمنطق الذي تم به لم يكن إلا بداية في الاتجاه الصحيح ومازال يحتاج إلى خطوات كثيرة تقترن به فهو أولا يجب أن يكون خيطا يلتقطه العلماء في شتى تخصصاتهم والمثقفون في شتى مجالاتهم والسياسيون بشتى انتماءاتهم لكي يكون موضوعا للمناقشة العلنية في الصحافة والندوات العلمية والاجتماعات السياسية.

فلا زال الأمر يمثل حلقة شيطانية يجب أن نسعى جميعا بكل جهودنا لعدم الدخول في دوامتها فقضية التنمية أصبحت مسألة حياة أو موت لمستقبل الأمة وتمس أمال وطموحات الشباب بصفة خاصة والتنمية تحتاج أول ما تحتاج إلى استقرار شامل وراسخ يهيئ لها أفضل مناخ لكي تنطلق بكل الطاقات الشعبية والرسمية الممكنة والاستقرار بدوره يهيئ للممارسة الديمقراطية المناخ الأمثل لكي تنطلق وتتسع مساحتها يوما بعد يوم ... وحتى يتحقق الاستقرار والممارسة الديمقراطية الصحية وتنطلق عملية التنمية لابد أن نصل إلى الجذور التي سمحت لظاهرة الإرهاب والعنف بأن تمتد عشرات السنين وأن تتطور في تعقيداتها لكي تنتمي إلى مشكلة بهذا الحجم وتلك الحساسية.

منظمات إرهابية عالمية

وقد يكون من المفيد هنا أن نستعرض ظاهرة الإرهاب والعنف في دول أخرى من هذا العالم ونقارن بيني حجم الظاهرة لديهم وحجمها لدينا ولماذا تطفو على السطح لدينا بهذه الخطورة؟ بينما لم تهدد دولا أخرى بنفس الدرجة من الخطورة؟

فالإرهاب والعنف ظاهرة عالمية فعلا وعلى سبيل المثال لا الحصر هناك منظمات بادر ماينهوف بألمانيا الغربية ومنظمة الجيش الأحمر في اليابان ومنظمة الألوية الحمراء في إيطاليا ومنظمة الباسك في أسبانيا وكلها منظمات تعادي نظم الحكم في تلك الدول وتقوم بعمليات عنف وإرهاب من اغتيالات وتفجيرات بين وقت وأخر ولكنها أبدا لم تمثل تهديدا للشرعية الدستورية والاستقرار العام في هذا الدول والتي نجحت جميعا في حصار هذه المنظمات وتحجيم أثار عملياتها الإرهابية ولعله من المفيد أن نعقد بعض المقارنات بين هذه المنظمات وبين المنظمات المتطرفة لدينا في مصر حتى نسير في طريقنا لتشخيص المنهج الذي يمكن أن يساعد على القضاء على هذه الظاهرة لدينا أو تحجيم نموها:

جميع تلك المنظمات في هذه الدول ليس لها منطلقات دينية بينما لدينا جميع التنظيمات المتطرفة كان منطلقها الرئيس الرداء الديني والعقيدة الدينية التي بررت بها كل أعمالها الإرهابية.

لم تحقق عمليات العنف والإرهاب التي مارستها هذه المنظمات في الدول الأجنبية تهديدا للشرعية الدستورية ولم تسع إلى المساس بها كما حدث لدينا في مؤامرة أكتوبر مثلا أو كما حدث في الصراع الذي نشب بين جماعة الإخوان المسلمين وبين قيادة ثورة يوليو في المرحلة المبكرة للثورة عندما سعت الجماعة إلى احتواء الثورة لكي تصل إلى الاستيلاء على الحكم وعندما فشلت في تحقيق هدفها سعت إلى اغتيال قائد الثورة.

كانت الممارسة الديمقراطية في تلك الدول هي السياج الرئيسي الذي حاصر هذه المنظمات الإرهابية من حيث قدرتها على النمو السريع أو اتساع حركتها بما يهدد الممارسة الديمقراطية نفسها أو الشرعية الدستورية وتتفق جميع القوى السياسية في هذه الدول ومعها الرأي العام في قاعدته العريضة على رأي واحد في رفض حركة هذه المنظمات الإرهابية وتنظر إليها على أنها ظاهرة شاذة ليست طرفا في المعادلة السياسية وتتناقض مع المنطق الحضاري الذي يسود المسرح السياسي فيها.

لعبة التوازنات

وعكس ذلك فإننا نجد لدينا هنا أن القوى السياسية المختلفة بما فيها أنظمة الحكم سوءا قبل الثورة أو بعدها حتى نهاية حكم الرئيس الراحل السادات قد اعتمدت على التيار الديني السياسي في لعبة التوازنات السياسية بالرغم من أن هذا التيار نفسه هو الذي اعتمد على منطق الإرهاب والعنف تحت الردءا الديني لكي يفرض وجوده وثقله على الساحة السياسية كهدف مبدئي ثم لكي ستغل هذا الوجود والثقل بعد ذلك في توجهه نحو العمل الانقلابي للاستيلاء على السلطة ومن المفارقات التي يجب أن يتوقف عندها المحللون السياسيون أن أنظمة الحكم المختلفة قبل ثورة يوليو وبعدها كذلك الأحزاب السياسية كانت تعلم تماما أن الهدف العيد لحركة التيار الديني السياسي ينحصر أولا وأخيرا في الوصول إلى السلطة من خلال العمل الانقلابي أو الإرهابي وإذا تحقق له هذا الهدف فلن تكون هناك ممارسة ديمقراطية بالصورة التي كانت سائدة قبل ثورة يوليو أو فيما بعدها كذلك فإن الأحزاب السياسية التي تركز جانبا كبيرا من نقدها في المطالبة بتوسيع مساحة الممارسة الديمقراطية وتشجب أي ضوابط تنظمها وتعتبرها قيودا تحد من انطلاقها نجد نفس هذه الأحزاب تسعى إلى نوع من التعاون أو الاندماج مع جماعة الإخوان المسلمين لتكون سندا لها في الانتخابات للمجالس التشريعية كما حدث عندما تحالف الوفد مع هذه الجماعة في انتخابات سنة 1984 ثم تحالف حزب العمل معها في انتخابات سنة 1987 .

وفي سبيل تحقق هذه الغاية القريبة للحصول على عدد من مقاعد المجالس التشريعية تناست هذه الأحزاب النتائج الأخرى البعيدة التي يمكن أن تقوض تماما أي فائدة مرحلية تتحقق لها على المدى القصير وهو على أي حال منطق يتيح الفرصة للتيار الديني السياسي ومن خلفه جميع التنظيمات الدينية الأخرى لكي تمثل تكتلا سياسيا واحدا له ممثلوه داخل المجالس التشريعية ومع ذلك فهل يتخلى هذا التيار فعلا عن منطقه ومنهجه إذا قدر له تحقيق هدفه البعيد في الوصول إلى السلطة هل يؤمن حقا بالممارسة الديمقراطية في إطار التعدد الحزبي والحريات السياسية وحكم الأغلبية إلى آخر دعائم الديمقراطية بمفهومها العلمي والعصري تلك كلها تساؤلات تغافلت عنها القوى السياسية عندما تحالفت مع التيار الديني السياسي ثم عندما تغاضت عن كثير من مواقفه وحركته الإرهابية خلال مرحلة الرئيس الراحل السادات والتي انتهت بأحداث أكتوبر وما كان يمكن أن يؤدي إليه من تداعيات على الممارسة الديمقراطية نفسها.

خطر على الاستقرار

تلك كلها فروق جوهرية بين حرجة منظمات العنف والإرهاب في بعض الدولة وبين حركة التنظيمات المماثلة لدينا وما يعنينا من هذه الفروق في معرض حديثنا الآن هو مدى الخطر الذي تمثله هذه الظاهرة على الاستقرار الداخلي لدينا من زاوية وعلى الممارسة الديمقراطية والشرعية الدستورية من زاوية أخرى ثم أنها كادت تصل إلى أن تكون مشكلة مزمنة واختلطت في تقدير البعض رضينا أم لم نرض بشعار الصحوة الإسلامية ولكنها صحوة نبتغيها جميعا لكي تقوم على أسس سليمة لا تبتعد عن جوهر الدين ولا يصبح التكفير والقتل والإرهاب طقوسا يمنحها البعض لأنفسهم وكأنها بمثابة تفويض إلهي لهم كي يمارسوها بمنطق التآمر في الظلام.

الأحزاب.. والدين

والآن فإننا نضع عددا من الأسس التي نتصور أنها يمكن أن تمثل إطارا عاما يعالج هذه الظاهرة على المدى القصير والبعيد مسترشدين في ذلك بالدستور وبالواقع التاريخي والمسئولية القومية للمؤسسات السياسية والتنفيذية والدينية وذلك في ضوء المخاطر التي تجسدها ظاهرة العنف والإرهاب على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية إذا ما استمرت في تفاقمها ونموها وهو ما نعرض له في النقاط التالية:

• أولا يقضي الدستور بحظر تكوين أحزاب سياسية على أساس ديني وبصرف النظر عن لعبة التوازنات السياسية التي دخلت فيها جماعة الإخوان المسلمين فإن هذه الجماعة مازالت تتطلع إلى دور سياسي متميز تضفي عليه صفة الحز السياسي وإن افتقدت حتى الآن إلى شرعية الوجود القانونية كجماعة دينية أو كحزب سياسي وهو ما تعلن عنه الجماعة الآن في وضوح بالرغم من الحظر الدستوري على تكوين أحزاب سياسية على أساس ديني.

• ومن المهم الآن أن نناقش بصراحة تامة وبتفصيل كامل تلك القضية عن تكوين حزب ديني ونفترض جدلا أن جماعة الإخوان المسلمين تحولت إلى حزب سياسي ديني من المتوقع منطقيا في ضوء ذلك التحول أن ينشأ في المقابل حزب سياسي ديني مسيحي ومن الطبيعي أن يتكتل خلف الحزب الديني الإسلامي جميع الأجنحة الأخرى المتطرفة التي تعمل تحت الرداء الإسلامي كذلك نفس الأمر بالنسبة للحزب المسيحي ولنتصور أن الحزبين الإسلامي والمسيحي تكمنا من التعايش الصحي في بداية الأمر ولكن ماذا يمكن أن تكون عليه الصورة أثناء الانتخابات بشتى أشكالها ومستوياتها سواء للمجالس المحلية في المحافظات والقرى ثم للمجالس التشريعية ثم انعكاسات ذلك أيضا على انتخابات النقابات المهنية أو غيرها من المؤسسات الأخرى إن المنطق العادي يؤكد أن التعصب الديني سيكون أهم محرك في الدعاية الانتخابية وفي التكتل الجماهيري خلف هذا المرشح المسلم أو ذاك المرشح المسيحي ويا ليت الأمر ينتهي عند هذا الحد فأثار المعارك الانتخابية التي تمت على أساس ديني ستمتد إلى مجالات أخرى لا يمكن حصرها لتؤثر في النهاية على مقومات الوحدة الوطنية بين عنصري الأمة بل إن تداعيات هذه المنافسة يمكن أن تصل بنا إلى محاولات للسباق للتأثر على النسبة العددية السكنية لكلا الطرفين ولتدخل قضية التنمية ومعاييرها إلى حلقة شيطانية يصعب السيطرة عليها.

• تلك كلها نتائج مرجحة لهذه المحاولات التي تتغافل عن التداعيات التي يمكن أن تترتب على طرح هذا الحظر وراء الظهور ومحاولة فرض وجود أحزاب سياسية على أساس ديني على الساحة السياسية.

• وكأننا لم نعتبر مما قاسته وتقاسيه دولة عربية قريبة منا من أثار مدمرة على أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ونسعى لكي نكرر مثل هذا النموذج لدينا.

قضية الشريعة الإسلامية

• وإذا كانت المطالبة المثارة بتطبيق الشريعة الإسلامية هي المبرر لهذه المحاولات لتكوين حزب سياسي ديني فإن تلك القضية ليست مطلبا تحتكره جماعة بعينها أو حزب بذاته.

• وإنما هي قضية مجتمع بأسره في دولة ينص دستورها على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي لكل القوانين ثم إن هناك قانونا مدنيا يطلق عليه في عرف القانونيين أنه أب لشتى القوانين وهو مستمد في جميع مواده تقريبا من التشريعة الإسلامية فلماذا إذن يثار شعار وكأننا نتناقض تماما مع أحكام الشريعة في كل القوانين على غير الحقيقة وأخير فإن أي تفاصيل فرعية أخرى يمكن أن تكون موضع حوار من خلال المؤسسات التشريعية والشعبية.

الإرهاب والديمقراطية

ثانيا: وننتقل الآن إلى العامل الثاني الذي نتصور أنه يرتبط بشكل مباشر بنمو واستمرار ظاهرة العنف والإرهاب تحت الرداء الديني ومحورنا في هذه النقطة هو قضية الديمقراطية فلقد أكد الواقع أن تلك الظاهرة تنمو وتزدهر في غياب الممارسة الديمقراطية الصحية وسبق الإشارة قبل قليل إلى إضمحلال هذه الظاهرة في عدد من الدول التي ترسخت فها جذور الممارسة الديمقراطية

• وتشير المؤشرات إلى أن التيار الديني السياسي، ومن خلفه جميع التنظيمات المتطرفة قد حققت نموا ملحوظا في غياب واقعي للممارسة الديمقراطية السليمة سواء قبل ثورة يوليو أو بعدها إلى بداية الثمانينات ولابد هنا أن يثار تساؤل هام لماذا ينمو هذا التيار في غياب الممارسة الديمقراطية؟

• ولعلنا نبدأ الإجابة عن هذا التساؤل بإجابة أدلت بها وزيرة الإعلام الأردنية السابقة لوكالة (اليونايتدبرس) عندما بررت فوز التيار الديني الإسلامي بعدد كثير من المقاعد في انتخابات مجلس النواب الأردني الأخير قائمة إن التيار الإسلامي اكتسح الانتخابات بسبب حظر الأحزاب السياسية لمدة 32 عاما وأضافت قائلة إننا لم نصل بعد إلى نقطة اللأعودة وباستطاعتنا استعادة المبادرة بشكل تدريجي جريدة الأخبار (17/ 11/ 1989)

• وفي حقيقة الأمر فإن هذه الإجابة تضع أيدينا على السبب الجوهري الذي سمح للتيار الديني السياسي ومن خلفه تلك الروافد التي تنتهج أسلوب العنف والإرهاب لكي تحقق هذا النمو المتزايد على حساب النمو الديمقراطي طوال عشرات السنين فقد غابت الممارسة الديمقراطية عن الساحة السياسية قبل ثورة يوليو ومع تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعية وجدت جماعة الإخوان فرصتها لتجذب الآلاف من الشباب تحت الستار الديني الذي يجمعهم ويعبرون من خلاله عن سخطهم على الأوضاع السائدة الديني الذي يجمعهم ويعبرون من خلاله عن سخطهم على الأوضاع السائدة ولقد رأينا أيضا أن الحركة السياسية انحصرت في مرحلة طويلة بعد ثورة يوليو في إطار الحزب الواحد وكيف انتهى الأمر بالاتحاد الاشتراكي في أعقاب أزمة مايو سنة 1971 عندما دفعت لعبة التوازنات السياسية القيادة السياسية في ذلك الوقت للاستعانة بالتيار الديني السياسي لمواجهة حركة التيار الماركسي وكان ذلك كله ترجمة حقيقة وواقعية للتردي السياسي نتيجة غياب الممارسة الديمقراطية التي تقوم على وجود أحزاب تعبر عن تيارات سياسية واقعية لها برامجها ومناهجها المتميزة.

مسئولية الأحزاب

ثالثا: ومحورنا الثالث في هذه القضية يتركز في المسئولية التاريخية والقومية بل والمسئولية الدينية لأطراف الممارسة الديمقراطية نفسها فقضية الديمقراطية وبتعبير أخر قضية الإنسان وحريته لا يمكن أن تكون مسئولية نظام أو سلطة حاكمة فقط و إنما هي مسئولية شعب بأسره يتحملها ويدافع عنها في إطار تجمعاته السياسية والشعبية بشتى صورها ومجالاتها وإذا كانت الديمقراطية تتطلب في مفومها العصري التعدد الحزبي فإن الأحزاب السياسية تعتبر طرفا أصيلا في تحمل مسئولية الدفاع عن الإطار الصحي للممارسة الديمقراطية.

ولا يعفيها من هذه المسئولية أنها تشارك في الحكم كحزب للأغلبية أو تقف في صف المعارضة كأحزاب للأقلية فالكل أغلبية ومعارضة يشكلون في النهاية الدعائم الأساسية للممارسة الديمقراطية التي يقوم عليها نظام الحكم.

• وفي إطار هذه الحقيقة وانطلاقا من هذه المسئولية المشتركة للقوى السياسية بأكملها فإن أرضية مشتركة لابد أن تتفق عليها جميع القوى السياسية بأكملها فإن أرضية مشتركة لابد أن تتفق عليها جميع القوى السياسية بل وجميع المؤسسات الشعبية وهي أنها جميعا تدين أسلوب العنف والإرهاب وتعتبره أسلوبا يتعارض تماما مع حرية الإنسان التي كفلها له الدستور بل نادت بها قوانين السماء في جميع الأديان نزلت لتنظيم حياة البشرة وأن هذا الأسلوب بجميع صوره وتحت أي رداء يرتديه يمثل اعتداء صارخا على الديمقراطية في الصميم ويسعى إلى فرض وصاية على المجتمع ليس لها سند من الدستور أو الدين.

ميثاق قومي وقانون خاص لمكافحة الإرهاب

وفي نهاية الأمر فإن أسلوبا غير تقليدي في مواجهة هذا التحدي أصبح مطلوبا لكي يترجم بصورة واقعية عمق الرفض الشعبي العام لاستمرار هذه الظاهرة وإصراره على القضاء عليها دفاعا عن حريته وتحضره، ومن هذا المنطلق فإن التعبير عن هذا المفهوم يمكن أن يتم في صورة ميثاق قومي تشارك في صياغته جميع القوى السياسية والشعبية رابعا تبقى بعد ذلك أهمية إصدار قانون خاص لمكافحة الإرهاب بديلا عن الاستعانة بقانون الطوارئ في مواجهة أعمال العنف والإرهاب وتأتي أهمية إصدار هذا القانون في أنه يجب أن ينص على عقوبة أكثر درعا للانخراط في المنظمات الإرهابية ثم إنه يعب عن الإرادة الشعبية لاستمرار التصدي لهذه الظاهرة دون أن ترتبط بظروف طارئة يطبق فيها قانون الطوارئ كما أنه يستمد مبرراته من منطلق حضاري وديمقراطي أخذت به دول أخرى متعددة دفاعا عن ديمقراطيتها يضاف إلى أنه سيتيح الفرصة لإلغاء العمل بقانون الطوارئ لفترة طويلة وهو مطلب اتفقت عليه قوى سياسية متعددة.

وبعد فإنني أسارع إلى تأكيد أنني توخيت في كل ما اشتمل عليه هذا الفصل من مضمون السرد الواقعي التاريخ لظاهرة العنف والإرهاب وارتباطها في جميع الأوقات بحركة تيار اتخذ من الدين رداء له أما غير ذلك مما ورد في صورة تحليل أو مقترحات فهي مجرد أراء ووجهة نظر اجتهادية لا أدعي للحظة واحدة أنا كل الصواب ولكني أتمنى كأي مسلم أن تزدهر الصحوة الإسلامية على أسس إسلامية حقيقية تقدما وازدهارا لشعبنا في مصر بل وللعالم الإسلامي أجمع.

ولعل اختتم هذا الفصل بترحم على إمامنا الجليل الشيخ محمد عبده عندا قال مقولته المشهورة بعد عودته من رحلة إلى بعض البلدان الأوربية تعليقا على ما لمسه عن بعض مظاهر الحياة فيها وجدت هناك إسلاما ولم أجد مسلمين وهنا أجد مسلمين ولا أجد إسلاما وكان واضحا أن إمامنا الجليل يريد أن يقول إن الإسلام دين الحضارة والعلم والتقدم والعمل نأخذ بها في مجتمعاتنا الإسلامية التي يسعى البعض فيها إلى الاهتمام بالشكل أكثر من الاهتمام بالجوهر.

الفصل الثالث التطبيق الديمقراطي بعد أحداث أكتوبر سنة 1981

أتصور أنه من الضروري أن نبدأ هذا الفصل من المذكرات بإجابة عن سؤال قد يطرأ في ذهن الكثيرين ولذلك فإنه يحتاج إلى إجابة مبكرة لعلها تكون مقنعة أما السؤال فهو لماذا اختيار هذا المضمون التطبيق الديمقراطي ليكون موضوعا رئيسيا في هذه المذكرات؟ وقد يقترن به تساؤل آخر قد يمتزج لدى البعض بشيء من الدهشة وأعرف أن لهم عذرهم فكيف يركز رجل أمن سابق على التطبيق الديمقراطي فهناك انطباع عام مع كثير من الأسف أن رجل الأمن خصوصا في دول العالم الثالث هو أبعد الناس عن الاهتمام أو التفكير في البعد الديمقراطي فهو أولا رجل ضبط وربط بحكم طبيعة عمله التزاماته ثم لعله يفضل كثيرا أن يعمل تحت مظلة من القوانين الاستثنائية وفي غياب من الممارسة الديمقراطية لتكون له حرية حركة أوسع وسلطات أكثر تهيئ له ممارسة مهمته في يسر وسهولة.

ومع ذلك فإنني قبل أن أسترسل في عرض مضمون هذا الفصل يحسن أن أتعرض لنقطة هامة وقد يكون فيها الإجابة الكاملة عن ذلك السؤال وهذا التساؤل فكما ذكرت سابقا فإنني أركز في المحتوي العام لهذا المذكرات على تحليل المقدمات التي دفعت الأحداث إلى تلك النتائج التي وصلت إليه ولأنني رجل أمن ثم رجل سياسة فإنني أتناول هذا التحليل من منظوره الأمني والسياسي المستمد من تفاعلات الواقع بعيدا عن حرفيات النظريات والمثاليات وهو منظور ما دام يستمد منطقه من الواقع الميداني فإنه يفرض الغوص في مقدمات أي حدث وتحديد تراكماتها وتفاعلاتها المتتالية لكي تنتهي الأمور إلى تلك النتائج التي تحدد أبعاد كل حدث

غياب الديمقراطية وأحداث 77و 81

ولما كان الاختيار قد وقع على حدثين تعرضت لهما البلاد وأعني بهما أحداث يناير سنة 1977 ثم أحداث سنة 1981 على النحو الذي ورد في الفصلين السابقين باعتبارهما أهم حدثين داخليين وقعا بعد ثورة يوليو سنة 1952 حتى الآن ثم كان لهما تأثير ممتد في بعض المسارات الأمنية والسياسية فلقد تأكيد طبقا لهذا التحليل من وجهة نظري أن غياب البعد الديمقراطي في مراحل سابقة على كليهما كان من أهم العثرات السياسية التي دفعت الأمور إلى النتائج التي وصلت إليها في كلا الحدثين.

ذلك عن الشق الأول وهو السؤال أما عن الشق الثاني وهو التساؤل عن مدى تجاوب رجل الأمن مع التطبيق الديمقراطي فلعل أبادر وأقول إنه انطباع ظالم وغير دقيق ذلك الانطباع الذي يتصور أن رجل الأمن متناقض بطبيعة الأمور في أدائه لرسالته مع الديمقراطية وإيضاحا أكثر لذلك فإن رجل الأمن أولا وأخيرا هو أداة المجتمع في تأكيد عوامل الاستقرار الذي يهيئ له أفضل مناخ يضلع فيه بمسئوليته الأمنية وإذا كانت هناك قلة محدودة من رجال الأمن تخرج في أداء رسالتها عن هذا المفهوم في صورة تجاوزات فإن ذلك يجب ألا يشوه على وجه الإطلاق حقيقة الدور والمسؤولية التي يضطلع بها رجل الأمن والالتزام العام الذي يسود القطاعات العريضة من المؤسسات الأمنية المختلفة.

وإذا اتفقنا كذلك على أن الممارسة الديمقراطية في مسارها الشرعي والصحي يجب أن يكون دائما في جميع توجهاتها مؤكدة للسيادة القانونية والشرعية فإن النتيجة الطبيعية لذلك أنه لا تناقض يقينا بين أغراض الأمن ومتطلباته وبين الديمقراطية فكلاهما يسعى على تحقيق هدف واحد وهو الاستقرار ذلك الهدف الذي يمثل بدوره المنطلق الأساسي والأرضية الصلة التي تهيئ للمجتمع أفضل الظروف لمعالجة مشاكله الاجتماعية والاقتصادية كذلك هو الأرضية التي تسمح للديمقراطية أن تنمو وتزدهر وتترسب مقوماتها وفوائدها في الوجدان الشعبي العام، إذن فإن اختيار البعد الديمقراطي ليكون خاتمة فصول هذه المذكرات لم يكن اختيار عشوائيا فمازال دروس الماضي البعيد والقريب صارخة في دلالالتها التي تؤكد أن غياب هذا البعد كان دائما أحد الأسباب الجوهرية وراء كثير من العثرات التي تعرض لها المسرح السياسي والتي أفرزت بدورها كثيرا من الأحداث الهامة وهي بدورها كان لها تأثير مباشر بطبيعة الحال على الاستقرار العام وعلى تفاقم عدد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية.

الديمقراطية للمستقبل أيضا

وإذا كانت الديمقراطية هي قضية الماضي والحاضر وهي القضية الأكثر أهمية بالنسبة للمستقبل فإننا نسعى في هذا الفصل إلى استعراض المسار السياسي الديمقراطية منذ بداية هذه المرحلة الجديدة بعد ولاية الرئيس مبارك وهدفنا أن نتناول هذا المسار من جميع زواياه لنضع أيدينا على إيجابياته وسلبياته ولابد ونحن نتحدث عن السلبيات أن نسندها إلى أسبابها الحقيقية سواء امتدت هذه السلبيات إلى الماضي البعيد أم القريب.

وفي ضوء كل ذلك فإننا نتحدث في الأجزاء التالية بعد هذا التقديم عن ملامح المسرح السياسي بعد أكتوبر سنة 1981 ثم نتحدث عن التطورات المبدئية التي هيأت للتغيير في بداية هذه المرحلة الجدية ونعرض بعد إيضاح ملامح هذا التغيير للمنطلقات التي حكمت دور وزير الداخلية في اضطلاعه بمسئولية قيادة جهاز الأمن كأداة المجتمع في تأكيد سيادة اضطلاعه بمسئولية قيادة جهاز الأمن كأداة المجتمع في تأكيد سيادة القانون والشرعية ونعرض بعد ذلك لمنطلقات الحركة السياسية على المسرح السياسي فيما يتصل بممارسات القوى السياسية بإيجابياتها وسلبياتها ثم نتحدث عن الانتخابات الشعبية والتشريعية ودلالاتها وما مر بها من متغيرات باعتبارها من أهم الممارسات في التطبيق الديمقراطي ونتحدث بعد ذلك عن دور الحكم المحلي أو الإدارة المحلية كما تسمى حاليا ونتحدث بعد ذلك عن دور الحكم المحلي أو الإدارة المحلية كما تسمى حاليا في دعم الممارسة الديمقراطية من حيث غايتها لصالح المجتمع وأخيرا نتحدث عما يثار عن أزمة الديمقراطية في مصر من حيث أسبابها إن وجدت والأطراف المسئولة عنها ولعلنا بعد أن نعرض لهذه الزوايا كلها نكون قد أحطنا بعمق المتغيرات التي طرأت على التطبيق الديمقراطي في بداية هذه المرحلة الجديدة بعد ولاية الرئيس مبارك وما اعترض المسار السياسي من سلبيات وخلفياتها.

-1-

ملامح المسرح السياسي بعد أحداث أكتوبر سنة 1981

لم تكن أحداث السادس من أكتوبر 1981 وما سبقها من أزمة سياسية حادة انتهت بقرارات سبتمبر لتمر دون أن تترك بصماتها وذيولها على المسرح السياسي بأكمله بل على المناخ السياسي العام والأمني بصفة عامة.

فقد كانت هناك أولا الآثار السياسية المباشرة التي عكستها قرارات سبتمبر على جميع القوى السياسية الشرعية التي خضع كثير من قياداتها إلى تلك القرارات بعد أن وضعوا تحت التحفظ بالمعتقل بعد تطبيقها عليهم وكانت النتيجة المباشرة لذلك الشمول الذي اتسمت به هذه القرارات أن مناخا متوترا من الخصوصية السياسية بين القوى السياسية بأجمعها وبين النظام هو الذي كان يسيطر على المسرح السياسي ويغلفه بكثير من الغيوم بل إن أثر التوتر قد امتدت ليظهر الأمر وكأنه جميع القوى السياسية الشرعية قد التحمت مع القوى غير الشرعية في موقف واحد وعلى أرضيه مشتركة في مواجهة النظام يضاف إلى كل ذلك أن القرارات التي شملت قيادات مسيحية وقيادات إسلامية قد أضافت بعدا دينيا مزدوجا إلى حدة التوتر السياسي لتزداد الغيوم التي تغطي المسرح العام الداخلي كثافة وسوادا منذرة بعواصف غير محددة الاتجاه.

وكان يضاعف من حدة التوتر الذي يسود المسرح العام الداخلي أن الموقف الأمن بدوره لم يكن قد استقر بعد نتيجة تلاحق الأحداث بصورة عنيفة غير مسبوقة بشكل كان يعطي مؤشرات عن احتمالات كثيرة يمكن أن تتداعى وغموض مبدئي حول الأبعاد الحقيقة لما يحدث ويكفي أن يشار هنا إلى أحداث أسيوط ومؤشراتها بذلك العنف الذي اتسمت به والتي وقعت بعد ساعات من اغتيال رئيس الجمهورية الراحل في عملية المنصة وما تلاها من أحداث متفرقة في القاهرة الجيزة جرح وقتل خلالها عدد من رجال الأمن وألقيت فيها القنابل على قوات الأمن المهاجمة لاعتقال عناصر تنظيم الجهاد الضالع في تلك الأحداث بصورة أكدت أننا أمام تنظيم متشعب أعد عدته لكي يواصل تحقيق أهدافه التي بدأها بعملية المنصة اقترن كل ذلك في نفس الوقت بجو عام من الترقب والتخوف المشوق بالتوتر على المستوى الجماهيري العام الذي فوجئ بهذا الحجم الكبير من الأحداث وأصبح عاجزا عن تفسير ما يجري على الساحة

مطلوب علاج سريع

كان كل ذلك يمثل ملامح عريضة تحيط بالموقف الداخلي والمسرح السياسي في اللحظات الأولى بعد حادث المنصة والأيام التالية له وكانت تشير بشكل واضح إلى أن الموقف برمته يحتاج إلى علاج سريع يقضي تماما على أسباب هذا التوتر العام ويهيئ ظروفا أفضل لكي تعود الأوضاع الأمنية والسياسية إلى مسارها الطبيعي وقد تكلفت التطورات التي تلاحقت بعد ذلك لكي تعيد الأمور إلى مسارها الطبيعي.

-2-

التطورات التي هيأت للتغيير

كانت السيطرة الأمنية التي توالت يوما بعد يوم وأحاطت بأبعاد المؤامرة عاملا هاما في تأكيد معالم الاستقرار الداخلي والحد من أي تداعيات محتملة وبات واضحا للرأي العام بصفة عامة أن السلطات المسئولة تمسك تماما بخيوط الموقف وأن أي أحداث أخرى مفاجئة أصبحت غير واردة في الحسبان.

واقترن استقرار الموقف الأمني بعدد من التطورات الدستورية والسياسية التي تلاحقت وكان في مقدمتها ذلك الاستفتاء الذي تم في موعده الدستوري بانتخاب الرئيس مبارك رئيسا للجمهورية فقد كان بجميع المقاييس استفتاء تاريخيا من حيث ضخامة الإقبال الجماهيري على التصويت فيه من الناحية الواقعية كما لم يحدث من قبل وكان من أهم الملاحظات فيه أن الملايين من المثقفين حرصوا على الوقوف أمام اللجان الانتخابية لساعات طوال حرصا على الإدلاء بصوتهم الانتخابي وان هذا الإقبال غير المسبوق بمثابة إعلان شعبي بأن القاعدة العريضة للجماهير تريد أن تؤكد بأنها ترفض المجهول الذي كان ينتظر البلاد وكأنها تعلن أيضا رفضها لمنطق التآمر للوثوب إلى السلطة مهما كان لون الرداء الذي يرتديه المتآمرون.

بل إن ذلك الاستفتاء التاريخي وحرص الملايين من القواعد الجماهيرية والتي توصف عادة بالجماهير الصامتة ولا تشارك في الحركة السياسية بصفة عامة على المشاركة فيها قد أد في دلالاته أن الأغلبية الشعبية قد ترسب في وجدانها أنها ترفض أي تغيير يتم بعيدا أو متناقضا مع الأسلوب الديمقراطي الدستوري.

ومن المؤسف حقا أن المحللين السياسيين لم يقفوا وقفة متأنية أمام دلالات هذا الاستفتاء وإلقاء الضوء الكافي عليها لتكون درسا مستفادا أمام جميع القوى السياسية الشرعية وغير الشرعية حتى لا تتناقض ي أسلوبها وأهدافها ومسار حركتها مع جوهر الوجدان الشعبي العامي الذي أكد بوضوح أن القنوات الشرعية هي السبيل الوحيد لأي تغيير يرتضيه ولم يكن هناك أدنى شك أن هذا الاستفتاء على هذه الصورة التي تم بها وتلك المؤشرات والدلالات الواضحة التي عبر عنها كأن بمثابة إطفاء سريع لكثير من وميض النار تحت الهشيم وهيأ المسرح السياسي لصورة جديدة من الممارسة السياسية.

من المعتقل.... للرئاسة

وبخطوة غير متوقعة طبقا للتقاليد المعتادة، أتخذ الرئيس مبارك قرارا أخر في رسالة أبلغت لي لتنفيذها وكنت كما أشرت سابقا قد عدت ثانيا لأدير جهاز مباحث أمن الدولة في أعقاب اغتيال الرئيس الراحل السادات، وكان محتوى هذه الرسالة إعلان جميع الشخصيات السياسية الذين شملتهم قرارات سبتمبر بالتحفظ عليهم بالمعتقل أنه تقرر الإفراج عنهم فورا وأنه تم إعداد وسيلة المواصلات التي ستنقلهم إلى حيث يريدون كما اشتمل مضمون تلك الرسالة بأن جهتهم الأولى ستكون مقر رئاسة الجمهورية لمقابلة الرئيس وأنهم سيحاطون علما بذلك بعد أن يستقلوا السيارات التي جاءت لنقلهم.

وكانت الدهشة الممتزجة بالاطمئنان والتفاؤل هي رد الفعل الفوري الذي قابل به الجميع هذا الخبر، وأعتقد أن الغالبية منهم لم تكن تتوقع أن يتم الإفراج عنهم بهذه السرعة ولم تكن تتوقع أكثر أن يكون أول لقاء بعد أن يغادروا المعتقل مع الرئيس الجمهورية.

واعترف من جانبي بأن تلك الخطوة قد أثارت في داخلي مشاعر كثيرة من الإعجاب والتفاؤل أيضا فقد بدا واضحا أن الموقف برمته منذ اللحظات الأولى التي تفجرت بعملية المنصة، كان موقفا غريبا وشاذا لا يخضع في جميع جوانبه ومفاجأته لأي منطق بل إن ما سبق حادث المنصة من تطورات داخلية انتهت بقرارات سبتمبر كانت بدورها تطورات شاذة وبعيدة إلى حد كبير عن المنطق العادي لطبيعة الأمور، ولذلك فقد بدت تلك الخطوة بمثابة جراحة عاجلة ومبكرة لمعالجة سريعة لآثار أزمة تفجرت فجأة على المسرح السياسي وتحتاج إلى استئصال مبكر لأي رواسب في النفوس وتنتزع من المناخ السياسي العام كثيرا من عوامل التوتر والقلق التي سادته لعدة شهور.

حياة سياسية طبيعية

يضاف إلى كل ذلك أن تلك المقابلة التي تمت بين الرئيس وبين الشخصيات المرج عنها بقصر العروبة حيث كان الرئيس يجري مقابلات وما تخللها من مناقشات سادتها روح المصالحة والسماحة كان لها دلالة واضحة بأن الرئيس حريص تماما على تهيئة شتى الظروف الموضوعية لكي تعود الحياة السياسية إلى وضعها الطبيعي وأنه حريص في نفس الوقت على فتح القنوات التي تدعم الممارسة الديمقراطية.

ولقد كانت تلك الروح والمناخ الذي تولد عنها هي السبب المباشر الذي حفز حزب الوفد الجديد على إعادة إعلان ظهوره كحزب تحت التأسيس بعد أن كان قد أعلن حل تشكيلاته كحزب سياسي قبل ذلك بعام على أثر هجوم سياسي شنه الرئيس الراحل عليه.

كما أعاد حزب التجمع إصدار جريدته الحزبية بعد أن كان قد أوقف إصدارها على أثر صدور قرارات سبتمبر وكان كلها مؤشرات تفيد أن حركة حزبية ستعود إلى المسرح السياسي بروح جديدة وفي مناخ من المصالحة السياسية يفتح لها جميع القنوات.

الوزارة الجديدة

ثم كان التطور الثالث على المسرح السياسي عندما شكلت وزارة جديدة من أول يناير سنة 1982 برئاسة المرحوم الدكتور فؤاد محيي الدين وضمت كثيرا من الوجوه الجديدة وكانت المفاجأة الأخيرة في حياته الوظيفية تنتظرني مع هذا التشكيل الوزاري الجديد وتنقلني إلى معترك الحياة السياسية فقد علمت ظهر اليوم السابق على إعلان التشكيل الوزاري من اللواء نبوي إسماعيل وكان هو الذي يشغل منصب وزير الداخلية بأنه تقرر اختياري وزيرا للداخلية خلفا له وعندما سألت عن أسباب هذا التغيير كانت الإجابة بأن اعتبارات داخلية متعددة تحتم ذلك وأنه على اقتناع تام بها.

وفي مقابلة أولى مع الرئيس مبارك عقب إعلان التشكيل الوزاري وحلف اليمين الدستورية كانت الصورة التي خرجت بها بعد ذلك اللقاء عن الأبعاد الاستراتيجية التي تحكم فكر الرئيس وتقديره للوضع الداخلي وتطوراته المستقبلية تتحدد في الإطار التالي:

سياسة مبارك

• أنه يدرك تماما أن مرحلة حكمه تحمل على أكتافها مسئولية نقل مصر إلى الاستقرار الدستوري الكامل والمستمر فإذا كانت مرحلة الرئيس الراحل عبد الناصر قد وصفت بأنها مرحلة الشرعية الثورةي وإذا كانت مرحلة الرئيس الراحل السادات قد تخللتها كثير من العقبات في الممارسة الديمقراطية التي انتهت بأزمة قرارات سبتمبر فإن مرحلة حكمه عليها مسئولية ترسيخ الشرعية الدستورية حتى يتهيأ للبلاد الاستقرار الداخلي في الحاضر والمستقبل حماية لها من أي هزات تعرضها لتقلبات غير محسوبة.

• أن السبيل لترسيخ الشرعية الدستورية يقوم على دعامتين رئيسيتين: أولاهما الاستقرار الداخلي العام وثانيتهما البناء الديمقراطي بكل معطياته والذي يجب أن ينمو في ظل مناخ صحبي يدرك أن الديمقراطية وسيلة إلى غاية وهي رفاهية المجتمع.

• إن الاستقرار الداخلي العام والممارسة الديمقراطية الصحية يهيئان أفضل الظروف لانطلاق خطط التنمية لتحقيق أعلى عائد قومي يسمح بمواجهة أبعاد المشاكل الاقتصادية والاجتماعية ومعها مشكلة الانفجار السكاني.

كانت جميع هذه التطورات وما اقترن ها من أحكام السيطرة على الموقف الأمني العام والنجاح المتتالي في تصفية جيوب وذيول ذلك التنظيم الذي دبر وخطط لأحداث أكتوبر قد بدأت تؤتي نتائجها الإيجابية لكي يتهيأ المسرح الداخلي لبداية تلك المرحلة الجديدة ولتنطلق جميع المؤسسات السياسية والتنفيذية في أداء دورها على أرضية خالية من النتوءات والغبار بقدر الإمكان.

-3-

دور وزير الداخلية وتأثيره في المناخ السياسي العام

نتحدث في هذا الجزء عن دور وزير الداخلية في هذه المرحلة الجديدة وذلك من منطلق أساسي يتعلق بتلك الحساسية التي تحيط بهذا المنصب فهو من الناحية الواقعية برغم أنه منصب سياسي فإن شاغله بحكم قيادته لجهاز الأمن على المستوى التنفيذي يمثل أداة المجتمع وبالتالي السلطة التي تحكم هذا المجتمع لتأكيد الشرعية وسيادة القانون ونتيجة لذلك فإن شاغل هذا المنصب السياسي يكون دائما وبحكم الضرورة أكثر لذلك فإن شاغل هذا المنصب السياسي يكون دائما وبحكم الضرورة أكثر شاغلي المناصب السياسية والتنفيذية احتكاكا بالقوى السياسية في حركتها اليومية على المسرح السياسي إضافة إلى ما يمكن أن تعكسه ممارساته من تأثير على المناخ الداخلي بصفة عامة.

فوزير الداخلية مسئول عن متابعة حركة جميع القوى السياسية والتأكد من أنها تسير في قنواتها الشرعية ولا تتجاوز القوانين التي تحكم المجتمع ثم هو مسئول عن جانب هام من العملية الانتخابية وهي بدورها من أهم أركان الممارسة الديمقراطية والممارسة الحزبية بصفة عامة سواء في مراحلها الأولى أو مراحلها التالية تحت إشراف الصلة القضائية إلى مرحلة إعلان نتائج الانتخابات وفي جميع مراحل اضطلاعه بهذه المسئولية فإن قنوات اتصاله بالقوى السياسية وانسيابها في إطار من العلاقات الصحية له تأثير كبير على تهدئة المناخ السياسي العام أو خلق جو من التوتر والتعقيدات لامبرر له.

ويحضرني تدليلا على ما أقوله قصتان، أعتقد أن مؤدي كلتيهما يتفق تماما مع منطق ذلك التقدم الذي حاولت به أن أشرح حساسية دور وزير الداخلية وانعكاسات ممارساته على المناخ السياسي العام.

تعليق للأديب نجيب محفوظ

في تعليق لأديبنا العالمي الأستاذ نجيب محفوظ في مقاله الأسبوعي بجريدة الأهراميوم 13/ 10/ 83 تعليقا على انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشورى التي جرت في ذلك العام ولتفصيلات ذلك قصة أخرى سنعرض لها عندما نتحدث عن الانتخابات ما نصه الأتي (جاء في جريدة الأحرار المعارضة أن بعض رؤساء لجان الانتخابات قد ظنوا أن التعليمات التي صدرت إليهم بالتزام الحيدة والنزاهة في انتخابات مجلس الشورى، ما هي إلا مجرد تصريحات تهدف إلى الاستهلاك المحلي، فجروا على عادتهم في تزوير البطاقات الانتخابية وإذا بالشرطة تلقى القبض عليهم تحيلهم إلى النيابة العامة وقفت أمام الخبر وأنا من الدهشة إلى مالا نهاية لا لسوء ظن بالشرطة ولكن لفيض غمرني من الذكريات الأسيفة عن الماضي البعيد والقريب حينما كان المستبدون يتخذون من الشرطة وسيلة إلى تزييف إرادة الشعب وتخليق برلمان مزور كقناع لحكم ملكي مطلقا كنا في تلك الأيام ننظر إلى الشرطة باعتبارها عدو الشعب وحقوق الإنسان وسلاح الظلم والطغيان والحق أن الشرطة كانت الضحية الأولى للطاغية فهو الذي أخبرها على التخلي عن واجبها نحو الوطن لتخدم أهواءه وأطماعه واليوم تعود الشرطة إلى موقعها الطبيعي كحارس أمين للقانون والقيم وحقوق الشعب وكساهر يقظ على الدستور والديمقراطية وقديما كان المستبد يعهد بوزارة الداخلية رجل واسع الإدراك نبيل المقاصد عامر القلب يحب الوطن والديمقراطية وحقوق الإنسان وقد وعد وتعهد ثم صدق الوعد والتعهد وأول الغيث قطرة ثم ينهمر.

درجة الحرارة

وفي تعليق للسيد ممدوح سالم رحمه الله سمعته من أحد المقربين إليه عندما قال في جلسة له بعد أحداث أكتوبر سنة 1981 إن ممارسات وزير الداخلية أي وزير لدوره يمكن أن ترفع درجة حرارة المسرح الداخلي إلى درجة 40 مئوية ويمكن أن تحفظ له درجة حرارة لتكون عند معدلها الطبيعي ولا تزيد على 37.

ولعلي أكتفي من جانبي بدلالات هذين التعليقين وما يفصحان عنه من معان تؤكد ما أشرت إليه من مقدمة هذا الجزء عن حساسية دور وزير الداخلية فالتعليق الأول لأديبنا العالمي نجيب محظوظ الذي عرف بواقعيته الأدبية والسياسية وهو غني عن كل تعريف وأذكر أنني بعد أن قرأت له ذلك التعليق في وقته أن سعيت إلى الاتصال به تليفونيا لأعبر له عن شكري واعتزاري ولم يكن لي حظ لقائه على الإطلاق من قبل وقد ذكر لي في معرض رده على شكري أنه كتب ما هو مقتنع به ولم يقصد أي مجاملة وإلا لما كتب شيئا وهو مبدأ لا يحيد عنه والتعليق الثاني للسيد ممدوح سالم الذي شغل مراكز رئيس حزب مصر ورئيس الوزراء ووزير الداخلية في مرحلة السبعينيات وبالرغم من أنني اختلفت معه فيما يتعلق بأحداث يناير سنة 1977 على النحو السالف الإشارة إليه فإن الرجل له خبرته الأمنية والسياسية التي كانت موضع تقدير من الكثيرين.

وأسارع هنا إلى تأكيد نقطة هامة لمجرد الإيضاح فإنني أركز في هذا الجزء من المذكرات على دور وزير الداخلية ومنطلقاته للمساهمة في تهيئة أفضل الظروف للممارسة وليس لعرض جوانب شخصية فذلك ما أحاول قدر طاقتي أن أبتعد عنه ولكنني أسعى فقط إلى أن أوضح جانبا يتصل بالسياسات التي تدخل في الإطار العام الذي أحاط بالممارسة السياسية منذ بدأت هذه المرحلة.

البعد الديمقراطي

كانت أمامي بعد ذلك استراتيجية القيادة السياسية التي سبق أن أشرت إليها قبل قليل والتي أعلنت عنها بوضوح في مناسبات متعددة لهل أهما ما ورد بخطاب الرئيس مبارك أمام مجلس الشعب بعد توليه السلطة وكان في خلفيات فكري في نفس الوقت اقتناع شخصي بأهمية البعد الديمقراطي وذلك الرباط الوثيق بين البعد الأمني والبعد السياسي ومن المؤكد أن عملي الطويل في حقل الأمن السياسي والذي وصل إلى ثلاثين عاما قد ساعد على صقل الخبرة وتأكيد أهمية هذا البعد وأعني به البعد الديمقراطي ثم كان أمامي أخيرا الدروس المستفادة من أحداث متعددة كان أقربها وأهمها أحداث أكتوبر سنة 1981.

وفي ضوء كل هذه المعاني فقد تحدد عدد م المنطلقات الأساسية لتكون أساسا وإطارا للتعامل مع الحركة السياسية لمختلف القوى السياسية الشرعية بجانب ضوابط أخرى للتعامل الأمني فيما يتعلق بأغراض الأمن وبالرغم من أنها ليست موضوعنا ف هذا الفصل فإنها بدورها كانت تتجه مباشرة إلى أصل الداء وتسعى إلى الإحاطة به وتهتم أكثر ما تهتم بالوقاية لتكون هي محور الاهتمام الأول وليس منطق رد الفعل الذي تحركه الجريمة وإنما الفعل الذي يسعى إلى منع الجريمة أولا وأتصور أن منطق الحوار مع فكر التيار الديني المتطرف الذي نهج وينهج أسلوب الإرهاب هو ترجمة واقعية لما أعنيه عن الفعل ورد الفعل الأمني فقد كان التقدير أن الفكر هو الذي يولد الحركة الإرهابية بين وقت وأخر وكان علينا إما أن ننتظر حركة يولدها بين وقت وآخر ثم نسعى إلى مواجهتها بمنطق رد الفعل بإجراءات القمع والمحاكمات إلخ وإما أن نتيجة مباشرة إلى أصل الداء وهو هنا ذلك الفكر الذي يولد تلك الحركة ومن هنا كان الاتجاه إلى منطق الحوار مع الفكر لتفريغه من مضامينه وأسانيده الخاطئة على النحو السابق الإشارة إليه تفصيلا في الفصل السابق وبحمد من الله سبحانه وتعالى فقد أثمرت تلك الضوابط الأمنية وتأكدت عوامل الاستقرار الأمني لتفسح الطريق تماما لممارسة ديمقراطية بمنطق جديد مع بداية تلك المرحلة .

أربعة منطلقات للتعامل

وإذا حاولت أن أحدد تلك المنطلقات التي وضعت للتعامل مع حركة القوى السياسية الشرعية استجابة لمتطلبات ذلك المناخ الجديد للممارسة الديمقراطية فإنني أحددها في الأتي:

1- عدم اختلاف أي عقبات أمام الممارسات السياسية الشرعية لكي تنطلق في حركتها عبر القنوات الشرعية وتؤكد الإطار الذي يحكم التطبيق الديمقراطي السليم.

2- عدم المبالغة أو التهوين في تقدير المواقف والأحداث المختلفة ومدى تأثيرها على الوضع الداخلي فالمبالغة من شأنها أن ترفع تلقائيا من أسباب التوتر في المناخ السياسي العام دون مقتضى حقيقي ومن شأنها أكثير من ذلك أن تدفع الجهود بعيدا عن التشخيص السليم وتشتتها في اتجاهات خاطئة ولعل الصورة والأسلوب الذي صدرت به قرارات سبتمبر أبزر مثال على ذلك كذلك التهوين فهو بدوره لا يقل ضررا عن المبالغة فهو عامل مخدر يفتح الباب على مصراعيه لعنصر المفاجأة الذي يكفي وحده لاحتمالات تخرج كثيرا من دائرة الحساب والتقدير ولقد كان درسا تعليمنا من أساتذة سابقين ونقلناه إلى غيرنا من الأجيال الأخرى بأن النجاح المؤكد أن تعيد كل شيء إلى حجمه الحقيقي وعندئذ لا تضل الطريق وتضع يدك على الحقيقة وهي وحدها كفيلة أن ترشد دائما إلى الصواب.

3- أن يكون منطق التعامل مع المواقف السياسية التي تثار وجهات نظر متباينة بشأنها هو أسلوب الحوار السياسي والمناقشة والتفاهم اللهم إلا إذا كان هناك خروج واضح على القانون سوء نية فلا مفر من اتخاذ الإجراء القانوني الطبيعي.

4- إن وزير الداخلي يشغل منصبا تنفيذيا وله صفة حزبية فهو عضو في الحزب الذي يشكل الحكومة ولكنه في قيادته لجهاز الأمن لتأكيد سيادة القانون والشرعية يؤدي مسئوليته في بعدها القومي وتتساوى جميع الأحزاب في حقوقها التزاماتها داخل دائرة واحدة بهذا المنظور القومي.

السير على الشوك

تلك كلها منطلقات حددت منطق التعامل مع حركة القوى السياسية الشرعية وكما قلت في مقدمة هذه المذكرات فإنني أعرف بأنني أسير على الشوك في كثير مما أعرض له من مواقف وأحداث وأتوقع جانبا من النقد أو الهجوم من بعض التيارات السياسية التي تعرضت لها المذكرات ولذلك فإنني استسمح القارئ الكريم بأن أبادر من جانبي لكي أعرض وجهة نظر عدد من الكتاب الأفاضل التي تتعلق بشخصي وكم كنت أود ألا ألجأ لذلك ولكن للضرورة أحكاما كما يقولون فلقد وعدت ألا أذكر كلمة في هذه المذكرات بعيدة عن الحقيقة والحقيقة وحدها وإذا كنت أحتكم للرأي العام الذي تمثله الصحافة الحزبية والقومية فإنني اختار من بين كثير من التعليقات التي علق بها شخصيات كريمة متعددة أقول اختار من بينها فقط ما ورد منها في الصحف الحزبية المعارضة أو في صحف قومية بأقلام عرفت بمعارضتها وقد نشر جانب منها بعد الانتهاء دوري الوزاري تماما وبعد حادث محاولة الاغتيال الذي تعرضت له وهي شهادة أعتز بها وأسجلها لمجرد الاحتكام إليها إذا دعت الضرورة إلى ذلك.

مصطفى شردي (جريدة الوفد 7 مايو سنة 1987)

لقد كنت من الذين اختلفوا مع حسين أبو باشا وبلغ الخلاف أقضى درجات الحدة غير أن الإنصاف يلزمني بذكر حقيقة أعرفها عن الرجل الذي لم يعد صاحب مقعد أو سلطان وهي أنه كان أول من رفع شعار الحوار مع الجماعات الإسلامية وأول من قال إن القوى لن تقمع الرأي وإن العصا لا تصلح أبدا للحوار وإنما يقارع الرأي بالرأي وتواجه الحجة بالحجة وهذا هو السبيل الوحيد للاقتناع وقد احتضن أبو باشا هذا الشعار الجديد الذي اختفى تماما من حياتنا السياسية منذ قيام ثورة يوليو قبل ثلاثين سنة وتمسك الرجل بشعاره على الرغم من أنه تولى مسئولية وزارة الداخلية في ظروف حالكة السواد وبعد اغتيال الرئيس الراحل السادات وعلى الرغم من الأصوات التي كانت تطالب بالانتقام والأقلام التي أخذت تدق طبول الحزب على الجماعات الإسلامية تمسك الرجل بشعاره ونجحت أفكاره وكان من الشجاعة أن أطلق سراح الآلاف من أعضاء الجماعات الإسلامية الذين كانت تزدحم بهم السجون والمعتقلات وواصل الحوار خارج الأسوار حتى قيل وقتها أن حسن أبو باشا أزيح من منصب وزير الداخلية لأنه كان رجل سياسي أكثر منه رجل أمن.

الشيخ أحمد حسن الباقوري (مايو 2/4/84)

والشيخ الباقوري رحمه الله كان من قيادات جماعة الإخوان المسلمين وأول وزير إخواني في أول حكومة لثورة يوليو واختلف بعد ذلك مع جماعة الإخوان وقد ذكر هذا التعليق في معرض حديث له على مبدأ الحوار مع الجماعات المتطرفة وقال فيه ما نصه:

الرجل الصالح هو الذي يجري الله على يديه الخير والسيد أبو باشا وزير الداخلية رجل متدين وله أسلوب ومنطق وأدب جم وإلمام بالإسلام وحرص على الوطنية وكون وزارة الداخلية تلجأ إلى الحوار فهذا بلا ريب أمر يرضي الله ورسوله والمؤمنين ومع أن تجربة الحوار الديني تجربة جديدة فإنها تعد في الوقت نسه قدوة لكل العالم العربي والإسلامي ومازالت مصر سابقة إلى كل خير.

جريدة الأهالي 29/ 12/ 82

تحت عنوان نحن و حسن أبو باشا على المستوى الشخصي إذا سلمنا بمنطق الذين تصوروا أن هناك موقفا شخصيا من اللواء حسن أبو باشا نقول إن حزبنا تعاون مع ثلاثة من وزراء الداخلية لا شك أن أفضلهم في حدود السياسات المقررة هو حسن أبو باشا فهو على الأقل لم يلفق لحزبنا أو لأعضائه أيه قضايا أمن دولة ولم تقتحم شرطته مقر الحزب ولم يمنع لحزبنا اجتماعا ولم يستخدم في تعامله معنا أسلوب السب والقذف والاتهام ولم يصادر جريدتنا رغم قسوتنا أحيانا في نقد سياسة وزارته.

جريدة الأهالي 25/7/ 84

أرجعت بعض الدوائر السياسية فقد حسن أبو باشا لمنصبه كوزير للداخلية إلى عدة أسباب منها أنه كان يمثل من يسمون بالحمائم ي وزارة د. فؤاد محيي الدين الذي كان قبل وفاته من أنصار سياسة مواجهة المعارضة السياسية في الداخل وقمعها أو هو تيار كان أبو باشا لا يرحب به ويرى أن معركة النظام الأساسية هي مع الجماعات الإسلامية المتطرفة، وأن إتاحة الفرصة للأحزاب المسموح بها لكي تتحرك وتنشط يكفل أمن النظام وكان وفاة. د. فؤاد محيي الدين جعلت دور الموازنة الذي كان يلعبه أبو باشا أقل أهمية خاصة أنه قد تجاوز في تقدير بعض الدوائر دوره ليعلب دورا سياسيا بارزا في الاتصال بأحزاب المعارضة وفي إقامة اتصالات وإجراء حوارات مع بضع الفصائل السياسية ومنها الناصريون بينما تزداد الحاجة إلى وزير داخلية حرفي يهتم أساسا بالأمن.

جريدة الأهالي (13/ 5/ 1987)

كان حسن أبو باشا من أفضل وزراء الداخلية لسبب واحد على الأقل وهو أنه صاحب شعار الحوار بين النظام وبين من يرى النظام أنهم من المنشقين أو المتطرفين أو الإرهابيين دون الاعتماد على الأسلوب الأمني فقط ولم يكن سرا أن حسن أبو باشا من أنصار إتاحة الفرصة للتيارات السياسية الحقيقة للعمل السياسي المشروع من خلال الحزب الوطني الديمقراطي أو من خارجه ولذلك أثار موقفه ثائرة رئيس الوزراء المرحوم فؤاد محيي الدين الذي كان رفض لأسباب خاصة اشتغال الوزراء السياسة ومهمة وزير الداخلية الأولى والأخيرة في رأي رئيس الوزراء هي أن يستخدم قوات الشرطة وأجهزة الأمن وحرس السجون في ردع كل من تسول له نفسه الخروج عن القواعد المقررة وتكاتف زملاء أبو باشا في الحكومة والحزب الوطني للتخلص من الوزير الذي يريد الاشتغال بالسياسة ونجحوا في إبعاده عن وزارة الداخلية ثم عن وزارة الحكم المحلي وتردد في أروقة الحكومة والحزب الوطني اتهام فظيع ضد اللواء حسن أبو باشا وهو أنه ذو ميول ناصرية وهو اتهام لا يسقط بالتقادم وله من الآثار المباشرة والجانبية ما يعجز عن مواجهته رجل واحد.

مصطفى أمين جريدة الأخبار (مايو 78)

نحن نعتقد أن هذه الجريمة يقصد محاولة الاغتيال ليست موجهة إلى اللواء أبو باشا وحده فكلنا يعرف أنه فتح أبواب مكتبه للحوار مع كل فئات المعارضين وأنه كان يدعو إلى الحوار ويعارض سياسة البطش والجبروت. ومرة أخرى فلم يكن قصدي من عرض هذه التعليقات أن يكون الجانب الشخصي مادة أخوض فيها ولكنني أردت أن أعطي الانطباع بما ثبت في يقين الأطراف السياسية والمعارضة بصفة خاصة عن ذلك المنهج الجديد الذي بدأ مع تولي الرئيس مبارك مسئولية الحكم وهو منهج كانت تؤيدي القيادة السياسية وتدفعه إلى الأمام وسيكون كل ذلك ضمن الحيثيات التي نستند إليها عندما نناقش تفصيلات مسار الحركة السياسية وهل برئت من أمراض الماضي وماذا فعل تغير الزمن في ظواهر كثيرة كانت سببا في تعثر المسا الديقمراطي كما أتصور أنني يجب أن أعرض لوجهة نظري بشأن ما ورد بتلك التعليقات حول نهاية دوري كوزير للداخلية ثم عما قيل بشأن ما ورد بتلك التعليقات حول نهاية دوري كوزير للداخلية ثم عما قيل بشأن ما ورد بتلك التعليقات حول نهاية دوري كوزير للداخلية ثم عما قيل بشأن ميولي الناصرية وسيكون لكل ذلك موضعه المناسب فيما يلي من أجزاء.

-4-

المسار الديمقراطي بعد أكتوبر سنة 1981

محورنا في هذا الجزء هو المسار الديمقراطي بعد أكتوبر سنة 1981 ولست أدعي للحظة واحدة أن شيئا جديدا تماما ومتميزا قد تحقق في غمضة عين فذلك تصور منافي للمنطق العادي لطبيعة الأمور ولكنني يمكن أن أؤكد فقط أن منطقا جديا بدأ يسود في التعامل السياسي مع الحركة السياسية لكي تتأكد مقومات التفاعل السياسي الطبيعي التي تهيئ أفضل أرضية للممارسة الديمقراطية في مناخ يسمح لها بالنمو المطرد.

ولعلي أبدا لإيضاح ما أعنيه بتقديم قد يبدو غريبا في بداية ولكنه سيفصح بعد قليل عن المعنى الذي نحن بصدده الآن فلقد قدمت المعارضة استجوابين للحكومة بعد انتخابات مجلس الشعب عام 1984 تطعن فيهما في سلامة تلك الانتخابات على التفصيل الذي سنتحدث عنه في الجزء التالي بعد هذا الجزء مباشرة وفي مجال الرد على موضوع الاستجوابين كنت أعتقد مقارنة بين الظروف الشاملة التي أحاطت بهذه الانتخابات وبين غيرها من الانتخابات السابقة سواء قبل ثورة يوليو أم في المرحلة التالية لها حتى بداية الثمانينيات وقد اعترض أحد أعضاء المجلس من حزب الوفد على هذه المقارنة قائلا نحن لا ننظر إلى الماضي وإنما نناقش ما وقع الآن، وكان ردي عليه أننا لا نجري الانتخابات في معمل معقم وإنما نجريها على أرضية الواقع بكل تضاريسه وتقاليده وأعرافه وإيجابياته وسلبياته فهل ننكر مثلا أن جريمة الثأر لازالت موجودة في كثير من محافظات الصعيد بالرغم من كل مظاهر التطور في العصر وهل ننكر أ، هناك عصبيات وقبليات لازالت فاعلة في كثير من الريف المصري.

ثم إننا لكي نعرف إذا كنا نتقدم إلى الأمام ونحقق نتائج أفضل أم العكس أليس منطق المقارنة هو الأسلوب الأمثل لكي يرشدنا إلى حجم ما تحقق من إيجابيات؟

أتصور أن تلك اللقطة الجزئية من موضوع هذين الاستجوابين يمكن أيضا أن تكون مدخلنا الواقعي لمار الحركة السياسية في تلك المرحلة الجديدة.

فلم يكن متصورا بطيعة الحال أن الأمور ستأخذ مجراها بمثالية تقفز فوق كل الحواجز وتزيح عن كاهله بجرة قلم كل رواسب وجذور الماضي البعيد والقريب إذا كان هناك من تصور ذلك فإنما يكون تفاؤلا أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع الحي.

التغيير ... والزمن

ذلك أن الممارسة السياسية بدورها لا تتم في معامل معقمة خالية من كل الجراثيم وإنما تتم على أرض الواقع بكل نتوءاتها وتناقضاتها وتفاعلاتها وعندما يتدخل عامل الزمن لكي يحدث متغيراته فإن التغيير لا يتم بين يوم ليلة وإنما يتوقف مداه هو الأخر، على عوامل كثيرة قد يأتي في مقدمتها تغير الظروف والمفاهيم والأشخاص ويخطئ من يحسبها في حياة الشعوب بالأيام والشهور ولكنها تحسب بالسنين وبعشرات السنين في كثير من الأحوال.

وكما قارنا في الانتخابات لتكون المقارنة أساسا للقياس لمدى النقدي أو التأخر فإننا في تقديرنا لمسارنا السياسي لا يمكن أن نضع أيدينا على مدى ما تحقق من إيجابيات إلا إذا قارنا بين الماضي وبين الحاضر لنعرف كيف أصبحنا وماذا تحقق وإلى أين المسار؟

ولمجرد التذكرة فنحن لا نتحدث هنا عن تلك الديمقراطيات التي رسخت دعائمها وجذورها في كثير من المجتمعات الغربية والتي وصلت في مسارها الديمقراطي إلى ما وصلت إليه الآن بعد تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية امتدت لفترات طويلة من الزمن حتى استقرت في تطبيقاتها على شكلها الحالي وإنما نتحدث عن الديمقراطية لدينا كجزء من العالم الثالث الذي لا زال كثير من شعوبه يحبو ويتطلع على التطبيق الديمقراطي في حده الأدنى وإن كانت لدينا في مصر خلفية في هذا المسار نحمد الله عليها ونسبق بها كثيرا من شعوب هذا العالم.

وإذا اتفقنا على أننا مازلنا في مسارنا الديمقراطي كجزء من العالم الثالث فإننا يجب ونحن نتحدث عن هذا المسار ألا نطرح وراء ظهورنا الأطراف الفاعلة على هذا المسار ومدى تأثيرها في تفاعلاته وقد أفضل هنا أن نستعير من علم الكيمياء ما يطلق عليها المعادلة التي تتفاعل في مكوناتها لتعطي نتيجة معينة تفرزها هذه المعادلة وأتصور كما يشير إليه الواقع التاريخي لدينا والذي يمتد منذ صدور دستور 23 حتى الآن أن مكونات المسار الديمقراطي لدينا شبيهة تماما بمفهوم المعادلة الكيميائية فهي أي هذه المكونات تتمثل في التزام بين طرفين أولهما السلطة الحاكمة في المجتمع وثانيهما القوى السياسية الرائدة التي تمثل قواعد هذا المجتمع وتقود حركته السياسية فإن كلا الطرفين مطالب بأن يوجه التزامه بما يحقق الغاية من التطبيق الديمقراطي وكلما أخل أحد طرفي هذه المعادلة بالتزامه تعرضت الممارسة الديمقراطية نفسها لعثرات يتسع مداها أو يضيق طبقا لحجم الخلل في هذا الالتزام فقد تأتي المعوقات من جانب السلطة الحاكمة عندما تضيق الخناق مثلا على القوى السياسية وتغلق أمامها منافذ الحركة أو عندما تصادر حرية الرأي وتغلق قنوات الحركة الشعبية الصحية وقد يأتي الإخلال التزام من جانب القوى الشرعية عندما تعجز عن اجتذاب ثقة الجماهير أو عندما تجعل هذه الديمقراطية غاية وتتغافل أنها وسيلة لرفاهية الشعب أو عندما تخرج على الشرعية أو تحرض بشكل مباشر أو غير مباشر على الخروج عليها فإنها تصيب الديمقراطية في مقتل.

كيف كان دور السلطة؟

والآن فإننا لكي ندرك مدى التطورات التي لحقت بالممارسة الديمقراطية بعد ولاية الرئيس مبارك في أعقاب أحداث أتوبر سنة 81، لابد أن نعرض أولا لدور الطرف الأول في المعادلة الديمقراطية وأعني به السلطة الحاكمة قبل ثورة يوليو وما بعدها حتى أكتوبر سنة 1981 لنخلص في النهاية إلى مقارنة واقعية تضع أيدينا على الصورة الحقيقية التي وصلت إليها الأمور منذ بداية تلك المرحلة الجديدة وهو ما نعرض له في إيجاز في الآتي:

أولا: ولتكن لنا إطلالة سريعة مع مفكرنا الإسلامي والمؤرخ السياسي الأستاذ خالد محمد خالد وهو من أشد المتحمسين لدور الشعب المصري في كفاحه من أجل الديمقراطية قبل ثورة يوليو ولدق أصدر كتابه القيم المعنون دفاع عن الديمقراطية وتفضل وأهداني نسخة منه ويهمني أن أنقل منه بعض مقتطفات تناسب ما نحن بصدده الآن عن موقف السلطة الحاكمة قبل ثورة يوليو من الممارسة الديمقراطية أنقلها حرفيا في الفقرات التالية:

ماذا كانت مهامها يقصد الديمقراطية تجاه شعب يمارس تجربته معها على نطاق واسع لأول مرة في تاريخه أو على الأقل في تاريخه الحديث أحسب أن هذه المهام تتركز في ثلاث:

1- خلق الظروف التي تمكن لها في الأرض والتي تدعم وجودها الوافد وتملأ الفراغ الذي سينجم عن طرد نقيضها الخبيث الاستبداد.

2- إن ترفع من كرامة الحياة وإنسانية الإنسان يجعلهما ينسجمان مع تلك الظروف فعلا وفكرا ونضالا.

3- إن تفتح أمام الشعب طريق التقدم والتطور بوسائلها المستأنية وخطواتها التي قد تكون متئدة ولكنها وطيدة وراسخة مستبعدة تماما القفز في الظلام ونائية كذلك عن التجاهل الغبي لحركة التاريخ ثم يسترسل المؤلف في عرض وجهة نظره تفصيلا عن هذه المهام الثلاثة فيقول إن مهمتها الأولى تمثلت في خلق الظروف التي تدعم وجودها وتؤكد سيادتها وتمكنها من رفض الاستبداد وشل حركته وتطويق نفوذه ولقد تأتي لها ذلك حين أقامت منظماتها الدستورية ومكنت الشعب من ممارسة حقوق السياسية فهو ينتخب نوابه وممثليه في برلمان حر شجاع ثم كنت هؤلاء النواب من فرض رقابتهم الكاملة على الحكومة حتى لقد أعطتهم حق إسقاطها كما مكنتهم من حقهم في تشكيل معارضة برلمانية تتربص بأخطاء الحكومة وتدحضها ثم مكنت الشعب عن طريق صحافته الحرة من أن يكون له رأي مسموع في كل قضاياه ومشكلاته.

ولقد حققت الديمقراطية وحقق معها الشعب هذه المهمة الأولى بنجاح فقامت هذه المؤسسات الدستورية وتلك القوى الحرة والصامدة وكان كل يوم يمر بها يشهد دعما متساويا وموصولا لتلك القوى وتلك المؤسسات ولكن كان هناك انقضاض مستمر من قوى الشر والظلام على هذه القلاع التي يشيدها الشعب من برلمان حر ومعارضة مستبسلة وصحافة حرة ورأي عام واع وشجاع بيد انه كان هناك شعب يقاوم وزعامات تتقدم الصفوف وهو يزحف ويقاوم.

وهنا نلتقي بالمهمة الثانية للديمقراطية وهي الارتفاع بكرامة الحياة وبإنسانية الإنسان متمثلين في دعوة الشعب لأخذ دوره وشحذ نضاله كما يحافظ في رباط دائم على مكاسبه الديمقراطية وعلى حقوقه الدستورية التي جعلت الملك يملك ولا يحكم والتي جعلت الأمة مصدر السلطة والشعب سيد قراره ومصيره.

مرة أخرى كان هناك افتئات غاشم وجائر على هذه الحقوق وهذا أمر تقتضيه أو كثيرا ما تقتضيه طبائع الأشياء لاسيما في تلك الأيام ولكن هل من أجل هذا نحكم ونحن في كامل قوانا العقلية على الديمقراطية بالإخفاق؟

ولننتقل الآن إلى فقرات أخرى أوردها السيد طارق البشري في كتابه المعنون الحركة السياسية في مصر وهي أيضا تتعلق بنفس المضمون الذي نحن بصدده، عن دور السلطة الحاكمة قبل ثورة يوليو في دعم الممارسة الديمقراطية فيقول في هذه الفقرات التي ستند بدورها في أجزاء منها على ما ورد بكتاب الدكتور محمد حسين هيكل كان رئيسا لحزب الأحرار الدستوريين المعنون مذكرات في السياسة المصرية ما نصه الآتي إن في مص سلطتين أحداهما سياسية وهي سلطة القصر والأخرى إدارية وهي سلطة الوزراء التي تنفيذ سياسته على أحزاب الأقلية المعبرة عن مصالح الطبقات الحاكمة كبار الرأسماليين وكبار ملاك الأرض فكلف أحمد ماهر رئيس حزب السعديين بتأليف وزارة تمثل فيها كل أحزب الأقلية السعديين الأحرار الدستوريين الكتلة الوفدية الحزب الوطني على أن يحل البرلمان الوفدي وتجري انتخابات جديدة تصطنع نتيجتها بما يكفل تمثيل الأحزاب الأربعة في مجلس النواب بحيث لا يكون لأي منها أغلبية مطلقة وكان القصد من تجميع حزا الأقلية في الوزارة ومجلس النواب تكتيل القوى الرجعية استعداد لفترة ما بعد الحرب وتصديا للحركة الشعبية المتوهجة ومحاربة الوفد الذي كان برغم ما طرأ عليه من ضعف حزبا جماهيريا واسع النفوذ وقوة يعمل لها حساب كبير كما أريد بهذا التجميع أن تكون السلطة الحقيقة في الحلف الرجعي بيد الملك.

تلك كلها حقائق تاريخية أوردنا بعض ملامحها نقلا عن مرجعين هامين.

صدرا في السنوات الأخيرة وكانت المادة الأساسية لكل منهما عن تطورات الحركة السياسية والمسار الديمقراطي فيها في تلك الحقبة من التاريخ ومع ذلك فإن لنا عددا من التعليقات على ما ورد بتلك الفقرات نوجزها في النقاط التالية:

• لا خلاف مع الأستاذ خالد محمد خالد عن كفاح قطاعات عريضة من الشعب المصري قادته بعض القوى السياسية من أجل ترسيخ مبادئ الدستور والقواعد الديمقراطية ولكن ذلك لم يمنع الملك من تقطيع أوصال الحركة السياسية عندما استعان بأحزاب الأقلية وتمكن من استقطابها على جانبه لفرض هيمنته السياسية وحصار حزب الوفد ولقد نجح في ذلك إلى حد كبير واستمرت سيطرته على مقدرات الأمور حتى إقصائه عن العرش بعد قيام ثورة يوليو، ونفس الأمر قبل ذلك في عهد والده.

• بل إن السلطة الحاكمة بدأت تستعين لنفس الغرض بجماعة الإخوان المسلمين التي كانت بدورها قد حققت درجة من الانتشار الملحوظ خصما من رصيد الوفد، وكانت قد بدأت تمارس دورا سياسيا على الساحة السياسية مستندة إلى ذلك الثقل الذي حققته وإلى جهازها السري الذي أعطاها ثقلا مضافا.

• ويعلق السيد طارق البشري في كتابه المشار إليه على دور جماعة الإخوان في هذا الشأن قائلا إن جماعة الإخوان المسلمين كتنظيم سياسي انتشرت خلال الحرب وبعدها مباشرة انتشارا سريعا وضم التنظيم عددا واسعا من الأعضاء فضلا عن المؤيدين وأعد فرقا للجوالة وجمع السلاح ونظم جهازا خاصا مسلحا ودرب أعضاءه على الانصياع الكامل وكان كل ذلك معلقا ومربوطا في يد فرد لا يعرف له موقف محدد صريح في أية مسألة ولا يمكن التنبؤ بما سيتخذ من مواقف مستقبلا وأصبحت الجامعة بهذا كالقنبلة التي لا يعرف متى تنفجر ولا من سيكون ضحيتها والحاصل على مواقف زعيم الجماعة والجماعة من ورائه كانت دائما في صالح السراي وحكومات الأقلية.

• كان حزب الوفد هو حزب الأغلبية الشعبية ومع ذلك فإن هذا الحزب لم يصل إلى الحكم طوال ثلاثين عاما (1923- 1952) إلا ست سنوات متقطعة وكان الملك يقيل وزارة الوفد كل مرة يصل فيها الحكم بعد فترة وجيزة وأخرها الوزارة الوفدية عام 1952 بعد افتعال أحداث حريق القاهرة في يناير من نفس العام وكانت أحزاب الأقلية هي التي تحكم ف أغلب الوقت مستندة إلى برلمان مزور في جميع المرات.

• في ذلك الدليل القاطع على أن الشعب لم يتمكن في الأغلبية الأعم من ممارسة حقه الدستوري وإنما فرض عليه طوال ثلاثين عاما أقلية تحكمه بالسطوة والتزوير ولا يمكن بجانب ذلك أن نغفل هنا الإشارة إلى تلك الظروف الاجتماعية التي كانت سائدة في هذه المرحلة والتي كان فيها نسبة لا تقل عن 70٪ من الشعب عاجزة عن التعبير عن الحد الأدنى من إرادتها الحرة بحكم عوامل الفقر والجهل والمرض التي كانت تسود هذا القطاع العريض من الشعب.

• كان من نتائج ذلك التمزق الذي أصاب الحركة السياسية أن جهود جميع القوى السياسية أصابها الترهل والتشتت وتحولت إلى صورة كريهة من الصراعات الحزبية العقيمة وتوارت كثيرا أبعاد المشكلة الاجتماعية حتى أن حزب الوفد صاحب الأغلبية لم يكن له برنامج محدد تجاه هذه المشكلة وكانت برامجه التي أعلن عنها أو نفذ جانبا منها في المرات القليلة التي وصل فيها إلى الحكم مجرد برامج إصلاحية تناول قشور المشكلة ولا تمس جوهرها.

• ويعلق السيد طارق البشري في نفس كتابه السالف الإشارة إلهيه على ذلك الصراع السياسي وعلى دور الوفد بالنسبة للمشكلة الاجتماعية ص 269بما نصه على أن الظاهرة الجديرة بالاهتمام أن الوفد كان بشعبيته وبسياسته الإصلاحية وبمواقفه غير المشجعة للإصلاحات الاجتماعية الجذرية كان الضمانة الأساسية للنظام لقائم كما كان قادرا على امتصاص جزء هام من ثورية الجماهير ورغم هذه الفائدة الكبيرة التي كان يقدمها للنظام فقد خضع في هذه الفترة لهجوم جد عنيف من الحكومة والدوائر المحيطة الصحف الرجعية وجماعة الإخوان المسلمين.

• لم يتحقق مبدأ حرية الصحافة وإنما كانت هناك في أغلب الوقت رقابة على الصحف وكانت هناك مصادرة مستمرة لكثير من الصحف المعارضة وكان يقبض بين يوم وآخر على رؤساء تحرير الصحف ويزج بهم في السجون للاعتقال أو المحاكمة.

كانت هذه كلها محصلة واضحة لما أصاب البعد الديمقراطي من عثرات وطعنات وخنق من جانب السلطة الحاكمة قبل ثورة يوليو ولم تتمكن الجهود الشعبية من تحقيق صورة مقبولة واقعية من الممارسة الديمقراطية تتناسب مع آمالها وكفاحها طوال تلك الفترة التي امتدت بين عام 1923 وعام 1952 بل إن الصراعات التي سيطرت على حركة القوى السياسية بفعل سياسة الملك قد أفقدت أي شكل ديمقراطي ولو كان زائفا القدرة على تحقيق الغاية الحقيقية للديمقراطية لكي تستثمر لتحقيق حياة أفضل للإنسان وإلا لما رزح أكثر من 70٪ من الشعب المصري تحت ثقل الفقر والجهل والمرض طوال تلك الفترة حتى قيام ثورة يوليو.

ماذا كان بعد يوليو حتى وفاة عبد الناصر؟

ثانيا:

وإذا كانت ثورة يوليو قد قامت بعد ذلك التردي السياسي والاجتماعي الذي تعرض له نظام الحكم الملكي وبلغ أقصاه في سنواته الأخيرة فإنها كأي ثورة على مدى التاريخ كان محتما عليها أن تمر بتلك الأطوار التي تمر بها الثورات خصوصا وقد كان لها بعدها الاجتماعي الذي أكسبها منذ لحظاتها الأولى تأييدا شعبيا جارفا وعرضها في نفس الوقت في مراحلها الأولى لكثير من أعراض الثورة المضادة من جانب قوى متعددة كان من المحتم أن تصطدم في مصالحها وأهدافها مع أهداف وبرامج الثورة الاجتماعية.

ومن المفارقات التي تعرضت لها الثورة في سنواتها الأولى أن صدامها الحاد في هذه الفترة المبكرة حدث مع جماعة الإخوان المسلمين والتي استثنيت دون غيرها من القوى السياسية الأخرى من قرار الحل الذي أصدرته الثورة في أيامها الأولى ولكن اختلاف الأهداف والمبادئ سرعان ما تغلب على ذلك التعاون المرحلي والظاهري بين الثورة والإخوان وبدأت معالم الصدام تطفو على السطح يوما بعد يوم.

وكان مبدأ إقامة حياة ديمقراطية سليمة هو أحد المبادئ الستة الشهيرة التي أعلنتها الثورة في أيامها الأولى وكان ترتيبه السادس بين هذه الأهداف ولقد كان من الطبيعي أن يتأخر تنفيذ هذا الهدف في أطوار الثورة الأولى والتي بدأت بتثبيت الوضع الثوري ثم بداية التخطيطي للتغير الاجتماعي وتنفيذه وأخيرا رسم معالم المسار السياسي على المستويين الداخلي والخارجي ولقد نجحت الثورة في تحديد أبعاد هذه الأهداف وبدأت مسارها التدريجي في مواجهة عديدي من المشاكل الداخلية والخارجية.

كان أبرزها الاعتداء الثلاثي عام 1956 على أثر تأميمي قناة السويس والذي انتهى إلى شعبية جارفة حظيت بها قيادة الثورة بعد فشل أهداف هذا العدوان واتجهت الثورة بعد ذلك سريعا إلى البعد الاجتماعي الذي تحقق كثير من معالمه بدءا بقانون الإصلاح الزراعي وتأميم البنوك وانتهاء بالقوانين الاشتراكية عام 1962.

التنظيم الواحد

وكان من المنطقي في بداية الستينيات أن تبدأ الثورة في تنفيذ البند السادس من أهدافها بإقامة حياة ديمقراطية سليمة ولكنها اختارت فكرة التنظيم الواحد الذي انتهى إلى تنظيم الاتحاد الاشتراكي العري الذي يضم قوى الشعب العامل واستمر هذا التنظيم هو الوعاء السياسي الوحيد المسموح بالعمل السياسي من خلاله إلى نهاية مرحلة الرئيس الراحل عبد الناصر عام 1970 عندما توفي إلى رحمة الله.

ولابد هنا أن نناقش ما آلت إليه الممارسة السياسية على الساحة الداخلية في إطار هذا المفهوم ومدى ملاءمته لتحقيق أحد مبادئ الثورة الرئيسية وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة وهو موضوعنا الذي نناقشه في هذا الجزء.

كان مبدأ التنظيم الواحد يفترض أنه يمكن صب جميع المواطنين بآرائهم وخياراتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في قالب واحد لا يتعارض بتفاعلاته مع فكر وأهداف ذلك التنظيم وهو أمر يتعارض تماما مع الطبيعة البشرية.

استمر هذا المنطق حتى بعد كثير من التحولات السياسية والاجتماعية الاقتصادية التي أفرزت نتائج عميقة في إنهاء السيطرة الطبقية وحققت شتى الطبقات نموا ذاتيا يكفل لها التعبير والدفاع عن مصالحها ويعطيها القدرة على الاختيار الحر.

بيان 30 مارس

لم يكن من المتصور مع هذا النمو الذاتي الطبقي ومع تعدد الأفكار والآراء والمصالح أن ينأى التنظيم بنفسه عن نتائج تضارب الآراء والمصالح ونتيجة للتناقضات التي أخذت تتعمق جذورها في بنياته الفكري والتنظيمي فقد انتهى به الأمر إلى الترهل والعجز الواضح عن اجتذاب الثقة الجماهيرية واستشرى في تنظيماته كثير من الظواهر الطفيلية والانتهازية في بعديها السياسي والاجتماعي وإذا كان بيان 30 مارس الذي صدر عقب نكسة 1967 قد حاول أن يبعث فيه الحياة بشكل أكثر فاعلية ويعالج كثيرا من ظواهره المرضية فإن أسباب المرض كانت أقوى من أي دواء ولعلي هنا أركز على تلك العبارة التي أوردها الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل في حلقات كتابه الجديد الانفجار والتي نشرت تباعا في جريدة الأهرام عندما ذكر عبارة للرئيس الراحل عبد الناصر صرح له بها حوالي عام 1968 قال فيها إنه يبدو أن المتغيرات التي حققتها الثورة كانت أكبر من أن يحتويها النظام السياسي الذي أقامته وأنه يعتقد أن من الضروري أن ينشأ حزب معارضة يتولى المعارضة ويكشف الأخطاء لكن ذلك المفهوم جاء متأخرا للغاية ولم ينفذ على أي حال حتى وفاة الرئيس الراحل عبد الناصر عام 1970.

التنظيم الطليعي

كذلك لم تجد تلك المحاولة التي لجأت إليها القادة السياسية في ذلك الوقت عندما حاولت أن تعالج عوارض الخلل التي أصابت تنظيم الاتحاد الاشتراكي بتشكيل ما سمى بالتنظيم الطليعي والذي شكل بطريقة سرية من عناصر مختارة على مختلف المستويات وفي شتى المجالات وكان واضحا أن ذلك التنظيم السري قد شكل بهدف خلق كوادر حزبية تؤمن وتدافع عن منهج الثورة وتشكل نواة حزبية عقائدية ولكنها محاولة لم تنجح في رأب الصدع الذي أصاب التنظيم الواحد ولم يكتب لها أن ترى النور لتظهر على الساحة في صورة حزب سياسي له منهجه وعقيدته وينزل بها لينافس غيره من الأحزاب السياسية.

وكان من مؤدي مبدأ التنظيم الواحد أن فلسفة مبدأ الانتخاب قد انهارت من أساسها ولم يكن هناك في واقع الأمر عمليات انتخاب بالمعنى الحقيقي وبالرغم من أن التيار الشعبي الذي يؤمن بثورة يوليو وإنجازاتها التاريخية على المستويين الداخلي والخارجي كان هو التيار الذي يمثل القاعدة الشعبة الأوسع طبقا لأي مقاس فإن شكلية العملية الانتخابية حولته في نهاية الأمر من إيجابية الممارسة إلى سلبية المتفرج الذي بدأ يفقد حماسه تدريجيا لتطفو على السطح بعد ذلك ظاهرة لها خطورتها وأهميتها الكبرى عندما انخفضت نسبة المشاركة الجماهيرية في الحركة السياسية إلى أدنى مستوياتها قياسا على كل النسب العالمية وهي ظاهرة مازال المسرح السياسي الداخلي يتعرض لها حتى الآن ولذلك حديثه الخاص عندما نتكلم عما يثار عن أزمة الديمقراطية في الجزء الأخير من هذا الفصل.

اقترن بكل ذلك بطبيعية الحال أن مبدأ حرية الرأي وحرية الصحافة قد تعرض بدوره إلى درجة كبيرة من التحجيم وتلاشت تماما فكرة الصحافة الحزبية وبدأ كل شيء يدور في أغلب الأمر في اتجاه التأييد وإن اختفى تحت السطح كثيرا من الظواهر المرضية التي كانت تنخر في الخفاء في هيكل التنظيم الواحد وفي كيان الحركة السياسية بأكملها.

سؤال بلا إجابة

ولكن يبقى في النهاية سؤال هام أتصور أننا يجب أن نطرحه الآن فليس من المنطقي أن نطرح خلف ظهورنا اعتبارات كانت لها انعكاساتها وتأثيراتها على التقدير السياسي في هذه المرحلة بأكملها فماذا لو لم تتعرض الثورة لتلك الأزمات الحادة التي بدأت بالحصار الاقتصادي ووصلت إلى الحروب؟ ماذا لو لم تقع حرب عام 1956 ومن بعدها حرب اليمين التي نشبت وكادت تطور إلى حرب بين عدة أطراف عربية وكان لها تأثيرها على تأزم الموقف العربي وتماسكه ثم ماذا لو لم تقع حرب عام 1967 لا يمكن أن نغفل بطبيعة الحال تأثير كل ذلك على الوضع الداخلي العام وهي كلها أزمات وحروب استهدفت إسقاط النظام من أساسه هل كان يمكن في ظل كل ذلك التوجه إلى نظام التعدد الحزبي وإذا كانت الأمور قد سارت على نحو أخر فهل كان النظام سيسارع إلى تنفيذ المبدأ السادس من مبادئ الثورة؟

لقد حاولت أن أجد إجابة عن هذه الأسئلة ولكني وجدت أنني سأكون كمن يحاول قراءة المجهول ولذلك فضلت أن أتركها معلقة دون إجابة تقديرية من جانبي ومع ذلك فلعل ما أشار إليه الأستاذ محمد حسنين هيكل في حلقات كتابه الانفجار والسالف الإشارة إليها قبل قليل يعطينا بعض الضوء.

ديمقراطية السادات

ثالثا:

وحديثنا الآن عن موقف السلطة الحاكمة من البعد الديمقراطي في عهد الرئيس الراحل السادات ولقد أطلق الكاتب الكبير الأستاذ خالد محمد خالد في كتابه دفاع عن الديمقراطية على التطبيق الديمقراطي في تلك المرحلة اسم ديمقراطية المجاملة فهل كانت حقيقة ديمقراطية مجاملة أم مدخلا جادا للممارسة الديمقراطية بعد ذلك التعثر الطويل الذي تعرضت له مدى نصف قرن تقريبا؟ ذلك ما نسعى إلي الإجابة عنه ولكنني أسارع هنا أيضا إلى إيضاح أنني لست في مجال تقييم مرحلة الرئيس الراح السادات فهي بدورها مرحلة لها إنجازاتها ولها سلبياتها ولكنني أتناول من وجهة نظري الشخصية زاوية محددة عن التطبيق الديمقراطية في هذه المرحلة كرجل أمن في المجال الأمني السياسي أولا ثم كرجل سياسة كوزير للداخلية ثم للحكم المحلي لمدة خمس سنوات.

فقد بدأ الرئيس السادات مرحلة حكمه بذلك الصدام المبكر مع من أطلق عليهم مراكز القوى والذي انتهى بتلك المحاكمة التي تناولت عددا من الرموز السياسية التي عملت مع الرئيس الراحل عبد الناصر ومعهم عدد آخر من عناصر التنظيم الطليعي وكان من بين ما نسب إلى هذه المجموعة أمام الرأي العام خلافا لتلك الاتهامات عن التآمر ضد الشرعية الدستورية التي وجهت إليهم أنهم كانوا يمثلون مراكز قوى تحول بين الشعب وبين الحصول على حرياته.

ولعلي هنا استرسل قليلا في حديث جانبي أعتقد أنه يرتبط إلى حد ما بالموضوع الذي نحن بصدده الآن عن البعد الديمقراطي فقد كانت تلك القضية بظروفها أحد دروس الحياة التي تعلمتها والتي جسدت أمامي أهمية ذلك البعد الديمقراطي وأهمية رسوخ القنوات الشرعية لتكون المسار الوحيد للعمل السياسي المشروع في الإطار الديمقراطي المناسب.

فلقد كنت خلال عام 1967 أعمل في جهاز مباحث أمن الدولة كرئيس لموقع عمل يتحدد اختصاصه في متابعة الموضوعات التي لها أهمية خاصة في مجال الأمن القومي وفي تلك الفترة قبض على عدد كبير من القيادات العسكرية والمدنية الذين نسب إليهم التقصير في حرب 1967 أو نسب إليهم الاشتراك مع المرحوم المشير عبد الحكيم عامر في الاتهام الذي وجه إليه بتدبير انقلاب عسكري في هذه الفترة وكان في مقدمة هؤلاء السيد شمس بدران الذي كان يشغل منصب وزير الحربية وقت الحرب.

وكان الرئيس الراحل عبد الناصر يوفد ثلاثة من القيادات العليا أحدهم كان يشغل منصب وزير لمناقشة السيد شمس بدران في بعض الجوانب التي تتصل بدوره مع المرحوم المشير عبد الحكيم عامر، وفي إحدى المرات أثناء خروجهم من السجن نظر أحدهم إلى أحدى الزنزانات وسأل قائلا ما هذا وكان يقصد هواية خشبية في سقف الزنزانة تبدو كمدخنة وكان الرد عليه أنها فتحة للتهوية فتلفت إلي زميليه قائلا تكييف يابيه وانصرفوا ضاحكين من التعليق.

وتمر الأيام وتشاء الظروف أن نفس الأشخاص يلقى القبض عليهم ويوضعون في نفس الزنزانات بعد أربع سنوات عندما قدمت تلك القضية المعروفة بقضية مراكز القوى.

وكان الأولون قد نسب إليهم في عام 1967 أنهم حاولوا إسقاط الشرعية الدستورية والآخرون جاء دورهم بعد ذلك بأربع سنوات ليوجه إليهم نفس الاتهام...

وعودة ثانية إلى موضوعنا الأصلي فكما سبق الإشارة إليه تفصيلا في الفصل الأولى عن أحداث يناير 77 فقد تعرض الرئيس الراحل السادات في السنوات الأولى لحكمه لهجوم شديد من التيار الماركسي ومعه بعض عناصر التيار الناصري وكان تقديره أن يخلق توازنا في مواجهة هذين التيارين بفتح الباب للتيار الديني السياسي ومن هنا ظهرت على السطح ما سمى بالجماعات الإسلامية التي كانت في حقيقتها مولودا بمسمى جديد لجماعة الإخوان المسلمين ثم مفرخة للأجنحة الأخرى التي ظهرت بمسميات مختلفة أبرزها كما أسلفا جماعتا الجهاد والتكفير والهجرة.

وكان غريبا حقا بعد تجربة ثورة يوليو مع جماعة الإخوان المسلمين وذلك الصدام بينهما وقد كان الرئيس الراحل أحد أعضاء المحكمة العسكرية التي حاكمت قيادات الجماعة وعناصر جهازها السري كان غريبا أن يلجأ السادات إلى نفس التيار ليحقق به التوازن الذي يبتغيه ولا يعتمد على تنظيم الاتحاد الاشتراكي وتنظيمه الطليعي الحركي خصوصا بعد أن تحققت له السيطرة عليه وتخلص من المجموعة التي كانت تناوئه وتسيطر كاملا على التنظيم ول يكن من تفسير لذلك إلا إذا كان على اقتناع بعد فاعلية الاتحاد الاشتراكي بتشكيلاته على المستوى الجماهيري ولذلك كان هذا الضوء الأخضر للتيار الديني السياسية لكي يعود إلى الساحة ويحقق له التوازن المنشود على أي حال فذلك كله تعرضنا له تفصيلا في الفصل السابق عن أحداث أكتوبر عام 81.

كيف ولدت فكرة المنابر؟

ولقد بدأ الرئيس الراحل السادات مدخله للتطبيق الديمقراطي بفكرة المنابر السياسية وقد لا يعرف الكثيرون كيف ولدت هذه الفكرة قبل أن تخرج إلى الوجود فقد دعا السيد ممدوح سالم رحمه الله إلى اجتماع في مكتبه خلال عام 1975 وكان يشغل منصب رئيس الوزراء في ذلك الوقت وكان هذا الاجتماع يضم وزير الداخلية المرحوم اللواء السيد فهمي وعددا من قيادات جهاز مباحث أمن الدولة وكنت أشغل منصب مدير الجهاز في ذلك الوقت وكان الموضوع الرئيس المطروح للمناقشة هو كيف يمكن إيجاد الوقت وكان الموضوع الرئيسي المطروح للمناقشة هو كيف يمكن إيجاد قنوات شرعية تتيح للقوى السياسية أن تتحرك من خلالها لامتصاص بعض مظاهر الخلل في الحركة السياسية خصوصا بعد أن ظهر بوضوح فشل ذلك التوازن الذي سعى إليه الرئيس السادات ولكي تكون بعد ذلك مدخلا لحركة حزبية ملائمة.

انتهت وجهات نظر المجتمعين إلى أن التوجهات السياسية الموجودة على الساحة مهما تعددت المسميات لا تخرج عن ثلاثة توجهات أولها يمين يمثل الفكر والمنهج الليبرالي ويمكن أن يضم أجنحة اليمين المختلفة وثانيها وسط يمثل الفكر الاشتراكي المعتدل ويمكن أن يحتوي تيار يوليو بأكمله وثالثها يسار يمثل الفكر والمنهج الماركسي. وكان واضحا من مسار المناقشة أن هذا المنطق قد اقنع رئيس الوزراء ومن المؤكد أنه نقل الفكرة بدوره لرئيس الجمهورية والمعروف أن السيد ممدوح سالم كان له ثقله السياسي لدى رئيس الجمهورية الراحل لفترة طويلة من الوقت وقد وصفه في بعض الأحيان بأنه يكاد يكون هو الوزير السياسي الأول ضمن مجموعة وزرائه.

ثم نوقشت الفكرة بعد ذلك على مستوى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي وخرجت إلى حيز الوجود تحت مسميات منبر اليمين برئاسة السيد مصطفى كامل مراد و منبر الوسط برئاسة المرحوم ممدوح سالم ومنبر اليسار برئاسة السيد خالد محيي الدين.

ولادة غير طبيعية

ما لبث هذه المنابر تباشر دورها لفترة قصيرة من خلال تنظيم الاتحاد الاشتراكي حتى تكشف أن الفكرة غير فاعلية ولن تؤتي نتائج مرجوة ولذلك فتح الباب لتتحول المنابر إلى أحزاب إلا أن الولادة الحزبية الجديدة كانت بدورها ولادة غير طبيعية فخرج إلى الساحة السياسية ثلاثة أحزاب تحمل بين طياتها كثيرا من علامات التناقض وتسعى لأن تظهر على الساحة وكأنها جميعا مولود توأم تشابه في كل شيء وتسير في نفس الاتجاه وإيضاحا للمعنى المقصود من هذا الوصف نعرض كلمة موجزة عن كل من هذه الأحزاب الثلاثة.

أولا: حزب مصر العربي الذي انبثق عن منبر الوسط فقد كان الحزب وقبله المنبر الذي انبثق عنه، الامتداد الحقيقي الحزبي لتنظيم الاتحاد الاشتراكي الذي كان بدوره التنظيم السياسي إلا وحد لثورة يوليو ويؤمن بمنهج الثورة في أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولكنه أي حزب مصر لم يعلن بوضوح عن انتمائه الحقيقي معلنا عن منهجه الجديد بعد تعديل عدد من المبادئ التي كان يدين بها الاتحاد الاشتراكي بما يتفق مع متغيرات الزمن لكي يظهر على الساحة بفكره ومنهجه اللذين يؤكد أن مبادئه الأساسية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وأين يختلف مع تطبيقات الماضي وأين يتفق معها.

ولكنه أبدا لم يعلن لمن ينتمي وكأن شيئا لا يربطه بتنظيم الاتحاد الاشتراكي الذي كان قد انفرط عقده بعد حله وذاب بشخوصه في الحزب الجديد.

نسخة طبق الأصل

ثانيا: حزب الأحرار الاشتراكيين وقد ولد بدوره غير واضح المعالم فرئيسه كان أحد الضباط الأحرار ف ثورة يوليو هل يمثل التيار الليبرالي الذي يؤمن بالاقتصاد الحر؟ أم يمثل وسط اليمين الذي يضع البعد الاجتماعي في الاعتبار؟ وإلي أي مدى يرى هذا البعد؟ ما أوجه الخلاف بينه وبين حزب مصر على المستويين الاقتصادي والاجتماعي ما هي فلسفته ومنهجه ولكن الصورة الإجمالية عنه في النهاية كانت وكأنه نسخة طبق الأصل في حزب مصر.

ثالثا: حزب التجمع الوحدوي الديمقراطي فقد ولد بدوره عن منبر اليسار وظهر على الساحة وكأنه حزب ثورة يوليو ولم يذكر صراحة التيار الحقيقي الذي يمثله فهو حزب يضم بصفة أساسية العناصر التي تنتمي للفكر الماركسي ومعهم جناح يضم العناصر الناصرية التي لم يكن لها منبر سابق أو حزب حالي ولم تقتنع بأن حزب مصر هو الامتداد الحقيقي للاتحاد الاشتراكي بفكره ومنهجه.

ومع ذلك فلم يعلن الحزب عن حقيقة انتمائه الماركسي وما رأيه في استمرار الحركة الماركسية السرية وإلى أي مدى يأخذ من النظرية الماركسية؟ أين يتفق مع منهج يوليو وأين يختلف معه؟

كان هذا الخلل بين توجهات الأحزاب الثالثة الناشئة سببا كافيا لأن تختلط الصورة بينها أمام الرأي العام وأتصور من جانبي أن هذا التشابه الوهمي في برامج هذه الأحزاب الثلاثة كان من أسباب ضعف مسارها السياسي وعدم تفاعل القواعد الشعبية مع الحركة الحزبية في تلك المرحلة المبكرة.

حزب العمل الاشتراكي

ثم كانت الخطوة التالية عندما تبني الرئيس الراحل السادات المرحلة الأولى لتشكيل حزب العمل الاشتراكي برئاسة السيد إبراهيم شكري، بل إنه دفع بعض أعضاء حزب مصر للاشتراك فيه وفي مقدمتهم عديله المرحوم محمود أبو وافيه ليشارك فيه كعضو مؤسس ثم ليكون نائبا لرئيس الحزب في بداية تشكيلاته.

ومن الإنصاف هنا أن نذكر أن الرئيس الراحل استهدف من هذه الخطوة دفع الممارسة الحزبية إلى الإمام وإتاحة الفرصة لفاعلية أكثر على الساحة السياسية.

وقد تشعبت الأحداث والمواقف بعد ذلك لتعطي مؤشرات هامة عند بدء تعثر يعترض المسار السياسي ليمتد تأثيره على الحركة الحزبية بأكملها فيما بعد ونعرض في إيجاز سريع لملامح ذلك فيما يلي:

• إجراء انتخابات جديدة لمجلس الشعب عام 1976 وقد فاز بها حزب مصر بالأغلبية الساحقة بينما فازت بعض قيادات المعارضة في حوالي 12 دائرة وهي الانتخابات التي توصف بأنها من أنظف الانتخابات التي تمت ولكن قرارا بحل المجلس صدر عام 1979 وقبل أن ينهي المجلس مدته الدستورية بعد واقف عاصفة لبعض أعضاء المعارضة ولذلك على العموم حديثه في الجزء التالي الذي نتحدث فيه عن العمليات الانتخابية.ط

• بداية حدوث خلافات مع حزب العمل الاشتراكي وانسحاب عدد من الأعضاء الذين انضموا لعضويته بتوجيه من القيادة السياسية وفي مقدمتهم السيد محمود أبو وافية عديل الرئيس الراحل والذي شغل موقع نائب رئيس الحزب.

تأسيسي الحزب الوطني ثم حزب الوفد الجديد

• ثم كان الحدث الثالث، عندما أعلن الرئيس الراحل أنه مضطر للنزول بنفسه إلى الساحة السياسية مع تشكيل حزب جديد برئاسته باسم الحزب الوطني الديمقراطي تشبها بالحزب الوطني القديم ودوره الوطني إلى الدرجة التي وصلت إلى التفكير في إعداد مقر ذلك الحزب القديم ليكون مقرا للحزب الجديد ولكن تبين أنه أصبح مقرا لمدرسة ابتدائية بشارع الدواوين ولا يصلح مقرا للحزب الجديد ومن هنا اتخذ الحزب الجديد مقره بنفس مقر الاتحاد الاشتراكي وفور الإعلان عن تشكيل الحزب الجديد برئاسة الرئيس الراحل سرعان ما تفككت أوصال حزب مصر عندما اندفع الغالبية العظمى من أعضائه إلى الانضمام للحزب الجديد تفجر نتيجة لذلك موقف سياسي حاد عندما تمسك عدد قليل من أعضاء حزب مصر القياديين باستمرار الحزب برئاسته الموجودة وكانت هذه الأزمة بداية تراجع دور المرحوم ممدوح سالم السياسي بعد أن تلقى كثيرا من الطعنات في ظهره من بعض من كانوا مقربين له وصوروا موقفه على غير حقيقته للرئيس الراحل، وانتهى الأمر بتفكك حزب مصر واقعيا وأن تمسك عدد قليل من قياداته باستمراره دون جدوى فاعلة.

• وخلا نفس الفترة أعلن تشكيل حزب الوفد الجديد برئاسة السيد محمد فؤاد سراج الدين سكرتير عام حزب الوفد قبل الثورة وسرعان ما تفجر الموقف بين النظام وبين قيادة الحزب على أثر خطاب ألقاه رئيس الحزب في منطقة الجمرك بالإسكندرية كان يحمل كثيرا من الهجوم على النظام وعلى ثورة يوليو ورد الرئيس الراحل في خطاب ألقاه بعد ذلك وذكر فيه أنه لن يسمح لمن عادوا من القبور لتشويه الوضع السياسي الداخلي وانتهى الأمر بأن أعلن الحزب حل نفسه وانسحب من الساحة السياسية.

• ثم أجريت بعد ذلك انتخابات أخرى خلال صيف عام 1979 فاز فيها الحزب الوطني الديمقراطي بأغلبية ساحقة وسقطت فيها غالبية رموز المعارضة السياسية.

هل كانت فعلا ديمقراطية مجاملة؟

لم يبق بعد كل ذلك إلا أن نجيب عن ذلك التساؤل الذي بدأنا به حديثنا عن التطبيق الديمقراطي في هذه المرحلة هل كانت ديمقراطية مجاملة أو أريحية ساداتية كما سماها الأستاذ الكبير خالد محمد خالد، أم كانت مدخلا جادا لممارسة ديمقراطية في إطار تعدد حزبي كان مفتقدا قبل ذلك بسنوات طويلة كما تصور الرئيس الراحل أعتقد أن الإجابة عن هذا التساؤل لابد أن تمتد إلى زوايا متعددة نعرض لها بإيجاز فيما يلي:

• ليس هناك من شك أن متغيرات عنصر الزمن وتأثيرها على الوضع الداخلي في مجاليه السياسي والاقتصادي بعد انتهاء حرب عام 73 وبعد الأخذ بسياسة الانفتاح الاقتصادي كانت ترجح جانب الأخذ بسياسة التعدد الحزبي كمظهر ديمقراطي وقد اقتنع الرئيس الراحل بهذه الحتمية ومن هنا بدأ يخطط سريعا لإخراج هذه الفكرة التي حيز الوجود وكان تصوره أن المعارضة الحزبية ستقدر هذا الإنجاز وتمارس دورها الحزبي بشيء من الروية بعيدا عن الحدة والانفعال.

• ولكن كما يقول المثل الدارج (ليس كل ما يسعى إليه المرء بمدركه) فقد انطلقت المعارضة من عقالها واتخذت مواقف حادة في معارضتها سواء على مستوى مجلس الشعب الذي تم حله عام 1979 أو على مستوى صفحها الحزبية.

• اقترن بذلك عدد من السلبيات التي أسفرت عنها سياسة الانفتاح الاقتصادي في بدايتها ثم طرأ موضوع أكثر أهمية عندما بدأ التخطيط لمعاهدة السلام ورحلة الرئيس الراحل إلى القدس واستثمرت المعارضة هذين الموضوعين في هجومها على سياسات النظام وكان هجومها على خطوات عملية السلام مع إسرائيل وما اقترن بها من موقف متأزم على المستوى العربي هجوما متطرفا في حدة النقد إلى الدرجة التي أزعجت القيادة السياسية واعتبرتها خلطا بين متطلبات المصالح العليا للأمن القومي وبين حرية التعبير الحزبي ومن هنا على ما اعتقد كان ذلك النص في قانون الأحزاب الذي يشترط عدم معارضة الحزب الذي يطلب الترخيص بنشأته لمعاهدة السلام.

الدعوة تشجع الإرهاب

• وفي نفس الوقت كان التيار الديني الإرهابي قد بدأ ينشط على الساحة الأمنية وتعددت كثير من العمليات الإرهابية وبعضها كان له طابع خطير وبدأت جريدة الدعوة لسان حال الإخوان المسلمين ومعها عدد أخر من الجرائد الدينية تشجع هذا التيار بشكل مباشر وغير مباشر وزاد الطين بله أن جانبا من القوى السياسية بدا وكأنه لا يعارض هذه العمليات واتجهت الأمور إلى ما يشبه أزمة سياسية حادة ضاعف من حساسيتها بدايات انهيار أمن على مستوى الأمن السياسي.

• وقد بلغت الأزمة ذروتها عندما صدرت قرارات سبتمبر التي نافشناها تفصيلا في الفصل السابق.

لعل جميع هذه الزوايا بعد هذا الإيضاح تعطينا الآن مؤشرات واضحة عن ماهية هذه البداية الديمقراطية واعتقد من جانبي أنها كانت بداية جادة لممارسة ديمقراطية متحفظة وأن هذا التحفظ كان يفرضه عاملان أولهما أنها بداية لتعدد حزبي بعد غياب وصل إلى ما يقرب من ربع قرن وكان منطقيا أن يتم بصورة وئيدة غير متحفزة للقفز السريع بما يخالف طبيعة الأشياء على حد ما وصف به الأستاذ خالد محمد خالد تلك الديمقراطية التي أشاد بملامحها قبل ثورة يوليو

وثانيهما: أنها اقترنت بفترة بالغة الحساسية عندما بدأ التخطيط لمعاهدة السلام وكان التصور أن الاستقرار الداخلي يمثل ركنا هاما يدعم من موقف مصر في المرحلة التمهيدية لهذه المعاهدة كما أن المعارضة السياسية بدورها وبموقفها غير الحاسم في مواجهة ظاهرة الإرهاب الديني في هذه المرحلة الحساسة هيأت الأمور لكي تختلط الأوراق وتتفجر أزمة سبتمبر التي كانت مقدمة لأحداث أكتوبر عام 1981.

وبعد فذلك كله عرض سريع لموقف الطرف الأول في المعادلة الديمقراطية وأعني به السلطة الحاكمة من قضية البعد الديمقراطي في الممارسة السياسية سواء قبل ثورة يوليو أم بعدها إلى نهاية حكم الرئيس الراحل السادات وقد رأينا بوضوح كامل كيف كان هذا البعد متعثرا ومخنوقا بفعل السلطة الحاكمة قبل ثورة يوليو وظل على هذا الوضع المتعثر طول الفترة بين صدور دستور سنة 1923 حتى قيام ثورة يوليو 1952 ثم كيف كان هذا البعد غائبا في ظل منطق التنظيم الواحد طوال مرحلة حكم الرئيس الراحل عبد الناصر بل كيف تأثرت فلسفة مبدأ الانتخاب في ظل هذا التنظيم الواحد وامتداد ذلك على التأثير في نسبة المشاركة الجماهيرية ف الحركة السياسية بصفة عامة التي انخفضت إلى معدل يقل كثيرا عن النسبة العالمية ثم كيف بدأت سياسية التعدد الحزبي في منتصف مرحلة حكم الرئيس الراحل السادات وكيف أدت سياسة الاستعانة بالتيار الديني السياسي في عملية التوازن السياسي إلى نمو هذا التيار وظهور أجنحة إرهابية جديدة له وكيف أدت الولادة المشوهة للتعدد الحزبي إلى عدم اجتذاب القواعد الجماهيرية وانصرافها عن المشاركة السياسية ثم كيف تصاعدت حدة الصدام السياسي بين النظام وبين الحركة الحزبية إلى تفجير أزمة قرارات سبتمبر فذلك كله هو ما كانت عليه الحركة السياسية في بعدها الديمقراطي قبل أكتوبر 1981 فماذا كان الوضع بعد ولاية الرئيس مبارك عقب أحداث أكتوبر ذلك هو موضوعنا الذي نعرضه ف الجزء التالي:

-5-

وماذا كان موقف السلطة بعد ولاية مبارك؟

أسارع في بداية هذا الجزء إلى تأكيد معنى هام فلست ادعي كما سبق وأوضحت نوعا من الديمقراطية المثالية قد تحقق فورا عقب أحداث أكتوبر وبعد ولاية الرئيس مبارك فذلك مخالف لمنطق الأمور ومخالف لطبيعة التطور الديمقراطي التدريجية والذي ينمو على أرض الواقع بما تفرضه في أحيان كثيرة من اعتبارات قد يؤدي تجاهلها إلى نكسة في الممارسة الديمقراطية نفسها ولكنني أستطيع أن أؤكد أن منطقا جديا بدأ يحكم ويحدد موقف السلطة الحاكمة من البعد الديمقراطي لكي تفسح له الطريق بصورة تهيئ له أفضل مناخ لكي ينمو وتتسع مساحته يوما بعد يوم وحتى يبدأ الطرف الأخرى في المعادلة الديمقراطية وأعني به القوى السياسية المختلفة في الاضطلاع بمسئولياتها هي الأخرى في نفس الاتجاه وهو على أي حال موضوعنا الذي نناقشه تفصيلا في هذا الجزء.

كما أسارع في نفس الوقت لكي أوضح أنني أتحدث في كل ذلك عن الفترة التي شغلت فيها منصب وزير الداخلية ثم وزيرا للحكم المحلي والتي كان لي خلالها شرف الاضطلاع بالمسئولية الوزارية في تأكيد استراتيجية القيادة السياسية إلا أن ذلك لا يمنع بطبيعة الحال أن أبدي رأي كمواطن عادي أو كرجل أمن سابق أو كرجل سياسي في النهاية في بعض القضايا التي قد يفرضها السياق العادي للموضوعات التي نتناولها بالمناقشة.

أربعة متغيرات هامة

وانطلاقا من مناخ المصالحة السياسية الذي أكدته تلك المقابلة الهامة التي تمت بين الرئيس مبارك والقيادات السياسية الحزبية والمستقلة التي طبق عليها قرارات سبتمبر فور الإفراج عنها فقد بدأت الحركة السياسية تنطلق في ظل عدد من المتغيرات الهامة التي نتحدث عنها تفصيلا في النقاط التالية:

1- حرية مطلقة للصحافة الحزبية ومعها بطبيعة الحال الصحافة القومية دون أدنى قيد عليها من جانب السلطات المسئولة وقد أعاد حزب التجمع إصدار صحيفة الأهالي التي كان قد أوقف إصدارها على أثر أزمة قرارات سبتمبر كما لحق به بعد فترة حزب الوفد الجديد الذي بدأ يصدر صحيفته الحزبية بعد أن تحول من حزب تحت التأسيس إلى حزب عامل بناء على الحكم القضائي الذي صدر في هذا الشأن وبدأت تصدر كجريدة يومية قبل انتخابات 1984 بفترة.

• ومنذ ذلك الوقت فقد تمتعت الصحافة الحزبية القومية بحرية رأي لم تتحقق لها منذ صدور دستور 23 حتى عام 1981 بل أنه يمكن القوى دون أدنى مبالغة أن حرية الرأي التي تحققت للصحافة المصرية منذ عام 1981 وحتى الآن لا تقل عن مثيلاتها في الدولة الغربية.

• ولا يقدح في ذلك ما يثار الآن في بعض الدوائر الحزبية عن ضرورة إطلاق حق إصدار الصحف دون أدنى قيد فذلك أحد الضوابط المؤقتة التي أعطت هذه الرخصة للمجلس الأعلى للصحافة ولا أتعرض له الآن أي لهذه الضابط إلا من منطلق تقديري بأنه يدخل في إطار الاعتبارات التي تتعلق بصالح الممارسة الديمقراطية نفسها لكي تأخذ مسارها التدريجي في الانطلاق على الديمقراطية المثالية.

• ومع ذلك فإذا كان متاحا بحكم القانون أن يصدر أي حزب رخص به صحيفة حزبية فلا يبقى إلا التصريح للأفراد بإصدار الصحف دون قيود كما هو مثار حاليا.

• ولعل هذا المطلب فيه نوع من الإفراط المبكر في مثالية نتطلع إليها جميعا ولها ميقاتها القادم بإذن الله ومع ذلك فإننا نلاحظ أن كثيرا من الهيئات الخاصة المركزية والإقليمية قد حصلت على ترخيص من المجلس الأعلى للصحافة بإصدار مجلات ونشرات دورية ذات طابع مهني أو إقليمي.

2- حرية كاملة للأحزاب السياسة في حركتها الحزبية فلا قيود ولا عوائق أمام أي حزب في حركته بين الجماهير ولا تدخلات من السلطة الحاكمة تحد أو تمنع أي حزب من التفاعل الطبيعي مع قواعده الجماهيرية ولقد سارع حزب الوفد الجديد في ظل هذا المناخ السياسي الطبيعي إلى إعلان نشأته ثانيا كحزب تحت التأسيس وبدأ يمارس دوره الحزبي في هذا الإطار حتى تحول إلى حزب عامل بعد أن حصل على حكم قضائي بذلك.

3- دعم قنوات الاتصال بين القيادات الحزبية والمستقلة وبين السلطات المسئولة ليكون الحوار أساس التفاهم فيما ينشأ من مشكلات أو خلاف في وجهات النظر حولها.

4- غلق الباب أمام لعبة التوازنات السياسية تلك اللعبة التي كانت تمثل ظاهرة غير صحيحة في مراحل سابقة والتي كان من مصلحتها في جميع الأوقات تعثر أكثر أصحاب الحركة السياسية وبدأ المسرح السياسي نتيجة لذلك يخلو من تلك الظاهرة التي بدأت قبل ثورة يوليو وامتدت إلى قرب نهاية السبعينيات عندما كانت السلطة الحاكمة تفتح الباب للتيار الديني السياسي لكي تستعين به في حصار قوى بعينها أو ترجيح جانب على جانب وكانت المحصلة ما شاهدناه في مرحلة السبعينيات من تشعب أجنحة ذلك التيار إلى أجنحة إرهابية متعددة حققت نموا غير طبيعي وتمكنت في بداية الثمانينيات من خلال هذا النمو من تهديد الشرعية الدستورية وتعريض البلاد إلى كارثة محققة بشكل غير مسبوق.

• ولقد اختفى من المسرح السياسي الشرعي أي دور سياسي للتيار الديني السياسي بأكمله الذي لم يكن لأي أجنحته أي شرعية تسمح له بالعمل على المسرح السياسي بصورة قانونية معترف بها حتى بداية بعض الأحزاب السياسية في التفكير للتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين لأسباب انتخابية بحتة وعندئذ بدأت جماعة الإخوان تظهر ثانيا على الساحة السياسية من خلال ذلك التحالف الحزبي ولذلك حديثه التفصيلي القادم فيما بعد.

الإخوان ….. والشرعية

• ولكن ما يعنينا هنا هي نقطة هامة تتصل بالشرعية واحترام الدستور والقانون وارى أنها تحتاج إلى مناقشة تفصيلية فهي في واقع الأمر مسألة تتعلق بالمبادئ الأساسية التي يجب أن تسود لصالح الشرعية وتأكيدا للسيادة القانونية التي لن تقوم للديمقراطية قائمة بدونهما وليكن مدخلي لشرح ما أعنيه ذلك السؤال الذي وجه إلى اثنان المؤتمر الصحفي العالمي الذي أعلنت من خلاله نتيجة انتخابات مجلس الشعب في مايو عام 1984 فقد وجه أحد المراسلين الأجانب وأتذكر أنه مندوب روتير سؤالا عن وجهة نظري فيما يتعلق بنجاح عدد من مرشحي جماعة الإخوان المسلمين وكان ثمانية منهم قد نجحوا ضمن قوائم حزب الوفد الذي تحالف مع الإخوان في تلك الانتخابات وكان ردي عليه أننا أمام قوائم لحزب الوفد حققت نجاحا بتلك النسبة التي وصلت إليها وليس لدينا مرشحون للإخوان وأن هذه الجماعة ليس لها شرعية.

• ولم يكن هذا الرد من جانبي وضعا للرءوس في الرمال فلقد كانت أعلم تماما وأكثر مما قد يعلمه البعض الأخر، أن هناك جماعة الإخوان المسلمين وأن لها تنظيما غير شرعي وأنها تحالفت مع حزب الوفد تصورا من هذا الحزب أو أصوات عناصرها ستفيد في التغلب على النسبة التي حددها أسلوب الانتخاب بالقائمة كنت أعلم كل ذلك بتفصيلاته ولكن ردي على ذلك المراسل الأجنبي كان له منطلق أخر تماما كان منطلقه أننا يجب أن نحترم الشرعية والقانون وما دامت هذه الجماعة لم تحصل على شرعية الوجود كجماعة دينية أو كحزب سياسي فال يجوز على أي وجه من الوجوه أن تفرض نفسها على الساحة السياسية قفزا فوق القانون وفوق الشرعية وإلا لأصبح من حق أي جماعة أو منظمة سرية تعمل خارج الإطار القانوني وخارج الشرعية أن تفرض نفسها فوق الساحة السياسية وتصبح الأمور بلا أي ضابط قانوني.

• وأتصور أن المسألة حتى الآن ليس لها إلا وجه واحد فلدينا بحمد الله السلطة القضائية وليس لها استقلالها الكامل، هل هناك شرعية لجماعة الإخوان كشخص اعتباري حتى الآن تسمح لها بالعمل القانوني.

وهل هي جماعة دينية أم حزب سياسي؟ وإذا كانت حزبا سياسيا فهل هو حزب ديني، وهل يسمح القانون والدستور بذلك؟ اعتقد أن التغاضي عن الإجابة عن هذه الأسئلة هو بذاته وضع الرءوس في الرمال وليس أي شيء أخر.

قانون الطوارئ

تبقى بعد ذلك نقطتان كانت كل منهما مثارا للجدل السياسي ومحورا لاهتمامات كثيرة من جانب القوى السياسي المعارضة بصفة خاصة ونعرض لكل منهما في النقاط التالية:

أولا:

• كان قانون الطوارئ قد فرض عقب اغتيال الرئيس الراحل السادات في أحداث أكتوبر 1981 وبطبيعة الحال فإن الظروف الأمنية التي تعرضت لها البلاد في تلك الفترة كانت تحتم إصدار هذا القانون تأمينا للوضع العام الداخلي الذي كان معرضا لاحتمالات كثيرة لم يكن من اليسير في ذلك الوقت وضعها في دائرة الحساب الدقيقة ولقد استثمر هذا القانون فعلا في أعقاب تلك الأحداث في عمليات مواجهة خيوط المؤامرة وأمكن بما يتحه من إجراءات تصفية جميع جيوبها وبطبيعة الحال كانت جميع الإجراءات التي تتخذ تنفيذا لهذا القانون خاضعة للرقابة القضائية طبقا لنصوص القانون نفسه.

• ويجدر هنا الإشارة إلى ذلك التعديل في نصوص هذا القانون والذي تم بعد ولاية الرئيس مبارك حيث كان من مقتضى النصوص القديمة أن يتظلم من يطبق عليه القانون بعد ستة أشهر من تاريخ التحفظ عليه وخفضت هذه المدة بموجب هذا التعديل ليكون التظلم بعد شهر واحد فقط من تاريخ التحفظ مع حق وزير الداخلية في الاعتراض على قرار الإفراج الذي تصدره المحكمة إذا كانت هناك مبررات أمنية لاعتراضه خلال شهر واحد أخر على أن يكون قرار المحكمة الثاني قرارا نهائيا ونافذا بحكم القانون.

• ومع ذلك ومع استمرار ظاهرة الإرهاب فقد أخذت القوى السياسية المعارضة تركز على انتقاد استمرار العمل بقانون الطوارئ وبلغت هذه المعارضة ذروتها عندما طالبت الحكومة بمد العمل بمقتضاه سنة أخرى في نهاية عام 1982.

• ولقد تحدثت في مجلس الشعب كوزير للداخلية وممثلا للحكومة مبررا الظروف التي تستدعي استمرار العمل بهذا القانون وكانت محاور الرد:

(أ‌) أنه ثبت على وجه اليقين أن هذا القانون لم يستعمل خارج دائرة مواجهة العمل الإرهابي ولو مرة واحدة وليتقدم من يشاء بمثل واحد يخالف هذه الحقيقة (لم يتقدم أحد سواء من داخل المجلس أو من خارجه بمثل من هذا القبيل).

(ب‌) أن أجهزة الأمن إذا كانت قد استطاعت تصفية جيوب المؤامرة وتحقيق درجة مقبولة من الاستقرار فإنها قد حققت هذه النتيجة بما أتاحه لها هذا القانون من القدرة على المواجهة السريعة.

(ت‌) أن الفكر الذي أفرخ ذلك التنظيم الإرهابي وغيره من تنظيمات أخرى بمسمياتها المختلفة وهو ليس فكرا محليا فقط وإنما مستمد في كثير من مبادئه وعناصره من فكر خارجي مازال موجودا ومؤثرا ومازالت احتمالات أخرى متوقعة في أي لحظة يضاف إلى ذلك ما ثبت من اشتراك عناصر خارجية في التخطيط لتلك العمليات التي تمت في أكتوبر 1981 ينتمون إلى جهات خارجية أمامها علامات استفهام كثيرة.

(ث‌) أن العمل الإرهابي لا يضر بالأوضاع الأمنية فقط وإنما يضر قبل ذلك بالممارسة الديمقراطية نفسها ولقد كان كثيرا من القيادات السياسية الحزبية مدرجة في كشوف الشخصيات المرشحة للاغتيال والتي ضبطت ضمن مستندات التنظيم الذي قام بأحداث أكتوبر.

(ج‌) أن دولا كثيرة أخرى أكثر تقدما منا في التطبيق الديمقراطي قد قدرت خطورة العمليات الإرهابية على المسار الديمقراطية فيها وأصدرت قوانين خاصة مستديمة لمكافحة الإرهاب تفوق في السلطات التي خولتها لأجهزة الأمن فيها السلطة المخولة لأجهزة الأمن لدينا طبقا لقانون الطوارئ فلماذا لا نعتبر أن تطبيق هذا القانون لدينا في نطاق مواجهة دائرة الإرهاب فقط بمثابة بديل لذلك القانون الخاص والمطبق في هذه الدول ومنها إيطاليا وألمانيا الغربية وانجلترا.

(ح‌) وأخيرا فإن جميع الإجراءات التي تتخذ استنادا لهذا القانون خاضعة للرقابة القضائية علاوة على ذلك التخفيض في الحد الأقصى لمدة التحفظ والذي تحدد بشهر واحد فقط.

تشكيل الأحزاب

ثانيا:

• كان محور الاهتمام والاعتراض الثاني من جانب القوى السياسية المعارضة هو استمرار العمل بنظام لجنة الأحزاب التي خول لها القانون حق التصريح أو الاعتراض على نشأة أي حزب سياسي مع خضوع قرارتها للرقابة القضائية أمام دائرة ذات تشكيل محدد حدده القانون وكأن المطلب ولازال حتى الآن هو إطلاق حرية تكوين الأحزاب للمواطنين دون أي قيد.

• ولعله من المناسب هنا أن نلقي نظرة سريعة على الأحزاب التي كانت قائمة فعلا في اللحظات الأولى التي تولى فيها الرئيس مبارك مسئولية الحكم كذلك على الأحزاب التي رخصت بها لجنة الأحزاب أو اعترضت عليها ثم حصلت على حكم قضائي يرخص لها بالعمل خلافا لقرار لجنة الأحزاب.

• كانت الأحزاب القائمة فعلا هي الحزب الوطني الديمقراطي حزب العمل الاشتراكي حزب التجمع الوطني حزب الأحرار الاشتراكي وانضم إليها بعد فترة قصيرة حزب الوفد تحت التأسيس والذي كان قد انسحب من الساحة السياسية منذ عام 1979.

• رخص بعد ذلك بناء على حكم قضائي بقيام حزب الأمة عام 1983 وكانت لجنة الأحزاب قد اعترضت عليه وكذلك تحول حزب الوفد خلال نفس العام تقريبا من حزب تحت التأسيس إلى حزب عامل بناء على حكم قضائي نهائي.

• تقدم الحزب الناصري بطلب للترخيص به خلال عام 1983 ورفض الطلب أمام لجنة الأحزاب وتأيد الرفض أمام الدائرة القضائية الخاصة ولا يزال هذا الحزب عاجزا عن الحصول على الموافقة للترخيص به سواء أمام لجنة الأحزاب أم من خلال الدائرة القضائية الخاصة حتى الآن.

• ومن المعروف أن لجنة الأحزاب والمشكلة برئاسة رئيس مجلس الشوري وعضوية اثنين من الوزراء أحدهما وزير الداخلية وثلاثة من الشخصيات العامة الذين يصدر قرار جمهوري بتعيينهم تضع أمامهم عند مناقشة طلب أي حزب عددا من الاعتبارات أهمها تمايز برنامج أمامها عند مناقشة طلب أي حزب عددا من الاعتبارات أهمها تمايز برنامج الحزب ومدى توافق برنامجه مع فلسفة التعدد الحزبي والمبادئ الأساسية للدستور علاوة على ذلك النص الخاص بألا يعارض برنامج الحزب معاهدة السلام مع إسرائيل.

8 أحزاب

  • وبذلك فقد أصبحت الأحزاب الموجودة على الساحة قرب نهاية عام 1983 خمسة أحزاب أضيف إليها ثلاثة أحزاب أخيرا بنا على حكم قضائي عام 1990 وهي أحزاب الخضر ومصر الفتاة والحزب الوطني الاتحادي فارتفع عدد الأحزاب العاملة على المسرح السياسي حاليا إلى ثمانية أحزاب يقابلها خمسة أحزاب كانت عاملة قبل ثورة يوليو بخلاف عدد ضئيل من الأحزاب التي قامت في إطار اللعبة السياسية بصفة عارضة كحزب الشعب الذي ألفه إسماعيل صدقي في الثلاثينات بعد أن أوقف العمل بالدستور ولكنه انقرض وانتهى تماما في فترة زمنية قصيرة ويلاحظ هنا أنني أقصد في كل ذلك الأحزاب السياسية التي أخذت صفة الشرعية وليس التنظيمات السرية التي تعمل خارج الإطار القانوني.

ثم ظهرت ثانيا جماعة الإخوان المسلمين بعد أن خططت هذه المرة لكي تدخل الساحة السياسية فوق كوبري الأحزاب الشرعية في طريقها للمؤسسة التشريعية التي لم تصل إليها أبدا قبل ذلك ولقد نجحت في تحقيق هذا الهدف أولا من خلال حزب الوفد عام 1984 ثم ثانيا من خلال حزب العمل في انتخابات 1987 متخطية لجنة الأحزاب أو شرعية الوجود وها هي الآن تطالب بالاعتراف بها كحزب ديني.

ومع كل ذلك فلقد كان واضحا أن الجدل الذي أثير مبكرا حول قانون الطوارئ كان له ما يبرره فقد كانت معركة انتخاب مجلس الشعب وقبله التجديد النصفي لمجلس الشورى عام 1983 وانتخابات المجالس المحلية على وشك أن تبدأ وتصور البعض أن قانون الطوارئ يمكن أن يكون عاملا مقيدا للأحزاب في حركتها.

ولكن الجدل الذي أثير حول لجنة الأحزاب ودورها لم يكن له من وجهة نظري مبررات جوهرية في تلك الفترة المبكرة التي بدأت بعد أحداث أكتوبر وكانت البلاد قد شهدت قبلها محاولتين خلال أربع سنوات فقط للمساس بالشرعية الدستورية وأعني بهما أحداث يناير 1977 وأحداث أكتوبر 1981 يضاف إلى كل ذلك وهو الأهم أن نمطا مغايرا من الممارسة الديمقراطية عن كل ما سبقه من ممارسات خلال ما يزيد على نصف قرن منذ عام 1923 حتى عام 1982 كان قد بدأ وكان من المنطقي تماما أن تكون هناك بعض الضوابط التي تضمن سلامة التطبيق في هذه الفترة المبكرة وعلى أي حال فتلك وجهة نظر سنعود لمناقشتها في الجزء الأخير الذي سنتحدث فيه عما يثار حاليا عن أزمة الديمقراطية في مصر.

وبعد كل ذلك فلقد تبين في وضوح كامل المبادئ التي التزم بها الطرف الأول في المعادلة الديمقراطية وأعني به السلطة الحاكمة بعد ولاية الرئيس مبارك وما لحق بها من متغيرات قفزت بها خطوات إلى الأمام فقد تأكدت حرية كاملة للرأي والصحافة بشتى أشكالها حرية القوى السياسية في الاجتماع والحركة بين الجماهير إقصاء لعبة التوازنات السياسية خلف الظهر وترك الساحة السياسية للتفاعل التلقائي بين القوى السياسية الشرعية ضوابط محددة للترخيص بالأحزاب وتحققت زيادة في عددها على ما كان قائما قبل ثورة يوليو وبعدها عدم استخدام قانون الطوارئ إلا في مواجهة العمليات الإرهابية كبديل عن قانون مكافحة الإرهاب المعمول به في دور أخرى ديمقراطية والتزام بذلك معلن من الحكومة أمام القوى السياسية والرأي العام حرية الانتخابات للمؤسسات الشعبية والتشريعية.

-6-

ماذا بشأن التزام الطرف الثاني ممثلا في القوى السياسية؟؟

وحديثنا الآن يركز على مدى وفاء الطرف الثاني في المعادلة الديمقراطية وأعني به القوى السياسية الرائدة على الساحة السياسية بالتزامه نحو ترسيخ الممارسة الديمقراطية بعد جميع هذه الإيجابيات التي حققها الطرف الأول في هذه المرحلة الأخيرة بعد ولاية مبارك كما لم تتحقق من قبل فهل ساعدت القوى السياسية على دفع الإيجابيات أم رجحت كفة المصالح الحزبية السريعة على هدف أهم واشمل ذلك ما نسعى إلى الإجابة عنه تباعا.

فالطرف الثاني في المعادلة الديمقراطية والممثل في القوى السياسية الرائدة للحركة السياسية في المجتمع عليه بدوره التزام لا يقل أهمية عن التزام الطرف الأول في هذه المعادلة والممثل في السلطة الحاكمة لكي يدعم الممارسة الديمقراطية ويرسخ في مسارها عبر القنوات الشرعية ويخطئ من يظن أن الخلل الذي يصيب المسار الديمقراطي إنما يتأتي فقط من جانب السلطة الحاكمة فقد يتأتى هذا الخلل بشكل أكبر أثرا من جانب القوى السياسية نفسها عندما تتجاهل الشرعية أو عندما تعجز عن ترسيخ المضمون الديمقراطي في الوجدان الجماهيري العام نتيجة انفصالها عن الجماهير أو عدم القدرة على استيعاب متغيرات المجتمع فتزداد المسافة اتساعا بينها وبين التوجهات الحقيقية للتيار الأغلب من الجماهير.

ولقد قلنا حالا إن مناخنا جديدا سيطر على الواقع السياسي بعد ولاية الرئيس مبارك في أعقاب أزمة قرارات سبتمبر وأحداث أكتوبر 1981 كان من أبرز علاماته توافر حرية الرأي بشكل غير مسبوق وحرية الحركة السياسية للأحزاب دون أي معوقات بما دفع حزب التجمع إلى إعادة إصدار جريدته وهيأ الفرصة لحزب الوفد لإعادة إعلان نشأته كحزب تحت التأسيس وأصبح المناخ العام مشجعا لمختلف القوى السياسية لكي تمارس دورها الحزبي بانطلاق وحرية كاملة.

وكانت مفاجأة لافتة للنظر في ظل هذا المناخ وفي هذا الوقت المبكر بعد تلك الأزمة التي فجرتها أحداث أكتوبر أن تسعى الأحزاب الشرعية إلى الالتحام مع القوى غير الشرعية في تشكيل ما سمي بلجنة الدفاع عن الديمقراطية خلال عام 1983 وبعد عام واحد تقريبا من أزمة أكتوبر وضمت هذه اللجنة بجانب الأحزاب الشرعية التي كانت قائمة فعلا وهي أحزاب العمل والتجمع والأحرار حزب الوفد تحت التأسيس جماعة الإخوان المسلمين ممثلين عن اليسار الماركسي ممثلين عن التيار الناصري.

وكان متناقضا حقا أن تجمع هذه اللجنة أقصى اليمين المتطرف مع أقصى اليسار المتطرف في موقف واحد تحت دعوى الدفاع عن الديمقراطية وكان متناقضا أكثر أن تتجاهل القوى السياسية الشرعية أحد الاعتبارات الأساسية للمضمون الديمقراطي نفسه، الذي يقوم أحد دعائمه الرئيسية على الشرعية فتتحالف مع قوى ليس لها وجود شرعي على الساحة السياسية في تجمع واحد بدعوى الدفاع عن الديمقراطية.

لم تكن هناك أي بوادر لأزمة سياسية تبرر اتخاذ هذا الموقف ولم يشك أي حزب من عقبة واحدة وضعت في طريقه وهو يباشر حركته الحزبية العادية وكانت قنوات الاتصال مفتوحة مع جميع الأحزاب الشرعية للتفاهم حول أي موقف خلافي وأذكر في هذه المناسبة أن إحدى الجرائد الحزبية بدأت تنشر سلسلة من المقالات حول الأوضاع الاجتماعية لضباط الجيش والشرطة بأسلوب فيه نوع من المبالغة والإثارة يتناقض كثيرا مع اعتبارات الأمن القومي وتم الاتصال برئيس ذلك الحزب ووافق على وجهة النظر التي تؤكد أنه يجب إبعاد مثل هذه الأمور الحساسية عن دائرة التنافس الحزبي وفيما عدا ذلك فقد تصاعدت حدة النقد الحزبي دون أي رد فعل يعبر عن ضجر أو ملل من جانب السلطة المسئولة.

ولقد أشار التقدير المنطقي لهذه الخطوة المفاجئة والتي كانت في حقيقتها اختلافا لأزمة مفتعلة أن المستفيد الوحيد من كل ذلك هو القوى غير الشرعية التي تصورت أنها يمكن أن تدفع الأمور إلى أزمة سياسية تتعادل في حساسيتها وأهميتها مع تلك الأزمة التي فجرتها قرارات سبتمبر عام 1981 وإن كانت الخطوة الأولى في هذه المرة قد جاءت من الجانب الأخرى أي من جانب القوى السياسية وليس من جانب سلطة الحكم.

وفي ضوء السياسة التي تحددت، بأن يكون الحوار السياسي هو أسلوب معالجة المواقف السياسية الخلافية فقد تم الاتصال بالسيد محمد فؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد تحت الـتأسيس وأجرى معه حوار شامل تضمن كثيرا من موضوعات الساعة وغيرها من الموضوعات وأعتقد أن تفصيلات هذا الحوار يمكن أن يلقي ضوءا كبيرا على الموضوع الذي نحن بصدده الآن وقد نشرت مجلة المصور هذا الحوار من واقع محضر الاجتماع الذي تضمن كل ما دار من تفصيلات في ذلك اللقاء في عددها الصادر في 16 سبتمبر عام 1983 ولذلك أفضل إعادة مضمون ذلك المحضر بنصه:

نص حوار بني وبين فؤاد سراج الدين...

  • وزير الداخلية:
بداية أود أن أعبر عن كامل تقديري لاستجابتكم لإجراء هذا الحوار الذي أعتقد بضرورته خاصة بعد أن أعلن حزب الوفد استئناف نشاطه في بيان صدر باسم سكرتير عام الحزب وخلال مؤتمر صحفي جري عقده في منزلكم لقد أردت من هذا الحوار مع رجل يدرك بحكم خبرته الطويلة مسئولية الدولة وحدود الشرعية أن نصل إلى اتفاق مشترك حول الإطار الشرعي والقانوني الذي يجب أن يلتزم به الحزب وقياداته في ضوء التطورات الأخيرة التي جدت بعد أن تم إعلان قيام الحزب من جانب واحد.
ودعني أقل بداية وحتى لا يكون هناك مدعاة للبس أو سوء الفهم أو خطأ التقدير أننا لا نضمر موقفا مسبقا من حزب الوفد إنني أنقل هنا ليس فقط وجهة نظر حكومة الحزب الوطني، ولكننني أنقل وجهة نظر القيادة السياسية بل دعني أؤكد لك مرة أخرى أنه ما من شيء مسبق يحكم توجهات القيادة السياسية إزاء حرية العمل السياسي في مصر سوى إعلاء الشرعي واحترام سيادة القانون.
لقد أعلنتم من جانبكم أن الحزب سوف يستأنف نشاطه على الساحة السياسية مستندين في ذلك إلى أن الحزب قد جمد نفسه على حين تقول الوقائع إن الحزب قد حل نفسه وأنه من الناحية القانونية لم يعد قائما على الساحة ومن ثم رأت لجنة الأحزاب أن الإجراء المنفرد الذي اتخذه الحزب يفتقد إلى الشرعية وأن على الحزب أن يعاود تصحيح إجراءاته على الجانب الآخر هناك من يقول أنه بالرغم من أن قرار الحل قد صدر عن الجمعية العمومية للحزب وبإجماع كل الآراء بل وبالرغم من إبلاغ لدنة قيام الأحزاب بقرار الحل رسميا فإن اللجنة العليا للحزب عاودت النظر في الأمر بعد ذلك ورفضت تنفيذ قرار الجمعية العمومية استنادا إلى اللائحة الداخلية للحزب.
دعني أقل هنا إننا أمام موقفين موقف علني ومشهر يتمثل في إخطاركم لجنة قيام الأحزاب بأن الحزب قد ح نفسه وهذا هو الموقف القانوني والشرعي وموقف داخلي غير مشهر يتمثل في استنادكم الآن إلى اللائحة الداخلية كأساس لشرعية استئناف الحزب لنشاطه على النحو الذي جرى إعلانه في المؤتمر الصحفي أنا لا أود أن أخذ موقف القاضي بالرغم من وضوح القضية بل ولا أود أن أقول أي الموقفين ينبغي أن يكون أساسا لشرعية الحزب بالرغم من أن ما جرى في المؤتمر الصحفي كان نوعا من محاولة فرض الأمر الواقع بصرف النظر عن الشرعية وسيادة القانون.
كل ما أود قوله في هذا المقام إننا إزاء قضية خلافية ولا أعتقد أننا يمكن أن نختلف على هذا الحد الأدنى من التوصيف لطبيعة المشكلة المثارة الآن الرجوع إلى القانون إذا كنتم عازفين عن تصحيح الإجراءات والقانون وحده ينبغي أن يكون الفيصل والحكم في هذه القضية الخلافية المثارة الآن.

رحابة المناخ الديمقراطي الراهن

لا أستطيع أن أكتمل سعادتي بإجراء هذا الحوار وأبادر فأقول إنني أوافق تماما على هذا المنطق والواقع أننا وفي إطار المناخ الذي يسود مصر الآن وفي إطار التغيرات الإيجابية التي حدثت على ساحة الوطن بعد أن تولى الرئيس مبارك الحكم كنا نتطلع إلى تجاوز الاعتبارات الشكلية في أمر استئناف الحزب لنشاطه استنادا إلى رحابه المناخ الديمقراطية الراهن ولم نكن نتوقع أبدا إقامة العراقيل أمام قيام الحزب هذا ما يخص الحزب ذاته أما ما يخصني على وجه شخصي فهو قرار العزل السياسي الذي صدر استنادا إلى الاستفتاءات التي جرت بعد حوادث سبتمبر عام 81 إنني هنا أؤكد قبولي المسبق لحكم القضاء لأن هناك سابقة في الموضوع.
  • وزير الداخلية:
هنا أيضا نحن إزاء قضية خلافية أنت ترى الأمر مجرد اعتبارات شكلية ولكن الأمر أعقد من ذلك بكثير وإذا كنا نتفق الآن على ضرورة إعلاء المصالح القومية وعلى ضرورة الحفاظ على المقومات الإيجابية للمناخ السياسي الراهن فإن علينا أن نرفض جميعا أسلوب الأمر الواقع إن معنى ذلك أن أية مجموعة تستطيع أن تنهج على نفس المنوال، وذلك يعني أننا نضرب عرض الحائط بسيادة القانون وهيبة الدولة ولست أشك في أن ذلك لن يخدم مطلقا رحابة المناخ الديمقراطي الراهن الذي أشرتم إلى وجوده في مصر الآن، ولقد كنت أتوقع وإنني أسف أن أقول ذلك على ضوء معرفتي برجل يعرف تماما معنى الدولة ومعنى الشرعية أن تلتزم قيادات الوفد بالمسارات القانونية الصحيحة لإعادة استئناف الحزب لنشاطه.
  • فؤاد سراج الدين:
أود أن أبدي بعض الملاحظات على ما قلتم أخيرا لعل أولها أنني عندما أقول إننا لا نزال نتطلع إلى رحابة المناخ الديمقراطي الذي تعيشه مصر منذ أن تولى مبارك السلطة فنحن لا نقوله من باب المجاملة ولا نقوله داخل الغرف المغلقة أو في مصل هذا النقاش مع مسئول كبير يعمل مع الرئيس مبارك إننا نقول ذلك لأن هذا ما حدث بالفعل ولعلك تذكر أنني في الخطاب الذي ألقيته في الاحتفال بذكرى سعد والنحاس قلت رغم الاعتراضات التي انطلقت من بعض فصائل المعارضة ممن حضروا الاحتفال إن مصر تشهد مرحلة جهد مختلفة عن مرحلة الحكم السابق على أيام الرئيس السادات لأن مبارك أنهى بقرار سياسي حكيم وصائب الاعتقالات التي كانت شملت كل فصائل المعارضة ومعظم رموز المستقلين ولأن مبارك أعاد للمعارضة شرعيتها ومكانها مرة أخرى من أن يكون لها منابرها العلنية ولأنه يسعى بكل الدأب والجهد إلى وفاق عربي ولأشياء أخرى كثيرة قلتها في الخطاب واعترض عليها البعض ممن يتصورون المعارضة نوعا من الإنكار المستمر لجهد الحاكم وجهود الحكومة إننا أكثر نضجا من ذلك ونحن نرفض الأمر الواقع ولا يمكن أن نحرص عليه، لأننا نعرف معنى الدولة.
لقد تعمدت ألا أحضر المؤتمر الصحفي بالرغم من أنه انعقد في منزلي بل ولقد حرصت على أن يكون البيان الذي أعلنه السكرتير العام قصيرا للغاية لأننا كنا نستهدف أمرا واحدا أن نعلن الرأي العام بموقفنا فقط هذا ما كنا نهدف إليه ولا شيء أخر.
وإنني أقول لك بكل الوضوح الآن إن الحزب وقياداته سوف يلتزمون التزاما كاملا بحكم القضاء والقانون وليس بيننا من يسعى إلى فرض وجوده كأمر واقع دون التزام بالشرعية القانونية إنني أوافقك تماما على ضرورة أن يلتزم الحزب وأن تلتزم قياداته بالمسارات القانونية الصحيحة في محاولة استئناف نشاطها وسوف تكون حركتنا من الآن فصاعدا في نطاق حركة حزب لا يزال تحت التأسيس إنا ملتزمون بعدم ممارسة أي نشاط حزبي لحين الفصل في الموضوع سواء في ذلك ما يتعلق بالعزل السياسي أو قضية تجميد الحزب أو حله ولن نتجاوز مطلقا الإطار القانوني لحدود الحركة المسموح بها للأحزاب تحت التأسيس ونحن ننطلق في موقفنا هذا من احترامنا للقانون وإدراكنا لمعنى الدولة كما أننا نرى أن من الحماقة محاولة تصعيد الأمور، فالدولة ينبغي أن تكون موضع احترام الجميع.
  • وزير الداخلية
هذا ما كنت أتوقعه بالفعل ولأن حوارنا ينبغي أن يكون صريحا وشاملا فهل لي أن أركز على فقرة وحيدة وردت في خطابك يوم الاحتفال بذكرى سعد والنحاس لم أجد لها أي صدى في الواقع المصري الراهن لقد قلت إن الاحتكاك الموجود بين الحكومة والمعارضة ينذر بصدام قد يتحول إلى حرب أهلية إنني لا أجد لهذه الكلمات أي مقابل واقعي في مصر الآن، إنني أتحدث وإنا المسئول عن الأمن الذي أرى أنه ينبغي أن يكون أمن المصريين جميعا لا أمن فريق حزبي دون الآخر وأسألك وأنت الذي خبرت منصب وزير الداخلية أي شواهد في الواقع المصري تراها الآن يمكن أن تنذر بالحرب الأهلية.

حرب أهلية مزعومة....

فؤاد سراج الدين:

اتساقا مع أسلوب المصارحة أقول لك إنني متأثر بما جرى في الإسماعيلية عندما تعرض السيد إبراهيم شكري رئيس حزب العمل لبعض المضايقات من جانب بعض أفراد الحزب الوطني لكي يمنعوا وصوله إلى القنطرة.
  • وزير الداخلية:
لا أعتقد أننا نستطيع من وراء هذا الحادث الفردي نقول إن الصدام بين الحكومة والمعارضة يمكن أن ينذر بقيام حرب أهلية بفترة هامة من تاريخ مصر عندما وصل الأمر إلى حد أنه كان لبعض الأحزاب المصرية نوع من المليشيات العسكرية كان للوفد نوع من التنظيم مليشيا يحمل اسم القمصان الزرق وكان لمصر الفتاة مليشيا مقابلة تحمل اسم القمصان الخضر ومع ذلك لم تصل مصر إلى حافة الحرب الأهلية هذا لو أردنا أن نغفل رحابة المناخ الديمقراطي الراهن وأثره على استقرار الأوضاع وعفوا إن كنت قد استعرت بعض كلماتك.
  • فؤاد سراج الدين:
ربما لم أكن أعني الحرب الأهلية بمفهومها ولكنني أرى أن يبذل الحكم وتبذل المعارضة كل ما وسعهما من أجل أن يتجبنا تصعيد التوتر إلى حد المواجهة نحن لا نريد سبتمبر جديدا بل لعل أحد مخاوفي أنه ربما تكون هناك مصلحة لبعض الأطراف في تصعيد هذا التوتر إلى حد المواجهة هؤلاء لا يريدون خدمة المناخ الديمقراطي الراهن بل لعلني أصل في الأمر إلى حد القلق من مسلك بعض فصائل المعارضة الذين يصرون على أن الأمور لم تزل على ما كانت عليه أيام الحكم السابق والذين يتصورن العمل السياسي والحزبي مجرد استفزاز وإثارة وتحريض على المواجهة هؤلاء لا أستطيع أن أصفهم إلا بافتقاد النضج السياسي بل لعلني لا أكتمل الحقيقة عندما أقول إن سلبيات الممارسة الحزبية المطروح على الساحة الآن كانت تؤكد على مسئولية حزب الوفد في أن يقدم في إطار الشرعية القانونية نموذجا ومفهوما ناضجا للمعارضة لا يقوم على الإثارة يطوع جنوحات المعارضة بصورتها الراهنة ويسهم في ملء الفراغ السياسي ويقلص محاذير الاستقطاب إلى اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف إن المعارضة بصورتها الآن فوق هزالها لا تبعث على الارتياح بل لعلني أصل إلى حد القول إن حزبا قادر على تطويق وحصار محاولة الإثارة من جانب البعض على مستوى الشارع بل لعلني أقول لو كان الوفد موجودا لما استطاع البعض أن يحرض على أحداث 17، 18 يناير.

الوفد وحريق القاهرة

  • وزير الداخلية:

اسمح لي أن أخالفك الرأي هنا لقد كان الوفد في الحكم عندما وقعت أحداث 26 يناير سنة 1952 التي انتهت بحريق القاهرة ومع ذلك لم يستطع الوفد شيئا لقد كنت في هذه الفترة في منصب وزير الداخلية وكنت أقوى رجل في الحزب والدولة ومع ذلك تواصل الهياج والتحريض في الشارع المصري إلى حد مأساوي احترقت معه القاهرة.

لقد كان حادث 26 يناير حادثا مدبرا بكل المعايير.
  • وزير الداخلية:
من هذا المنطق نفسه استطيع أن أقول إن أحداث 17، 18 يناير كانت مفاجئة بل وأرجو اتساقا مع روح الصراحة في هذا الحوار أن أقول لك إن التيار الوفدي الذي تتحدث عنه لم يستطع التصدي لما حدث في الشارع المصري في 26 يناير فقط ولكن أيضا لم يستطع أن يستوعب قوى سياسية جديدة لجأت بسبب سلبيات تجربة الأحزاب قبل 52 إلى أقصى اليمين أو إلى أقصى اليسار ولو أننا قرأنا بعناية تاريخ هذه الفترة فربما كان علينا أن نقول إن عجز التيار الوفدي عن استيعاب هذه القوى وسلبيات التجربة الحزبية كل ذلك هيأ المناخ لانتشار العمل السري في تنظيمات غير شرعية سواء على مستوى اليمين المتطرف أم على مستوى اليسار المتطرف وليس مصادفة أبدا أن يجري إنشاء الجهاز السري داخل حركة الإخوان المسلمين في الفترة ما بين 42، 45 وأظن أن الوفد كان خلالها في الحكم وليس مصادفة أيضا أن الحركة الشيوعية قد انتعشت خلال هذه الفترة خاصة في أوساط الشباب.

اسمح لي أن أقول ملاحظة أخرى لقد كان ذلك حال الوفد قبل 32 عاما فكيف يكون حاله بعد هذا الغياب الطويل لقد وقعت تغيرات جذرية على خريطة المجتمع المصري خلال هذه الفترة غابت قوى اجتماعية وسياسية ونشأت قوى اجتماعية وسياسية أخرى إنني أخشى أن تكون مفرط الآمال بالنسبة للحزب الذي عشت حياتك كلها داخله.

نحن نعتبر أنفسنا التزاما بالشرعية والقانون حزبا لا يزال تحت التأسيس ولأننا لم نتمكن من تنظيم الحزب وكوادره فإنني أعتقد أن عودة الوفد الآن لن تسمح له بتحقيق ثقل برلماني مميز، والحد الأقصى الذي نأمله ربما يكون 30 في المائة وربما أقل من ذلك والوفد بحكم ثقله المحدود الآن لا يتطلع إلى الحكم ولكننا نأمل في أن نكون حزبا منافسا في انتخابات 89 لقد تجاوزت 73 عاما من عمري الآن وصدقني أنني لم أعد أريد شيئا ربما لا أبقى في رئاسة الحزب لأكثر من ستة شهور لن تصل إلى عام إذا ما استطعنا أن نكسب للحزب شرعيته القانونية وإذا ما استطعت أنا معاودة العمل السياسي في إطار الشرعية والقانون.

حساب الوفد لآثار يوليو...

  • وزير الداخلية:
ألا ترى معي أن الحساب من جانبكم ربما لا يكون دقيقا لآثار 23 يوليو على المجتمع المصري وبرغم كل السلبيات التي يضخمها البعض إلى حد غير حقيقي أو يتجاهلها البعض الآخر إلى حد غير واقعي فأعتقد أن ثورة 23 يوليو قد نجحت في أن تجسد لنفسها ثقلا شعبيا مميزا هو بالضرورة منحاز إلى إنجازات هذه الثورة خصوصا في المجال الاجتماعي حيث تغيرت تماما تركيبه المجتمع المصري وحيث نمت قوى عمالية لم تكن موجودة من قبل وقوى أخرى جديدة تتمثل في هذا الحجم الهائل من المثقفين والمتعلمين الذين نشأوا في رعاية ثورة [[يوليو وتحت كتفها ثم هذا الحجم الهائل من الملاك الصغار الذين كانوا معدمين قبل [[ثورة يوليو.
لا اختلاف على ذلك ولكنني استطيع أن أقول إن للوفد جذورا في المجتمع المصري تمكنه من أن يكون حزبا منافسا وكبيرا في الانتخابات بعد القادمة وإنني أعتقد أن الصورة المثلي للحياة الحزبية في مصر إنما تتحقق بوجود حزبين قويين وأساسيين لديهما ثقة بالنفس تمكنهما من رعاية المسيرة الديمقراطية بعيدا عن سبيل الإثارة التي تلجأ إليها بعض فصائل المعارضة الصغيرة وإنني على يقين من أن أكثر أمثلة الديمقراطية نجاحا إنما تكون في وجود حزبين كبيرين تتفق سياستهما في الخطوط العريضة للمصالح القومية العليا التي لا ينبغي أن تكون موضع خلاف.
  • وزير الداخلية:
اعتقد أن فكرة وجود حزبين كبيرين كانت في عقل ثورة يوليو منذ فترة مبكرة وربما أن المحاضرة التي نشرت أخيرا للاجتماعات التي عقدها عبد الناصر بعد نكسة 67 إنما تؤكد أنه كان في وعي الثورة وجود حزبين كبيرين لا يختلفان على مصالح الدولة العليا بل لقد كانت فكرة المنابر تستهدف الوصول إلى ذلك الهدف كما أن المناخ الديمقراطي الذي ساد مصر بعد تولي الرئيس مبارك يعكس الأمل في إمكان الوصول إليه لقد كنت واثقا منذ البداية أننا سوف نصل إلى اتفاق يحترم الشرعية وسيادة القانون ويدرك معنى الدولة ويرفض الأمر الواقع ولا يصر على تصعيد الأمور إلى حد التوتر ويثق في قضاء بلاده وإنني على يقين من التزام الحزب وكل قياداته بهذا النهج ما دام الحزب لم يزل في مرحلة التأسيس ويهمني مرة أخرى أن أقول لك كمسئول إننا لا نضمر وجهة نظر مسبقة إزاء الحزب وإننا حريصون على احترام كلمة القضاء وسيادة القانون لأن البديل لذلك تدمير المسيرة الديمقراطية وإعطاء الفرصة للتيارات المناهضة والمنظمات السرية كي تستثمر مناخ المواجهة الذي يصر البعض عليه.

ذلك كان نص الحوار الذي دار بيني كوزير للداخلية وبين السيد محمد فؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد أثناء ذلك اللقاء الذي تم بمكتب وزير الداخلية يوم 21 أغسطس 83 ولقد رأيت من جانبي أن أعرضه بنصه لما تضمنه من مضمون حول كثير من القضايا التي مازالت من قضايا الساعة حتى الآن ولكننا قبل أن نتعرض بالتعليق على تلك القضايا التي نرى أنها مازالت ممتدة وقائمة حتى الآن فإن الأمانة تقتضي عرض نص خطاب السيد محمد فؤاد سراج الدين الذي أرسله إلى السيد مكرم محمد أحمد رئيس تحرير المصور متضمنا خمس ملاحظات على ما ورد بمحضر الاجتماع الذي نشرته المجلة وهو ما نعرضه بنصه في الأتي:

المصور تنشر رد الوفد

السيد الأستاذ/ مكرم محمد أحمد

رئيس تحرير المصور

تحية طيبة أطلعت على عدد المصور الأخير الصادر في 16 سبتمبر الجاري على موضوع الحوار الذي دار بين السيد اللواء حسن أبو باشا وزير الداخلية وبيني ولما كان بعض ما نشر يحتاج إلى تصويب والبعض الآخر يحتاج إلى إيضاح لذلك أرجو نشر رسالتي هذه في العدد القادم من المصور.

1- لم أذكر أثناء الحديث أننا نعتبر أنفسنا حزبا لا يزال تحت التأسيس بل كنت واضحا كل الوضوح في بيان وجهة نظري من أننا نعتبر أنفسنا حزبا قائما أنهى فترة تجميد نشاطه السياسي وأننا سنلجأ إلى القضاء للفصل في الخلاف القائم بيننا وبين الجنة الأحزاب.

وقد وجدت منذ بداية الحديث السيد الوزير مدركا تماما لوجهة نظرنا إذ قال وأنا أنقل حرفيا عن المصور لقد أعلنتم من جانبكم أن الحزب سوف يستأنف نشاطه السياسي على الساحة مستندين في ذلك إلى أنه قد جمد نفسه على حين تقول الوقائع إن الحزب قد حل نفسه إلى أن قال سيادته نقلا عن المصور دعني أقل هنا إننا أمام موقفين موقف علني ومشهر يتمثل في إطاركم لجنة قيام الأحزاب بأن الحزب قد حل نفسه وهذا هو الموقف القانوني والمشهر وموقف داخلي غير مشهر يتمثل في استنادكم الآن إلى اللائحة الداخلية وكأساس لشرعية استئناف الحزب لنشاطه على النحو الذي جرى إعلانه في المؤتمر الصحفي إلى أن قال: وما دام نشأ هذا الموقف الخلافي فلا مناص من الرجوع إلى القانون إذا كنت عازفين عن تصحيح الإجراءات ودعني أقل لك بكل الوضوح إننا عازمون على احترام حكم القضاء.

وقد أكد البيان الذي أصدرته الهيئة العليا لحزب الوفد بتاريخ 3 سبتمبر الجاري وجهة نظرنا السابقة إعلانها في المؤتمر الصحفي من أننا نعتبر الحزب قائما فعلا ولا يحتاج إلى التقدم بطلب جديد إلى لجنة الأحزاب.

2- عن النشاط السياسي الحالي للحزب لعل الحديث حول هذا النشاط ومداه هو سبب ما وقع من لبس صححناه لقد قلت للسيد الوزير إننا في كل خطواتنا نلتزم بالدستور وبالشرعية القانونية وهذا الالتزام كان دائما أسلوب الوفد ولذلك لم يستطع خصومه النيل منه على شراسة المعارك التي خاضها ومن هذا المنطلق فإننا نمارس حاليا كل الأنشطة السياسية التي يبيحها لنا القانون ولا تدخل في دائرة الخلاف بيننا وبين الحكومة انتظارا منا لحكم القضاء.

وحتى بفرض أننا حزب غير قائم فإن قانون الأحزاب يعطي الأحزاب التي تحت التأسيس كل الحقوق الممنوحة للأحزاب القائمة المعترف بها رسميا فيما عدا إصدار صحف باسم الحزب أو عقد اجتماعات سياسية عامة ويدخل في إطار النشاط المسموح به عقد اجتماعات بين أعضاء الحزب ضم أعضاء تكوين كوادر ولجان القيام بالدعاية الحزبية..إلخ..

3- المعارضة:

أشار السيد الوزير إلى أسلوب المعارضة الذي يقوم على مجرد الإثارة والتهييج وذكر أن إحدى صحف المعارضة هاجمت شرطة الإسكندرية بعنف لأنها ضبطت جريمة وقدمت المتهمين للنيابة العامة.

الوفد معارضا قبل 25...

ولقد علقت على ذلك بأنني لم أقرأ شيئا عن هذا الحادث وإن كنت أوافقه على أنه يقع أحيانا بعض التجاوزات وقلت إن المعارضة الصحيحة اعتقادي هي التي تلتزم بالموضوعية والتي تشي إلى الإيجابيات بجانب السلبيات حتى لا تكون معارضة ضعيفة وحتى لا تتهم بعدم النضج السياسي وتفقد كل تأثير لها على الشعب وأن هذا كان دائما أسلوب الوفد في المعارضة قبل سنة 1952 وتمنيت لو أن وقته اتسع للاطلاع على مضابط مجلس الشيوخ والنواب قبل سنة 1952 في الفترات التي كان الوفد فيها في صفوف المعارضة وأضفت أننا نتطلع إلى اليوم الذي نقوم فيه بهذا من جديد.

4- الجهاز السري للإخوان وحكم الوفد:

ورد في الحوار المنشور في المصور على لسان السيد الوزير أما الجهاز السري بداخل حركة الإخوان المسلمين فقد تكون في الفترة ما بين 42، 45 والوفد في الحكم وأن الحركة الشيوعية قد انتعشت خلال هذه الفترة خصوصا في أوساط الشباب.

وكان الإنصاف يقتضي أن ينشر في نفس الوقت ردي على ملاحظة السيد الوزير خاصة أن هذا الرد تصحيحا لخطأ تاريخي لا ينبغي أن يبقى قائما بدوت تصحيح.

لقد قلت له إن ما ذكره يخالف الواقع المعروف فما سمي بالجهاز السري للإخوان لم يتكون ولم يكن له أي نشاط إلا ابتداء من سنة 1945 بعد إقالة حكومة الوفد في 8 أكتوبر سنة 1944 وأن جميع الحوادث التي نسبت إلى هذا الجهاز قد وقعت في الفترة ما بين 1945 وسنة 1948 ومنها حادث اغتيال المرحوم المستشار الخازندار وحادث اغتيال المرحوم اللواء سليم زكي حكمدار القاهرة وحادث اغتيال المرحوم النقراشي رئيس الوزراء وغير ذلك من الحوادث المعروفة كذلك لم يكن للشيوعيين أي نشاط ملحوظ في فترة حكم الوفد.

5- نسبة الثلاثين في المائة ورئاستي للحزب:

جاء ذكرها على لساني عندما قلت للسيد الوزير أرجو أن تنسى أنك وزير للداخلية وتجيبني بصراحة لماذا تخشون من قيام الوفد ومن جودي على رأسه؟ أتخشون أن حرز الأغلبية المطلقة في انتخابات إبريل القادمة فيتولى مقاليد الحكم، وهي ستجري بعد سنة أو سبعة أشهر ونحن لن ننته بعد من إعداد كوادرنا ولجاننا وجهازنا الانتخابي فلا أعتقد أن نحرز فيها أكثر من ثلاثين أو أربعين في المائة من الأصوات أما في الانتخابات التالية عام 1989 فأصارحك بأننا سنفوز فيها بأغلبية كبيرة.

زاهد في رئاسة الحزب!

أما عن شخصي بالذات فقد أوشكت على الثانية والسبعين من عمري فأنا لا أطمع الآن في شيء فقد حقق الله عز جل كل ما تمنيت وكل ما في الأمر أنني أشعر بأن رسالتي في الحياة لا تتم إلا باستئناف الوفد لنشاطه السياسي من جديد أما عن رئاستي للحزب فإنا زاهد فيها وتستطيع أن تسأل الأخ الدكتور مصطفى خليل رئيس لجنة الأحزاب 1978 عند قيام الوفد بماذا أجبته عندما سألني عن سبب النص في النظام الداخلي للحزب على أن مدة الرئيس الأولى سنة واحد يعاد بعدها انتخاب رئيس الحزب من جديد فقد قلت له إن السبب في ذلك هو أنني أعتزم التنحي عن الرئاسة وإعطاء الفرصة لغيري من أعضاء الحزب وكثيرون منهم يصلحون لها وإن كان ذلك لن يمنعني من البقاء في الحزب بجانب إخواني.

وكان السيد الوزير كريما في تعقيبه على ما قلت وتمنى لي طول العمر والصحة وأكد من جديد أن أحدا من المسئولين لا يعارض ولا يضع العراقيل في سبيل قيام الوفد من جديد وأن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد خلاف بيننا وبين لجنة الأحزاب حول الإجراءات وأنه موافق تماما على ترك الفيصل في هذا الخلاف للقضاء وأن الحكومة ستحترم حكمه.

وإنني انتهز هذه الفرصة لأكرر للسيد الوزير اللواء حسن أبو باشا شكري على كريم لقائه وحسن استماعه لي كما أشكر الأخ مكرم على إفساحه صفحات المصور لهذا الحوار ولبياني هذا .

فؤاد سراج الدين

ومع ذلك فلا أعتقد من جانبي أن هناك خلافا جوهريا بني ما ورد في تفصيلات محضر الاجتماع حول القضايا التي شملها هذا الحوار وبين ما ورد في هذه النقاط الخمس التي تضمنها تعقيب السيد فؤاد سراج الدين عنها فيما عدا ما يتصل بدور الجهاز السري للإخوان والذي ورد ف تعقيب السيد فؤاد سراج الدين عنه أنه بدأ نشاطه بعد عام 1945 كعمليات الاغتيالات التي عدد بعضها وأن ذلك تم بعد إقالة وزارة الوفد عام 1944 ولقد عقبت المصور على هذا الخلاف بأن ذلك الجهاز إذا كان قد بدأ نشاطه على النحو الوارد في التعقيب بعد عام 1945 فإن الإعداد لمثل هذا الجهاز الضخم بكوادره وتدريباته وتسليحه ثم تخطيطه لتنفيذ عمليات الاغتيال والإرهاب التي قام بها لابد أن يكون قد تم خلال سنوات كثيرة طوال الفترة التي استغرقتها حكومة حزب الوفد في الحكم بين عامي 42، 45 ولدق كانت تلك الفترة بحق هي الفترة التي بدأت فها جماعة الإخوان تحقق نموا وتسحب من رصدي حزب الوفد على الساحة السياسية.

ولكن يبقى بعد كل ذلك ضرورة إلقاء بعض الأضواء على تلك الأسباب التي دفعت الأحزاب السياسية إلى افتعال هذا الموقف وكأن أزمة ديمقراطية كانت قد نشأت على الساحة السياسة على غير الواقع الحقيقي وهو ما نسعى إلى تحديها في النقاط التالية:

1- لم يكن قانون الطوارئ على النحو السابق شرحه تفصيلا قد مس من قريب أو من بعيد الحركة الحزبية في أي مجال من مجالات حركتها الإعلامية أو الحزبية على أي صورة من الصور.

2- ولم يكن دور لجنة الأحزاب مطلبا ملحا في هذه المرحلة المبكرة بعد أزمة سياسية وأمنية كادت تعصف بكيان البلاد يدعو إلى افتعال تلك الخطوة خاصة أن عدد الأحزاب السياسية على الساحة لم يقل وإنما زاد بعد أن أعاد حزب الوفد إعلان نفسه كحزب تحت التأسيس على التفصيل الذي ورد بمحضر الاجتماع السالف الإشارة إليه.

3- ومع كل ذلك فثمة ملاحظات على عدد من القضايا التي أثيرت في محضر الاجتماع السالف الإشارة إليه ويمكن أن تسهم في إلقاء ضوء أكبر على الدافع وراء تشكيل هذه اللجنة والمحاذير التي نشأت عن ذلك وامتد تأثيرها إلى انتخابات 84 ثم ما تلاها من انتخابات بل وأعتقد أن تأثيرها يمتد حتى الآن نوجزها في الآتي:

ذكر السيد فؤاد سراج الدين في معرض حديث عن المسؤولية القومية للأحزاب أن قيادات الحزب لا تقول شيئا داخل الغرف المغلقة وتقول غيره خارج الأبواب وكان ذلك في معرض تعليقه على ما ورد في خطاب علني له عندما أشاد فيه بالديمقراطية التي اتسعت مساحتا في عهد مبارك وأنه تجنب الحديث عن قانون الطوارئ لأنه كرجل دولة سابق كان يدرك أهمية هذا القانون في تلك المرحلة في تأمين البلاد ولقد كان الرجل صادقا في كل ما قاله حول هذا الموضوع ولكن موضوع الغرف المغلقة يذكرني بموقفين لهما دلالاتهما الكبيرة عن بعض الأساليب المعارضة التي تبالغ في النقد وأوجه الإثارة على غير الاقتناع الحقيقي لدى قياداتها وما تقول به داخل أبواب الغرف المغلقة.

المعارضة والاستهلاك المحلي...

• أولها أن قيادة حزبية عليا لأحد الأحزاب المعارضة كان في زيارتي بمكتبي في وزارة الداخلية قبل انتخابات 84 وكان معي مدير مكتبي اللواء محمد تعلب حاليا وما زال على قيد الحياة حتى الآن بحمد الله ولخال المناقشة العامة التي كانت تدور بيني وبين تلك القيادة إذا به يذكر هل تعرف أنني لو كنت مكانك هنا لقتلت وشنقت تأمينا للبلد ولكنني كمعارض يحيا في الخارج على أن أهاجم وأنتقد وأبالغ فيما يتعلق بأي تجاوزات تثار فذلك منطقي خارج الأبواب..!!

• وحول انتخابات مجلس الشعب عام 84 ذكرت قيادة حزبية معارضة الحزب للعميد محمد تعلب اللواء حاليا في معرض تعليقها على النسبة التي حصل عليها الحزب في تلك الانتخابات ولم تمكنه من اجتياز النسبة المقررة للحصول على مقاعد بمجلس الشعب أن قيادة الحزب تدرك تماما أن حجمها الحقيقي في الشارع يتفق من الناحية الواقعية مع النسبة التي أسفرت عنها الانتخابات ولكنها لابد أن تدعي غير ذلك للاستهلاك الحزب وتثير وتطعن في سلامة العملية الانتخابية..!!

• أثير في محضر الاجتماع قضية محاولة فرض الأمر الواقع ومع معارضة السيد فؤاد سراج الدين لهذا المبدأ لتعارضه مع الشرعية والقانون فإن حزب الوفد قد وقع بعد ذلك في خطأ تاريخي عندما تحالف مع جماعة الإخوان كشخص اعتباري في انتخابات 84 وأصبحت الجماعة منذ تلك الوقت تسعى على فرض الأمر الواقع وهو ما تحقق لها بعد ذلك في انتخابات عام 87 عندما تحالفت مع حزب العمل وما زالت تمارسه حتى الآن عندما أعلن أحد قادتها أن الجماعة تهدف إلى إعلان نفسها كحزب سياسي ديني.

• في معرض تعليقه على مواقف بعض الأطراف السياسية ذكر السيد فؤاد سراج الدين أنه يخشى من أن تكون هناك مصلحة لبعض الأطراف في تصعيد التوتر الداخلي في تلك المرحلة إلى حد المواجهة وأنه يعتقد أن مثل هذه الأطراف لا تريد خدمة المناخ الديمقراطي وأعتقد أن هذا المعنى ما زال قائما حتى الآن وهو على أي حال تساؤل يجب أن يوجه للقوى السياسية الشرعية بأكملها لتفصح عن رأيها في أسلوب الممارسة الديمقراطية وتؤكد موقفها من الأعمال التي تخل بهذه الممارسة على حد الوصف الذي أشار إليه السيد فؤاد سراج الدين خاصة في مواجهة تلك القوى التي تسعى إلى فرض سياسة الأمر الواقع قفزا فوق الشرعية والقانون.

انهيار لجنة الدفاع عن الديمقراطية...!!

وفي نهاية الأمر فلقد انسحب حزب الوفد من المشاركة في عضوية لجن الدفاع عن الديمقراطية ولحق به حزب الأحرار وكان ذلك من أسباب انفراط عقد هذه اللجنة ولم تعقد مؤتمرها الذي كانت تخطط لعقده بميدان عابدين..!!

ولكن كان هناك الانتخابات القادمة على الأبواب بعد ذلك بأقل من عام وكل التخوف من الإمكانات التي يحظى بها الحزب الوطني على الساحة السياسية والتي يمكن أن تحقق له أغلبية كاسحة في تلك الانتخابات ومع كل تأكيدات القيادة السياسية بل ومع مؤشرات الممارسة والواقعة على الساحة في عدد من العمليات الانتخابية والتي كانت تؤكد في مجملها أن منطقا جديدا تمام قد ساد جميع العمليات الانتخابات السابقة لا يتناقض مع روح المناخ الديمقراطي السائد فإن منطق المعارضة رفض أن يستوعب هذا المتغير في كثير من مواقفها وهو ما نعرض له تفصيلا في الجزء التالي عن العمليات الانتخابية.

-7-

العمليات الانتخابية ومتغيراتها

لا يختلف أحد على أن العملية الانتخابية تمثل ركنا أساسيا في الممارسة الديمقراطية فهي أولا تترجم معنى اشتراك الشعب في صنع القرار وهي ثانيا تترجم قدرة الشعب على إحداث التغيير الذي يرتضيه ويرغب وهي ثالثا وهو الأهم تؤكد وترسخ ذلك المفهوم الذي تقوم عليه الديمقراطية أولا تقوم أصلا أن يتم التغيير من خلال القنوات الشرعية وبالمنطق والأسلوب الشرعي الذي يترسب في الوجدان الجماهيري العام وليس من خلال العمل الانقلابي أو العمليات الإرهابية أو القفز فوق الشرعية وفوق القانون.

الالتزام بالشرعية والقانون...

ولكي يترسب هذا المفهوم وذلك المنطق في الوجدان الجماهيري العام كي تصبح الديمقراطية أسلوب حياة لغاية أكبر وهي تحقيق رفاهية المجتمع ومشاركة قواعد هذا المجتمع في إدارة شئون مجتمعهم بالمنطق الديمقراطي فإن القوى السياسية الشرعية تتحمل التزاما أساسيا لكي تعلن في وضوح كامل في جميع الأوقات وتحت أي ظروف أو ملابسات أنها ترفض منطق العمل الانقلابي الذي يتم بعيدا عن القنوات الشرعية ومهما كانت صورته أو تبريراته فكما قلنا سابقا فإن المفهوم الديمقراطي لكي يصبح أسلوب حياة يحتاج إلى ممارسة صحيحة لا تضجر ولا تمل من مشاكل طارئة أو عقبات مؤقتة أو نمو بطئ في البناء الديمقراطي فالعبرة كل العبرة بأن يكون هناك المسار الديمقراطي الدائم وأن يكون هناك الاقتناع العميق في الوجدان الشعبي العام بهذا المسار وأن منطق التغيير يلتزم في جميع الأوقات باعتبارات الشرعية والديمقراطية عندئذ فقط فإن مساحة البناء الديمقراطي تتسع يوما بعد يوم وتتكفل الديمقراطية بمعالجة أخطاء الممارسة نفسها بنفسها وعكس ذلك تماما فإن محاولة لي عنق المسار الديمقراطي تحايلا أو قفزا فوق الالتزام بالشرعية والقانون أو استعجالا لنتائج تتجاوز واقع المجتمع أو النمو الطبيعي للمسار الديمقراطية كحتمية تاريخية مرت بها دول أخرى كثيرة فإن ذلك المسار يتعرض لعثرات وأمراض كثيرة ليس لها من نتائج إلا إرهاصات تتكرر بين آن وآخر وتضيع من أيدينا معالم الطريق السليم.

وكما سبق أن ذكرنا فإن العملية الانتخابية لها أهميتها الكبرى في دعم المسار الديمقراطي كحتمية تاريخية مرت بها دول أخرى كثيرة فإن ذلك المسار يتعرض لعثرات وأمراض كثيرة ليس لها من نتائج إلا إرهاصات تتكرر بين آن وآخر وتضيع من أيدينا معالم الطريق السليم.

وكما سبق أن ذكرنا فإن العملية الانتخابية لها أهميتها الكبرى في دعم المسار الديمقراطي وكان من المحتم في ضوء جميع المتغيرات السياسية التي طرأت على الساحة الداخلية بعد ولاية الرئيس مبارك أن يكون هناك منطق جديد يختلف شكلا وموضوعا عن المنطق الذي ساد العمليات الانتخابية في جميع المراحل السابقة فقد كان وما زال أحد الأهداف الرئيسية لنظام مبارك أن يكون الإنجاز الديمقراطي هو أساس جميع الإنجازات الأخرى التي تقوم على الاستقرار والتنمية.

ومرة ثانية يخطئ من يظن أن سنوات قلائل كفيلة بمعالجة رواسب استمرت عشرات السنين وأصبحت في حجم الجبال وهي رواسب يتحمل مسؤوليتها نظم حكم سابقة وقوى سياسية متعددة تحملت مسؤولية الممارسة السياسية على الساحة قبل ستين عاما تقريبا كان البعد الديمقراطي خلالها إما بعدا شكليا لمجرد الزينة وإما خاويا بلا مضمون وإما بعدا يتجاهل ذلك المفهوم الأساسي الذي لا تقوم للديمقراطية بدونه قائمة عندما سعت بعض التيارات إلى العمل الانقلابي كما حدث في يناير عام 1977 أو أكتوبر عام 1981 كذلك عندما أتاحت بعض القوى السياسية الشرعية الفرصة لتيارات غير شرعية لتفرض الأمر الواقع وتقفز مرحلية ولكنها أبد لم تؤمن بالديمقراطية كمبدأ وأسلوب حية وكان من نتائج كل ذلك عثرات كثيرة تعرض لها المسار السياسي بأكمله وتعرضت لها خطورتها وأهميتها لعل أهمها انصراف قواعد عريضة من الجماهير عن المشاركة في الحركة السياسية ثم استمرار نمو ظاهرة الإرهاب والعمل خارج القنوات الشرعية.

وإذا كانت العملية الانتخابية هي محورنا في هذا الجزء فلابد أن نلقي نظرة سريعة إلى الوراء في استعراض موجز لملامح العمليات الانتخابية قبل ثورة يوليو وبعدها في عهدي الرئيسين الراحلين عبد الناصر والسادات ثم نعرض بالتفصيل لتلك العمليات الانتخابية التي تمت في عهد الرئيس مبارك، ولندع المقارنة في النهاية بما نعرض له من حقائق دامغة هي الفيصل في الحكم والتقدير.

انتخابات دامية...

أولا: كتب الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه مذكرات في السياسة عن انتخابات إسماعيل صدقي عام 1931 وكان تعداد مصر وقتها لا يتجاوز 15 مليون مواطن، ونحن الآن بحمد الله 56مليون مواطن، كتب يقول بالنص: إنها جرت والعاصمة كأنها على بركان من نار أو ميدان قتال، فقوات البوليس والجيش منتشرة في كل مكان والمظاهرات تعم العاصمة وحالة الاضطراب شاملة والعنف بالغ القسوة والمظاهرات تعم العاصمة وحالة الاضطراب شاملة والعنف بالغ القسوة والمتظاهرون حطموا مركبات الترام وحاصروا الدوائر الانتخابية ووقعت في الأقاليم وحوادث دامية ذهبت فيها أرواح كثيرة بريئة.

وانتخابات مباعة....

كما كتب المرحوم محمد زكي عبد القادر بجريدة الأهرام في 2/ 1/ 1950 تعليقا على الانتخابات التي تمت في ذلك العام وأجرتها حكومة محايدة برئاسة حسين سري باشا والتي فاز فيها حزب الوفد بالأغلبية الكبيرة كتب يقول: يسأل بعض الناخبين اليوم لمن ستعطي صوتك فيقول على الفور لمن يدفع أكثر من غيره من المضحكات المبكيات ما يتناقله البعض من أن ناخبا رهن تذكرته الانتخابية على ريال والآخر سحب عليها خمسين قرشا انتظارا لبقية الثمن انتخابات تباع فيها تذاكر الانتخاب كأنها الملح والكمون والزيتون كما نشرت جريدة الأهرام في 4/1/1950 أنه في بلبيس ضبط أحد الغلماء يحمل 269 تذكرة انتخابية يعرضها للبيع.

كما كتب طارق البشري في كتابه الحركة السياسية في مصر نقلا عن كتاب عبد الرحمن الرافعي في أعقاب الثورة تعليقا على الانتخابات التي أجرتها حكومة السعديين عقب إقالة حكومة حزب الوفد عام 1937 ما نصه:

كان مجموع مقاعد مجلس النواب 264مقعدا، وأسفرت الانتخابات عن فوز 125 نائبا من السعديين 74من الدستورين 29 من الكتلة، 7 من الحزب الوطني 29من المستقلين فظفر الحزب السعدي بأغلبية نسبية دون الأغلبية المطلقة ببضعة مقاعد وتحقق له عدد واف من المقاعد لا يصل إلى ما يمكنه من تشكيل الوزارة منفردا وذلك طبقا لخطة الملك، ولا تعكس هذه النتيجة تأييدا شعبيا لأي من هذه الأحزاب يتناسب مع ما ظفر به من مقاعد فالانتخابات زيف بعلم الناس جميعا وقد تمت في ظل الأحكام العرفية وقاطعها حزب الوفد صاحب أكبر تأييد انتخابي في البلاد فكانت مقاطعته لها حكما عليها بالصورية والمقاعد وزعت اقتساما بين الأحزاب الحاكمة وأغلق الكثير من الدوائر على مرشحين معينين وترك الباقي للتنافس بشأنه والدوائر الانتخابية فصلت بما يضمن نجاح مرشحي الحكومة وسيق الناخبون في بعض المناطق الريفية للتصويت وتولي البوليس في بعضها استبدال صناديق الانتخاب ويذكر الأستاذ الرافعي تعليقا على المعركة العرفية أو الرقابة على الصحف كما أسلفنا وتدخلت في الانتخابات بالرغم من أن خصومها الوفديين قرروا الامتناع عن الدخول فيها وكان واجب عليها تركها حرة ليختار الناخبون من يريدونهم ولكنها في الواقع تدخلت في الكثير من الدوائر لإنجاح مرشحيها أو من رضيت عن ترشيحهم.

اسم بلا مضمون

ذلك كله ما ورد في عدد من المراجع التاريخية عن الصورية التي كانت تتم بها الانتخابات في تلك المرحلة السابقة على ثورة يوليو فإذا أضفنا إلى ذلك أنه خلال هذه المرحلة والتي استمرت ثلاثيني عاما كان خلالها حزب الوفد بجميع المقاييس السياسية والشعبية هو حزب الأغلبية المطلقة ولكنه لم يصل إلى الحكم إلا في مرات معدودة لم تستمر في مجملها أكثر من ست سنوات متقطعة ثبت بما لا يدع مجالا لأي شك أن هذا الركن من الممارسة الديمقراطية وأعني به ركن العملية الانتخابية كان متهاويا من أساسه وأن أي مسمى للممارسة السياسية الواقعية في تلك المرحلة لم يكن يحمل من الديمقراطية إلا اسما بلا مضمون.

فلسفة الحزب الواحد....

ثالثا:

نصل بعد ذلك إلى مرحلة الرئيس الراحل السادات، ولقد تحدثنا سابقا أن من أهم ما يميز هذه المرحلة فيما يتصل بالموضوع الذي نحن بصدده في هذا افصل عن البعد الديمقراطي في الممارسة السياسية أنها كانت المرحلة التي بدأ التعدد الحزبي خلالها يأخذ طريقه ثانيا على الساحة السياسية وإن كان قد ولد ولادة غير طبيعية جعلته يخرج إلى الساحة السياسية مشوها وضعيفا وكان ذلك من أسباب تلك السمة التي أطلقت على الديمقراطية في هذه المرحلة بأنها كانت ديمقراطية مجاملة أوي أريحية ساداتية وإن كنت من جانبي قد خرجت بعد تحليل مسارها وأبعادها وأهدافها أنها كنت مدخلا جادا للديمقراطية متحفظة تعرضت لعثرات حادة لدى أول اختبار لها ساعد عليها جنوح حزبي لم يفرق بين مخاطر الخلط بين الشرعية وبين عدم الشرعية.

الأربع تسعات 99,99

وما يعنينا هنا بصفة أساسية هو ما يتصل بالعمليات الانتخابية في تلك المرحلة وهو ما تشير إلى ملامحه النقاط التالية:

• كانت صورة الاستفتاءات والانتخابات التي تمت خلال المرحلة على كثرتها على نس نمط صورة الاستفتاءات التي تمت في المرحلة السابقة عليها في عهد الرئيس الراحل عبد الناصر وذلك فيما يتصل بتلك النسبة والتي أطلق عليها البعض في مجال النقد نسبة الأربع تسعات أو الثلاث تسعات يقصدون بذلك ما كان يعلن عن نتائج الاستفتاءات من أن نسبة الحضور فيها والموافقين عليها 99,99٪ .

• أجريت أول عملية انتخابية في ضوء التعدد الحزبي في تلك المرحلة خلال عام 1976 وكنت في ذلك الوقت أشغل منصب مدير مباحث أمن الدولة، وكان السيد ممدوح سالم رحمه الله رئيس الحزب مصر ورئيسا للوزارة في ذلك الوقت.

• وهي تلك الانتخابات التي وصفتها عدد من الأقلام السياسية بأنها كانت من أنظف الانتخابات التي تمت في تاريخ مصر.

• والمعروف أن حزب مصر قد حصل على أغلبية مقاعد مجلس الشعب في هذه الانتخابات ولم تفز المعارضة فيها إلا بحوالي 12 مقعدا كان يشغلها أقطاب المعارضة من أحزاب التجمع والأحرار وعدد من المستقلين أمثال السادة كمال الدين حسين عضو مجلس الثورة الساق ومحمود القاضي عضو مجلس الشعب عن الإسكندرية وخالد محيي الدين رئيس حزب التجمع.

هل كانت أنظف انتخابات في مصر؟

• والذي يعنينا هنا أن هذه الانتخابات والموصوفة بأنها الانتخابات المثالية في التاريخ الانتخابي في مصر كانت نسبة الحضور فيها التي أعلن عنها 93٪ من عدد الناخبين المقيدين في دفاتر القيد وليس لي تعليق أكثر من ذلك..!!

• ومع ذلك فلعل ما كتبه الكاتب الكبير الأستاذ موسى صبري في عموده الخاص بعدد جريدة الأخبار الصدر يوم 25 يونيو عام 1990 يلقى بعض الضوء على تلك الانتخابات ويؤكد المعنى الذي أقصده فقد كتب ما نصه الآتي وإذا قيل بأن الانتخابات التي أجراها ممدوح سالم كانت في قمة النزاهة فإنني أقول إن الإدارة تدخلت في ثلاث أو أربع دوائر لصلاح بعض المرشحين وقد تدخلت الإدارة لمساعدة معارض هو مصطفى كامل مراد وليست هذه المعلومة من عندياتي بل هذا ما صرح لي به ممدوح سالم في جلسة خاصة ولعلني أضيف إلى ما ذكره السيد موسي صبري أن تلك الدوائر التي فاز فيها العدد الأكبر من قيادات المعارضة هي التي تركت دون اهتمام كبير من جانب الإدارة أما باقي ذلك فقد حضره 93٪ من الناخبين كما لا يحدث في أي دولة في العالم.

• كانت الانتخابات الثانية التي أجريت في هذه المرحلة هي الانتخابات التي تمت خلال عام 1979 بعد حل مجلس الشعب المنتخب عام 1976 نتيجة صدامات سياسية حادة فجرها بعض أقطاب العارضة وقد فاز الحزب الوطني في هذه الانتخابات بالأغلبية الساحقة وكانت نسبة الحضور فيها تتجاوز 95٪ من مجموع المقيدين في دفاتر القيد وسقط فيها عدد من أقطاب المعارضة لعل من أبرزهم السيدين خالد محيي الدين رئيس حزب التجمع وكمال الدين حسين أحد أقطاب المستقلين.

ذلك هو ما كان بالنسبة للعملية الانتخابية في المراحل الثلاث السابقة على ولاية الرئيس مبارك وحديثنا الآن في البند الرابع يتناول تفصيلات العمليات الانتخابية في هذه المرحلة الجديدة ولنا عودة بعد ذلك للمقارنة.

ذبح الدجاجة...

رابعا:

لابد أن أسارع قبل استعراض تفصيلات العمليات الانتخابية بعد ولاية الرئيس مبارك لأؤكد أنني لا أقصد للحظة واحدة أن أدعي بأن الطريق كان خاليا من المطبات والعقبات أو أن المثالية هي التي سيطرت على العمليات الانتخابية في تلك المرحلة الجديدة فالتقاليد هي التقاليد والعرف هو العرف والناس هم الناس والأغراض والمفاهيم الحزبية هي نفس الأغراض والمفاهيم ولكنني أستطيع أن أجزم بأن كان هناك تغيير في المناخ السياسي العام تغيير يستهدف إفساح المجال لتطبيق ديمقراطي بمنطق آخر وكان هناك إصرار أن يكون هذا المنطق الجديد مسايرا لروح هذا التغيير ولست أريد أن أتسرع وأقول إن الغرض الحزبي تغلب في النهاية وحاول أن يذبح الدجاجة مبكرا متعجلا ثمراتها فلا استفادة منها ولا استفاد من بيضها ولكني أترك ذلك الحكم لكي تجيب عنه والوقائع بنفسها أولا ثم لكي أضيف إلى تلك الوقائع وجهة نظر أعرضها في خاتمة أجزاء هذا الفصل عندما نتحدث عما يثار عن أزمة الديمقراطية في مصر.

كانت أول العمليات الانتخابية التي تمت طبقا لنظام القوائم المطلقة في هذه المرحلة الجديدة انتخابات المجالس المحلية على مستوى الجمهورية وقد قاطعت أحزاب المعرضة جميعها هذه الانتخابات فيما عدا لجنتين بالقاهرة تقدم فيهما حزب الأمة بقوائمه وإن كان غطاء لبعض أعضاء حزب الوفد وعدد آخر من المنتمين لتيارات أخرى وبالرغم من أن هذه الانتخابات كانت في مجملها من طرف واحد فإن الحرص على أن تتم في نزاهة وحرية كان السمة الأساسية التي سادتها كذلك الحرص على الحيدة الكاملة من جانب أجهزة الشرطة وبقية الأجهزة الإدارية في انتخابات اللجان التي تقدم فيها حزب الأمة بقائمه كان مبدأ مؤكدا التزم به الجميع.

انتخابات 83 الحرة.....

ولقد فازت قائمة حزب الأمة ف لجنة قسم الساحل بالأغلبية في هذه الانتخابات ولندع الآن ما سجله السيد أحمد طه عضو حزب الوفد في الجلسة الافتتاحية للمجلس الشعبي المحلي لمحافظة القاهرة بتاريخ 17/11/83 صفحتي 16، 17 يجيب عن أي تساؤل يمكن أن يثار حول تلك الانتخابات فقد ورد على لسانه ما نصه الآتي: أود أن أقترح على مجلسكم الموقر بنفس الروح، روح المصالحة وبنفس الروح روح الحرص على تنمية كل جديد ودفعه إلى الأمام أن نرسل برقية إلى وزير الداخلية نسجل فيها وللتاريخ سلوك الشرطة في انتخابات المجالس المحلية.

كان المحك الثاني الذي أجريت فيه الانتخابات بنظام القائمة المطلقة هي انتخابات التجديد النصفي لأعضاء مجلس الشورى قرب نهاية عام 1983 وقد قررت أحزاب المعارضة مقاطعة هذه الانتخابات لاعتراضها على مبدأ نظام الانتخاب بالقائمة المطلقة.

وبنفس المنطق الجديد الذي بدأ التعامل على أساسه مع العملية الانتخابية فقد كان الحرص كل الحرص أن تتم هذه الانتخابات بدورها في حيدة ونزاهة وأن تتخلص تماما من كل صور التلاعب الإداري التي كانت تسود العمليات الانتخابية في جميع المراحل السابقة لكي تظهر النتائج النهائية بذلك المظهر الصوري وفي إطار نسبة الأربع تسعات أو الثلاث تسعات.

وفي إطار هذا المنطق فقد كان الهدف الأساسي أن تتم العملية الانتخابية بالأسلوب الذي يعطي صورة واقعية وحقيقية عن التفاعل السياسي الحزبي في هذه الانتخابات بالرغم من أنها بدورها كانت من طرف واحد وتحقيقا لذلك فقد صدرت تعليمات إلى جميع مديري الأمن بأن يخطروا أعضاء اللجان الانتخابية الفرعية بضرورة التزام الحيدة وعدم التلاعب في التذاكر الانتخابية على أي وجه من الوجوه مع تحذيرهم بأن الشرط ستتخذ الإجراءات الفورية القانونية ضد أي عضو منهم يسعى إلى التلاعب في التذاكر الانتخابية أو صناديق الانتخاب.

ولقد تبلغ هذا التحذير فعلا إلى جميع هؤلاء الأعضاء وكان من المضحكات المبكيات أن أعداد منهم خرجت بعد اجتماعاتهم بمديري الأمن تساءلون بين أنسهم عما إذا كان هذا التحذير جادا أم أنه لمجرد الاستهلاك وكان بعضهم فعلا بين مصدق وغير مصدق لما سمعه وخلال عمليات الإدلاء بالأصوات حاول بعض أعضا اللجان الانتخابية من غير المصدقين لما سمعوه من تحذير أن يتلاعبوا في التذاكر الانتخابية بتسويد أعداد منها مجاملة للمرشحين ولكنهم فوجئوا بما لم يكن في حسبانهم وإذا بالشرطة تلقى القبض عليهم وتحيلهم إلى النيابة العامة وبلغ عددهم حوالي 12 عضوا.

الحيدة الانتخابية..

• كانت المفارقة الأخرى أثناء إعلان نتيجة الانتخاب بعد نهايتها ولقد انعقد مؤتمر صحفي بمكتب وزير الداخلية للإعلان عن النتائج النهائية وتأكيدا للواقعية في هذه الانتخابات فقد عمدت إلى البدء في إعلان نتائج النسبة الأقل ثم ما يليا تصاعديا حتى أخر المحافظات وأذكر أن محافظة دمياط كانت أقل النسب فلم يتجاوز نسبة الحضور فيها 22٪ ولذلك كانت هي البداية ثم ما يليها.

• وخلال انعقاد المؤتمر وإعلان النتائج إذا بمدير مكتبي العميد محمد تعلب يدخل ويقدم لي مذكرة عاجلة كانت فحواها أن رئيس الوزراء المرحوم فؤاد محيي الدين وكان أمينا عاما للحزب الوطني في نفس الوقت قد اتصل وسأل عن مجموع عدد الحضور ونسبة من أعطوا منهم صوتهم لصالح الحزب الوطني وطلب أن تعلن النتيجة النهائية هي 99٪ على أساس أن جميع الحضور الوطني الذي لم يكن أمامه قوائم أخرى لأحزاب المعارضة.

• ولكن هذا المنطق كان معناه كما يقال في اللغة العسكرية أننا نسير محلك سر فقد كان الهدف تأكيد الواقعية والحيدة في العملية الانتخابية تنفيذا لتوجيهات القيادة السياسية واستجابة لذلك التغيير الذي طرأ على المناخ السياسي الداخلي وفي إطار هذا الاقتناع فقد استمر إعلان النتائج بنفس المنطق الذي يترجم حقيقة التفاعل السياسي على الساحة في هذه الانتخابات وكانت النتيجة النهائية في تلك الانتخابات هي 51٪ من مجموع الناخبين المقيدين الذين أدلوا بأصواتهم لصالح الحزب الوطني الديمقراطي الذي تقدم بمفرده في هذه الانتخابات بعد استبعاد الأصوات الباطلة.

نجيب محفوظ كلمة مؤثرة وحقيقة..

وقد أحجمت المعارضة عن خوض المنافسة في غالبية هذه الدوائر، بالرغم من أن الانتخاب فيها كان يتم بالأسلوب الفردي ولم يكن نظام الانتخاب بالقوائم النسبية قد أعلن بعد حتى ذلك الوقت فيما عدا دائرتين إحداهما بالوادي الجديد فقد رشح أحد المستقلين نفسه منافسا لمرشح الحزب الوطني وفاز فيها المرشح المستقل متفوقا على مرشح الحزب الوطني بحوالي 2000 صوت.

أما الدائرة الثانية فقد كانت دائرة غربال بمحافظة الإسكندرية وكانت لها أهمية خاصة لعدة أسباب يمكن إيجازها في النقاط التالية:

• كان المنافس فيها أحد أقطاب حزب التجمع في الإسكندرية .

• كان توقيت العملية قبل ستة أشهر فقط من الموعد المحدد لإجراء الانتخابات العامة لعضوية مجلس الشعب والتي حدد لها موعد في مايو من عام 1984.

• أخذت المعركة الانتخابية منذ بدايتها في هذه الدائرة مظهر اختبار القوة بين الحزب الوطني من ناحية وبين أحزاب المعارضة من ناحية أخرى وكان ذلك من أسباب احتدام المنافسة إلى درجة لافتة للنظر.

ومع كل ذلك فقد أجريت العملية الانتخابية في هذه الدائرة بحياد كامل من جانب أجهزة الشرطة وبقية الأجهزة الإدارية التي لها صلة بالانتخاب وكانت النتيجة فوز مرشح حزب التجمع على مرشح الحزب الوطني بفارق لا يتجاوز 200 صوت.

ولكن المظاهرة التي لفتت النظر وكانت لها دلالات سياسية هامة أن عدد الحضور من الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم في هذه الدائرة لم يتجاوز ثلاث آلاف ناخب من مجموع عدد الناخبين المقيدين بها وعددهم 36 ألف ناخب أي حوالي 8٪ من عدد الناخبين وكان عدد من أدلوا بأصواتهم لصالح مرشح المعارضة حوالي 1380 صوتا ولصالح مرشح الحزب الوطني حوالي 1200 صوت.

ولم يكن لذلك إلا دلالة رئيسية تشير إلى عدم قدرة أحزاب المعارضة مجتمعة على اجتذاب اهتمام الناخبين كذلك تساوى معها الحزب الوطني الديمقراطي وإن كان البعض قد فسر هذه الظاهرة بأن مرجعها عدم اهتمام الناخبين بالانتخابات التكميلية بصفة عامة.

كانت هذه المحكات الثلاثة هي أولى المواقف التي ترجمت إلى ذلك المنطق الجديد لدعم البعد الديمقراطي بعد ولاية الرئيس مبارك فماذا كان المحك الأخير بالنسبة للانتخابات العامة التي جرت في 27 مايو عام 1984 ذلك هو محورنا في الجزء التالي.

-8-

الملبسات التي سبقت انتخابات مايو سنة 1984

كانت معركة انتخابات مايو عام 1984 معركة فريدة وغريبة فعلا فلم تكن معركة انحصر أطرافها في الحزب الوطني الديمقراطي من ناحية وأحزاب المعارضة من ناحية أخرى ولكنها كانت معركة تداخلت فيها اعتبارات أخرى كثيرة لتضيف إليها حساسيات أكثر وتعقيدات أكثر فالكل غير راض والكل يتصور أن الأسلوب الذي تدار به العملية الانتخابية لا يحقق أغراضه ومصالحه فالحزب الوطني غير راض وله وجهة نظر في هذا الأسلوب والأحزاب الأخرى متحفزة وتطالب بالكثير وتسعى إلى تعميم الجزيئات ومع ذلك فقد كانت هذه الظاهرة في حد ذاتها دليلا مؤكدا على أن الأمور تسير في الاتجاه السليم وتلبي التوجه الاستراتيجي للقيادة السياسية والذي حسم الأمر منذ البداية لتتم تلك الانتخابات بصورة مغايرة تماما لجميع الانتخابات التي سبقتها على التفصيل الذي سنعرض له تباعا.ط.

حرية الحركة للأحزاب...

فعلى جبهة المعارضة كان الخط الاستراتيجي الذي تقرر أن يكون العامل الحاسم في التعامل مع أطراف المعركة الانتخابية محددا في المنظور القومي لجميع الأطراف من جانب أجهزة الشرطة وبقية الأجهزة الإدارية في الدولة وفي إطار هذا المنطلق.

• أتيح لشتى الأحزاب الشرعية حرية الاجتماع دون أدنى قيود بل إن الأحزاب التي لم يكن لها مقرات في بعض المحافظات كانت الجهات الإدارية تدبر لها أماكن لتعقد اجتماعاتها الحزبية فيها.

• انطلقت الحركة الإعلامية للأحزاب بكامل حريتها ومع حدة النقد سواء في صحفها الحزبية أو نشراتها التي كانت توزعها وتعلقها في الشوارع والميادين على مستوى الجمهورية ومع خضوع بعضا للقانون لتجاوز حد النقد إلى حد القذف والسب فإن إجراء واحد لم يتخذ ضد جريدة من الجرائد الحزبية أو نشرة من نشراتها المشار إليها.

• أتيح للأحزاب المختلفة على قدم المساواة قبل المعاد المقرر للانتخابات بشهر أن تعقد اجتماعاتها ومؤتمراتها الحزبية بالميادين والشوارع على مستوى الجمهورية لكي تتمكن من توجيه دعايتها الحزبية إلى رجل الشارع.

تصحيح جداول الناخبين لأول مرة...

• وضعت خطة لتصحيح جداول الناخبين لم يسبق أن وضعت خطة مماثلة لها في تاريخ وزارة الداخلية فقد تدرج صافي المقيدين الجدد نتيجة هذه الخطة التي بدأت في ديسمبر عام 1983 من 479974 عام 81 إلى 452117 عام 82 إلى 856670 عام 83 بزيادة قدرها 89,5٪ على الأعوام السابقة كما تدرج عدد المحذوفين نتيجة الموت أو التكرار أو التجنيد من 164726 عام 81إلى 147822 عام 82 إلى 292990 عام 83 بزيادة قدرها 98٪ على الأعوام السابقة وذلك بجانب بداية وضع أساسيات خطة الرقم القومي للبطاقة العائلية لتكون أساسا للبطاقة الانتخابية في المستقبل والتي مازالت خطواتها تتم تدريجيا حتى الآن.

• روعي في نفس الوقت أن يتاح لجميع الأحزاب فرصة الحصول على صور من كشوف الناخبين على مستوى الجمهورية كما تحققت مساواة كاملة بن جميع الأحزاب فيما يتعلق بالوكلاء الذين يحق لهم المرور على جميع اللجان الفرعية بالدوائر الانتخابية طبقا لإمكانات كل حزب والأعداد التي يطلب الترخيص لها بذلك.

التصويت بالبصمة...!

• كان هناك مطلب أخير لبعض قيادات المعارضة يتركز في أن يوقع الناخبين أمام اسمه لدى الإدلاء بصوته إلا أن مشكلة ثارت وحاولت دون تنفيذ هذا المطلب فهناك نسبة كبيرة من الناخبين الأميين ولا يتيسر لهم التوقيع وبالتالي كان من المستحيل الأخذ بهذا المبدأ كذلك لم يمكن الاستعاضة عن التوقيع بالبصمة التي تحتاج حتى يعتد بها إلى أن تؤخذ بمعرفة خبير بصمة وهو عامل متخصص في ذلك ويتوافر لدى وزارة الداخلية عدد من هؤلاء الخبراء يماثل عدد اللجان الفرعية والبالغ عددها 22111 لجنة يضاف إلى كل ذلك أن وجود مندوبين لكل حزب داخل جميع اللجان الفرعية هو خير ضمان للأحزاب جميعا لمتابعة سير العملية الانتخابية لحظة بلحظة.

• ثم كانت أولى الخطوات للأعداد الانتخابات متمثلة في ذلك المشروع الذي تقدم به بعض أعضاء الحزب الوطني من أعضاء مجلس الشعب ليكون الانتخاب لعضوية هذا المجلس بنظام القائمة النسبية وكانت النسبة المقررة في هذا التعديل هي 10٪ لكي يمثل الحزب الذي يحصل عليها كحد أدنى في المجلس النيابي.

• ولقد وافقت الأغلبية على هذا التعديل وأصرت على نسبة الـ 10٪ في بادئ الأمر.

• وكانت وجهة النظر أن العمل بقانون القائمة النسبية من شأنه أن يدفع الحركة الحزبية إلى الأمام علاوة على أنه يفرز الأحزاب ذات الشعبية من الأحزاب الصورية لكي يكون التمثيل الحزبي في المجلس النيابي قائما على أسس حزبية سليمة وعلى أساس منافسة واقعية بين برامج الأحزاب.

الانتخاب الفردي هو الأنسب لنا....

• ثم كانت هناك وجهة نظر ثانية وكنت من جانبي من المؤيدين لها بأن نظام الانتخاب الفردي هو النظام الأنسب لنا في مصر فهو أولا نظام اعتاده الشعب المصري وهو ثانيا يفرز أصلح العناصر التي تتمتع بثقل شعبي في دوائرها وهو أيضا يحقق رابطة قوية بين الناخبين ومن يمثله بما يدعم من الحركة الحزبية ويؤكد فاعلية التمثيل النيابي من ناحية أخرى يضاف إلى كل ذلك أن التمثيل النسبي يقتضي تمايزا واضحا بين برامج الأحزاب ودرجة مناسبة من الوعي السياسي لدى الأغلبية من جمهور الناخبين تسمح لها بالاختيار على أساس هذا التمايز وهو ما لم يتوافر بعد على الساحة السياسية في مصر.

• ومع رجحان كفة الأخذ بنظام التمثيل النسبي الذي أقرته الأغلبية فقد كان هناك اعتراض على نسبة ال10٪ المقررة خصوصا من جانب أحزاب المعارضة استنادا إلى أنها نسبة مرتفعة وأنه من الأنسب تخفيضها لكي تساير النسب العالمية وحتى يمكن أن يستوعب التمثيل النيابي العدد الأكبر من الأحزاب التي تعمل على الساحة الشرعية ومع ذلك فقد كانت هناك وجهة نظر أخرى تصر على هذه النسبة استنادا إلى أنه من المصلحة أن يقتصر التمثيل النيابي على الأحزاب التي لها وجود فعلي على الساحة السياسية وليس مجرد وجود هامشي أو صوري وأن النسبة المحددة تحقق هذا الغرض.

• وكانت وجهات النظر المثارة جمعيا حول هذه النسبة أمام نظر القيادة السياسية التي حسمت الأمر في النهاية وقررت الأخذ بمبدأ تخفيض النسبة لإتاحة الفرصة لأكبر عدد من الأحزاب السياسية لكي تدخل دائرة التمثيل النيابي وتقرر تخفيض النسبة من 10٪ إلى 8٪ وبدأ الإعداد للمعركة الانتخابية بعد ذلك في ضوء هذا القرار.

تحالف الوفد والإخوان

• لم يتبقى بعد ذلك لأحزاب المعارضة ما تشكو منه قبل بداية المعركة الانتخابية ومع ذلك فقد جاءت المفاجأة الأخيرة من جانب حزب الوفد عندما قرر التحالف مع جماعة الإخوان ليتقدم للانتخابات بقائمة واحدة تضم أعضاء من الإخوان بجانب الأعضاء الوفديين.

• كانت هذه الخطوة من جانب حزب الوفد تكاد تجسد السلبية الأولى والهامة لنظام الانتخاب بالتمثيل النسبي الذي أعاد جماعة الإخوان لتكون الحصان الأسود مرة ثانية ولتلعب عليه الأحزاب هذه المرة بدلا من السلطة الحاكمة في لعبة التوازن السياسي.

• وكان غريبا أيضا أن يتناسى حزب الوفد تاريخ الطويل الماضي في صراعه مع جماعة الإخوان التي وقفت منه موقفا عدائيا طوال المرحلة السابقة على ثورة يوليو وتحالفت مع الملك ومع الأحزاب الأخرى لحصار حزب الوفد للقضاء على شعبيته.

• ثم كان حزب الوفد متناقضا أيضا مع نفسه وهو يؤكد سابقا ولاحقا حفاظه على الدستور والشرعية وعلى سلامة الممارسة الديمقراطية عندما تحالف مع جماعة الإخوان دون أن يكون لها وجود شرعي على الساحة سواء كجماعة دينية أو كحزب سياسي وفتح لها الطريق لتصل إلى المؤسسة التشريعية لأول مرة في تاريخها ليتحقق لها ذلك من خلال منافسها وعدوها التاريخي.

الكل غير راض

ومع كل ذلك فهل رضيت أحزاب المعارضة بسير المعركة الانتخابية وبنتيجتها ذلك ما سنسعى إلى الإجابة عنه عندما نصل إلى الخطوات النهائية لهذه المعركة ولكننا قل ذلك لابد أن نتحدث عما كان بشأن الطرف الأخر في المعركة الانتخابية ممثلا في الحزب الوطني الديمقراطي ورضاه عن سير المعركة الانتخابية وهو ما نتحدث عنه حالا.

فؤاد محيي الديني... وحديث له مع أحمد بهاء الدين.

ولقد رأيت أن أجعل مدخلي لهذا الموضوع بكلمة للكاتب الكبير الأستاذ أحمد بهاء الدين شفاه الله أوردها في عموده بعنوان يوميات في جريدة الأهرام بتاريخ 8/2/ 1987 ونصها الآتي كان المرحوم الدكتور فؤاد محيي الدين من أكفأ رؤساء الوزارات وأقدرهم وأطهرهم يدا ولكن عيبه كان التعصب الشديد لرأية والتطرف في تنفيذ إرادته ومن الأشياء التي تعصب لها بشدة قانون الانتخاب الذي تم إلغاؤه في نهاية عام 1986 بنا على الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا .

والذي تم على أساسه حل مجلس الشعب السابق على المجلس الحالي في أوائل عام 1987 وغير معارضتي لهذا القانون منذ مولده كتابة والتنبيه على عواقبه الخطيرة كانت لي مشاجرات عنيفة في مكتبه أو على التليفون سمحت بعنفها معرفة شخصية قديمة أخر مشاجرة تليفونية كانت قبل إجراء الانتخابات يقصد انتخابا ما يوم عام 1984 بليلتين اثنين عقب يوميات كتبتها هنا وأردت أن أكسر حدته في النقاش ونحن في ساعة متأخرة من الليل قلت له هل أنت منزعج من نتائج الانتخابات المقبلة إلى هذا الحد إنني أعتقد أن الحزب الحاكم سينال مالا يقل عن 75٪ من المقاعد ودون حاجة لكل هذه الألغاز والأشواك والمسامير في قانون الانتخابات وأذهلني رده الصاعق فقد قال لي بأعلى صوت وأنا على كم كان مرهقا ومريضا في أخر الحملة الانتخابية75٪ بس؟ ليس أقل من 59٪ ودهشت ليس لهذا التوقع ولكن لهذه الرغبة .

وقلت له: لقد تناقشنا في هذا الموضوع كثيرا والانتخابات بعد غد فلا مجال للجدال الآن ولكنني أكرر ما قلته لك في مكتبك إن الاستقرار في البلاد والتفرغ لما هو أهم من الصراع السياسي لن يتحقق بدون دخول كل الأحزاب السياسية الرسمية على الأقل إلى البرلمان وقد حسبت أنه قال لي هذا الرقم 95٪ في ثورة حماس حتى عرفت بعد بذلك أنه ثار في مجلس الوزارة قبل ذلك على وزير بارز خبير لأنه قال إن تقديره أن الحزب الوطني سينال 75٪من المقاعد واعتبر هذا انهزامية وانسحب الوزير من قاعة مجلس الوزراء لماذا أروي هذه الواقعة الآن بعبارة بسيطة أريحونا من تفاصيل قانون الانتخابات وقعده فأنا لا أفهمها والقراء لا يفهمونها والناخبون لا يهضمونها تكلموا في السياسة لا في اللوائح الاستقرار السياسي والديمقراطي لن يتحقق إلا بدخول كل الأحزاب المعترف بها كخطوة أولى إلى البرلمان ما دامت هناك أغلبية قادرة على إدارة عجلة الحكم هذا ما يمليه بعد النظر.

نتيجة الانتخابات التكميلية...

كانت تلك كلمة الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين بنصها وقد تعمدت أن أنقلها حرفيا حتى بعلامات التعجب التي وضعها في نهاية بعض الكلمات فهي تعبر أصدق تعبير عن التفكير والتقدير اللذين كانا يسيطران على أمانة الحزب الوطني حتى ذلك الوقت قبل الانتخابات بثمان وأربعين ساعة ولكننا لابد أن نعرض لبعض جوانب هذا الموقف قبل أن تصل الأمور لما وصلت إليه في جلسة مجلس الوزراء التي أشار إليها الأستاذ أحمد بها الدين وكانت قبل حوالي عشرة أيام من الموعد المقرر لانتخابات مجلس الشعب يوم 27 مايو عام 1984.

كانت البداية هي ذلك المنطق الذي أعلنت على أساسه نتيجة الانتخابات التكميلية لمجلس الشورى فقد تصورت أمانة الحزب أن إعلان النتيجة استنادا إلى نسبة الحضور وليس استنادا إلى نسبة الموافقين لتظهر النتيجة فوق التسعينات كما كان يحدث في الماضي بمثابة تنزيل من الحجم الحقيقي لتفوق الحزب بالرغم من أن النسبة التي تحققت في هذه الانتخابات وهي 51٪ كما أسلفنا تتفق تماما مع النسب العالمية للانتخابات وتتفق أيضا مع الحقيقة.

فلسفة جديدة

• كان واضحا إلى حد ملحوظ أن ظلال منطق الانتخابات في الستينيات والسبعينيات كانت مازالت تسيطر على تفكير قيادة أمانة الحزب فاستمرت تنظر إلى المعارك الانتخابية في إطار فلسفة وسيطرة الحزب الواحد على العملية الانتخابية ولم تتفاعل بقدر كاف مع المتغير الجديد الذي طرأ على الساحة السياسية بعد ولاية الرئيس مبارك والذي فتح الباب لأسلوب متميز للممارسة الديمقراطية يقوم على الواقعية والتفاعل الطبيعي على الساحة السياسية.

• كانت تلك البداية مع ذلك المفهوم سببا مباشرا لعدد من المواقف التي أثارت خلافا في الرأي أو حساسيات خاصة بين رؤية الأمين العام للحزب الوطني فيما يتصل بسير المعركة الانتخابية ودور وزير الداخلية فيها ولكنني أكتفي هنا التعرض لعد من القضايا التي كانت موضع خلاف وأعتقد أن لها دلالات هامة لما نحن بصدده الآن على الصعوبات التي اقترنت بذلك التغيير الذي طرأ على الساحة السياسية ولابد أن أسارع لأؤكد أن مثل ذلك الخلاف في الرؤية في مراحل التغيير أمر متوقع بل وأكاد أقول أنه أمر حتمي ويتوقف في مداه ومضمونه على الخلفية السياسية والتقدير الشخصي للمنفذين.

رجل سياسة طاهر...

وفي نفس الوقت فإنني وقد عملت مع الراحل الدكتور فؤاد محيي الدين كرئيس للوزراء وأمين عام للحزب الوطني أسارع لكي أشهد للرجل بأنه كان رجل دولة من الطراز الأول فهو أولا رجل طاهر عفيف اللفظ ثم هو ثانيا رجل سياسة واسع الإدراك وله آفاق السياسي التي تمتد إلى جميع الزوايا المؤثرة في قضايا المجتمع ثم هو كرئيس للوزراء له تلك المقدرة التنفيذية التي تنسق بين العمل التنفيذي في مجالاته وتربط بينه وبين البعد السياسي للواقع الاجتماعي ولكنه بالرغم من خبرته في العمل السياسي الذي مارسه منذ فجر شبابه في المجال الطلابي ثم في تنظيمات ثورة يوليو كانت له تلك الطموحات التي تسعى إلى تطويع الواقع وصولا إلى تميز سياسي يرتضيه.

كان ذلك هو نموذج الرجل السياسي الذي اختلفت معه في عدد من القضايا التي تتصل بموضوع الانتخاب فقط ولا أذكر أن خلافا آخر قد طرأ على علاقتي به كرئيس للوزراء ولا أدعي أنني أمتلك مثل تلك المقدرة السياسية التي كان يتمتع بها ولكنني قد عملت في حقل الأمن السياسي لفترة طويلة من الزمن عايشت خلالها كثيرا من أحداث المجتمع وقضاياه وكانت الخبرة تؤكد دائما أن النتائج لا تأتي من فراغ وإنما تتراكم التفاعلات لتفرز في النهاية تلك النتائج وكان في يقيني وقد بدأت ملامح ذلك التغيير أن مناط الاستقرار رهين بترسيخ البعد الديمقراطي وأن قضية الانتخاب تمثل محورا أساسيا لهذا البعد ومن هنا كانت وجهات النظر المتباينة في تلك المواقف والقضايا التي نعرض لها الآن.

قوائم الحزب الوطني....

أولا:

كانت قضية الترشيحات لقوائم الحزب الوطني أولى القضايا الخلافية لقد كان الانتخاب بالقوائم النسبية يتم لأول مرة وكان معنى ذلك أن التنافس بين الأحزاب سيحسم مدى قوى قائمة كل حزب من حيث شخصيات المرشحين ومدى تمتعهم بالتقدير الشعبي على مستوى القواعد العريضة في تلك الدوائر التي اتسعت لتشمل محافظة بأكملها أو نصف المحافظة في عدد غير قليل من المحافظات ثم من حيث قدرة هؤلاء المرشحين على التعبير المقنع عن برنامج الحزب وسياساته وأهدافه المستقبلية.

• وقد أسندت مسئولية الترشيحات لقوائم الحزب إلى لجنة برئاسة الأمين العام للحزب وعضوية وزيري الداخلية والحكم المحلي وأمين التنظيمي بالحزب وكانت اللجنة تراجع وتضع الخطوط المبدئية لهذه الترشيحات مستعينة بوجهة نظر أمناء الحزب بالمحافظات والمحافظين في أحيان كثيرة.

• وكانت الدراسات التي تمت تفرض من وجهة نظر وزير الداخلية تغيير نسبة تصل إلى 50٪من عدد أعضاء مجلس الشعب من ممثلي الحزب الوطني في المجلس الذي انتهت دورته النيابية.

• كانت هناك وجهة نظر أخرى لأمانة الحزب تعارض في إجراء تغييرات بهذا الحجم وتتصور أن مثل ذلك التغيير يمكن أن يلحق أضرارا كبيرة بإمكانات الحزب على الساحة السياسية وقد يؤدي إلى خلق جبهات مضادة للحزب في تلك الظروف الحساسة.

• ومع ذلك فقد كانت اعتبارات التغيير أقوى من هذا الاحتمال خاصة أن القضية لابد أن تكون قضية انتماء وولاء للحزب يجب أبدا ألا تعلق على الترشيح للمجلس من عدمه ويجب أن تكون مثل هذه المواقف بمثابة اختبار لعمق الولاء والانتماء للحزب من عدمه.

• ولقد حسمت القيادة السياسية هذه القضية الخلافية في نهاية الأمر بعد تقييم شامل ووصل حجم التغير إلى حوالي 50٪ وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسي التي رجحت كفة قوائم الحزب في الانتخابات التي تمت بعد ذلك .

دور وزير الداخلية

ثانيا:

كانت القضية الثانية بمثابة عملية تطويق وخلخلة وتشكيك في دور وزير الداخلية كمسئول عن قيادة جهاز الأمن فقد فوجئت أولا بشائعة تنشر على مستوى عريض بأن وزير الداخلية مريض بمرض خطير وأن إجراءات سريعة لنقله للخارج للعلاج ولم يكن لذلك أي نصيب من الصحة.

• وخلال إحدى المقابلات الدورية مع رئيس الوزراء فوجئت بالدكتور فؤاد محيي الدين يتحدث في موضوع لم أتخيل للحظة واحدة أنه كان يمكن أن يكون مثار حديث قال إن أربعة محافظين وثلاثة من رؤساء تحرير الصحف لا يرقى إليهم الشك أبلغوه أنهم يلمسون أن الشرطة تقف موقفا معارضا من الحزب الوطني يضاف إلى ذلك أنه راجع بيانات وتصريحات وزير الداخلية فلم يجد فيها أي إشارة قريب أو بعيد إلى الحزب الوطني.

• كان وقع ما سمعته ثقيلا على نفسي في بادئ الأمر ولكني تساءلت عن تلك الوقائع التي استند إليها المحافظون ورؤساء تحرير الصحف الذين أبلغوه بما قال ولكن لم يكن هناك بطبيعة الحال أي واقعة يمكن أن تشير إلى مثل ذلك الموقف بأي صورة من الصور كذلك بالنسبة لما ذكره عن بيانات وتصريحات وزير الداخلية فقد كان منطقي أن مثل هذه البيانات والتصريحات عندما تصدر عن أمور تتعلق بالبعد الأمني فهي تصدر في إطار قومي لا علاقة له بالحركة الحزبية.

• ولم يكن من اليسير بطبيعة الحال قبول التصريح الأول المنسوب إلى أربعة محافظين وثلاثة رؤساء تحرير للصحف وكان ردي أن الأمر إذا كان على هذه الصورة فمعنى ذلك أنني غير أمين على مسئوليتي ويجب أن أقدم استقالتي من منصبي الوزاري على الفور ولكن المناقشة امتدت ليسوي الأمر في النهاية على اعتبار الموضوع مجرد استنتاج لا يستند إلى أي حقيقة.

• ومع ذلك فقد كان الأمر برمته من وجهة نظري مرتبطا بمتغير هام طرأ على الساحة السياسية فيما يتعلق بالعملية الانتخابية بعد ولاية الرئيس مبارك كان ذلك المتغير يفرض أسلوب جديدا لدور الشرطة في العملية الانتخابية يقوم على المفهوم القومي لرسالتها وحيادها بين الأحزاب الشرعية في تنافسها على التمثيل النيابي وقد تجسد ذلك المتغير خلال انتخابات المجالس المحلية والانتخابات التكميلية لمجلس الشعب في بعض الدوائر الانتخابية التي خلت كان أخرها دائرة غربال بمحافظة الإسكندرية التي فاز فيها مرشح حزب التجمع على مرشح الحزب الوطني على التفصيل الذي أوردناه فيما سبق.

• كان ذلك المفهوم مازال مفهوما جديدا وكان الاقتناع الذي ترسب في الأعماق طوال سنوات طويلة أن ديناميكية المعركة الانتخابية تسير تلقائيا لصالح الحزب الحاكم بحكم تأثير السلطة والانقياد الجماهيري خلها وإذا كان التعدد الحزبي الحقيقي قد غاب لمدة تزيد على ربع قرن وإذا كانت الانتخابات في الماضي البعيد والقريب كانت تحسم دائما لصالح السلطة أو الحزب الحاكم بالأغلبية الكاسحة فإن ذلك المتغير الذي طرأ بعد ولاية الرئيس مبارك والذي بدأ يحدث تفاعلاته الطبيعية على الساحة السياسية.

• كان يمثل نقطة تحول تحتاج إلى وقت مناسب لاستيعاب أبعادها حتى تبدأ الأحزاب جميعها بما فيها الحزب الحاكم في الاعتماد على قدراتها الذاتية دون إلقاء عبء النتيجة على أجهزة الشرطة سواء من جانب الأغلبية أو أحزاب الأقلية.

ترشيح وزير الداخلية لعضوية مجلس الشعب

ثالثا:

ثم كانت القضية الخلافية الثالثة هي قضية ترشيح وزير الداخلية لعضوية مجلس الشعب وكان قد سبق ذلك تعيينه عضوا بالأمانة العامة للحزب ولقد رحبت قرار تعييني عضوا بالأمانة العامة للحزب ذلك أنني كنت أدرك أن دور وزير الداخلية وإلمامه بالمؤثرات التي تؤثر على الاستقرار العام بالبلاد يمكن أن يلقي الضوء أمام أمانة الحزب التي تمثل قيادته التنفيذية لكي تتفاعل حركة الحزب سواء أمام السلطات التنفيذية أو على المستوى الجماهيري العام مع طبيعة هذه المؤثرات بما يدعم من قدرة الحزب على الساحة السياسية بصفة عامة.

• ولكنني فيما يتعلق بترشيحي لعضوية مجلس الشعب فقد كان هناك قدر كبير من التحفظ من جانبي على هذا الترشيح وإذا كانت التقاليد السياسية العالمية لا تحول دون مثل ذلك الترشيح في أعرق الدول الديمقراطية فإن تقديري المبدئي أننا في مصر نمر بمرحلة انتقالية في التحول الديمقراطي وأن هذه المرحلة تحتاج إلى ترسيخ حياد الدولة في العملية الانتخابية وفي هذا الإطار فإن ابتعاد وزير الداخلية عن خوض المعركة الانتخابية كمرشح حزبي يمكن أن يعزز هذا المفهوم ويؤكد البعد القومي لدوره في الإشراف على مسار المنافسة الانتخابية.

• ولكن الأمور سارت على غير ذلك وأصرت أمانة الحزب على هذا الترشيح باعتباري عضوا قياديا بأمانة الحزب ثم لترسيخ مبدأ الوضع الحزبي والسياسي لأي وزير في حكومة حزبية وهي في حقيقة الأمر اعتبارات لها منطقها السياسي ولم تكن لتحول على أي حال بين التزامات البعد القومي لدور وزير الداخلية بالنسبة للمعركة الانتخابية بصفة عامة وبين التزاماته كمرشح حزبي في دائرة محددة.

• ولقد رشحت بقوائم الحزب بالدائرة الأولى بمحافظة الجيزة واستطيع أن أؤكد أنني وضعت على نفسي قيودا كثيرة في التحرك الحزبي في نطاق دائرة ترشيحي خلال مرحلة الدعاية الانتخابية واقتصرت مظاهر هذا التحرك في أغلب الوقت على حضور المؤتمرات الحزبية مع زملائي المرشحين بنفس القائمة خلال المرحلة القصيرة التي سبقت اليوم المحدد للانتخابات.

• كان محور كلماتي التي ألقيتها خلال مرحلة الدعاية الانتخابية وهو يعبر عن اقتناعي السياسي أن الحزب الوطني الديمقراطي هو الامتداد الطبيعي لفكرة ثورة يوليو في جوهره وهو في منهجه ومنطلقاته إنما يعبر عن ذلك البعد الاجتماعي الذي يحافظ على توازن المجتمع بين كل من اليمين المتطرف واليسار المتطرف وأنه في فلسفته يعبر عن منهج وسطي يتفق كثيرا مع طبيعة الشعب المصري ولكننا يجب في نفس الوقت ألا نتجمد في دائرة مفاهيم وسياسات فرضتها ظروف الوضع الاقتصادي والاجتماعي في بداية ثورية يوليو وإنما يجب أن تكون هناك نظرة مستقبلية تستجيب لمتغيرات العصر وتستجيب ثانيا للمتغيرات الداخلية التي غيرت كثيرا من ملامح الخريطة الاقتصادية والاجتماعية في الواقع المصري وصولا إلى ما أطلقنا عليه في ذلك الوقت يوليو الثمانينيات والتسعينيات.

• وكان محور النقد الحزبي في هذه الكلمات أن الأحزاب الأخرى تنزل إلى المعركة الانتخابية بأقنعة غير أقنعتها الحقيقية وتحت أعلام غير أعلامها الحقيقية فحزب الوفد يكاد ينزل تحت علم ثورة يوليو على غير الحقيقة وحزب التجمع تنحى عن منهجه الماركسي الحقيقي ونزل هو الآخر تحت علم ثورة يوليو كذلك الأمر بالنسبة لحزب الأحرار فهو ينزل تحت علم ثورة يوليو أيضا ونفس الأمر بالنسبة لحزب العمل الاشتراكي ولم يكن لذلك كله من معنى إلا أن هذه الأحزاب تفتقد البرامج الواضحة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية ولم تجد أمامها لكي تجذب جمهور الناخبين إلا منهج ومبادئ ثورة يوليو لتتقدم بها إليهم.

• ولقد تصور البعض أن الدائرة التي رشح فيها وزير الداخلية ستكون نموذجا للخلل الانتخابي وفي إطار هذا المفهوم وجه أحد المراسلين الأجانب سؤالا خلال المؤتمر الصحفي العالمي الذي أعلنت من خلاله النتائج النهائية لهذه الانتخابات وكان مضمونه سؤاله عن نسبة الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم في هذه الدائرة وكان الرد أنها 22٪ من مجموع الناخبين المقيدين وكانت أصواتهم موزعة بين الأحزاب جميعا.

موقف البابا شنودة

رابعا:

كانت القضية الخلافية الرابعة هي قضية البابا شنودة كان البابا قد شملته قرارات سبتمبر عام 1981 ونقل إلى أحد الأديرة بمنطقة مريوط وهي في حقيقة الأمر كانت قضية متشعبة ولها أبعادها الحساسة سواء فيها يتصل بخلفياتها السابقة أو فيما يتصل بتوقيت اتخاذ قرار بشأنها.

كانت الخلفيات تتصل مباشرة بتلك الأزمات التي تفجرت بشكل حاد في الشهور الأخيرة من عام 1981 التي سبقت شهر سبتمبر ولكن هذه الأزمات بدورها لم تفجر من فراغ وإنما تراكمت تفاعلات كثرة قبلها أدت إلى ذلك التصاعد في المواقف ذات البعد الطائفي إلى الدرجة التي هددت الوحدة الوطنية في كثير من اللحظات.

• ومنذ منتصف السبعينات وبعد ذلك بدأت تطفو على السطح أحداث طائفية في صورة صدامات بين أجنحة التيار الديني المتطرف وبين بعض المواطنين المسيحيين وكان من أبرز أسبابها المباشرة في ذلك الوقت الانتشار السريع والمعتمد في بناء الكنائس في مختلف المحافظات بأسلوب فيه مخالفة للقانون الذي ينظم هذه العملية بحيث فسر الأمر في النهاية من جانب البعض أنه يحمل منطق التحدي لمشاعر المسلمين.

• ولقد كان البابا شنودة بطبيعته وبحكم دراسته الفلسفية وثقافته العامة العميقة شخصية متميزة بالمقارنة إلى سلفه السابقين إذا جاز هذا التعبير ومن هنا كان دوره كبابا دورا له سمة خاصة اتخذ بعدا حساسا في كثير من المواقف ولعلي أصل إلى المعنى الذي أقصده من خلال دلالات دراسة أعدها أحد السياسيين الأقباط عن شخصية البابا شنودة فقد ورد بهذه الدراسة أن اضمحلال الدور السياسي للشخصيات القبطية بعد ثورة الشخصيات القبطية السياسية التي ظهرت على المسرح السياسي كمكرم عبيد وغيره من الشخصيات القبطية الشهيرة وإزاء هذا الاضمحلال في المجال القبطي السياسي برز البابا شنودة كشخصية دينية لها بعد سياسي.ط.

• وأتصور أن هذا المنطق هو نفسه الذي أضاف أبعادا حساسة لقضية البابا شنودة فقد ظهر في عدد من المواقف وكأنه رئيس ديني وسياسي للمواطنين المسيحيين بصورة اتخذت منطق الاحتجاج والتحدي في بعض الأحيان لعل أبرزها وأهمها عندما أصدر أمرا بمنع الاحتفال بأعياد الميلاد خلال عام 1979 احتجاجا على عديد من الأحداث الطائفية ثم ما تلا ذلك عندما بدأت تسود خطب بعض رجال الدين في الكنائس نغمة الإثارة والتشكيك في الأوضاع العامة.

• كان هذا الدور للبابا شنودة له انعكاساته التي استغلتها عناصر الأجنحة الدينية المتطرفة سواء في المجال الديني الإسلامي أو المجال الديني الإسلامي أو المجال الديني المسيحي لكي تبدأ عملية شخن نفسي وديني في كلا المجالين إلى الدرجة التي هددت مقومات الوحدة الوطنية في لحظات متعددة لعل من أبرزها حادث الزاوية الحمراء الذي وقع في صيف عام 1981 .

• كانت هذه هي بإيجاز الخلفيات التي أحاطت بقضية البابا شنودة والتي دعت إلى تطبيق قرارات سبتمبر عليه وتعيين مجلس بابوي من خمسة مطارنة برئاسة الأنبا صموئيل لإدارة شئون الطائفة.

• ولقد أثيرت قضية البابا شنودة بعد ولاية الرئيس مبارك وكان من المتغدر في البداية اتخاذ قرار نهائي بشأنها قبل أن تستقر الأمور تماما على المسرح الداخلي تجنبا لأي محاولات مجددة تسعى إلى إثارة أوضاع طائفة من جديد ثم بدأت إثارتها من جيد بداية من عام 1984 وقبل الانتخابات بحوالي ثلاثة شهور.

• كانت هناك وجهة نظر تبناها الأمين العام للحزب الوطني مؤداها أن إنهاء قضية الباب شنودة يمكن أن يهيئ الأمور فيما يتصل بالمعركة الانتخابية بما لا يضر بالحزب الوطني الديمقراطي وأن استمرار تعليق هذه القضية يمكن أن يدفع بالمواطنين المسيحيين للتكتل خلف أحزاب المعارضة بشكل يخل بالتوازن الحقيقي للأحزاب على الساحة السياسية.

• وكانت هناك وجهة نظر أخرى وكنت من جانبي أؤيدها وأدافع عنها من منطلق سياسي وأمني في نفس الوقت كان مؤداها أنه يجب أن يفصل تماما بين قضية البابا شنودة وين قضية الانتخابات وأن الربط بين القضيتين من شأنه أن يرسخ ثانيا في الأذهان ذلك الدور السياسي لبابا الأقباط علاوة على أنه سيدمغ العملية الانتخابية أردنا أم لم نرد بالبعد الديني وفي ذلك المخاطر والمحاذير ما يجيب تجنبه تماما.

• ولقد أوفدت كوزير للداخلية مرتين لمقابلة البابا شنودة بالدير الذي يقيم به ودارت معه مناقشات مستفيضة حول الملابسات التي تحيط بالوضع العام بصفة عامة والملابسات التي تحيط بموضوعه بصفة وكان الرجل في واقع الأمر مدركا ومتفهما لغالبية الاعتبارات المتعلقة بقضيته إلى الدرة التي عارض فيها الاستمرار في تلك الدعوة التي رفعها أحد المحامين المسيحيين أمام مجلس الدولة لإلغاء القرار الجمهوري الذي صدر بالتحفظ عليه في الدير كما قرر في صراحة تماما أنه لا يقبل أبدا أن يكون هناك ربط بين قضيته وبين قضية الانتخابات مؤكدا أنه يرفض تماما أي محاولات لإثارة قد تسعى إليها عناصر مسيحية متطرفة.

• ولقد حسم الأمر في النهاية بالفصل بين هذه القضية وبين قضية البابا شنودة ولم يظهر من خلال العملية الانتخابية أي موقف له دلالات خاصة ين المواطنين المسيحيين.

خلاف على مستوى مجلس الوزراء

خامسا:

ثم كانت القضية الخلافية الأخيرة التي أشار إليها الأستاذ أحمد بهاء الدين في يومياته بجريدة الأهرام والسالف الإشارة إليها.

كانت المعركة الانتخابية قد قطعت شوطا كبيرا ولم يبقى على اليوم المحدد للانتخاب إلا حوالي أسبوعين وكان من الطبيعي أن يتم عدد من القياسات والاستطلاعات الميدانية لتقدير الاحتمالات المتوقعة للنتائج في ضوء توجهات الرأي العام والشعبية التي ظهرت للمرشحين خلال مرحلة الدعاية الانتخابيةوفي جلسة لمجلس الوزراء قبل حوالي عشرة أيام من الموعد المحدد للانتخابات كان على وزير الداخلية أن يلقي بيانا عن الموقف الداخلي بصفة عامة وعن الموقف الانتخابي بصفة خاصة باعتباره موضوع الساعة ولقد شرحت في البيان الذي ألقيته حول الموقف الانتخابي كيف سارت المعركة الانتخابية في هدوء ملحوظ بالرغم من حدة المنافسة بين هذا العدد الكبير من المرشحين الذي يفوق في حجمه ضعف عدد المرشحين على الأقل في أي عملية انتخابية أخرى على مدى التاريخ الانتخابي في مصر ثم تعرضت في بياني لما أسفرت عنه القياسات المبدئية لتوجهات الرأي العام ومدى شعبية المرشحين وأوضحت أن الاحتمالات تشير إلى أن الحزب الوطني الديمقراطي يمكن أن يحصل على 75٪ من الأصوات وأن أحزاب المعارضة يمكن أن تحصل على 25٪ وأن حزب الوفد يتقدم أحزاب المعارضة في النسبة التي سيحصل عليها ليلة حزب العمل بينما تشير هذه القياسات إلى أن حزبي التجمع والأحرار ليس أمامهما فرصة متاحة للحصول على نسبة ال8٪ التي حددها القانون وبالتالي فإن الاحتمالات ترجح أن يقتصر التمثيل النيابي على ثلاثة أحزب هي الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الوفد وحزب العمل الاشتراكي.

وخلال إلقاء البيان كنت ألاحظ أن رئيس الوزراء قد استدار بمقعده ليكون ظهره في مواجهتي ثم استدر بعد أن أنهيت كلمتي ليعلق على ما قلته وكان غريبا حقا أن يكون التعليق هكذا إنني أسجل على وزير الداخلية أنه يقول إن المعارضة ستحصل على 25٪ من الأصوات ومعنى ذلك أنها ستحصل على ما يزيد على مائة مقعد، ومعنى ذلك أن الاستقرار الداخلي سيتعرض للاهتزاز.

لم يكن من الممكن قبول هذا التعليق وكان ردي الفوري عليه إنني كوزير للداخلية لا أصنع الانتخابات وأن دوري هو متابعة وتأمين مسار العملية الانتخابية وأن الأحزاب بفاعليتها وقدرتها هي التي تصنع النتائج التي يحققها كل حزب.

ولقد اتسم الحوار حول هذه النقطة بشيء من الانفعال مما حدا بالسيد كمال حسيني على نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية في ذلك الوقت رئيس الوزراء بعد ذلك للتدخل في الحوار محاولا تهدئة الموقف وموضحا أن الحزب مازالت أمامه فرصة ليزيد من حركته ليكسب مزيدا من الأنصار كما تدخل الدكتور مصطفى السعيد وزير الاقتصاد موضحا أن وزير الداخلية لم يعرض إلا تقديرات مبدئية وحتى بفرض حصول الحزب على 75% من الأصوات فلا علاقة لنسبة الأصوات بنسبة المقاعد في الانتخاب النسبي وعلق عدد أخر من الوزراء بعد انفضاض الجلسة وكانت تعليقات الأغلبية منهم مؤيدة لوجهة نظر وزير الداخلية.

وكانت هذه الجلسة هي المرة الأخيرة التي أشاهد فيها المحروم الدكتور فؤاد محيي الين حيث اشتد عليه المرض بعد ذلك واعتكف في منزله ليتابع مسار المعركة الانتخابية ثم ليتوفى إلى رحمة الله بعد انتهاء الانتخابات عندما توجه لمكتبه بمجلس الوزراء يوم 4 يونيو بعد تحسين طفيف طرأ على صحته لم يستمر وكنت خلال فترة اعتكافه على اتصال تليفوني به لأبلغه بالموضوعات الهامة التي كان يحب أن يحاط علما بها أولا بأول.

وتعليق أخير فإن هذه القضايا الخلافية لم تكن لتفسد للود قضية كما يقال والعكس هو الصحيح فهي رؤية من زوايا مختلفة قد تكمل بعضها وقد تتناقض في الاستخلاص والتوقع ولكنها في جميع الأوقات كانت تضع المصلحة العليا نصب عينيها وكانت تدرك أنه لا عودة للوراء وأن التغيير الذي تحقق بعد ولاية مبارك سيأخذ مداه تدريجيا متخطيا تضاريس الأرضية السياسية التي خلفتها حقبة طويلة من التعثر السياسي استمرت قرابة ستين عاما.

تلك كلها كانت الملابسات التي أحاطت بانتخابات عام 1984 قبل اليوم المحدد للانتخاب فماذا حدث في ذلك اليوم وماذا كانت نتيجة الانتخاب وما دلالاتها وكيف تقبلتها أحزاب المعارضة وما حقيقة ما حاولت إلصاقه بهذه الانتخابات من اتهامات وكيف قدرها الرأي العام العالمي؟ كل ذلك هو موضوعنا في الجزء التالي.

-9-

أبعاد الصورة الحقيقة لانتخابات مايو سنة 1984

سبق الإشارة تلك الحدة التي اتسمت بها المنافسة الانتخابية سواء على المستوى الإعلامي للأحزاب المختلفة أو خلال المؤتمرات الحزبية التي عقدتها الأحزاب في جميع أنحاء الجمهورية والتي بلغت في المتوسط بين 30 إلى 50 مؤتمرا واجتماعا حزبيا شهريا.

ولأول مرة في التاريخ الانتخابي في مصر يتقدم لهذه الانتخابات 2936 مرشحا على قوائم جميع الأحزاب بينما كان عدد المرشحين في انتخابات 1979 وقد كانت من أكبر الانتخابات من حيث عدد المرشحين حوالي 1300 مرشح ولعل هذه الزيادة في حد ذاتها وقد بلغت أكثر من ضعفين في عدد المرشحين توضح إلى أي مدى وصلت حدة المنافسة وتفاعلاتها بين المرشحين وأنصارهم على مستوى الجمهورية من أقصاها في الجنوب إلى أقصاها في الشمال.

ومع كل هذه الحدة في المنافسة بين هذا العدد الضخم من المرشحين فلم يتخلل المعركة الانتخابية قبل اليوم المحدد للانتخابات في 27 مايو عام 1984 إلا عدد ضئيل من المصادمات لا يتجاوز أصابع اليد والواحدة بين أنصار المرشحين للأحزاب المختلفة تكاد تنحصر في ثلاث مصادمات أولاها خلال مؤتمر حزبي لحزب الوفد بمحافظة الإسكندرية كان يحضره السيد فؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد ولقد تسلل إلى مكان السرادق الذي أقيم به المؤتمر عدد من أنصار الحزب الوطني الديمقراطي وقبل أن يبدأ السيد فؤاد سراج الدين في إلقاء كلمته حدثت مساجلة بالهتافات بين أنصار حزب الوفد وأنصار الحزب الوطني فتطورت بعد ذلك إلى مشاجرة بين الفريقين وعندما تصاعدت حدة المشاجرة اضطرت الشرطة للتدخل لفض الاجتماع وكانت تعليماتي الحاسمة كوزير للداخلية عندما أبلغت بهذه التطورات ضرورة المحافظة على سلامة قيادات حزب الوفد واتخاذ الإجراءات القانونية بعد السيطرة على الموقف أمنيا.

• كان الحادثان الآخران مرتبطين بمؤتمرين لحزب العمل في بلدة نوسا البحر محافظة الدقهلية ومدينة القنطرة شرق بمحافظة الإسماعيلية وفي كلاهما كان الصدام بين أنصار الحزبيين وتدخلت الشرطة وسيطرت على الموقف واتخذت الإجراءات القانونية.

• ثم صدام أخير عندما توجه السيد خالد محيي الدين للمرور في إحدى قرى محافظة القليوبية وحاول بعض أنصار الحزب الوطني منعه من المرور، وتدخلت الشرطة للسيطرة على الموقف ومنعت أي تداعيات بين أنصار الفريقين.

وجاء يوم 27 مايو عام 1984 حيث تمت الانتخابات في 22111 لجنة فرعية على مستوى الجمهورية يضمها 267لجنة عامة يرأس كل منها قاض علاوة على 48 لجنة رئيسية يرأس كل منها أحد رجال القضاء بدرجة مستشار بحيث بلغ مجموع رجال القضاء المناط بهم الأشراف على مسار العملية الانتخابية 316 قاضيا واستمرت الانتخابات طوال اليوم في مسارها العادي في هدوء ملحوظ عدا بعض المتفرقات من الحوادث التي بلغت في مجموعها حوالي 80 حادثا في صورة تصادم بين الناخبين من أنصار المرشحين بنسبة تصل إلى 3% أسفرت عن حادث قتل واحد بمحافظة سوهاج.

وبعد الانتهاء من عمليات فرز الأصوات باللجان العامة برئاسة السادة القضاة وتجميعها في اللجان الرئيسية برئاسة السادة المستشارين، أبلغت النتائج إلى اللجنة المركزية بوزارة الداخلية التي ضمت في عضويتها للمرة الأولى واحدا من السادة مستشاري محكمة الاستئناف وكانت النتائج النهائية كالآتي:

• بلغ عدد الذين أدلوا بأصواتهم على مستوى الجمهورية 5,465,283 وذلك من مجموع عدد الناخبين الذين دعوا للانتخاب والبالغ عددهم 12619919 ناخبا بنسبة 43و3% .

• بلغ عدد الأصوات الصحيحة 5,283,741 وكان توزيعها على قوائم الأحزاب طبقا للنتائج العامة كالأتي:

الحزب الوطني الديمقراطي 3,283,741 وكان توزيعها على قوائم الأحزاب طبقا للنتائج العامة كالأتي:

الحزب الوطني الديمقراطي 3,856,372 بنسبة 72,98% من مجموع الأصوات الصحيحة.

حزب الوفد 798550 بنسبة 15,11% من مجموع الأصوات الصحيحة.

حزب العمل 372,385 بنسبة 7,08 % من مجموع الأصوات الصحيحة.

حزب التجمع 220763 بنسبة 4,17% من مجموع الأصوات الصحيحة.

حزب الأحرار 35761 بنسبة 67% من مجموع الأصوات الصحيحة.

وإعمالا للقانون تم توزيع مقاعد المجلس البالغ عددها 448 مقعدا بين الحزبين اللذين استكملا نسبة ال8% كما يلي:

390 مقعدا للفائزين من مرشحي الحزب الوطني.

58 مقعدا للفائزين من مرشحي الحزب الوطني.

ومن المهم الآن أن نلقي بعض الضوء على دلالات تلك النتيجة لتكون مؤشرا أمامنا عندما نعرض لوجهة نظر المعارضة عنها وما أثارته بشأنها من دعاوي لا سند لها من الحقيقة أو المنطق ونعرض لهذه الدلالات بإيجاز في النقاط التالية:

أحزاب دخلت وأخرى لم تتمكن...

• حصل الحزب الوطني الديمقراطي على نسبة 72,98% من الأصوات الصحيحة بينما كان التقدير المبدئي الذي أعلن في تلك الجلسة العاصفة لمجلس الوزراء السالف الإشارة إليها أنه سيحصل على 75% من الأصوات كذلك الأمر بالنسبة لأحزاب المعارضة فقد حصلت على نسبة 27,1 % من الأصوات الصحيحة بينما كان التقدير المبدئي أنها ستحصل على حوالي 25% .

• كان التقدير سليما وواقعيا بالنسبة للأحزاب التي يمكن أن تتجاوز نسبة ال8% التي حددها القانون وكان من بينها حزب العمل الاشتراكي- ولكن النسبة التي حصل عليها هذا الحزب توقفت مع الأسف عند 7,08% ومع ذلك فكم كنا نتمنى جميعا أن تتجاوز جميع الأحزاب هذه النسبة ليكون لها تمثيلها النيابي فذلك أدعى لترسيخ الممارسة الديمقراطية وتأكيد للممارسة السياسية من خلال القنوات الشرعية وأضعاف في نفس الوقت لتك الأنشطة التي تعمل خارج إطار الشرعية ولعل هذه الملاحظة أحد الجوانب السلبية للانتخاب بنظام القوائم النسبية خاصة في إطار تلك النسبة المرتفعة التي حددها القانون.

الأخوان المسلمون لأول مرة تحت القبة!!

• دخل المؤسسة التشريعية حوالي ثمانية أعضاء من المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين من خلال قوائم حزب الوفد بعد ذلك التحالف الذي تم بين الوفد وبين الجماعة وهي المرة الأولى في التاريخ النيابي المصري الذي يصل فيه الإخوان إلى المؤسسة التشريعية ومن المفارقات أن تتحقق هذه الظاهرة على يدي حزب الوفد العدو التاريخي للإخوان والذي كان ينظر إلى تلك الجماعة منذ بداية نشأتها على أنها تمثل الخطر الأول على الممارسة الديمقراطية وكم كانت هناك مواقف شهيرة لزعيم الوفد الراحل مصطفي النحاس رفض فيها بإصرار السماح لقيادات هذه الجماعة وعلى رأسها مرشدها الراحل حسن البنا بالوصول إلى المؤسسة التشريعية ومع كل ذلك فإن هذا التحالف المصلحي سرعان ما انفصمت أواصره تحت ضغط تناقض الخلفيات والرؤية المستقبلية ولكن الوفد كان قد فتح الباب وحدث ذلك التحول الذي شاهدناه بعد ذلك عندما تم ذلك الاندماج بدلا من التحالف بين جماعة الإخوان وبين حزب العمل في انتخابات عام 1987 وكان من أولى نتائجه أن أصبح للجماعة داخل المؤسسة التشريعية عدد من الأعضاء وصل إلى 39 عضوا يفوق عدد أعضاء الوفد البالغ عددهم حوالي 22 عضوا أو عددا أعضاء حزب العمل المندمج مع الجماعة والبالغ عددهم حوالي 17 عضوا.

• حصل حزب التجمع على عدد 220,673 بنسبة 4,17% من مجموع الأصوات الصحيحة وكان صوت هذا الحزب من أعلى الأصوات التي هاجمت نتائج الانتخابات وحاول أن يلصق بها ما شاء من اتهامات ومع ذلك فإن قيادة عليا بالحزب اعترفت في وضوح كامل لمدير مكتبي العميد محمد تعلب في ذلك الوقت اللواء حاليا بأن الحزب يعلم تماما أن النتيجة ترجمت الحجم الحقيقي للحزب في الشارع ولكن السياسة تقتضي هذا الصوت العالي في الادعاء ومحاولة طمس الحقائق إنني أضع خطوطا تحت هذا المنطق أمام الرأي العام فقط، لكي يحكم على مدى جدوى مثل هذا الأسلوب في الممارسة السياسية التي يسعى إلى هدم الإيجابيات لأغراض حزبية ضيقة متجاهلا دور الأحزاب الرائد في التوعية السياسية طارحا خلف الظهر كثيرا من الاعتبارات التي تؤكد جميعها أن النمو الديمقراطي لا يتحقق ولن يتحقق في المستقبل إلا إذا قام على إيجابيات مضافة للبناء الديمقراطي يوما بعد يوم.

كيف كانت الانتخابات قبل أكتوبر 1981؟

• كانت النتيجة النهائية لهذه الانتخابات فيما يتصل بعدد الحضور بالنسبة لمجموع المقيدين في دفاتر قيد الناخبين 43,3% وأعتقد أنني لا أبتعد عن الحقيقة إذا أكدت أن الالتزام بإعلان النتيجة بهذه الواقعية الحقيقية بعد غياب لهذه الواقعية وتلك الحقيقة استمر قرابة ستين عاما منذ بداية الحياة النيابية في مصر بعد إعلان دستور سنة 1932 يمثل بعدا إيجابيا كان يجب أن تستوعبه مختلف القوى السياسية وتدرك مغزاه ودلالاته فقد كان تزوير نتائج الانتخابات قبل ثورة يوليو هو السمة السائدة لغالبية الانتخابات التي تمت طوال تلك المرحلة وتعرضنا لتفصيلات ذلك فيما سبق ثم كانت نسبة الأربع تسعات والثلاث تسعات هي النسبة المتعارف عليها في جميع الانتخابات التي تمت بعد ثورة يوليو طوال عهدي الرئيسين الراحلين عبد الناصر والسادات وكان أخرها تلك الانتخابات التي تمت عام 1976 والمشهود لها بالنظافة فقد أعلنت نسبة الحضور فيها وكانت 93% وبعدها انتخابات 1979 وكانت نسبة الحضور يها تتجاوز 95% وكم علق كثير من المحللين السياسيين بأن أسلوب الانتخابات على تلك الصور كان أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت قواعد عريضة من جمهور الناخبين إلى الانصراف عن المشاركة في العملية الانتخابية بل عن المشاركة في الممارسة السياسية بأكملها وكانت هذه الظاهرة في حد ذاتها من أهم الظواهر التي ينسب إليها ذلك البطء في النمو الديمقراطية في مصر.

• ومع كل ذلك فقد جاء من ينقد الالتزام بتلك الواقعية وهذه الحقيقة لكي تظهر النتيجة أمام الرأي العام بصفة عامة والقوى السياسية الشرعية بصفة خاصة مترجمة للواقع الجماهير وحجمه المشارك في العملية الانتخابية كأحد الأركان الهامة في الممارسة السياسية والديمقراطية تأكيدا لاحترام الحقيقة أولا ودفعا للجماهير ومن خلفها القوى السياسية لكي تتخلى عن سلبيتها وتبدأ في الوفاء بالتزامها نحو ذلك الواجب والوطني ترسيخا للنمو الديمقراطي.

• ولكنني أسارع هنا لكي أؤكد أنني لا أنعي على أحزاب المعارضة حقها في لنقد أو الهجوم على العملية الانتخابية بأكملها فتلك ظاهرة تقترن دائما بالممارسة السياسية بعد غيبا طويل للبعد الديمقراطي عندما يسعى البعض إلى تجاهل تضاريس الواقع وأمراض الممارسة السابقة ويتصور أنه يمكن أن يمحوها بجرة قلم ولكنني من جانبي أتصور أننا في هذه المرحلة من البناء الديمقراطي لابد أن نضع أيدينا على السلبيات لنسعى إلى علاجها وأن نضع أيدينا في نفس الوقت على الإيجابيات لنسعى إلى دفعها للأمام لتتسع مساحة البناء الديمقراطية يوما بعد يوم ولكما كانت الحقيقة هي الهدف سرنا في الطريق الصحيح وتأكد المنطق الديمقراطي في الوجدان السياسي العام للجماهير.

المعارضة تطعن...!!

ولقد تقدمت المعارضة باستجوابين شاملين أمام مجلس الشعب خلال شهر ديسمبر سنة 1984 أحدهما قدمه السيد/ إبراهيم شكري رئيس حزب العمل وكان قد عين مع عضوين آخرين من حزبه ضمن الأعضاء العشرة المعينين والثاني قدمه المرحوم المستشار ممتاز نصار عن حزب الوفد تضمن كلاهما الطعن في تلك الانتخابات من جوانب متعددة، ولكي تكون الصورة كاملة أمام الرأي العام فلقد رأيت أن أعرض في هذه المذكرات جانبا تفصيليات من الاتهامات التي وردت في هذين الاستجوابين مع تفصيلات الرد عليهما وهو ما نعرض له في النقاط التالية:

1- قرأ المرحوم المستشار ممتاز نصار عددا من محاضر رؤساء اللجان الفرعية الذين أبدوا فيها بعض ملاحظاتهم عن سير العملية الانتخابية ورفعوها إلى السادة القضاة رؤساء اللجان العامة وكان رحمه الله قد ضمن استجوابه اتهاما للمحليات بأنها كانت منحازة في العملية الانتخابية لصالح الحزب الوطني، واستشهد بهذه المحاضر على صحة ما يقول .

• وكان الرد:

• أن جميع السادة القضاة وعددهم 316 قاضيا ومستشارا قد مارسوا مسئولياتهم كاملة وبسطوا أشرافهم على جميع اللجان الفرعية وكانوا ينقلون بمجرد سماعهم لأي شكوى تبلغ إليهم إلى اللجان الفرعية واتخذوا القرارات الفورية في مواجهة أي شكوى قدمت وما أكثر الشكاوى التي قدمت من البعض وقد تبين للسادة القضاء أن كثيرا من هذه الشكاوي غير جدية والبعض الآخر رأوا أنه يستحق الإجراء ولم يتوانوا في اتخاذ الإجراءات الفورية ضده، ومن بين هذه الإجراءات استبعاد بعض الصناديق من الفرز.

دليل قاطع...

• وإني لأتساءل أليس رؤساء اللجان الذين قرأ محاضرهم المستشار ممتاز نصار من المحليات وكونهم يحررون ملاحظاتهم في محاضرهم ويعرضونها على القضاة رؤساء اللجان العامة، أليس في ذلك الدليل القاطع والمقنع على أن رؤساء اللجان الفرعية الذين كانوا منتدبين من المحليات قد مارسوا مسئولياتهم بمنتهى الحيدة.

وكما أننا نتساءل ما نسبة هذه الملاحظات التي أثيرت على مستوى اللجان الفرعية وعددها 22111 فإذا أثار المستجوبان عددا من الملاحظات في عدد ضئيل من اللجان أقل من 5 % واتخذت الإجراءات بشأنها أليس ذلك دليلا قاطعا على سلامة العملية الانتخابية في مجملها وفي هذه المناسبة لماذا لا نرى ما يحدق في الهند وكلنا يشيد بديمقراطيتها كانت تجري فيها انتخابات عامة في نفس الوقت ومع ذلك فقد قرأنا في الصحف عن مئات القتلى ومئات الجرحى والهجوم على اللجان وخطف صناديق الانتخابات أين نحن من مثل كل ذلك؟

2- لأثير في الاستجوابين أن حياد الشرطة كان حيادا سلبيا ولذلك حدثت تلك أشرنا إليها سابقا والتي لم تتعد في مجملها 80 حادثا في صورة مصادمات بين أعضاء الأحزاب المختلفة.

• وكان الرد:

• أن انتخابات 1984 تعتبر بجميع المقاييس أكبر وأوسع انتخابات في تاريخ الحياة النيابة في مصر حيث تقدم لها ضعف عدد المرشحين في أي انتخابات سابقة عليها.

• ومع كل ذلك فإن ما تخللها من أحداث يعتبر بجميع المقاييس أقل عددا وحجما من جميع الأحداث التي تخللت أي انتخابات في مصر منذ بدء الحياة النيابية سواء قبل يوليو أم بعدها وإذا كانت قد تمت في ظل هذا العدد الضخم من المرشحين وفي ظل هذه المنافسة الحادة والعصبيات العائلية والقبلية في غالبية الريف المصري، فإن في ذلك وحده الدليل القاطع على أن الشرطة كانت تمارس مسئولياتها بحياد إيجابي يحقق السيطرة الأمنية، والحرية الانتخابية للناخب في وقت واحد.

صرعى الانتخابات...

• وإن أقرب الأمثلة على ذلك ما حدث في الانتخابات التي أجرتها حكومة حسين سري، وقد كانت حكومة محايدة وانتقالية في يناير سنة 1950 والتي فاز فيها حزب الوفد بالأغلبية المطلقة وكانت حصيلة الأحداث التي تخللت عمليات الانتخابات ستة عشر قتيلا وليس قتيلا واحدا كما حدث في انتخابات 1984 وكان تعداد مصر وقتها 18 مليونا وليس 55 مليونا كما هو الآن بجانب 34 واقعة شروعي في قتل وجرحى بالرصاص وعشرين واقعة تهديد بالسلاح ومنع المرور بالسلاح بالدوائر الانتخابية فضلا عن عشرات من المخالفات الانتخابية وذلك هو النمط الذي يمثل أخلالا بالأمن ويمكن أن يفسر على أنه حياد سلبي من الشرطة. • كذلك في انتخابات 1938 كان هناك قتلى ولم يحصل الوفد فيها إلا على عدد 12 مقعدا.

• وفي انتخابات 1976 التي أجريت في عهد المرحوم ممدوح سالم كان عدد القتلى 7 وكذلك في انتخابات 1979 كان عدد القتلى اثنين.

المحافظون منحازون!!

3- أثير في الاستجوابين أن المحافظين كانوا يحضرون المؤتمرات الحزبية للحزب الوطني، وكانوا يغدقون في إنجاز الخدمات الاجتماعية في صورة رصف طريق ومشروعات كهرباء ومياه.. إلخ.. كما أثار السيد إبراهيم شكري إن الصرف من اعتماد المعونة الأمريكية للتنمية المحلية بالقرى قد زاد بشكل ملحوظ قبل الانتخابات مباشرة.

وكان الرد:

• إن جميع أحزاب العالم الديمقراطي تتنافس في برامجها على تلبية احتياجات المجتمع وإذا قامت حكومة أي حزب منها بإجراء انتخابات فأنها تعرض برامجها وإنجازاتها وتضاعف من هذه الإنجازات حتى تكسب ثقة الناخبين وهذه هي الغاية من الممارسة الديمقراطية التي تسعى إلى غاية أكبر وهي رفاهية المجتمع ومع ذلك فقد أودعت أمانة مجلس الشعب بيانا يؤكد أنه في الأشهر الثلاثة السابقة على الانتخابات كان معدل الصرف من اعتماد صندوق التنمية المحلية متراجعا إلى ما يقرب من 50% أقل من الأشهر السابقة وكان ذلك يعني أن معدل الصرف قبل الانتخابات كان متراجعا وليس في اتجاه متزايد كما يقال.

4- أننا نعلم أن عدد رجال القضاء في جميع المجالات والمستويات القضائية يبلغ 6 ألاف فقط، ومعنى ذلك أننا أولا سنعطل مصالح المتقاضين لمدة تصل إلى أسبوعين ستستغرقها العملية الانتخابية

وثانيا: وهو الأهم فإن استمرار العملية الانتخابية في دولة بسيطة مثل مصر تتقارب فيها المحافظات والمدن بشكل كبير سيؤدي إلى تكشف الاتجاهات الحزبية في اللحظات الأولى للعملية الانتخابية ويتم التأثير تلقائيا كنتيجة حتمية لذلك على مواقف الأحزاب، فيبدأ الناخبون في المحافظات المتقاربة في تعديل مواقفهم بما يساير الاتجاه الذي ينتشر بينهم على أنه الاتجاه الغالب ومن هنا تأتي النتيجة النهائية غير معبرة عن الواقع السياسي الحقيق ولعلي أضيف هنا إلى هذا المنطق أن هناك من يقول أن العملية الانتخابية في الهند مثلا تتم خلال فترات مرحلية قد تصل إلى أسبوعين ومثل هذا التمثيل يتجاهل أن الهند تشكل شبه قارة وتتباعد مقاطعاتها لمسافات شاسعة وتختلف قومياتها ومذاهبها وهي كلها اعتبارات لا وجه للمقارنة بينها وبين الأوضاع الجغرافية والاجتماعية لدينا في مصر على وجه الإطلاق.

معارض كبير يشيد بالشرطة....

5- وفي مجال الإشادة بهذه الانتخابات من جانب عدد من أعضاء المعارضة فقد أعلنت أمام المجلس ثلاثة مواقف حول هذا المعنى مجملها الآتي:

• أولها: حديث دار بيني وبين المرحوم المستشار ممتاز نصار بمكتبي بوزارة الداخلية في أعقاب الانتخابات موثق وقد أبدى سيادته في معرض حديثه معي تقديره لدور رجال الشرطة في هذه الانتخابات وأثنى على رجالها لدرجة أنه قال أنني اقترح أن تجعل الشرطة من يوم 27 مايو عيدا لها بدلا من يوم 25 يناير من كل عام بينما انتقد المحليات في موقفها في الانتخابات ونفرا قليلا من ضباط المباحث بأسيوط.

وأضفت قائلا:إن السيد ممتاز نصار، وهو مستشار ونائب لرئيس محكمة النقض سابقا لا يمكن أن يقول مثل هذا الاقتراح إلا استنادا لحيثيات القاضي فقدر أن ما قامت به الشرطة كان عملا جليلا وتاريخيا لوطنها يستحق أن تجعل منه عيدا لها.

• ثانيا: عن لقاءات مع بعض السادة نواب حزب الوفد أعربوا خلالها عن تقديرهم لدور الشرطة وقيادات الحكم المحلي في تلك الانتخابات.

• وقد قام على إثر ذلك السيد/ أحمد فخري قنديل عضو حزب الوفد في ذلك الوقت وأيد هذا المعنى وأشاد أمام جميع أعضاء المجلس بدور الشرطة وقيادات الحكم المحلي في محافظة قنا وحيادهم في العملية الانتخابية.

• ثالثها برقية أرسلها السيد أحمد فرغلي مرشح حزب العمل بمحافظة أسيوط والأمين السابق للحزب بالمحافظة ذكر فيها أن ما لمسه من موقف الضباط والصف والجنود في هذه الانتخابات ليفخر به كل مصري يؤمن ببلده ويؤمن بحريتها.

وصحف العالم أيضا...

6- لا يبقى بعد ذلك إلا أن أعرض لمحات عن بعض ما تناقلته وكالات الأنباء والصحف العالمية وعلقت به على تقديرها لهذه الانتخابات وهي تمثل العالم أجمع ولا يمكن أن يدعي أحد بأنها تذكر غير ما اقتنعت به ونقله إليها مراسلوها الذين انتشروا أثناء العملية الانتخابية في أغلبية المحافظات من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال.

صحيفة الشرق الأوسط في 29/5/ 84 الديمقراطية فرضت نفسها في الانتخابات المصرية رغم المناورات التي قامت بها أحزاب المعارضة أن ثورة من نوع جديد تحدث في مصر مؤكدة أن الانطلاقة الديمقراطية الجديدة مستمرة.

صحيفة الجزيرة السعودية في 28/5/84: أنها المرة الأولى التي تجري فيها حملة انتخابية تتسم بمثل هذا المناخ من الحرية.

مجلة الوطن العربي في 1/6/84 لقد دخلت مصر بالانتخابات مرحلية جديدة في عهد الرئيس مبارك الذي نجح في أقل من سنتين في أن يمنح لها وجها جديدا.

• لوموند الفرنسية في 26/ 5/ 84 أن المصريين لا يصدقون أنفسهم حيث أن الحريات التي يتمتعون بها منذ بداية الحملة الانتخابية لم يسبق لها مثيل الحملة الانتخابية تسير في ظروف تشبه كثيرا الظروف التي تتوافر في الديمقراطية الغربية.

• جريدة يوريا اليوغوسلافية في 30/ 5/84 أنه لا يمكن الاتفاق مع المعارضة المصرية فيما تشيعه عن هذه الانتخابات التي تمت بالفعل في جو من الديمقراطية والنزاهة التامة أن مصر لم تشهد مثل هذه الانتخابات طوال حياتها النيابية من حيث جو الديمقراطية التي جرت فيها.

• إذاعة لندن: إن الانتخابات المصرية التي جرت فيها

• إذاعة لندن: إن الانتخابات المصرية كانت أكثر الانتخابات نزاهة على مدى الثلاثين عاما الماضية لأنها اتسمت بالعدالة والحيدة الكاملة أن ما يحدث في مصر زعيمة العالم العربي يجد صدى واسعا له في كل أرجاء العالم العربي أن نتائج الانتخابات تعكس ثقة الشعب في الرئيس مبارك وفي تنفيذه لكل عهوده بمحاربة الفساد وتحسين الأحوال الاقتصادية ثم إقامة الديمقراطية الحقيقية في مصر بكل ما يعني ذلك حرية في الصحافة والتعبير.

• كما ذكرت نفس الإذاعة في أعقاب الانتخابات ما يلي: يقول المراقبون الأجانب أنهم عجبوا لعدم وجود أي تدخل من جانب أجهزة الأمن وأن أحزاب المعارضة أفسح لها مجال بكل تأكيد خلال الحملة الانتخابية للتعبير عن انتقاداتها للحكومة هناك الكثير مما يمكن أن يقال في صالح التجربة الديمقراطية التي أحدثها مبارك لهذه الانتخابات التي تتمتع بوزن أكبر مما كان للانتخابات التي جرت في العهود السابقة.

• صحيفة التايمز البريطانية ف 27/5/ 84 أن مصر لم تشهد مثل هذه الانتخابات الحرة منذ 32 عاما.

• الواشنطون بوست الأمريكية في 28/5/84 طاف المراسلون الأجانب باللجان الانتخابية بالقاهرة ووجدوا أن الانتخابات جرت في جو من الحيدة التامة وعدم التدخل من جانب الحزب الحاكم.

• مجلس الأكسبريس في 8/6/1984 أن الانتخابات كانت أول انتخابات حرة تجري منذ 60 عاما أن مبارك قد حرص على تنظيم انتخابات حرة لأول مرة.

• الصحافة الإيطالية في 29/5/84 أشادت بالانتخابات وذكرت أن جميع الضمانات الديمقراطية قد توافرت لها وأكدت أن الديمقراطية والنزاهة التي سادت جو الانتخابات في مصر لأول مرة منذ فترة طويلة هي تأكيد لحرص الرئيس مبارك على توافر مناخ الديمقراطية.

• البرافدا السوفيتية في 31/5/ 84 أن الانتخابات المصرية تمل مرحلة جديدة في حياة مصر السياسية أن هذه الانتخابات تختلف تماما وبشكل ملحوظ عن انتخابات سنة 1979 حيث لم تتعرض الأحزاب المعارضة أبان الحملة الانتخابية للاضطهادات التي حدثت من قبل.

وأخيرا يعلق الكاتب الكبير الأستاذ مصطفى أمين في عموده اليومي بجريدة الأخبار يوم 30/5/1984 ما نصه الآتي: لو أن مصر أنفقت ملايين الجنيهات للدعاية لنفسها لما استفادت كما استفادت من هذه الانتخابات الحرة، صحف العالم كله تتحدث عن الإنسان المصري الذي استرد حرية الاختيار بعد 32 سنة من الحرمان، شعوب العالم الثالث ترى في هذه الانتخابات الحرة الأمل الوحيد لتنجو من محنتها ولتخرج من شقائها وفرحة الشعوب العربية بنا لا تقل عن فرحتنا بأننا خطونا خطوة واسعة في طريقنا إلى الديمقراطية الصحيحة كان العالم يسخر ويهزأ بنا عندما كنا نعلن أن حكومتنا حصلت على مائة في المائية وتسعة وتسعين وتسعة من عشرة في المائة كانت الدنيا كلها تعلم أن الانتخابات مطبوخة مزورة اشترك فيها الأموات والغائبون والأطفال ولم يترك فيها الشعب المصري كان الكثيرون يأنفون أن يشتركوا في هذه المهازل فيقبعوا في بيوتهم ويرفضوا الإدلاء بأصواتهم وفي الصباح تعلن النتيجة بأن الذين اشتركوا في الانتخابات مائة في المائة من الناخبين الآن اسمع كثيرين ممن يندمون لأنهم لم يذهبوا إلى لجان الانتخاب أو أهملوا في الحصول على تذكرة انتخابية فقد كان الجميع يتمنون أن يشتركوا في أول انتخابات حرة تشترك فيها جميع الأحزاب.

لقد وعد الرئيس حسني مبارك الشعب المصري بأن سيجري انتخابات حرة وأنجز ما وعد ووعد باحترام حرية الصحافة فلم يقصف قلما ولم يمنع كاتبا وترك صحف المعارضة تهاجم كما تشاء وأشهد أن أحدا لم يحذف لي كلمة واحدة مما كتبت وقبل كل شيء احترم حسني مبارك أحكام القضاء وهذا واحدا من أكبر مكاسب الشعب التي استردها بعد حرمان طويل.

اليوم .... العلامة...!

وبعد فتلك كلها شهادة أتصور أنها لم تتحقق من قبل بالنسبة لأي انتخابات في التاريخ السياسي المصري جاءت من العالم أجمع وتؤكد في مغزاها أن ما جرى في مصر يوم 27 مايو سنة 1984 له دلالاته الكبرى، فهو علامة تغير عميق وتطور كبير، وبرهان أكيد على ما تحقق للمواطن المصري في مجال الحرية السياسية والممارسة الديمقراطية الموضوعية أن المقارنة بين نتائج هذه الانتخابات وما سبقها من عمليات انتخابية جرت عبر سنوات مضت، تشير إلى أن المعارضة قد حققت كسبا لم تحققه من قبل في الغالبية العظمى من الانتخابات التي تمت في مصر سواء قبل ثورة يوليو أو بعدها وهي بجميع المقاييس كانت منعطفا بارزا في تاريخ مصر النيابي وتعبيرا صادقا وأمينا للتحول الديمقراطي منذ بدأت ولاية الرئيس مبارك هو تحول يجدر أن تشجعه جميع القوى السياسية وتحرص عليه حتى تنطلق الممارسة الديمقراطية في مسارها الصحيح لتتسع رقعتها يوما بعد يوم ولتصبح في النهاية الجدار الذي تنكسر أمامه جميع موجات اللاشرعية والعمل الانقلابي والإرهابي.

-10-

الحكم المحلي والديمقراطية

حديثنا في هذا الجزء عن الديمقراطية والحكم المحلي أو الإدارة المحلية كما سميت في التعديل الأخير الذي أجرى بشأن نظام الحكم المحلي في مصر والذي كان معمولا به منذ الستينيات ولقد تولد لدى اقتناع وأنا أكتب هذه المذكرات عن أهمية تخصيص جزء من هذا الفصل الذي نتحدث فيه عن البعد الديمقراطية في الممارسة السياسية ليكون محوره تلك الزاوية التي تتصل بهذا البعد على مستوى الإدارة المحلية من حيث أهميته.

أولا: في دفع الجماهير للمشاركة في الحركة السياسية وتوسيع مساحة الممارسة الديمقراطية ثم من حيث أهيمته.

ثانيا: في تأكيد تلك الغاية للممارسة الديمقراطية والتي تحدد أولا وأخيرا في استثمارها لتحقيق رفاهية المجتمع وتطوره إلى الأفضل.

لماذا نقلت للحكم المحلي؟

ولكنني قبل أن أسترسل في الحديث عن هذا الموضوع أجد نفس مدفوعا لكي أجيب عن ذلك التساؤل الذي وردت تعليقات حوله ببعض الصحف السالف الإشارة إليها في جزء سابق عن سبب تغيير موقعي الوزاري من وزارة الداخلية إلى وزارة الحكم المحلي في التعديل الوزاري الذي تم في يوليو سنة 1984 عقب الانتخابات العامة لمجلس الشعب التي أجريت قبل ذلك بشهرين في مايو من نفس العام فقد أدلى الرئيس مبارك بحديث صحفي للسيد أحمد الجار الله رئيس تحرير جريدة السياسة الكويتية نشرته جريدة الأخبار في 10/ 8/ 84 وكان من بين الأسلة التي وجهت للرئيس سؤال عن أسباب تغيير موقع وزير الداخلية في ذلك التعديل الوزاري ومدى صلة ذلك بنتائج الانتخابات التي أجريت لمجلس الشعب وكان نص إجابة الرئيس عن ذلك السؤال كما يلي نقل وزير من مكان إلى آخر قد يكون هدفه الاستفادة من خبرات الوزير وقدراته في المجال الذي نقل إليه لتطوير هذا المجال بصورة أكثر فعالية ولقد اعتقد البعض أن نقل أبو باشا إلى وزارة الحكم المحلي له علاقة بالانتخابات وهذا خطأ فإن حسن أبو باشا قد أدار الانتخابات بصورة جد مرضية وبإخلاص ولقد نقلته إلى وزارة الحكم المحلي لأنه يعرف مشاكلها تماما ولقد خبرها جيدا إنني أعلق أهمية كبيرة في الوقت الراهن على قضايا الحكم المحلي وإنني لواثق أن حسن أبو باشا سوف ينجح في مهامه الجديدة.

الترف السياسي.

ولقد قلنا حالا أن سبب اختيار هذا الموضوع ليكون محورا للحديث في هذا الجزء هو أهميته أولا في دفع الجماهير للمشاركة في الحركة السياسية ثم أهميته ثانيا في تأكيد تلك الغاية للممارسة الديمقراطية في استثمارها لتحقيق رفاهية المجتمع وتطوره إلى الأفضل.

ولابد هنا أن تكون لنا وقفة مع مفهوم الممارسة الديمقراطية وارتباطها بمشاكل المجتمع الحيوية فالديمقراطية ليست إطارا بلا مضمون وهي تفقد كثيرا من محتواها وجوهرها إذا لم تستثمر لخدمة قضايا الإنسان وهي أيضا يجب ألا تكون من ذلك النوع من الترف السياسي الذي يصبح ملهاة للشعوب لكي تنصرف عن قضاياها المحلية إلى مجرد الجدل الكلامي كذلك فإنه مهما تعددت وسائلها وتباينت الرؤى أمام الممارسين لها لا ينبغي إلا أن تستهدف دائما تطوير المجتمع وأن تكون وسيلة للتقدم ولتطوير شكل الحياة.

وفي إطار هذا المفهوم للممارسة الديمقراطية يمكن أن نربط على الفور العلاقة بينه وبين الفلسفة والأهداف التي يبتغيها نظام الحكم المحلي أو الإدارة المحلية في مصر، والتي تتحدد أولا في العمل على تطوير الواقع الاجتماعي تطويرا متلاحقا يتلاءم مع متطلبات العصر وتعاظم المتغيرات وتتحدد ثانيا في ربط العمل السياسي بالمصالح الواقعية للجماهير خصوصا في ظل حتمية تؤكد أن مؤسسات الحكم المركزية تبعد في أحيان كثيرة عن قدرة الغوص في أبعاد الواقع الاجتماعي واحتياجاته المتعاظمة والمتلاحقة بجانب ما تعرضه عليها التزاماتها من أعباء وقيود لا تمكنها في أحيان كثيرة من الوفاء أو الاستجابة للكثير من الاحتياجات للمجتمعات المحلية.

ديمقراطية متعثرة

وإذا عدنا قليلا إلى الوراء لنستعرض مدى تأثير الحركة السياسية في مصر قبل ثورة يوليو في قضايا المجتمع المحلي في بعدها الاجتماعي فإننا نجد أنه كان لدينا حركة سياسية في إطار تعدد حزبي منذ نهاية العشرينات ومطلع الثلاثينيات وأن هناك نوعا من الديمقراطية المتعثرة التي أصابتها أمراض الشيخوخة منذ البداية ولم يكن التوهج الذي أحاط بها في بعض الأوقات إلا نتيجة ضغوط شعبية تفجرت في أحيان كثيرة حول القضية الوطنية ولعل تلك الحقيقة هي السبب الرئيسي في الشعبية الكاسحة التي حظي بها حزب الوفد طوال تلك الحقبة من الزمن حتى قيام ثورة يوليو سنة 1952 ذلك أن حزب الوفد كان يتصدر بقية الأحزاب في تبني القضية الوطنية متحديا الملك والسلطة المستعمرة في غالبية الوقت في دفاعه عن الدستور والحرية والاستقلال.

وبالرغم من تلك الشعبية التي حظي بها حزب الوفد وبالرغم من ذلك التعدد الحزبي الذي أحاط بالحركة السياسية في تلك الحقبة من الزمن فإن محور النشاط السياسي في أغلب الوقت كان مركزا في القاهةر وبعض عواصم الأقاليم ولم يجذب اهتمام غالبية الشعب اللهم إلا أثناء تلك الانتخابات التي كانت تساق إلهيا جماهير المواطنين في الريف دون أن يكون لهم أدنى قدر من الحرية في الاختيار أو إبداء الرأي الحر ومع ذلك فإن تلك الانتخابات الشكلية لم تسمح لحزب الوفد صاحب الأغلبية الشعبية بالوصول إلى الحكم إلا مرات قليلة لم تتعد في مجملها ست سنوات متقطعة طوال مرحلة زمنية امتدت على ثلاثين عاما تقريبا.

شباب الوفد والحركة الاجتماعية!

وحول هذا المعنى يذكر السيد طارق البشري في مؤلفه الحركة السياسية في مصر بين عامي 52،45 عن الاتجاه النقدي الذي ظهر بين جانب من شباب حزب الوفد في الأربعينيات الذي تبني قضايا التحول الاجتماعي بجانب القضايا التقليدية التي كان يتبناها حزب الوفد حول الحرية والاستقلال ما نصه الآتي في صفحة 41 ومع أن هذا الاتجاه صنع للوفد الكثير من هذه الفترة وساهم بنشاطه في أن يعيد للوفد بعض ما فقده أثنا حكومة 4 فبراير سنة 1942 سيما بين شباب الأربعينات كما ساهم داخل الحزب في تنمية اتجاه قدمي يتعادل مع أثر الاتجاه اليميني داخل القيادة كما غذى الحزب بفكر جديد يتعلق بفهم المشاكل الاجتماعية إلا أنه لم يقدر له أن يصل إلى قيادة الحزب أو أن يكون له نفوذ حاسم في رسم السياسة وتوجيه الحزب كله إلى ما يعلو به إلى مستوى أحداث ما بعد الحزب لذلك بقي هذا الاتجاه رغم منطقه الثوري ورغم أثره في شباب الحزب بقي محدود الأهداف من الناحية العملية مرتبطا بالمخطط الوفدي التقليدي وانعكس هذا اضطرابا وفقدانا للتناسق في التفكير الاجتماعي لكل من أقطابه كما أنه لم يستطع أن يعمق جذوره إلا بين الشباب المثقف دون أن يمتد هذا التأثير تنظيميا إلى العمال والفلاحين ثم يستطرد المؤلف بعد ذلك في تقييمه لهذه الظاهرة في ذات الصفحة فيقول ولم يكن الوفد بهذه الصورة قادرا على تنظيم الجماهير وتحريكها على النحو الذي يمكن من تخطي النظام القائم كله ولم يكن في خطة القيادة أن تصل بالأحداث إلى ما يهدد النظام القائم أو يتخطى أيا من حدوده السياسية أو الاجتماعية.

وإذا كانت الصورة على هذا النحو مع حزب الأغلبية فلنا أن نتصور كيف كانت مع أحزاب الأقلية التي سيطرت في أغلبية الوقت وكانت في جميع الأوقات أداة الملك لتزكية الصراع السياسي ضد حزب الوفد وترسيخ الأوضاع الاجتماعية المختلفة لجموع الشعب.

قصة الـــ 50% عمالا وفلاحين

تلك إذن كلها كانت ملامح تلك الحركة السياسية التي سادت قبل ثورة يوليو وعجزت عن دفع الجماهير للمشاركة في الحركة السياسية نتيجة انصرافها عن الاهتمام بمواجهة وعلاج قضايا المجتمع الاجتماعية والاقتصادية وكانت المحصلة النهائية انفصالا واسعا بين الحركة السياسية وبين قواعد عريضة من جماهير الشعب ثم ترديا سياسيا واجتماعيا هيأ جميع الظروف الموضوعية لثورة يوليو سنة 1952.

وكان أحد الشعارات الهامة التي رفعتها ثورة يوليو فور قيامها هو شعار الحربة الاجتماعية بل وصل الأمر إلى التأكيد في أحيان كثيرة منذ مطلع الثورة على أنه لا حرية سياسية بدون حرية اجتماعية وكان واضحا منذ البداية أن هذا الشعار يترجم في حقيقة أولوية البعد الاجتماعي في برنامج وأهداف الثورة.

وانطلقت بعد ذلك برامج الثورة الاجتماعية المعروفة والتي كان من بينها ذلك المبدأ الذي يقضي بأحقية العمال والفلاحين بنسبة 50% على الأقل في التشكيلات الشعبية والسياسية وهو مبدأ استهدف فتح مجالات المشاركة الشعبية على مستوى هذه القاعدة العريضة فيما يتعلق بالحركة السياسية بصفة عامة وقضايا المجتمعات المحلية بصفة خاصة.

وليس هناك شك في أن الاتجاه إلى نظام الحكم المحلي الذي بدأ في مطلع الستينيات كان من أهدافه الرئيسية تأكيد مشاركة القواعد العريضة من جماهير الشعب في بحث قضايا مجتمعاتهم المحلية والمشاركة في إدارة شئونها.

ولا يمكن لأحد أن ينفي أن مؤسسات الحكم المحلي قد انطلقت في الامتداد بالخدمات الاجتماعية في جميع مجالاتها إلى أعماق الريفي في جميع المحافظات حتى وصل الأمر إلى أن أصبح في جميع القرى أربعة آلاف قرية المستشفيات والمدارس والابتدائية بل والإعدادية في مواقع كثيرة إلى غيرها من المجالات الاجتماعية الأخرى بجانب أعداد من المؤسسات الإنتاجية البسيطة في قرى مختلفة بل إن التفكير اتجه أخيرا إلى أهمية الامتداد بمشروعات الصرف الصحي إلى الريف.

حقائق في الريف المصري

وإذا كان باب المشاركة الشعبية قد فتح على مصراعيه من خلال ذلك النظام الذي نجح في الوفاء بكثير من الخدمات الاجتماعية على مستوى المحافظات بأكملها وخصوصا في أعماق الريف المصري الذي ظل محروما من قبل هذه الخدمات لآلاف السنين فإن ثمن حقائق تفرض نفسها وتدعونا إلى التوقف أمامها في استعراض سريع لنر مدى تأثيرها على قضايا الحاضر وقضايا المستقبل في الوقت نفسه وهو ما نعرض له في النقاط التالية:

• انطلاقا من اهتمام الثورة بالبعد الاجتماعي والامتداد بالخدمات الاجتماعية إلى جميع محافظات الجمهورية كان التخطيط لقضايا وبرامج التحول الاجتماعي تخطيطا مركزيا كما أن تمويل جميع المشروعات الاجتماعية التي امتدت إلى أعماق الريف كان تمويلا مركزيا يعتمد بنسبة مائة في المائة على ميزانية الدولة.

• أدت هذه السياسة تلقائيا إلى نمو روح الاعتماد على الدولة على المستوى الجماهيري العام ورغم الفلسفة التي استهدفها مبدأ مشاركة الفلاحين والعمال بنسبة 50% في جميع التشكيلات السياسية والشعبية فإن تلك الروح ظلت تنمو أكثر وأكثر بالرغم من مشاركة عناصر هذين القطاعين في المجالس الشعبية التي شكلت على مستوى القرى والمدن والمحافظات واستمر التخطيط للمشروعات وتمويلها يعتمد بالدرجة الأولى على رؤية المستوى المركزي وتقديره ثم قدراته التمويلية.

• ومع المتغيرات الاجتماعية التي لحقت بالتركيبة السكانية نتيجة انتشار التعليم والتحول الصناعي وما لحق بها من هجرة أعداد كبيرة من الفلاحين والعمال إلى الخارج بدأت تطرأ نتيجة ارتفاع الدخول تحولات عميقة في أنماط استهلاك بالرف والمدن على السواء بما ألقى بأعباء مضاعفة على قضايا الإنتاج الاقتصاد القومي بصفة عامة.

قضية التنمية

• اقترن بجميع هذه التحويلات نمو متلاحق في الحجم السكاني حتى وصل إلى مستوى الانفجار بعد أن وصل النمو سنويا إلى نسبة 2,8 بداية من السبعينات وحتى الآن بما يحقق إضافة سنوية تصل إلى مليون ونصف مليون نسمة وتشير جميع التقديرات إلى أن عدد السكان سيصل على نحو 75 مليون مواطن بعد تسع سنوات فقط مع مطلع القرن الواحد والعشرين.

• أصبح واضحا في ضوء جميع هذه المؤشرات أن قضية التنمية هي قضية الحاضر والمستقبل وأنها قضية حياة أو موت للشعب وتمثل التحدي الأول والأخير له ولا سبيل أمامه لكي ينطلق ويتطور على الأفضل إلا أن ننتصر في هذا التحدي وقد يقول قائل وما دور الدولة في ذلك؟ ألست تلك ذلك مسئوليتها الأولى؟ نعم فإن الدولة عليها مسئوليتها لكي توجه سياساتها بما يخدم هذا التحدي وهي تفعل ذلك بخططها المركزية وقدراتها الاقتصادية ولكن يبقى للدور الشعبي المشاركة بالجهد والمال أهميته كعامل أساسي وهام في مواجهة هذا التحدي التاريخي والمصيري.

وقائع المؤتمر القومي للحكم المحلي

وفي ضوء جميع هذه الحقائق والمؤشرات فقد عقد مؤتمر قومي للحكم المحلي في يونيو سنة 1985 حضره الرئيس مبارك وجميع القيادات السياسية والشعبية والتنفيذية وكان محور القضايا التي ركز عليها المؤتمر والتي أشير إليها في خطاب وزير الحكم المحلي في الجلسة الختامية للمؤتمر مركزا على القضايا التالية.

• إن نظام الحكم المحلي هو الترجمة الصادقة والواقعية للممارسة الديمقراطية الصحيحة وأن دعم هذا النظام من شأنه دعم الحرية السياسية والحرية الاجتماعية معا وإن انتشار المجالس الشعبية التي بلغ عددها 1265مجلسا تضم حوالي 43 ألف عضو منتخب على مستوى مجالس المحافظات والمدن والقرى يمثل قاعدة عريضة للعمل السياسي والاجتماعي.

• أهمية قضية التنمية باعتبارها قضية الإنسان الأولى التي يتوقف عليها حاضرة ومستقبله ولذلك فإن المؤتمر حدد شعاره الرئيسي بأن التنمية بالشعب وللشعب تجسيدا لحقيقة تؤكد أن الإنسانية تعيش الآن عصر الشعوب التي أصبحت لا تقنع بمعطيات التطور التلقائي أو ترضى بما تقدمه السلطات الحاكمة أو تقدر عليه وإنما أصبح من المحتم أن يعرف كل مواطن دوره ويؤدي واجبه ويمارس مسئولياته حتى ينصهر الدور الشعبي مع الدور الحكومي في اتجاه واحد يؤكد القدرة على تحقيق التقديم والتغيير المستمر إلى الأفضل.

• تعاظم القضايا الاجتماعية والاقتصادية بعد المتغيرات التي طرأت على البنية الاجتماعية بمكوناتها الفكرية والثقافية وتأثير ذلك على التركيب السكاني في كل إقليم كذلك بعد أن تصاعدت في السنوات الأخيرة أنماط استهلاكية لم يألفها المجتمع وتكدست ثروات في أيدي جديدة ربما لم تحس استثمارها أو الطريق الأمثل إلى ذلك واقترن بذلك تزايد موجات الأسعار العالمية مع انعكاساتها على الأوضاع الاقتصادية الداخلية لكي تتأكد أكثر وأكثر أهمية قضايا الإنتاج والتنمية.

• أهمية التخطيط الإقليمي لكي يوائم بين أهداف التخطيط المركزي وتوجهات خطط التنمية المحلية بالمحافظات اعتمادا على الجهود الذاتية بما يخدم أهداف الخطة القومية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.

• عدم نجاح المجالس الشعبية في اجتذاب ثقة الجماهير بالقدر الكافي لكي تتعامل إيجابيا مع متطلبات التنمية المحلية على مستوى القرية والمدينة والمحافظة خصوصا في ظل ظاهرة سلبية تتعاظم يوما بعد يوما عندما تحول الريف المصري من الإنتاج إلى الاستهلاك بشكل يكاد يقضي على الدور التقليدي للريف في مجال إنتاج كثير من السلع الغذائية.

تنمية الريف المصري

• أهمية دعم الموارد المحلية حتى تتمكن المؤسسات المحلية من الانطلاق في الاستثمارات المحلية بمشاركة شعبية في مجال المشروعات الإنتاجية والخدمية التي تتفق مع الإمكانات والمتطلبات البيئية وامتدادا للأهداف التي سعي المؤتمر القومي للحكم المحلي إلى أبرازها وطرحها في دائرة الاهتمام الشعبي تم استصدر قرار من رئيس مجلس الوزراء بتشكيل لجنة عليا للتنمية المحلية والشعبية ضمت نخبة من المحافظين ورجال البنوك وأساتذة الجامعات وعددا من القيادات التنفيذية العليا وعقدت اجتماعها الأول والأخير في 25/6/86 وتضمنت الكلمة الافتتاحية لوزير الحكم المحلي تحديدا لأهداف ومسئوليات هذه اللجنة الخطوط العريضة التالية:

• إن المهمة الأولى لهذه اللجنة أن تعمل على تحويل عملية التنمية من تنمية بالحكومة بالدرجة الأولى إلى تنمية بالشعب المصري بأكمله ولكي تتأكد المسئولية الشعبية يجب أن يتاح لكل مواطن الدور الذي يمكن أن يؤديه.

• لدينا مؤشرات متعددة أن الشعب لديه الاستعداد الكامل لكي يسهم في تنمية مجتمعه ولكي ينطلق المواطنون في هذا الاتجاه يجب أن تكون هناك سياسيات ثابتة وكيانات واضحة تهيئ للمواطن القنوات التي يسهم من خلالها في تنمية وتطوير مجتمعه.

• إن الاعتراف بالواقع يؤكد أن لدينا في جميع المحافظات محاولات للتنمية ولكن لابد أن نعترف أن كل هذه الجهود لم تكن بالشكل المخطط الذي يحقق أهدافا بعينها بتوقيتات محددة تتفق مع إمكانات المحافظات ومع مواردها وعدد سكانها بما يتناسب مع حجم التحدي ومع حجم الآمال الكبيرة التي نريد تحقيقها.

• ضرورة وجود خطة شاملة متكاملة لكل محافظة تهدف إلى تحقيق نتائج محددة تتماشى مع أهداف الخطة القومية للدولة وتأخذ بمؤشراتها بحيث توحد الإمكانات المبعثرة بدلا من أن تعمل كل جهة بمعزل عن الجهات الأخرى حتى توجه جميع الإمكانات المتاحة إلى هدف واحد نسعى لتحقيقه بروح الفريق.

• وما يهمنا الآن أن نخرج من هذا الاجتماع بقرار أو بقرارين ونحن جميعا نعرف والحمد لله فإن جميع السادة أعضاء اللجنة من الخبراء والعلماء والقيادات العليا أن أي تطور في الدنيا قد يبدأ بخيال ثم يتحول إلى حقيقة بالتصميم والمثابرة والإصرار ونأمل أن تأتي هذه القرارات بحيث تمثل بداية إطار رئيسي أو خطة أو استراتيجية للمؤسسات الشعبية والتنفيذية في جميع المحافظات لتهتدي بها لكي تصبح بعد ذلك أهدافا محددة توجه لها كل الإمكانات لتبدأ مراحل التنفيذ مرحلة بعد مرحلة.ط

المشروعات الصغيرة....

ومن المهم أن أشير إلى أهم القرارات التي اتخذت في الاجتماع الأول لهذه اللجنة حيث تضمنت التالي.

1- العمل على تدعيم التكامل بين مشروعات المحافظات المختلفة في نطاق الأقاليم الاقتصادية مع تشجيع إنشاء الشركات الإنتاجية والخدمية بالمحافظات.

2- دعوة المواطنين بكل قرية رئيسية وتوابعها بالمجلس القروي لاقتراح مشروع يرغبون في إقامته تتوافر له مقومات الإنتاج ويشبع حاجاتهم مع خلق جو من المنافسة بين هذه القرى وأن تكون الأولوية في التنفيذي بعد التنسيق للنسبة الأعلى للمشاركة الشعبية في التمويل الهدف من القرار بداية تحول القرى إلى قرى منتجة.

3- تحويل فترة ثلاثة شهور للانتهاء من إجراءات تقييم بعض مشروعات المحافظات التي ستعرض للاكتتاب للمواطنين لعرضها على لجنة السياسات.

• تحديد فترة ثلاثة شهور للانتهاء من إجراءات تقييم بعض مشروعات المحافظات التي ستعرض للاكتتاب للمواطنين لعرضها على لجنة السياسات.ط

• تقوم المحافظات بإزالة المعوقات أما المشروعات التي تحقق خسائر حتى تكون مهيأة لتحويلها إلى شركات.

• تعرض مقترحات المحافظات بالمشروعات المطلوبة طرحها للاكتتاب على اللجنة العليا خلال اجتماعها القادم حدث بعد ذلك بأربعة شهور تعديل وزاري ولم تعقد اللجنة أي اجتماع آخر ولا زال موضوع مشروعات المحافظات محل دراسة حتى الآن.

الحكم المحلي لتدعيم الديمقراطية

• ولعله من المناسب هنا أن نورد جانبا من المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 50 لسنة 1981 بشأن نظام الحكم المحلي حول المضمون الذي نتحدث عنه في هذا الجزء حث ورد بها ما نصه الآتي إن من أهم ما حرصت عليه ثورة التصحيح تعميق الديمقراطية السليمة وإذا كانت الديمقراطية إدارة الشعب شئونه ومصالحه المحلية عن طريق ممثليه المحليين المنتخبين في كل الوحدات المحلية، ومن ثم تبرز أهمية الحكم المحلي لتدعيم الديمقراطية إذ به تتحقق سيادة الإرادة الشعبية وتتدعم سيادة القانون في كل بقعة من البلاد من خلال الجهود النشطة لممثلي المحليات المنتخبين كما يكفل الحكم المحلي حفز الجهود والإمكانات الذاتية للمواطنين في المحليات وحشدها للمعاونة في خطة التنمية الاجتماعية والاقتصادية وفي تدعيم المرافق والخدمات العامة المختلفة وحول نفس المعنى جاء في تقرير لجنة الخدمات بمجلس الشورى فلسفة الحكم المحلي ودوره في التنمية الإقليمية الصادر في 21 مايو سنة 1983 ودور هذا النظام في المجال السياسي والتطبيق الديمقراطي ما نصه الآتي:

1- إن نظرة الفرد إلى القضايا المحيطة به تنقسم إلى ثلاثة جوانب على النحو التالي:

2- نظرته إلى القضايا القومية التي تتعلق بأمن الدولة وسيادتها ووحدة أراضيها وتتبلور فيما يتخذه الفرد من مواقف للتعبير عن رأيه فيها باستخدام الوسائل المتاحة للتعبير على المستوى القومي كالصحافة وحق الانتخاب.

3- نظرته إلى القضايا السياسية التي تتعلق بالتفاعلات بين الشرائح الاجتماعية المختلفة داخل المجتمع وعلى أساس وحدته الكلية وتتبلور فيما يتخذه الفرد من مواقف تجاه الانضمام إلى ذلك الحزب السياسي دون غيره بما أنه يجد فيه تعبيرا عما يجيش يصدره من آمال وما يتفق مع تكوينه الفكري والنفسي من مبادئ.

ج- نظرته إلى القضايا المحلية التي تتعلق بمشكلات البيئة المحيطة بالفرد وتتبلور فيما يتخذه الفرد من مواقف تجاه كل منها باستخدام أساليب التعبير المدركة لمسئوليتها في إحداث التنمية كل الاتجاهات تعبر عن نفسها.

• وفي ضوء هذا التقسيم فمن الواضح أن الإدارة المحلية يمكن أن تمارس دورا جوهريا في تنظيم تعبر الأفراد عن قضاياهم الإقليمية بما يعكس خبراتهم المتباينة ي فتهم الواقع المحيط بهم وهو الأمر الذي ويوفر لوحدات الإدارة المحلية أكبر المقاومات لنجاح دورها إلا وهو تعبئة المجهودات الشعبية حول قضايا التنمية ومشروعاتها أذ بدون المحليات تتم علمية التنمية في معزل عن التفاعلات الإنسانية التي تعطي لهذه العملية بعدها الحضاري المطلوب.

2- ويتأتي للمحليات أن تقوم بالدور المطلوب في هذا الشأن عن طريق إتاحة الفرصة لجميع الاتجاهات السياسية للأفراد والجماعات المختلفة توفيرا للبعد الديمقراطي الذي يعتبر أساسا لنجاح عملية التنمية وترى اللجنة أن قيام المحليات بهذا الدور يتأتي عن طريق مجموعة المواقف نلخصها فيما يلي:

1- أن الأساس في الممارسة الديمقراطية للمجالس المحلية هو حسن وصدق تمثيلها للقوى والاتجاهات السياسية المختلفة في المجتمع المحلي بما يحقق الآتي.

  • يسمح ببلورة أفكارها ومواقفها تجاه كل قضية من القضايا المطروحة للمناقشة على المستوى المحلي.
  • يتيح إمكان تعدد الآراء حول القضية الواحدة ويزيد بدرجة ملموسة من موضوعية الرأي النهائي.
  • يزيد من احتمالات المشاركة المطلوبة من جميع المواطنين سواء بالرأي أو بالعمل.
  • يحول عملية التنمية إلى عملية جماهيرية وقومية.
  • يعمل على تخليص الممارسة السياسية مما يشوبها في بعض الأحوال من ضيق النظرة الاجتماعية بالاعتماد على موقع الفرد الأسري والاجتماعي والضغوط الفئوية أو الناجمة عن العصبيات الأقليمية.

ب- ويؤدي الوضع السابق إلى إتاحة الفرصة للمواطنين كافة للتعبير عن آرائهم في أولويات الاحتياجات المطلوبة للإقليم الذي يعيشون فيه ويجعل منهم جميعا عيونا للشعب على الإدارة التنفيذية في ممارساتها المختلفة بمواقع الإنتاج والخدمات للتأكيد من أن هذه الأداة تنفذ ما التزمت به في برامجها الإنمائية المختلفة.

3- وغني عن البيان أن استخدام إمكانات الإدارة المحلية المجال الديمقراطي على النحو السابق يحقق لحزب الأغلبية زيادة قدرات حكومة هذا الحزب في التعرف على أولويات الاحتياجات المختلفة لكل إقليم بطريقة تسمح لها بإعداد خطط التنمية بصورة أقرب إلى الواقع وذلك لتمثيلها جميع الاتجاهات السياسية في المجتمع المحلي انتهى بذلك النص المأخوذ عن تقرير لجنة الخدمات بمجلس الشورى.

هل قامت بدورها؟

وبعد ذلك فما زال التساؤل مطروحا هل قامت مؤسسات الحكم المحلي أو الإدارة المحلية بدورها كاملا؟ وهل ساعدت على توسيع قاعدة الممارسة الديمقراطية ثم هل يمكن أن تقوم بدور مناسب مع حجم التحدي فيما يتصل بإبعاد قضية التنمية والدور الشعبي فيها وأخيرا ما هي العقبات التي تعترض طريقها؟

ولكننا قبل أن نبدأ في استعراض عدد من الحقائق التي يمكن أن تجيب عن هذه التساؤلات لابد أن نسترجع عبارة وردت في خطاب للرئيس مبارك أمام مجلس الشعب في دورته التي بدأت بعد الانتخابات البرلمانية التي تمت عام 1987 حيث أشار في خطابه إلى أننا يجب أن نبدأ مرحلة الصحوة لنواجه ذلك التحدي الذي يعترض طرق التغيير إلى مجتمع أفضل يدرك كل مواطنيه أن قضية الإنتاج والتنمية هي القضية الأولى التي يجب يستوعب كل مواطن مسئوليات دوره فيها.

أتصور أن الرئيس مبارك عندما دعا إلى تلك الصحوة كل يريد أن يستنهض روح التحدي والإيجابية في نفس كل مواطن ولدى جميع التجمعات السياسية والشعبية لكي يدرك الجميع أن روحا جديدة يجب أن تسرى لنتخطى جميع الحواجز والمعوقات لتطوير المجتمع إلى الأفضل وليس هناك شك في أن مفهوم تلك الصحوة في إطار هذا البعد يقتضي أول ما يقتضي أن يتخلي كل مواطن عن اللامبالاة والسلبية ليقوم كل فرد بمسئولياته تجاه المجتمع بجدية وإيجابية كما يقترن بذلك أن تستوعب جميع التجمعات السياسية أولويات العمل الوطني لكي تسعى بإمكاناتها للإسهام في خدمة قضايا المجتمع ولا يبعدها الخلافة الجدلي حول مساحة التطبيق الديمقراطي عن الاهتمام بالعمل الميداني على أرضية الواقع التي يجب أن يبدأ منها العمل السياسي ليؤكد الغاية الحقيقة من الممارسة الديمقراطية.

وفي إطار هذا المفهوم فإن دور المؤسسات المحلية الشعبية والتنفيذية يقفز إلى الإمام على الفور ليؤكد أن هذه المؤهلة والقادرة على غرس روح ومفهوم تلك الصحوة في أعماق الريف والنجوع في المدن الصغيرة والكبيرة وهي القادرة على أن تحول العمل السياسي إلى عمل مثمر يجتذب اهتمام كل مواطن ويفجر طاقات هائلة تناسب في عطائها مع حجم تحديات كبرى تواجهها أمة يزيد عدد سكانها سنويا بما يقرب من مليون ونصف مليون نسمة ومن المقدر في ضوء هذه الزيادة أن يصل عدد سكانها بعد تسع سنوات إلى ما يقرب من 75 مليون نسمة وتعاظم احتياجات وتطلعات شعبها يوما بعد يوم في عصر يقفز بخطوات جبارة إلى الإمام في جميع مجالات الحياة.

وعودة ثانيا إلى تلك التساؤلات التي طرحناها قبل قليل، لعل الإجابة عنها تضع أيدينا على جانب من مواطن الخلل في العمل السياسي والاجتماعي ولعلها أيضا تمثل مقترحات لانطلاقات العمل الوطني أمام المؤسسات المحلية لتؤكد دورها الهام في ترسيخ البعد الديمقراطي ولتحقيق الغاية الحقيقة من الممارسة الديمقراطية ولتجعل منها الأداة الفعالة لتفجير طاقات المجتمع إلى الأفضل ولتخدم في الوقت نفسه قضية العصر وأعني بها قضية التنمية وهو ما نسعى إلي إيضاحه فيما يلي:

اللامركزية متعثرة

1- لعل أول هذه المعوقات هو عدم الإيمان بأسلوب الإدارة اللامركزية على مستوى الدولة بأكملها وبالرغم من مرور حوالي ثلاثين عاما على تطبيق هذا النظام في مصر تحت مسمى الحكم المحلي أو الإدارة المحلية فإننا يجب أن نعترف بأن فلسفة هذا النظام ما زالت متعثرة حتى الآن، ولا زال الصراع بين المستويات المركزية والمستويات المحلية قائمة وقد يظهر على السطح في بعض الأحيان ولكنه يحتدم تحت السطح في أغلب الوقت ومن المؤسف أن الغلبة في هذا الصراع ما زالت حتى الآن للمستويات المركزية.

• ولقد كنت طوال حياتي الوظيفية رجل آمن يؤمن بمركزية الأمن بصفة خاصة واستمر اقتناعي بأهمية مركزية الأمن عندما بدأ دوري السياسي كوزير للداخلية ولكنني بعد أن شغلت منصب وزير الحكم المحلي لمدة عامين ونصف وأحطت برسالة هذا النظام وتجولت في أنحاء المحافظات المختلفة أصبحت على يقين كامل بأن المنطلق الفعال والمثمر للعمل السياسي والاجتماعي يبدأ من القرية والمدينة والمحافظة وأن نظام الإدارة اللامركزية هو النظام القادر على تفجير طاقات المواطنين ليتخلوا عن ذلك المفهوم السائد بأن الدولة هي التي يجب أن تقوم بكل شيء أن تقوم بكل شيء من الألف إلى الياء وأن دورهم الوحيد يتحدد أولا وأخيرا في أن يطلبوا وعلى الدولة أن تجيب كل ما يطلبونه ولكن الواقع والإمكانات والمقدرة لدى الدولة مهما تعاظمت ستعجز عن التلبية في عصر تعاظمت وتتعاظم أكثر وأكثر كل يوم الاحتياجات التي تشبع جميع الرغبات وتتوازن مع متطلبات التغيير.

• كان الاقتناع بهذا المفهوم هو الدافع وراء انعقاد المؤتمر القومي الحكم المحلي السالف الإشارة إلى لطرح قضايا هذا النظام المحلة على الرأي العام بصفة عامة وعلى المؤسسات التنفيذية والسياسية بصفة خاصة ثم كان بعد ذلك تشكيل اللجنة العليا للتنمية المحلية التي أشرنا إلي المحلي تأكيدا للدور الشعبي في قضية التنمية في مجالاتها الإنتاجية والخدمية على السواء كذلك تأكيد لأهمية هذا الدور في ترسيخ البعد الديمقراطي.

أسبح ضد التيار

• وأذكر في إحدى المناسبات وكنت اؤكد على دور المؤسسات المحلية في اجتماع وزاري وإذا بأحد الزملاء يعلق قائلا: أنت تسبح ضد التيار ولعل هذا التعليق في حد ذاته يوضح إلى أي مدى مازال الاقتناع بنظام الإدارة المركزية يسيطر على العقول وأن جهود أكثر ما زالت مطلوبة حتى يسود الاقتناع بجدوى المؤسسات المحلية وإنها المنطق الميداني القادر على أحداث التغيير الشامل إلى الأفضل.

• ولعل مثلا وحيدا يؤكد ما نطرحه حول هذا الموضوع في هذه المنطقة بالذات وأعني بها الإيمان بجدوى نظام الإدارة اللامركزية بمؤسساتها المحلية في عملية التنمية على وجه التحديد ويأتينا هذا المثل من كوريا الجنوبية وقدي ناقشت هذا الموضوع مع القنصل الكوري العام في القاهرة بمناسبة دعوة وجهت لي لزيارة بلده ولم تتم مع الأسف لقد نفذت هذه الدولة مشروعا قوميا للتنمية عماده الأول مشاركة المواطنين فيه وعهد إلى المؤسسات المحلية وضع خطة على المستوى المحلي والإقليمي تشتمل على مشروعات إنتاجية وخدمية تخدم البيئة وتتواءم مع إمكاناتها وطبيعتها ويكون للمواطنين المحليين على مستوى القرية والمدينة الدور الرئيسي في تحديد ماهية هذه المشروعات ويقتصر دور الدولة بمؤسساتها المركزية على المساهمة في خمس الكلفة الاستثمارية بينما يتحمل المواطنون المحليون أربعة أخماس هذه التكلفة ثم يعهد بإدارة هذه المشروعات للمواطنين المحليين أنفسهم بناء على محض اختيارهم وتأكيد لتوفير الخبرات المناسبة والعمالة الفنية اللازمة فقد أنشئت مراكز تدريب في عدد كبير من القرى وأذكر أن تنفيذ هذا المشروع استغرق عشر سنوات حتى غطى جميع أنحاء كوريا الجنوبية والمعروف أن هذه الدولة حققت طفرة كبيرة في مجال التطور الاقتصادي وبلغ حجم تصديرها أخيرا ما يقرب من 50 مليار دولار.

2- نأتي بعد ذلك للقيادات التنفيذية بالمؤسسات المحلية وهي لها دورها المؤثر في فاعلية النظام وقدرته على اجتذاب ثقة المواطنين وتفجير طاقاتهم للإسهام بدورهم في تطوير مجتمعاتهم المحلية وتلبية احتياجات مواطنيها وفي كثير من الدول يتم انتخاب هذه القيادات انتخابا مباشرا على مختلف المستويات حتى مستوى المحافظ.

انتخاب رئيس القرية كبداية

• وإذا كان التطور السياسي والاجتماعي في مصر مازال يحتاج إلى مزيد من التفاعل الإيجابي فإن من المعتقد أننا يجب أن نبدأ أولى مراحل اختيار هذه القيادات بالانتخاب وأتصور أن انتخاب رئيس القرية يمكن أن يكون البداية لهذا الأسلوب في الاختيار وبعد أن يتأكد نجاح التجربة وتتعمق جذورها لمرحلة مناسبة يمكن أن تمتد إلى خمس سنوات تمتد بنفس الأسلوب إلى مستوى رؤساء المدن والأحياء ليتم اختيارهم بدورهم بنظام الانتخاب وبعد خمس سنوات أخرى يمتد الأسلوب إلى مستوى المحافظة ليتم اختياره هو الآخر بالانتخاب.

• وخلال هذه الفترة التي ستمتد إلى عشر سنوات بعد بداية الآخذ بهذا الأسلوب على مستوى رئيس القرية سيكون قد مضى على تنفيذ نظام الإدارة المحلية في مصر ويقتدي بدول أخرى كثيرة أخذت بهذا المبدأ تحقيقا للفلسفة الواقعية التي يستهدفها النظام يضاف إلى كل ذلك أن تعداد السكان بعد هذه الفترة سيكون قد وصل إلى حوالي 75 مليون نسمة بكل ما يعنيه ذلك من تعقيدات أكثر وتعاظم أكثر وأكثر في الاحتياجات والتطلعات والتطور التلقائي.

معوقات بيروقراطية

• ولعلي أضيف إلى ما سبق أن الأخذ بنظام الانتخاب على مستوى القيادات التنفيذية بمؤسسات الإدارة المحلية يمكن أن يسهم في معالجة جانب هام من الأسلوب البيروقراطي الذي يتعارض تماما مع مهام ودور هذه المؤسسات الشعبية.

2-نأتي بعد ذلك للمعوق الثالث الذي يمثل في الأسلوب المأخوذ به لانتخاب أعضاء المجالس الشعبية الذي يقضي بإجراء انتخابات تلك المجالس طبقا للقوائم الحزبية التي حصلت على الأغلبية المطلقة لعدد الأصوات الصحيحة.

  • ومن مؤدي الأخذ بهذا الأسلوب أن المجالس الشعبية تأتي في النهاية ممثلة لاتجاه سياسي واحد الذي حصلت قائمته على الأغلبية المطلقة وليس من نافلة القول أن هذا المنطق يؤدي في كثير من الأحيان إلى نتائج سلبية فهو أولا يضعف من التفاعل الطبيعي بين المجلس الشعبي أيا كان مستواه وبين جميع المواطنين في المجتمع المحلي للمجلس حيث يعتمد تمثيله لهم على شريحة واحدة التي حصلت قائمتها على الأغلبية المطلقة وثانيا من مؤدي ذلك تلقائيا ضعف القدرة على تعبئة المجهودات الشعبية حول قضايا التنمية ولا يتيح تعدد الآراء حول القضايا المطروحة للمناقشة بما يؤثر على سلامة موضوعية الرأي النهائي بشأنها وثالثا: فإن عدم تمثيل تلك المجالس للقوى والاتجاهات السياسية المختلفة فيه أضعاف الممارسة الديمقراطية على هذا المستوى القاعدي المتسع الذي يعتبر بحق المدرهة الحقيقة للممارسة الديمقراطية الميدانية التي تصقل التجربة وتخرج الكوادر الحزبية التي تثري العمل الحزبي والسياسي بصفة عامة.

الانتخاب الفردي أفضل

• واعتقد أنه من المناسب كثيرا أن يؤخذ بنظام الانتخاب الفردي لعضوية المجالس الشعبية بعد وضع الضوابط التي تحطم هذا النظام ومن المؤكد أن الأخذ بالنظام الفردي في الانتخاب سيؤدي إلى إفراز أفضل العناصر لعضوية هذه المجالس على مستوى جميع الأحزاب السياسية الشرعية وسيضاعف من قدرة هذه المجالس على اجتذاب ثقة المواطنين إلى التجاوب الإيجابي مع متطلبات ومصالح مجتمعاتهم المحلية.

3- تبقى في النهاية مسئولية الأحزاب السياسية الشرعية لكي تقتنع بأن الممارسة الديمقراطية ليست مجرد جدل كلام ومعارضة للحزب الذي يحكم وليست أيضا ديمقراطية مركزية تتركز دائرة حركتها ونشاطها في القاهرة وانعكاساتها الباهتة على عدد ضئيل من كوادرها في أنحاء متفرقة من الجمهورية وإنما يجب أن يبدأ العمل السياسي من الميدان هناك في النجع والقرية والمدينة والمحافظة لكي تكون الحركة السياسي في مجملها نابعة من ضمير المواطن العادي واقتناعه بجدوي العمل السياسية في مجملها نابعة من ضمير المواطن العادي واقتناعه بجدوى العمل السياسي ثم لكي تحقق الديمقراطية غايتها الأولى والأخيرة لتطوير المجتمع إلى الأفضل ولعل أقول في النهاية إن أسلوب ومنطق العمل الحزبي في إطار مفهوم الديمقراطية المركزية هو الذي فتح الباب على مصراعيه لذلك النمو السرطاني الذي تحققه القوى غير الشرعية وفي مقدمتها التيار المتطرف تحت الشعار الديني.

بجميع أجنحته الإرهابية وهو أيضا أحد أيضا أحد أسباب ما يثار عن أزمة الديمقراطية التي نتحدث عنها في الجزء التالي.

-11-

أزمة الديمقراطية في مصر

ونصل الآن إلى الجزء الأخير من هذه المذكرات لنتحدث فيه عمار يثار عن أزمة الديمقراطية في مصر وأسارع إلى تأكيد نقطة هامة ذلك أنني أعرض وجهة نظر شخصية من منظور أمني وسياسي حول هذه النقطة ولا أدعي للحظة واحد أنها هي اجتهادي قد يضاف على اجتهادات أخرى كثيرة قد يكون بعضها متفقا في الأساس والمنطق وقد يكون البعض الآخر، متعارضا من زوايا كثيرة أم قليلة بحكم الموقف السياسي أو الانتماء الطبقي ولكل امرئ مانوي.

• وكما قلت سابقا فقد يتعجب البعض من أن رجل أمن سابقا يركز على التطبيق الديمقراطي في مذكرات يكتبها ويعرضها للرأي العام بأكمله ولكنني أعود ثانيا لأؤكد أن هذا التوجه لم يأت عرضا وإنما هو يقين ترسخ غذته تجارب ومعايشة لأحداث جسام كان من المحتم بحكم الموقع الأمن وبعده الموقع السياسي التعمق في مقدماتها وخلفياتها تشخيصا لأصل الداء ليتأكد في يقين كاتب هذه السطور أن مصر تقف الآن في مفترق الطرق فإما تأكيد للشرعية الدستورية ووصول للتطلعات والآمال بالمنطق الديمقراطية وإما اندفاع إلى المجهول الذي لا يعلم أنواءه ومغباته إلا الله سبحانه وتعالى.

• وأتصور أنه من الأهمية كثيرا قبل أن نستطرد في استعراض ما يثار حول أزمة الديمقراطية في مصر أن نعرض لحقيقتين هامتين تمثلان مدخلا مناسبا لتناول هذا الموضوع من زواياه المختلفة:

أولا: الارتباط الوثيق بل والعضوي بين الشرعية الدستورية وبين الممارسة الديمقراطية فلا يمكن أن تزدهر ممارسة ديمقراطية وتؤكد البناء الديمقراطية في ظل تقلبات سياسية تسعى إلى هدم الشرعية الدستورية وتصر عليها قوى سياسية تعمل خارج إطار القنوات الشرعية ويزداد الأمر خطورة إذا تغافلت القوى السياسية الشرعية عن هذه الحقيقة في مناوراتها الحزبية إلى تشجيع العمل غير الشرعي بأسلوب مباشر أو غير مباشر تحت أي حجة فإنها تصيب الديمقراطية في مقتل وتعوق من تطور نموها.

الاستفتاء على مبارك...

ثانيا: ثم الحقيقة الثانية التي تجسدها دلالات الاستفتاء الذي أجرى لانتخاب الرئيس مبارك في أعقاب اغتيال الرئيس الراحل السادات فقد أجرى هذا الاستفتاء بعد فترة قصيرة من أزمة سبتمبر سنة 1981 وكانت بحق أزمة سياسية طاحنة كادت تقتضي على المساحة المتبقية من الممارسة الديمقراطية ثم إنه أجرى في ظل أوضاع داخلية مهتزة وبالغة الخطورة في أعقاب اغتيال رئيس الجمهورية الراحل ومحالة إشعال ثورة شعبية وهدم الشرعية الدستورية ولكن قطاعات الشعب المصري بأكملها أقبلت على هذا الاستفتاء كما لم يحدث من قبل لتقول لا للتأمر والإرهاب وتعلن في حسم واضح أنها مع الشرعية الدستورية وتنتخب الرئيس مبارك بتأييد شبعي يقترب إلى حد كبير من التأييد الذي حظيت به ثورة يوليو فور قيامها وهي دلالة لا يجرد أبدا أن يغب مغزاها لكي يتأكد لجميع القوى السياسية أو الوجدان الشعبي العام لن يرضى بغير المنطق الديمقراطي بديلا.

والآن بعد استعراض هاتين الحقيقتين فإننا نناقش الزوايا التي تثار حاليا عن أزمة الديمقراطية في مصر وحتى تأتي هذه المناقشة في صورة شاملة ومعبرة عن أسباب الأزمة الواقعية فإننا لابد أن نتناول بالتفصيل مواقف الأطراف المؤثرة في أبعاد التطبيق الديمقراطي بالإيجاب والسلب لنصل في النهاية إلى التشخيص القريب من الحقيقة بقدر الإمكان وهو ما نتناول فيما يلي:

أولا: طرف السلطة التنفيذية:

• فقد حرص الرئيس مبارك منذ توليه السلطة أن يؤكد بالقول والفعل إيمانه الثابت بالأسلوب الديمقراطي كأساس للحكم وإطار يحكم الحركة السياسية في البلاد وبالرغم من الأزمة الديمقراطية التي تعرضت لها الحركة السياسية في أعقاب قرارات سبتمبر ثم الأوضاع الداخلية الخطيرة التي سادت البلاد بعد تفجر أحداث أكتوبر والتي كانت يمكن أن تكون مبررا كافياي ومقنعا لتأجيل الممارسة السياسية بالأسلوب الديمقراطي فإن الرئيس مبارك حرص بعد أيام قلائل من تلك الأحداث على إجراء مصالحه سياسية مع جميع القوى السياسية الشرعية وفتح الباب للحركة الحزبية لتمارس دورها السياسي في ظل مناخ داخلي مستقر وهيأ لوسائل إعلامها حرية تعبير كاملة ليس عليها أدنى رقيب.

• ومنذ ذلك الوقت لم تضع السلطة الشرعية أمام العمل الحزبي المشروع أي عوائق تحد من حركته السياسية أو تحاصر وسائل إعلامه أو تمنع اتصاله بالجماهير لاقتناعها بمنهجها أو فكرها.

ملاحظات للقوى السياسية

• ومع ذلك فثمة ملاحظات تثيرها بعض القوى السياسية وتنسبها إلى السلطة الشرعية وتسعى إلى التأكيد بأنها من أسباب الأزمة التي تعترض المسار الديمقراطية والتي نحاول من جانبنا أن نناقشها في النقاط التالية:

1- ما يثار حول رئاسة الرئيس مبارك للحزب الوطني الديمقراطي بدعوى أن ذلك الوضع يعطي ثقلا خاصا لهذا الحزب ولا يحقق مبدأ تكافؤ الفرص بين الأحزاب المختلفة.

• ولعل أصدق وصف لهذا الرأي أنها دعوى حق يراد بها باطل فالرئيس مبارك تولي رئاسة هذا الحزب خلفا لرئيسه السابق بإجراء حزبي سليم ثم حظي بأغلبية شعبية كبيرة في الاستفتاء على رئاسته للجمهورية والذي كان طبقا لجميع المؤشرات بمثابة استفتاء تاريخي عبرت من خلاله الأغلبية عن توجهاتها وقناعاتها.

• ثم ما هي السوابق العالمية في اعرق الدول الديمقراطية التي تحول دون رئاسة رئيس الدولة للحزب؟ في فرنسا مثلا لم يتخل الرئيس ميتران عن رئاسته للحزب الاشتراكي وفي أمريكا لا يتخلى رئيس الدولة عن حزبه الذي جاء به إلى الحكم وفي انجلترا لم تتخل مسز تاتشر رئيسة الوزراء وهي السلطة الفعالة في انجلترا عن رئاستها لحزب المحافظين.

لا توجد أدنى مبررات منطقية للخلط بين الدور القومي لمنصب رئيس الجمهورية وبين دوره السياسي كرئيس لحزب سياسي وإذا نظرنا إلى الموضوع نظرة مجردة مستقلة فإن الأغلبية البرلمانية هي التي سترشح طبقا للدستور الرئيس الذي يتم استفتاء الشعب عليه، ومن المؤكد في أغلب الأوقات أن ينتخب الرئيس الذي يمثل الأغلبية الشعبية التي جاءت بهذه الأغلبية البرلمانية فما القول إذا فرضنا أن حزب الوفد أو حزب التجمع مثلا حصل أيهما على الأغلبية المطلقة مستقبلا؟

مبدأ تكافؤ الفرص...

• وإذا كان الأسلوب الديمقراطية قد تحدد أساسا للحكم وإطارا للحركة السياسية وإذا كان قد تحقق واقعيا للأحزاب الشرعية حرية الحركة الحزبية وحرية الرأي وحرية الاتصال بالجماهير فأين معوقات مبدأ تكافؤا الفرص التي يثيرها أصحاب هذا الرأي؟ أتصور من جانبي أنها مجرد شماعة تسعى بعض الأحزاب إلى تعليق جانب من أسباب ضعفها الحزبي عليها وهو ما سنتحدث عنه تفصيلا عندما نتحدث عن مسئولية الأحزاب كطرف ثان في التطبيق الديمقراطي.

2- ما يثار حول دور لجنة الأحزاب والقيود التي تضعها أمام حرية تكوين الأحزاب بما يمثل قيدا على حرية العمل الحزبي بصفة عامة ويحد من انطلاق الممارسة الديمقراطية بصفة خاصة .

• وقد تشكلت هذه اللجنة منذ مرحلة حكم الرئيس الراحل السادات وحدد القانون طرقة تشكيلها ومهمتها في التصريح أو الاعتراض على تشكيل أي حزب طبقا لنصوص الدستور وجعل قرارها خاضعا للرقابة القضائية أمام دائرة خاصة ذات تشكيل خاص وكان واضحا بأن الفلسفة التي حكمت مهمتها تنحصر في وضع ضوابط تنظيم الحركة الحزبية تحسبا من الانطلاق في تكوين أحزاب وهمية لا يخدم وجودها الهامشي على الساحة السياسية التطبيق الديمقراطي في جوهره في هذه المرحلة المبكرة.

• ومذ تولي الرئيس مبارك مسئولية الحكم ظهر على الساحة السياسية حزب الوفد أولا ثم حزب الأمة ثانيا وأخيرا منذ عام ثلاثة أحزاب أخرى.

أحزاب ليس لها وجود.!!

• ومن منطلق وجهة نظر شخصية فيما يتعلق بالنتائج التي أسفر عنها التطبيق الواقعي لدور لجنة الأحزاب فإنه مع أهمية دورها من حيث ضوابط تشكيل الأحزاب طبقا لما يقضي به الدستور إلا أو الواقع يقول شيئا أخر فقد ظهر على الساحة حتى الآن عدد من الأحزاب الجديدة التي لا تمثل في حقيقتها تيارات سياسية لها وجود في الشارع ومها كثر مثل هذه الأحزاب فإنها لن تخدم في النهاية الممارسة الديمقراطية المثمرة، ولن تستطيع أن تجذب اهتمام وثقة المواطن العادي بما يثري الحركة السياسية بصفة عامة والحركة الحزبية بصفة خاصة.

• ولعل من المجدي الآني أن تتوسع هذه اللجنة في الترخيص بالأحزاب التي تمثل تيارات سياسيا شرعيا لا يتعارض مع الدستور في برامجه وأهدافه مع توافر عنصر الجدية في تشكيله وقد أضيف إلى ذلك أنه كلما وجدت أحزاب لها وجود قاعدة في الشارع السياسي فإن ذلك وحده كفيل بتلاشي أي أحزاب أشخاص أخرى هامشية تلقائيا فإن بذلك وحده كفيل بتلاشي أي أحزاب أشخاص أخرى هامشية تلقائيا كذلك فإن مثل تلك الأحزاب هي القادرة على حصار ذلك النمو السرطاني للتيار المتطرف الإرهابي ولعل كمواطن أتمنى في نفس الوقت لصالح الممارسة الديمقراطية نفسها أن تسفر هذه الممارسة في النهاية عن وجود ثلاثة أحزاب أو أربعة لها كياناتها الحقيقية القادرة على إثراء الحركة السياسية والحزبية بصفة عامة والقادرة في نفس الوقت على ترسيخ المفهوم الديمقراطي على المستوى الجماهيري العام تأكيدا للشرعية والاستقرار بصفة خاصة.

3- ما تثيره أحزاب المعارضة بإصرار ومبالغة حول العملية الانتخابية سواء من حيث نظام الانتخاب أو من حيث سلامتها وتدخل السلطات التنفيذية فيها بالتلاعب والتزوير.ط

• ولعي أسارع هنا لكي أؤكد أنه لا أحد ينكر أهمية العملية الانتخابية فيما يتصل بسلامة التطبيق الديمقراطي بصفة عامة بجانب أنها تمثل الأسلوب الشرعي الذي يمارس الشعب من خلاله دوره في المشاركة في القرار عن طريق ممثليه الشرعيين كذلك أحداث التغير الذي يرتضيه بالمنطق الديمقراطي ومن خلال القنوات الشرعية.

الانتخابات قبل يوليو وبعدها

• ولقد تحدثنا سابقا عن العملية الانتخابية قبل ثورة يوليو أتينا الدليل القاطع كيف كانت عملية صورية في أغلب الأوقات وكيف كانت السلطة تتلاعب فيها بكل أساليب القهر والتزوير لصالح أحزاب الأقلية التي حكمت غالية الوقت منذ بداية الحياة البرلمانية بعد دستور 1923 حتى قيام ثورة يوليو 1952 وتحدثنا كذلك عن نظام الانتخابات في إطار التنظيم السياسي الواحد خلال مرحلة ثورة يوليو حتى وفاة الرئيس الراحل عبد الناصر وكيف أنها بدورها كانت عملية شكلية تتناقض مع جوهر فلسفة العملية الانتخابية.

ثم تحدثنا عن الانتخابات التي تمت في عهد الرئيس الراحل السادات خلال عام 1976 والتي نجح فيها 12 عضوا فقط من المعارضة وأعلن أن نسبة الحضور فيها كانت 93% كذلك انتخابات عام 1979 والتي سقط فيها أقطاب المعارضة جميعا وكانت نسبة الحضور فيها تزيد هي الأخرى على 95%

• ومنذ تولي الرئيس مبارك مسئولية الحكم أجريت أربعة انتخابات عامة مرتان للانتخابات التجديد النصفي لمجلس الشورى عامي 83 ، 86 والثالثة انتخابات مجلس الشعب عام 1984 والرابعة انتخابات مجلس الشعب مرة ثانية عام 1987 بعد الحكم بعدم دستورية قانون الانتخابات التي تمت على أساسه انتخابات عام 1984.

• وقد أركز في حديثي عن العملية الانتخابية على دلالات انتخابات مجلس الشورى عام 1983 ومجلس الشعب عام 1984 فقد كنت وزيرا للداخلية في تلك الفترة ولكنني أيضا سأشير في النهاية إلى دلالات انتخابات عام 1987 لتكون المقارنة دليلا قاطعا على مدى التغيير الإيجابي الذي لحق بالعملية الانتخابية والذي تصر أحزاب المعارضة على إنكاره وطمس حقائقه:

دلالات إيجابية

• كانت انتخابات مجلس الشوري عام 1983 من طرف واحد حيث قاطعتها أحزاب المعارضة احتجاجا على إجراءها بنظام القوائم المطلقة ولقد أجريت هذه الانتخابات رغم عن ذلك في حرية مطلقة دون أي ضغط على الناخبين أو محاولات من جانب الأجهزة التنفيذية للتلاعب في نتائجها بأي صورة بل وصل الأمر إلى أن أجهزة الأمن قامت بضبط عدد من أعضاء اللجان الفرعية الذين حاولوا التلاعب في التذاكر الانتخابية وقدمتهم للنيابة العامة وأعلنت النتيجة العامة لهذه الانتخابات والتي خاضها الحزب الوطني بمفرده وكانت 51% لتنهي بذلك أسطورة انتخابات ما وفق التسعين في المائة التي سادت طوال الثلاثين عاما السابقة ولقد أوضحنا فيما سبق كلمة كاتبنا الكبير نجيب محفوظ التي أشاد فيها بتلك الانتخابات واعتبرها نقطة تحول في الممارسة الديمقراطية السليمة.

• فيما يتعلق بانتخابات عام 1984 فقد كانت نسبة الحضور فيها التي أعلنت 43 % وأوضحنا في الجزء الخاص بالانتخابات رأي عدد من القيادات الإعلامية الداخلية ورأى وكالات الأنباء والصحافة العالمية في جميع دول العالم شرقها وغربها في هذه الانتخابات وكيف وصفت إنها بجميع المقاييس تعتبر أنزه انتخابات تمت في تاريخ مصر الحديث وتؤكد إصرار المقاييس تعتبر أنزه انتخابات تمت في تاريخ مصر الحديث وتؤكد إصرار نظام الرئيس مبارك على المضي قدما في التطبيق الديمقراطي السليم.

60 معارضا يدخلون المجلس....

  • وتبقى في النهاية حقيقة جديرة بالمناقشة فقد فاز في هذه الانتخابات من أحزاب المعارضة ستون عضوا يمثلون حزب الوفد الذي تحالف مع جماعة الإخوان بينما عجزت الأحزاب الأخرى عن الحصول على نسبة ال8% التي حددها قانون الانتخابات بنظام القوائم النسبية وكان أقربها للوصل إلى هذه النسبة هو حزب العمل الذي حصل على نسبة 7,8% وهي المرة الأولى منذ بدأت الحياة البرلمانية في مصر بعد دستور 1923 التي تحصل فيها المعارضة على هذا العدد من العضوية بالمجلس النيابي وفي جميع الانتخابات السابقة على ثورة يوليو لم يحصل حزب الوفد صاحب الأغلبية الشعبية في ذلك الوقت على أكثر من اثنا عشر مقعدا وكان في مرات كثيرة لا يحصل على أكثر من مقعد واحد ونفس الأمر عندما كان حزب الوفد يحكم في المرات القليلة التي وصل فيها إلى الحكم فلم تحصل أحزاب الأقلية المعارضة له على عدد من المقاعد يزيد على أصابع اليد والواحدة.

وإذا انتقلنا إلى مرحلة ما بعد ثورة يوليو فلم تكن هناك أحزاب معارضة ليكون لها ممثلون في المجالس النيابية في عهد الرئيس الراحل السادات لم يزد عدد أعضاء المعارضة في المجلس النيابي على خمسة عشر عضوا سواء في انتخابات 1976أو 1979

• وفي انتخابات عام 1987 ولا أتعرض لتفصيلاتها إلا من حيث نتيجتها فقد كنت قد تركت موقعي الوزاري قبل ذلك في نوفمبر عام 1986 فقد كانت نسبة الحضور فيها 67% ونجح من أحزاب المعارضة حوالي تسعين عضوا كما لم يحدث من قبل أيضا في أي انتخابات قبل ثورة يوليو أو بعدها حتى نهاية حكم الرئيس الراحل السادات.

حرية التعبير

• والآن أليس هناك أي دلالة لنجاح هذا العدد الكبير من ممثلي المعارضة في انتخابات عامي 84، 87 كما لم يحدث قبل ولاية الرئيس مبارك ألا يشير ذلك إلى حرية التعبير عن الرأي قد قفزت خطوات وخطوات إلى الأمام؟ ألا يدل ذلك على أن السلطة التنفيذية قد ألتزمت حيادا أكثر وأكثر عن ذي قبل؟ ألا يؤكد ذلك أن الإشراف القضائي على الانتخابات يمارس دوره وفاعليته؟ ثم إذا كان النظام بسلطاته التنفيذية يمارس نفس الأسلوب القديم وقد استمر ما يزيد على نصف قرن بين عامي 23، 84 فلماذا لم يصر على نسبة التسعين في المائة وما فوقها؟ ولماذا لم يحاصر أحزاب المعارضة ويمنع فوزها بهذا العدد الكبير من العضوية كما لم يحدث من قبل أليس كل ذلك دليلا على أن حرصا أكبر على لسلامة التطبيق الديمقراطي قد تحقق ويحتاج إلى تنميته والحفاظ عليه وإلى متى نصر في توجهاتنا السياسية على طمس الحقائق لمجرد الهوى والمصلحة الحزبية القريبة وتغمض أعيننا عن المستقبل وما يفرضه من حرص أكثر على كل إيجابية تحقق نموا مطردا في التطبيق الديمقراطي؟

• ومع ذلك فلا ادعي للحظة واحدة أن العملية الانتخابية بريئة من كل العيوب فما زال الوعي السياسي بأهميتها من حيث الإقبال عليها أو القدرة على الاختيار السياسي ضعيفا ولا زالت العصبيات والقبليات تحدث تأثيرها الغالب في الريف بصفة خاصة وكثيرا ما ينطلق منها بعض عمليات الشغب التي تتخلل العملية الانتخابية ولكن ذلك له تفصيلاته في مسئولية الطرف الثاني عن الممارسة الديمقراطية الذي ننتقل للحديث عنه.

رأيان لكاتبين كبيرين..

ثانيا: طرف الأحزاب السياسية.

• لعي اختصر على نفسي الحديث عن دوري هذا الطرف فيما يثار عن أزمة الديمقراطية في مصر فاعرض رأيين لكاتبين كبيرين يمثل كلاهما اتجاها مغايرا للآخر فاعرض وجهة نظر أثارها الكاتب الكبير خالد محمد خالد ووجهة نظر أخرى أثارها الكاتب الشجاع والساخر صلاح حافظ حول المعنى الذي نحن بصدده أنقل حرفيا ما ذكره كلاهما في الآتي:

• كتب الأستاذ خالد محمد خالد في مقالة الأسبوعي بجريدة الوفد الصادرة يوم 28 إبريل عام 1988 ضمن سلسلة مقالات تناول الحركة الحزبية في مصر انتقد فيها توجيهات ومسارات هذه الحركة وفي مقدمتها الحزب الوطني الحاكم الذي نسب غليه المعارضة بما نصه الآتي أن العمل السياسي الناجح لا يكون كذلك ما لم يتوافر له الفهم والتجرد والشجاعة وفن التوقيت وتجهيز البذائل والقدرة على المبادرة والمهارة في تنظيم صفوف الجماهير والاعتماد الوثيق على النفس فبالفهم السديد يمكن رؤية الواقع في وضوح والتجرد يهدينا بالإخلاص والصدق إلى سواء السبيل وبالشجاعة نواجه قضايانا دون تردد وتلعثم وهروب وفن التوقيت يمكننا من توظيف الجهد المناسب للوقت المناسب فلا يكون هناك وقت ضائع ولا فراغ موحش ولا جهد مهدر وتجهيز البدائل يعني أننا إيجابيون وإننا نهدم لنبني وليس الكلام وحده بضاعتنا المزجاة بل نملك خططا وأعمالا ومناهج لا نبدو من خلالها معارضين فحسب بل حكومة الظل التي تعد نفسها في غير يأس وإحباط ليوم يدعوها الشعب فيه لتحقيق ما عجز عنه الآخرين ثم يمضي الكاتب في حديثه عن موقف المعارضة من تجديد قانون الطوارئ ومعارضتها لإصدار قانون خاص لمكافحة الإرهاب فيقول ما نصه .

فلا يعقل مثلا أن تخرج جريدة معارضة تنطق باسم حزب معارض غداة الهجوم بالجنازير والخناجر ثم غداة تجديد قانون الطوارئ مرصعة صفحتها الأولى وبخط ضخم لكاتب نحترمه بهذا العنوان قانون الطوارئ المقصود به الجماعات الإسلامية ماذا يكون التحريض إذا لم يكن هذا أني على أدنى الفروض ليست قارئا غبيا ولست كذلك أيضا في متابعة العمل السياسي في بلدي ومع هذا فإني أقسم بالله أنني حتى اليوم لم أتبين تماما هل المعارضة مع الإرهاب أم ضده وكونها من الإرهاب احتمالا لا يعني أنه أسلوبها الدائم ومنهجها العام بل يكفي أن تؤيده أو ترحب به مؤقتا ومرحليا ليشفي صدرها ويحل مشاكلها مؤقتا ومرحليا كذلك انتهى بذلك تعليق الكاتب الكبير خالد محمد خالد.

ليس نصرا نهائيا أو هزيمة نهائية....

• أما الأستاذ صلاح حافظ فقد كتب في مقاله الدوري بجريدة أخبار اليوم الصادرة بتاريخ 4/8/ 1990 تحت عنوان السياسة في المحكمة تعليقا على الجدل السياسي حول سلامة إجراء استفتاء على حل مجلس الشعب من عدمه ما نصه الآتي المسألة بالنسبة إلينا بالغة البساطة مطلوب أن ندعي إلى انتخاب مجلس شع جديد ولو أن الأحزاب تمثلنا حقا لكانت هذه هي المسألة بالنسبة إليها أيضا وشرعت تعد نفسها وتطرح برامجها وتعلن لنا عن مرشحيها وتخاطبنا في السياسة لا في القانون وفي رغيف الخبز والديون وزرع الصحراء ومقاومة الفساد ومصائر أبنائنا في الخارج وقضية الانفجار السكاني ومحو الأمية لا في البطلان والانعدام وسلامة الإجراءات وتنازع الاختصاصات والدفوع الأساسية من الفرعية وإنما ما يعنينا أصلا هو مجلس شعب يمثلنا ويعكس على قدر الإمكان سياسة ترضينا وهذا الذي يعنينا قضية سياسية لا قانونية والسياسية كما نعلم هي التي تصنع القانون لا العكس وهي صراع بين المصالح والعقائد والفرق والجماعات وهدف الديمقراطية هو ألا يقود هذا الصراع إلى حرب أهلية وأن يستمر بوسائل سلمية وأدوات السياسة هي الدعوة والدعاية والتفاوض والمساومة والتحالف بين المصالح والأفكار المتضاربة ولي فيها نصر نهائي أو هزيمة نهائية فالكفة التي ترجح وتحكم لا تلغي وجود الكفة المرجوحة المعارضة ولا يسود عمليا إلا ما يتعارف عليه الجميع ويصوغونه في هيئة قوانين تحكم علاقات الأفراد فيقول لماذا تفعل الأحزاب ذلك هل السبب أنها عاجزة عن العمل السياسي ومنفصلة تماما عن الجماهير بحيث لا تملك إلا توكيل المحامين لكسب قضاياها في المحكمة بدلا من كسبها في الشارع انتهى بذلك النص المأخوذ عن مقالة الأستاذ صلاح حافظ.

الحزب الوطني الديمقراطي هل قام بدوره..!!

ولكن لنا بعد هذين النصين تعليقا على ممارسات الأحزاب السياسية التي يمكن أن تشكل في مجملها كثيرا من أسباب ما يثار عن أزمة الديمقراطية في مصر ونتناولها في النقاط التالية:

1- لعلي أفضل أن أبدأ هذا التعليق على ممارسات الحزب الوطني الديمقراطي الذي يحظى بأغلبية شعبية ملحوظة حتى الآن تأكدت واقعيا وكذلك في الانتخابات البرلمانية السابق الإشارة إليها وبالرغم من ذلك فإن حركة هذا الحزب بين الجماهير بالأسلوب الحزبي السليم ما زال ينقصها كثير من الفاعلية والانتشار والقدرة على خلق الكوادر الحزبية القادرة على الإقناع والاستقطاب الحزبي المستند إلى العقيدة والمنهج أكثر من استناده إلى السلطة والنفوذ.

2- ولا يجدي حزب الأغلبية أن يعتمد على إنجازات الحكومة في دعايته الحزبية خصوصا قبل وأثناء الانتخابات العامة فإن دوره السياسي في الشارع والقرية والمدينة وعلى المستوى الجماهيري العام أكبر وأخطر كثيرا من التوازن السياسي والاجتماعي على الساحة الداخلية ثم إنه بحكم أغلبيته الشعبية التي يحظى بها القادر عل ضبط إيقاع النمو الديمقراطي ليسير في قنواته الشرعية حتى يترسب في الوجدان الجماهيري العام كأسلوب حياة وأخيرا فهو الحزب الذي يجب أن تثمر حركته السياسية بين الجماهير على إيقافه ذلك النمو السرطاني الذي تحققه أجنحة التطرف الإرهابي الذي يهدد الشرعية والديمقراطية معا.

• أتصور أنه لا يوجد تفسير منطقي لتلك الظاهرة التي تتجسد في السنوات الأخيرة عندما تمكن التيار السياسي تحت الرداء الديني من الانفراد بعضوية عدد من مجالس إدارات النقابات المهنية لكي تستغل بعد ذلك في نشر هذا الفكر على المستوى القاعدي لهذه النقابات الذي يمثل عماد المسرح السياسي والقاعدة الفعالة في الحركة الثقافية والسياسية في المجتمع ويحدث كل ذلك في غيبة ملحوظة لدور الحزب الوطني الديمقراطي وكأن الأمر لا يعنيه.

• وليس من قبيل المبالغة إذا قلنا إن المسئولية السياسية لا يقتصر دورها على لحظة الحاضر فقط وإنما تتعاظم هذه المسئولية فيما تجهز له وتسعى إليه لضمان استقرار المستقبل أيضا.

أحزاب المعارضة.

3- وإذا انتقلنا إلى مسئولية أحزاب المعارضة فإن دورها ومسئوليتها لا يقلان أهمية عن دور مسئولية الحزب الوطني الديمقراطي ولعلي أسوق مثالا قريبا يؤكد إلى أي مدى يمكن أن تتأزم الممارسة الديمقراطية نتيجة تجاهل أحزاب المعارضة خطورة حركة القوى غير الشرعية على الساحة السياسية ذلك أن المعارضة خلطت بين مواقفها المعارضة لسياسات النظام الداخلية والخارجية قبل أحداث أكتوبر عام 1981 وبين مواقفها المؤيدة بصورة مباشرة أو غير مباشرة لحركة أجنحة الإرهاب التي تصاعدت بشكل ملحوظ خلال تلك الفترة وظهر الموقف في النهاية وكأن هناك توافقا بين الجميع وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية الكامنة خلف إصدار قرارات سبتمبر بذلك الاتساع والشمول وكانت المحصلة النهائية أزمة حادة تعرضت لها الممارسة الديمقراطي والحركة السياسية بأكملها.

وإذا سعينا إلى مناقشة المسئوليات المبدئية التي تتحملها أحزاب المعارضة لإثراء الحركة السياسية بصفة عامة وتعميق الوعي بالتطبيق الديمقراطي بصفة خاصة فإننا يمكن أن نحدد أبعاد تلك المسئولية في النقاط التالية:

• الحرص على تأكيد الشرعية بنفس الدرجة التي يحرض عليها حزب الأغلبية ذلك أن النمو الديمقراطي لا يمكن أن يطرد وتتسع مساحته يوما بعد يوم كلما كان هناك من يتربص بهه الشرعية ويعمل على القفز عليها بالتآمر أو الإرهاب وانطلاقا من هذا الالتزام فإنه من البديهي أن تحدد المعارضة موقفها بشكل حاسم وقاطع في إعلامها ومؤتمراتها وحركتها الحزبية بصفة عامة تجاه العمل غير الشرعي أيا كان خلفياته وتوجهاته وأساليبه.

أصوات الجماعة أولا...

ولعل تساؤلا هاما بفرض نفسه الآن في سياق مناقشة هذه النقطة فلماذا تحالف حزب الوفد أولا ثم حزب العمل ثانيا مع جماعة الإخوان المسلمين مع أنها ليست لها وجود شرعي وقانوني على الساحة كجماعة دينية أو كحزب سياسي قد تكون الإجابة وهي حقيقة إلى حد كبير على ما أتصور إن ذلك الالتقاء كان مبعثه الرئيسي الاستعانة بأصوات عناصر الجماعة في الانتخابات بنظام القوائم لضمان تجاوز نسبة الـــ8% ولكن ألا يشير ذلك في حد ذاته إلى عدة حقائق أولاها أنه تحايل على القانون والشرعية وثانيتها أنه اعتراف بقصور حزبي وثالثتها أنه دعم لكيان جماعة غير شرعية يشير منهجها إلى أنه لا تؤمن بالتعدد الحزبي وبالتطبيق الديمقراطي بمفهومه الحالي ثم ماذا يمكن أن يكون عليه الموقف بعد أن عدل نظام الانتخاب إلى النظام الفردي وما موقف الأحزاب الشرعية من مثل هذه التحالفات بعد ذلك؟

• وضوح وتمايز البرامج والخطط الحزبية لتكون أحد العوامل المساعدة على توعية الرأي العام بتوجهات كل حزب وتمكين المواطنين من حرية الاختيار سواء لانتماء الحزبي أو أثناء العملية الانتخابية بصفة خاصة ولعل ذلك أحد الأسباب الجوهرية لتأزم التطبيق الديمقراطية عندما يدير المواطن العادي ظهره للحركة الحزبية بصفة عامة بعد أن يعجز عن تفهم تمايز برامجها وعندئذ تتعالى الأصوات وتشكو من ضعف الحركة الحزبية دون إدراك للأسباب الحقيقية لهذا الضعف.

أحزا بعيدة عن هموم الأمة

• يقترن بالسبب السابق عامل آخر لا يقل أهمية وأعني به تلك السمة للعمل الحزبي بالمنطق المركزي حيث يتركز في المستوى القيادي والإعلامي للحزب مع ضعف العمل الحزبي الميداني بشكل ملحوظ والنتيجة المنطقية لهذا الأسلوب هي الابتعاد عن الالتحام بالجماهير وعدم استيعاب قضياها الملحة فلم نسمع مثلا أن حزبا من الأحزاب أبدى وجهة نظره في مشكلة الانفجار السكاني وحدد برنامجا تطبيقيا لتلك المشكلة وسعى إلى تطبيقه في بعض المواقع المختارة ولم نسمع كذلك أن حزبا من الأحزاب سعى على وضع برنامج لمحو الأمنية وسعى إلى تطبيقه ميدانيا كذلك نفس الأمر بالنسبة لقضية التنمية وأهميتها الحيوية وهكذا بالنسبة لقضايا أخرى متشعبة لها تأثيرها في حياة المواطن العادي.

• ونتيجة لكل ذلك فقد أصبح معروفا على مستوى الرأي العام أن العمل الحزبي يكاد يقتصر على الاهتمام بقضايا الانتخاب ومن هنا كان ضعف الحركة السياسية بصفة عامة والحركة الحزبية بصفة خاصة ولولا سيطرة العصبيات والقبليات خلال العملية الانتخابية في الريف بصفة خاصة لكانت النسبة علامة للانتخابات في مصر من أضعف النسب العالمية ولعل الدليل والمؤكد على ذلك أن نسبة الإقبال على الانتخابات في القاهرة والجيزة والإسكندرية لم تزد على 20% في الانتخابات السابقة ولم ترتفع النسبة العامة إلا نتيجة لارتفاع الإقبال على الانتخاب في الريف بسبب العصبيات القبلية والعائلية وأتصور أن هذا الأسلوب في العمل الحزبي هو أحد الأسباب الجوهرية التي يمكن أن تعوق نمو التطبيق الديمقراطي.

• وتبقى في النهاية نقطة هامة أتصور أننا يجب أن نناقشها بوضوح كامل فالنمو الحزبي لا يحدث بين يوم وليلة وإنما يتأتى هذا النمو ويتحقق نتيجة عمل حزبي ميداني وتربية كوادر حزبية تقنع الجماهير وتدفعها إلى الخيار بين هذا الحزب أو ذلك.ط

• ولا شك أن وضوح المنهج وتطبيقاته العملية له أهميته في التفاعل التلقائي والطبيعي بن الحركة الحزبية وبين القواد الجماهيرية.

وإذا كانت هناك عوامل تاريخية وسياسية وواقعية ومعها عوامل نفسية على المستوى الجماهيري العام ما زالت تهيئ للحزب الوطني الديمقراطي فرصة التمتع بالأغلبية الشعبية فلا يجدر أن تكون هذه الحقيقة محورا ودافعا لغيره من الأحزاب الشرعية لكي تتعجل الأمور وتركز حركتها ودعايتها الحزبية على محاولة إنكارها وتنسى أو تتناسى أنه لا سبيل أمامها لكي تحقق بدورها نموا مطردا إلا المعمل الحزبي السليم في الإطار الديمقراطي المستمر.

كذلك فإن أي مواقف حزبية تحاول القفز فوق النمو الحزبي والديمقراطي الطبيعي لن يكون لها من نتائج إلا عثرات تعرقل ذلك النمو وتدفع الحركة السياسية بأكملها إلى الوراء.ط

جذب الجماهير.... كيف؟

ثالثا: الطرف الشعبي العام:

ليس هناك أدنى شك أن الدور الشعبي العام له أهميته الكبرى في تعميق وتوسيع التطبيق الديمقراطي فهو أولا وأخيرا الطرف الفاعل المستفيد الأول من ثمار النمو الديمقراطي وإذا كانت أمراض الممارسة الديمقراطية قبل ثورة يوليو وبعدها قد دفعت جموعا كثيرة من المواطنين إلى عدم المشاركة في الحركة السياسية بصفة عامة والحركة الحزبية بصفة خاصة فإن تأصيل المنطق الديمقراطي لكي يصبح وسيلة إلى غاية تتركز في تطوير المجتمع إلى الأفضل ولا تبتعد عن قضايا المجمع الاجتماعية والاقتصادية كفيل بجذب اهتمام المواطن العادي مرة أخرى للمشاركة في الحياة السياسية والحزبية ولعل هذا التأصيل في نطاق هذا المفهوم كفيل في حد ذاته ليحمي كثرا من شباب هذا الجيل من الوقوع فريسة للاستقطاب من جانب جماعات متعددة في مقدمتها الجماعات الإرهابية التي تركز دائما على استغلال مشاكل الاجتماعية لكي ينحاز إليها.

ومن هنا تتعاظم مسئولية جميع الأحزاب السياسية ليك تمزح بين العمل الحزبي والعمل الاجتماعي اكتسابا لثقة الجماهير وترسيخا للمفهوم الديمقراطي في حركتها واقتناعها وأخيرا علاجا لتلك الظاهرة السلبية التي تشكل عاملا هاما من عوامل تراجع نسبة مشاركة الجماهير في الحركة السياسية والحزبية.

والآن فهل يبقى في حديثنا في هذا الجزء عما يثار عن أزمة التطبيق الديمقراطي إلا أن نؤكد أن أحدا لا يمكن أن يقول إننا وصلنا إلى درجة الكمال في الممارسة الديمقراطية ولكننا يقينا نسير على الطريق الصحيح وتحققت قفزات إيجابية إلى الأمام اختصرت كثيرا من الوقت والطريق وإننا بأيدينا يمكن أن نحقق قفزات أخرى وبأيدينا أيضا أن نضع عقبات في الطريق ويشجع على الاطمئنان والتفاؤل أن الرئيس مبارك على اقتناع كبير أكده قوله وفعله بأنه يعتبر الإنجاز الديمقراطي من أهم إنجازات عهده وفي مقدمتها ويبقى أن يعمل الجميع ليترسب في وجدان كل مواطن أن الأسلوب الديمقراطي هو منهج حياة وأن كل من يعيش على أرض هذا الوطن يرفض في وجدانه أيضا العمل التآمري أو الإرهابي الذي يسعى إلى المساس بالشرعية الدستورية.

خاتمة

أمام الله والمواطن.....

• وقبل أن أصل إلى نهاية هذه المذكرات فإنني لابد أن أتوجه بشكر خالص وصادق إلى مجموعة كبيرة من الزملاء والأبناء الذين كانت لهم جميعا جهود مفعمة بالإخلاص والصدق وحب الوطن ساهمت في تأكيد كثير من المعاني والمواقف التي وردت في هذه المذكرات ويعفيني من ذكر أسمائهم كثرتهم وأنهم يعرفون أنفسهم.

• كذلك فإنني أتوجه بشكر خالص إلى الأستاذ الكبير الصديق خالد محمد خالد الذي تفضل بإهداء تقديم لهذه المذكرات ليكون شهادة أعتز وأفخر بها تتصدر هذا الكتاب.

• وبعد عزيزي القارئ الكريم فلا يبقى أمامي إلا أن أسجد لله سبحانه وتعالى حمدا وعرفانا أن أعطاني القدرة على إخراج هذه المذكرات إلى حيزي الوجود ولا أجد ما أقوله إلا أنني وضعت نص عيني أن ارضي ضميري وأمام ربي جلت قدرته وأمام كل مواطن على أرض هذا الوطن فلم أسع أيضا إلى إرضاء كل الأطراف اقتناعا بتلك الحكمة الصينية التي تقول (اعرف طريقا مؤكدا للفشل أن تحاول إرضاء كل النسا لعلي قد أصبت وما أجري غلا على الله إنه نعم المولى ونعم النصير والحمد لله أولا وأخيرا.

تم بحمد الله