مذكراتي .. عبد الرحمن الرافعي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
مذكراتي .. عبد الرحمن الرافعي
غلاف-كتاب-لرافعي.jpg


تقديم الكتاب

كتاب استاذنا المؤرخ الوطني الكبير عبد الرحمن الرافعي و والدي الروحي - مذكراتي عن مشاهداته و خواطره و جانب من حياته منذ مولده سنة 1889 حتى نهاية سنة 1951 دفعه حياؤه و طبقا للتقاليد العلمية و التاريخية أن يخرج هذا الكتاب مستقلا دون أن يسجله في مؤلفاته عن تاريخ مصر القومي . مع أن الرافعي هو جزء من هذا التاريخ . و لم يكن ليلومه أحد إذا ما جمع في كتبه موضوعات كتاب - مذكراتي - خاصة و كما قال تحت عنوان هذه المذكرات . إن آخرين سبقوه في تسجيل تاريخ حياتهم في مؤلفاتهم , و الكتاب يشمل كما جاء بالفهرس بنهايته , نشأة عبد الرحمن الرافعي الأولى , و حياته العملية , و تكلم عن هل الحياة المثالية ممكنة لأن الرافعي كان يتحلى بمثل عليا , و بالصدق و الأمانة و النزاهة و حرية الرأي و الوطنية و الصفات الطيبة العديدة الأخرى . و تكلم عن ذكرياته عن ثورة سنة 1919 و كيف كان له دور فعال مؤثر اشترك فيها . و إن رحلته النيلية التي قطعها خلال أيام من القاهرة حتى المنصورة و السكك الحديدية مقطوعة , كل ذلك كي يلحق بأخواته الثائرين بالمنصورة مقر مكتبه في المحاماه . و إن هذه الواقعة التي تعرض حياة الرافعي للخطر بل للموت تدل على مدى شجاعته و إقدامه و حتى يتعهد الروح المعنوية الفياضة في بلدة المنصورة , ثم بعد هذا الحديث يتكلم عن زوجته ثم حديثه بين السياسة و الاقتصاد , عن النقابات الزراعية و الجمعيات التعاونية الخيرية و قيامه على رأس لجنة لتوزيع أسهم بنك مصر على المكتتبين من المساهمين باعتبار أن هذا عمل وطني يتفق و مبادئ الرافعي و ميوله و اتجاهاته , و تكلم عن حياته النيالبية منذ البرلمان الأول سنة 1924 , و إني أنصح المثقفين و ممن لهم إلمام بالحياة النيابية أن يراجعوا بإمعان كتاب الرافعي " أربعة عشر عاما قي البرلمان " يقع في مئات من الصفحات يشمل تاريخ حياته البرلمانية في مجلس النواب و الشيوخ و حتى يكون هديا و نبراسا أمام أعضاء المجالس النيابية الحاليين , و من يفكر في الاشتراك في الحياة البرلمانية مستقبلا , و قد ظل الرافعي معارضا برلمانيا وطنيا من الطراز الأول طيلة فترات اشتراكه في المجلسين لم يتغير عن خطته , و صار في طريق مستقيم لم يتزعزع عنه حتى آخر رمق مكن حياته , و يتحدث الرافعي في كتابه عن نواحي أخرى عن كيف بدأ في كتابة تاريخ مصر القومي . بعد أن أخرج ثلاثل كتب لا يعلم عنها شيئا كثير من المثقفين , و هو في صدر شبابه , عن حقوق الشعب و عمره لا يتجاوز 21 عاما ثم الجمعيات الوطنية و الحركات التحريرية في بعض الدول , كل ذلك يشعرك بميول الرافعي نحو الحرية و الديموقراطية و حكم الشعب بنفسه , و تمسكه بمبادئ الوطنية و الاستقلال و وجوب التخلص من نير الاحتلال , ثم كتابه - النقابات التعاونية الزراعية - و هو أول كتاب ظهر في مصر عن التعاون الزراعي و يعتبر حتى الآن مرجعا هاما في هذا الموضوع , و يتكلم الرافعي عن الأمير عمر طوسون , ثم اختياره سكرتيرا للحزب الوطني , و اشتراكه في الجبهة الوطنية و أمثلة من نشاطه في البرلمان و على سبيل المثال استجواباته عن المعتقلين السياسيين . و عن الأهداف القومية و تحديدها - وحدة وادي النيل و الجلاء - ثو مشروعه في منع تملك الأجانب للأراضي الزراعية حتى صدر برقم 37 سنة 1957 . و قد أضافت عليه ثورة 23 يوليو بعض ما كان الرافعي قد اقترحه عند تقديم المشروع , و تكلم الرافعي عن دخوله الوزارة و كيف يبرر اشتراكه في الحكم ثم عن مؤامرة إخراجه من مجلس الشيوخ و يشرح الرافعي مذهبه السياسي و يعترف باعترافات تتعلق بأحواله و شخصه , و غير ذلك من الجوانب الكبيرة , و يختم الكتاب بنصائحه إلى الشباب .

و إني أهيب بكل قارئ من الشباب و الشيوخ من المثقفين و المتعلمين من الباحثين و الدارسين كل من له إلمام و لو بسيط بالقراءة . أن يقرأ هذا الكتاب الفريد من نوعه بتأني و تؤدة و يفهم معانيه و مراميه . و يستجيب للنصائح التي تضمنها , و يعمل في محيط حياته و بين أسرته و مجتمعه . لما كان ينادي به عبد الرحمن الرافعي , جعل الله نعيم الجنات مثواه إزاء ما قدمه لأمته , و بما أخرجه من مؤلفات في الوطنية و الأدب و الشعر و التاريخ و نواحي أخرى - تلك التي رأيت أن أسجلها في نهاية الكتاب " للمؤلف " وفقنا الله جميعا و بهدى من الله سبحانه و تعالى رعاية و عناية لنا , و لشعب مصر.

سبتمبر سنة 1989 المستشار حلمي السباعي شاهين


هذه المذكرات

كنت معتزما أن أخصص فصلا من كتاب (في أعقاب الثورة المصرية) لتدوين خواطري و مذكراتي , أتحدث فيها بشيء من التفصيل عن نفسي , و مراحل حياتي , حيث وجدت أن هذا الفصل قد يطول , و ليس من حقي و أنا أؤرخ الحركة القومية في مختلف عهودنا الحديثة أن اقتحم فيها حديثا طويلا عن نفسي , هذا حق لاريب فيه , و لكن أليس لي - بعد أن ترجمت لمئات من الشخصيات في تلك الحقبة من الزمن التي أرختها و التي تزيد على مائة و خمسين عاما من تاريخ مصر الحديث - أن أترجم لنفسي ؟ لقد عمل المتقدمون مثل ذلك . ففي " الخطط التوفيقية " فصل كتبه المرحوم علي باشا مبارك عن تاريخ نفسه , و لم يوجه إليه لوم أو عتاب في هذا الصدد , حقا إن من أشق الأمور على الانسان أن يترجم لنفسه , فقد يحمل هذا على محمل المباهاة و الأنانية , و لكني ما قصدت إلى شيء من ذلك قط , و إنما أقصد إلى أن مثل هذه المذكرات فيها من الحقائق و الخواطر مالا تتسع له كتب التاريخ , و هي مع ذلك قد تفيد لمن يريد أن يتفهم العصر الذي عشت فيه و شاهدت حوادثه و حقائقه , ثم إني أرى أن نشرها قد يكون مساهمة مني في تكوين المواطن الصالح , ربما أكون مصيبا في هذا الظن أو مخطئا , و لكن هذا هو الغرض الذي أنشده.

لهذا القصد , و بهذه الروح , أنشر هذه المذكرات , و قد دونت فصولها , بعضها في حينها و بعضها بعد وقوع حوادثها , و هي في مجموعها تشتمل على مشاهداتي و خواطري حتى نهاية العام الماضي ( 1951) أما المستقبل فلبا يعلمه إلا علام الغيوب , و خواطري و مشاهداتي عنه مرهونة بمشيئة الله.

أول فبراير سنة 1952 عبد الرحمن الرافعي


النشـــأة الأولى

ولدت يوم 8 فبراير سنة 1889 بالقاهرة بمنزل جدي لأمي المرحوم الشيخ محمود رضوان , بعطفة أبو داود رقم 2 بشارع ديرب الحصر ( قسم الخليفة)

والدتي

هي السيدة حميدة كريمة الشيخ محمود رضوان من صميم أهل القاهرة , كان كاتبا بدائرة الحلمية , و قدم خدم رحمه الله هذه الدائرة و كان موضع ثقة القائمين عليها لصدقه و أمانته , و عندما أنشأت الأميرة مهوش قادن وقفها أدخلته ضمن مستحقيه , هو و ذريته من بعده , و لما توفي خلفه في وظيفته نجله حسن أفندي المعايرجي ( خالي ) الذي صار رئيسا لكتبة هذه الدائرة , و كان أيضا رجلا مشهورا بالتقوى و الصدق و الأمانة , و سمي المعايرجي لأن جده الشيخ رضوان أحمد كان يشغل وظيفة معايرجي دار الضرب بالقلعة.

فوالدتي مصرية صميمة , و قد توفيت في 21 يوليو سنة 1893 غير متجاوزة الخامسة و الثلاثين من العمر , اثر التهاب رحمي بريتوني أصابها عقب الولادة , و كنت لازال طفلا إذ كانت سني لا تزيد على أربع سنوات و بضعة أشهر.

و بالرغم من صغر سني إذ ذاك فإني أذكر صورتها جيدا , و أذكر حنانها علي و على أخوتي الأشقاء أمين و أحمد و ابراهيم , و كانت سيدة كاملة الصفات و الأخلاق , عرفت بين أفراد العائلة بطيبة القلب , و صفاء النفس ,و الخصال الحميدة , و قد عشت بعدها يتسما من الأم , و لم أجد بعدها من يحبوني بحنو الأمومة , و لا أدري ماذا كان تأثير حرماني من هذا الحنو في نشأتي و نفسيتي و حياتي , على أن الذي أستطيع أن أدركه من هذا الأثر أني ظللت على حبي لها و تمجيدي لذكراها طوال السنين , و تملكني مه الزمن شعور بأني مدين لها بما حباني الله من مواهب ( بحسب ظني ) , و زاد هذا الشعور رسوخا في نفسي ملاحظات من اجتماع هذه المزايا في إخوتي لأمي , فمنهم شقيقي أحمد , ثم شقيقي أمين الذي كان يكبرني بسنتين , ثم شقيقي الأصغر ابراهيم.

كان أخي أحمد قد انتظم في الأزهر الشريف و عرف بالذكاء و الميل إلى الشعر و الأدب , و مات في شرخ الشباب سنة 1903.

أما أخي أمين فلست في حاجة إلى التنويه بمنزلته في الجهاد و مكانته في الصحافة , و قد توفاه الله في 29 ديسمبر سنة 1927 في سن مبكرة , إذ لم يتجاوز الحادية و الأربعين من العمر.

و كان ابراهيم من نوابغ مدرسة المهندسخانة و أول خريجيها عام 1913 . و قد حدثني زملاؤه في التلمذة و التخرج أنه كان مشهودا له بينهم بالنبوغ و التفوق , و قد عين معيدا في المدرسة عام تخرجه منها , و عندي منه خطابات تدل على ميله للأدب منذ صباه , و منها كتاب أرسله إلي في 9 إبريل سنة 1910 و هو بعد طالب بالمهندسخانة لمناسبة اشتغالي بالمحاماة قال فيه :

"أخي العزيز , سلام يتبعه تسليم , مزاجه من تسنيم مضت مدة ليست بالقصيرة كنت أستطيع فيها اخبارك من السيد أمين فكنت ابتهج كلما علمت أنك سائر في طريق النجاح غير هياب و لا وجل مع العلم بأن كثيرا ممن سلكوا سبيلكم هذا ما عتموا أن طرقوا بابه حتى و لوا على أعقابهم مدبرين فأساءوا إلى أنفسهم و أساءوا إلى غيرهم , لأن كل من وصله خبرهم اتخذهم حجة دامغة و تقاعد بل تقاعس هو عن العمل فيصبح الكل وهم عضو أبتر عضو أشل في كيان هذه الأمة , و لكنك أيها الأخ قد ألقيت علي و على كثير من اخواني درسا من دروس المكافحة في هذه الحياة , فلتسر في حياتك الجديدة و لتواصل المسير في تلك المعمعة و لتستمر في تتميم ذلك البناء الذي وضعت أول حجر في أساسه من مدة وجيزة , و لتكن على يقين من أنك ستحيي ميت رجاء كثير من الطلبة الذي استولى عليهم القنوط و ظنوا أن أبواب الفوز و النجاح موصدة في وجوههم مغلقة دونهم و لكنك بإذان الله سبحانه و تعالى ستكون حجة على هؤلاء المتقاعدين فيحذون حذوك فيكون لك بذلك كمال الشرف و شرف الكمال , فعليك مني السلام يوم دخلت في ذلك الدور الجديد من الحياة , و سلام عليك يوم تخرج منه و قد كللت أعمالك بالفوز و المنفعة لبلادنا المفتقرة إلى كثير ممن لا يبالون بما يصادفهم من العثرات بل يمرون عليها و هم شم الأنوف كأن لم تكن تلك الحوائل شيئا مذكورا , و السلام من المخلص.

" أخيك إبراهيم "

و يبدو لي أن مستقبلا زاهرا كان ينتظر أخي ابراهيم لولا أن عاجلته منيته و هو في ريعان الشباب , فقد عين رحمه الله مهندسا للري بمديرية الفيوم و محل إقامته في ( طامية) , و أصيب هناك بحمى التيفوئيد التي قضت على شبابه في يوليو 1915


والدي

هو الشيخ عبد اللطيف الرافعي . و يرجع أصله البعيد إلى الحجاز إذ هو من سلالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه , و لذلك سمي الفاروقي , و هو من علماء الأزهر , تولى مناصب القضاء الشرعي منذ سنة 1877 , و كان حين ولادتني قاضيا لمحكمة البحيرة الشرعية , و نقل قاضيا للشرقية في يونيه سنة 1889 , ثم قاضيا للغربية في سبتمبر سنة 1891 , فقاضيا للشرقية سنة 1895 , فعضوا بحكمة مصر الشرعية سنة 1897 , فمفتيا لثغر الأسكندرية سنة 1898, و بقي يتولى هذا المنصب إلى أن أحيل إلى المعاش في ديسمبر سنة 1909 , و استقر بالأسكندرية منذ تعيينه مفتيا لها , و مكث بها بعد إحالته على المعاش ؤو لما مرضه الأخير انتقل إلى القاهرة حيث توفى بها في 24 يناير سنة 1918 .

كان رحمه الله عالما تقيا , تلقيت عنه نشأتي الدينية , فكان يعودني و إخوتي على الصلوات الخمس نؤديها في أوقاتها , و يرتل القرآن بحضورنا , و يأمرنا بالصلاة في المسجد أحيانا . و أذكر أنه كان يوقظني قبل الفجر لأؤدي معه الصلاة في مسجد سيدي ياقوت العرش بالأسكندرية و كان قريبا من منزلنا بالأنفوشي , و أعود معه إلى المنزل بعد أداء الصلاة . و تعودت الصوم على يده في سن مبكرة و كنت أراه أمرا عاديا و مألوفا , و كان رحمه الله يعظنا و يأمرنا بالمعروف و ينهانا عن المنكر و يحبب إلينا التمسك بشعائر الدين و تعاليمه , و كنت من ناحيتي مرهف الحس من الوجهة الدينية الروحي , أفهم من هذه الشعائر و التعاليم أنها اتجاه من النفس إلى الله , و استشعار بالخشوع له و العمل على اكتساب رضاه , و اطمئنان إلى عدله و قدرته , و ركون في أوقات الشدة إلى لطفه و رحمته , و هذه الأحاسيس كان لها دخل كبير في تكويني الروحي و في حياتي الوطنية , لأنني كنت و لا أزال أرى في الالتجاء إلى الله و الاعتماد عليه القوة الروحية التي تعود النفس الصمود للشدائد و العقبات .

في التعليم الأولى و الابتدائي

كان أول مكتب تلقيت فيه القراءة و الكتابة كتاب الشيخ هلال بشارع درب الحصر , و مكثت به عدة أشهر , ثم انتقلت منه إلى المدارس النظامية , و صرت أتنقل مع والدي في البلاد التي ولى فيها مناصب القضاء , فدخلت مدرسة الزقازيق الابتدائية الأميرية سنة 1895 , ثم مدرسة القربية الابتدائية بالقاهرة , و لما انتقل والدي إلى الأسكندرية سنة 1898 انتقلت إلى مدرسة " رأس التين " الابتدائية.

قضيت بالأسكندرية معظم سني الدراسة و تلقيت فيها تعليمي الابتدائي و الثانوي بمدرسة " رأس التين" , و كانت من أهم مدارس القطر , و كان ناظرها طيلة هذه المدة المرحوم إسماعيل بك حسنين باشا .

و نلت فيها الشهادة الابتدائية في يوليو سنة 1901 و كنت لصغر سني لا أفقه كثيرا معنى الشهادات , و أذكر أن أحد أقرأني بالمدرسة حين علم بالنبأ- و كنت أجهله - سارع إلى الحضور لمنزل والدي بالأنفوشي ليبشرني بالنجاح , فألقاني في حديقة المنزل الصغيرة يجرني أخي أمين في قفص من الجريد جعلنا منه شبه عربة صغيرة تتناوب ركوبها و جرها بحبل فناداني في لهفة , فتركت القفص أسأله عن الخبر , فهنأني بالنجاح و أطلعني على نسخة اللواء التي فيها اسمي ضمن الناجحين في الشهادة الابتدائية , فضحكت مغتبطا ثم عدت إلى قفص الجريد لنتم أنا و أخي أمين عملية الجر و اللعب , و كان هو أيضا من الناجحين في هذا العام.

في التعليم الثانوي لم أكن - إلى أن نلت الشهادة الابتدائية - أعي من أمور الدنيا شيئا ذا بال , و كان جل اهتمامي أن أواظب على دروسي و استذكرها و أحفظ ما يطلب من التلميذ حفظ .

دخلت القسم الثانوي ( قسم فرنسي ) بمدرسة رأس التين , و مكثت به ثلاث سنوات و هي مدة الدراسة الثانوية في ذلك العهد , و كنت في معظم سني الدراسة الثانوية لا أعي أيضا شيئا من الشئون العامة , و لا أعرف غير منزل والدي و مدرستي.

و كنت أتردد قليلا على مكتبة بلدية الأسكندرية , إذ كان أساتذتنا يذكرونها لنا كمكان يصح أن نقضي فيه أوقات الفراغ و التسبلية.

إلى أن كانت سنة 1904 , فبدأت أذهب إلى قهوة بلدية أنيقة بشارع رأس التين تجاه سراي محسن باشا , و كنا نذهب إليها يوم الجمعة من كل أسبوع , و كان صاحبها الحاج أحمد , يقدم لنا شراب الليمون ( الليمونادة) و يتقنه كل الاتقان , حتى صار علما علما على قهوته , و يطلعنا على بعض الصحف اليومية التي كانت تصدر في هذا العهد , و منها ( اللواء) لصاحبه و مؤسسه الزعيم "مصطفى كامل " , و لكن لم أتبين بعد منهجه و لا منهج الصحف الأخرى . و لم تكن في ذهني أية صورة عن " مصطفى كامل " , إذ لك أكن رأيته بعد أو سمعته , و كنت وقتئذ في الخامسة عشرة من عمري , على أنني أدركت من قراءة الصحف وقتئذ شيئا من الوعي الذي أخذ يتفتح و يتسع مداه في مدرسة الحقوق , و كنت أسمه أثناء دراستي الثانوية من أستاذ لنا في الرياضة و هو المرحوم عثمان بك لبيب , أحاديث يلقيها علينا بين حين و آخر عن حالة البلاد السياسية , و كان رحمه الله من خريجي مدرسة المعلمين العليا القديمة (النورمال) و صار فيما بعد مدرسا بمدرسة المعلمين العليا الحديثة , و كان وطنيا صميما , لا يفتأ يطعن في سياسة الانجليز و يذكر لنا كيف احتلوا مصر غدرا و حيلة , و كيف يعملون على إرساخ أقدامهم في البلاد , و يحاربون الروح الوطنية , و كان يقول لنا خلال أحاديثه :" افهموا يا أولاد كويس " , فكنت أستشعر معاني هذه الأحاديث , و آنس بها و أعجب بها , و أحببت من أجلها هذا الأستاذ , و كنت ألاحظ أنه حين يبدأ بالحديث في السياسة يقفل بنفسه باب الفصل لكي لا يسمع حديثه ناظر المدرسة عند مروره بين الفصول , فكان إقفال الباب إشارة إلى بدء دروسه الوطنية , و قد أفدت منها كثيرا .

و أذكر من أساتذتي في القسم الثانوي بمدرسة رأس التين الشيخ أحمد ابراهيم (بك) العالمك الفقيه المشهور , و الشيخ عرفه على غراب , و الشيخ محمد عابدين , و الشيخ عبد الحكيم محمد , و من أساتذتي الأجانب المسيو هاي و المسيو توندور و كلاهما فرنسي .

البكالوريا

و قد نلت الشهادة الثانوية ( البكالوريا) من مدرسة رأس التنين في مايو سنة 1904 , و كان ترتيبي الثالث في الناجحين البالغ عددهم 136 .

أراد والدي أن يدخلني الأزهر

و أراد والدي أن يدخلني الأزهر .. و لكني اعتذرت بصغر سني و بأني تعودت على المدارس النظامية و لم ألف نظام الدراسة في الأزهر , و إذ كنت أخجل من مراجعة والدي فقد وسطت لديه بعض الأقارب لٌناعه بالعدول عن فكرته , فأفهموه أن لا محل لتغيير منهجي في الدراسة , و ما دام قد اختار هو لي المدارس النظامية فمن الخير أن استمر فيها , و ذكروا له ميلي إلى الدخول في مدرسة الحقوق و رغبوا إليه أن يلحقني بها , فقال لهم أنه يريد أن يجعلني عالما من علماء الأزهر , كأبيه و عمومته , فأجابوه أن الزمن قد تطور , و ما دام هو لا يميل إلى الأزهر فلتختر له المدرسة التي يميل إليها , فقال أتريدون أن يخرج منها قاضيا أهليا يحكم بغير الشرع ؟ فأجابوه هذه مسألة لا يحين وقت البحث فيها إلا بعد تخرجه من مدرسة الحقوق و هل من المحتم أن يكون قاضيا ؟ فلم يقتنع بهذا الجواب , و أراد أن يخلص من هذا الإحراج , فأعرب عن رغبته في أن يلحقني بإحدى الوظائف بالبكالوريا – و كانت لها قيمة في ذلك العصر – فقالوا له إنه لا يميل الآن إلى التوظف و هو صغير السن و لا يصح أن يرهق بالوظيفة , فقال لهم أني أختار له وظيفة ," معاون إدارة " و هي وظيفة سهلة لا تحتاج إلى عناء , فعرضوا علي الأمر , فأعتذرت , و قلت لهم و لوالدي أني صغير السن و لا أحتمل أعباء الوظيفة و أن الدراسة لا تتعبني , فدعوني أدخل المدرسة التي تميل إليها نفسي وازاء هذا الإلحاح قبل والدي ما طلبت , و أدخلني مدرسة الحقوق .

في مدرسة الحقوق

دخلت كطلية الحقوق – و كان اسمها ( مدرسة الحقوق الخديوية) – في أكتوبر سنة 1904 , و مقرها وقتئذ بميدان عابدين في المكان الذي به الآن ثكنات الحرس الملكي , و كان ناظرها المسيو جرانمولان , ووكيلها عمر بك لطفي , و اقتضى دخولي المدرسة انتقالي و إقامتي بالقاهرة في شهور الدراسة .

متى تتلمذت لمصطفى كامل ؟

سنة 1904

بدأ وعيي السياسي يتقدم في مدرسة الحقوق , و أخذت في قراءة الصحف قراءة فهم و إدراك , و كان الطلبة يجتمعون في أوقات الفراغ و يتحدثون عن السياسة و ما وصلت إليه حالة البلاد تحت الاحتلال البريطاني , و اخترنا لقضاء أوقات الفراغ و السمر قهوة راقية بشارع عابدين على ملتقاه بشارع الصنافيري ( علي باشا ذو الفقار الآن) تدعى (قهوة الحقوق) لصاحبها الخواجة أندريا , و قد أعجبنا اسم القهوة , و اخترناها لذلك منتدى لنا نقرأ فيه الصحف على اختلاف ميولها و مذاهبها , و أهمها (اللواء) و (المؤيد ) و (الأهرام )

انتقلت إذن من قهوة ( الحاج أحمد ) بالأسكندرية , إلى قهوة ( الخواجة أندريا ) بالقاهرة , و كان لهاتين القهوتين أثر كبير في اتجاهي الوطني و السياسي , و بدأت أقرأ اللواء قراءة فهم و إدراك , فتعجبني روحه و مقالاته , و قد تتلمذت لمصطفى كامل ( صاحب اللواء ) منذ أواخر تلك السنة , قبل أن أراه , و صار لي( اللواء )بمثابة المدرسة التي تلقيت عنها مبادئ الوطنية , كما أنها كان مدرسة الوطنية للجيل كله . أما أول مرة قابلت فيها " مصطفى كامل " ففي فبراير سنة 1906 , أثناء اضطراب طلبة الحقوق , فقد تاقت نفسي إلى رؤية , و كان ( اللواء ) يناصر الطلبة في مطالبهم الحقة , فذهبت مع لفيف من زملائي إلى دار اللواء بشارع الدواوين – نوبار باشا الآن – تجاه وزارة العدل , و كان اسمها وزارة الحقانية , و قابلت الزعيم لأول مرة , و سمعت حديثه , و شعرت بتأثيره الروحي ينفذ إلى أعماق قلبي و صار لي بمثابة أبي الروحي في المبادئ و أكثرت من التردد على دار اللواء لكي أقابله و أراه و أسمع صوته , فكان يفيض علينا من الأحاديث التي غرست في نفسي مبادئ الوطنية , و لعله رحمه الله قد توسم في أن أكون من تلاميذه الحافظين لعهده, فعرض علي سنة 1907 أن يفدني في بعثة صحيفية إلى باريس للتخصص في الصحافة بعد حصولي على أجازة الحقوق , فقبلت هذه الثقة شاكرا , و لكن المنية عاجلته في فبراير سنة 1908 قبل تخرجي من المدرسة .

نادي المدارس العليا

كانت مدرسة الحقوق أول بيئة للشباب ظهرت فيها روح اليقظة الوطنية و لبت دعوة الزعيم مصطفى كامل , إذا كانت الغالبية العظمى من طلبة الحقوق قد استجابت إلى نداؤه .

و إذا كان الشعور الوطني السابق يستتبع النشاط الاجتماعي و العلمي , فقد ظهرت بيننا روح التكتل , و تنظيم الكفاح , و كان تأسيس نادي المدارس العليا أول مظهر لهذه الروح , و لقد عبرت عن هذا التطور بقولي في كتاب (مصطفى كامل ) : تفتحت في قلوب الشباب زهرة الوطنية التي أنبتتها دعوة مصطفى كامل و أخذت تجيش بالشعور الوطني و تتحرك نحو أغراضه و أهدافه , و بدأت علائل اليقظة و الحياة تظهر فيهم بشكل عملي سنة 1905 و كان أول مظهر لهذه الحياة الجديدة أن فكر طائفة منهم في إنشاء نادي للمدارس العليا يجمع بين طلبة هذه المدارس و خريجيها .

فكر طلبة الحقوق في إنشاء هذا النادي سنة 1905 و شاركهم في هذه الفكرة طلبة المدارس العليا الأخرى , و اجتمعت أول جمعية عمومية له – الجمعية التأسيسية – يوم الجمعة 8 ديسمبر سنة 1905 بإحدى قاعات مدرسة الطب لانتخاب مجلس الإدارة . و بلغ عدد الحاضرين من الطلبة مئتي طالب من مختلف المدارس العليا و حضره كذلك لفيف من المتخرجين , و كان اشتراكهم في ناد للطلبة دليلا واضحا على تقديرهم للشباب المثقف و ما نالوه من ثقة أسلافهم من الخريجين , فإنهم لم يجدوا غضاضة في أن يجتمعوا و إياهم في ناد واحد , و في الحق أنهم كانوا رجالا في شبابهم و أخلاقهم و أساليبهم , فنالوا بذلك تقدير مواطنيهم ممن كانوا يكبرونهم سنا , بل كان بعضهم أساتذة لهم .

اشتركت فيا لجمعية العمومية التأسيسية لنادي المدارس العليا , إذا كنت طالبا في مدرسة الحقوق و من المشتركين في التأسيسية , و أسفرت عملية الانتخاب عن اختيار المرحوم عمر بك لطفي – و كان وكيلا لمدرسة الحقوق – رئيسا للنادي , و كان من خاصة أصدقاء مصطفى كامل و أنصاره هو و شقيقه المرحوم أحمد بك لطفي .

كملت معدات تأسيس النادي , و اتخذ دارا له بالمنزل رقم 4 بشارع قصر النيل بالقرب من سافواي أو تيل القديمة , و افتتح يوم الخميس 5 إبريل سنة 1906 . و قد حضرت حفلة الافتتاح مع إخواني المشتركين فيه من طلبة الحقوق . و كان هذا الاحتفال يوما مشهودا , و أخذنا نجتمع بالنادي , و بذلك انتقلنا من ( قهوة الخواجة أندريا ), إلى نادي المدارس العليا , و بدا لنا الفرق كبيرا بين القهوة و النادي , فلقد كان بناء فخما تحيط به حديقة غناء , و به غرف واسعة مؤثثة ثأثيثا فاخرا , الأمر الذي لم نعهده من قبل , لا في قهوة الخواجة أندريا , و لا في قهوة الحاج أحمد بالأسكندرية .

و كان اجتماعنا للخريجين مما زاد في نضجنا العلمي و الثقافي , و تعددت المحاضرات و الاجتماعات في النادي , فكان لنا شبه معهد علمي عال , اكتملنا فيه دراستنا و زدنا من ثقافتنا , و قد افدت منه كثيرا , و كانت به مكتبة غنية بالكتب و الصحف و المجلات ساعدتني على توسيع مداركي و ترقية أفكاري , و لم تفتني محاضرة ألقيت فيه , و ظللت عضوا به إلى أن أقفل بأمر السلطة العسكرية البريطانية سنة 1914 في أوائل الحرب العالمية الأولى , و كان مقره حين أقفل بميدان حليم باشا بعمارة الخاصة الخديوية على ملتقى شارع بولاق ( فؤاد ) بشارع كامل ( ابراهيم باشا ) .

إضراب سنة 1906

كان لهذا الإضراب تأثير كبير في نفسي , يعدل تأثير نادي المدارس العليا , إذ كان بداية اتصالي الروحي الوثيق بالزعيم مصطفى كامل في يناير سنة 1906 وضعت وزارة المعارف نظاما لمدرسة الحقوق كان الغرض منه استفزاز شعور الطلبة , و التضييق عليهم , و معاملتهم بنظام المدارس الابتدائية و قد يكون لتظاهرهم بالشعور الوطني دخل في وضع هذا النظام , إذلالا هم و كبحا لجماحهم , فما إن عملنا به حتى قررنا الاضراب إحتجاجا عليه . و أضربنا فعلا عن الدراسة في فبراير, و كانت طلباتنا العدول عن النظام الذي وضعته الوزارة و الرجوع إلى النظام القديم .

لم يكن إضرابنا خروجا على النظام , و لا رغبة في التعطل عن الدراسة , أو التسكع فيا لشوارع , أو سعيا لمطالب مادية شخصية , بل كان مظهرا من مظاهر المقاومة الوطنية لسياسة الاحتلال في التعليم .

كان هذا الاضراب هو الأول من نوعه في مصر , لأنه شمل مدرسة عالية بأسرها , و كان موجها ضد سياسة التعليم التي وضعها الاحتلال , و قد تدخل اللورد كرومر ( المعتمد البريطاني ) في شأنه , و أمر وزارة المعارف بأن تأخذ الطلبة بالشدة , فأعلنت تعطيل الدروس في المدرسة من يوم 26 فبراير سنة 1906 حتى يوم السبت 3 مارس , و أنذرتنا بأن من يتأخر عن الحضور في ذلك اليوم يفصل من سلك التلاميذ . و كان للإضراب لجنة تقوم على تنظيمه , فاجتمعت على عجل للنظر في هذا الانذار , و تدخل المستشار القضائي البريطاني السير مالكوم ماكلريث في الأمر و كان يعطف على الطلبة ( بعكس المستر دنلوب) فوعدهم بالنظر في طلباتهم على شرط أن يعودوا إلى الدراسة , فأتفق الطلبة رأيا على الرجوع إلى المدرسة يوم السبت 3 مارس سنة 1906 , و كان لهذه العودة أثرها في نفوسنا , و كان فيها معنى الرضوخ و الأذعان , فزادتنا سخطا على الاحتلال وسياسته. وأراد اللورد كرومر تثبيت مركز المستر دنلوب-وكان الى ذلك الحين سكرتير عاما لوزاره المعارف, وعليه تقع مسئوليه الاخلال بنظام التعليم الذي أدى الى الاضراب –فرقى مستشارا للوزاره في مارس سنة 1906 مكافأه له على أخذه الطلبه بالشده .

وكتبت مقاله عن هذا الضراب , وذهبت بها الى مصطفى كامل يوم رجوعنا الى الدراسه , وكانت لهجتها شديدة ضد الاحتلال , فقرأها الزعيم, وأثنى علي, ولكن فهمت من حديثه أنه لايرى نشرها, حرصا على مستقبلي, وكانت هذه المقاله (التي لم تنشر) بدء مراسلتي للصحف.

حادثة دنشواي سنة 1906

وقعت حادثة دنشواي في 13 يونيه سنة 1906 , فزادتني سخطا على الاحتلال وتعلقا بالحركة الوطنية . كنت عام وقوعها طالبا بالسنة الثانية بمدرسة الحقوق, وكنت أطالع أنباءها في (اللواء),فأدهش لمخالفة منهج التحقيق و المحاكمة فيها لما كنا نتلقاه من أصول المحاكمات الجنائيه التي تقضي بها القوانين , وتساءلت ما فائدة ما نتلقاه من الدروس و القواعد القانونية اذا كانت لا تنطبق على الناس كافة . ولما تلوت وصف تنفيذ الحكم في (اللواء) بقلم الأستاذ أحمد حلمي أحد محرريه, أٌقشعر بدني من هول ما قرأت , وأدركت مبلغ هوان المصري في نظر الاحتلال , وتحققت أن لا كرامة لأمه ولا لأي فرد من أبنائها بغير الاستقلال , وحفزتني هذه الحادثة إلى أن أخصص حياتي للجهاد في سبيل الاستقلال.

وفاة مصطفى كامل سنة 1908

كنت في السنة النهائية لمدرسة الحقوق لما فجعنا بوفاة مصطفى كامل يوم الأثنين 10 فبراير سنة 1908 , ويالها من لحظة رهيبة حين فوجئنا بنعيه ونحن في المدرسة , فقابلناه بالذهول والوجوم , وفاضت دموعنا حزنا و أسى على الزعيم الذي كان لنا أماما وطنيا , أبا روحيا, وفي غمرة الذهول الذي أصابنا من هول الكارثة تباحثنا فيما يجب علينا عمله اظهارا لشعورنا , فقررنا بالإجماع اعتبار يوم تشييع جنازة الزعيم يوم حداد عام , تعطل فيه المدارس جميعها ويشترك طلبتها في تشييع الجنازة , واتصلنا بالمدارس العليا و الثانوية , فرأينا من طلبتها نفس الشعور , ونفس هذا الاجماع , واتخذو نفس القرار الذي اتخذناه , واشتركنا في الجنازة , وكنت ممن حملوا النعش ضمن طلبه الحقوق الذين ندبوا لذلك من قبل جميع طلبة المدارس العليا ,وكان لهذا اليوم في نفسي أثر لم تمحه الأيام و الأعوام, فلقد طبع في قلبي مبادىء الزعيم فصارت عقيدتي الوطنية .والى هذه الصلة الروحية أشرت في كتابي عن "مصطفى كامل" سنة 1939 , إذ قلت في إهدائي الكتاب إليه: "إلى من كانت حياته للأمة بعثا وطنيا, من كان لي أبا روحيا , و سأبقي له تلميذا وفيا, من علمني أن الحياة بغير المثل العليا عرض زائل, وعبث ضائع, إلى مصطفى كامل أهدي كتاب "مصطفى كامل" هدية الوفاء الى روحه العظيمة"

صلتي بمحمد فريد

إني إذ أعد نفسي تلميذا لمصطفى كامل , فإني كذلك تلميذا لمحمد فريد, بل ان صلتي بفريد كانت أطول مدى من صلتي بمصطفى , فإني لم أدرك مصطفى كامل إلا في أوقات محدودة حين كنت استمع لبعض خطبه أو أقابله في "اللواء" منذ سنة 1906 مرات معدودة , أما فريد فقد اتصلت به عن كثب وعملت معه تحت لوائه سنين عديدة.

كنت سنة 1908 لم أتخرج بعد من مدرسه الحقوق حين تولى فريد بك زعامة الحركة الوطنية , وكنت أتردد عليه كثيرا في (اللواء) , وتلقيت عنه مبادىء الوطنية كما تلقيتها من قبل عن مصطفى , فصادفت من نفسي موضع العقيدة و الايمان , واتخذته بعد مصطفى أستاذا و إماما لي في الوطنية, وبدأت أكتب في اللواء على عهده وأنا طالب بمدرسه الحقوق .

أول مقالة لي في الصحف سنة 1908

وأذكر أن أول مقالة لي نشرت بالعدد الصادر في 9 مارس سنة 1908 تحت عنوان (تبدد الشعور الوطني وتجمعه)بإمضاء (حقوقي) , كتبتها بعد وفاة المرحوم مصطفى كامل بشهر , ووصفت فيها خواطري و آمالى في الجهاد, وكأنما رسمت لنفسي في هذه المقالة خطتي في الحياة , لذلك أود أن أنشر فقرات منها لأنها صورة من شعوري و تفكيري في مستهل حياتي السياسيه , قلت:

"للحوادث العظيمة على حياة الأمم تأثير كبير بما تحرك في القلوب من الشعور وتستفز فيها من العواطف , فلربما كانت حادثه مبدأ حياة أمة أو سببا في خلاصها من استبداد ظالم . وإذا عدت الحوادث الكبيرة التي لها يد في تكوين الشعور الوطني عندنا لجعلنا في مقدمتها وفاة فقيدنا العظيم مصطفى كامل . فقد كانت وفاته كشعلة نار مست الشعور الوطني وأصابت منه موضع الإحساس والتأثر, فانفجر وظهر بمظهر لم يكن أحد منا يتنبأ به , ولا زال في نمو وازدياد". "هذا الشعور الشريف هو رأس مال الأستقلال , إذا تعهده الرجال العاملون منا زادوه قوة وشدة وحفظوه من دواعي الفتور والخمود , وساروا به في خطة منتظمة محددة , وانحصر في تيار يجري رأسا إلى غايتنا وهي التخلص من سلطة الأحتلال".

إن الشعور بالحاجة إذا لم يدفع المرء الى العمل لنيل تلك الحاجة فلا فائدة منه البتة , فليس مجرد الشعور الا معنى في النفس لا وجود له مالم يظهر أثره في الخارج , الشعور قوه ولكن بشرط أن ينبعث في طريق واحد فيأمن شر التبدد والتلاشي.

إلى أن قلت: "مات مصطفى كامل فهاج موته شعور الاستقلال في النفوس , وكان أول من أحس بوقع المصاب النابغون منا في العلم و الفكر, فبكوه مع الباكين ورثوه مع الراثين , ولكن مارأينا أحدا منهم دفعه الشعور إلى أن ينزل في ميدان الحياة الوطنية فيعمل مع العاملين في تعهد الشعور الوطني و ابلاغه الغاية التي ذكرناها . كل منا يعلم حاجتنا الى رؤوس مفكرة عاملة تنير لنا سبيل تلك النهضة , ولكنا نرى نابغينا في معزل عنها مع أنهم هم أبناء بجدتها, و الشعور الصحيح هو الذي يدفع صاحبه الى البدء في محاربة رأس مال الاحتلال أفرادا و جماعات , حتي تقوي الشعور العام في كافة الطبقات وترسخ عاطفة الحرية في القلوب فلا يكون أمامنا سوى أمرين: الاستقلال أو الموت. حينذاك يقال: هذه أمة محال استعبادها حيث تؤثر الموت على الرضوخ, فخير لمن يريد منها نفعا أن يعاملها معاملة صديق مهاب.

"ليس من الصعب علينا أن نصل بالشعور الوطني إلى هذه الدرجة مادمنا نعمل على خطة منظمة, فالأساس الذي يبني عليه الإحتلال صرحه نحن مقيموه بأنفسنا , ألسنا راضين بأن نعيش في كنفه؟ هل يعقل أن إرادة الملايين من النفوس إذا قويت وتوجهت بصدق نحو غرض واحد, هل يعقل أن تصدها و تكبح جماحها إرادة أفراد معدودين؟ رأس مال الاحتلال في قلوبنا , إن شئنا استبقيناه و إن شئنا نزعناه من بين جوانحنا , فلا يعود له مقام بين ظهرانينا, فصرح الأحتلال قائم على عمادين : حسن الظن به من جهة , والوهم من جهة أخرى . فبحسن الظن ترضي الملايين من البشر بتحكم الأجنبي فيهم فيثبتوه سلطانه , و بالوهم يعطون له قوة لم يكنت يحلم بها فيخافون من شيء هم خالقوه .

" على هذين الأساسين أمكن لبضعة آلاف أن يسودوا على مئات الملايين في بقاع متباعدة , فلا عجب أن كانت سياسة الاستعمار الآن هي تخدير أعصاب الأمم باستجلاب حبهم من جهة و باقلاء الهيبة و الرعب من سطوتهم من جهة أخرى , فإذا نحن عملنا على هدم هذا الأساس من قلوبنا كنا مقيمين بعملنا بناء الاستقلال , و قد دلنا التاريخ على أن الأمة التي يشتد ألمها من الاستبداد و تتخلص من آثار الوهم من سلطانه تصبح على أبواب الحرية , و لم تستطع قوة ما الثبات إزاء سلطان عاطفة الاستقلال .

" هذا هو الطريق الذي سلكه غيرنا فافلحوا , إذا شعروا بحاجة قاموا و دفعهم الشعور إلى التكاتف سرا و علانية على العمل لنيل ما يريدون , فوضعوا غايتهم أمامهم , و رسموا لها الخطة العملية , و أعدوا لها معداتها , فعملوا على النظام الذي وضعوه , و كانوا بذلك من الناجحين " .

الحيــــــاة العمليـــة

في المحاماة نلت تلك شهادة الليسانس في يونيه سنة 1908 , و قد قيدت اسمي بجدول المحاماة في 19 يوليو من تلك السنة , و كنت لم أبلغ العشرين بعد , و اشتغلت محاميا بأسيوط شهرا واحدا " تحت التمرين " بمكتب الأستاذ محمد بك علي علوبة (باشا) , و كان وقت التحاقي بمكتبه على أهبة القيام بالأجازة , فتركني لوكيل المكتب أتلقى عنه الإرشادات و التعليمات التي تلزم " المحامي المبتدئ " , فلم أرتح كثيرا لإرشاداته و لا لطريقة تفهيمي القضايا , و بدا لي في أول عهدي بالمحاماة أنها لا تعجبني , و أني لا أنس لها كثيرا . فضلا عن أني تساءلت في خاصة نفسي : و ما مصيري في المحاماة إلى جانب نظراتي في الحياة و آمالي في الجهاد ؟ فقضيت هذا الشهر قلقا أتطلع إلى الأفق لعلي أهتدي إلى طريق آخر يتفق و خواطري و آمالي .

في الصحـــــــافة

فما أن دعاني فريد بك إلى أن أشتغل بالصحافة محررا باللواء حتى قبلت دعوته , و بدأت حياتي الصحفية في أكتوبر سنة 1908 على عهده , و من يومئذ ازدادت صلتي به , إذ كان يشرف على سياسة ( اللواء) و تحريره و يكتب فيه كثيرا و يتردد عليه يوميا , و كنت أسمع منه ثناء على ما أكتب , و أذكر أني كنت أترجم إلى اللغة العربية مقالات المرحوم إسماعيل شيمي بك , أحد أعلام الحركة الوطنية , و كان يكتبها بالفرنسية , إذ كان يتقنها دون اللغة العربية , و كانت آية البلاغة . فجهدت نفسي في أن أبرزها إلى اللغة العربية في مستوى لا يقل عن بلاغتها الأصلية , و لعلي وفقت إلى بعض ما كنت أرجو , و كان فريد بك يراجع ترجمتي لمعظم هذه المقالات و يبدي لي إعجابه بها , فشجعني ذلك على الكتابة و الترجمة .

و كنت أميل إلى كتابة المقالات المتسلسلة في موضوع واحد , و من هنا نشأ ميلي إلى التأليف , إذ وجدت أن المقالة الواحدة في الصحف لا تتسع للموضوع الذي كنت أفكر فيه .

و أذكر أن أولى سلسلة مقالاتي كانت في موضوع الدستور , و عنوانها ( آمالنا في الدستور ) بلغت عدتها سبع مقالات نشرت باللواء في أكتوبر و نوفمبر سنة 1908 , و توليت الرد على تقرير السير إلدون جورست المعتمد البريطاني عن سنة 1908 , فكتبت في ذلك تسع عشرة مقالة نشرت في شهر مايو سنة 1909 تضمنت عرضا تحليليا للحركة الوطنية و موقف الاحتلال و الحكومة حيالها .

و كتبت عدة مقالات عن حياتنا الاقتصادية و ما يتهددها من خطر , و عن الاحتلالين السياسي و الاقتصادي , و الانقالابات الاقتصادية (اللواء11 و 14 و 21 يناير و 28 فبراير و 7 مارس سنة 1909 )

مــدارس الشعـــب

وجه الحزب الوطني الشباب إلى المساهمة في بناء النهضة القومية في مختلف نواحيها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية . و من أعماله في الناحية الاجتماعية إنشاؤه مدارس الشعب الليلية في أواخر سنة 1908 , و كان الغرض منها تعليم الفقراء و العمال مجانا , و قد تطوعت مع لفيف من الشباب للتدريس في هذه المدارس . ووضع الحزب برنامجا , لها يتناول المواد الآتية : القراءة و الكتابة – دروس دين – قانون الصحة و الاحتياطات الصحية – العناية بتربية الأطفال – القوانين الخاصة بالمعاملات اليومية – الشئون الاجتماعية – دروس الأشياء – الحساب – تاريخ مصر و التاريخ الإسلامي – جغرافية مصر – أخلاق و آداب .

و بلغ عدد المدارس التي أنشأها الحزب في القاهرة سنة 1909 أربع مدارس في أقسام الخليفة و بولاق و شبرا و العباسية تحوي كل منها نحو مائة و عشرين تلميذا من مختلف الحرف , و قد ألقيت بعض الدروس في مدرسة الخليفة , و سمعت محمد بك فريد يلقي فيها درسا , و سمعت أيضا أحمد بك لطفي يلقي درسا في مدرسة بولاق . و أنشأ نادي المدارس العليا عدة مدارس أخرى على غرار هذه المدارس كان لمدارس الشعب فضل كبير علي , فهي التي ألهمتني الفكرة الأولى لتأليف كتابي (حقوق الشعب ) فإن هذا الكتاب هو سلسلة دروس محاضرات لتفهيم الشعب حقوقه و واجباته , و كانت دروسي في مدرسة الشعب بالخليفة نموذجا مصغرا للأسلوب الذي انتهجه في هذا الكتاب .

عـــودتي إلى المحـــاماة

حدث تحويل في حياتي العملية في أواخر سنة 1909 , ذلك أن زميلي و صديقي المرحوم الأستاذ أحمد وجدي الذي كنت أعزه و أنزله من نفسي منزلة الأخ الشقيق , رغب إلي أن أترك الصحافة , و كان هو أيضا يعمل فيها رئيسا لتحرير جريدة الدستور التي كان شقيقه الأستاذ محمد فريد وجدي بك يتولى إصدارها , و قال لي إننا يمكننا أن نشتغل بالمحاماة مستقلين , و أن نكتب في الصحف نا نشاء من الآراء و المقالات , و أن ذلك أولى من الانقطاع للصحافة , مما قد يفقدنا ميزة الاستقلال في حياتنا العملية , و قد ترددت في قبول هذه الفكرة إذ كنت منصرفا عنها , و مازال يقنعني بها حتى قبلت نصيحته بعد أن أمعنت النظر فيها و رأيتها في جملتها أصوب من انقطاعي للصحافة , و أدركت مع الزمن أنه أسدى لي أعظم نصيحة , و ساءلت صديقي حين تبادلنا الرأي في تحقيق فكرته : كيف نشتغل بالمحاماة مستقلين و أنا لم أتمرن عليها إلا شهرا واحدا و هو أيضا لم يقض مدة كافية في المران عليها ؟ و انتهينا إلى أن الحياة يجب أن تنطوي على شيء كثير من المجازفة , فعولت و إياه على الانقطاع عن مهنة الصحافة , و عملنا معا في المحاماة بمدينة الزقازيق منذ يناير سنة 1910 , و فتحنا في تلك السنة مكتبا آخر لنا بالمنصورة كنت أتولى مباشرة قضاياه , ثم انتقلت بمفردي إلى المنصورة و استقر بي المقام فيها منذ أكتوبر سنة 1913 حين أنشئت بها المحكمة الابتدائية , و ظللت بها نحو عشرين سنة , إلى أن انقلت نهائيا إلى القاهرة في ديسمبر سنة 1932 .

و قد ارتحت كثيرا إلى التحول من الصحافة إلى المحاماة , لأنني قد بدأت حياتي في المحاماة هذه المرة (سنة 1910) بداية حسنة , و لم أجد فيها الصعوبة التي كنت أتخيلها , بل شعرت كأني متمرن عليها , فألفتها و أحببتها , و أدركت أنها المهنة التي يجب أن أختارها لأؤدي واجبي الوطني , إلى جانب واجباتي الشخصية , و أخذت أكتب المقالات من آن لآخر و أبعث بها إلى الجريدة ( العلم ) , لسان حال الحزب الوطني , و ظهرت أول مقالة لي و أنا محام في عدد 13 مارس سنة 1910 تحت عنوان ( قوة الرأي العام و الحكومة ) , و كتبت في عدد 30 مارس من تلك السنة مقالة مطولة عنوانها( الشدائد خير مرب للأمم ) , هنأني عليها فريد بك إذ جاءت مطابقة للظروف التي نشرت فيه مطابقة عجيبة , فقد أرسلتها إلى جريدة العلم في الوقت الذي صدر فيه قرار وزارة الداخلية بإيقافها شهرين , و لم أكن أعلم بصدور هذا القرار فنشرها الحزب في أول عدد من (جريدة الاعتدال ) التي اتخذها لسان حاله مدة إيقاف العلم , فهونت على القراء أمر الإيقاف , إذ دعوت فيها إلى مقابلة الاضطهاد بالصبر و الثبات , و كأنها كتبت ردا على قرار وزارة الداخلية , فكان لها ضجة استحسان كبيرة , و صارت حديث الناس في مجالسهم , و بخاصة حين علموا أني كتبتها دون أن أعلم بقرار إيقاف ( العلم ) , و استبشروا خيرا بما أكتب , و طلب مني فريد بك المزيد من الكتابة , فكان ذلك التشجيع حافزا لي على توكيد صلتي بالصحافة , و زاد في توطيدها أن أخي " أمين " كان محررا مقيما بصحيفة الحزب الوطني , ثم رئيسا لتحريرها .

و في سبتمبر سنة 1910 انقطعت مؤقتا عن مكتبي و توليت رئاسة تحرير العلم في غيبة شقيقي أمين الذي سافر إلى أوروبا لحضور جلسات المؤتمر الوطني الذي انعقد ببروكسل في ذلك العام و موافاة العلم برسائل المؤتمر , و كان الشيخ عبد العزيز جاويش رئيس التحرير يقضي مدة السجن المحكوم بها عليه من محكمة جنايات مصر في قضية ( وطنيتي) , و كانت إدارة العلم بشارع محمد على بالمنزل رقم 116 .

في مؤتمر بركسل سنة 1910

ساهمت في مؤتمر بروكسل سنة 1910 , و كان موضوع خطبتي فيه ( مركز الصحافة في مصر و الأدوار التي تعاقبت عليها في عهد الاحتلال ) بالفرنسية , و قد ألقاها عني فؤاد بك حسيب بجلسة 24 سبتمبر و لم أحضر المؤتمر بنفسي إذ كنت مشغولا بالإشراف على تحرير العلم وقت انعقاده , و قد نوهت مدام جولييت آدم إلى فضل هذه الخطبة في كتابها ( انجلترا في مصر ) الذي ظهر سنة 1922 في فصل ( الصحافة ) , و أثنت على الخطبة و صاحبها , و نقلت منها صحائف بأكملها محبذة مؤيدة لمحتوياتها و لما رجع المرحوم أمين من بروكسل عدت إلى عملي في المحاماة .

في المؤتمرات الوطنية

كان الحزب الوطني يعقد مؤتمرات سنوية تجتمع فيها الجمعية العمومية للحزب و يستعرض فيها فريد بك تطور الحركة الوطنية في العام المنصرم , و كانت هذه الاجتماعات تسمى المؤتمرات الوطنية , و أهمها مؤتمر سنة 1908 و 1910 و 1911 .

و كنت أحضر هذه المؤتمرات كعضو في الحزب الوطني , و قد انتخبت عضوا في اللجنة الإدارية للحزب في مؤتمر سنة 1911 الذي انعقد بدار العلم بشارع الصنافيري ( علي باشا ذو الفقار الآن ) و انتخب فيه فريد بك رئيسا مدى الحياة .

مع فــريد في أوروبا

في سبتمبر سنة 1911 صحبت فريد بك في رحلته إلى أوربا لحضور مؤتمر السلام الذي كان مزمعا اجتماعه بروما في أواخر ذلك الشهر , و كان لمصاحبتي إياه في هذه الرحلة أثر كبير في نفسي و زادت صلتي الروحية به , إذ رأيت من عطفه و حنانه الأبوي , و دماثة أخلاقه , و رقة شمائله , ما حببه إلى نفسي , و صحبنا في هذه الرحلة الأستاذ أحمد وفيق , و قد أفدنا كثيرا منها , لأن فريدا كان يعرف أوربا من قبيل معرفة تامة , فكان يرشدنا إلى ما يجب أن نتعلمه و نعرفه و نشاهده في البلاد التي زرناها , و صحبنا في جزء من الرحلة الدكتور منصور رفعت , و أخذت لنا صورة بباريس تذكارا لسياحتنا مع الفقيد .

و في هذه الرحلة زرنا إيطاليا و فرنسا و ألمانيا و النمسا , و عرجنا بالأستانة , و عدنا منها إلى مصر , و كتب خلال سفري عدة مقالات عن مشاهداتي و خواطري في السفر , منها مقالة بعنوان ( الأمم سيف و أخلاق ) أرسلتها من ترينو بإيطاليا و نشرت في عدد 6 أكتوبر سنة 1911 من العلم , و مقالة عن ( الإسلام في أفريقية – مسألة طرابلس و الغرب و المسألة المراكشية ) أرسلتها من باريس و نشرت في عدد 16 أكتوبر , و مقالة عن ( الوطنية و الإنسانية و كيف يفهمونها في أوروبا ) نشرت في عدد 20 أكتوبر , و مقالة عنوانها ( يومكان في مجلس المبعوثان ) أرسلتها من الأستانة و نشرت في عدد أول نوفمبر سنة 1911 .

الحيــــاة المثـــــاليـــة

هل هي ممكنة ؟

كنت و أنا طالب بمدرسة الحقوق أعد نفسي للجهاد و المساهمة في سبيل تحرير البلاد و النهوض بها , رسخ في نفسي هذا الاتجاه حتى صار (فيما أظن ) عقيدة كان و لم يزل لها أثرها في حياتي السياسية و الاجتماعية , فمن الوجهة السياسية اعتنقت المبدأ الذي يتفق مع هذا الاتجاه , و هو مبدأ الجلاء , و انضويت تحت لواء الزعيمين اللذين رأيت فيهما المثل العليا للوطنية الحقة , و فهمت الوطنية على أنها إخلاص للوطن , و سعي متواصل لتحقيق أهدافه و استمساك بحقوقه , و تغلب لمصالحه العليا على مصالح الإنسان الشخصية , و من الوجهة الاجتماعية جعلتني هذه العقيدة أرى أن الوطنية تتطلب من المواطن أن يحيى حياة مثالية , لأن الحياة المثالية هي الأساس الوطيد للحياة الوطنية , فتاقت نفسي عندما تخرجت من مدرسة الحقوق و انتظمت في سلك الحياة العملية أن أنشد المثالية في حياتي الشخصية و العائلية و الاجتماعية , و أن أنشدها في الحياة السياسية أيضا , و لم أكن أخفي على نفسي أن الحياة المثالية ليست من اليسر و لا من السهولة بحيث تغري شابا مثلي في مقتبل العمر أن يسلك سبيلها , و لكن هكذا شاءت الأقدار أن أنشدها لنفسي , و لست أدري مبلغ ما حققت منها , و إلى أي مدى كنت مثاليا أو غير مثالي , و هل الحياة المثالية ممكنة أم لا , نافعة أم ضارة , و هل هي – بوجه خاص – ممكنة في الحياة السياسية أم لا , و هل أخطأت أم أصبت في نشداني لها ؟

كل هذه أمور لست أستطيع بعد طول السنين أن أجيب عنها , و ما فائدة البحث فيها الآن ؟

لكن الذي يمكنني الافضاء به أني اجتهدت أن أخذ من الحياة المثالية أقصى ما أستطيع , و يمكنني أن أقول إن نصيب الإنسان منها يتبع مبدئيا الوسط و البيئة التي يعيش فيها , فالمجتمع الذي يؤمن بها يساعد بداهة على أن يحياها المواطن الصالح , و المجتمع الذي لا يؤمن بها يخذلها و يباعد بين الإنسان و ما ينشده منها , على أن الإرادة الشخصية لها دخل في توجيه المواطن إليها , و هي على أي حال تحتاج ذخيرة من الصبر , و من الصوفية الوطنية , تجعل المرء غير مكترث لما يلقاه من العقبات و المتاعب أو ليست الوطنية نضالا في سبيل المثل العليا ؟ و هذا النضال يقتضي توطين النفس على احتمال الأذى في سبيل محبة الوطن ؟ هكذا قالوا ! فهل هي مجرد أقوال , و خيالات و أحلام ؟ أو أقوال تؤديها الأعمال , و كيف يمكننا أن نبث روح الوطنية في نفوس الجيل إذا لم نكن مثاليين في وطنيتنا ؟ على أي حال قد سعيت في أن أجعل لهذه الخيالات نصيبا من الحقائق و لست أدري هل حققت شيئا منها , أم كنت واهما في تفكيري و مسعاي ؟ و مما رغبني في الحياة المثالية اعتقادي أنها من أقوم السبل للنهوض بالأمة و تحريرها من قيود النقص و الضعف التي تتعثر فيها من الوجهة الوطنية و الأخلاقية و الاجتماعية , و هذا التحرير الوطني هو السبيل إلى التحرير السياسي , و ليس من الميسور أن تحرر الأمة من عيوبها و مواطن الضعف فيها بالقول و الكتابة , بل يجب أن تكون القدوة الصالحة هي أولى السبل في هذا الجهاد , فعلى الإنسان أن يكون مواطنا صالحا , و مواطنا مثاليا , قدر ما يستطيع , فإنه بذلك يقيم لبنة في صرح النهضة القومية . و لقد كنت قبل أن أتخرج من مدرسة الحقوق أنتقد الصفوة المتعلمة من الأمة في تقاعدها عن أداء واجباتها الوطنية , و أعربت عن هذا الشعور في مقالتي الأولى باللواء , و من ثم أخذت نفسي بأن أنشد الجانب المستطاع من الحياة المثالية , إذ كيف أعد الآخذ على غيري دون أن آخذ نفسي بما يجب أن يفعلوه ؟

حقا إن طريق الحياة المثالية ليس معبدا و لا مفروشا بالأزهار و البرياحين , بل هو طريق قد يكون شائكا , كثير المتاعب و العقبات , ور بما جر على صاحبه بعد العنت و الخذلان , و جعله عرضة لكثير من صنوف العداوة , و ضروب التجهم و التنكر , و لكن على الإنسان أن يكون له هدف في الحياة , فإذا كان هذا الهدف شريفا , فليتذرع بالشجاعة و الإيمان , و القناعة و الإقدام , فإنه بالغ بفضل الله غايته أو نصفها أو ربعها , أو القليل منها , و لكنه سائر على أي حال في الطريق القويم , و الأمم لا تنهض إلا بهذا النوع من الحياة , إنها لا تنهض بالحياة النفعية الفردية , و إنما تنهض بالحياة الوطنية , أن الياة النفعية تفيد صاحبها , و لكنها إذا اصطبغت بالأنانية و عمت المواطنين , كانت الأمة مجموعة من الأفراد المتخاذلين لا يعتمد عليهم في النهوض بالوطن و البذل في سبيله و دفع الأذى عنه .

كان لي صديق في الدراسة ارتبطت و إياه برباط الود و الإخلاص , تخرجنا معا من مدرسة الحقوق , و مع طيبة أخلاقه و استقامته و حسن سريرته , فإنه يرى خدمة البلاد بغير الطريقة التي كنت أنشدها كان قليل الثقة في المجتمع و في المواطنين , و نظريته أن على الإنسان أن يكون قويما في ذاته و مسلكه فحسب , أما أن ينشد الحياة المثالية فإنه بذلك يعرض نفسه للأذى بغير نتيجة .. و كانت تدور بيننا من حين لآخر مناقشات و محاورات في مختلف الرأيين , و كان يحذرني دائما مغبة الحياة التي كنت أنشدها , و كنت أخالفه في الرأي , و أقول له إن أمتنا لم تلق من بنيها الخدمات الصادقة الصحيحة , ولو هي وجدت منهم هذه الخدمات لكانت حالها خيرا مما هي عليه , فإذا لم تجد من الطبقة المتعلمة المثقفة مثل هذه الخدمات فممن تنتظرها ؟ أما هو فكان يقول لي : و هل يضحي الإنسان بنفسه في وسط لا يقدر التضحية بل يخذل صاحبها ؟ و أين الوسط الذي يقدر الأخلاق و المثل العليا ؟

و كثيرا ما كان يقول لي : إنك تعيش في جو من الأوهام , و ستصدمك الحقائق العملية في الحياة و سترى أن المجتمع لا يقدر النفعيين و الوصوليين بأكثر مما تتوهم أنه يقدر المثاليين , و ينصر أولئك بمقدار ما يخذل هؤلاء ! و كنا نفترق مختلفين في الرأي و الحجة , دون أن يؤثر هذا الخلاف في صداقتنا , و لكل وجهة .

لست أدري على وجه التحقيق من كان منا على حق و من كان منا مخطئا – على الأقل في حق نفسه – كل هذا لم يصرفني عن التمسك برأيي , و قد يكون تمسكي بهذا الرأي أمرا غير إرادي , و لكن هكذا اتجهت نفسي هذه الوجههة , و لقد كان لها أثرها في مختلف مراحل حياتي .

اخترت المحاماة , و آثرتها على الوظيفة متأثرا بالنظرية المثالية , اخترت المحاماة , ثم الصحافة , ثم عدت للمحاماة , و بقيت فيها على تعاقب السنين , إذ رأيت أنها أقرب إلى أن أجد فيها الحياة المثالية لمن يريد أن يحياها , رأيت فيها المجال فسيحا لأساهم بنصيبي في الكفاح الوطني , و كنت أرى في الوظائف مجالا ضيقا لهذا الكفاح , و من هنا آثرت المحاماة على الوظائف , و رأيت في المحاماة أيضا الحرية التي كنت أنشدها , فلا يحد من عملي فيها رئيس أو رقيب , و كنت أتخير من القضايا ما أراه سليما , فأجد من حرية الاختيار مالا أجده لو كنت موظفا , فإن على الموظف مهما كان مستقل الرأي حي الضمير , أن يعمل بما يؤمر به من الرؤساء , و لو خالف ضميره في بعض المواطن , و النظام الحكومي بل الاجتماعي يقتضي ذلك , حقا إن الماصب القضائية التي كانت تؤهلني لها اجازة الحقوق هي أبعد مناصب الدولة عن التأثر بأوامر الرؤساء , و أكثرها استقلالا , و لكني مع ذلك رأيتني في المحاماة أكثر حرية و استقلالا , و أقرب إلى ميدان الكفاح الوطني مما لو اخترت الوظيفة .

أول مؤلفاتي – حقوق الشعب سنة 1912

اتجهت نفسي منذ سنة 1910 إلى الجمع بين المحاماة و التأليف , فقضيت أوقات فراغي من المحاماة سنة 1911 و أنا بالزقازيق في تأليف أول كتاب لي و هو (حقوق الشعب) , و قد تم طبعه و ظهوره في مارس سنة 1912 , و عنوانه يدل على موضوعه و معناه , ضمنته شرحا للمبادئ الدستورية , و وضعته لتأييدها , و تدريسها و تعميمها , عبرت فيه عن الحكام بأنهم " وكلاء الأمة " , و أهبت بالأمة أن تناضل عن كيانها بكل ما أوتيت من حول و قوة , و جعلت شعار الكتاب " تبتدئ القوة حيث ينتهي الضعف " , و قلي في مقدمته تعريفا بالغرض من تأليفه :" القوة و العلم , هذا العاملان هما الدعامتان اللتان تضمنان للأمم حياتها و حقوقها , جئت في هذا الكتاب أخاطب فئتين من الأمة كانوا دائما جنود الحرية في كل البلاد , و هما : رجال الغد , و جمهور الشعب , جئت أخاطب إخواني الشبان رجال الغد الذين أعد نفسي واحدا منهم و أعتقد أن عليهم واجبا كبيرا هم مدينون به نحو الله و نحو الأمة و وهو واجب العمل لتحرير بلادنا , فكل شاب منا , سواء كان لا يزال في مهد التعليم يتلقى العلوم و يتغذى بلبان المعارف في المجارس , أو دخل في معترك الحياة , كثيرا ما يتساءل :" كيف أقوم بالواجب ؟ " و يطلق لنفسه عنان البحث للجواب على هذا السؤال , لأنه سؤال لا يكفي للجواب عنه تفكير لحظة واحدة أو يوم واحد , بل يحتاج إلى إطالة في البحث و التفكير , هذا السؤال الذي يجدر بكل إنسان أن يجعله وجهته في الحياة و الذي يجب أن لا نعد الرجل رجلا إلا إذا عرف كيف يجيب عنه قولا و فكرا و عملا , هذا السؤال قد جعلت غرضي من وضع الكتاب أن أجيب عنه " إلى أن قلت : " أردت في هذا الكتاب – من جهة – أن أطرح بين يدي إخواتي نموذجا مختصرا للعمل على أداء واجبهم نحو الأمة , ثم تخيرت من جهة أخرى في وضعه طريقة أغلبا لمؤلفين الغربيين الذين وضعوا الكتب و المؤلفات لتعميم حقوق الشعب و نشر النظريات الدستورية , و قصدت من ذلك أن يكون هذا الكتاب كمجموعة دروس لمبادئ الحقوق العمومية و بسط العلاقات بين الشعوب و الحكومات حتى لا يحرم عامة القارئين من عرفان تلك المبادئ الضرورية لكل مجتمع يريد أن يكون حرا ". و جعلت الكتاب في قالب محاورات و اجتماعات بين فريق من الشباب و جمهرة من القرويين يدور فيها الحديث حول هذه المواضيع .

و قد أعجب فريد بك بهذا الكتاب و هنأني بتأليفه و قال لي :" في البلاد صحافة وطنية , و ينقصها التأليف الوطني , و قد سلكت هذا السبيل فاستمر فيه وفقك الله ", و قد عملت بنصيحة جهد المستطاع .

صلتي بفريد بك في منفاه

هاجر محمد فريد من مصر قي تلك السنة (1912) , فاستمرت صلتي به في منفاه , و كنت أراسله و أعرب له في رسائلي عن إخلاصي له و ثباتي على عهده , وزرته في منفاه بالأستانة في أغسطس سنة 1912 , و شعرت بغبطة كبيرة إذ رأيته في صحة موفورة , و نفسية مطمئنة , و قد سافر يوم 20 أغسطس قاصدا باريس فجنيف و ودعته غلى المحطة مع من ودعوه من المصريين و كنت هذه آخر مرة رأيته فيها , ثم بادلته المراسلة في منفاه , و جاءتني منه عدة رسائل تفيض عطفا علي و تقديرا لي , فزادت صلتي به توثيقا و توكيدا , منها رسالة بعث بها إلي في بطاقة بريد ( كرت بوستال ) من جنيف بتاريخ 5 ديسمبر سنة 1912 قال فيها :

" حضرة ولدنا الفاضل :

" سلاما و تحية . و بعد فأخبر الأخ أني في غاية الصحة رغما عن البرد الشديد الذي نزل اليوم إلى ما تحت الصفر , و عن الثلج الشديد الذي كسا الأرض أول أمس حلة بيضاء نقية , و غطى جميع الجبال المحيطة بنا , ثم أرجو تبليغ سلامي لحضرة الشقيق الأمين و باقي الإخوان وفقكم الله و إيانا لخير العمل و عمل الخير " .

" محمد فريد "

و أرسل إلي بتاريخ 21 ديسمبر سنة 1912 الكتاب الآتي من جنيف :

" جنيف في 21 ديسمبر سنة 1912 " .

" أخي الصادق رفع الله مقامه " .

" استلمت بيد السرور جوابك رقم 14 الجاري , و أثلج صدري ما به من العبارات الدالة على الصدق و الإخلاص للوطن الأسيف , لدي الآن مسألة مهمة جدا أحب أن تهتم بها أنت و الاخوان و هي أننا كنا معتادين على مساعدة جريدة (اجيبت ) التي تصدر بلوندرة بمائتي جنيه سنويا دفعناها تماما في سنة 1911 و دفعنا جزءا منها أوائل سنة 1912 و هو 40 جنيها فقط , فقام مستر بلنت و إخوانه بمصروفها , إلى آخر عدد ظهر منها ( و وصلني صباح اليوم ) مساعدة بعض الطلبة بانجلترا , و اليوم كتب لي مستر بلنت بعدم إمكان اللجنة القيام بنشرها ما لم ندفع لها إعانة سنوية قدرها مائتا جنيه , و في نظري أن بقاء هذه المجلة في عالم الوجود ضروري لنا الآن خصوصا و قد أصبحنا بلا لسان يعبر عن أفكارنا في مصر إلا( الشعب ) و طبعا هو قصير العمر ما دامت الوزارة الحالية موجودة ؟.

" فأرجوك التكلم في هذه المسألة مع الاخوان لجمع هذا المبلغ و لو على قسطين يدفع الأول في شهر يناير و الثاني في إبريل مثلا , لأنه لا يصعب على الأمة التي تجود بمئات الآلاف من الجنيهات ألا تبخل بمائتي جنيه فقط لمثل هذا العمل المفيد . إني أشتغل الآن في وضع رسالة صغيرة بالفرنساوية أشرح فيها الأسباب التي أوصلت الدولة العلية لهذه النقطة الخطرة و هذا المركز الحرج , و ربما ظهرت هذه الرسالة في بحر يناير ".

" و في الختام أهديك أنت و جميع الاخوان مزيد سلامي و وافر تحيتي دمت لأخيك أو والدك المخلص " .

" محمد فريد "

لم أر في الجرائد ذكرا لعيد السنة الهجرية , هل لم يحتفل به نادي المدارس العليا كالمعتاد ؟ إذا أمكنك أن ترسل لي كتاب مصطفى الرافعي" حديث القمر " أكون لك من الشاكرين عنواني الحالي :

“ 7 bis Boulevard du pont d’ Arve, Geneve”

و قد شهدت في سنة 1913 و ما بعدها انفضاض بعض أنصار الفقيد البارزين من حوله , و كان وجوده في المنفى قد أنساهم عهده , و زاد في انصرافهم عنه غضب الخديو عليه , إلى غضب الاحتلال , و كنت أفضي إليه في بعض رسائلي بألمي من تقاعس الكثيرين عن القيام بواجبهم الوطني , فأرسل إلي من الأستانة في مارس سنة 1913 خطابا يحثني فيه على عدم اليأس و عدم التأثر للذين تخلفوا و تركوا الصفوف , و يرغب إلي و إلى الاخوان العمل في نشر الدعوة إلى الاستقلال الاقتصادي لكي تستمر الحركة الوطنية في نموها و نشاطها , قال :

" الأستانة في 25 مارس سنة 1913 "

" حضرة الأستاذ الفاضل و الوطني المخلص " :

" عزيزي : وصلني جوابك المؤرخ 9 الجاري المرسل إلى جنيف و علمت منه عدم وصل اعداد رسالتي إليك و هذا غير مستغرب فقد اتصل بي أن الطرد المرسل إليكم حجز و صودر بجمرك الأسكندرية مع طردين آخرين مرسل أحدهما إلى ديمر الكتبي و الآخر إلى السخاوي , و لم يفلت إلا الطرد المرسل إلى الأخ عبد الملك , و لا أدري إذا كانت أعداد المجلة وصلتك , إذ ربما تحجز هي أيضا .

" هذا و قد ساءني ما جاء بجوابكم المذكور من العبارات التي تشف عن اليأس من مستقبل الأمة بسبب ما ظهر من بعض أبنائها من الخور و الضعف , تلك الحالة التي أدت إلى تلبية العموم لدعوة عميد أعداء البلاد , و ما كنت لأنتظر هذا ( الشبه اليأس ) منك لما أعهده فيك من قوة الإرادة و شدة الوطنية , فإذا كان الخوف من رجال السلطة حدا بالكثيرين إلى عدم إظهار إحساسهم الوطني , فما يمنعهم من صرف همتهم إلى المشروعات الاقتصادية , كالنقابات و شركات التعاون المنزلي و المالي , و قد برهن ما أسس منها عن نجاح عظيم و على استعداد الأمة للإقبال على مثل هذه المشروعات , هذا ميدان واسع للجميع , فأدخلوا فيه بهمة و نشاط , فاستقلال مصر الاقتصادي مقدمة لاستقلالها السياسي .

" على أني لم أزل من الضروري تقوية لجنة الحزب الإدارية و تتميم أعضائها بانتخاب المخلصين و ضمهم إليها , و إتيان بعض الأعمال التي تبرهن على وجودها .

" أرجوكم الاجتهاد في إدخال أعضاء عاملين في جمعية ترقى الإسلام و أن تكون أنت في مقدمة المشتركين ( و الاشتراك عشرون فرنكا في السنة ) فإن هذه الجمعية سيكون لها مستقبل عظيم و أثر فعال في جميع جهات الإسلام , لو وجدت أقل مساعدة .

" و في الختام أهديكم أنت و الاخوان مزيد السلام .

" محمد فريد "

كتـــابي عن التعاون سنة 1914

و قد عملت بنصيحته و ضاعفت جهودي في خدمة الحركة التعاونية و الحركة الاقتصادية , و صرفت سنة 1913 في وضع كتابي عن ( التعاون ) و المساهمة في تأليف بعض النقابات الزراعية و دراسة بعض الشئون الاقتصادية , فكتبت في الشعب سلسلة مقالا عن ميزان مصر الاقتصادي ( أعداد 23 سبتمبر و أول و 2 و 5 و 10 و 14 أكتوبر سنة 1913 ( و عن الكماليلات في مصر و خسارتها منها ( عدد 24 أكتوبر سنة 1913 ) و عوانق الصناعة الوطنية ( عدد 18 نوفمبر سنة 1913 ) .

و لما علم الفقيد بانشغالي بوضع كتابي عن التعاون أرسل إلي في 22 إبريل سنة 1913 الخطاب الآتي : " الأستانة البلد في 22 إبريل سنة 1913 .

" حضرة عزيزي الفاضل عبد الرحمن أفندي الرافعي :

" وصلني عزيز خطابك الرقيم 4 الجاري و قد سرني انشغالكم بهذا المؤلف الاقتصادي , كما سرني خبر انصراف همة أحمد بك لطفي لهذه الغاية المفيدة , خصوصا و قد علمت من مطالعة الجرائد أن كتشنر سيشتغل بها استجلابا للأمة نحوه و نحو الاحتلال , فيجب عليكم أن تسبقوه لهذا العمل , حتى لا تغش الأمة و لا تنصرف إليه , على أني لم أسمع من مدة بتشكيل نقابات جديدة أو شركات تعاون أو شيء آخر من هذا القبيل , مع أنكم لو قام كل فرد منكم بتأسيس جمعية اقتصادية في دائرته , لبلغ عددها في وقت قليل العشرات بل المئات , و لذلك أرى أن اشتغالك بالتأليف لا يجب أن يمنعك من الاشتغال عمليا في تأسيس النقابات مع إخوانك , وما هذا بعزيز عليكم لو أردتم , و لعلني أسمع قريبا بأخبار ما تؤسسونه من الشركات و الجمعيات الجديدة .

" سرني كذلك ما قررته اللجنة من عقد مؤتمر وطني بجنيف , و قد رأيت أن يكون في 22 سبتمبر أي تاريخ انعقاد المؤتمر الأول , و إني أقترح عليك أن تكتب تقريرا عن حالة النقابات بمصر و تاريخها و بعض إحصائيات عنها و عن أعمالها , لنظهر للعالم شيئا من أعمالنا العملية و نبرهن على أن حزبنا حزب تعمير لا حزب تخريب كما يتهمونه به .

" إني بانتظار نتيجة أعمالك لصالح جمعية ترقى الإسلام .

" ماذا تقصد عمله في الأجازة المقبلة ؟ هل تحضر لأوربا أو تنتظر انعقاد المؤتمر ؟ إني أكون سعيدا جدا لو رأيتك بين خطباء المؤتمر . و فقك الله لخدمة البلاد آمين .

" سلامي لك و لجميع الاخوان ,و بالأخص للأخ أمين حفظه الله لك و لنا .

" المخلص : محمد فريد "

و جاءني منه في يونيه سنة 1913 الخطاب الآتي :

" جنيف في 6 يونيه سنة 1913 .

" ولدي المحترم الفاضل عبد الرحمن أفندي الرافعي :

" السلام عليكم و رحمة الله و بعد فقد وصلني جوابكم المؤرخ 10 الماشي من مدة , و لم بمنعني عن الرد عليه إلا الكسل من جهة , و انشغالي بمجلة ترقى الإسلام من جهة أخرى , فقد أصدرت العدد الثاني منها عقب عودتي من الأستانة , و أرسلت لك نسخة منها , لعلها وصلت و لم تصادرها حكومتنا الأبوية الرحيمة .

" من 7 مايو لم يصلني إلا جريدة أخرى مصرية , و لا أدري لذلك من سبب , مع أني كتبت للإدارة قبل سفري من الأستانة بعنواني الجديد . و ها قد كتبت من عشرة أيام للإدارة مجددا . فأرجوك التحرير لأخيك أمين بالتنبيه على من يلزم بإرسال النسخ النتأخرة جميعها ابتداء من 8 مايو و عدم قطع الشعب طأو أي جريدة تقوم مقامه . أرجوك أن ترسل لي نسخة من تقرير كتشنر بالعربية و أخرى بالفرنسية إن كان طبع بها . لأن وجوده بين يدي ضروري للكتابة و المناقشة .

" كيف حال نادي المدارس ؟ و هل سكتت عنه الحكومة ؟ و ما هي الحالة العمومية بالإجمال ؟ أرجوك أن تكتبها مطولا . و أن يكون الجواب ( مسوكرا ) .

" بلغ سلامي لجميع الاخوان و بالأخص للأخ وفيق . و أخبره بأني في اشتياق زائد لجواباته و أخباره . هل أؤمل أن أراكم في هذه السنة بأوروبا , و من الاخوان عزم على السفر في هذا الصيف إلى ربوع سويسره ؟

" محمد فريد "

و في يوينه سنة 1914 أهديته كتابي عن التعاون فجاءني منه الخطاب الآتي :

" جنيف في 23 يوليو سنة 1914 .

" حضرة ولدنا الفاضل عبد الرحمن بك الرافعي حفظه الله :

" السلام عليكم ورحمة الله . و بعد فقد وصلني كتابكم في تاريخ النقابات و مستقبلها في مصر , و قرأته من أوله لآخره . فألفيته أحسن كتاب أخرج للأمة المصرية في هذا العام . فشكرا على هذه الخدمة الوطنية التي لا تقدر وفقكم الله للاستمرار في هذا الطريق المفيد . و أفاد البلاد بأرائكم . و الأملب الآن أن كل النقابات التي تؤسس تنشأ حرة بحيث يسقط قانون الحكومة من نفسه أو تضطر هي لتعديله .

" مؤتمر الشبيبة ينعقد بعد باكر , و المنظور أن سيكون شاملا لمندوبين عن جميع الجمعيات , فقد حضر للآن مندوبو لندرة و برلين و باريس و بلجيكا و الأستانة و سنجمع أعماله و نرسلها للشعب , عله يوافق و تساعده الظروف السياسية على نشرها كلها أو بعضها .

" أؤمل " أن أكون بالأستانة حوالي 20 أغسطس لأحضر عيد الفطر بها فلعلي أراك بها بخير و صحة و عافية . و السلام عليكم ورحمة الله .

" محمد فريد "

و قد نشبت الحرب العالمية الأولى في أغسطس سنة 1914 , و انقطعت المواصلات بين مصر و أوربا , فلم يتح لي أن أرى فريدا , على شدة رغبتي في أن أسعد برؤيته , و انقضت أعوام الحرب , ثم أعلنت الهدنة في نوفمبر سنة 1918 , و قامت الثورة في مصر .

و ترقبت أن تعود الفرصة فتتاح لي لكي أسافر إلى حيث ألتقي بإمامي في الوطنية , و لكن الموت عاجله في نوفمبر سنة 1919 و حال بيني و بين أن أراه , و غاب عني شخصه و لكن لم تغب عني قط ذكراه , و لن تغيب مادمت حيا .

اعتقالي 1915- 1916

شبت الحرب العالمية الأولى في يوليوأغسطس سنة 1914 , و أعلنت السلطة العسكرية البريطانية الأحكام العرفية في مصر ابتداء من 2 نوفمبر من تلك السنة , على أثر دخول تركيا الحرب ضد الحلفاء .

و في ديسمبر سنة 1914 وقع الانقلاب المشئوم الذي أعلنت فيه الحماية البريطانية الباطلة على مصر , و خلع الخديو عباس حلمي الثاني , و عين الأمير حسين كامل سلطانا .

و قد احتجبت جريدة ( الشعب ) – و كان يتولى رئاسة تحريرها المرحوم أمين الرافعي – عن الظهور احتجاجا على إعلان الحماية , و تولدت السلطة العسكرية حكم البلاد في خلال الحرب , فكان أول عمل لها اضطهاد الحزب الوطني و مطاردة رجاله , فضبطت أوراقه و دفاتره و سجلاته , و شتت شمل أعضائه أو الذين اشتبهت في أنهم أعضائه أو أنصاره , و اعتقت الكثيرين منهم , و وزعتهم على سجن الاستئناف بالقاهرة , و سجن الحدرة بالأسكندرية , و المعتقلات التي أنشأتها لهم خصيصا في درب الجماميز و طره و الجيزة و سيدي بشر , و نفت بعضهم إلى مالطة و أوربا , و كنت ممن أصابهم الاعتقال , و أذكر من أسماء المعتقلين وقتئذ : أحمد بك لطفي, علي فهمي , كامل بك , عبد الله بك طلعت , عبد اللطيف بك الصوفاني و قد وضع تحت المراقبة في دمنهور . عبد اللطيف بك المكباتي . الأساتذة عبد المقصود متولي محمد زكي علي . أحمد وفيق . أمين الرافعي. عبد الرحمن الرافعي . مصطفى الشوربجي . إسماعيل حافظ صهر محمد بك فريد . محمد فؤاد حمدي . إبراهيم رياض . الدكتور عبد الحليم متولي . الدكتور عبد الفتاح يوسف . الدكتور شفيق منصور . أحمد أفندي رمضان زيان . اليوزباشي حافظ محمود قبودان . اليوزباشي أحمد حمودة . محمد أفندي الشافعي . مصطفى أفندي حمدير . يعقوب أفندي صبري . اليوزباشي أحمد نبيه قبودان . إسماعيل أفندي حسين . الشيخ إبراهيم مروني إلخ إلخ .

و ممن نفوا إلى أوربا : الدكتور نصر فريد بك . و إلى مالطة الدكتور عبد الغفار متولي . الأستاذ الدكتور محمد عوض محمد. الأستاذ محمود إبراهيم الدسوقي . الأستاذ محمد عوض جبريل . حامد بك العلايلي . سلامة أفندي الخولي . الأستاذ على فهمي خليل . الأمير أفندي العطار و غيرهم و غيرهم . و قد لبثوا في المعتقلات أو في المنفى مددا طويلة , و منهم من لبث في السجن أو المنفى إلى ما بعد الهدنة سنة 1918 , أما من أفرج عنهم فقد قيدت حريتهم و وضعوا تحت المراقبة .

إلى الســجن

كان اعتقالي بالمنصورة يوم 17 أغسطس سنة 1915 , و في نفس هذا اليوم اعتقل لفيف من خاصة أهل المنصورة ممن عرفوا بميولهم الوطنية , و رحلونا معتقلين إلى القاهرة حيث أودعونا سجن الاستئناف بباب الخلق , و هناك التقيت بأخي أمين و بفوج آخر من الوطنيين , اعتقلوهم بمصر يوم اعتقالنا , و كان نظام الاعتقال بسجن الاستئناف أن تخصص كل غرفة من الغرف الانفرادية لاثنين من المعتقلين , و قد نسقوا اختيار كل اثنين بحسب مراكز المعتقلين و شخصياتهم , و إذ كنت قد اعتقلت بالمنصورة , فقد وضعوني أنا و المرحوم عبد اللطيف بك المكباتي عضو الجمعية التشريعية ( و عضو الوفد المصري فيما بعد في غرفة واحدة و هي الغرفة رقم 15 من العنبر رقم 5 , و كنا صديقين حميمين , و منزله بالمنصورة تجاه منزلي بها وقتئذ , و كنا قبل الاعتقال نتبادل الزيارات و الأحاديث , و له ميول نحو مبادئ الحزب الوطني , و كنت أقدر فيه وطنيته و شجاعته الأدبية , و احتفاظه بكرامته , و اعتزازه بشخصيته , و كفاءته الممتازة , فلما علم كلانا أنه زميل لصاحبه في " الزنزانه " اطمأنت نفسنا إلى هذه الزمالة , و خففت عن كلينا غضاضة السجن , و قد استقبلنا موظفو السجن و عماله بالاحترام و التقدير , لأنهم عرفونا و عرفوا سبب اعتقالنا , و عرفوا على الأخص أننا لسنا من طراز ضيوفهم الآخرين نزلاء سجن الاستئناف , فأكرموا وفادتنا و بذلوا لنا كل ما أمكنهم بذله من التسهيلات , و لكن في حدود اللوائح , لأن عليهم رقباء من رؤسائهم في المحافظة .

في الزنــزانــة

و لما التقينا – أنا و المكباتي بك – أول مرة في " الزنزانة " و أقفلوا علينا بابها " و تمموا علينا طبقا للتعليمات , نظر كل منا إلى صاحبه نظرة دهشة و استغراب , و أخذنا نتأمل تصاريف الأقدار , ثم ما لبثنا أن مزجنا الدهشة بشيء من الفكاهة و السخرية من سياسة الحكومة التي تعتقل الناس جزافا و في غير حدود العدل و القانون , دون أن توجه إلينا تهمة , و قد رأيت من المكباتي جلدا و صبرا أعجبت بهما , و زادا من تقديري له , إذ كنت أظن أنه قد يتسخط على مسلكه الوطني الذي أدى به إلى الاعتقال , ولكني على العكس رأيته فخورا به معتزا بشخصيته , عالي الرأس كعادته , و أخذنا نقطع الوقت بالأحاديث نتناولها في شتى المواضيع , فكانت خير سلوى لنا في هذه الأوقات العصيبة .

و في 30 أغسطس جاءنا الفرج , لا بإطلاق سراحنا , بل بنقلنا إلى معتقل أعدوه لنا بدرب الجماميز , في مبنى مخازن وزارة المعارف , ذلك أن اعتقالنا في سجن أعد لاستقبال المحكوم عليهم أو المنتظر أن يحكم عليهم في الجرائم , قد قوبل , من مختلف الطبقات بالسخط و الاستنكار , و أبديت رغبة في معاملتنا كمعتقلين سياسيين لهم على كل حال حق الرعاية و المعاملة الإنسانية , فأعدوا لنا المعتقل الجديد بدرب الجماميز , و قد شعرنا فيه بشرء من الراحة النسبية إذا قورن بسجن الاستئناف , و سمح لنا فيه على الأقل أن نجتمع معا في أي وقت نشاء , و أن نختار من الغرف الصغيرة و المتوسطة و الكبيرة ما نشاء , و أن يختار كل منا زملاءه , فأخترت مع أخي أمين غرفة واحدة كان بابها مفتوحا في كل وقت , و لا رقابة علينا في خروجنا منها , و كتبت لأهلي خطابا أبشرهم فيه بأننا انتقلنا من سجن الاستئناف إلى المكان الجديد , و أن دواعي الراحة متوفرة فيه .

على أنه قد كتب علي أن أنتقل وقتا ما إلى سجن انفرادي آخر يشبه من بعض الوجوه سجن الاستئناف , و هو سجن " الحدرة " العمومي بالأسكندرية , إذ نقلوني إليه أبقوني فيه مدة أسبوعين مع لفيف من معتقلي المنصورة للتحقيق معنا في بلاغ كاذب عن تهمة باطلة تبين من التحقيق كذبها و تلفيقها , و قد صحبني أيضا المكباتي بك إلى في سجن الحدرة و أفرج عنه هناك , ثم عدنا إلى معتقل درب الجماميز , فرحب بنا الاخوان و الزملاء , و هنأونى على بطلان التهمة التي وجهت إلينا .

في رحــاب ليمـان طره

و في شهر سبتمبر سنة 1915 نقلونا إلى معتقل آخر أعدوه لنا في بلدة طره بجوار ليمان طره المشهور , و يبدو لي أن سبب نقلنا إلى هذا المعتقل الجديد أن السلطة العسكرية رأته أبعد عن أنظار الناس و عن الزيارات العائلية من معتقل درب الجماميز , فضلا عما يوحى به اعتقالنا في طره – حيث الليمان المشهور – من الرهبة و الفزع لمن كانوا مطلقي السراح من الوطنيين و ربما كان من أسباب هذا النقل أيضا أن معتقل درب الجماميز ضاق بمن فيه , إذ زاد علينا بعض طلبة الحقوق الذين اتهموا بتحريض زملائهم على الإضراب يوم زيارة السلطان حسين كامل لمدرستهم .

ثم نقلونا في فبراير سنة 1916 إلى معتقل آخر أعدوه لنا بالجيزة في مبنى سجن قديم مهجور كان يعرف بالسجن الأسود , و قد تحول بعد ذلك إلى عدة مبان حكومية بأول شارع الهرم بالقرب من كوبري عباس .

و مكثنا به إلى أن أفرج عنا يوم 17 يونيه سنة 1916 , أي أننا مكثنا معتقلين عشرة أشهر , و كان الإفراج عني مع أخي أمين بك و عبد الله بك طلعت في يوم واحد .

و قد ذهبوا بنا نحن الثلاثة إلى الأسكندرية , حيث أعدوا لنا عدة زيارات اقترنت بإطلاق سراحنا , فقابلنا حسين رشدي باشا رئيس الوزارة في منزله بالرمل بمحطة كارلتون ( الآن محطة رشدي باشا ) , فأحسن استقبالنا و تحدث إلينا عن ضرورات الحرب و عن مساعيه لدى السلطة العسكرية البريطانية لإطلاق سراحنا حتى كللت أخيرا بالنجاح , فشكرناه على حسن مسعاه , و طلب إلينا أن نذهب لمقابلة السير رونلد جراهام مستشار وزارة الداخلية و قال عنه إنه هو أيضا سعى في الإفراج عنا , فذهبنا إليه بدار الوزارة ببولكي و قابلناه و أبدى نحونا شعورا طيبا .

في حضـرة السـلطان

ثم ذهبنا إلى سراي رأس التين حيث قابلنا المغفور له السلطان حسين , و قد استقبلنا بعطف و حفاوة , و أخذ يدافع عن سياسته منذ إعلان الحرب العالمية و قبوله عرش السلطة , و قال أنه قصد خدمة مصر و الأسرة العلوية , و التفت في ختام الحديث إلى أخي أمين و قال له :" و طله الغازيته يا أمين بك " , و وعده بالمساعدة المالية لإصدار الغازيته ( صحيفة الشعب و كانت محتجبة احتجابا على اعلان الحماية ) , فشكره أمينو انتهت المقابلة بالتحيات المقرونة بالدعوات , على أن أمينا رحمه الله لم يفكر في إعادة صحيفة الشعب طيلة مدة الحرب .

ذكرياتي عن ثورة 1919

كنت سنة 1919 لا أزال في الثلاثين من عمري , أزاول مهنتي ( المحاماة ) في "المنصورة " , و كانت تغلب علي نزعة الشباب , و أتوق إلى أن تسلك الأمة سبيل العنف في جهادها , أما الآن فإني أميل إلى مبدأ عدم العنف , و أراه أقوم السبل و أقربها إلى النجاح و التقدم , و بعبارة أخرى لست من دعاة الثورة , و أوثر عليها التطور في النهضة , و مع ذذلك لم تتغير وجهة نظري في الجهاد , فإني أشعر و الحمد لله بأن الشعلة التي تضطرم في نفسي لا تزال كما كانت , لم تهبط لها حرارة و لم يضعف لها أوار , فالمقاومة هي سبيلي في الحياة , و هي السبيل التي أدعو إليها , و أنشد للوطن المزيد منها , و الثبات عليها , و هي سبيل كل أمة تريد المحافظة على كيانها في خضم هذا المعترك العالمي , إذ لابد لها من ذخيرة من المناعة تدافع بها الحادثات على أن المقاومة أو المناعة شيء , و العنف شيء آخر , و قد يكون عدم العنف أدعى أحيانا لدوام المقاومة و استمرارها , و أجدى عليها من عنف يعقبه فتور , ثم تراجع و خمود .

تتبعت منذ نوفمبر سنة 1918 حركة تأليف الوفد المصري , و سعيت جهدي مع الساعين في التوفيق بين الوفد و الحزب الوطني , على أن يمثل الحزب في هيئة الوفد , و جرت مفاوضات بينهما في هذا الصدد , و ذهبت يوما لمقابلة المغفور له سعد باشا للتحدث إليه في هذا الشأن , يصحبني الأستاذ عبد المقصود متولي , و الأستاذ عبد الفتاح رجائي , و المرحوم محمد بك رمضان القاضي السابق , بغيه الاتفاق على هذا الأساس , قبل الحزب مبدأ تمثيله في هيئة الوفد , و لكن وقع الخلاف بينه و بين الوفد على أشخاص الأعضاء الذين يمثلونه , و انتهى الأمر إلى عدم الاتفاق على أشخاصهم , و اختار الوفد من تلقاء نفسه مصطفى النحاس بك ( باشا ) و حافظ عفيفي بك ( باشا ) باعتبار أنهما يمثلان مبادئ الحزب الوطني .

و كنت منذ اشتداد الحركة أقضي معظم الأيام بالعاصمة , و شهدت وقائع الثورة الأولى , و امتدادها إلى الإقليم , فرأيت بعثا جديدا للأمة , رأيت روح الاخلاص و التضحية تعم طبقاتها , بعد أن كانت من قبل محصورة في دائرة ضيقة . حدث الاضراب في المدارس يوم 9 مارس سنة 1919 على أثر اعتقال الزعيم سعد زغلول و صحبه و خرج الطلبة من معاهدهم متظاهرين محتجين , منادين بالحرية و الاستقلال , فانتعشت لذلك نفوسنا , إذ رأينا في هذا الشباب طليعة جيش الاخلاص الذي يغضب لمصر و يثور من أجلها . حقا لم يكن هذا أول إضراب من نوعه , فلقد شهدت من قبل إضراب طلبة الحقوق في فبراير 1906 كما تقدم بيانه , و لكنه اقتصر على طلبة الحقوق و لم يشاركهم فيه طلبة المدارس الأخرى , الذين اكتفوا بإظهار العطف عليهم , و انتهى برجوع طلبة الحقوق إلى مدارسهم في مارس من تلك السنة .

و شهدت بعد ذلك وقف الدراسة في جميع المدارس يوم تشييع رفات الزعيم " مصطفى كامل " و خروج الطلبة جميعا من معاهدهم في ذلك اليوم (المشهود 11 فبراير سنة 1908 ) , إظهارا لشعورهم , فكان أول إضراب عام حدث في مدارس العاصمة جميعها , و كان جزءا من المظاهرة الهائلة التي تجلت في موكب الجنازة , و اشتركت فيها طبقات الشعب كافة , توديعا و تقديرا لزعيم الوطنية الأول .

و قد رأيت في إضراب 9 مارس سنة 1919 صورة مصغرة من إضراب 11 فبراير سنة 1908 , فكان شباب سنة 1919 قد تلقى وحي الوطنية من مشهد ذلك اليوم العظيم !

عادت بي الذكرى إلى مظاهرات اشتركت فيها , و أخرى شهدتها , منذ سنة 1908 , مظاهرة طلبة الحقوق سنة 1908 لمناسبة عرض جيش الاحتلال في ميدان عابدين , و موكب الذكرى الأولى لوفاة مصطفى كامل ( 11 فبراير سنة 1909 ) , و مظاهرات الاحتجاج على تقييد حرية الصحافة و إعادة قانون المطبوعات ( مارس1909 ) و مظاهرات الاحتجاج على تقييد حرية الصحافة و إعادة قانون المطبوعات ( مارسإبريل سنة 1909 ) , و مظاهرات المعارضة في مشروع مد امتياز قناة السويس ( ينايرإبريل سنة 1910 ) , و مظاهرات الاحتجاج على الكولونيل تيودور روزفلت الرئيس الأسبق للولايات المتحدة لمناسبة خطبته في مناصرة الاحتلال ( مارس سنة 1910 ) , و مظاهرات الشباب تكريما للمرحوم فريد بك ( ديسمبر سمة 1910 ) , و مظاهرات المطالبة بالدستور سنة 1910 و سنة 1911 , و مواكب الذكريات السنوية لوفاة مصطفى كامل , و غير ذلك من المظاهرات الوطنية و أخذت أقارن بينها و بين مظاهرات سنة 1919 , فرأيت أن غرس الوطنية قد نما و اشتد على تعاقب السنين , إذ أن مظاهرات سنة 1919 و إن كانت استمرار لمظاهرات السنين السابقة إلا أنها في مجموعهم أضخم منها , و أكثر جموعا و جنودا , و لم تقتصر على العاصمة , بل عمت مدن الوادي و قراه , بدا لي فيها أن روح التضحية و الفداء قد تلغلغت في نفوس الشعب , أكثر مما كانت من قبل , و كان هذا دليلا على تطور الروح الوطنية , و اتساع مداها , و كان الذين يسيئون الظن في وطنية هذه الأمة يعتقدون أن الإرهاب كفيل بإخماد الحركة في مهدها , وأخذوا في صحفهم المناصرة للاحتلال يزجون إلى الشباب نصائح معكوسة بحثهم على الخضوع و الاستسلام , تحت ستار الإشفاف على مستقبلهم , و لكن هذه الظنون قد تلاشت أمام استمرار الإضراب و اتساع المظاهرات , و استمرارها في الأيام التالية , بالرغم من أن السلطة العسكرية قد تصدت لها باطلاق الرصاص على المتظاهرين منذ يوم 10 مارس , فلم يرهب الناس القتل , و أخذوا يألفون رؤية الدم المسفوك في الشوارع , و تقبل الشعب , شبابه و سائر طبقاته , التضحية بلا خوف و لا تراجع , فكان لهذه التضحية و هذا الاجماع الرائع أثرهما في رفع صوت مصر عاليا مدويا في أرجاء العالم , بعد أن كان خافتا طيلة سنى الحرب , و أخذت الصحف التي كانت تمالئ الاحتلال , و تزدري بالأمة طوال السنين , تغير أسلوبها و تتملق الشعب , و تكتب عنه و عن مطالبه الوطنية بلهجة جديدة ملؤها التقدير و الإعجاب . رأيت الجماهير يشتركون في المظاهرات , و لا يبالون ما يستهدفون له من الأخطار , كانوا يواجهون رصاص البنادق و المدافع الرشاشة (المتراليوزات ) بشجاعة لا تقل عن شجاعة الجند في ميادين القتال , و سقط كثيرون منهم قتلى أثناء المظاهرات .

كان إذا سقط رافع العلم في موكب المظاهرة مضرجا بدمائه , تقدم غيره و رفع العلم بدله , مناديا بحياة الوطن , فيردد إخوانه نداءه .

كان الجرحى منهم لا ينفكون ينادون بحياة مصر و الدم ينزف منهم , و كثيرا ما شاهد المارة مركبات الاسعاف تحمل جريحا في مظاهرة يسيل دمه , و مع ذلك يرفع ستار المركبة و هي تسير إلى مركز الاسعاف , و يطل على الناس و ينادي ( نموت و يحيا الوطن !) .

تبادلت حالة الشعب النفسية بتأثير الثورة , و حاكى في التضحية أرقى الأمم وطنية و إخلاصا .

و يتصل بهذا السياق رجال البوليس قبضوا في إحدى المظاهرات على جماعة من الطلبة المتظاهرين و ساقوهم إلى القسم و اعتقلوهم به , فلم يكد إخوانهم يرون هذا المشهد حتى تقدموا جميعا إلى القسم , و طلبوا أن يقبض عليهم كلهم , لأنهم قد اشتركوا مع إخوانهم المعتقلين , فيما يسميه البوليس جريمة , و أنهم شركاء معهم و لا يريدون أن يختص زملاؤهم بشرف التضحية و الألم في سبيل الوطن فكان لهذا التضامن البديع و هذه التضحية أثر بالغ في نفوس الشعب .

كانت هذه المشاهد و غيرها دليلا ناهضا على أن الحركة الوطنية قد خطت خطوات واسعة إلى الأمام , و قوي فيها عنصر الاخلاص الذي هو أساس الوطنية الحقة , فإن هؤلاء الذين استهدفوا للأذى و القتل لم يكونوا ينتظرون جزاء و لا مكافأة على جهادهم , بل كانوا يشعرون و هو يجودون بحياتهم أنهم يؤدون واجبا نحو بلادهم فحسب , و تلك لعمري أقصى درجات الإخلاص و البطولة .

و من المشاهد التي أثرت في نفسي مناظر جنازات الشهداء , فقد كانت هائلة حقا , كانت الجموع تسير فيها دون أن تعرف شخصية الشهيد أو الشهداء الذين تشيع جنازاتهم , بل دون أن يعرف المشيعون بعضهم بعضا , كان يكفي أن يذاع أن جنازة أحد الشهداء ستشيع في ساعة ما , من مكا ما , حتى يجتمع الألوف من الناس من مختلف الأوساط و الطبقات يسيرون فيها , يعلوهم الحزن العميق , لم نكن نسمع فيها عويلا أو نحيبا , بل كنا نرى جلالا و خشوعا , و حزنا رهيبا , يتخلله الهتاف بين آونة و أخرى بحياة ذكرى الشهداء و التضحية و ضحايا الحرية فكانت هذه الجنازات مظاهر رائعة لتقدير الشعب معاني التضحية و البطولة , كانت بعثا جديدا لحياة جديدة .

كان الظن عندما وقعت الحوادث الأولى في ثورة سنة 1919 أنها مقصورة على العاصمة , و لكن لم تلبث أن غمرتنا الأنباء من مختلف الأقاليم , بأن مظاهرات قامت فيها على غرار مظاهرات القاهرة , و زاد عليها قطع السكك الحديدية , و شهدنا بأعيينا انقطاع المواصلات بين العاصمة و الأقاليم , كما انقطعت بين أحياء القاهرة نفسها , فأدركنا أننا أمام ثورة عامة , شملت البلاد من أدناها إلى أقصاها , و في الحق إنني – مع ما أشعر به من ميل دائم إلى التفاؤل – لم أكن أتوقع أن تقوم في البلاد ثورة في مثل هذه الظروف , و بمثل هذا الاتساع , و بتلك السرعة و القوة و الروعة التي تجلت في سنة 1919 , و لم أكن أنا وحدي في هذا الشعور , بل إن فريدا رحمه الله , حين بلغته و هو في منفاه أنباء الثورة , عدها من الحوادث المفاجئة , و قال عنها في مذكراته : " من الأمور التي كانت غير منتظرة ما حصل بمصر في شهري مارس و إبريل من هذه السنة ( 1919 ) و هو قيام ثورة عامة اشتركت فيها الأمة بجميع طبقاتها " , و قال عنها أيضا :" إن هذه الحركة لم تكن في الحسبان , و إن ما أظهره المصريون من التضامن و الاتفاق ما كان أحد ليحلم به ".

تتابعت حدوادث الثورة , و ارتسمت في ذهني صورة واضحة عنها , و أدركت مع الأيام عظم مداها .

" شعرت أمام هذه المشاهد بغبطة كبيرة تتملكني , إذ أدركت أن روح الحياة قد سرت في الأمة , و أنها أخذت تنفض عنها أكفان الخضوع و الاستسلام , و رأيت في اتساع الحركة , و اتحاد الصفوف تحت لوائها , تحقيقا للوحدة التي طالما كنا ننشدها و نتمناها , كما رأيت في تعدد مظاهر التضحية نجاحا لدعوة الاخلاص في الجهاد , تلك الدعوة التي هي أساس كل نهضة قومية , و سبيل نجاح لكل أمة تريد لنفسها الحياة و العزة .

رحلة نيلـية في إبان الثورةمارس سنة 1919

في 18 مارس سنة 1919 وقعت مظاهرة بالمنصورة قتل فيها تسعة عشر من المتظاهرين , و كنت وقتئذ في القاهرة , و علمت و أنا بها أن قائد القوة العسكرية البريطانية في تلك المنطقة أنذر سكان المدينة بأنه إذا حدثت مظاهرة أخرى , فإنه سيلقي مسؤوليتها على عاتق أربعة أشخاص منهم عينهم بأسمائهم و هم : محمود بك نصير , و الدكتور محمود سامي , و الاستاذ [[[عبد الوهاب البرعي]] , و أنا . و أنه سيأمر بضربنا بالرصاص في حالة قيام أية مظاهرة .

و كانت المواصلات منقطعة , و كنت معتزما العودة إلى المنصورة لأتعهد الروح المعنوية فيها , فقابلني صديق لي قدم منها , و أفضى إلي بأمر هذا الإنذار , و رغب إلي أن أبقى في العاصمة , كي لا أستهدف لتنفيذ ما توعدونا به , فرأيت في نفسي شعورا قويا , لم أعرف مصدره أو سببه , يدفعني إلى العودة إلى المنصورة , بالرغم من تحذير إخواني و الأقربين , فأخذت أبحث عن سبيل للعودة , و كانت السكك الحديدية مقطوعة , و ما أصلح منها كان السفر عليه ممتنعا إلا بترخيص من القيادة البريطانية بالعاصمة , و كانت ترفض كل طلبات السفر التي يتقدم بها المصريون غير الموظفين , و كذلك شأن السفر بالسيارات , فضلا عن حدوث فجوات في الطرق الزراعية تمنع مواصلة السير فيها , و لم يبق أمامي سوى السفن الشراعية (المراكب )تنقل الناس بطريق النيل و فروعه إلى الجهات التي يقصدونها , و قد شاعت هذه الطريقة في تلك الأيام , و ارتفعت لذلك أجور السفن ارتفاعا كبيرا , فطفت أبحث عن رفقاء لي يقصدون المنصورة أو البلاد التي في طريقها , فأجتمعت إلى نخبة من الأصدقاء و المعارف كانوا أيضا يبحثون عن سفينة يقصدون بها بلادهم من مديرية الدقهلية , و اهتدينا إلى صاحب سفينة شراعية كان قادما من المنصورة , و يسره العودة إليها , فيربح ذهابا و إيابا , و طلب منا سبعة جنيهات أجرة الرحلة فقبلناها عن طيب خاطر , لأنها كانت أجرة زهيدة بالنسبة لما كان يطلبه أصحاب المراكب ف ذلك الوقت , كانت في ذاتها يسيرة إذا وزعناها على المقتدرين منا .

و توعدنا على أن نلتقي بمرسى روض الفرج يوم 26 مارس سنة 1919 في الساعة الأولى بعد الظهر , فألتقينا في الميعاد المحدد , و ركبنا السفينة بعد أن اشترينا ما يلزمنا من المئونة لمدة ثلاثة أيام , إذ قدر ربان المركب ( الريس ) أنها المدة التي تكفي لقطع المسافة بحرا من القاهرة إلى المنصورة , و كنا سبعة عشر راكبا عدا الريس و زميله , أذكر منهم : محمود بك عبد النبي , و الوجيه بكير الجندي , و كريمته الآنسة لطيفة الجندي ( الآن زوجة الاستاذ حسين مطاوع ) , و كريمة أخيه الآنسة سنية محمود الجندي (الآن زوجة الاستاذ رياض الجندي ) , و عبد اللطيف بك غنام , و الشيخ محمد الخشاب قاضي محكمة أجا الشرعية , و الدكتور صديق أبو النجا ( و كان طالبا بالطب ) , و أخاه محمود أفندي أبو النجا , و بعض الطلبة الذين لا تحضرني الآن أسماؤهم .

أقلعت بنا السفينة في نحو الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم إلى القناطر الخيرية , و في أثناء الطريق قابلتنا باخرة حربية من بواخر الدوريات البريطانية اليت كانت تجوب النيل لتعاون القوات المسلحة على قمع الثورة , فخشينا أن تمنعنا عن متابعة السير , و لكنها لم تتعرض لنا بسوء , و تابعنا السير , فوصلنا إلى القناطر الخيرية قبيل غروب الشمس , و أجتزنا هاويس الرياح التوفيقي في نحو ساعة , وتابعنا السفر ليلا إلى بنها , و كان الجو باردا فقد كنا في فصل الشتاء , و الليل غير مقمر , و السماء مقنعة بالسحب , فأخذت السفينة تسير الهوينا , في بطء و حذر , لأن مياه الرياح التوفيقي كانت منخفضة , و شواطئه مرتفعة , مما يزيد في ظلمة الليل , فلما قاربنا الوصول إلى بنها في نحو منتصف الليل , أشار علينا النوتي أن لابد من رسو السفينة على بعد كيلو متر من كوبري بنها , و أن لا نجتاز هذه المنطقة , و إلا استهدفت لإطلاق النار من الدوريات البريطانية , فبتنا الليلة في السفينة , و هي راسية على الشاطئ , و شعرت ببرودة الجو , إذ كان مبيتنا في العراء تقريبا , و لم نستعد بغطاء كاف , و لم يكن مما يتفق و الحالة النفسية للثورة أن نعني بغطاء أو فراش , وقضينا مع ذلك ليلة هادئة , لم نشعر فيها بأي تعب أو عناء , و استيقظنا يوم 27 مارس أكثر ما نكون نشاطا و ابتهاجا , و تناولنا طعام الفطور , و كان طعاما بسيطا , فأكلنا منشرحين , و استأنفت السفينة سيرها على طول الرياح التوفيقي , و شاهدنا على الجانبين معالم الثورة و مظاهرها و ما أحدثته من تغيير في نفسية الشعب , فكنا نرى الأهلين في كل ناحية , نساء و رجالا , سيبا و سبانا , يحيوننا على الجانبين دون أن يعرفوا أشخاصنا , و ينادون بهتافات لم نعهدها من قبل في الطرق الزراعية و على شواطئ الترع , فكنا نسمع نداء : لتحيى مصر , ليحيى الاستقلال , لتحيى الثورة , و استرعى سمعي بوجه خاص نداء كنت أسمعه بين حين إلى آخر :" ليحيى العدل " , و قد تساءلت أولا عما يقصد القوم من هذا النداء , و هل ظنونا قضاة جئنا لنحكم بينهم بالعدل , ثم أدركت شعورهم الحقيقي , و أنهم لا يطلبون العدل لأنفسهم , بل يطلبونه لمصر , فإن مصر لم تكن تطالب إلا بالعدل و المساواة بينها و بين الأمم الحرة المستقلة , و ليس من العدل في شيء أن تهدر حريتها , و تسلب حقوقها فأكبرت هذا الشعور تفيض به نفوس القرويين و يدل على فطرتهم السليمة .

هذه الروح التي شاهدناها على طول الطريق , هي غرس الثورة و نتيجتها , و هي من ناحية أخرى عتادها و عدتها , و هي علامة الحياة في شعب نهض نهضة قوية يطالب بحقوقه المهضومة .

كانت نفوسنا تفيض بشرا و فرحا , إذ شاهدنا هذا التبدل في نفسية الشعب , و شعرت بأن آمالا قديمة كانت تجول في نفسي قد بدأت تتحقق , و أنه لا يجوز لنا أن نيأس من هذه الأمة بل هي من أكثر الأمم استعدادا للرقي , إنما ينقصها أن توجه دائما توجيهات صادقا , نحو المثل العليا و هي مستعدة لتلبية كل دعوة صالحة صادقة , و العيب الذي نشكو منه أحيانا لا يرجع إلى جمهرة الشعب , بل هو عيب الخاصة أحيانا , و العامة أيضا , في انصرافهم في كثير من المواطن عن المثل العليا إلى الأغراض الشخصية , و هذا العيب يزول بالقدوة الصالحة , يبدأ بها الخاصة أولا , ثم يقلدها فيها العامة , فالخاصة هم أول المسئولين عن حالة الأمة و على الخاصة أن ترتفع من مستواها الأخلاقي و أن تصلح نفسها ثم تعمل على إصلاح أخلاق الشعب و تهذيبه و ترقيته , فإنهم المطالبون بهذا الإصلاح .

تابعت السفينة سيرها , وسط هذه المشاهد الرائعة , حتى وصلت إلى " طنامل " في نحو الساعة السادسة مساء , فغادرنا بكير الجندي و الآنستان كريمته و كريمة أخيه , ثم وصلنا ليلا إلى منشأة عبد النبي , حيث نزل محمود بك عبد النبي , و قضينا الليلة بمنزله , و في صباح اليوم الثالث من الرحلة ( 28 مارس ) أقلعت بنا السفينة , حتى إذا وصلنا إلى " نوسا الغيط " نزل بها الدكتور صديق أو بالنجا و أخوه , و تبعت سيرها حتى وصلنا المنصورة عصر ذلك اليوم .

كانت هذه أطول رحلة من القاهرة إلى المنصورة , إذ أن المسافة تقطع عادة بين المدينتين سواء بالقطار أو بالسيارة في نحو ثلاث ساعات بل دون ذلك , و قد قطعناها هذه المرة في ثلاثة أيام , و تذكرت ما كان يتحدث به أسلافنا من أنهم قبل إنشاء السكك الحددية كانوا يقطعون المسافات بين مختلف العواصم في عدة أيام , إما بطريق المراكب في النيل و فروعه , أو على ظهور الإبل و الدواب , فازدت شعورا بما كانوا يعانون من المشاق في قطع المسافات بهذه الوسائل , و بما أحدثه العمران و الإكتشافات العصرية من التيسير على الناس في سفرهم و إقامتهم , وريفهم و حضرهم .

و صلت المنصورة عصر يوم 28 مارس سنة 1919 بالبحر الصغير , و ما أن علم حضوري في تلك المبلابسات العصيبة حتى دهشوا , و كان ظنهم أن أبقى بالقاهرة , و لا تثريب علي في ذلك , و عدوها لي عملا قالوا إنه شجاعة , و قلت لهم إنه عمل عادي , و لاحظت أنهم و أهل البلدان المجاورة من مركز المنصورة لم ينسوا لي هذا الموقف , و كان له أثر في نجاحي بعد هذه الحوادث بنيف و أربع سنوات , في انتخابات سنة 19231924 , إذ على الرغم من ترشيح نفسي للبرلمان عن مركز المنصورة , معارضا لمرشح الوفد , فقد فزت عليه , نلت النيابة عن المركز في البرلمان الأول , في حين ليست لي عصبية عائلية أو حزبية , و قد دلني هذا الفوز على أن الشعب , بالرغم من تأثره من مختلف الدعايات , يقدر " أحيانا " أعمال الناس , حقا أنه قد يضل حينا , و قد يضل كثيرا , و لكن يجدر بمن يتصدى لخدمته – و خدمته واجب محتم على كل فرد – أن لا ينقم من الشعب خطأه في التقدير , و لا يثور عليه بمجرد أن يتنكر له في بعض المواقف أو يتخطأه في تقديره مرة أو مرات , فإذا كانت الجماهير تتنكر أحيانا لمن يخدمها , فإن هذا العيب لا يقتصر عليها , و ما أكثر ما يقع فيه المثقفون و الممتازون , بله أقرب الناس إلى الإنسان , و أعرفهم بفضله , و أكثرهم علما بإخلاصه و خدماته , و قد تعذر الجماهير لجهلها , أو عجزها عن إدراك الحقائق , و لكن ما عذر الخاصة و المثقفين , و الأصدقاء و الأقربين , في تنكبهم سبيل الحق و هم له عارفون ؟

فعلينا أن نعالج الشعب في رفق و هوادة فإن الشعب معذور , و هو سهل الرجوع إلى الحق , و لا ينقصه في ذلك إلا النصح و الزمن الكافي , و صدق الارشاد , و استمساك مرشديه بالمثل العليا , و اتباعهم الآية الكريمة :" فذكر إنما أنت مذكر , لست عليهم بمسيطر " فعلى من يتطوعون لارشاده و قيادته أن يكونوا له دعاة للهدى , و أن يظلوا له ناصحين مرشدين , لا طغاة مستبدين , و لا حكاما متجبرين .

وقفت على تفاصيل الحوادث الدامية التي وقعت بالمنصورة في يوم 18 مارس و ما يليه , و عرفت أسماء الشهداء الذين قتلوا في تلك الأيام العصيبة , و أدركت أن أهلهم , على الرغم من الحزن الذي تملكهم , لفقد أعز الناس لديهم , فإنهم قابلوا مصابهم بالصبر و الجلد , و بروح من الاعتزاز بأنهم ساهموا بأشخاص شهدائهم في التضحية في سبيل الوطن , فأكبرت فيهم هذه الروح العالية , التي كانت مظهرا من مظاهر التبدل في الروح العامة للشعب .

زوجـتي

هي " عائشة " بنت خالي محمد المعايرجي , تزوجت بها سنة 1920 , في إبان الثورة , و كنت في الحادية و الثلاثين من عمري , و كان لزواجي بها قصة .. فقط كنت مترددا بين الزواج و العزوبية .. هل أتزوج أم لا أتزوج ؟ و أخيرا رجحت عندي فكرة الزواج , لأنه الحالة الطبيعية العادية للانسان في المجتمع . و لك أر ما يدعوني إلى أن أشذ عن هذه الحالة الطبيعية , ثم جاءت المرحلة الثانية و هي التفكير في أي البيئات أختار منها زوجتي .

و كان لي صديق صدوق يخلص لي النصح , و يسدي إلي نصائحه بين آن و آخر , فقال لي : يوما دون أن يعلم بتفكيري في الزواج :" لي رأي أود أن أبديه لك " قلت :" و ما هو ؟ " قال :" إنك في حاجة إلى نقطة ارتكاز في حياتك السياسية ". قلت :" و ما هي ؟" فقال على الفور :" زوجة غنية ! " , فصدمتني هذه النصيحة و لم تقبلها نفسي , و شعر صديقي أن تعبيره لم يكن رقيقا و لا موفقا , و أراد أن يعبر عن رأيه بصيغة أخرى مخففة و مفسرة . فأبيت أن أستمع إلى نصيحته , و مضيت في سبيلي .

و كان حبي لأمي – و قد توفيت و أنا صغير السن و عشت بعدها يتيما من الأم " و معذرة للغويين على هذا التعبير " – قد مال بي مبدئيا إلى أقرب البيئات إليها .

فلما شبت ثورة سنة 1919 , كنت في زيارتي لعائلات خؤولتي ألاحظ على " عائشة " تطورا عجيبا في نفسيتها و تفكيرها و إحساساتها , كانت ثائرة , و اشتركت في مظاهرة السيدات و الآنسات ( 16 مارس 1919 ) , و كانت تتدفق في أحاديثها عن الحالة السياسية , و عن تطور الأمة و أعجبني منها ذكاؤها , و جاذبيتها , و إخلاصها , و روحها الوطنية , فعقدت النية على الزواج بها , و لم أفاتحها في الأمر , لأن ذلك لم يكن مألوفا في هذا العصر , و خاصة في البيئات المحافظة , و لأني كنت واثقا من رضاها بأن تكون زوجتي , إلى أن تم عقد زواجي بها في 12 مارس سنة 1920 .

و لما علم صديقي الصدوق بزواجي هنأني بحرارة , ثم سألني في تلطف و في غير فضول :" هل بنت خالك غنية ؟؟ " , فقلت له :" ان لها إيرادا يسيرا وقف أستحق أنا أيضا فيه بنصيب يماثل نصيبها .. أي أنها ليست غنية و لا ذات ثراء ", فكرر لي التهنئة , ثم سكت و لم يتكلم , و قطعت سكوته بقولي :" و أنا أيضا لست غنيا و لا ذا ثراء , و هذا في نظري أدعى للانسجام بيننا , ثم أن الغنى مسألة نسبية لا عددية كما يتوهم كثير من الناس .

فالأغنياء ماذا يصنعون بما يزيد عن مطالبهم المعقولة و المحتملة ؟ لا شييء .. و ما دام الإنسان في غير حاجة إلى الناس فهو لا يقل غنى عن أغنى الأغنياء "

و قد اقتنع صديقي بهذه الآراء و وافقني الرأي عليها قائلا :" ان ما تقوله هو الحق .. و لكننا كثيرا ما ننساق وراء أوهام أو أكاذيب اجتماعية يصطلح عليها الناس . و مهما اختلفت الآراء في هذا الصدد , فالأمر الجوهري في الحياة الزوجية ليس في الغنى أو قلة الغنى , بل في التوفيق بين الزوجين , فأرجو لك التوفيق في حياتك الزوجية , و أود لك يا صديقي أطيب التمنيات ".

و أستطيع أن أقول عن زوجتي في صدق و توكيد : أني وجدت فيها – و الحمد لله – شريكة حياتي التي عاونتني على توفير الحياة المنزلية السعيدة , و تيسير الهدوء العائلي الذي ساعدني على العمل و الانتاج . و أخص صفاتها الإخلاص , و العناية بصحتي و راحتي , و أنا من ناحيتي أبادلها حبا بحب , و إخلاصا بإخلاص .

و يتجلى إخلاصها أكثر ما يتجلى عندما أمرض أو أحزن .. فإذا أصابني مرض تتمنى حقا لو أنها مرضت بدلا عني , و تعتني بي في مرضي أكثر من عنايتها بنفسها و من عنايتي أنا بها إذا هي مرضت , و عندما ألاحظ ذلك تقول لي :" ان حياتك أنفع للبلاد من حياتي " – هكذا تقول – فأكبر منها هذا الشعور .

و هي تتشدد معي في اتباع تعليمات الطبيب , و أحيانا تلزمني إلزاما باتباعها . و عندما مرضت بالتيفوئيد سنة 1923 و لزمت الفراش نحو شهرين , و أشتد الخطر بي .. كان الأطباء الذين يعالجونني يقرأون على ملامح وجهها درجة حرارتي قبل أن يقيسوها بميزانهم , و يقولون أن وجهها هو الترمومتر الصادق لحالتي الصحية .

و لما توفيت والدتها سنة 1934 – و كنت في رحلة بأوربا – عدت في أعقاب الوفاة , فأبت أن تقابلني بملابس الحداد , و قابلتني بملابس بيضاء , و تظاهرت بإطراح الحزن و كتمته بين جوانحها , على الرغم من أني حزنت لوفاة أمها الحنون , و عاتبتها على كتمان حزنها .

و هي تطالع كتبي بإمعان , و تقرأ كل ما أقول و أكتب , و تبدي لي أحيانا ملاحظات سديدة , و تستمع إلى كل أحاديثي بالراديو , و تعجب بها , و رمة أو مرتين قالت لي : حديثك هذه المرة ضعيف , فقلت مبتسما : كيف ذلك و الناس قالوا لي غير هذا ؟ , فقالت : لعلهم يجاملونك , و لكن الحديث ضعيف . و ذكرت الأسباب , فاغتبطت كثرا لملاحظاتها , و حمدت الله على أنها تراقبني إلى هذا الحد .

و هي تشاركني في اتجاهاتي الوطنية و تشجعني عليها , و لم أرها مرة تتبرم بالسبيل التي سلكتها في الحياة , و لا رغبتي يوما في أن ألحق بركب " الحياة العملية " كما يصفونها .

انها زوجة مثالية و كفى و إني لمدين لها إلى حد كبير بتوافري على العمل و الانتاج , و بالراحة و السعادة في حياتي العائلية .

بين السياسة و الاقتصاد

كنت و لا أزال أعتقد أن السياسة و الاقتصاد بينهما ارتباط متين , وصلات و وشائج وثسقة , و أن الجانب الاقتصادي للحركة الوطنية لا يقل أهمية عن الجانب السياسي منها , و أن البعث الوطني كما يحفز النفوس إلى تحرير البلاد سياسيا , فإنه يهيب بها في الوقت نفسه إلى تحريرها ماليا و تحقيق استقلالها الاقتصادي , و قد لاحظت أن زعامة " الوفد " للثورة قد أهملت الجانب الاقتصادي , و هنا تبدو ناحية من نواحي النقص في تلك الزعامة , إذ قورنت بالزعامة الوطنية قبل الثورة , فإن زعامة قبل الثورة – زعامة الحزب الوطني – تفضل زعامة الوفد في توجيه الأمة إلى البعث الاقتصادي إلى البعث الاقتصادي , مما بدا أثره في تأسيس البنوك التعاونية منذ سنة 1909 , منشآت التعاون عامة , و الؤسسات النقابية و العمالية , كما أن " غاندي " و أنصاره في الهند قد جعلوا أيضا لدعوتهم جانبا اقتصاديا واسع المدى , كان له الأثر الفعال في زيادة الثروة الأهلية , و في قوة الحركة الوطنية عامة في الهند , أما زعامة الوفد فلم توجه الأمة إلى البعث الاقتصادي .

على أن منطق الثورة السليم قد اتجه من تلقاء نفسه إلى بعث النهضة الاقتصادية , و قد ساهمت في هذا البعث قدر ما استطعت .

جمعية تعميم النقابات الزراعية سنة 1919

ففي يوليو سنة 1919 أسست مع لفيف من أصدقائي بالمنصورة جمعية لتعميم النقابات الزراعية ( جمعيات التعاون الزراعي ) بمديرية الدقهلية , و وضعنا لها قانونا طبعناه و وزعناه , و جعلنا من أهم أغراضها نشر الجمعيات التعاونية في أنحاء المديرية و مساعدتها في تحقيق أغراضها , و وجدت أن الفرصة سانحة لإحياء الحركة التعاونية التي ركدت في خلال الحرب العالمية الأولى , و أذعت نداء للانضمام إلى هذه الجمعية , وقعه معي كل من : الدكتور محمد حسين هيكل ( باشا ) . ابراهيم الطاهري بك . حسين بك هلال . الاستاذ عبد الوهاب البرعي . الدكتور ابراهيم الوكيل . محمود بك نصير . عبد الفتاح بك نور . الاستاذ محمود موسى . و وضعنا نموذجا لقانون جمعية تعاونية زراعية تنشأ الجمعيات على أساسه , وزعناه في أرجاء المديرية , و كان له صداه في تأسيس بعض الجمعيات التعاونية بها .

جمعيات التعاون الخيرية سنة 1920

و في أوائل سنة 1920 فكرت بالاستعانة بالتعاون على مكافحة الغلاء , و اتجهنا بالتعاون إلى ناحية اقتصادية و خيرية معا , بإنشاء جمعيات أسميناها جمعيات التموين الخيرية , و كتبت صحيفة ( الأخبار ) التي أصدرها أخي أمين بك الرافعي منذ فبراير سنة 1920 عدة مقالات بعنوان ( تطبيق مبادئ التعاون لمكافحة الغلاء و جمعيات التموين الخيرية ) , و ألقيت كلمة في اجتماع عقد بدار الأوبرا في الدعوة إلى إنشاء هذه الجمعيات يوم 5 مارس سنة 1920 , و كان صاحب الدعوة إلى إنشاء هذا الاجتماع و خطيبه صديقي المرحوم الاستاذ محمد أمين يوسف بك .

و هذه الجمعيات هي تنويع و تفريغ للجمعيات التعاونية , و قد أدخلنا فيها هذا التنويع للجمع بين قواعد التعاون و قواعد البر بالفقراء , و مساعدتهم على مكافحة الغلاء , لأن أساس التعاون أن تكون فائدته الجوهرية و الأسااسية لأعضاء الجمعيات التعاونية , لكن الحالة التي واجهناها سنة 1920 اضطرتنا أن نعفي جمهور المستهلكين من الفقراء و متوسطي الحال من عضوية جمعيات التعاون , و على هذا الأساس أنشأنا جمعية التموين الخيرية بالمنصورة , و الغرض منها مشترى المواد الغذائية و الحاجات الضرورية و بيعها لأعضاء الجمعية و لطبقة صغار المستخدمين و العمال و الفقراء بدون ربح , بقصد تخفيف وطأة الغلاء عنهم و مساعدتهم على الحصول على حاجتهم بأرخص الأٍسعار الممكنة , و جعلنا رأس مال الجمعية مقسما إلى حصص قيمة الحصة الواحدة خمسون جنيها , توزع على الموسرين من أهل المدينة , و جعلنا مهمة مجلس إدارة الشركة شراء الأصناف بالجملة وقت نزول أسعارها , و عليه أن يسعى لدى الخيرين من أصحاب المزارع و المتاجر من أعضاء الجمعية أو من غيرهم في مديرية الدقهلية أو غيرها للحصول على تعهدات منهم بتوريد بعض الأصناف الضرورية للتموين بأسعار تقل عن الأسعار التي يبيعون بها في الأسواق , مساعدة منهم لصغار المستهلكين التي أنشئت الجمعية لدفع الضرر عنهم , و على مجلس الإدارة أيضا أن يجتهد في الحصول من جهات الحكومة على توريد بعض الأصناف للجمعية بأسعار مخفضة , و أعددنا كشوفا بأسماء صغار المستهلكين في أقسام المدينة , و عهدنا إلى لجان من أعضاء الجمعية حصر أسمائهم في كل قسم , و تقدير حاجات كل منهم و عائلته , و اتفقنا على أن تباع الأصناف لصغار المستهلكين بالثمن الأصلي , و لمجلس الإدارة أن يأخذ في بعض الأصناف ربحا لا يزيد عن الخمسة في المائة , و أن تباع هذه الأصناف للجمهور من غير المقيدة أسماؤهم في كشوفها بالثمن المناسب لأسعار السوق , و كل ما تربحه الجمعية من هذا الباب تخفض بمقداره أسعار البيع لصغار المستهلكين , و جعلنا مجلس الإدارة ضامنا لحملة الحصص قيمة حصصهم .

أسست جمعية التعاون للتموين الخيري بالمنصورة في فبراير سنة 1920 , و أسست جمعيات أخرى على هذا الغرار في بعض المدن , و قد أقبل بعض الموسرين على الاكتتاب في حصصها , و كان الاكتتاب بمثابة قرض يرد إلى صاحبه بعد انتهاء مهمة الجمعية , و قد دفع هؤلاء الموسرين إلى الاكتتاب في حصصهم حبهم للخير من جهة و لأنهم هم أيضا كانوا من المستفيدين بالشراء من الجمعية بالأسعار المنخفضة , هذا إلى ما في عملهم من الحدب على الفقراء و المحتاجين .

و قد أدت هذه الجمعيات خدمات حليلة لصغار المستهلكين , و انخفضت بفضلها أسعار الحاجات و الأصناف الشرورية , فكانت من خير الوسائل لمكافحة الغلاء .

لجنة توزيع أسهم بنك مصر

و في أواخر سنة 1921 أسست في المنصورة أيضا لجنة توزيع أٍهم بنك مصر في الدقهلية , جعلت أسمها ( لجنة الدقهلية للاكتتاب في أسهم بنك مصر ) كانت بمثابة دعاية للاكتتاب في أسهم البنك , و كان المرحوم طلعت حرب بك (باشا) يرسل إلي خطابات بايصالات سداد مبالغ الاكتتاب , و أغلب هذه الخطابات في سنة 1921 و سنة 1922 , كان ذلك سنة 1921 , حيث كان البنك في حاجة إلى مثل هذه الدعاية , أما الآن فهو و الحمد لله في غير حاجة إليها و لا إلى مثلها بعد أن أصبح النواة المالية لنهضة مصر الاقتصادية , و كتبت عدة مقالات في ( الأخبار ) تحت عنوان ( بنك مصر و بنوك بولونيا ) جعلتها بمثابة دعوة للاقبال على أسهم البنك .

ظهور كتابي في الجمعيات الوطنية سنة 1922

إن حوادث سنة 1919 و سنة 1920 , و التواء السياسة الانجليزية تجاه مصر , و تصريحات أقطابها , و مناوراتهم و دسائسهم , و دراستي السابقة للمسألة المصرية , كل أولئك قد اقنعني بأنه لا يزال أمام مصر نضال طويل لتحقيق أهدافها , و أن ما كان يظنه البعض من أن حل القضية المصرية على أساس سليم أمر قريب المنال , إنما هو وهم من الأوهام , و أن معنويات الأمة في حاجة إلى أن يلم المشتغلون بالحركة الوطنية أو من يودون الاشتغال بها بجهاد الأمم في سبيل حريتها و استقلالها , فأتجهت في سنة 1921 إلى عرض صفحات من هذا الجهاد على أنظار المواطنين و إبراز ما تحتويه من مثابرة و ثبات و صدق و إخلاص , ليترسموا الخطوات الصحيحة للجهاد الصحيح , نشضرت هذه المقالات تباعا في ( صحيفة الأخبار ) , ثم جمعتها في كتاب واحد عنوانه ( الجمعيات الوطنية صحيفة من تاريخ النهضات القومية ) دعوت الأمة فيه إلى التمسك بأهداب المقاومة الوطنية و تدعيمها بالإخلاص و إنكار الذات , قلت في هذا الصدد في مقدمة الكتاب :

" إن الأمم تختلف في وسائل جهادها و طرائقه باختلاف أحوالها و ظروفها و ميراثها القومي , على أن هناك حقيقة ثابتة لا تتبدل و لا تتغير , و هي أن أقوام الجهاد الصحيح المثمر في كل أمة هو تنظيم المقاومة الوطنية المرتكزة على إرادة الشعب و قوته القائمة على مبدأ الإخلاص و إنكار الذات .

" هذا هو الأساس الثابت الذي تبنى عليه النهضات القومية , هذه هي الدعامة التي ترتكز عليها حياة الأمم العاملة لاستقلالها , هذه هي السبيل التي تكفل للأمم تحقيق آمالها و لو بعد حين .

" و ما من أمة تتنكب هذه السبيل و تستسلم للأماني و الأحلام أو تسير وزاء الأهواء و تتراخى في خطة المقاومة الوطنية إلا و تصاب حركتها بالشلل فتصبح حركة عرجاء تتعثر في سيرها و لا تلبث أن ترجع بها إلى الوراء , و في هذا الرجوع هدم لصرح الوطنية و تقويض لبناء الجهاد الوطني الذي أسس على وجهودات الأمة و متاعبها و أحزانها و آالامها و ضحاياها .

" إن سياسة المقاومة الوطنية هي سياج الأمم المهضومة الحقوق و سبيلها لاستقلالها , فهي مناط الفضائل و مصدر الأخلاق , و قوام الشجاعة و النبل , هي روح الاتحاد الوطني , هي كلمة الأمة التي تجمعها و تحث أبناءها على العمل , هي الوقاية اتلكبرى من انحلال العزائم و فتور الهمم و فساد النفوس و تفرق الكلمة , هي المدرسة الكبرى التي يكتسب فيها أبناء البلاد الفضائل الاخلاص و الصدق و المثابرة و إنكار الذات و تذليلي العقبات , هي مصدر القوى المعنوية للشعب , هي عماد نهضة الأمم و قوام تربيتها السياسية , فبفضلها تكونت الأمم و غالبت اليأس و قاومت عوامل الفناء و حققت آمالها و وصلت إلى أسمى درجات الرقي السياسي و الأخلاقي و الاجتماعي .

" إن العالم لا يستقر على وتيرة واحدة , و أحواله دائمة التبدل و التحول , فلا يجوز أن نيأس من طول الجهاد أو ننثني أمام العقبات , فإن الانسانية سائرة حتما نحو الكمال , و الأمم لا تذعن لحكم القوة , و الأرض لا يستقر فيها سلام و لا وئام حتى تشرق في أرجائها شمس الحرية و تعيش الأمم في ظل الاستقلال .

" حاول أنصار الفتح و الاستعمار أن يطوقوا الأمم بسلاسل الأسر و الاستعباد بعد أن تم لهم النصر في نيادين الحرب العالمية ( الأولى ) . و ظنوا أن العالم في قبضة يدهم و الأمم سلع تباع و تشترى في سوق الأطماع و الأهواء , و لكن إذا كان للسيف و المدافع في الدنيا أحكام , فلعزم الأمم و حزمها و جدها و إخلاص بنيها أحكام و آثار , فالقوة الغشوم لا سلطان لها على الأرواح و المبادئ و العقول و الأفكار , و ليس في مقدورها أن تقف نهضة أمة تسير إلى الأمام نحو المطمح الأسمى .

" برهنت الحوادث التي تعاقبت بعد انتهاء الحربا لعالمية على أن العالم قد دخل دورا جديدا من أدواره التاريخية , و هو دور حرب الشعوب و حقها في تقرير مصيرها , و مهما يبذل دعاة الفتح و الاستعمار من الجهود في مقاومة هذا الحق المقدس فإن الشعوب تأبى أن تعيش مستعبدة تسوقها إرادة المستعمرين , لأن من أعظم نتائج الحرب العامة ارتقاء القوى المعنوية في الأمم و إدراكها أن تلك القوى الكامنة فيها إذا اتحدت و عملت فلا سبيل للقوة أن تتغلب عليها .


" لقد رفعت الغشاوة القديمة عن أبصار الشعوب , و قرأت مبادئ الحرية و معاني الحياة الصحيحة على ضوء النار التي اشتعلت في ميادين القتال أربع سنوات طوال , فإن التاريخ قد خطها بأحرف لا تمحى من دماء الملايين من بني الإنسان , فسمع الناس في سائر أرجاء الدنيا نداء الحلفاء في كل آونة أن تلك الدماء و الضحايا تبذل دفاعا عن حرية الشعوب , فالناس في مختلف الأرجاء قد سمعوا هذا النداء و وعوه , و هيهات أن ينسوه , و ما من قوة في العالم تستطيع أن تغير سير التاريخ أو تصد أمواج الحرية التي تتدفق مشارق الأرض و مغاربها .

" إن المؤتمرات و المعاهدات لم تعد تملك البت في مصير الأمم , و قد أيدت حدوادث التاريخ تلك الحقيقة الأزلية :" الحكومات تمر و تزول و الأمم تبقى و تدوم " .

" فقديما انعقد مؤتمر فيينا سنة 1815 يعد أن خرجت الدول الأوروبية فائزة من حروب نابليون , و ظن الملوك و السياسيون أنهم قادرون على التصرف في أقدار الأمم بعد أن تخلصوا من خصمهم القوي العنيد , فوضعوا في فيينا أسا " المحالفة المقدسة " التي تعاهد الملوك فيها على أن يحكموا الشعةب حكما لا رأي فيه لأمم و لا قيمة فيه للحقوق الوطنية , و لكن الحوادث خيبت آمالهم , فإن الشعوب أخذت تعمل على استرداد حقوقها المشروعة في الحرية و الحياة , و أخذت أركان معاهدة فيينا تتداعى تحت تأثير مبادئ الحرية التي انتشرت بين الشعوب الغربية في أثناء حروب نابليون , و لم تكد تمضي أعوام معدودات حتى انفرط عقد المحالفة المقدسة و تغلبت إرادة الشعوب على قوة السياسيين المتآمرين على حرية العالم , و تحطمت القواعد و الأركان التي شيدتها الأهواء السياسية و المطامع الاستبدادية في مؤتمر فيينا .

" فالتاريخ يعيد نفسه بعد مائة عام , مع فرق عظيم في مبلغ ارتقاء الشعوب و انتشار مبادئ الحرية التي عمت الدنيا بأسرها شرقا و غربا , و لا غرو فليس في التاريخ حرب أمكنها أن تهز أعصاب الإنسانية كلها و تنبه الأمم التي كانت غارقة في بحارا لخمول و الجمود مثل الحرب الأخيرة , فلا عجب أن يسير العالم الآن إلى الأمام بخطوات سريعة لم يخطها من قبل , و إن أثار ذلك لماثلة للعيان في تطور الحركات الوطنية و النهضات القومية بين الأمم المهضومة الحقوق , فالأمم التي تصرفت مؤتمرات الحلفاء في مصيرها لا يمكن أن تستسلم لأحكام الهوى و لا أن تذعن لقرارات تلك المؤتمرات , لأن الشعوب أقوى و كلمتها هي العليا , و الانسانية الجديدة ,وليدة الأجيال المتعاقبة , وليدة الأحزان و الآلام , و ثمرة التجارب و المصائب و المتاعب , تأبى أن تعيش الآن في ظلام العبودية , فحسبها ما تحملته الأمم من المصائب لتنفر من كل نظام يحول بينها و بين حريتها و استقلالها , و ليس في استطاعة العابثين بأقدار الشعوب مهما أوتوا من بطش و قوة أن يحرموا الأمم من رحمة الله و نعمة الحرية .

" فالدون الذي دخلته الانسانية بعد الحرب العامة هو دور حرية الشعوب و الأمم , هو دور الأمل و العمل , فيجب أن نعمل و نور الأمل يضيء لنا السبيل يجب أن نعمل لجهاد طويل تشترك فيه طبقات الأمة و تنظمه إرادتها العامة .

" يجب أن نمضي في سبيلنا دون أن نرجع إلى الوراء أو نقف في منتصف الطريق أو نتعب من طول الجهاد " 22 يناير سنة 1922 .

الحيــــــــــاة النيابية

في البرلمان الأول سنة 1924

صدر الدستور في 19 إبريل سنة 1923 , و قانون الانتخابا لأول في 30 من هذا الشهر , و استعدت الأمة للانتخابات العامة عقب صدور الدستور مباشرة , و إذ كان الانتخاب وقتئذ على درجتين فقد حدد لانتخاب المندوبين الثلاثينيين يوم 27 سبتمبر سنة 1923 , و لانتخاب النواب يوم 12 يناير 1924 , و لاعادة الانتخاب يوم 17 منه عند عدم حصول المرشح في اليوم الأول على الأغلبية المطلقة , أي النصف زائدا واحدا من أصوات المندوبين الحاضرين .

و اهتمت الأمة بالانتخابات بدرجتيها اهتماما عظيما دل على ارتقاء النضج السياسي في البلاد , و تتبع الناس بلهفة إجراءات التمهيد للانتخابات , تألفت اللجان الشعبية في مختلف المدن و القرى , و كان معظمها من لجان " الوفد " .

و كانت الدلائل تدل على أن الوفد سينال الأغلبية الساحقة في الانتخابات (وقتئذ ) , فشخصية سعد زغلول , و زعامته للأمة , و المنزلة التي نالها في نفوس المصريين , كانت وحدها كفيلة بهذا الفوز , و لا غرو فقد تركزت فيه الثورة , لأنه كان زعيمها , و كان نفيه مرتين مما زاد الشعب تعلقا به و التفافا حوله و تلبية لندائه في الترشيح للانتخابات بمدة وجيزة , فكان ترشيح الوفد ( وقتئذ ) يضمن في الغالب فوز كل من يتقدم للانتخابات .

ظهر فوز الوفد أول ما ظهر في الانتخابات الثلاثينية , فإن معظم المندوبين الثلاثنيين كانوا من أنصاره , و ممن تعاهدوا على انتخاب مرشحيه للبرلمان , فكان ذلك إيذاءا بفوز الوفد في الانتخابات النواب و الشيوخ .

و لم يكن يزاحم الوفد في الانتخابات سوى عدد قليل من مرشحي الحزب الوطني و الأحرار الدستوريين , و بعض المستقلين , إذا لم تكن قد كثرت الأحزاب بعد في البلد كما حدث بعد ذلك , و كان مرشحو الحزب الوطني يعتمدون على مبادئهم و ماضيهم في الجهاد , أما مرشحو الأحرار الدستوريون و المستقلون فكانوا يعتمدون في مناطقهم على عصبياتهم العائلية و نفوذهم الشخصي .

لمست تيار الوفد الجارف في هذه الانتخابات فقد رشحت نفسي في دائرة مركز المنصورة معتمدا على الله , و مستندا إلى مبادئي و شخصيتي و ماضي في الحركة الوطنية , و كان الوفد قد رشح ضدي علي بك عبد الرازق من أعيان المنصورة .

و قد تألفت لجنة وطنية لتيأييد ترشيحي أخذت تجوب الدائرة و توزع المنشورات على المندوبين و الناخبين للدعوة إلى انتخابي . و يطيب لي , و قد مضى أكثر من ربع قرن على تلك الحوادث أن أدون أسماء من أذكرهم من أعضاء هذه اللجنة إعترافا بما لهم علي من فضل في نجاحي في هذه المعركة الهائلة , و هم : الحاج عبد البر . سيد أفندي علي .

الاستاذ عبد المجيد البيومي . صالح أفندي الطنطاوي . الاستاذ محمود السيد عقل ( بك المستشار بمحكمة الاستئناف الآن ) . الاستاذ حسين فهمي الصباغ . الاستاذ محمد عبد الرحمن . الاستاذ عبد الحميد الطوبجي . الحسيني أفندي العسقلاني . الاستاذ علي عبد الله . الشيخ إبراهيم جمعة . مصطفى أفندي أبو الوفا . الشيخ أحمد السعيد الجمل . إسماعيل أفندي هواش . [[صالح أفندي رمزي . حامد أفندي عبد المجيد . شكري أفندي صادق . إلخ , و في الحق أنه عانوا متاعب كثيرة في الطواف بالدائرة و المرور على كل مندوب أو ذي مكانة في بلدة . و إقناعهم بانتخابي و كنت أمر أنا أيضا معهم , مجتمعين أو منفردين . و ألقى أحيانا ترحيبا و أحيانا إعراضا و لم يحصل لي أذى بفضل الله , فإن مخالفية في الرأي كانوا في الجملة يحترمونني شخصيا , و قد وزعت على جميع مندوبي الدائرة و ذوي الرأي و المكانة فيها مؤلفاتي التي ظهرت إلى ذلك الحين و هي : " حقوق الشعب " و " نقابات التعاون الزراعية " و " الجمعيات الوطنية " , فكان لها أثر كبير في تزكيتي و تقدير المندوبين و الناخبين لي .

و كان لطلبة الدقهلية لجنة تسمى ( لجنة الطلبة العامة بالدقهلية ) ساهمت فيا لمعركة الانتخابية , و كان أعضاؤها يزكون مرشحي الوفد في دائرة المديرية , و لكنهم استثنوا دائرة مركز المنصورة , فمع أنهم في الغالب وفديين , آثروني على مرشح الوفد و عملوا على ذلك بوازع من ضميرهم و وجدانهم , و كان لانضمامهم إلى جانبي أثر محمود في نجاحي و حفظت لهم هذا الجميل على مدى السنين , و قد صاروا الآن من رجالات القضاء أو المحاماة أو الطب , أذكر منهم : الاتاذ أحمد كمال ( بك المستشار بمحكمة الاستئناف ) . و الاستاذ حسين حسني المحامي . الاستاذ علي السعدني ( القاضي الآن ) . الاستاذ عبد الحميد خلاف ( القاضي ) . الاستاذ محمود البحيري ( رئيس النيابة ) . الدكتور زكي منتصر . الاستاذ بدوي حمودة ( بك المستشار بمجلس الدولة الآن ) . الاستاذ محمد عاشور سكرتير عام شركة الغزل و النسيج بالمحلة الكبرى , الاستاذ عبد الخالق الطنطاوي المفتش بالأوقاف . الاستاذ عباس رمزي وكيل النيابة . إلخ .

و بدأت المعركة الانتخابية تقريبا منذ إبريل سنة 1923 , أي من يوم صدور الدستورو قانون الانتخابات , و استمرت إلى 12 يناير سنة 1924 أي يوم الانتخابات , فكانت معركة طويلة المدى , حامية الوطيس عانيت فيها متاعب جسيمة , إذ كان مطلوب مني أن أمر على المندوبين في بلادهم و اقناعهم شخصيا باستحقاقي لثقتهم , و قد أصبت أثناء الحملة بمرض التيفوئيد في يونيه سنة 1923 , و لزمت الفراش نحو شهرين , و اشتد بي خطر المرض في خلالها حتى أذن الله لي بالشفاء . كتب أخي المرحوم أمين بك في جريدة الأخبار بالعدد الصادر يوم 27 يوليو سنة 1923 أن النبذة الآتية تحت عنوان ( شفاه الله ) : " لم الاستاذ عبد الرحمن بك الرافعي المحامي بالمنصورة منذ أيام لمرض انتابه و يسرنا أن نعلن بأن الأطباء قرروا زوال الخطر عنه و أن صحته آخذة في التحسن فنحمد الله على لطفه في قضائه و قدره و نسأله الشفاء التام " .

و قامت اللجنة أثناء مرضي بالطواف بدلا عني في الدائرة .

و في الحق أن ضمير الشعب لم يتأثر إلى الحد الأقصى من الانقسام الذي حدث سنة 1921 , فعلى الرغم من أني لم أعتمد في حملتي الانتخابية على عصبية عائلية أو نفوذ شخصي أو قوة حزبية , فإن ما عرفه الناس عني من ماض و صفوة بالوطنية , قد أوجد شيئا من التوازن بيني و بين منافسي مرشح الوفد .

نجحت بصوت واحد

فزت على منافسي بصوت واحد بصوت واحد , إذ نلت 171 صوتا و نال هو 170 صوتا , و كان عدد المندوبين الذي أعطوا أصواتهم 341 مندوبا .

كان هذا الصوت الواحد حديث الناس في مجالسهم , و قال الذين شهدوا إعطاء الأصوات أن أحد المندوبين , و كان متقدما في السن , دخل ليعطي صوته , فسأله رئيس اللجنة ( المرحوم بيومي بك مكرم القاضي بمحكمة مصر الابتدائية وقتئذ ) عمن ينتخبه , فأجاب على الفور : عبد الرحمن الرافعي , ثم سكت هنيهة , و تلعثم قائلا :

بل أريد علي عبد الرازق , فرفض رئيس اللجنة عدوله عن رأيه و اعتمد صوته لي , و أخبرني الذين شهدوا هذا الحادث أنهم سألوا الرجل بعد ذلك عما دعاه إلى العدول , فأعترف لهم بأنه كان يريد إعطاء صوته لعلي بك عبد الرازق , لكن اسمي جرى على لسانه عفوا , دون تفكير منه , و لما فطن إلى خطئه (كذا تعبيره ) أراد أن يتدارك الخطأ فصارح رئيس اللجنة بأنه إنما يقصد انتخاب علي عبد الرازق لا عبد الرحمن الرافعي , فرفض منه هذا العدول , و قال إن هذا تلاعب لا يجوز و أنه استنفذ حقه في الانتخاب بإعطائه صوته أول مرة . و تحدث الناس كثيرا عن نجاحي بصوت واحد و قال لي بعض الصوفية إنه صوت الله , فحمدت لهم هذا التعبير , و قلت لهم إنني فعلا كنت و مازلت ( و لا أزال ) معتمدا على الله .

و قد طعن في انتخابي أمام مجلس النواب , و اكتنف الطعن بحوث فقهية طويلة في نصاب الأغلبية , مدلولها , و في قيمة هذا الصوت الذي رجح كفتي في الميزان , و كأن سببا لنجاحي , و كان محور الطعن أن الأغلبية هي نصف الأصوات زائدا واحدا , و بما أن عدد الأصوات التي أعطيت 341 فيكون نصفها 170.5 زائدا واحدا , و تكون الأغلبية 171.5 لا 171 , و أنني على هذا الحساب ينقصني نصف صوت ! و لكن لجنة الطعون رأت أن طريقة الحساب بهذا الشكل غير معقولة , و أن الأغلبية في هذه الحالة تكون بجبر الكسر , و أقر المجلس وجهة نظر اللجنة , و قرر رفض الطعن .

نال الوفد تسعين في المائة من مقاعد النواب , و فشل في الانتخابات أشهر خصوم سعد أو الذين لا يؤيدون سياسته , و سقط رئيس الوزارة يحيى ابراهيم باشا في دائرته الانتخابية " منيا القمح " , و فاز عليه مرشح الوفد , و كان سقوطه شهادة ناطقة له بنزاهته و محافظته على حرية الانتخابات و تجنبها تدخل الحكومة و ضغطها على حرية الناخبين في جميع المناطق , مما يذكر له بالخير حقا , إذ كانت هذه الانتخابات نموذجا للانتخابات الحرة .


في المعارضة البرلمانية

إن المثالية هي التي جعلتني أختار المعارضة في البرلمان الأول سنة 1924 , فقد شعرت أن من واجبي كنائب أن أتخذ من الحياة النيابية أداة للكفاح الوطني , و أن تكون استمرارا لكفاحي الماشي , و هذا يقتضي من أكون على شيء من الاستقلال عن الوزارة القائمة – وزارة سعد – فأؤيدها فيما تحسن , و أنتقدها فيما تخطئ فيه , و أعبر عن مبادئ و أفكار قد لا تدين بها الأغلبية , و هذا ما يسمى " المعارضة" , فاتجاهي إلى المعارضة كان إذن اتجاها سليما قويما – فيما أظن – و لكنها مع ذلك جلبت علي متاعب و عداوات كثيرة , ظهر أثرها على تعاقب السنين , بالرغم من اعتراف الجميع أن المعارضة ضرورية للحياة الدستورية , إن هذا كلام يقولونه بأفواههم , و لكنهم في خاصة نفوسهم لا يطيقون المعارضة , و يتربصون بها الدوائر , و ينتهزون الفرص للتخلص من المعارضين و إسقاطهم , و هذا ما حصل لي سنة 1926 و 1936 و 1951 .

ساهمت مع لفيف من إخواني و زملائي في وضع التقاليد الصالحة للمعارضة البرلمانية القويمة .

تألفت المعارضة في بداية الحياة البرلمانية سنة 1924 من نواب الحزب الوطني , و كنا في مجلس النواب لا نزيد على أربعة وهم : عبد اللطيف الصوفاني بك . و أنا . و الدكتور عبد الحميد سعيد . و الأستاذ عبد العزيز الصوفاني . حملنا معا لواء المعارضة , و كانت غايتنا أن نجعل من الحياة النيابية أداة جهاد في الذود عن حقوق البلاد , و مجال توجيه للحكومة للأخذ بوسائل الإصلاح في شتى نواحيه , و إقامة حكم صالح نزيه , و قد حرصت مع اخواني على أن نسير على مبادئ الحزب الوطني داخل مجلس النواب , فكنا لا نفتأ نتمسك بالجلاء و وحدة وادي النيل , و ننشد أن يشاركنا الجميع في ذلك , كما كنا نعالج المسائل الداخلية بروح الرغبة الصادقة في الإصلاح , و لم نكن ننظر إلى وزارة سعد كخصم نحاربه , بل كنا نقدر فيها صفة الوكالة عن الشعب , تلك الوكالة التي نالتها في ميدان الانتخاب , فكان موقفنا منها موقف التوجيه الخالص لخير البلاد , كنا نعضدها فيما كان يتفق و مبادئنا , و ننقدها في رفق و لين فيما كنا نختلف و إياها فيه , و لم يدر بخلدنا أن نخلق لها العقبات أو نشارك في المساعي لإسقاطها , و لكن الوفد لم يقابل هذه الروح بالتقدير و الاعتدال , بل حنق من موقفنا , إذ كانت سياسته ( و لم تزل ) اضطهد المعارضة و المعارضين , و خلق ديكتاتورية برلمانية يتمثل فيها الحكم المطلق بشكل يتفق مع ظواهر الدستور دون حقيقته و معناه .

و أذكر أن أول موقف لي في المعارضة كان لمناسبة المناقشة في خطاب العرش ( جلسة 29 مارس سنة 1924 ) الذي ألقاه سعد زغلولو يوم افتتاح البرلمان ( 15 مارس من تلك السنة ) , و كانت جلسة هامة حضرها سعد و بقية الوزراء , و رأس الجلسة أحمد مظلوم باشا , و كان يقدرني تقديرا خاصا و ينظر إلي بود و احترام , و يعطيني حقي في الكلام بارتياح و سهولة , مما كان ييسر لي مهمة الكلام في المجلس , كان دوري في الكلام في تلك الجلسة يأتي بعد عبد اللطيف الصوفاني بك , و قد قوطع في بعض العبارات غير مرة , و لكن المجلس تركه يستكمل كل ما أراد الإفضاء به , و في أثناء خطابه همس في أذني هارون سليم أو سلحى ( باشا ) نائب فرشوط , و كان صديقا لي , و يجلس خلفي , ناصحا لي أن أتنازل عن كلمتي , لأنه يرى جو المجلس غير موائم للمعارضة , فم ألق بالي إلى مصيحته , و تكلمت معارضا في دوري , فألفيت من المجلس إصغاء تاما و حسن استقبال , على خلاف ما كان يظن هارون بك , و رأيت مثل ذلك في كل مرة طلبت فيها الكلام .

و كنا من ناحيتنا نحن المعارضين نجتنب العبارات العنيفة أو الكلمات النيابية في النقاش , و بذلك وضعنا في مستهل الحياة البرلمانية تقاليد أظن أنها صارت أسسا صالحة للمعارضة النزيهة , و قد انضم إلينا في المعارضة النواب الدستوريون و بعض المستقلين و بعض النواب الوافدين الذين مالوا إلى اتجاهاتنا , فبلغت عدتنا عشرين نائبا , طوى الردى معظمهم , و بقي منهم ثلاثة أو أربعة , و جميعهم هم : عبد اللطيف الصوفاني . عبد العزيز الصوفاني . محمد شوقي الخطيب . السيد عبد العزيز خضر . الدكتور محمود عبد الرازق . عبد الجليل أبو سمرة . علي علي بسيوني . سلطان السعدي . هارون سليم أبو سحلى . علي الطحاوي المغازي . أحمد المليحي . محمد الشريعي . خليل أبو رحاب . عبد الله أبو حسين . محمود وهبة القاضي . محمد توفيق إسماعيل .

و مع أن مجلس النواب سنة 1924 كان في الجملة واسع الصدر بإزاء المعارضة , فالوزارة نفسها – وزارة الوفد – لم تكن على هذا الغرار , فقد كانت تنظر إلى المعارضين بعين الحقد , و بدا ذلك مما أضمره الوفد لنا من المحاربة في الانتخابات اللاحقة .

الزعيم مصطفى كامل

من كان لي أبا روحيا
و سأبقى له تلميذا وفيا

و قد قيل عني أنني بمواقفي المعارضة كنت أريد إحراج سعد , و لعمري إن هذا كان أبعد ما يكون عن خاطري , فإني ما قصدت إحراج سعد أو وزارته , بل كنت أرى في الحياة البرلمانية ميدانا لاستمرار الكفاح ضد الاحتلال , فكنت لا أفتأ أحمل على سياسة العدوان البريطاني في مختلف المناسبات , و هي الخطة التي اتبعتها الأغلبية الوفدية في مجلس النواب حينما اشتد هذا العدوان في يونيه و نوفمبر سنة 1924 لمناسبة حوادث السودان .

لم أكن أقصد إحراج سعد , و لكن سعدا كان لا يطيق المعارضة , و يحنق عليها , لأنه لم يكن يريد النواب إلا مؤيدين له . و قد زاد حنقه علي حين بدرت منه كلمة بجلسة 24 مايو سنة 1924 عدت عليه خطأ سياسيا كبيرا . ذلك أني وجهت له سؤالا إلى وزير الأشغال ( المرحوم مرقس حنا باشا ) طلبت فيه العمل على وقف المشروعات التي كان الانجليز يقيمونها في الجزيرة ( بالسودان ) , و لقد أجاب مرقس باشا على سؤالي في هذه الجلسة إجابة غير مطمئنة , و حصل نقاش بيني و بينه , و كان غرضي التنبيه إلى وجوب درء خطر يتهدد مصر من استمرار هذه المشروعات .

و مع أن السؤال كما تحدده الأوضاع البرلمانية يجب أن يظل مقصورا بين السائل و المسؤول , فإن سعدا تدخل في النقاش و قال موجها الكلام إلي :" هل عندكم تجريدة ؟" و أراد بهذه الكلمة أن يظهر استحالة وقف هذه المشروعات .

و كانت سقطة كبيرة اتخذها خصومه مادة للطعن عليه , أما أنا فلم يزد تعليقي عليها على قولي :" كنا ننتظر أن نستمد الأمل من كلمات دولة الرئيس لا أن نسمع كلمات تبعث اليأس في النفوس ", و لكن الوفديين حملوني مسئولية تلك الكلمة و كانوا يقولون إنني أحرجت سعدا و جعلته يقولها ! و هذا من أغرب ما يسمع في معرض التجني .

فسؤالي لم يكن موجها إليه , و هو الذي أقحم نفسه في موضوع موجه إلى أحد الوزراء , و كان تدخله مفاجأة لي , فإذا كان قد أخطأ في تدخله و في قولته هذه , فكيف أتحمل هذا الخطأ ؟

حوادث السودان سنة 1924 و صداها في البرلمان

وقعت أزمة سياسية في يونيه سنة 1924 على أثر منع حكومة السودان سفر وفد يمثل خيرة رجاله المؤيدين لارتباطه بمصر و المقاومين للحركة الانفصالية اليت دبرها الانجليز هناك , فقد منعت سفر هذا الوفد إلى مصر , و لم تكتف بذلك بل اعتقلت بعض أعضائه , و في القوت نفسه أخذت تستكتب صنائعها عرائض بالولاء للحكم البريطاني .

كانت لهذه الأزمة صداها في مجلس النواب بجلسة 23 يونيه سنة 1924 , و كانت من أهم جلسات البرلمان , تكلمت فيها , و تكلم فيها أيضا عبد اللطيف الصوفاني بك , و مما قلت في كلمتي :

" إن البرلمان كما قال دولة الرئيس هو ضمير الأمة , و هو قلبها الخفاق و في هذه الأيام تدور حوادث خطيرة في السودان , إذ تقوم هناك حركتان متناقضتان : حركة طبيعية صادرة من أحشاء الشعب السوداني , و حركة مصطنعة تقوم بها السلطة الانجليزية .

" أما الحركة الطبيعية فهي التي عرفناها من التلغراف الوارد على المجلس من جماعة من رجالات السودان و ذوي الرأي فيه ينادون بأنهم ألفوا وفدا بقصد الحضور لمصر لإظهار ولائهم لمصر و لمليك البلاد فمنعتهم القوة من اجتياز بلادهم و منعتهم عن أداء هذه المهمة الوطنية .

" أما الحركة المصطنعة فتدبرها السلطة الانجليزية , فقد أوزعت إلى صنائعها و بعض موظفي السودان بعقد اجتماع صوري يتظاهرون فيه بالولاء للحكم الانجليزي , فهذه حركة لا يمكن السكوت عليها لأن الحوادث التي تقع في السودان الآن إنما يقصد بها الاعتداء على حقوق مصر و السودان و على حقوق السيادة المصرية , و إذا قلت السيادة المصرية فلا أرمي إلى الاستعمار و التحكم , فإنما أقصد بالسيادة حقوق الولاية العامة التي يشترك فيها المصريون و السودانيون على السواء .

" فإزاء هذه الحركة يجب أن نحتج و نعلن للعالم أجمع رأينا صراحة بأن الحركة التي يدبرها الانجليز مصطنعة و أن الحركة الطبيعية هي التي ظهرت في التلغراف الوارد علينا .

" سادتي : يجب أن نعلن العالم أننا أول من يهمه عمران السودان و تقدمه , و إن التاريخ شاهد على أننا كنا على الدوام عونا للعمران في السودان , و ما تدعيه السياسة الانجليزية من أن بقاء سيادتها هو لمصلحة العمران في تلك البلاد قول مكذوب , لأن المصريين هم الذين مدو السكك الحديدية و شيدوا القصور و البنايات و فتحوا المدارس و شقوا الترع و أقاموا السدود و الجسور على النيل وثبتوا كل دعائم العمران في السودان وضحوا في سبيل ذلك بحياتهم و أموالهم " , إلى أن قلت :" فأضم صوتي إلى الصوفاني بك و أطلب من حضراتكم أن تحتجوا على هذا العمل كما احتجت الأمة المصرية في إبريل سنة 1922 عندما أقام الانجليز حركة مصطنعة شبيهة بهذه الحركة كان من جرائها محاكمة الضابط السوداني على عبد اللطيف لأنه رأى أن الانجليز ساعةن للقيام بهذه الحركة تظاهر مع جماعته من إخوانه و أعلنوا عن عواطفهم و أظهروا تمسكهم بمصر و بالولاء لعرش مصر , و أظهروا علنا أن كل هذه الحركات التي يقوم بها الانجليز حركات مصطنعة . و مما يشجعنا على طلب الاحتجاج و على رجاء الحكومة بأن تقوم بواجب الاحتجاج و أن تضع حدا لهذه المسائل , أن معالي مرقس حنا باشا ( وزير الأشغال وقتئذ ) وقت أن كان نقيبا للمحامين تطوع للدفاع عن علي أفندي عبد اللطيف و عزم على السفر للخرطوم و لم يمنعه إلا أنه فوجئ بتلغراف ينبئه بصدور الحكم على الضابط السوداني , و أظن أن هذا الاحتجاج نشترك فيه جميعا إذ لا يوجد أي خلاف بيننا و نحن نصرح علنا بأننا نؤيد الوزارة كل التأييد في الدفاع عن حقوق مصر و السودان و نؤيدها في ذلك كله بكل إخلاص ".

و قد عقب سعد على أقوال خطباء هذه الجلسة بكلمة قال فيها : " تحركت مسألة السودان اليوم و لم تكن الحكومة مستعدة لأن تقول رأيها فيها , و لكني مع ذلك يمكنني أن أصرح لحضراتكم بأن الحكومة تشارككم كل المشاركة في شعوركم بالنسبة للسودان با تنظر بعين المقت لكل عمل من شأنه أن يفصل السودان عن مصر .

" و الإجراءات التي تتم الآن في السودان كما قال حضرة العضو المحترم عبد الرحمن الرافعي بك على نوعين :

الأول : وثائق تكتب و اجتماعات تعقد لإظهار الولاء للحكومة الإنجليزية و الرغبة عن الحكومة المصرية.

الثاني : منع الذين يريدون أن يقدموا ولاءهم للحكومة بالحضور إلى مصر , فأما القسم الأول و هو عقد الاجتماعات أو اختلاس الثقة لأجل إعلام الامنتان من الحكومة الانجليزية فأنا نصرح هنا و في كل مكان بأنه باطل و لا يعتبر حجة علينا .

" إذا قدمت هذه الأوراق أمام أي محكمة أو أي هيئة و حصل التمسك بها فلسان مصر يقول إنها أوراق باطلة لأنها لم تؤخذ بالحرية المطلقة و أنه يجب قبل التمسك بها أن يكون السودان خاليا من كل حكومة أجنية . " أنا في تصريحي هذا منضم إليكم فيما أعلنتم من أن هذه الوثائق و هذه الأوراق و هذه الاجتماعات لا قيمة لها مطلقا , و هذا كاف ( أصوات : بدون شك ) .

" و أما فيما يتعلق بالقسم الثاني إلا و هو منع السودانيين المخلصين , و كلهم فيما أظن مخلصون لنا , راضون عن حكمنا , راغبون في بقائنا بالسودان كاخوان لهم , معتقدون أن بلادهم جزء لا يتجزأ من مصر , أقول إن هذه الإجراءات مستنكرة و نعلن لجهات الاختصاص بصفتنا حكومة و بصفتنا مجلس نواب استنكارنا لما يكون صحيحا منها و احتجاجا عليها , و إني لمغتبط بأن لكم في هذه الوزارة ثقة تامة و أن تتخذ ما في وسعها لحفظ حقوق مصر في السودان ؟.

" و انتهت المناقشة بتقديم اقتراحين , أحدهما مني , و هذا نصه :

" على أثر التلغراف الذي ورد إلى مجلس النواب من الوفد السوداني الذي عزم على الحضور إلى مصر للإعراب عن ولاء السودانيين لمصر و تمسكهم بالارتباط بها , و على أثر الأنباء الواردة من السودان عن المناورات المصطنعة التي يقصد منها الاعتداء على حقوق مصر و السودان , يعلن المجلس عطفه على السودانيين جميعا لتمسكهم بارتباطهم الوثيق بمصر و يعلن استنكاره للمناورات المصطنعة التي يقوم بها دعاة الاستعمار في السودان , و يعلن تمسك الأمة المصرية بمبدئها الخالد و هو أن السودان جزء لا يتجزأ من مصر ".

و الثاني من حسين بك هلال , و هذا نصه :

" بعد سماع التصريحات الحكيمة التي أبداها حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء بخصوص الإجراءات غير اشلرعية القائمة الآن في السودان للسعي في فصل السودان عن مصر يكرر المجلس ثقته التامة بالوزارة و يطلب الانتقال بجدول الأعمال ".

فوافق المجلس بالإجماع على الاقتراحين معا .

و أصدر مجلس الشيوخ احتجاجا بهذا المعنى بجلسة 25 يونيه سنة 1924 .

تصريح الحكومة البريطانية في السودان في مجلس اللوردات

و على أثر تصريحات سعد باشا في مجلس النواب بجلسة 23 يونيه قامت مناقشة بمجلس اللوردات عن السودان يوم 25 يونيه , و صرح اللورد بارمور نائب الحكومة في هذا المجلس قائلا : " إن الحكومة البريطانية لا تترك السودان بحال , و هي تقدر التعهدات الواجب تحملها و التي لايمكن تركها من غير أن تصاب سمعة انجلترا بخسارة عظمى , و أستطيع أن أقول من غير تردد إن نظام السودان لن يسمح بتغييره و لا أن ينفذ التغيير من غير موافقة البرلمان ".

فظهر من هذا التصريح أن وزارة العمال لا تختلف عن غيرها في سياستها الاستعمارية في السودان . و قد رد سعد على هذا التصريح في مجلس النواب ( بجلسة 28 يونيه سنة 1924 ) ضمن خطبة قال فيها :

" إني بالنيابة عن الشعب المصري جمعيه و في حضرتكم الموقرة أصرح بأن الأمة المصرية لا تتنازل عن السودان ما حييت و ما عاشت ( استحسان و تصفيق طويل ) , فهي تسعى للتسمك بحقها ضد كل غاضب , ضد كل معتد , تتمسك بهذا الحق في كل فرصة و في كل زمن . تسعى بكل طريق مشروع سلكه كل مهضوم الحق لأجل أن تحفظ هذا الحق و تصل إلى التمتع به , و أن كنا في حياتنا لا نصل إلى أن نتمتع بحقنا فإننا نوصي أبناءنا و ذريتنا أن يتمسكو به , و لا يفرط فيد قيد شعرة , هكذا يوصون هم أبناءهم , و أبناء أبنائهم , و لا بد أن يأتي يوم يفوز فيه حقنا على باطل , إن حقوق الأمم لا تضيع و لا تتأثر بمجرد أن يقول الغاصب إني أريد أن أتمتع بها دون أصحابها , كلا , ليست هذه طبيعة الوجود , بل كل حق يبقى حيا و لا يموت ما دام وراءه مطالب , و نحن ما دمنا مطالبين بهذا الحق , و ما دمنا نوصي أبناءنا بالتمسك به , و ما دام أبناؤنا يقتفون خطواتنا فلابد أن نتمتع به نحن أو هم إن شاء الله تعالى ( تصفيق ) .

إلى أن قال :" أنا فيما يتعلق بالمفاوضات فقد جاء في هذه التصريحات :" إنها ستكون على أساس تصريح 28 فبراير سنة 1922 . و قد صرحت غير مرة بأنني أستنكر هذا التصريح . استنكرته خارج الحكومة , استنكرته في البيان الوزاري , استنكرته في كل مناسبة , و لا أزال أستنكره إلى الآن , و أقول إنهم و إن قالوا إننا نتفاوض على قاعدة تصريح 28 فبراير سنة 1922 , فوزارتنا لا تقبل بحال من الأحوال أن نتفاوض على أساس هذا التصريح , و لقد سبق أن قلت لكم إني إذا لم أجد طريقة للمفاوضات على غير هذا الأساس فإني لا أدخل في المفاوضات أصلا , و أنا عند قولي , و قلت لكم أيضا إني إذا لم أصل إلى هذا فإني أتخلى عن الحكم و أنا مستعد لهذا التخلي ( أصوات – أبدا – حاشا ) هذا ما عزمت عليه و الرأي لكم ( تصفيق متواصل ) .

و قد عقبت على خطبة سعد بخطبة قلت فيها :

" أرى واجبا علي أن أبدأ كلمتي بتوجيه جزيل الشكر و الثناء إلى دولة الرئيس الجليلي على تصريحاته التي فاه بها اليوم لأنه عبر بهذه التصريحات عن شعور الأمة , عبر تعبيرا صحيحا عن تمسكها كل التمشك بحقوقها كاملة .

سادتي : نحن في صراع مع السياسة الانجليزية , و لسنا منخدعين في تلك السياسة و لا معتقدين البته أن هذا الصراع ينتهي في ساعة أو في يوم , و هذا الصراع سيطوا و قد يطول طويلا , و لكننا ما دمنا متمسكين بالحق فإن هذا الصراع لابد أن ينتهي بفوز الحق و خذلان الباطل (تصفيق) , و ما التصريحات السياسية التي تلقي في مجالس النواب إلا سهام يتراشق بها المتخاصمون كما يترامى المتقاتلون بالقنابل في ساحة القتال , فهذه التصريحات التي فاه بها الساسة الانجليزية أخيرا في مجلس اللوردات إنما هي سهام يقصد منها أن تثبط من عزائمنا , و لا غرض لرجال السياسة الانجليزية سوى ذلك , و لقد لجأوا إلى هذه الطريقة في كل مناسبة قويت فيها الحركة الوطنية , فإنكم تذكرون أنه عندما قامت حركتنا في سنة 1919 سمعنا في مجلس العموم و مجلس اللوردات تصريحات خطيرة أشد من التصريحات الأخيرة , و مع ذلك لم تكن تلك التصريحات القديمة لتقلل من عزمنا بل تخطيناها و سرنا إلى الأمام بعزيمة صادقة و لم نكترث لها و لم نعبأ بها " , إلى أن قلت :" و الآن أقول لكم إنه إذا كان الانجليز يعتقدون أننا ضعفاء أمامهم فإن لنا قوة معنوية لا تنكر , و أننا إذا كنا ضعفاء ماديا فنحن أقوياء معنويا , و لقد برهن التاريخ على أن القوة المعنوية للشعوب تستطيع أن تهدم كل قوة مادية تعترضها , و لنذكر جميعا أن المصري هو مادة العمران في السودان فلا يمكن بقاء العمران هناك إذا انقبضت الأيدي المصرية عن العمل , فقد قال لي خبير في شئون السودان عاد منه أخيرا : إن الانجليز لا يستطيعون أن يقيموا مشروعات الري في السودان إذا لم يستخدموا العمال المصريين و الأيدي المصرية , و قد جربوا مرار أن يستخدموا عمالا صوماليين أو هنودا أو يمانيين أو جنودا فلم يستطيعوا أن يقموا هذه المشروعات و لا أن يستمروا في العمل , و ألتجأوا أخيرا إلى عمال مصر و جنود مصر , ففي يدنا قوة معنوية . في يدنا أن نعمل عملا سلبيا و هو أنلا نساعدهم على أن يعملوا ضد مصلحتنا و ضد مصلحة السودانيين في تلك البلاد , و في هذه الحالة لا أظن الانجليز يتجاهلون قوة مصر المعنوية . أنا لا أقول إننا نلجأ إلى طرق العنف و الثورة , و لكن في يدنا قوة سلبية أمضى سلاحا من طرق العنف , و قد تكون هذه القوة هي السر في تلك الحقيقة التاريخية التي أجمع عليها المؤرخون و هي " أن وادي النيل مقبرة الفاتحين من قديم الزمان " (تصفيق) , و إن هذه القوة هي مصداق الحديث الشريف " مصر كنانة الله في أرضه فمن أرادها بسوء قصمه الله " ( تصفيق ) .

تلاحق الحوادث

على أثر إخفاق محادثات سعد – مكدونالد ( سبتمبرأكتوبر سنة 1924 ) ثم استقالة سعد في 15 نوفمبر سنة 1924 , فاستراد استقالته ثم مقتل السردار السير لي ستاك باشا في 19 نوفمبر , فالإنذارات البريطانية , فاستقالة سعد نهائيا , اجتمع مجلسا النواب و الشيوخ في مساء 24 نوفمبر سنة 1924 في جو مضطرب مكفهر , و أعلن سعد في كلا المجلسين استقالة الوزارة و استعداده لتأييد كل وزارة تشتغل لمصلحة البلاد , و قرر مجلس النواب في تلك الجلسة الاحتجاج على تصرفات الحكومة البريطانية , و عهد بوضع صيغة الاحتجاج إلى لجنة ألفها المجلس من أربعة أعضاء و هم : الوكيلام حمد باشا الباسل و أحمد محمد خشبة بك ( باشا ) و الأستاذ مكرم عبيد ( باشا ) و أنا , فوضعنا صيغة الاحتجاج , و أقره المجلس بالإجماع , و هذا نصه :

" إزاء الاعتدادات الأخيرة التي وقعت من الحكومة البريطانية ضد حقوق الأمة المصرية و سيادتها و دستورها يعلن مجلس النواب "

"(أولا) تمسكه بالاستقلال التام لمصر و السودان اللذين يكونان وطنا واحدا لا يقبل التجزئة ( ثانيا) أنه بالرغم من استنكار الأمة و مليكها و حكومتها و برلمانها للجرم الفظيع الذي ارتكب ضد المأسوف عليه السير لي ستاك باشا سردار الجيش المصري و حاكم السودان العام , و بالرغم مما قدمته الحكومة من الترضية و ما اتخذته من الوسائل الفعالة لتعقب الجناة و تقديمهم للعدالة , فإنه لمما يؤسف له كل الأسف أن الحكومة البريطانية رأت على قوتها المادية للانتقام من أمة بريئة تعتمد على قوة حقها و عدالة قضيتها , فلم تقتصر على مطالبها البالغة حد الإرهاق فيما يتعلق بالجريمة نفسها بل تعدت هذه الدائرة و ذهبت إلى المطالبة بسحب الجيوش المصرية من السودان و إلزام الوحدات السودانية من الجيش المصري بحلف يمين الولاء لحاكم السودان , و التصريح بزيادة مساحة الأطيان التي تستغلها الشركات الاستعمارية البريطانية في السودان من 300 ألف فدان إلى ما لا نهاية له , و عدول الحكومة المصرية عن كل معارضة لرغبات الحكومة البريطانية فيما تدعيه من حماية المصالح الأجنبية في مصر , إلى آخر ما جاء في التبليغات الانجليزية , ثم نفذت فعلا ما توعدت به وزادت عليه احتلال جمارك الأسكندرية معلنه أنه أول التدابير التي تنوي اتخاذها . و لما كانت هذه التصرفات منافية لحقوق البلاد لما فيها من الاعتداء على استقلالها و التدخل في شئونها و العبث بدستورها و تهديد حياة البلاد الزراعية و الاقتصادية فضلا عن أن هذه الاعتداءات ليس لها أي علاقة بالجريمة و لا نظير لها في التاريخ .

" فذلك يعلن مجلس النواب المصري على ملأ العالم شديد احتجاجه على هذه التصرفات الجائزة الباطلة و يشهد الأمم المتمدينة على تلك المطامع الاستعمارية التي لا تتفق مع روح هذا العصر و حقوق الأمم المقدسة , و يبلغ احتجاجاته برلمانات العالم , و يرفع الأمر إلى مجلس عصبة الأمم طالبا إليه التدخل في الأمر لرفع الحيف عن أمة بريئة تتمسك بحقوقها المقدسة في الحياة و الحرية و لا تبغي عن استقلالها بديلا " . و أقر المجلس هذا النص بالإجماع : و قرر مجلس اشليوخ احتجاجا بهذا المعنى .

انتخابات سنة 1925

تألفت وزارة زيور باشا يوم 24 نوفمبر سنة 1924 , و في 24 ديسمبر استصدرت مرسوما بحل مجلس النواب و إجراء انتخابات جديدة , و هكذا عدة إلى مأساة الانتخابات و لم يمض عام على متاعبي في المعركة الأولى , و كنت أنوقع محاربة الوفد لي في الانتخابات الجديدة بسبب مواقفي في المعارضة , فبذلت في هذه المعركة مجهودا مضنيا لا يقل كثيرا عن مجهودي في الانتخابات الأولى ,و إن كان أقصر منها مدى , و كا مما لجأت إليه هذه المرة أن طبعت كتابا عن ( أعمال في مجلس النواب ) أوردت فيه مجموعة أعمالي نقلا عن المضابط الرسمية و أقوال الصحف , و وزعته مجانا في جميع بلاد الدائرة ليكون شفيعا لي إعادة انتخابي , و ألمعت في مقدمته إلى ما سألقاه من المحاربة في الانتخاب , و يطيب لي أن أنشر هنا هذه المقدمة لأنها تمثل صورة من أفكاري و تأثراتي و متاعبي في الحياة السياسية , قلت : " هذه مجموعة أعمال في مجلس النواب , أنشرها لمناسبة تقدمي للانتخاب للمرة الثانية في الدائرة التي شرفتني بالنيابة عنها في المرة الأولى – دائرة مركز المنصورة .

" أن من حق كل دائرة انتخابية أن تطلب من نائبها أن يقدم لها حسابا عن أعماله فهأنذا أؤدي واجب الأمانة و أقدم حسابا عن أعمال في دار النيابة .

"أتقدم للانتخاب بمشيئة الله تعالى هذه المرة لكي أواصل أعمالي في مجلس النواب و أتم المشروعات التي قدمتها و دافعت عنها و حالت الظروف بكل أسف دون إنفاذها في دور الانتخاب الأول , و هو أن أضع مجهوداتي و قواي و معلوماتي تحت تصرف الغاية التي تقصر دونها كل غاية و هي الاستقلال التام و السودان , مجددا العهد أن أخدم الوطن بكل إخلاص و نزاهة و استقامة بعيدا عن كل مصلحة شخصية أو غاية حزبية .

" من أراد أن يحكم لي أو علي فليقرأ هذه المجموعة , و ليمعن النظر في سطر من سطورها المنقولة عن المحاضر الرسمية لجلسات مجلس النواب , و ليقرأ ما كتبته الصحف الوفدية تعليقا على أقوالي , ثم ليحكم بعد ذلك ضميره و ليكن حكم الضمير نافذا لا مرد له , أني ما تقدمت للانتخابات لمصلحة شخصية , و لو كنت أؤثر مصلحتي الشخصية لابتعدت عن الحياة النيابية , لأني ما جررت منها مغنما , فضلا عن أنها عادت علي بأضرار يعرفها الكثيرون و لكني احتملت هذه الأضرار و أني مستعد لأن احتمل مثلها و أضعافها بالصبر و الرضا و الارتياح لأن في أعناقنا جميعا أمانة الوطن و ليس من صدق الوطنية أن يتردد الإنسان في احتمال هذه الأمانة . أتقدم للانتخابات و أناعالم بأن قوما قد اعتزموا أن يحاربوني و يلقوا في طريقي ما شاءوا من العقبات , فإلى هؤلاء السادة الأماجد أقول لهم : إني لست حريصا على الانتخابات بمقدار حرسي على الدفاع عن المصلحة الوطنية و عن حقيقة و التاريخ .

" فها أنذا أنشر على الملأ صحيفة أعمالي في مجلس النواب , فهي حجتي أنا ناخبي الذين شرفوني بثقتهم , و هي حجتي أمام الناس , أما خصومي و أصدقائي على السواء , و هي حجتي أمام التاريخ . أنا لا أذكر في هذه المقدمة أعمالي في المجلس , و حسبي أن يقرأها المنصفون مدونة في هذه المجموعة , و لا أزكي نفسي , و لكن أقول فقط كلمة صغيرة للذين عزموا على أن يحاربوني في الانتخابات : أيها السادة , ألم تشتركوا في آخر جلسة من جلسات البرلمان في القرار الإجماعي الذي أصدره المجلس باختياري مع الأستاذ مكرم عبيد بك لوضع احتجاج المجلس على اعتداءات السياسة الانجليزية بعد حادثة السردار و كان القرار مبنيا على " اختيار اثنين موثوق بهما ثقة تامة بالإجماع , فإذا كنت أنا الضعيف موضع هذه الثقة في أشد الأوقات حرجا فكيف أكون الآن , و لم يمض شهر على هذه الشهادة الإجماعية موضع الطعن و التشهير ؟ ألم تكن هذه الشهادة نتيجة أعمالي في المجلس ؟ أني أترك لضمائركم تقدير هذا الموقف و أني واثق بأنكم ستجيبون غدا أو بعد غد صوت الحق و الضمير .

" إني واثق من حكم الضمائر إذا حكمت , و إني لمكمئن لأني أديت واجبي و سيحكم التاريخ , و سيحكم الله و هو خير الحاكمين .

" إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب "

المنصورة في 5 يناير سنة 1925

عبد الرحمن الرافعي

و قد رشح الوفد ضدي هذه المرة الأستاذ السعيد محمد سبع بك – وكيل مدير مصلحة الأملاك الآن 1951 ) و فزت عليه بأصوات قليلة , و لم يكد المجلس الجديد يجتمع يوم 23 مارس سنة 1925 حتى حل في اليوم نفسه , فضاعت مجهوداتي في الانتخاب سدى .

و قد عطلت الحياة النيابية بعد هذا الحل نحو ثمانية أشهر , إلى أن أعادت على أثر اجتماع البرلمان من تلقاء نفسه في السبت الثالث من شهر نوفمبر سنة 1925 و يعقب هذا الاجتماع ائتلاف الأحزاب ثم انعقاد المؤتمر الوطني ثم انتخابات سنة 1926 .

صدمة سنة 1926 شهداء الانتخابات

أصبت في حياتي بصدمات كثيرة لا أريد أن أشغل القارئ بها . على أن أشد صدمة أصابتني وقعت لي سنة 1926 .

كانت هذه السنة في مجموعها فوزا للأمة , و قد تحدثت عن تفاصيل هذا الفوز في الفصل الحادي عشر من كتابي " في أعقاب الثورة الجزء الأول " تحت عنوان ( اجتماع البرلمان من تلقاء نفسه و عودة الحياة الدستورية ) .

أما بالنسبة لي شخصيا , فكانت هذه السنة صدمة بل محنة كادت تودي بي لولا أن أعانني الله عليها بالصبر و الثبات .

كانت عودة الحياة الدستورية نتيجة لدعوة المرحوم أمين بك الرافعي إلى اجتماع البرلمان المنحل من تلقاء نفسه في السبت الثالث من شهر نوفمبر سنة 1925 , و قد ساهمت في نجاح هذه الدعوة بصفتي عضوا في مجلس النواب المنحل و شقيقا لصاحب الدعوة , و اجتمع البرلمان فعلا في فندق الكونتننتال يوم السبت 21 نوفمبر سنة 1925 برياسة سعد , و كان هذا الاجتماع أول خطوة نحو استئناف الحياة الدستورية و عودة الوحدة إلى الصفوف وائتلاف الأحزاب القائمة وقتئذ و هي الوفد و الحزب الوطني و حزب الأحرار الدستوريين , و تم الاتفاق بين الأحزاب الثلاثة على الدخول في المعركة الانتخابية التي أسفر عنها انعقاد المؤتمر الوطني متفاهمة غير متحاربة , متعاونة غير متنازعة , و كان ظني أن لا أجد العناء الذي وجدته في انتخابات سنة 1924 , أو انتخابات سنة 1925 , فإنها في الحق ند أضنتني و أرهقتني , و كان من حقي أن أستريح في معركة سنة 1926 , فإن الائتلاف قد أراح معظم الأعضاء البارزين من الأحزاب , حتى فاز أكثرهم بالتزكية . و قبل أن يتم اجتماع البرلمان من تلقاء نفسه قابلت سعدا في منزله مع حافظ رمضان بك ( باشا) و الدكتور عبد الحميد سعيد , و عرضنا عليه أن يؤيد الفكرة و يصدر تعليماته إلى نواب الوفد و شيوخه بحضور الاجتماع , فتلقى الفكرة بالارتياح و التحبيذ , و أحسن مقابلتنا و تبسط في الحديث و التفكه معنا , و انصرفنا مغتبطين مبتهجين , و لكن بعد اجتماع البرلمان و تصافي الأحزاب و تبادل الاجتماعات بينها , جاء دور توزيع المقاعد , ففوجئت بأن الوفد يعارض في ترك دائرة ( مركز المنصورة ) لي , و أصر على أن تكون من دوائر الوفد , أي على انتزاعها مني .

الوفد يصر على إقصائي

فحدثت أزمة بين الوفد و الحزب الوطني بسبب هذا الموقف نحوي , ورأي الحزب أن في قبول هذا الوضع إذلالا له و خذلانا لعضو بارز من أعضائه انتخب مرتين عن هذه الدائرة و أدى واجبه و رفع صوت مبادئ الحزب في البرلمان , و فاتحني إخواني في أن ننقض الائتلاف ما دامت النيات قد بدت غير سليمة إلى هذا الحد , فلم أوافقهم على اقتراحهم , و أبيت أن تكون مسألتي سببا لنقض الائتلاف و لما يجف المداد الذي كتبت به وثيقته في اجتماع الكونتننتال , و رأيت من الأحرار الدستوريين مسايرة للوفد في إقصائي عن البرلمان , و نصحوا إقطاب الحزب الوطني بالتساهل فيد مسألتي .. و لك يكونوا في حاجة إلى هذه النصيحة , لأنني أنا نفسي قد نصحتهم بذلك من قبل . على أنه قد آلمني من الأحرار الدستوريين تهوينهم لشأني إلى هذا الحد , و قد كنت أحمل عنهم عبء المعارضة في مجلس النواب الأول , و كانوا يتخذون من مواقفي مادة لحملاتهم على الوفد , ثم بعد أن وقفنا بينهم و بين الوفد , خذلوني إرضاء للوفد !

و قد سويت الأزمة تسوية شكلية بأن جعلت دائرة مركز المنصورة من الدوائر التي خصصت للوفد مع "استثناء " ثلاث دوائر منها فقد اتفق على أنه " يجوز للحزب الوطني منافسة الوفد فيها ", و من هذه الدوائر الثلاث دائرة مركز المنصورة , و كلمة ( يجوز ) و عبارة ( استثناء ) توحيان إلى الذهن أن كلا من هذه الدوائر الثلاث هي أصلا من الدوائر التي خصصت للوفد و لكن ( يجوز ) للحزب الوطني منافسة الوفد فيها , و قد رأيت أن هذه الصيغة تضعف مركزي في الانتخاب , لأن أقل ما أواجه به أن هذه الدائرة قد خصصت للوفد باتفاق الأحزاب و قد أجيز للحزب الوطني منافسته فيهت , فهي بذلك من حق الوفد و من حق مرشح الوفد و لكن من باب المجاملة أجيز لمرشح الحزب الوطني مزاحمة مرشح الوفد فيها .

و فهمت ملابسات هذه الأزمة أن الوفد رغم الائتلاف لم ينس لي مواقفي في المعارضة في البرلمان الأول , فأصر على إقصائي عن دار النيابة , و تم له ما أراد , و قد درست موقفي في الدائرة مع لفيف من أنصاري فيها , و بحثنا فيما يكون لهذا القرار من أثر في احتمال نجاحي أو سقوطي في الانتخاب , فرجح معظمهم سقوطي , و بخاصة لأن انتخاب هذه السنة (1926 ) كانت أول انتخابات تجري على درجة واحدة أي على نظام الانتخاب المباشر , و من الصعب إقناع نحو عشرة آلاف ناخب بأني أكفأ و أفضل من مرشح الوفد ! إذ كان لترشيح الوفد في حد ذاته أثر كبير في نفوس الجماهير في ذلك الحين , هذا إلى أن قرار الأحزاب المؤتلفة جعل هذه الدائرة من حق مرشح الوفد بصفة أصلية , و قد ظلت زهاء شهر تقريبا حائرا مترددا بين خوض المعركة أو الانسحاب منها , إلى أن جاء موعد إقفال باب الترشيح للانتخاب , و كنت على ترددي إلى آخر لحظة .

و أخيرا رجحت عندي كفة الانسحتب , عاملا بالمثل المشهور ( بيدي لا بيد عمرو ) , و كان هذه القرار من أشق الأمور على نفسي , لأن معناه إقصائي عن دار النيابة , و عن الحياة البرلمانية , و كم كان ألمي شديدا حين تصورت أن هذا الإقصاء هو المكافأة التي جوزيت بها على حسن قيامي بواجبي في البرلمان , بل المكافأة على إخلاصي و خدماتي للبلاد طيلة السنوات التي قضيتها في الجهاد الخالص لله و الوطن ! و فهمت أن المعارضة مكروهة في بلادنا , و أن تظاهر السياسيين و الحكام بأنهم يعتبرونها ضرورية لاستقامة الحياة الدستورية هو كلام في كلام , و أنهم يبغون من البرلمان أن يكون أداة تحبيذ و تأييد لجميع تصرفاتهم سواء أكانت على حق أو على باطل , و من يعارضهم و لو كان على حق , فالويل له مما يصنعون !

تألمت من هذا الوضع , وزاد في ألمي أني لم أجد من يواسيني في هذه المحنة , و لا من يعطف علي , إلا قلة من الناس حفظت لهم جميل مواساتهم لي في تلك الأوقات العصيبة , و رأيت – و هذا ما لم أكن أتوقعه – شماتة من بعض الناس , و خاصة من الطبقة الممتازة , و على الأخص ممن لم أسئ إلى أحد منهم قط , و لست أدري على وجه التحقيق ما هو سبب هذه الشماتة , و ما سرها ؟ و لقد عددتها عيبا من عيوب المجتمع , و من أهم العوائق في سبيل تقدم الأمة و نهوضها , و من الحق أن أقول إني رأيت من الطبقات غير النتعلمة و غير الممتازة عكس هذا الشعور , رأيت منهم شعور التقدير لي و العطف علي , كنت أسمع هذا في أحاديثهم , و أقرأه في نظراتهم فعجبت كيف يغلب الوفاء و تتجلى الفضائل في الطبقة غير المتعلمة , دون الطبقة المثقفة المهذبة , و من يومئذ ازددت إيمانا بالطبقات الجاهلة من الشعب , إذ رأيت فيها من الخير ما يعوز الطبقات الممتازة و شبه الممتازة .

و رأيت بعض أصدقائي الوفديين لا يقرون ما فعله معي , و كانوا يظهرون لي شعورهم , إذ يذكرون أني وقفت إلى جانبهم في أوقات الشدة أناضل عنهم و أختصو الأقوياء من أجلهم , ثم إذا عادت لهم الدولة جازوني على حسن صنيعي معهم جزاء سنمار , و لكن هكذا الحياة السياسية في بلادنا , و ربما غير بلادنا أيضا , فيها الخير و فيها الشر , و الفضيلة و الرزيلة , و الحقد و الحسد , و الغدر و الجحود , و الدس و الالتواء , و الكذب و الخداع , و ما إلى ذلك ..

و قد أعرب لي صديق من الوفديين عن شعوره نحوي , و أخذ يذكرني بما كان ينصحني به منذ سطع نجمي ( كذا تعبيره ) في البرلمان , إذ أشار علي بانتهاز أي فرصة لأنسحب من المعارضة و أنضم إلى صفوف الوفد قائلا لي أن مستقبلا باهرا ينتظرني إذا أنا أقدمت على هذه الخطوة , و عندما كنت أجيبه بأنني في المعارضة لا أهاجم وزارة الوفد و لا أعمل على إحراجها بل أني أسلك في معارضتي سبيل الاعتدال و الهوادة كما ترى مني , كان يقول لي إن المعارضة في ذاتها مكروهة في البلاد التي لم تألف بعد الحرية و النظم الديمقراطية . و كانت تنتهي أحاديثنا دائما على غير اتفاق . و عندما ذكرني بهذه الأحاديث في سنة 1926 لم أزد في جوابي له عن الشكر , إذ رأيتني أوثر السكوت و الصمت في تلك المحنة . و ما فائدة الكلام ؟ و مع من كنت أتكلم ؟ و هكذا انسحبت من الحياة البرلمانية , أو بعبارة أوضح أقصيت عنها مرغما سنة 1926 . و ظللت مبعدا عنها ثلالث عشرة إلى أن عدت إليها عضو منتخبا لمجلس الشيوخ سنة 1939 . ثم أقصيت عنها مرة أخرى سنة 1951 .

أثرت تلك المحنة في صحتي , و لم يكن هذا ضعفا مني و لا يأسا و لكنه رد فعل التأثرات النفسية التي لا قبل للإنسان على دفعها , فالمرء يستطيع أن يصبر , و يستطيع أن يتجلد , و لكن هذا لا يمنعه من أن يتألم , وما أحق المجاهد بالألم إذا هو رأى من مواطنيه تنكرا له حيث ينتظر منهم التقدير , و حربا عليه حيث ينتظر التعضيد و التشجيع ! و ظللت أشهرا عدة أعالج هذه الحالة النفسية و ألتمس مخرجا من هذا الضيق , و خاصة عندما تذكرت مصير إخوان لي في الجهاد برح بهم الألم في مثل هذه الظروف , فأودى بحياتهم , فإني على يقين من أن سقوط عبد اللطيف بك المكباتي في انتخابات سنة 1924 , و عبد اللطيف بك الصوفاني في انتخابات سنة 1925 , و أحمد بك لطفي في انتخابات سنة 1926 , كان من الأسباب التي عجلت بوفاتهم في السنوات التي سقطوا فيها . حقا أن لكل أجل كتابا , و لكن الأسباب مرتبطة بمسبباتها , و النتائج مرهونة بمقدماتها .

و قد أوجد الله لي مخرجا من هذه المحنة , فألهمني أن أشغل نفسي بعمل استغرق معظم تفكيري و جهودي , و صرفني وقتا طويلا عن الحياة البرلمانية , و هو تاريخ الحركة القومية .

كيف أرخت الحركة القومية ؟

أحببت التاريخ منذ صباي , و كنت و لا أزال أراه مدرسة لتقويم أخلاق الشعب و النهوض بتربيته السياسية و القومية , و زاد تعلقي به أني رأيت فيه على ضوء التجارب وسيلة ناجحة لتثقيف العقول و رفع مستوى الوطنية و الوعي القومي في النفوس , فلقد تكشفت لي مع الزمن نقائص كثيرة في مجتمعنا , و في أخلاقنا , و ثقافتنا . لمحت على تعاقب الحوادث ضعفا في مستوانا الوطني , و نقصا في وعينا القومي , فكرت في الوسائل لعلاج هذه الضعف و تدارك هذا النقص , فوجدت أن التاريخ وسيلة تلجأ إليها أرقى الأمم لتربية الأخلاق و تثقيف العقول و غرس روح الوطنية في النفوس , و من هنا جاء تعلقي بالتاريخ , أردت أن أجعل منه مدرسة للنهوض بالمجتمع , وجدت أن عقول الشباب و الشيوخ لا تتلقى الدعوة الصالحة بحسن القبول و لا تتعرف الحقائق إلا إذا عرف المواطنوا أحوال بلادهم على حقيقتها و كيف تطورت في مختلف مراحلها , فلى ضوء التاريخ يكونون أكثر صلاحية لقبول الأفكار السليمة , و فهم الحقائق في الشئون العامة , و إذا كان القصص وسيلة من وسائل نشر المبادئ الصالحة و الأفكار السامية و العواطف النبيلة , فأجدر بالتاريخ و هو قصة واقعية أن يكون وسيلة للنهوض بالعقول و الأفكار , و نضج القرائح , و السمو بأخلاق الجيل , و تو جيه المواطنين إلى المثل العليا في الحياة القومية .

عنيت من التاريخ أكثر ما عنيت بتاريخنا القومي , و أقصد به تاريخ مصر كوطن , و تاريخها كأمة لها أهداف لها أهداف عليا تنشدها , فهو يتناول تاريخها السياسي , و تاريخها الحربي , و تاريخها الاقتصادي , و تاريخها الاجتماعي و الثقافي , و أيقنت أن من واجبنا أن نعلم الشعب بمختلف طبقاته تاريخ بلاده في هذه النواحي , و أن نبدأ بتعليم أنفسنا , أي بتعليم الطبقة المثقفة و الممتازة تاريخنا القومي , لأني أرى مع الأسف أن هذه الطبقة حتى التي بيدها مصاير البلاد لا يعرف كثير من أفرادها من هذا التاريخ إلا قشورا سطحية لا تصل إلى اللباب , و هذا النقص هو من أسباب تبلبل الأفكار و ارتجال الآراء , و تأخر الوعي القومي عندنا , فعلينا أن نعلم الشعب تاريخ بلاده , و بذلك يقدرها حق قدرها و يزداد تعلقا بها و يفهما حق الفهم في ماضيها و حاضرها و مستقبلها , و لعمري ليس الحاضر في الغالب إلا استمرارا للماضي , و نتيجة مرتبطة بمقدمتها , كذلك شأن المستقبل فهو وثيق الصلة بالحاضر و الماضي . حقا قد يكون الحاضر خروجا على الماضي , و إصلاحا له , و أحيانا يكون انقلابا عليه , و لكن لابد من فهم هذا الماضي لكي نتعرف نقائصه فنخرج عليها , و نفتتح عهدا جديدا من النهضة و الإصلاح , و هذا و ذاك لا يكون إلا إذا عرفنا تاريخ بلادنا و مبلغ صلته بحاضرها و مستقبلها , و لا غزو فالشعب كائن حي يتطور و ينمو و و يتسلسل في حياة أجياله , و الأجيال في حياة الأمم كمراحل العمر في حياة الإنسان , مع هذا الفارق بينهما , و هو أن الإنسان مصيره إلى زوال , أما الأمم الجديرة بهذا الاسم فباقية خالدة لا تزول , تتجدد على الدوام في حياة أجيالها المتعاقبة .

فعلينا نحن الذين أوتينا شيئا من العلم و المعرفة أن نعلم الشعب تاريخه , لننشئ فيه وعيا قوميا , و نغرس فيه روح الوطنية لأن الشعب كلما ازداد معرفة بتاريخ بلاده ازدادا حبا لها , و إذا أحبها أخلص لها , و إذا أخلص المواطنون لبلادهم بذلوا كل ما في مقدورهم لإسعادها و رفعة شأنها , و هذا هو معنى الوطنية , و من هنا قالوا إن التاريخ مدرسة للوطنية .

كل هذه الخواطر و المعاني كانت تتردد في نفسي , و تحفزني إلى أن أؤرخ لهذا الشعب في عصره الحديث , و لم يكن لدي بادئ الأمر برنامج واسع شامل لهذا التاريخ , بل أردت أن أتخير بعض مراحله فأؤرخها دون أن أتقيد بسلسلة متماسكة الحلقات تضم هذه المراحل .

فكرت منذ عدة سنين سبقت سنة 1926 في أن أضع تاريخنا للزعيم مصطفى كامل باعتباره أنه باعث الحركة الوطنية الحديثة , و لكني رأيت أن تاريخ مصطفى كامل يستتبع الكلام في مبدأ ظهور الحركة القومية , و التطورات التي تعاقبت عليها , فأخذت أدرس الأدوار التي تقدمت عصر مصطفى كامل لأقف عند حد يصح اعتباره مبدأ الحركة القومية . رجعت إلى الثورة العرابية , فإذا بها ترجع أسبابها و مقدماتها إلى الحركة الفكرية و السياسية التي ظهرت في عهد إسماعيل , و هذه الحركة الأخيرة لم تظهر فجأة و لم تكن الأولى في تاريخ مصر القومي الحديث , بل هي تطور جديد للروح القومية التي بدأت تظهر في البلاد منذ أواخر القرن الثامن عشر , فإلى هذا العهد يجب أن نرجع بمبدأ الحركة القومية في تاريخ مصر الحديث , و انتهيت إلى أن أول دور من أدوارها هو عصر المقاومة الأهلية التي اعترضت الحملة الفرنسية في مصر , و من ثم تطورت الفكرة عندي , من تاريخ مصطفى كامل , إلى تاريخ أدوار الحركة القومية في تاريخ مصر الحديث , فترامت شقة البحث , و تشعبت مسالك الدرس , و استشعرت ضخامة العمل إذا أردت أن أتمه على الوجه الذي ابتغيه , فأرجاته سنة بعد أخرى .

و في سنة 1914 بدأت أدون مذكرات عن حوادث مصر المعاصرة تكون مادة لي عندما أؤرخ الحركة القومية , و قد ضبطت هذه المذكرات قبيل اعتقالي في أغسطس سنة 1915 , ثم أعيدت إلي بعد الإفراج عني سنة 1916 , و شغلتني الحوادث بعد ذلك عن تنفيذ فكرتي , على أني لم أدع التهيؤ لها و استكمال عناصرها و مراجعا و أصولها .

و في سنة 1922 أخرجت كتاب ( الجمعيات الوطنية ) كمقدمة لدراسة الحركة القومية , و مرت الأيام و السنون و المشروع لا يزال في حيز التحضير و التفكير , أتهيب تنفيذه , خشية عدم إمكاني إخراج حلقاته كلها حلقة بعد أخرى , و أخذت أؤجل و أسوف , إلى أن أبعدت عن الحياة البرلمانية سنة 1926 , و انقطعت صلتي بها , و أصبحت "عاطلا "من العمل الذي أعددت نفسي له منذ صباي .

فماذا تراني أفعل . أأستسلم للهموم و خيبة الأمل ؟ أم أغير مسلكي في الحياة و أفهمها على حقيقتها كما يقولون ؟ أم أنصرف عن خدمة الشعب ما دام قد خذلني و صارحني بأنه لا يريدني معبرا عن آماله مدافعا عن حقوقه و أهدافه ؟

كل هذه التخيلات لم تقبلها نفسي , إذ ما ذنب الشعب ؟ أليس هو مسوقا بقادته و زعمائه و كبرائه و ذوي النفوذ فيه , متأثرا ببعض الحوادث التي تنتابه دون أن تكون له إرادة في وقعها ؟ و كثير منها قد تضل في غمراتها العقول و الأفهام ؟

كان لا بد لي من عمل يشغلني و يستأثر بذهني , فلا يدع لي مجالا للتفكير في سواه , و بذلك تتضاءل في نفسي صور الحوادث التي همتني و آلمتني , و لا يبقى في ذهني مجال للبحث في تغيير مسلكي في الحياة و نظراتي إليها , فاعتزمت أن أنقطع – إلى جانب عملي في المحاماة – لتنفيذ الفكرة التي كانت تعاودني من سنة إلى أخرى , و هي تاريخ الحركة القومية لمصر الحديثة , و قد اقتضى مني هذا العمل أن أتفرغ له تفرغا شاملا لأن تاريخ هذه الحركة – منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى اليوم – أمر يكتنفه كثير من الصعوبات , و خاصة لمن يريد أن يتفهم الحوادث و يتحرى الحقاقئق فيما يكتب و يدون .

و إذ رجعت بالدور الأول من أدوار الحركة القومية إلى المقاومة الأهلية التي اعترضت الحملة الفرنسية في مصر , فقد اقتضاني هذا الوضع أن أتعمق في دراسة حالة البلاد السياسية و الاجتماعية قبل هذه الحملة و في أثنائها , و أن أجعل الكتاب شاملا لتاريخ مصر القومي الحديث , منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى اليوم , مبحوثا و معروضا على ضوء الحركة القومية , لأن عقيدتي أن التاريخ الحقيقي للأمم هو تاريخ نهضتنا القومية , فهي أساس وجودها , و مبعث تطورها , و ازدت اعتقادا من الأيام و الأعوام بالتلازم التام بين تاريخ الأمة و تاريخ نهضتها , ومن هذا التلازم يتألف التاريخ القومي , و النهضة القومية هي معالم لهذا التاريخ , ينبوعه الفياض , وما التاريخ القومي إلا كالمرآة , تنطبع عليها صور النهضة و أطوارها , وحوادثها و أبطالها , و تقدمها و تراجعها , و أفراحها و أحزانها , و آمالها و آلامها .

و قد تشعبت أما المراجع التي تبلغ مئات الكتب و المؤلفات و التقارير و المذكرات , و ما إلى ذلك , في كل مرحلة , بل في كل موضع من مواضع البحث , و كان لابد لي أن أدرسها كلها , وهذا يقتضي فوق الجهد و العناء صبرا و جلدا , هلى أني أحمد الله على أن وفقني إلى كليهما .

ظهور الجزء الأول – 1929

ظهر الجزء الأول من هذا التاريخ في أول يناير سنة 1929 ,أي أنني سلحت نحو ثلاث سنوات في إخراجه , منذ شرعت في تنفيذ الفكرة , و عدة سنوات سابقة منذ خالجتني كامل ابتغي تحقيقه .

بدأت في طبع هذه الجزء يوم 10 يونيه سنة 1928 في مطبعة النهضة لصاحبها المرحوم محمود أفندي حمادة بشارع عبد العزيز , و كان رجلا أمينا مستقيما , و كنت أعرفه منذ كان رئيسا لمطبعة (جريدة الأخبار) في عهد أخي المرحوم أمين بك , و أنجز طبعه و تغليفه ( تجليده) في أواخر ديسمبر سنة 1928 .

يشتمل هذا الجزء على دراسة نظام الحكم في عهد المماليك , والحالة الاجتماعية و الاقتصادية في البلاد قبل مجيء الحملة الفرنسية , ثم أسباب هذه الحملة و مقدماتها و وقائعها و أحداثها الأولى , و وقائع المقاومة الأهلية التي اعترضتها في مختلف أنحاء البلاد , من الأسكندرية إلى أسوان , و نظم الحكم التي أسسها نابليون , و أثرها في تطور الحوادث , و تاريخ مصر القومي في هذا العهد .

الجزء الثاني

و في أواخر ديسمبر سنة 1929 أخرجت الجزء الثاني , مشتملا على تاريخ مصر القومي من إعادة الديوان في عهد نابليون إلى جلاء الفرنسيين عن البلاد , و من جلاء الفرنسيين إلى ارتقاء محمد علي الكبير أريكة مصر يوم 13 مايو سنة 1805 , و جعلت ولايته الحكم ثمرة من ثمرات الحركة القومية , و أوضحت على ضوء الوقائع أن العامل القومي الذي بدأ يظهر على مسرح الحوادث السياسية خلال الحملة الفرنسية ظل محتفظا بقوته بعد جلاء الفرنسيين , فلم يستطع الترك , و لا المماليك , و لا الانجليز , أن يهزموه , أو يقهروه , أو يبعدوه عن الميدان , و كان من نتائجه بعد انتهاء الحملة الفرنسية ثورة الشعب على حكم المماليك , ثم على الوالي التركي , ثم المناداة بمحمد علي واليا مختارا على مصر , فمصر هي التي خلقت محمد علي , و في ذلك قلت عن يوم 13 مايو سنة 1805 , هذا هو اليوم المشهود الذي تولى فيه محمد علي باشا حكم مصر بإرادة الشعب , وهو من الأيام التاريخية المعدودة في تاريخ الحركة القومية , ففيه تم انقلاب عظيم في نظام الحكم , فيه وضعت مصر لنفسها أساس حريتها و استقلالها , فيه أعلنت عن حقها في تقرير مصيرها , فيه تجلت سلطة الأمة ممثلة في أشخاص زعمائها و ذوي الرأي فيها , تجلت سلطة الأمة في خلع الوالي الذي لم ترتض حكمه , و إسناد ولاية الأمر إلى من انتخبه زعماء الشعب و وكلاؤه , و تلك أول مرة في تاريخ مصر الحديث يعزل الوالي و يختار بدله بقوة الشعب و إرادته , فقد كان الولاة يعزلون بقوة الجند و أرادة رؤسائهم من المماليك . لكن هذه المرة كان الانقلاب شعبيا , فوقع بإرادة الشعب و بقوة الشعب , ثم انتخاب محمد علي للولاية على الرغم من صدور الفرمان السلطاني بإسناد ولاية "جدة" إليه و كأن معروفا أن الحكومة التركية تؤيد خورشيد باشا و تناصره في موقفه , فخلع خورشيد و انتخاب محمد علي واليا على مصر فيه معنى الاستقلال عن الحكومة التركية , و مقاومة تدخلها في حكم مصر , و يمتاز هذا الانقلاب بأنه لم يكن مقصورا على مجرد انتخاب وكلاء الشعب لولي الأمر , بل كان مقرونا باشتراطهم أن يرجع إليهم في شئون الدولة , فوضعوا بذلك قاعدة الحكم الدستوري في البلاد , و ثمة ميزة أخرى أكسبت ذلك الانقلاب بهاء و جلالا , ذلك أنه تم في دار المحكمة , في ساحة القضاء ¸فاتخذ معنى الاحتكام إلى العدالة و التمسك بالحق , و هي فكرة جليلة امتازت بها الثورة المصرية , و لا نظن ثورة أخرى غربية أو شرقية تسامت إلى هذا المعنى البديع , فالثورة إذا كان قوامها المطالبة بالحق و الاحتكام إلى العدل , كان أساسها الحق , و من ورائه قوة الشعب تسنده و تؤيده , و ما أحوج الثورات و الحركات القومية إلى أن تحافظ في كل أدوارها على معاني الحق و العدل و النزاهة , فإنها بذلك تسلم من الانحدار في مهاوي الرذيلة و الفساد , و الفوضى و الطغيان " .

عصر محمد علي

أصدرت هذا الكتاب في ديسمبر سنة 1930 , وهو الحلقة الثالثة من هذه المجموعة , وقد اقتضى مني جهدا أكبر من الجهد الذي بذلته في إخراج الجزئين الأول و الثاني من تاريخ الحركة القومية , لأهمية العصر الذي تولى فيه محمد علي الكبير حكم مصر , و طول مدته , و عظم وقائعه و منشآته , و نتائجه و آثاره الضخمة في حياة مصر السياسية و القومية , و كانت المراجع فيه أوسع مدى و أكثر عددا من مراجع الحملة الفرنسية , يضاف إليها الدوريات و الوثائق التي لابد من الرجوع إليها , و قد جعلت عصر محمد علي دورا من أدوار الحركة القومية , إذ أن الحركة القومية كما عنيتها و جعلتها أساس البحث و التدوين هي " الجهود التي بذلتها الأمة في سبيل تحرير مصر من النير الأجنبي و فك قيود الاستبداد عنها و تقرير حقوق الشعب السياسية , هي التضحيات التي قدمتها و الآلام التي احتملتها في سبيل تكوين مصر الحرة المستقلة , و قلت تعقيبا على هذه الحقيقة في مقدمة الكتاب :" على هذا الاعتبار يجب أن نعد عصر محمد علي صحيفة مجيدة من صحائف الحركة القومية , ففيه نشأت الدولة المصرية الحديثة , و فيه تحقق الاستقلال القومي ,و شيدت الدعائم الكفيلة بالقيام به , فيه تأسس الجيش المصري , و الأسطول المصري , و الثقافة المصرية , و فيه وضعت أسس النهضة العملية و الاقتصادية في البلاد , فهو عصر استقلال و حضارة و عمران ".

و قد أبرزت فضل الشعب و فضل محمد علي معا في نحقيق استقلال مصر و نهوضها في مختلف النواحي , و عنيت بتمجيد روح البذل و التضحية في الجيل الذي عاش عصره و قلت في هذا الصدد , إن استقال مصر كان ثمرة الحروب التي خاضت غمارها في عصر محمد علي , تلك الحروب التي بذلت فيها الأمة أرواح عشرات الآلاف من زهرة أبنائها , من أولئك الأبطال المجهولين الذين جاهدوا و استشهدوا في ميادين القتال , و سقوا أديم الأرض بدمائهم في ربوع مصر و السودان , وفي صحاري جزيرة العرب و جبال كريت و المورة , و بطاح سورية و الأناضول , و في قاع أليم بمياه اليونان , أو على سواحل مصر و الشام , فلا جرم أن كان الجيل الذي عاش في عصر محمد علي هو أكثر الأجيال عملا و تضحية في سبيل تكوين مصر المستقلة فعلى أكتافه و بجهوده و ضحاياه قام صرح الاستقلال عالي الذرى , وهو الذي نهض بالأعمال الأولى لحضارة مصر و عمرانها , فشق الترع , و أقام القناطر و الجسور , و شاد المدارس و المعاهد , و بني العمائر و الدواوين و القصور , و أنشأ المواننئ و دور الصناعة ( الترسانات) , و ساتحدث المعامل , و شيد القلاع و الاستحكامات , و بذل في سبيل تلك المنشآت راحته و حياته , و يكفيه فضلا في ميدان التضحية أن أشأها و بناها عاملا على السخرة , دون أن ينال على جهةده أجرا و لا جزاء و لا شكورا , و أن عشرات الآلاف من بينه قد ماتوا تحت أعباء المجهودات المضنية التي احتملوها في سبيل اتمام تلك الأعمال المجيدة , فإذا قارنت بين جهود ذلك الجيل و تضحياته , و ما بذلته , الأجيال المتعاقبة من بعده إلى اليوم , حكمت من غير تردد أنه أكثر الأجيال بذلا و مساهمة في أعباء الجهاد القومي , و أكثرها تضحية بالنفس و الروح و المال في سبيل استقلال مصر و عمرانها , فهو جدير بأن تنحني الأجيال المصرية احتراما لذكراه , و تقديرا لفضله , لأنه عمل لها جميعا , وبذل راحته و دمه و حياته , و احتمل ما احتمل من جهد و حرمان ليعبد لها الطريق كي تجني ثمار جهوده و تضحياته و آلامه . و الحقيقة البارزة التي تخلص لك من إمعان النظر في تاريخه أن عبقرية محمد علي يرجع إليها الفضل الكبير في تنظيم ذلك الجهاد و اتثماره و توجيهه إلى خير مصر و عظمتها , كما أن مواهب الأمة المصرية , و حسن استعدادها للتقدم , و ماضيها في الحياة القومية , كل أولئك كان مادة الاستجابة لدعوة محمد علي , و من جميعها تكون الفلك النوراني لتلك النهضة التي سطعت شمسها في عصره , فلو أنه تولى الحكم في بلد آخر من بلدان السلطنة العثمانية وقتئذ , لدفنت فيه عبقريته , و لما استطاع أن يشيد ذلك الملك الضخم , و لا أن ينهض بتلك المشروعات و الأعمال الجليلة , و لكانت نهايته لا تختلف كثيرا عن خاتمة الباشوات الذين شقو عصا الطاعة على السلطنة العثمانية في أواخر القرن الثامن عشر و خلال التاسع عشر , و لكن تأييد الشعب له , و مناصرته إياه عند اشتداد الأزمات , مان لها الفضل الأكبر في ثبات ملكه و تغلبه على الدسائس و العقبات التي اعترضته في طريقه , و حسبك تبيانا لهده الحقيقة أن تلقي نظرة على مباحث هذا الحزء ( الكتاب ) و أن ترجع إلى الفصول التي أفردناها للكلام عن الجيش و الأسطول و أعمال العمران , تجد أن على سواعد المصريين قد قام ذلك الملك العريض , و تمت تلك المنشآت العظيمة , و أن محمد علي لم يستطع إنشاء الجيش النظامي من العناصر غير المصرية التي كانت تتألف منها القوة الحربية في أوائل حكمه , لما فطرت عليه التمرد و الفوضى , و لم يوفق إلى تأسيس ذلك الجيش الذي تفخر به مصر في تاريخها الحديث , إلا أن ألفه من صميم المصريين ".

عصر إسماعيل

في ديسمبر سنة 1932 أخررت كتاب " عصر إسماعيل " و يشتمل على تاريخ مصر القومي في عهد خلفاء محمد علي , وهو في جزءين , يحتوي الأول على عهد عباس و سعيد أوائل عهد إسماعيل , و يتضمن الثاني ختام الكلام عن عهد إسماعيل , و قد أسميت الكتاب ( عصر إسماعيل ) تغليبا للجزء الأهم في هذه الفترة من تاريخ مصر الحديث .

بدأت بهذا الكتاب أدخل فيا لعصر الذي يشعر فيه من كان في موقفي بشيء من الحرج في الكتابة عنه , فقد وضعته و أخرجته في الوقت الذي كان المغفور له الملك فؤاد نجل إسماعيل في أوج مجده و سلطانه , و كنت أعلم مبلغ اهتمامه بتمجيد تاريخ والده , و التعظيم من شأنه , و بتوجيهه و مساعداته السخية التي صدرت عدة مؤلفات ترمي إلى إبراز الجوانب الحسنة من شخصية الخديو إسماعيل , و أنا أعرف هذه الجوانب الحسنة , و قد ذكرتها بإسهاب في كتابي عنه , و لكني أيضا أعرف أن لإسماعيل جوانب شيئة , كان لها أثرها الضار في حياة مصر السياسية و الاقتصادية , و لا بد من تدوينها , و بعد أن فكرت في ذلك مليا وجدتني مدفوعا من تلقاء نفسي إلى أن واجبي كمؤرخ للحركة القومية يقتضي مني أن أدون الحقائق كلها عن الخديو , إسماعيل , و اذكر ماله و ما عليه , وهذا فيا لواقع هو منهجي في التراجم و الشخصيات و أنا بطبعي ميال إلى الاعتدال و لا أحب التشنيع في ذكر السيئات , و لكن لا يصح أن أغفلها أو أتجاوز عنها , لأني أنشد الحق و الإنصاف فيما أقول و أكتب , و أود أن لا أظلم أحدا , و لا أرضى لنفسي أيضا أن أحابي أحدا بغير الحق , و قد وضعت لنفسي هذه القاعدة في سلسلة هذه المجموعة , و اتبعتها قدر ما استطعت في كل حلقة من حلقاتها , و على هذا الأساس وضعت كتاب عصر إسماعيل .

الثورة العرابية والإحتلال الانجليزي

أخرجت كتاب (الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي) في سنة 1937 , و قد أخذ مني جهدا كبيرا في تأليفه , إذ لم يكن قد صدر من قبل كتاب مجتمع عن هذه الثورة , و الحديث عنها مبعثر في شتى المراجع و المجاميع و المذكرات , و الآراء عنها متباينة متضاربة , و أشرت إلى هذا التضارب في مقدمة الكتاب , و قد قضيت نحو أربع سنوات في تأليفه , و اقتضاني التحري عن حقائقه أن أرجع المذكرات المخطوطة لعرابي باشا و كانت محفوظة في دار الكتب , و إلى كل ما كتبه أو قاله زملاؤه و معاصروه ممن اشتركوا في الثورة أو ساهموا فيها أو أدركوا عصرها , كمحمود باشا فهمي في كتابه (البحر الزاخر ) و مذكرات الشيخ محمد عبده , و ما كتبه المستر بلنت , و رجعت أيضا إلى مضابط مجلس النواب في الوقائع الرسمية و في أصولها المحفوظة في مكتبة البرلمان , و إلى جميع الصحف و المجلات التي كانت تصدر في ذلك الحين , و محاضر التحقيق , ومحاضر محاكمة العرابيين و فيها كثير من أقوالهم التي تلقي ضوءا على حوادث ذلك العصر , هذا عدا المراجع الفرنسية و الانجليزية من مؤلفات و صحف و مجلات مصورة و غير مصورة , مما كان يصدر في عهد الثورة , و جملة القول أني عانيت من الجهد في إخراج هذا الكتاب أكثر مما عانيت في الجزءين الأول و الثاني من تاريخ الحركة القومية, و عصر محمد علي , إذ كان الموضوع في كل منها متشعبا , و الطريق فيها غير سهل و لا معبد .

مصر و السودان

في يونيه سنة 1942 – إبان الحرب العالمية الأخيرة – نشرت كتاب ( مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال ) , أرخت فيه العشر سنوات الأولى للاحتلال , و هي الفترة التي رسخت فيها أقدام الانجليز في البلاد , و خيم اليأس على نفوس الأمة بعد هزيمة الثورة العرابية , و قد أسميتها فترة الانحلال الوطني الذي أعقب الاححتلال , و كان لابد أو أؤرخ هذه الفترة قبل فترة البعث التي جاءت على يد مصطفى كامل .

و هذا الكتاب و إن يسبق من جهة التحديد الزمني كتاب ( مصطفى كامل ) و كتاب ( محمد فريد ) لكني أخرجته بعد هذين الكتابين , إذ رأيتني قد أبطأت في إخراجهما لانشغالي بالحلقات الأولى من تاريخ الحركة القومية , فأثرت أن أؤجل إصدار كتاب مصر و السودان حتى انتهى من إخراجهما .

مصطفى كامل

ظهر هذا الكتاب في يناير سنة 1939 , وهو إلى جانب تاريخ الزعيم يشتمل على تاريخ مصر القومي من سنة 1892 إلى سنة 1908 , و قد حرصت على أن يكون حلقة من سلسلة التاريخ القومي , فلم أكتبه كما يكتب التلميذ عن أستاذه فحسب , بل سلكت في وضعه المنهج العلمي في كتابة التاريخ , و هو المنهج الذي اتبعه في حلقات هذه المجموعة , و خصصت فيه عدة فصول عن حوادث مصر السياسية في تلك الحقبة من الزمن , بحيث يرجع إليه كل من يريد أن يقف على تاريخها بصرف النظر عن ميوله السياسية , و أحسبني قد أصبت في اتباع هذا المنهج في كتبي , فإني لم أجعل منها دعاية سياسية أو حزبية , بل قصدت أن تكون مرجعا لمن يريد أن يعرف تاريخ مصر المعاصر , على أن الروح الوطنية – لا الروح الحزبية – تتمشى في فصول الكتاب , و في غيره من الحلقات , و هذه الروح قد استلهمتها من مجرد سرد للوقائع و تدوين لحوادث السنين سنة فسنة , و لو هو اقتصر على ذلك لكان علما جامدا لا أثر له في توسيع الأفق الذهني و ارتقاء المدارك و استنارة البصائر , بل التاريخ هو إبراز و تصوير لنطور ذلك الكائن الحي ألا وهو الشعب الذي يريد الحياة يجب أن يعرف ماضيه معرفة تامة لكي يفهم حاضره على ضوء هذا الماشي , و يستنير بعطائه و دروسه , و يعرف أمجاده فيحافظ عليها و يرعاها , و يعرف أيضا أخطاءه و عيوبه و عثراته فيتجنبها و يتلافاها , و قد اغتبطت كثيرا لاظهار كتاب ( مصطفى كامل ) , إذ أتيح لي أن أطالع الجيل بتاريخ حقبة هامة من البعث القومي الذي ظهر كرد فعل للاحتلال الأجنبي .

محمد فريد

و في يوليو سنة 1941 ظهر كتابي عن ( محمد فريد ) و يشتمل على تاريخ الزعيم الشهيد , ثم تاريخ مصر القومي سنة 1908 إلى سنة 1919 , و قد أبرزت النواحي الوطنية و الاقتصادية و الاجتماعية في حياة الزعيم , و تضحياته في سبيل بلاده , مع تاريخ الحوادث و الأحداث التي تعاقبت على مصر في عهده , فجاء الكتاب نموذجا للمجاهدين المخلصين الذيت تنهض بهم البلاد حقا , و سجلا شاملا لتاريخ مصر في تلك السنين .

إن فريدا لم يعرف فضله حق المعرفة في تاريخ الجهاد القومي , فهو كما قلت في عنوان الكتاب ( رمز الإخلاص و التضحية ) , و لكن فضله قد غمر في زحمة التقلبات التي طرأت على الحركة القومية , و لعلي بإخراج هذا الكتاب قد أبرزت بعض هذا الفضل حتى لا تصيع الصورة الرائعة الخالدة لجهاد فريد و إخلاصه و تضحياته .

ثورة سنة 1919

و في إبريل سنة 1946 ظهر كتاب (ثورة 1919 ) في جزءين و هو من أهم حلقات هذه المجموعة , و قد قضيت نحو خمس سنوات في تأليفه و إخراجه , و بذلت في ذلك جهدا كبيرا , و كان ظني أنني , و قد عاصرت الثورة و ساهمت فيها , لا أجد من العناء ما بذلته عن العهود التي لم أدركها , و لكني على العكس وجدت نفس الصعوبات التي واجهتها في الحلقات الأخرى .

لقد درست الثورة أولا من ناحية أسبابها و مقدماتها , فرجعت بها إلى عدة سنين سبقت نشوبها , و أرجعتها إلى أسباب و عوامل عدة , سياسية و اقتصادية و اجتماعية , بعضها قريب و بعضها بعيد , فاقتضاني ذلك أن أدرس من جديد حالة البلاد من هذه النواحي , ودونت نتائج دراستي في الفصلين الأول و الثاني من الجزء الأول من تاريخ الثورة .

و بحثت أيضا في توقيت الثورة , متى بدأت و متى انتهت ؟ أما بدايتها فمعروفة , فقد شبت في مارس سنة 1919 , و استمرت حوادثها على أثر اعتقال الزعيم سعد زغلول وصحبه , و لكن متى وفي أي سنة كانت نهايتها , هنا بحثت طويلا لكي أضع حدا بين تاريخ الثورة و تاريخ في أعقاب الثورة , فانتهى بي البحث إلى أنها بدأت في مارس سنة 1919 , و استمرت حوادثها إلى شهر أغسطس , و تجددت في أكتوبر و نوفمبر من تلك السنة , أما وقائعها السايسية فلم تنقطع , و استمرت متتابعة إلى شهر إبريل سنة 1921 , أنها مكثت مشبوبة الأدوار نيفا و سنتين , هذا في وجهة نظري هو عمر الثورة , ثم أعقبها انقسام داخلي يختلف و إياها في الحوادث و الروح و الاتجاهات , و قد ضنت بتاريخ الثورة المجيدة أنأدمج فيه هذا الانقسام ,إذ رأيت من الإنصاف لها أن لا يشمله تاريخها , وجعلته فصلا من كتاب ( في أعقاب الثورة المصرية )

درست وقائع الثورة و حوادثها من مارس سنة 1919 إلى إبريل سنة 1921 , و بالرغم من أن صورها عالقة قي ذهني , فإن بعض هذه الحوادث استلزم البحث و التمحيص لمعرفة تاريخ وقوعه على وجه التحقيق , وكانت المراجع قليلة نادرة , لأن الصحف التي كانت تظهر في أيام الثورة كانت لا تنشر إلا ما تأذن الرقابة بنشره , و كانت الرقابة تحذف أهم حوادث الثورة , و المذكرات التي كنت أدونها في حينها كانت مقتضبة , إذ كان الظن أن تكون عرضة في كل وقت لضبطها و مصادرتها , فعلام الجهد في التدوين و الإسهاب ؟

و كان مما عنيت به و أقتضى مني عناء كبيرا تسجيل تضحيات الشعب و جهاده , و قد استنفدت الناحية الشعبية معظم صحائف الكتاب , و هي الناحية التي هداني البحث منذ اللحظة الأولى إلى أنها عماد الحركة القومية , و هذا ما حدا بي إلى البحث و التنقيب عن أشخاص شهداء الثورة , لكي أسجل أسماءهم , و هم في الغالب شهداء مجهولون , معظم من بيئات مجهولة , و من غير البيئات التي تنازعت فيما بعد مجد الثورة و ثمرتها , و من ثم قضيت زمنا طويلا في البحث عنهم , و لم يكن من الميسور أن أتعرف أسماءهم و تواريخ استشهادهم , لأن الصحف لم تكن تنشر أسماءهم , فرجعت إلى ذويهم و أقاربهم , و إلى دفاتر الوفيات في مختلف الجهات , و من حسن الحظ أن نسخا منها كانت محفوظة في دار المحفوظات بالقلعة , فرجعت إليها , و مه ذلك فقد وجدت صعوبة كبيرة في إحصائهم , إذ لا يذكر في دفتر الوفيات أن فلانا استشهد في الثورة , و لكن ملابسات الوفاة مضافا إليها معلوماتي الخاصة كانت تعينني على معرفة أسماء أولئك الشهداء .

و ثمت صعوبة أخرى , و هي معرفة أسماء المحكوم عليهم في محاكمات الثورة لقد رأيت ضرورة التحدث عن هذه المحاكمات , وكانت تجري أمام المحاكم العسكرية البريطانية , و لم تكن الصحف تنشر عنها إلا النزر اليسير , و كنت أعرف معظمها , و لكن لم أكن أعرف أسماء المتهمين و المحكوم عليهم فيها , فأخذت أتقصى أسماءهم من بعض زملائهم أو ذوي قرباهم , و رأست الكثيرين منهم , فأمدني البعض بما لديم من المعلومات , و أعتذر البعض الآخر لقدم عهدها و نسيان أسماء المتهمين فيها , و ما أكثر ما تنسى الحوادث و تنسى الأشخاص في بلادنا ! و أردت أن ألجأ إلى دفاتر مصلحة السجون , فإنها و لا شك تحوي أسماء المحكوم عليهم في كل عام , و نوع الأحكام , و المدة التي قضاها كل محكوم عليه في السجن , و أسماء من نفذت فيهم أحخكام الإعدام , و بعد أن رخصت لي المصلحة بالإطلاع على هذه الدفاتر – لأنها موجودة في محفوظاتها – عادت و تمحلت الأعذار في رفض إطلاعي عليها , و كان مما اعتذرت به أن هذه مسألة قانونية يجب استفتاء أقسام القضايا مما يتبع في شأنها . و لم تصدر أقسام القضايا وقتئذ فتوى بالترخيص لي بالإطلاع على هذه الدفاتر بعد أن علمت غرضي من الاطلاع بحجة أني لا أعد من أصحاب الشأن أو ذوي المصلحة في الاطلاع عليها , فكان وضع تاريخ قومي للبلاد مهمة غير مرغوب فيها .. و قد فهمت أن نكول المصلحة عن اطلاعي على هذه الدفاتر يرجع إلى أنها أرادت مجاملة الأنجليز في عدم تيسير مهمتي في التعرف على أسماء من حكمت عليهم المحاكم العسكرية البريطانية بإحكام معظمها لا يقره عدل و لا إنصاف , و قد عانيت جهدا كبيرا في تقصي هذه الأحكام , و عاونني في ذلك بعض كرام المحامين الذين ترافعوا فيها , و أطلعوني على معلوماتهم عنها و أسماء المحكوم عليهم في معظمها , و دونت المحاكمات و الأحكام و أسماء المحكوم عليهم في كافة القضايا العسكرية الهامة .

في أعقاب الثورة المصرية

ثم جاء دور " في أعقاب الثورة المصرية " و قد أخرجت الجزء الأول من هذا الكتاب في يوليو سنة 1947 , و الثاني في نوفمبر سنة 1947 , و الثالث في أكتوبر سنة 1951 , و الأول يشتمل على تاريخ مصر القومي من إبريل سنة 1921 أي من نهاية الثورة إلى أغسطس سنة 1927 تاريخ وفاة الزعيم سعد زغلول , و يشتمل الثاني على تسلسل الحوادث من وفاة سعد إلى وفاة الملك فؤاد في إبريل سنة 1936 . و الثالث من ارتقاء جلالة الملك فاروق عرش مصر إلى سنة 1951 .

لم أجد من العناء في استرقراء حوادث هذه الحقبة من الزمن ما عانيته في الحلقات السابقة , لأن صورها و وقائعها ماثلة أمام عيني , عالقة بذهني , و لم أكن في حاجة إلى مراجع فيها , فإن أهم مرجع هو ما وعيته ذاكرتي عنها , و كانت وثائقها حاضرة بين يدي , إذ كنت أجمعها في حينها , و لكن العناء الذي صادفته في هذا الكتاب كان عناء معنويا , فأن الكتابة فيه تمس أشخاصا تربطني ببعضهم صلات الود و الصداقة , أو أكن لهم في نفسي شعور التقدير و الرعاية , فكيف يمكنني أن أكتب عنهم غير ما يودون ؟ لقد عبرت عن هذا الجرح في مقدمة الجزء الأول ثم الثاني من هذا الكتاب , و تساءلت : هل علي أن أضحي بهذه الاعتبارات عندما أكتب عن أِياء تمس أولئك الأشخاص ؟ و قلت إن هذا و لا ريب هو واجب المؤرخ , و لكن في الدنيا شيء اسمه المجاملة و مراعاة الظروف . لقد تدبرت هذا الحرج كثيرا , و انتهى بي البحث و التفكير إلى أنه لا يجوز لمت يتصدى لكتابة التاريخ أن يدخل عنصر المجاملة فيما يكتب , و كل ما يملك إذا أراد أن يجامل أن يدع " الفترة المحرجة " و يرجئ تاريخها إلى حين , ثم تساءلت  : إلى أي أجل يرجئها ؟ و لماذا يرجئها و إذا كان في مقدوره أن يؤرخها كما أرخ المراحل التي سبقتها ففيم إذن يتنحى عن تاريخها ؟ لقد فكرت في هذا الأمر مليا , و لم أكتم عن نفسي دقة الموقف و ما يلابسه من حرج , و انتهيت إلى أنه ليس من حقي أن أقف بالكتابة في تاريخنا القومي عند حد قديم أو حديث , و ما دمت قد حملت نفسي مهمة وضع هذا التاريخ , فعلي أن أؤدي الرسالة كاملة قدر ما وسعني الجهد , وصفت المؤرخ بأنه يشبه في طبيعة رسالته أن يكون قاضيا , يفصل في القضايا التاريخية التي يعرض لها , و عليه أن يقتبس من الاقضي روح العدل الذي يستلهمه في قضائه , فكما أن واجب القاضي أن لا يجامل في الحق أحدا , و لو كان أقرب الناس إليه , و لا يتحامل على أحد , و لو كان أبغضهم إلى نفسه فعلى من يتصدى لكتابة التاريخ أن يتحرى الحق و الإنصاف , و يتجنب المجاملة و المحاباة في ما هو بسبيله , هذا ما تجه إليه قصدي , و انعقدت عليه نيتي " و إنما الأعمال بالنيات و أنما لكل امرئ ما نوى " .

كيف قوبلت كتبي ؟

إني أعترف بأن كتبي لم تقابل في السنين الأولى مقابلة حسنة , و لولا ما وهبني الله من الصبر و الاحتمال , لوقفت عند الجزء الأول أو الثاني , أو على الأكثر عند كتاب (عصر محمد علي ) الذي كان في طبعته الأولى الجزء الثالث من تاريخ الحركة القومية .

فبالرغم من الجهود المضنية التي بذلتها في تاريخ الحركة القومية , و ما شهد به أهل الذكر من أن هذه الكتب جمعت بين المنهج العلمي البحت و الروح الوطنية , وبالرغم من حرصي الشديد على استقراء الحقائق التاريخية الثابتة , مهما كلفني ذلك من عناء , حتى صارت هذه المجموعة و الحمد لله مرجعا معتمدا , بالرغم من كل ذلك , فإن هذه الكتب لم تلق الإقبال , و لا أقول الرواج , الذي كنت أنتظره .

إن إقبال المثقفين في بلادنا على القراءة ضعيف جدا, هذه حقيقة يلزمنا أن نعترف بها , وهو أقل من إقبال المثقفين في البلاد الأخرى , التي في مستواها الثقافي , بل أني أستطيع القول بأن سكان الجنوب من هذا الوادي – و أقصد ×واننا السودانيين – أكثر منا إقبالا على القراءة و المطالعة إذا تعلموا و أخذوا بنصيب و لو قليل من الثقافة , و قد حدثني غير واحد من الأصدقاء و غير الأصدقاء أن إقبال المثقفين و أنصاف المثقفين في السودان على قلراءة كتبي أكثر منه في مصر , و اهتمامهم باستيعاب محتوياته أكثر من استيعاب إخوانهم في مصر , و هم – جزاهم الله خيرا – يتحدثون عن كتبي بأكثر مما يتحدث عنها سكان الشمال , و ألمح من أحاديثهم أنهم قرأوها و استوعبوا ما تحتويه , بخلاف ما رأيت من المثقفين المصريين .

و أذكر على سبيل المثال أني سمعت من بعض مثقفينا أسئلة تثير الدهشة حقا , سألني بعضهم : هل أرخت شيا بعد عصر محمد علي ؟ مع أني كنت قد وصلت إلى ثورة سنة 1919 , و سألني البعض الآخر : سمعت أنك قد وضعت كتابا في تاريخ مصر , فهل هو جزء واحد أو جزآن ؟ مع أني كنت قد أخرجت اثني عشر جزءا منه , و فهمت من سؤاله أنه لم يقرأ جزءا واحدا منها , و كثيرا ما يسألونني من قبيل المجاملة : هل تباع كتبك ؟ و أين ؟ و ما ثمنها ؟ و هذا بالطبع سؤال من لم يقرأ شيئا منها , أو من يريد أن يقرأها مجانا ..

و سألني بعضهم : هل أرخت عصر إسماعيل ؟ و ما اسم الكتاب الذي أرخته فيه و أين أجده ؟ فأجبته على سؤاله , و بعد عام سألني نفس الؤال , فأجبته بنفس الجواب , ثم دفعني حب الاستطلاع أن أسأله بدوري عن سبب اهتمامه بهذا الكتاب بالذات حتى يسألني عنه مرة في كل عام .. فأجابني أنه يبحث عن تاريخ والده – أو جده لست أدري – في هذا الكتاب , فدهشت لهذا الجواب , إذ كنت أتوقع منه أنه يريد أن يطلع على تاريخ والده , وجملة القول أني وجدت عدم اكتراث بالقراءة و توسيع الأفق الذهني بين أغلبية المثقفين عندنا .

لست أدري ما هو السبب في ذلك كله , و لكن هذه مشاهدات و حقائق لابد لي من الإفضاء بها , لأنها حالة نفسية يحسن بنا أن نجد لها علاجا .

و قد كنت أسائل نفسي أمام الكسد الذي قوبلت به الحلقات الأولى من المجموعة , و استمراره سنوات طويلة , كنت أتساءل : ألا تساوي هذه الكتب بعض القصص و الروايات التي يقبل عليها الجمهور في بلادنا ؟ أو ليس التاريخ رواية واقعية مشوقة لمن يريد أن يعرف قصة بلاده و وطنه ؟ ألا يستوجب حب هذا الوطن أن يعرف المواطنون قصته و مراحل حياته البعيدة و القريبة ؟ إن من يحب إنسانا , سواء كان هذا الحب عاغليا أو غراميا , يود أن يتعرف أخباره و أحواله و ماضيه و حاضره , فهلا يستحق الوطن مثل هذا الشعور ؟

أدع هذا جانبا , و أتحدث عما قوبلت به كتبي في السنوات الأولى من أخراجها .

ظهر الجزء الأول من تاريخ الحركة القومية في يناير سنة 1929 , فاستقبلتها الصحف استقبالا طيبا , وكتب عنه بعضها مقالات قيمة , واكتفى بعضها بكتابات عابرة بمثابة ( تسديد للخانات ) , و كان طبعه قد كلفني مبلغا لا يستهان به , أنفقته من إيرادي من المحاماة , و كانت طريقتي في توزيع كتبي الأولى أن أختزن عندي ما أطبع من كل كتاب : و تطلب مني المكاتب الكميات التي تريدها لتبيعها للجمهور , و تدفع لي ثمن هذه الكميات مقدما بعد خصم 25% من ثمنها , و بعض المكاتب كان لا يدفع الثمن مقدما بل يؤجله حتى يتم توزيع الكتب , و قد لاحظت أن طلبات المكاتب قليلة , و الكميات التي تطلبها ضئيلة , و الوارد منها من الثمن هزيل , و كان يدفع على مرات متقطعة بحيث لا يحس الإنسان بقيمتها – على تفاهتها .

و قد قالوا إن وزارة المعارف تقتني لمكتباتها في المدارس نسخا من كتاب لتثقيف الطلبة , و أن علي أن أعرض1 عليها ما يظهر من كتبي , فعرضت عليها فعلا كل ما يصدر منها , فكانت بعد الفحص عن كل كتاب تطلب النزر اليسير منه , و كان العدد الذي طلبته من الأجزاء الأولى لم يتجاوز 240 نسخة من كل كتاب زادتها في الأجزاء اللاحقة إلى 375 نسخة , و كانت تدفع ثمنها مخصوما منه كذا في المائة مما يتم الاتفاق عليه بينها و بني المؤلف , و هذه كلها مظاهر لتثبيط العزائم .

و مثل هذا التثبيط لا يمكن أن يشجع على التأليف , بل فيه ما فيه من خذلان للنهضة العلمية , و لكني كلما أسلفت كنت أؤدي رسالة حملت نفسي إياها , فعلى الرغم من الكساد الذي صادفه الجزء الأول ثم الذي تلاه , تابعت إخراج الحلقات التالية , و كان لي من إيرادي من المحاماة ما عاونني على سد العجز في النفقات , و معنى ذلك أن لولا هذا المورد لانصرفت عن متابعة إخراج هذه المجموعة , مع ضرورتها الثقافية و التاريخية و الوطنية .

استقبلت الصحافة كل ما أخرجته من الكتب استقبالا حسنا , و أني معترف بفضلها علي في هذه الناحية , و قد نوهت إلى هذا الفضل في مقدمة الجزء الثاني , ومن الحق أن ألاحظ أن الصحف فيما مضى كانت أكثر عناية منها الآن بالمؤلفات عامة , فكثيرا ما كانت تنشر الفصول الضافية عن كتبي , و في أغلب الأحيان كانت تنقل مقدماتها , و المقدمة كما تعلم هي خير إعلان عن الكتاب , أما الآن فالصحف تقتصر على كلمة عابرة تنشرها من قبيل " جبر الخاطر " للمؤلف الذي قد يقضي السنين في وضع كتابه , و ما بهذه الطريقة يشجع التأليف و تشجع الحركة الفكرية و العلمية في البلاد .

و بالرغم من أني تابعت إصدار الأجزاء الأولى من هذه المجموعة , بحيث لم يكن ينقضي عام حتى يصدر جزء منها , و مع أن كل جزء كان يجر القطار الواقف خلفه من الأجزاء السابقة , و مع حسن استقبال الصحف لكل جزء منها , فإن الركود كان حليفها , لقد قيل لي إني لم أعلن عنها الإعلان الكافي , و أظن أني لو انفقت ما أنفقت في سبيل الإعلان فإن النتيجة ما كا تتغير كثيرا , و أعتقد أن أهم سبب لهذا الركود هو ضعف الميل إلى القراءة المجدية بين الطبقات المثقفة في بلادنا , و قلة اكتراثها بتعرف تاريع بلادها , فربما يعرف بعضهم عن تاريخ الأمم الأخرى أكثر مما يعرفون عن تاريخ أمتهم ..

انقضت السنوات و الأجزاء الأولى بطيئة الحركة , و إيرادها لا يغطي مصاريفها , على أني لم ألق بالي كثيرا إلى هذه الناحية , لأني عددتها "تضحية" يجب أن أتحملها , ألسنا نخرج صحفا قد لا تلقي الرواج نعجز عن إصدارها ؟ و أنا والحمد لله لم أعجز عن متابعة إصدار هذه المجموعة , فمضيت في سبيل أخراجها حلقة بعد أخرى .

و لما أخذت في تأليف كتابي عن (عصر اسماعيل ) نصحني ذلك الصديق المخلص أن أسلك فيه سبيلا جديدا قد يكون أدعى لرواج كتبي , و قال لي يوما : ها أنت قد أخرجت ثلاثة مجلدات في تاريخ مصر الحديث , فأرخت عهد الحملة الفرنسية , و ما بعد الحملة , و عصر محمد علي , و الآن يجيء دور خلفاء محمد علي , و ستصل طبعا إلى عصر إسماعيل , فبأي روح ستكتب عن الخديو إسماعيل بالذات ؟ فقلت له : إني سأكتب عنه بنفس الروح التي استلهمتها في كتبي السابقة و اللاحقة , و سأذكر ما له و ما عليه , و كان يعلم آرائي عنه , فقال لي : لا تكن غبيا , و يلزمك أن تراعي الظروف , و لاحظ أنك ستخرج كتابك عن إسماعيل في وقت يجلس على عرش مصر ابن اسماعيل ( المغفور له الملك فؤاد ) , أفلا تفهم ذلك ؟ إنك تعلم أن الملك يهتم كثيرا بإحياء تاريخ والده , و يوحى بإخراج كتب عنه في تمجيده , و ينفق في سبيل ذلك , أموالا كثيرة , لأن جمع الوثائق و نقلها من مصادرها الأصلية و إخراج الكتب , كل ذلك يحتاج إلى نفقات طائلة , و لقد أخبرتني ( و حقا قد أخبرته بذلك ) أنه أبدى نحوك شعورا طيبا و ثناء على مواقفك في مجلس النواب الأول , و لا شك أن وثائق السراي الملكية من أهم المراجع عن عصر إسماعيل بالذات , لأن جلالة الملك عني يجمع هذه الوثائق و أمر بتنسيقها و ترتيبها , فأرى أن تتصل بصديقك محمد زكي الابراشي باشا ( ناظر الخاصة الملكية , و كان بيني و بينه ود قديم متصل ) لكي تراجع وثائق السراي الخاصة بعصر إسماعيل , و لكي يمدوك بالمعلومات التي تطلبها عن حكمه , و لا شك أنك ستجد من كل ذلك مادة غزيرة لكتابك الذي أراك تضعه الآن (1931) عن هذا و مع أن النصيحة صادرة عن صديق أثق في إخلاصه , فأني لم أعمل بها , لأني وجدت أنني إذا أحكمت الصلة بينيو بين هذه الجهات العليا , و أكثرت من التردد على مكتبة القصر الملكي , فقد لا يكون من الذوق بعد ذلك أن أكتب عن أخطاء إسماعيل – و كان المراد تغطيتها – و قلت لصديقي إني مع تقديري لنصحه فان دراستي الخاصة و المراجع التي طالعتها عن عصر إسماعيل كافية لأؤرخه تاريخا واضحا صحيحا , أما الوثائق الجديدة فمع أهميتها لا يمكن أن تغير من الخطوط الرئيسية للتاريخ , إنها و لا شك قيد تفيد في معرفة بعض التفاصيل و الملابسات , و لكن الحوادث في ذاتها و الحقائق الجوهرية التي هي عماد التاريخ تبرز من خلال المراجع العديدة التي درستها عن هذا العصر .

و قد وجد صديقي أن لا فائدة ترجى من إقناعي بنصيحته , فتركني أمضي في سبيلي .

الوزارة و كتاب عصر إسماعيل

و لما ظهر الكتاب تبين لي عدم الرضا عنه من امتناع وزارة المعارف عام 1933 عن أن تقتني منه النزر اليسير الذي كانت تشتريه لمكتباتها من الأجزاء السابقة , و أرسلت لي خطابا بتاريخ 18 إبريل سنة 1933 تنبئني فيه بأن بالكتاب مآخذ تحول دون إيداعه مكتبات مدارس الوزارة , و أرسلت طي خطابها صورة من تقرير ما أسمته ( لجنة فحص الكتب التاريخية لمكتبات المدارس ) و فيه تعداد لهذه المآخذ المزعومة , و قوامها أني تحاملت على الخديو إسماعيل . و هاك نص الخطاب و التقرير :

خطاب الوزارة

" إشارة إلى خطاب عزتكم المؤرخ 29 ديسمبر سنة 1932 الذي قدمتم معه للوزارة كتابكم " عصر إسماعيل " ف6ي جزأين للنظر في تقريره أسوة بالأجزاء السابق تقريرها من كتابكم ( تاريخ الحركة القومية ) نفيد عزتكم أن الوزارة قد فحصت كتاب (عصر إسماعيل) فوجدت به من المآخذ ما يحول دون إيداعه مكتبات مدارس الوزارة .

و أرفقت الوزارة بخطابها صورة التقرير الذي قدمته أليها ( لجنة فحص الكتب التاريخية لمكتبات المدارس ) عن الكتاب و هذا نصه :

التقرير

" عملا بخطاب الوزارة رقم 952 بتاريخ 21 يناير سنة 1933 أطلعنا على هذا الكتاب بجزأيه , و قد وجدنا به كثيرا من المعلومات و الأبحاث النافعة في فترة حكم الخديو إسماعيل , و لكنا نأخذ على المؤلف أنه شوه الأغراض التي من أجلها عقد إسماعيل قروضه بأجمعها تشويها شاملا , و نظر إلى جميع أعماله في هذا الصدد بمنظار أسود , و الأدلة على ذلك كثيرة نورد منها ما يأتي :

1- أنه أقر مؤلف (تاريخ مصر المالي ) على أن " إسماعيل سارة يسيرة بذخ و إسراف " راجع ص 31 جزء ثان

2- ذكر أن القروض التي اقترضها الخديو إسماعيل حتى سنة 1866ضاعت فيما لا ينفع البلاد لأن تغيير نظام توارث العرش مسألة شخصية لإسماعيل , و كذلك شراء أملاك أخيه و عمه , فكان لإسماعيل اقترض هذه الديون لكي تتسع أملاكه و تحقيقا لأطماع شخصية و إرضاء لحزازات عائلية لا شأن للبلاد فيها " راجع ص 35 جزء ثان .

3- ذكر المؤلف في عرض الكلام عن إسماعيل المفتش أنه قلد مولاه في عيشة البذخ و الإسراف و الاستنكار من القصور و الأملاك و الجواري و الحظايا " ص 37 جزء ثان

4- في الكلام عن بعض حفلات الخديو إسماعيل ذكر المؤلف ما يأتي : فكان الخديو في هذا شبيها ببعض الذوات و الأعيان في الاستدانة للإنفاق على إقامة الحفلات و الولائم و الظهور بمظهر الفخفخة و البذخ " ص39 جزء ثان .

5- قال المؤلف إن إسراف إسماعيل هو الباعث الأكبر على مأساة القروض .. إن الجانب السيء من شخصية إسماعيل هو إسرافه و إنفاقه الأموال من غير حساب أو نظر فيا لعواقب , و هو بلا مراء مضرب الأمثال في هذا الصدد , فقد كان متلافا للمال , و ظهر هذا العيب في حياته العامة , و حياته الخاصة . ظهر في بناء قصوره , و تأثيثها و تجميلها كما ظهر في حياته الخاصة في حفلاته و أفراحه و مراقصه و رحلاته و سياحاته , و أهوائه و ملذاته " راجع ص 53 جزء ثان .

" لهذه الأسباب لا نوافق على إيداع هذا الكتاب بمكتبات مدارس الوزارة ".

و قد انتقد معظم الصحف مسلك الوزارة حيال الكتاب , و كان أكثرها اعتدالا في النقد صحيحفة ( البلاغ ) فقد كتبت بعددها الصادر في 24 مايو 1933 ما يأتي :

" و الذي نقوله نحن هو أن وزارة المعارف تدل بذلك على رغبتها في أن تتحكم في بحوث المؤرخين بحيث إذا لم يكتبوا التاريخ على هواها أقصتهم من حظيرتها , و كتاب " عصر إسماعيل " لم يشتمل فقط على هذه المآخذ التي أخذها على إسماعيل بل هو يشتمل على مآثر له يكفي أن يكون منها ما كتبته في فتحه السودان و في اهتمامه بإرسال البعثات العلمية إليه ليشهد كل منصف أن الأستاذ عبد الرحمن الرافعي كتب كتابه و هو منساق فيه بما يهديه البحث إلى أنه الحقيقة , و الغريب في عمل وزارة المعارف هذا أنها تعلم أن في مكتبات مدارسها كتبا تحوي على أحكام قاسية على عهد إسماعيل – منها كتاب " مصر الحديثة " للورد كرومر – و مع ذلك لم تفكر في إقصائها من مكتباتها " .

و بعد انقضاء ثلاث سنوات على هذا التقرير أعادت الوزارة النظر في كتابي , و ألفت لجنة أخرى لفحصه فنقضت تقرير اللجنة السابقة و طلبت الوزارة مني أن أوافيها بالنزر اليسير منه على غرار الأجزاء السابقة .

بدء الإقبال على كتبي سنة 1943

في أوائل سنة 1943 طلبت من مكتبة " النهضة المصرية " , بيانا بعدد ما كنت أختزنته من كتبي وقتئذ , فلما أطلعتها على هذا البيان أعربت لي عن رغبتها في شراء هذا المخزون كله دفعة واحدة , و أن تدفع لي الثمن فورا مخصوصا منه نسبة أكثر من النسبة التي كنت أحاسب عليها المكاتب , فرأيت العرض مغريا حقا , لأن حصيلة الثمن بلغت 1428 جنيها صارت بعد الخصم أربعين في المائة (883جنيها ) فقبلت الصحافة مغتبطا , و أدركت في هذا اليوم أن كتبي قد لاقت شيئا من الإقبال الذي كنت أنتظره منذ أكثر من خمس عشرة سنة .

كان ذلك في خلال الحرب العالمية الثانية , و قد عزوت هذا الإقبال المفاجئ إلى المكانة التي نالتها كتبي التي أصدرتها إلى ذلك الحين عند ذوي العلم و الخبرة , فقد كانوا يتحدثون عنها حديثا طيبا , و كان كل كتاب يصدر منها يبعث الحياة في الكتب السابقة , أضف إلى ذلك ثناء أساتذة التاريخ على هذه المجموعة في خلال دروسهم للطلبة , فأوجد هذا الثناء دعاية طيبة لها , و هناك عامل هام له أثره في هذا الصدد , وهو تقدم الوعي القومي و الثقافي في الجمهور , و كان نشوب الحرب العالمية الثانية قد زاد في تفتح الأذهان لمركز مصر و أهميتها و مصيرها في هذه الحرب الطاحنة , و بعث الروح الوطنية في النفوس , تلك الروح الملهمة لكل تقدم سياسي أو علمي أو أخلاقي , فأزداد اهتمام الناس بمعرفة تاريخ بلادهم .

و أخذت من ذلك الحين أعيد طبع كتبي , فظهرت الطبعة الثانية من الجزء الأول تاريخ الحركة القومية سنة 1944 , و الطبعة الثالثة سنة 1948 , و ظهرت الطبعة الثانية من الجزء الثاني سنة 1948 أيضا , و الطبعة الثانية من (عصر محمد علي ) سنة 1947 , و الطبعة الثالثة سنة 1951 , و أعدت طبع كتاب (عصر إسماعيل) , و (الثورة العرابية ) سنة 1947 , و ( مصر و السودان ) سنة 1948 , و ( مصطفى كامل ) سنة 1945 , ثم سنة 1950 (الطبعة الثالثة ) و كتاب ( محمد فريد سنة 1948 .

على أنه يلزمني أن أعترف بأن التزامي الجانب القومي في كتبي قد أضر بها فيما يتعلق برواجها , و بخاصة كتاب ( ثورة 1919 ) و ( في أعقاب الثورة ) , فإن الهيئات الحكومية , و منها وزارة المعارف و وزارة الثقافة و التعليم , قد أعرضت عن تشجيع هذه الكتب , و ليس يخفى أن إقبال الهيئات الحكومية , و بخاصة وزارة الثقافة و التعليم , له دخل كبير في رواج الكتب , بحيث أستطيع القول أن كتبي قد لقيت القد لقيت الإقبال , و لكن لم تنل حظها من الرواج .

حقا ان الجانب القومي كان يجب أن يفتنح أمامها آفاقا من الرواج , و لكن ماذا تراني أقول ؟ أن الشعب الذي وضعت من أجله هذه الكتب قد ضن عليها بالرواج , و أن لم يضن عليها بالثناء والإعجاب , و أني شاكر له على كل حال , إن الناس يتحدثون عن كتبي , و يمتدحون الروح الوطنية التي آملت علي هذه المجموعة , و يكتفون في الغالب بهذا التعضيد الأدبي , و بمثل هذه المعاونة تروج الكتب و تنتشر الأفكار و تعم الثقافة .

و لكن علينا أن نبذر الغرس الصالح في حقل النهضة القومية دون أن نتأثر من بطء النتائج , و يجب أن نظل عاملين على رفع معنويات هذا الشعب و و أن تجعل هذا الهدف منهجا في كفاحنا و تفكيرنا , و أقوالنا و أفعالنا , و إذا لم يصادف نداؤنا لدى الشعب الصدى الذي نرجوه , و لم يينع بعد الزرع الذي نتعهده , فلنصبر و لا نجزع , و لنثابر و لا نتراجع , و نسأم من تعداد الأيام و السنين , فما قيمة الأيام و السنين في أعمار الأمم و الشعوب ؟

الأمير عمر طوسون

من أبرز أمراء الأسرة العلوية و أنبههم شأنا , و أعرفهم وطنية , المغفور له الأمير عمر طوسون , كان رحمه الله كبير النفس عظيم الخلق , عالما واسع الاطلاع محبا للعلم و الأدب , مؤرخا محققا , حجة في تاريخ مصر الحديث و القديم , و كان إلى جانب عمله تاريخ مصر الحديث و القديم , و كان إلى جانب علمه و فضله شديد الوطنية , و تبدو وطنيته من خصومته المستمرة للاحتلال و سياسته , لايبالي الجهر بها في كل مناسبة , و قد سجلها في مؤلفاته و بحوثه و أحاديثه و مقالاته , و كان الاحتلال و عماله و صنائعه يعرفون عنه هذه الميول , وهو من ناحيته يصارحهم بها , و لا يكتك عنهم شيئا منها , و قد استهدف من أجل ذلك لغضبهم غير مرة , و خاصة أثناء الحرب العالمية الأولى , إذ كان بأوربا صيف سنة 1914 , فلما أراد العودة إلى مصر بعد إعلان الحرب عارضت السلطة العسكرية البريطانية في عودته , وظل وقتا طويلا تحت الملاحظة في مرسيليا إلى أن توسط له السلطان حسين كامل لدى السلطات البريطانية فأذنت له بالعودة إلى مصر .

اتصلت به منذ عودته أثناء الحرب العالمية الأولى , و كنت ألقي نته تقديرا كبيرا , و حينما كان يزور تفتيشه في "دميرة" القريب من المنصورة كنت انتهز هذه الفرصة فأذهب صحبة لفيف من إخواني لزيارته في قصره الريفي هناك , فكان يسر كثيرا لهذه الزيارات , و يفيض في أحاديثه الوطنية التي زادتني تقديرا له , و كانت زيارتي له في دميرة مما ضاعف صلتي به , و أعرب لي عن رغبته في أن أزوره بالأسكندرية كلما ذهبت إلى الأسكندرية دون أن أقابله , فأرسل لي من يعرب لي عن ملاحظته في ذلك فشكرت له هذه الملاحظة و اعتبرتها تقديرا و تكريما لي , و اعتذرت بأن الوقت الذي قضيته بالأسكندرية في هذا اليوم لم يسمح لي بهذه المقابلة , و من يومئذ حرصت على أن أزوره كلما ذهبت إليها .

و كنت أحظى بإهدائه إياي كتبه القديمة كلها , و أقابل كل هدية بما تستحقه من الشكر و التكريم . و كان رحمه الله دقيقا في تقدير الؤلفات التي كانت تهدي إليه , و لما بدأت في إخراج " تاريخ الحركة القومية " أهديته كل كتاب يصدر منها , و كان يرسل لي خطابات شكر , و لاحظت أن عبارات الخطابات بدأت وجيزة , ثم أخذت تتطور و تطول مما يدل على ازديايد تقديره لي مع الزمن .

أهديته الجزء الأول من تاريخ الحركة القومية , فجاءتني منه جواب وجيز مؤرخ في 22 يناير سنة 1929 قال فيه :

" حضرة صاحب العزة عبد الرحمن الرافعي بك

" نشكر حضرتكم على حضوركم شخصيا لإهدائنا الجزء الأول من كتابكم " تاريخ الحركة القومية " و قد قبلناه بمزيد من الامتنان و سنقرؤه بإمعان النظر و نضعه في مكتبتنا تذكارا لكم , و تقبلوا مزيد سلامنا "

عمر طوسون

ثم أهديته الجزء الثاني فأرسل لي خطابا بحثت عنه كثيرا في محفوظاتي فلم أعثر عليه لكي أنشره هنا , و يظهر لي أنه لم يكن خطابا ذا بال , لأنه لو كان كذلك لنشرته في الصحف كما نشرت خطابات الأمير عن الكتب التالية .

و أخذ تقديره يزداد كلما ظهر جزء من المجموعة , فإذا قارنت بين خطابه لي عن الجزء الأول , و خطابه عن (عصر محمد علي ) رأيت التدرج واضحا في هذا الصدد قال في خطابه الأخير :

" حضرة الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك

" بعد أن أهديتم إلينا الجزء الأول و الثاني من كتابكم البارع ( تاريخ الحركة القومية ) أصبحنا شغوفين ننتظر بفروغ صبر تتمة هذا المبحث الجليل , و نرقب بلهف بزوغ ثالث هذين الكوكبين , فإذا بيدكم البيضاء تخرجه لنا من غير سوء آية أخرى .

و أن الباعث الشريف الذي حدا بكم إلى تجشم هذه المشقة البعيدة الغاية التي صوبتم إليها سهمكم هو إدراك الغرض الذي وضعتموه نصب أعينكم , و لعلكم لاتجدون ثوابا على هذا العمل الصالح أكبر من هذا الذي تجدونه في نفسكم من الارتياح لاتمام هذا الصنيع الخالد الذي خدمتم به تاريخ الحركة القومية لبلد شغفتم به حبا و عرفتم بصدق الإخلاص له و التفاني في خدمته .

و إذا لم للذين أسعدهم الحظ باقتناء مؤلفكم الثمين و الانكباب على قراءاته و الاستفادة منه من وسيلة إلى جزائكم عليه إلا الشكر , فأنا أول الشاكرين . و السلام عليكم و رحمة الله "

عمر طوسون

و أهديته كتاب (عصر إسماعيل ) فجاءني منه الجواب الآتي :

" حضرة صاحب العزة الأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك .

" تفضلتم فأهديتم إلينا الجزأين الأول و الثاني من كتاب " عصر إسماعيل " و هو الحلقة الثالثة من المؤلف الكبير الذي تعالجونه " سلسلة تاريخ الحركة القومية "

" و لقد تصفحنا كثيرا من مباحث هذين السفيرن الجديدين , و استوعبنا بعض فصولهما و أبوابهما استيعابا جعلنا نلم بهما إلماما و نحيط بهما إجمالا فألفينا كثلاثة الأجزاء السابقة التي تفضلتم فأهديتموها إلينا من قبل مفرغين في نفس القالب البديع الذي أفرغتموها فيه متصلة حلقاتها بتلك السلسلة الذهبية التي تصوغونها صياغة تأخذ بالأبصار .

" و قد احتوى هذان الفران على خلاصة ما حدث في عصر إسماعيل بعبارة سهلة جزلة مع العزو إلى المصادر و المراجع و ذكر الوثائق و الأسانيد فجاء بهذا الصنيع مرآة صافية صادقة جلوتموها للناظرين فتجلت فيها صورة هذا العصر الحافل بالحوادث على حقيقتها , و من يعرف ما كان يغشى حقائق التاريخ في هذه الحقبة من الأطلية و البهرج تارة , و التشويه و المسخ تارة أخرى , يعرف قيمة صنيعكم و لا يسعه إلا أن يقدر عملكم حق قدره و يثني عليكم الثناء النستطاب , فأمضوا قدما في عملكم حتى تتموه على هذا النسق الجميل .

" و السلام عليكم و رحمة الله "

5/2/1933

عمر طوسون

و يبدو أن تقديره لكتاب ( الثورة العرابية ) بلغ حدا كبيرا ,إذ عده "أهم الموضوعات في سلسلة تاريخ الحركة القومية " , و بعث لي بصدده بخطابين متعاقبين :

الخطاب الأول

" حضرة الأستاذ الكبير عبد الرحمن بك الرافعي

كان سرورنا عظيما بكتابكم الجديد " الثورة العرابية و الاحتلال الانجليزي " الذي تفضلتم بإهدائه إلينا , و إننا نعد موضوع هذا الكتاب أهم موضوعات سلسلة تاريخ الحركة القومية , و لذلك كان سرورنا بظهوره معادلا لاهتمامنا بموضوعه الخطير , و سيحدونا هذا الاهتمام بالطبع إلى قراءته بشغف عظيم .

" و لا شك عندنا أنكم قد تشجمتم في تأليفه ما تجشمتم من التعب و النصب خدمة خالصة منكم للتاريخ و الوطن , فجزاكم الله خيرا و وفقكم إلى إتمام سلسلة تاريخ الحركة القومية على ما تبتغون من تحقيق و استقصاء و بحث مستفيض .

" و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

7/4/1937

عمر طوسون

الخطاب الثاني

" حضرة صاحب العزة الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك

" تفضلتم فأهديتم إلينا الجزء الأخير من كتابكم القيم " الحركة القومية " و قد كتبنا إليكم شاكرين لكم هذه الهدية النفيسة و وعدناكم في كتابنا إليكم أننا سنقرأ هذا الجزء بشغف عظيم , و الآن بعد أن قرأناه و أمعنا فيه النظر فاحصين مدققين لا يسعنا إلا توجيه الثناء المستطاب إلى هذه الهمة الكبيرة التي أخرجت هذا الكتاب , فكان من خير الكتب التي أخرجت للناس في موضوعه , فإن الثورة العرابية رغم ما كتب فيها منذ حدوثها إلى الآن لم تزل جوانب منها غامضة و محتاجة أشد الاحتياج إلى الجلاء , فجئتم و سددتم هذا النقص , و قد رأينا من حسناتكم في هذا الكتاب أنكم أوردتم فيه طثيرا مما يذكره المعاصرون الذين شهدوا هذه الثورة و لم يدونوا مشاهداتهم , و هذا فضل آخر لكم نذكره مغتبطين مبتهجين , و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .

15/5/1937

عمر طوسون

و جاءني منه الخطاب الآتي عن كتاب ( مصر والسودان ) :

" حضرة صاحب العزة الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك

" السلام عليكم و رحمة الله و بركاته , و بعد فقد شرفتمونا بزيارتكم و تسلمنا من يدكم الكريمة هديتكم النفيسة القيمة " مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال من سنة 1882 إلى سنة 1892 " و هي تقع جزء لطيف متصل كل الاتصال بتاريخ مصر القومي الذي ألفتموه و أخرجتموه في أجزاء عدة و تفضلتم فأهديتموها إلينا و شفعتموها بعد بإهداء هذا الجزء الذي يبحث تاريخ هذه الحقبة القصيرة الهامة من تاريخ مصر في أوائل عهد الاحتلال مدة حكم المغفور له الخديو محمد توفيق باشا .

" و لا شك عندنا – قياسا على الأجزاء السابقة من هذا الكتاب – أنه سيكون محيطا بجزئيات الحوادث التي وقعت في هذه الفترة ملما بها كل الإلمام مشفوعا بما يؤيدها من الأسانيد و الوثائق , على غرار مادونتموه في أسفار الحركة القومية من التحقيق و التمحيص و البحث في الأسباب و النتائج شأنكم فيما تخرجونه من قلمكم الفياض البارع .

" فنشكركم على هذه الهدية أجزل الشكر و نثني على همتكم أطيب الثناء , و الأمل أن يفسح الله في عمركم المبارك و أن يتسع لكم الوقت لاتمام سلسلة هذه الحركة القومية حتى هذا العهد الأخير فتكونوا بذلك قد أديتم إلى الوطن العزيز ما ينتظره منكم و يأمله فيكم من صادق الجهود و خالد الأعمال , و أقبلوا مزيد سلامنا مع أطيب تمنياتنا .

28 يونيه سنة 1942

عمر طوسون

و أهديته كتاب ( مصطفى كامل ) فجاءني منه الخطاب الآتي :

" حضرة صاحب العزة الأستاذ القدير عبد الرحمن الرافعي بك

" تفضلتم فوصلتم هداياكم العلمية إلينا بهدية جديدة قيمة ألا و هي " مصطفى كامل " , ذلك السفر الذي يضم بين دفتيه تاريخ هذا الزعيم الوطني الذي دوى صوته في الوادي حقبة طويلة فأيقظ مصر من سبات طويل كانت تغط فيه غطيطا و لا يدري إلا الله متى تهب من رقدتها الطويلة لولا أن قيض الله لها هذا الزعيم الفتي الجريء .

" و بعد فأنا نشكركم على هذه الهدية الجليلة و نثني أطيب الثناء على هذا الجهد المتواصل الذي خدمتم به التاريخ و البلاد خدمة يقدرها لكم حق قدرها العارفون بما ينال كل من نصب نفسه للتأليف من عنت و نصب , فجزاكم الله عن مصر خيرا و نفع بمؤلفاتكم هذه الأمة , و السلام عليكم ورحمة الله و بركاته .

24/1/1939

عمر طوسون

ثم أهديته كتاب ( محمد فريد ) فجاءني منه الخطاب الآتي :

" حضرة صاحب العزة الأستاذ الكبير و المؤرخ المحقق عبد الرحمن الرافعي بك

" السلام عليكم ورحمة الله , و بعد فقد أهديتم إلينا بشخصكم الكريم كتابكم الجديد الذي أخرجتموه آية للناس عن الزعيم الثاني المغفور له " محمد بك فريد" فجاء بعد أن أخرجتم كتاب الزعيم الأول " مصطفى كامل باشا " متمما للعقد الفريد , و كان حريا بفريد بك , فهو المثل الأعلى في الثبات على المبدأ و التضحية بالنفس و المال , و خير من أخلص لمصر و جاهد في سبيلها حق الجهاد حتى النفس الأخير , رحمه الله و أكرم منزله في عليين .

" و لما لم يتسع لنا الوقت لقراءة هذا الكتاب الضخم فقد تصفحنا بعض صفحاته و نحن أعرف بفريد و أعمال فريد و تضحية فريد و لكنا لم نكن نتوقع أن تخرجوا كتابه هذا الإخراج البديع و أن تضمنوه هذا البيان الفذ الرائع و أن يكون تاريخه و هو ملء القلوب و الأسماع ملء هذا السفر الكبير الذي جمعتم فيه أطراف حياتهمن كل نواحيها و أفرغتموه في هذه السلسة لتصلوا به سلسلتكم الذهبية في تاريخ الحركة القومية , فما برحالناس منتظرين من قلمكم البارع أن تكملوا هذا العمل النافع و أن يوفقكم الله لخير هذا الوطن و نفع أبائه , إذ ليس شيء أجدى على مصر من تاريخ حياة بنيها و ما قدموه من عمل صالح كريم تحسن الأسوة به و القدوة فيه , و آخر شائن ذميم يعافونه و ينفرون منه , ليعرفوا أن الحياة ذكرى , و أن أعمالهم محصية عليهم .

" من عمل صالحا فلنفسه و من أساء فعليها و ما ربك بظلام للعبيد " فنشكركم أجزل الشكر و نثني عليكم ثناء مستطابا أنتم خير أهل له و أقبلوا مزيد سلامنا و احترامنا .

21/8/1941

عمر طوسون

و لم يتح لي أن أهدي الأمير الجليل كتابي عن ثورة سنة 1919 , و في أعقاب الثورة فقد وافته المنية يوم 26 يناير سنة 1944, و حزنت عليه حزنا شديدا , و كانت فجيعة البلاد بوفاته جسيمة , و خسارتها فيه لا تعوض , أسكنه الله فسيح جناته و أثابه بما أحسن إلى البلاد و أخلص لها إخلاص المجاهدين الصادقين .

سكرتيريتي للحزب الوطني سنة 1932- 1946

بعد أن أعين محمد زكي علي بك ( باشا ) مستشارا بمحكمة الاستئناف في أواخر سنة 1932 , انتقلت إلى القاهرة و حللت محله في مكتبه الذي أخلاه منذ تولي القضاء , و قد شغر مركز سكرتير الحزب الوطني الذي كان يشغله زكي بك , فانتخبتني اللجنة الإدارية بجلستها المنعقدة يوم الاثنين 26 ديسمبر سنة 1932 سكرتيرا للحزب و لم أكن قد عدت بعد إلى الحياة البرلمانية , إذ لم أنتخب عضوا بمجلس الشيوخ إلا في أكتوبر سنة 1939 .

توليت أعباء السكرتيرية بقدر ما وسعني الجهد , فتجدد النشاط في الحزب و برزت توجيهاته في الشئون العامة , بحيث كنا نتتبع ما يقع من التطورات فنبادر إلى الجهر برأي الحزب فيها و بالسياسة التي تقتضيها مصلحة البلاد .

و كان أول بيان نشرته الصحف بتوقيعي بصفتي سكرتيرا للحزب الوطني في 5 يناير سنة 1933 متضمنا قرارا من اللجنة الإدارية بتوضيح خطة الحزب حيال الموقف السياسي وقتئذ , و لا سيما ما كان خاصة بالمساعي التي كانت تبذلها الوزارة القائمة ( وزارة إسماعيل صدقي باشا ) لعقد معاهدة مع الحكومة البريطانية , و تضمن قرار اللجنة ما يأتي :

أولا – المثابرة على العمل لإحباط المفاوضات أو المحادثات التي ترمي إلى عقد معاهدة مع الحكومة البريطانية قبل الجلاء عن مصر داخل حدودها الطبيعية و التاريخية ( أي حدو الوادي ) و دعوة عامة إلى الاستمساك بالاستقلال التام لمصر و السودان .

ثانيا – دعوة حضرات نواب الحزب الوطني في البرلمان إلة تقديم مشروعات قوانين بإلغاء جميع القوانين الاستثنائية المقيدة للحرية التي وضعتها الوزارة القائمة أو أية وزارة سابقة .

ثالثا – إعادة النظر في تكوين اللجان الفرعية في القطر المصري التي يتسنى لها بث الدعوة لتحقيق مبادئ الحزب الخاصة بتقرير مصير مصر .

رابعا – لفت نظر حضرات أعضاء الحزب الوطني إلى وجوب اللمحافظة على تقاليد الحزب في خطبهم و تصريحاتهم و رسائلهم باعتباره حزب معارضة للحكم القائم مادام لا يقوم على تحقيق مبادئ الحزب الوطني بل يعمل على نقيضها .

و ابتكرت فكرة زيارة قبر مصطفى كامل و قبر محمد فريد – جماعة في أيام الأعياد , بعد أن انقطعت سنين طويلة , فكنا نذهب إلى الضريحين و نلقي الكلمات الوطنية المناسبة .

و أذكر أن أول مرة ذهبنا فيها جماعة إلى قبري الزعيمين كانت في يناير سنة 1933 , و قد ألفيت الكلمة الآتية أمام قبر مصطفى كامل :

" أي مصطفى !

" أبناؤك الذين تلقوا عنك مبادئ الوطنية الأولى و حافظوا على عهدك السنين الطوال يجيئون اليوم و في كل فرصة يؤدون واب الوفاء لك , و يحيون روحك الكبيرة تحية الأبناء لأبيهم , و التلاميذ لأستاذهم و إمامهم . لقد فارقتنا منذ خمس و عشرين سنة , و ذكراك تتجدد في نفوسنا كل يوم , منك تعلمنا الوطنية , و فيك عرفنا الإخلاص و الثبات و التضحية و الجهاد المنزه عن الأهواء .

" ضحيت يا مصطفى في سبيل مصر بأعز ما تمبك , ضحيت بصحتك و شبابك , فكم كان الأطباء ينصحون لك أن تبقى على صحتك و لا تحملها ما لا طاقة لها به من الجهاد المضني , و لكنك آثرت مصر على صحتك و راحتك , فذوت زهرة حياتك في الرابعة و الثلاثين من عمرك ! علمتنا يا مصطفى كيف يجب أن نجعل مجد الوطن و عظمته فوق مجد الأفراد و أطماعهم في الحياة .

" اليوم نناجيك بأننا على عهدك باقون , و بمبادئك و تعاليمك مستمسكون , إننا خصوم الاحتلال و سياسته , خصوم أعوانه و أنصاره , متمسكون بمبدأ الجلاء لا نبغي عنه بديلا , فالجلاء هو الرمز الصحيح للاستقلال التام .

" نحييك يا مصطفى و نحيي صحبك و أنصارك الذين شاركوك في الجهاد و اتبعوا مبادئك و ترسموا خطاك , نحيي فريدا و عليا و و أمينا و عبد العزيز و فؤاد و لطفي و وجدي , و غيرهم و غيرهم , ممن يرقدون حولك و على مقربة منك , نحيي أمك الحنون التي تسكن إلى جانبها , أن لها على الأمة فضل تربيتك التربية الأولى و تنشئتك النشأة الصالحة التي انبعث منها شعلة الوطنية , نحيي الأقربين من آل بيتك الذين لحقوا بك في دار البقاء , نحيي المجاهدين من كل حزب و في كل عهد , و نرسل تحياتنا إلى أرواح سائر الشهداء الذين جادوا بأرواحهم في سبيل مصر , أولئك الذين غيبوا تحت أطباق الثرى , هنا و هناك , واجب علينا أن نذكرهم على الدوام , و أن نعرف فضلهم و نقدس ذكراهم , فإلى أرواحهم جميعا الفاتحة ! "

ثم توجهنا إلى قبر المرحوم محم بك فريد بالسيدة نفيسة , و هناك اجتمعنا حول الضريح و ألقيت الكلمة الآتية :

" هنا رمز الإخلاص , هنا التضحية في سبيل الوطن , هنا مثوى فريد , هنا الأخلاق و المبادئ , هنا الجهاد المحفوف بالحرمان و المتاعب , هنا مغالبة الدهر و الصبر على المكاره , هنا رمز الآلام يحتملها القلب العامر بالإيمان , هنا النبل و كرم المحتد , يمزجان بالوطنية و التضحية , هنا احتمال النفي و الحاجة و التشريد بعد العز و الثروة و النعيم , هنا الوطنية الحقة مجسمة فيك يا فريد ! "

" سلام عليك من قلوب تذكر فضلك عليها و على الوطن , بالأمس ودعنا شريكتك في الحياة ودعنا زوجتك النبيلة التي قاسمتك السراء و الضراء , الآن نلتقي بك في دار الخلد , بعد أن باعد الدهر بينكما السنين الطوال , في حياتك و بعد مماتك , فلتؤنسك في وحشتك , بعد أن حرمت لقاءها في منفاك و غربتك , اليوم تلتقيان بعد طول النوى , فعليكما و على الشهداء السلام ! "

و في كلمتي أمام قبر محمد فريد إشارة إلى وفاة زوجته البارة الوفية , و قد توفيت إلى رحمة الله يوم 20 يناير سنة 1933 , وش يعنا جنازتها يوم 21 منه , و شاركنا في تشييعها أقطاب الوفد لمصاهرة الدكتور حيدر الشيشيني للمرحوم فريد بك .

و أخذت بوصفي سكرتيرا للحزب الوطني أكتب سنويا المقالات عن ذكرى مصطفى كامل و ذكرى محمد فريد و ذكريات الحوادث التاريخية الهامة كضرب الأسكندرية و احتلال العاصمة و اتفاقية السودان إلخ ...

و أنشأنا ناديا فخما للحزب بشارع القصر العيني في نلتقاه بشارع دار النيابة .

الجبهة الوطنية 1935- 1936

جاهدت في ائتلاف سنة 1935 كما جاهدت من قبل في ائتلاف سنة 1925 , و قد خرجت من كلا السعيين بصفقة المغبون ..

كانت البلاد سنة 1935 في حاجة ماسة إلى توحيد الصفوف فالدستور معطل , و الانجليز يتدخلون في شئون البلاد , ويحولون دون تحقيق أهدافها , و الوزارة ( وزارة محمد توفيق نسيم باشا ) تقر التدخل البريطاني في أهم الشئون العامة , و الأحزاب السياسية متنابذة متخاذلة .

ألغي دستور صدقي باشا في نوفمبر سنة 1934 , و لكن لم يعد دستور سنة 1923 , و بقيت البلاد من غير دستور زهاء عام , و صرحت الحكومة البريطانية على لسان المستر هور وزير خارجيتها في 9 نوفمبر سنة 1935 بأنها عندما استشيرت من الحكومة المصرية نصحت بأن لايعاد دستور سنة 1923 , و لا دستور سنة 1930 .

كان لهذا التصريح أثر أليم في النفوس , و قامت المظاهرات الدامية احتجاجا عليه , و اتجهت الأفكار إلى ضرورة توحيد الصفوف لمواجهة التدخل البريطاني .

كان الحزب الوطني من أول الساعيين في تويحد الصفوف و تأليف " الجبهة الوطنية "

و قد فكرت مع حافظ رمضان بك ( باشا ) رئيس الحزب أن نخطو خطوة إيجابية لائتلاف الأحزاب , بأن نقابل زعماءها شخصيا و ندعوهم إلى أن يجتمعوا معا .

فذهبنا نحن الاثنين معا لمقابلة مصطفى النحاس باشا بداره بمصر الجديدة لنناشده أن يقبل الائتلاف كما قبله سعد سنة 1925 .

النحاس يرفض الائتلاف

ذهبنا إليه و قابلناه في داره الساعة السادسة مساء الخميس 21 نوفمبر سنة 1935 , و عرضنا عليه فكرة توحيد الجهود و ضم الصفوف و ائتلاف الأحزاب لدرء الأخطار التي تهدد البلاد , فأجابنا جوابا لايبعث عن الاطمئنان , إذ قال أنه من أحرص الناس على الوحدة الوطنية و لكن لا بطريق الائتلاف بين الأحزاب , فإن الوفد قد جرب هذا الائتلاف مرتين فنقض , و لا يريد أن يعود إلى هذه التجربة , بل يقبل أن يحصل تعاون بين الأحزاب بأن يعلن كل حزب مبدأه صريحا و هو التمسك بدستور سنة 1923 ثم رد اعتداء الانجليز عن الدسور و عن الاستقلال , فقلت له إن اجتماع الزعماء قد يسهل إعلان الأحزاب جميعا ميثاقا يتفق عليه , فأجاب بأن لا لزوم للاجتماع , و يكفي أن يعلن كل حزب هذا المبدأ ليفهم الانجليز أن لا خلاف بيننا , و تكلم طويلا عن نقض الأحرار الدستوريين للائتلاف الذي عقد سنة 1925ثم سنة 1931 , و قال أننا لا نريد أن نعود إلى سياسة الائتلاف , و كان كلامه قاطعا .

و عرض عليه حافظ باشا ارسال وفد إلى عصبة الأمم لعرض القضية المصرية على العصبة و التشهير بالسياسة الانجليزية و قال أن هذه وسيلة عملية للضغط على الانجليز و حملهم على كف عدوانهم , فأجاب بأنه لا يعارض في أن ترسل كل هيئة وفدا عنها , أما إرسال وفد يمثل الأحزاب فلا يوافق عليه , و أضاف أنه لا يثق من نتيجة عرض القضية المصرية على عصبة الأمم لأن انجلترا لها السيطرة فيها فلا يضمن أن تحكم لصالحنا , و انتهت المقابلة في نحو السابعة و النصف و كانت نتيجتها بالنسبة للائتلاف سلبية , و سألني حافظ باشا بعد المقابلة عن رأيي فيما يحسن أن نعمله بعد ما بدا لنا في مقابلتنا للنحاس باشا من تعذر الائتلاف , فقلت له يلزمنا أن لا نيأس من النجاح , و عرضت عليه أن ننشر نداء للأمة بتوقيعه بصفته رئيسا للحزب الوطني و توقيعي بصفتي سكرتير الحزب نناشد فيه الهيئات و الطوائف في أن تساهم معنا في السعي لائتلاف الأحزاب , فلعل هذه الحركة تكون بمثابة ضغط على الزعماء ليقبلوا الائتلاف , فاستحسن حافظ باشا الفكرة و وضعت صيغة النداء فوافق عليها .

و نشر في الصحف (الأهرام 28 نوفمبر سنة 1935 ) و هذا نصه :

نداء إلى الأمة

" سعينا و لا نزال نسعى إلى توحيد الكلمة و ضم الصفوف و ائتلاف الأحزاب ما استطعنا إلى ذلك سبيلا , و غايتنا أن تتحد الجبهة القومية و تتغلب الأمة على العدوان المستمر على حقوق مصر , و لئن اعترضنا في الطريق عقبات فإن ذلك لا يثنينا عن متابعة السعي فيما نحن بسبيله , فإن المهمة التي نسعى لها مهمة دقيقة تحتاج إلى مواصلة الجهود في غير ملل و لا هوادة .

" و يقيننا أن كل ما يبذل لها من سعي و ما تحتاج إليه من وقت ليس عبثا ضائعا فإن اتحاد الجبهة هو الأداة الأولى للكفاح الوطني و بخاصة في الظروف العصيبة التي تجتازها البلاد الآن , و ليس السبيل إلى نجاح هذه المهمة التراشق بالسهام و استثارة الضغائن و الأحقاد بل نحن أحوج ما نكون إلى ضبط النفس لكي نستخلص الوحدة القومية من بين الأشواك و العقبات التي تكتنفها . من أجل ذلك جئنا نناشد الأحزاب أن تتجاوز عما يستثير غضبها نت قوارص الكلم و أن نقابل ذلك بالحلم و سعة الصدر , لا سيما و أن غضبها من قوارص الكلم و أن نقابل ذلك بالحلم و سعة الصدر , لا سيما و أن الفوارق بين الأحزاب لا يقام لها وزن بجانب الغاية التي نسعى إليها . و نهيب بالأمة أن تعاوننا في تحقيق هذه المهمة , و أن تشترك عمليا في نجاحها بأن تتضافر طوائفها و جماعاتها و نقاباتها و أفرادها على اختلاف مراكزهم و مشاربهم للاعراب عن إرادتهم في توحيد جبهة الجهاد .

" و لا ريب عندنا أنه إذا أجمعت الأمة كلمتها و أظهرت إرادتها واضحة جلية في ضرورة توحيد الصفوف فإن الأحزاب على الرغم من مظاهر الخلاف بينها تقدر روعة هذه الإرادة و تنزل على رغبة الأمة التي تنطق باسمها و تستمد منها سلطانها .

" هذا هو واجب كل وطني صادق , و تلك سبيلنا دعونا و ندعو إليها "

" فليؤد كل منا واجبه , و ليوجه جهوده إلى تلك الغاية , و الله ولي التوفيق "

حافظ رمضان

عبد الرحمن الرافعي


النحاس يعود فيقبل الائتلاف

استمرت مساعي الطوائف و الشخصيات البارزة لتوحيد الصفوف , إلى أن كان يوم 9 ديسمبر فكلمني بالتليفون الأستاذ مكرم عبيد ( باشا ) سكرتير الوفد المصري و صاحب الكلمة النافذة فيه وقتئذ , كما كلم حافظ رمضان باشا و قال لي أبشركم بأن فكرة ائتلاف الأحزاب قد لقيت أخيرا النجاح و أنتما مدعوان باكر لحضور اجتماع زعماء الأحزاب بدار دولة مصطفى النحاس باشا بمصر الجديدة لتأليف الجبهة الوطنية الممثلة للأحزاب , فأغتبطت لهذه البشرى , و آملت من وراء هذا الاجتماع خيرا كبيرا .

تألفت الجبهة الوطنية في ديسمبر سنة 1935 من الوفد المصري , و الحزب الوطني , و حزب الأحرار الدستوريين , و حزب الشعب , و حزب الاتحاد , أي جميع الأحزاب القائمة في ذلك الحين , و من المستقلين , و قد قوبل تأليفها بابتهاج عظيم من الأمة .

و أخذت توالي اجتماعاتها في شهر ديسمبر و يناير بدار النحاس باشا بمصر الجديدة , و كانوا ممثلو الأحزاب في هذه الاجتماعات هم : مصطفى النحاس , أحمد ماهر , مكرم عبيد عن الوفد المصري , حافظ رمضان و أنا عن الحزب الوطني , محمد محمود عن حزب الأحرار الستوريين , إسماعيل صدقي عن حزب الشعب , حلمي عيسى عن حزب الاتحاد , ثم حمد الباسل , علي الشمسي , حافظ عفيفي , عبد الفتاح يحيى عن المستقلين .

و يلاحظ أن الحزب الوطني ميز عن الأحزاب الأخرى( عدا الوفد ) فقد كان له ممثلان في الجبهة , في حين أن لكل حزب آخر ممثلا واحدا , و كان هذا التمييز تقديرا لحسن بلائه في سبيل الائتلاف و جهاده الماضي الطويل .

تألفت الجبهة الوطنية على أساس إعادة دستور سنة 1923 , ثم على أساس آخر انفصل فيه الحزب الوطني عن الأحزاب الأخرى مع بقائه في الجبهة ركنا من أركان الائتلاف و هو العمل على عقد معاهدة بين مصر و انجلترا طبقا لنصوص المشروع الذي انتهت إليه مفاوضات النحاس – هندرسن في ربيع سنة 1930.

و اختيرت لجنة تحرير لوضع صيغة الكتاب الذي اتفقت الجبهة على رفعه إلى الملك فؤاد بإعادة دستور سنة 1923 , و قد اجتمعت هذه اللجنة يوم الأربعاء 11 ديسمبر سنة 1935 بنادي المحامين ( بشارع فؤاد وقتئذ ) و كانت مؤلفة كما يأتي : مكرم عبيد عن الوفد , و أنا عن الحزب الوطني , و محمد حسين هيكل عن حزب الأحرار الدستوريين , و أحمد كامل عن حزب الشعب , و حلمي عيسى عن حزب الاتحاد .

و لما فرغت اللجنة من تحرير الكتاب عقدت اجتماعا آخر لوضع صيغة الكتاب المزمع رفعه إلى السير مايلز لا مبسون ( لورد كيلرن) المندوب السامي البريطاني للمفاوضة في عقد المعاهدة , و قد انفصلت عنها في هذا الاجتماع و لم أشترك فيه تنفيذا لما اتفقنا عليه في الحزب الوطني من عدم الاشتراك في خطاب الجبهة الخاص بالمفاوضة . و في يوم 12 ديسمبر وقع رؤساء الأحزاب و المستقلون على كتاب الجبهة إلى الملك و رفع إليه و تسلمه علي ماهر باشا رئيس الديوان الملكي وقتئذ , و في ذات اليوم صدر المرسوم الملكي بعودة دستور سنة 1923 , و جرت الانتخابات العامة لمجلسي النواب و الشيوخ في مايو سنة 1936 .

إقصائي عن الحياة البرلمانية مرة أخرى

أشرت في مقدمة هذه النبذة إلى أني خرجت من مسعاي في ائتلاف سنة 1935 كما خرجت من ائتلاف سنة 1925 , بصفقة المغبون , و هاك تفصيل ما حدث ليفي سنة 1935 .

لما جاء توزيع المقاعد البرلمانية , و كانت كصيرة لأنها شملت مجلس النواب و مجلس الشيوخ كله من منتخبين و معيين , كنت العضو الوحيد في الجبهة الوطنية الذي لم ينل مقعدا لا في مجلس النواب و لا في مجلس الشيوخ !! و لم يتركوا لي دائرة أو مقعدا في كليهما , في حين أن الوفد جامل الأحزاب الأخرى المؤيدة للمفاوضة و المعاهدة في التعيينات لمجلس الشيوخ فخص كل حزب منها بأربعة مقاعد من مقاعد الشيوخ المعينين واحد ناله طبعا رئيس الحزب , و بذلك أقصيت من الميدان حين جاء توزيع المقاعد , تماما مثل ما حدث لي سنة 1926 , و التاريخ يعيد نفسه !

و كان غرض الوفد من السخاء على الأحزاب الأخرى ( على خلاف عادته ) بهذه الأربعة المقاعد لكل منها أن يضمن موافقتها له على ابرام المعاهدة التي كانت المفاوضات جارية بشأنها و عدم معارضتها في البرلمان , لأن الحكومة البريطانية كانت تشترط لعقد المعاهدة أن تتفق عليها الأحزاب كلها ( ما عدا الحزب الوطني طبعا ) , و لعل هذا هو ما جعل الوفد يقصيني عن البرلمان سنة 1936 كما أقصاني عنه سنة 1926 . هذا و لمناسبة خروجي بصفقة المغبون من مسعاي في ائتلاف سنة 1925 و ائتلاف سنة 1935 , يحق لي أن أقول إني مغبون في قومي , هذا على الأقل شعوري سنة 1936 .

حرمت طيلة حياتي من معاونة الغير لي , لم أجد معاونة لي في أعمالي و مشروعاتي و منهجي في الحياة , لا من المجتمع , و لا من الحكومات , و لا من الهيئات , و لا من الأفراد ( إلا قليلا منهم ) , كل كفاحي أو معظمه كان يسير بلا سند إلا من معونة الله , لم أنل من المجتمع , و لا من الحكومات أي علامة تقديرا لأعمالي , لا أقول هذا طعنا في المجتمع , بل تقريرا للواقع ,, و تحدثا بنعمة الله , نعمة الصبر , و يلزمني أن أعترف بأنني , إلى جانب حرماني من التقدير , واجهت عقبات و تنكرا وجحودا من هنا و من هناك , و علام كل هذا ؟ لا أردي إذا كنت على حق يتنكر له الناس , أم على باطل يتولى الناس تقويمه , على كل حال إن اعتقادي أنني على حق و أنني كنت مغبونا في قومي , قد أكون مخطئا في اعتقادي , و لكنهم يقولون : لكل مجتهد نصيب , إن أخطأ فله أجر و إذا أصاب فله أجران .

أستطيع أن أقول إني دائن للناس لا مدين لهم , أنا لا أحاسب المجتمع على ذلك , بل إني لمغتبط أن ينتهي بي المطاف أن أكون دائنا لا مدينا , أليس من قواعد المثالية أن يضحي الإنسان للمجتمع ؟ فهأنذا أؤدي ضريبة التضحية على أوسع نطاق , فلماذا أغضب و لماذا أحنق ؟ و في الواقع إن الأمم لا تنهض إلا بمن يضحون من أجلها , و لكن لا ريب أيضا أن الأمة التي تبخس المواطنين و المجاهدين أقدارهم تخذل في نفوس الناس روح الإخلاص في خدمتها , لأن الناس ليسوا في الغالب ملائكة يحتملون هذه المعاملة , و لعل هذا الخذلان من أهم أسباب تأخر الأمم الشرقية .

معارضتي لمعهادة سنة [[1936]

أحاط الوفد معاهدة 26 أغسطس سنة 1936 بدعاية واسعة النطاق , صاخبة الأساليب , فأكثر من رسائل التأييد و التحبيذ لها , و أقام الحفلات و المظاهرات ابتهاجا بها , و عدها فتحا مبينا , و قال عنها النخاس قولته المشهورة التي اتخذت حجة على مصر في مجلس الأمن سنة 1947 و هي أنها " وثيقة الشرف و الإستقلال " . و استقبل عند عودته من لندن استقبال الغزاة الفاتحين ! فكان هذا الاستقبال وسيلة من وسائل التضليل و الدعاية للمعاهدة التي أقرت الاحتلال الأجنبي في البلاد و أقرت فصل السودان عمليا عن مصر .

كانت مهمة المعارضة بالنسبة لهذه المعاهدة مهمة شاقة شائكة , إذ كيف يسمع للمعارضين صوت في هذا الجو الصاخب المملوء بدعايات المغالطة و التمويه , و بمظاهرة الطبل و الزمر ؟

على أنني بعد أن قرأت نصوص المعاهدة و درستها و فهمتها على وجهها الصحيح , وجدت أنه لا يجوز السكوت على تضليل الأمة إلى هذا الحد , و إن علينا أن نجهر برأينا في حقيقة المعاهدة سواء أسمع أم لم يسمع , و لئن لم يسمع في حينه فلا بد أن يأتي يوم تظهر فيه حقيقته و وجاهته .

فبادرت بوضع بحث مفصل في مساوئ المعاهدة و إظهارها على حقيقتها , و جعلت عنوان البحث ( استقلال أم حماية ) و عرضته على المرحوم أنطون بك الجميل (باشا) رئيس تحرير الأهرام لينشره في الأهرام , و كتبت له جوابا خاصا بأن من حقنا على الأهرام أن تنشر رأينا كمعارضين إلى جانب رأي المروجين و المحبذين , فلم يتردد رحمه الله في الاستجابة إلى طلبي , و نشر رسالتي كاملة في عد 26 سبتمبر سنة 1936 , و قد استغرقت أكثر من صحيفيتين كاملتين من الأهرام , فكانت أول صوت للمعارضة ارتفع بالطعن في المعاهدة بعد توقيعها , و قد بدأت بقولي :

" الآن و قد نشرت نصوص المعاهدة و انقضت فترة كافية لمن أرادوا الابتهاج بها , يجب على الأمة أن تبحثها و تفهمها على حقيقتها , لأنها لا ترتبط بحقوق الأفراد وحدهم , بل تتعلق بحقوق الوطن , في حاضره و مستقبله , و لا تقتصر نتائجها على الجيل الحاضر فحسب بل تتعدى إلى الأجيال المقبلة , و إذا كانت عقود التصرفات بين الأفراد كالبيع و الإيجار و الرهن و ما إلى ذلك لا يبرمها أصحاب الشأن فيها إلا بعد بحثها و تمحيصها و إمعان النظر في شروطها و محتوياتها , فأجدر بالعقود التي يرتبط بها مصير أمة أن تكون موضع الدرس و العناية من طبقات الأمة كافة حتى يتبين أي مصير هي قادمة عليه إذا هي قبلت المعاهدة ؟.

و قد كان لنشر رسالتي في الأهرام صدى بعيد في الرأي العام , و انبرى مروو المعاهدة و مؤيدها للرد عليها في الأهرام و غير الأهرام , و لكن لا أظن أنهم استطاعوا أن يزيلوا تأثير ما احتوت عليه من الحجج و الأدلة المنطقية القوية , و قد لاقت الرسالة اهتماما كبيرا حتى اضطرت إلى طبعها على حدة بعد نشرها في الأهرام , و كنت أوزعها مجانا لمن يطلبها , و قد وقعتها بصفتي سكرتيرا للحزب الوطني , فكانت معبرة عن رأي الحزب في رفض المعاهدة , و أعلن رئيس الحزب و أعضاؤه البارزون بحوثهمو آراءهم و كلها متفقة على رفض المعاهدة .


عودتي إلى الحياة البرلمانية 1939-1951

إن القدر وحده هو الذي أعادني إلى الحياة البرلمانية سنة 1939 بعد أن أقصتني عنها الحزبية الوفدية نيفا و ثلاث عشرة سنة .

في سبتمبر من تلك السنة توفى المرحوم محمد محمد الشناوي بك عضو مجلس الشيوخ عن دائرة كفر بدواي بمديرية الدقهلية , و هي تضم بلادا من مركز المنصورة و مركز فارسكور و تمتد إلى شطوط دمياط , و أهل هذه البلاد يعرفونني حق المعرفة , و يذكرون مواقفي في مجلس النواب الأول و الذي يليه , و كثيرون منهم كانوا يتوقون إلى أن أعود إلى الحياة البرلمانية سواء في مجلس النواب أو في مجلس الشيوخ , و كان الوفد قد قرر عدم الترشيح للمراكز التي تخلو وقتئذ في البرلمان بحجة تدخل الحكومة في انتخابات سنة 1938 , و هذا القرار لم يكن له مدى زمني معلوم , و على أنني قد أعربت لاخوة الشناوي بك عن رغبتي في ترشيح نفسي لهذه الدائرة و سألتهم هل أحد منهم يرغب في الترشيح لها , فأجابوني بالسلب , فاستخرت الله و اعتزمت ترشيح نفسي لهذه الدائرة , و قدمت أوراق ترشيحي بمديرية الدقهلية يوم 14 أكتوبر سنة 1939 , و لكن سرعان ما ظهر لي منافس من حزب الأحرار الدستوريين الذين كانوا أصحاب الغالبية في انتخابات سنة 1938 , و أعرب عن رغبته في ترشيح نفسه , و أيده حزبه في ذلك , و من حسن الظن أن حزبه كان قد ترك الحكم قبيل ذلك إذ استقال محمد محمود باشا أو طلب إليه أن يستقيل في سبتمبر سنة 1939 , و تولى الوزارة على ماهر باشا و لم يشترك فيها حزب الأحرار الدستوريين , على أنهم بوصف كونهم أصحابا لغالبية في مجلس النواب كان لهم صوت مسموع في الحكومة , و قد أرادوا أن يرشحوا واحدا منهم لهذه الدائرة التي خلت , ليزيدزا من عدد ممثليهم في مجلس اشليوخ .

و لكن أعيان المنطقة وقفوا بجانبي موقفا مشرفا كان له أثره في نجاحي بالتزكية , ذلك أنهم صارحوا عبد الجليل أبو سمرة باشا بأنهم مع صداقتهم له و لعائلة أبو سعدة ( عائلة المرشح الدستوري ) و عائلة أبو سمرة فإنهم لا يمكن أن يؤثروات مرشح الأحرار الدستوريين على و لابد أنهم سيكونون في صفي ‘ذا حصلت المزاحمة بيننا , فاستجاب عبد الجليل باشا إلى ندائهم , و ارتضى أن يقنع قريبه بتنازله عن التقدم للترشيح , و لم يرض هذا الموقف زعماء الحزب في مصر , ولاموا عبد الجليل باشا على تسببه في خسارة الدائرة و تضييعها على حزبهم ! فاعتذر بأن أقرباءه و أصدقاءه في النتطقة أصروا على خذلان مرشحهم إذا هو تقدم ضدي , فسكتوا على مضض , و من ثم لم يتقدم ضدي أي مرشح آخر و انتهت العشرة أيام المحددة للترشيح بسلام , و بذلك صرت عضوا في مجلس الشيوخ منذ الساعة الخامسة من مساء يوم الأحد 22 أكتوبر سنة 1939 .

و من الحق في هذا المقام أن أنوه بفضل علي ماهر باشا في نجاحي , فأنه رحب بترشيحي ترحيبا حارا , و كان وقتئذ رئيسا للوزارة , فكان لترحيبه صداه في رجال الإدارة , كما كان له أثره في تسهيل انسحاب مزاحمي الدستوري ,إذ قطع أمل من مساعدة الإدارة له .

عدت إذن إلى الحياة البرلمانية و انتظمت في صفوف المعارضين , و كان الوفد يومئذ في المعارضة يشغل مقاعدها في مجلس الشيوخ , و كان له عدد وافر فيها , بخلاف مجلس النواب , و قد تضامنت معهم ( عن عقيدة ) في المعارضة , و في خطبتي الأولى التي ألقيتها في المجلس بجلسة 11 سبتمبر سنة 1939 لمناسبة الرد على خطاب العرش نوهت إلى أنهم فيما مضى سنة 1924 كانوا لا ينظرون بعين الارتياح إلى مواقفنا كمعارضين , و ها قد دارت الأيام فجمعتنا صفوف المعارضة , و كانت خطبتي تحمل في طياتها معنى معاتبتي على محاربتهم لي فيا لماضي , قلت في هذا الصدد ما يأتي :

" زملائي الأعزاء : أرجو أن تسمحوا لي و أنا أقف بينكم لأول مرة أن أرجع قليلا إلى ذكريات الماضي , لقد كنت عضوا في مجلس النواب الأول سنة 1924 , و وقفت مثل هذا الموقف مبديا آرائي و ملاحظاتي على خطاب العرش , و قد ألقاه وقتئذ المغفور له سعد زغلول باشا , و كانت الحياة البرلمانية في مستهل عهدها , و تقاليدها جديدة علينا , ففكرت مليا مع طائفة عزيزة من النواب في أي خطة نسلكها في البرلمان , فاتفقنا على أن تكون خطتنا هي الدفاع عن المبادئ التي نؤمن بها و التي صارت جزءا من حياتنا السياسية , و أن نؤيد الوزارة في كل ما يتفق و هذه المبادئ و في كل ما تعمل لصالح البلاد , و أن ننقدها بالرفق و اللين فيما نعتقد أنها أحخطأت فيه , و قد اصطلح الناس على تسمية هذه الخطة بالمعارضة , فرضينا بهذه التسمية , إذ جعلناها خلصة لوجه الله تعالى و الوطن , و دار الجدل الطويل وقتئذ على المعارضة في ذاتها , هل هي لازمة أم غير لازمة , نافعة أم ضارة , ثم جاءت انتخابات سنة 1925 لمجلس النواب الثاني , فانتخبت فيه و لكن لم يطل عهده كما تعلمون ثم انقطعت صلتي بالحياة البرلمانية من الناحية الرسمية , مع استمرارها من الناحية الروحية و الفكرية , إلى أن انتخبت في أكتوبر الماضي عضوا بمجلسكم الموقر , فلما زرت معاهد البرلمان لأرى مدى التغييرات التي طرأت عليها في خلال هذه السنين رأيت الأوضاع هي هي , غير أني لاحظت أن قاعة فخمة أعدت للمعارضة في مجلس الشيوخ , و هذا هو الشيء الجديد , و هكذا بعد أن كانت فكرة المعارضة موضع القيل و القال , و الجدل و الحوار صارت نظاما مستقرا معترفا به من الجميع , و قد زادني هذا التطور اعتقادا بأننا كنا على حق سنة 1924 و سنة 1925 , و أن المعارضة ما دامت تنشد الحق و المصلحة الوطنية هي ركن من أركان الحياة النيابية , وهي خير معوان للحكومة فيما تضطلع به من الأعياء الجسام .

ثم حملت على معاهدة سنة 1936 و ذكرت إهدارها للجلاء , و إقرارها الوضع الباطل في السودان و قلت فيما قلت :" أنا لست فيما أقول نظريا , بل إني أستلهم آرائي من المشاهدات الدولية التي نراها كل يوم ,فالذي نشاهده أن معاهدات التحالف أو الصداقة أو مواثيق الضمان بين انجلترا و غيرنا من الدول التي تربطها بها المصالح المشتركة قائمة على أساس عدم وجود قوات حربية بريطانية مستديمة في تلك البلاد , فتطبيق هذه القاعدة يقتضي أن يكون الجلاء هو أساس التحالف و التعاون بيننا و بن بريطانيا , لقد تعاهدت بريطانيا مع تركيا كما تعهدت لليونان و رومانيا و غيرها بمساعدتها في رد أي اعتداء عليها , و مع ذلك لم يكن في أي عهد لها مع هذه الدول وجود قوات حربية بريطانية مستديمة في أراضيها , غير خاف أن اليونان ليست أكثر منا قوة و لا أعز نفرا , و لا هي أقل استهدافا لخطر الغزو الخارجي , و مع ذلك لم يقل أحد أن درء هذا الخطر يكون بوجود قوات مستديمة لبريطانيا فيها ,و لا يمكننا و نحن من المؤمنينبمبدأ الجلا – أن نقر الوضع الحالي للتحالف و كذلك لا نقر الوضع الحالي للسودان كما هو وارد في المعاهدة , إن الأساس الصحيح للتعاون بين الدول التي تحرتم استقلالها هو ما صرح به المستر تشمبرلين في مجلس العموم البريطاني يوم 12 إبريل الماضي 1939 إذ قال إن كل عمل يهدد استقلال اليومان و رومانيا و ترى اليونان أو رومانيا أن مصلحتها الحيوية تقتضي عليها بمقاومته بقواها الوطنية هو عمل يلزم الحكومة البريطانية بأن تقدم في الحال المساعدة للحكومة اليوناينة أو الحكومة الرومانية , هذا ألأساس هو الذي نريده و نبغيه ".

ثم تكلمت من الناحية الداخلية الداخلية على " وجوب تقوية الجيش و ربط النهضة الحربية بالنهضة الاقتصادية و أن من أولى مظاهر هذا الارتباط أن يستوفي الجيش جميع حاجاته من ملبس و مأكل و أسلحة و مدافع و مهمات و ذخائر من موارد البلاد , و بذلك يتم للجيش الطابع القومي طابع الاستقلال و الكرامة و تنشأ في البلاد صناعات حربية و غير حربية تتسع بها آفاق النهضة الاقتصادية و تجد الأيدي العاملة المديرة مجالا جديدا للعمل و الانتاج, و بهذه الوسيلة تكون ملايين الجنيهات التي يقتضيها الدفاع الوطني بمثابة رؤوس أموال تستثمر في البلاد و تزيد من رخائها و ثروتها و لا تكون نفقات الدفاع و تكاليفه عبثا في الميزانية و على البلاد كما يتوهم البعض , بل تكون سببا لتقدمها الصناعي و العمراني , أو بعبارة أخرى يجب أن يتم الانسجام بين الدفاع الوطني و الاقتصاد القومي , و إني لأرجو أن تعني الوزارة بهذه الناحية كل العناية , و إذا كانت مصر في عهد محمد علي قد كفلت بمواردها و مصانعها حاجات الجيش بأكملها فأولى بها و قد خطت في ميادين العلم و التقدم هذه الخطوات الواسعة أن تكفل حاجات جيشها بنفس هذه الطريقة " .

ثم تحدثت عن التعاون حديثا طويلا و دعوة الوزارة إلى العناية به . و إذا كان كلامي عن معاهدة سنة 1936 طعنا في مشروعيتها و صحتها فقد انبرى لي أحد الشيوخ الوافدين في الجلسة مدافعا عنها و قال : ( أنه لا يصلح أن نتجاهل الحقائق , و يكفي ( في نظره) أن يعترف لأجنبي في المعاهدة بأن احتلاله انتهى و أنه بعد عشرين سنة نقوي فيها جيشنا و نستطيع بعدها أن نحافظ على قناة السويس التي هي مهمة لنا و مهة له ( كذا ) يكفي أن يخرج حين إذا من البلاد بلا رجعة . و إذا قال هذا الأجنبي ساعتئذ ( أي سنة 1956) لا , أمكننا أن نحتكم في هذا الأمر إلى عصبة الأمم , و كلام حضرة الزميل المحترم (مشيرا إلي ) رجوع إلى الماضي و اعتراض على معاهدة نظرتها الأحزاب كلها في جبهة محدودة و من أجل هذا سميت وثبقة الشرف و الاستقلال و لم يكن في الإمكان الحصول على أفضل مما حصلنا , و مع هذا فيمكن أن نحصل على خير من هذا بفضل جهود المصريين و ما يعملونه في تأييد الحليفة و في العمل المجدي المشترك معها و هو الانتصار للديمقراطية ) .

و كان كلام حضرة الزميل الوفدي انتصارا لانجلترا و ابرازا للتمسك بالعاهدة دون أي مقتض .

معاهدة سنة 1936 و مناداتي ببطلانها في البرلمان

كان حديثي عن معاهدة سنة 1936 في مجلس الشيوخ أول حملة برلمانية على مشروعية المعاهد بعد إبرامها , حقا إنها كانت موضع الطعن و الحملات عليها من المعارضين أثناء عرضها على البرلمان , و لكن بعد أن قرر البرلمان قبولها هدأت الحملة عليها مؤقتا بوصف أنها صارت قانونا من قوانين الدولة . و قد تابعت الحملة على المعاهدة في مختلف المناسبات . ففي جلسة 12 يونيه سنة 1940 في عهد وزارة علي باشا ماهر تناقش المجلس في موقف مصر بعد دخول إيطاليا الحرب , و استمع في جلسة سرية إلى بيان رئيس الوزراء و مناقشات الأعضاء , و أصدر بجلسة علنية القرار الآتي :

" بعد سماع البيان الذي ألقاه حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء يقرر المجلس تأييده لهذا البيان كما يؤيد استمرار الحكومة في تقديم أكبر معونة ممكنة للحليفة في دفاعها عن الحق و الحرية في حدود معاهدة الصداقة و التحالف "

فأعترضت على الشطر الأخير من القرار , و أثبت اعتراضي عليه بالجلسة , و أعلنت عدم موافقتي عليه . و لما استقالت وزارة علي باشا ماهر في يونيه سنة 1940 على أثر التدخل البريطاني و تألفت وزارة حسن صبري باشا نوقش بيانها الوزاري بجلسة 4 يوليو سنة 1940 و وقفت منها موقف المعارضة , و بنيت معارضتي على أنها جاءت في أعقاب تدخل أجنبي اضطر الوزارة السابقة ( وزارة علي ماهر ) إلى الاستقالة و أنها أعلنت في بيانها أن علاقة مصر ببيرطانيا سيكون أساسها تنفيذ معاهدة سنة 1936 بروحها و نصها و قلت في هذه الجلسة : ( أن تأييد الوزارات أو عدم تأييدها يرجع إلى أمرين : أولاهما الملابسات و الظروف التي تألفت فيها الوزارة , و ثانيهما مناهجها و مبادئها ) .

و بعد أن شرحت كيف أن استقالة الوزارة السابقة كانت نتيجة تدخل أجنبي , عرجت على الأمر الثاني و قلت : ( و من ناحية أخرى فأنا لا أؤيد الوزارة لأنها تقوم على أساس يخالف مبدأئي بصفتي عضوا فيا لحزب الوطني , و لا شك أن حضراتكم تعلمون رأيينا في معاهدة التحالف التي أبرمت سنة 1936 , و تعلمون وجهة نظرنا في العلاقات التي يجب أن تكون بين مصر و بريطانيا العظمى , فالعلاقة التي يجب أن تكون بين البلدين يجب أن يكون أساسها الجلاء الذي طالما دعونا و مازلنا ندعو إليه و ننادي به طوال السنين , و لذلك لا يمكن و نحن دعاة هذا المبدأ القويم أن نؤيد وزارة تقوم على غير هذا الأساس ) .

و هنا أراد رئيس الجلسة ( سليمان باشا السيد سليمان وكيل المجلس ) أن لا استرسل في هذا الحديث قائلا : " أرجو حضرة الشيخ اللمحترم أن لا يخرج الموضوع و أن يقصر كلامه على بيان الوزارة "

فقلت : " إني أتلكلم في بيان الوزارة الذي جاء فيه أن علاقتنا و بيريطانيا العظمى سيكون أساسها تنفيذ معاهدة التحالف و الصداقة بروحها و نصها , و هذا الأساس لا نقره بحال ) .

و عندئذ تدخل حسن صبري باشا رئيس الوزارة قائلا : " لقد أقسمت حضرة الشيخ المحترم على احترام قوانين البلاد , و معاهدة الصداقة صدر بها قانون يجب احترامه " .

فأجبته : " أنا لا أزال متمسكا برأيي . و لقد كنت دائما ممن عارضوا معاهدة الصداقة و التحالف , و الأحزاب و الجماعات تطالب الآن ( 1940) بالجلاء و هو الرأي الذي طالما نادى به الحزب الوطني من قديم و حققت الأيام صحته , فلا يليق بنا في الوقت الذي اتفقت فيه الأحزاب و الجماعات على صحة هذا المبدأ و قامت تطالب بالجلاء , أن نتخلى عنه , و لا يتفق مع مبادئ الحزب الوطني أن نؤيد وزارة تقوم على يغر هذا الأساس " ثم عاد رئيس الوزارة يجابهني باليمين التي أقسمتها قائلا : و ماذا يقول حضرة الشيخ المحترم في الييمن التي أقسمتها على احترام قوانين البلاد ؟

و هنا تدخل المرحوم الاستاذ يوسف الجندي ( و كان بينه و بيني ود متبادل ) و رد على اعتراض رئيس الوزارة قائلا:" أن القسم على اجترام قوانين البلاد أي عضو من انتقاد قانون ما أو طلب تعديله " و قلت معقبا : " نعم , و لي أن أعترض على أي قانون و أطلب تعديله أو إلغاؤه " . ثم قلت مخاطبا الأعضاء :" إخواني الأعزاي إن المبادئ التي يدين بها الحزب الوطني و التي أثبتت الأيام صحتها هي ذلك التراث الوطني المقدس الذي تلقيناه عن أسلافنا العظام , فلا يجوز لنا أن نتنازل عنها أو نتراخى في التمسك بها " , و انتهت المناقشة عند هذا الحد .

و لما ناقش المجلس جلسة 31 ديسمبر سنة 1940 خطاب العرش على عهد وزارة حسين سري باشا لم أقر مشروع لجنة الرد على الخطاب , و قد حصلت المناقشة في جلسة سرية و أبديت وجهة نظري في بطلان المعاهدة عندما عرض مشروع اللجنة لأخذ الرأي عنهم بالجلسة العلنية لم أوافق عليه , و قلت ما نصه : " الأسباب التي أبديتها لا أوافق على مشروع الرد المقدم من اللجنة " .

و خلاصة هذه الأسباب ( و هي مدونة تفصيلا في محضر الجلسة السرية ) أن خطاب العرش و مشروع الرد عليه كما وضعته اللجنة يحتويان على إقرار الأساس ( أساس المعاهدة ) الذي يتنافى مع الاستقلال و من ثم لا أوافق على الخطاب و لا مشروع الرد عليه , و قلت في تأييد وجهة نظري: " لقد اعترضنا كثيرا على أساس التحالف بين مصر و بيريطانيا كما ورد في معاهدة سنة 1936 فكانوا يقولون عنا أننا متطرفون أو متطيرون , و ها هي الحوادث تنطق بأننا كنا معتدلين فيما قلنا و توقعناه , و لا أدري ما هي مصلحة البلد في كتمان الحقائق عنها أو تصوير الأمور على غير حقيقتها إن الوضع الصحيح للتحالف أو التعاون إن هو ما نراه بين بريطانيا و اليونان نريد أن يعاملونا كما يعاملوا اليونان قديما و حديثا , لقد ساعدوها على استرداد استقلالها منذ نيف و مائة عام و تركوها طول هذه المدة مستقلة استقلاتلا صحيحا تركوها تعتمد على نفسها و تألف جيشها و أسطولها , تركوها تقوى و تنمو و تنهض , و ساعدوها على توسيع أملاكها و كانوا كلما تعرض استقلالها للخطر هبوا لنجدتها و حاربوا من أجلها و مع ذلك لم يكن من شروط التحالف أو التعاون بينهما قديما أو حديثا أن يكون لانجلترا في أي جزء من الأراضي اليونان قوات حربية مستديمة في حالتي الحرب و السلم كما هو الحال عندنا , و لا أن تقتسم و إياها سيادة و تستأثر بالحكم في أي جزء من بلادها كما هو الحال في السودان , فهذا النوع من التحالف أو التعاون , هذا النوع السليم الصحيح , هو الذي أنتج دولة قوية هبت للدفاع عن الذمار ضد الغزو الايطالي , لأنها تعتقد حقا أنها تدافع عن الاستقلال لا عن الاحتلال .

" أن لا أتصور استقلال بغير الجلاء و لا أتصور احتلال مهما كان شكله بغير تبعية , و لا أتصور تحالفا بين دولتين مستقلين يقوم على غير أساس الجلاء , إلا إذا تنازلت إحداهما عن الجلاء , أو عن جهر الاستقلال , هذه هي الحقائق , هذه هي المسميات أما الأسماء فما أكثرها ( إن هي إلا أسماء سميتموها ) " .

و عندما نظر المجلس بجلسة 17 فبراير سنة 1941 ( في عهد وزارة حسين سري باشا أيضا ) استجواب حافظ رمضان باشا في الاعتراض على تصريح المستر تشرشل الذي ألقاه في ديسمبر عام 1939 و أخذ فيه على ايطاليا أنها هاجمت مصر و هي ( تحت الحماية البريطانية ) قلت في هذا الاستجواب " يهمني أن أبين بحضراتكم وجهة نظر الحزب الوطني في هذا الموضوع , و لا أريد أن أكرر ما قلت في الجلسة السرية التي عقدت في الشهر الماضي , بل أقرر أني اعترضت بكل قواي على تصريح النستر تشرشل , و الذي أريد أن أقرره الآن أن اعتراضي على هذا التصريح ينطوي أيضا على اعتراضي على المعاهدة لأنها تتنافى مع الجلاء و هو من المبادئ الأساسية للحزب الوطني لا تقر المعاهدة لأنها تتنافى مع الجلاء و هو من المبادئ الأساسية للحزب الوطني كما تتنافى مع ارتباط السودان بمصر ارتباطا لا يقبل التجزئة , لهذا نحن نعترض على التصريح و على التفسير الذي لابسه و قد رفضنا المعاهدة و تنفيذها , و قد كان موقف الحزب الوطني موقف المعارضة من كل الوزارات التي قامت على تنفيذ المعاهدة "

و بجلسة 3 يونيه سنة 1942 التي نوقش فيها خطاب العرش على عهد وزارة النحاس حدثت مناقشة طويلة بيني و بين رئيس المجلس ( علي زكي العرابي باشا ) و وزير العدل ( صبري أبو علم باشا ) في شأن المعاهدة و مشروعيتها .

فقد قلت ردا على خطاب العرش :" إن خطاب العرش قد أغفل – و بعبارة أصح أهدر – نقطتين جوهرتيتين فيما يتعلق بالسياسة العامة للدولة , الأولى خاصة بالجلاء , و الثانية خاصة بالسودان , و إني ألاحظ دائما على خطب العرش ظاهرة تستوقف النظر , هي أن كل خطاب عرش لا يخلو من التنويه بأن الوضع الحالي للبلاد و الذي يجب أن تقوم عليه حكومة هو معاهدة التحالف و الصداقة المبرمة سنة 1936 , مع أن لنا مندوحة في أن نتجاوز عن هذه النقطة , لأنها ليست نقطة جوهرية في خطاب العرش , و لا ضرورة لذكرها , و أول ما عترض عليه خطاب العرش ذكر هذا الوضع و أنا موقن أنه ينتقض ركنا جوهريا من أركان الاستقلال و السيادة العامة , و هو الركن الخاص بالجلاء , لا أقول هذا لمجرد الكلام في النظريات بل أذكره على أنه حقائق ثابتة يجب أن توضع موضع الاعتبار , لأننا إذا قارنا بين هذا الوضع الذي في مصر و وضع التحالف القائم بين بريطانيا العظمى و حلفائها مثل أمريكا و تركيا و اليونان و غيرهم فإننا لا نجد في أ] معاهدة من هذه المعاهدات نصا يبيح لها استدامة بقاء قواتها الحربية في بلاد حليفتها في أيام السلم و أيام الحرب كما هو الحال في مصر .

و هنا قاطعني رئيس المجلس ( علي زكي العرابي باشا ) قائلا :" هل يعترض حضرة الزميل المحترم على المعاهدة ؟" فأجبت قائلا :" لي هذا الحق , و أريد أن أنتقد السياسة العامة للحكومة , و إذا قيل لي بأن هذا يتعارض مع كونها أقرت بقانون فإني لا أوافقكم على اعتبارها قانونا , و مع ذلك فإن كل القوانين عرضة للمناقشة فيها في البرلمان تمهيدا لتعديلها أو إلغائها ".

فأغترض على أيضا صبري أبو علم باشا قائلا : إننا الآن في صدد مناقشة خطاب العرش لا في صدد الكلام عن المعاهدة .

فقلت : " إن موضوع كلامي في خطاب العرش ينصب على الجلاء و السودان و أرجو أن تتركوني أتكلم , لأني تكلمت في عهود سابقة عن هذا الموضوع و لم يعترض علي أحد , فلا يصح أن يضيق صدركم الآن بما لم يضق به صدر تلك العهود ".

و استمرت المناقشة من الجانبين سجالا إلى أن قلت : " أن الركن الثاني هو مسألة السودان , و هذ مسألة ليست بالهيئة , لأن السودان هو نصف المملكة المصرية , و رضاؤنا عن الوضع الحالي للسودان يعتبر منا إقرارا لسيطرة دولة أخرى على هذا النصف من المملكة و هو كما قلت مكمل لها ".

فقال رئيس المجلس مرة ثانية :" هل حضرة الزميل المحترم يعترض على المعاهدة و يرغب في تعديلها ؟".

فقلت :" أظن أن حضراتكم تعلمون رأيي في المعاهدة , فأنا لم أقبلها و لم أقرها فلا تحاجوني بالعاهدة ".

و قال صبري أبو علم :" إذا كان حضرة الزميل المحترم يريد أن يتكلم عن المعاهدة فالطريق الذي يجب أن يسلكه هو أن يقدم اقتراحا بما يريده , لأننا لو أبحنا المناقشة في المعاهدة في كل مناسبة لما انتهينا من ذلك ".

فأنبرى بهي الدين بركات باشا يدفع عني هذه المقاطعات و قال : إن " لكل نائب و لكل شيخ الحق كل الحق عند مناقشة خطاب العرش أن يدلي بما يعن له من الآراء و أن يناقش كل مسألة يريد أن يعرض لها , و أنا و إن كنت لا أوافق حضرة الزميل المحترم على بعض آرائه لكني أرى أن من حقه المطلق أن يعارض أية سياسة سواء كانت متعلقة بالمعاهدة أم غير متعلقة بها , " إلى أن قال :" أقول إنه لا حرج عليه في ذلك مطلقا , و يجب أن نصغي إليه و لا نقاطعه , لأن لكل أقلية حقوقا يجب أن تحرتم , إن النظام البرلماني لم يوجد إلا لكي يفسح المجال للأقليات ليكون لها صوت محترم , يسمع , لأن هذا هو أبرز فارق بين الحكم الديكتاتوري و الحكم الديمقراطي , أما القول بتقديس معاهدة أو تقديس رأي سياسي معين أيا كان فهذا ليس من النظم البرلمانية أو الديمقراطية في شيء و يجب أن يستعبد من الأذهان ".

و هنا عاد رئيس المجلس إلى الاعتراض قائلا :" إن المسألة ليست مسألة الكلام عن الأقلية أو الأغلبية , ولكن نحن في صدد مناقشة رأي في ذاته , و قد طلبت من حضرة الزميل المحترم أن يحدد رأيه : هل يريد الاعتراض على المعاهدة أوعلى تنفيذها , أو هل له رغبة في تعديلها ؟ طلبت منه أن يحدد أقواله بالدقة حتى حتى يتيسر لنا متابعة آرائه ".

فقلت :" أنا أعترض علي المعاهدة " .

و هنا قال قال صبري أبو علم  :" اعترضت و لا أزال أعترض على أن تدور المناقشة على أساس تجاهل معاهدة عقدناها و أقرها البرلمان لأنها تتضمن سياسة ارتبط بها شرف مصر ( تأمل !!) , أما أن تتخذ من خطاب العرش وسيلة للطعن على معاهدة أقررناها و متوجهة بإمضاء جلالة الملك فهذا الوضع لا يمكن أن تقره الحكومة , أما الاقتراح بالتعديل أو الالغاء فبابه مفتوح ".

و انتهيت من كلامي إلى أني لا أقر خطاب العرش و لا مشروع الرد عليه .

و كان موقف حكومة الوفد في هذه المناقشة موقف تأييد و دفاع و تدعيم للمعاهدة التي أهدرت الجلاء و وحدة وادي النيل .

و بجلسة 8 ديسمبر سنة 1942 لمناسبة الرد على خطاب العرش أيضا – في عهد الوزارة الوفدية – قلت في الرد على هذا الخطاب :

" أنتقل الآن إلى القسم الخارجي من خطاب العرش , إن نقطة الارتكاز فيه هي معاهدة سنة 1936 , و حضراتكم تعلمون وجهة نظر فيها , و هي أننا لم نقبلها و لم نقرها لأنها تتعارض مع الجلاء الذي هو أساس مبادئنا , و تتعارض مع ارتباط السودان بمصر , فتعارضها مع هذين المبدأين الأساسيين جعلنا نقف منها هذا الموقف , و الجلاء في نظرنا مرادف للاستقلال , و أرجو ألا يتطرق إلى بعض الأذهان أنني إذ أتكلم في هذه النقطة أنشد الخيال , لا يا حضرات الزملاء ! أنا أتكلم عن عقيدة و عن حقيقة ثابتة , و أضيف إلى ذلك أنكم أدرى بأن التطورات الدولية التي ستعقب هذه الحرب ستكون فيما يعتقد محققة لهذه المبادئ , كمبدأ الجلاء و وحدة وادي النيل الساسية و التاريخية و الجغرافية , و لا أخفي على حضراتكم أن من ضمن أسباب الحروب التي تشكو منها الانسانية نزعة الاستعمار , نزعة تغلب القوي على الضعيف , و هذه النزعة بدأ يظهر لها خصوم أقوياء في صفوف الديمقراطية , و هم يعتقدون بحق أن سلام العالم و راحته و طمأنينته لا تتحق إلا بالعدول عن هذه النزعة , لأن ما كان يصلح في القرنين السابع عشر و الثامن عشر لم يعد يصلح مطلقا لهذا العصر , بل إن هذه النزعة كانت سببا في تقليل السلام في العالم , فما علينا إلا أن نتمسك بمبدأ الجلاء و وحدة وادي النيل , و سيأتي اليوم الذي يتحقق فيه هذا المبدأ " .

و قلت يوم 29 ديسمبر سنة 1943 في جلسة الرد على خطاب العرش أيضا :

" لقد استوقف نظري في خطاب العرش ما جاء في ختامه من أن مصر أو الشعب المصري يحرص كل الحرص على أن يتمتع باستقلاله تاما كاملا لا تشوبه أية شائبة , و قد تساءلت عندما سمعت هذه الفقرة و تلوتها مرة أخرى في خطاب العرش , كيف يمكن أن يتحقق الاستقلال تاما لا تشوبه أية شائبة إلا إذا تحقق الجلاء " .

" يا حضرات الزملاء الأعزاء ! لقد دافعت غير مرة عن قضية الجلاء من فوق هذا المنبر , و أراني أشعر كل يوم أنا و زملائي أننا إنما ندافع عن قضية عادلة حقة , قضية هي لب الاستقلال و جوهره , و لا يمكن مطلقا أن بلدا من البلدان يتمتع باستقلاله تاما كاملا لا تشوبه أية شائبة إلا إذا تحقق الجلاء فعلا , و لا تظنوا أيها السادة أن مثل هذه الدعوة و المجاهرة بها تسيء إلى الصداقة بين مصر و بيريطانيا , فإن الصداقة الحقيقية هي التي تبني على الاحترام المتبادل للحقوق بين الأمم , و هذا هو الأساس الصحيح للصداقة بين الأمم , هذا هو الأساس الذي يجب أن يبني عليه نظام العالم الجديد " .

" و في الواقع , أيها السادة , إذا لم يكن قد حان وقت الجلاء منذ زمن و إذا لم يحن وقت الجلاء عندما يتقرر مصير الشعوب فمتى يحين ؟

" إذا رجعنا إلى كتاب المستر جلادستون الذي أرسله إلى المرحوم مصطفى كامل باشا سنة 1896 إننا نراه يقول فيه إن زمن الجلاء قد حان منذ سنين , فإذا كان هذا التصريح قد صدر سنة 1896 من المستر جلادستون و هو رئيس الوزارة البريطانية الذي وقع في عهده الاحتلال سنة 1882 , و هو شيخ الأحرار في انجلترا , فقوله هذه له وزنه و له قيمته , أما نحن أيها السادة فنعتبر أن زمن الجلاء قد حان منذ سنة 1882 , أي من السنة التي وقع فيها الاحتلال , لأنه وقع بغير مبرر و بغير سبب ".

إلى أن قلت :" هناك عنصر آخر يؤيد هذه القضية , و هو أن تطور الأفكار العالمية و اتجاه الشعوب إلى المثل العليا في خلال هذه الحرب يعتبر وجود قوات حربية أجنبية بصفة مستمرة في أي بلد من البلاد لا يتفق مع استقلال هذا البلد و كرامته القومية , فهذا الاتجاه الجديد يؤيد قضية الجلاء و يجعلها قضية ناجحة ".

" و مهما قيل – أيها الزملاء الأعزاء – بالنسبة لمصر من أن وجود القوات البريطانية الحربية إنما يقصد به الدفاع عن حرية الملاحة في قناة السويس .

فلا أظن مطلقا أن الأوضاع الصحيحة و المنطق السليم يتفقان مع هذا التعليل , كما أعتقد أنه لم يعد يتفق مع التطور العالمي الذي أشرت إليه , و الذي لا يسمح مطلقا بأن تكون العلاقة مع الشعوب مبنية على وجود قوات حربية أجنبية في البلد المستقل , خصوصا أن بريطانيا العظمى قد ارتضت في معاهدة الأستانة سنة 1888 , و في معاهدة لوزان سنة 1923 , الوضع السليم لضمان حرية الملاحة في قناة السويس بما لا يتفق مع وجود قوات أجنبية لضمان هذه الحرية , ذلك لأن معاهدة سنة 1888 و هي معاهدة الأستانة التي اشتركت في التوقيع عليها بريطانيا العظمى قررت أن قناة قناة السويس يجب أن يكون على الحياد , و قررت أن الدفاع عن حرية الملاحة في قناة السويس يجب أن يوكل أمره إلى مصر و إلى القوات المصرية , و كان لها – كما نص المعاهدة – أن تستعين عند اللزوم إذا لم تكن قواتها كافية للدفاع عن حرية الملاحة في قناة السويس , كان لها أن تستعين بقوات تركية , فلما جاءت معاهدة لوزان التي أبرمت في يوليو سنة 1923 بين تركيا و بين بريطانيا العظمى و حلفائها أقرت الأحكام الواردة في معاهدة سنة 1888 مع تنازل تركيا عن كل حق لها في مصر و السودان , نص على هذا صراحة في معاهدة لوزان , و معنى ذلك انفراد مصر بالدفاع عن حرية الملاحة في القنال .

إذن فالوضع الصحيح الذي ارتضته بريطانيا هو أن قناة السويس يجب أن يكون على الحياد , و حياد قناة السويس يقتضي حياد الأرض التي تمر بها , و أن حياد قناة السويس يجب أن يكون في كفالة مصر وحدها , لأنه بتنازل تركيا عن كل حق لها بمصر و السودان أصبحت مصر منفردة بمعاهدة دولية بضمان حرية الملاحة في القنال , و هذا هو الوضع السليم الذي يجب أن نطالب به , فإذا ما بقيت جنودأجنبية بحجة الدفاع عن حرية الملاحة في قناة السويس فلا يكون الغرض الحقيقي منها هو هذا , و إنما يكون لها غرض آخر لا يتفق مع أبسط قواعد الاستقلال و لا مع كرامة البلاد .

" أيها الزملاء الأعزاء , ذكرت ما ربحته قضية الجلاء في خلال الحرب ,و يلزمني أن أنوه أيضا بأن مذكرة المعارضة الأخيرة التي قدمت إلى بعض المراجع السياسية تؤيد أيضا قضية الجلاء , لأن أول المطالب التي طلبتها المعارضة في هذه العريضة هو جلاء الجنود البريطانية عن الأراضي المصرية ".

و هنا اعترضني أحد الشيوخ الوفديين قائلا : و هل يمكن النطالبة بالجلاء الآن ؟ فأجبته بكل بساطة :" إننا نطالب به منذ سنة 1882 ".

ثم قلت :" و الآن أرجو أن تسمحوا لي بأن أقول بهذه المناسبة إن هذا المطلب تقاربت الأحزاب على المناداة به , أما نحن المعارضين القدماء فنعتبر الجلاء مبدأ لا مطلبا فحسب , و نعتبره عقيدة لا وسيلة للمعارضة فحسب , هو وسيلة للمعارضة و لكنه إلى جانب ذلك عقيدة , و هو مبدأ , و لذلك فإننا لا نقبل المعاهدة بدونه ". و هنا اعترضني صبري أبو علم باشا ( وزير العدل ) قائلا : " هذا إذا كانت المعاهدة لا تزال معروضة ".

فقلت :" سواء أكانت معروضة أم غير معروضة فأنا لا نقبل المعاهدة بدونه ".

و بجلسة 13 يناير سنة 1947 لمناسبة تصرفات الحاكم العام للسودان ( الجنرال هدلستون ) :" قد يقال إن اتفاقية السودان سنة 1899 قد صححت بمعاهدة سنة 1936 , و أنا أقول إنها لم تصحح أبدا , و مازال البطلان لاحقا بها , كما أنه لا يزال لاحقا بمعاهدة سنة 1936 لأن هذه المعاهدة تتعارض مع الأوضاع الدولية القديمة و الحديثة التي لا تسوغ مطلقا الضغط على من الشعوب لأنه أعزل من السلاح و إكراهه على توقيع اتفاقية أو معاهدة ضده , و هذه الأوضاع التي أشرت إليها مازالت قائمة , و من مقتضاها أنه لا يجوز لدولة أن تنتهز وجود جيوشها في أرض دولة أخرى و تنتزع منها معاهدة أو اتفاقية , أتريدون يا حضرات الزملاء دليلا على الإكراه الواقع على مصر عندما أبرمت معاهدة سنة 1936 ؟ أولا كان الاحتلال قائما في هذه الفترة و مازال قائما مع الأسف , و لا شك أن الاحتلال يفسد الرضا و التعاقد , و قد أبرز هذا الإكراه بطريقة لبقة المغفور له عبد الخالق ثروت باشا حينما كان يتفاوض مع السير تشمبرلن وزير خارجية انجلترا سنة 1927 و كان الحديث سجالا بينهما في أنه يجب أن تقبل مصر نشروع المعاهدة , فماذا قال تشمبرلن للمغفور له ثروت باشا ؟ لقد ورد هذا في الكتاب الأخضر الذي نشره ثروت باشا في أعقاب سنة 1927 , قال السير أوستين تشمبرلن للمرحوم ثروت باشا ما يأتي : إن لب المسألة في الوقت الحاضر هو ما إذا كان الشعب المصري و الحكومة المصرية على استعداد للاعتراف بالظروف الخاصة التي وجدت فيها كل من مصر و انجلترا تلقاء الأخرى و ما إذا كنا نرغب في التعاون الودي مع الحكومة البريطانية لضمان الدفاع عن مصالنا المشتركة , فإن كان الجواب سلبا ظلت العلاقات بين مصر و انجلترا تحت رحمة أدنى حادث يطرأ و تعرضت تلك العلاقات إلى أزمات قد تضطر بريطانيا العظمى إلى تسويتها بالقوة ".

و هذا معناه أنه إذا لم تقبل مصر المعاهدة المعروضة عليها فستكون علاقة انجلترا معها عرضة لأزمات تضطر انجلترا إلى أن تتدخل لتسويتها بالقوة , أليس في هذا معنى الإكراه و الغضب الذي تواجهنا به انجلترا لكي تضطر حكومة مصر إلى قبول المعاهدة المفروضة ؟ أقول هذا حجة لمن قبل المعاهدة في سنة 1936 للتحلل منها , و قد كنت و ما زلت معارضا لها , من الذي لومنا أو يحتج علينا بهذه المعاهدة و مقدماتها ترجع إلى سنة 1882و كل الدلائل تدل على أنها أخذت من الحكومة المصرية بطريق الضغط و الإكراه , فهي إذن باطلة و لا نلزم بها أصلا ".

و قلت بجلسة 12 فبراير سنة 1947 :" لقد قال الانجليز إن كل اتفاق يعقد في ظل الاحتلال باطل , و لقد كان الاحتلال موجودا , و الاحتلال هو رمز الإكراه , و قبول مصر هذه المعاهدة في ظل الاحتلال يعتبر إكراها و هو لا يلزم مصر بشيء ".

زملائي في المناداة ببطلان المعاهدة

كنا نحن ممثلي الحزب الوطني في االبرلمان لا نفتأ ننادي في مختلف العهود و الدورات ببطلان معاهدة سنة 1936 , إذ هي وليد الغصب و الإكراه , نادى بذلك في مجلس الشيوخ حافظ رمضان باشا و أنا , كما نادى به في مجلس النواب محمد محمود جلال بك و فكري أباظة و عبد العزيز الصوفاني بك , كان هذا النداء الذي تكرر منا عاما بعد عام , دعوة خالصة للانتقاض على المعاهدة و التحلل منها , و الحمد لله أن جعل الأمة مع الزمن تتقبل هذه الدعوة بقبول حسن و تتخذ من هذا البطلان شعارا لها في جهادها لتحقيق أهدافها .

التعاون و الحركات التعاونية

اعتنقت التعاون منذ سنة 1908 , و ساهمت في الحركة التعاونية بإرشاد المرحوم عمر بك لطفي مؤسس التعاون في مصر و توجيه المرحوم محمد بك فريد الذي وجه الحركة الوطنية إلى الإنشاء و الإصلاح الاقتصادي و الاجتماعي , إلى جانب الجهاد السياسي , و من يومئذ لم تنقطع جهودي في خدمة النهضة التعاونية .

بدأ التعاون شعبيا سنة 1909 و في سنة 1923 أصدرت الحكومة قانونا للتعاون و أنشئ في تلك السنة قسم التعاون بوزراة الزراعة ( مصلحة التعاون الآن و تتبع وزارة الشئون الاجتماعية ) و لكن هذا القانون جعل النظام التعاوني حكوميا بحتا , وهو ما لا يتفق و الروح التعاونية , إذ هي في أصلها روح شعبية , و يجب أن تبقى كذلك , هذا إلى أن هذا القانون كان مقصورا على التعاون الزراعي .

التعاون في مجلس الشعب

انتهزت فرصة دخولي مجلس النواب سنة 1924 فأديت تحت قبته ما استطعت من خدمات للتعاون .

لجنة التعاون و الشئون الاجتماعية

فاقترحت بجلسة 25 مارس سنة 1924 تأليف لجنة جديدة تضاف إلى اللجان التي انتخبها مجلس النواب , تسمى ( لجنة التعاون و الشئون الاجتماعية ) , و قد أجل المجلس النظر في هذا الاقتراح إلى جلسة 30 مارس و فيها شرحته و قلت ضمن ما قلت :" إن اللجنة المالية لا يمكنها أن تنظر في شؤون شركات التعاون لأنها على أنواع مختلفة فمنها شركات التعاون الزراعي و شركات التعاون المنزلي و شركات التعاون المالي و صالناعي , و التعاون في الحقيقة هو ركن كبير من أركان الحياة الاقتصادية و الاجتماعية في كافة البلدان , و قد دخل بلادنا منذ أكثر من إثني عشر عاما , و لكن حركته بطيئة جدا لأنه لا يوجد تشريع خاص بالتعاون و لا يوجد نظام يضمن مساعدة الحكومة له , فإذا ألفت لجنة خاصة للتعاون يكون الغرض منها أن تبحث في القاتراحات و المشروعات الخاصة بالتعاون على أنواعه الزراعي و المنزلي و المالي فإن ذلك يكون داعيا لزيادة الفائدة المرجوة من هذا النظام , إن بلادنا محتاجة كل الحاجة إلى إنشاء التعاون , و قد اهتم كثير من المجلس النيابية في اوروبا بنظام التعاون و أنشأت لجنة خاصة به , و أذكر أن مجلس نواب فرنشا أنشأ سنة 1915 لجنتين , لجنة " التبصر الاجتماعي " و تختص بكل المسائل الاجتماعية , و الثانية اسمها " لجنة العمل " و تختص بالصناع و العمال و أعتقد أنه يمكن أن يكتفي لجنة واحدة تبحث في كل ذلك و إنشاء هذه اللجنة يدل على زيادة عناية الأمة بأعمال التعاون , و لذلك أعرض اقتراحي هذا و أطلب أخذ الرأي عليه " .

و بعد مناقشة وجيزة وافقت أغلبية المجلس عليه و تم تأليف اللجنة بجلسة 7 إبريل سنة 1924 .

أخذت لجنة التعاون تؤدي مهمتها في جد و مثابرة , فعقدت إحدى عشرة دولة جلسة في بحث القاون القديم للتعاون ( رقم 27 لسنة 1923) الذي أحيل على البرلمان ضمن القوانين التي صدرت قبل انعقاده , و قد قررت اللجنة التعديلات التي رأتها كفيلة بإصلاح هذا القانون و سد ما فيه من النقص ,وأتمت وضع مشروع قانون متضمنا هذه التعديلات, و قررت أيضا وجوب تخصيص مبلغ ربع مليون جنيه من ميزانية سنة 1924 لإقراضها بدون فائدة لشركات التعاون الزراعية المؤلفة وفقا لأحكام القانون الجديد , و انتخبتني مقررا لهذا القانون , فأرسلت في 20 مايو سنة 1924 خطابا باسم اللجنة إلى رئيس مجلس النواب ( أحمد مظلوم باشا ) ارتفعت به مشروع القانون و رجوت منه في الخطاب " أن يعرض المشروع على المجلس في جلسة قريبة حتى يتم في هذا الدور الحالي ( دور سنة 1924) تقرير مشروع قانون التعاون الزراعي الذي تنتظره البلاد منذ سنوات عديدة و الذي يؤمل أن ينهض بالحالة الاقتصادية و تنال البلاد الفوائد المرجوة منه .

و ذكرت في الخطاب أن اللجنة قررت تخصيص سلفة ربع مليون جنيه من ميزانية سنة 1924 لإقراضها لشركات التعاون الزراعية ," و لما كانت الميزانية ستعرض قريبا على المجلس لبحثها و تقريرها فاللجنة تامل أن تعرضوا معاليكم على هيشة المجلس تقرير هذه السلفة لتخصيصها لشركات التعاون الزراعية التي ألفت أو التي طبقا لأحكام هذا القانون , هذا ما قررته اللجنة أرفعه لمعاليكم لعرضه مع مشروع القانون على هيئة المجلس لنظرهما بصفة مستعجلة قبل نظر الميزانية ليقرر ما يراه .

كتبت ( الأهرام ) بعددها الصادر في 25 مايو سنة 1924 تحت عنوان ( شركات التعاون الزراعية في مجلس النواب ) مقالة لخصت فيها مشروع القانون و قالت :" و ينتظر أن يعرض على مجلس النواب في اجتماعه اليوم – 25 مايو سنة 1924 – ليقرر رأيه فيه ".

و لكن المجلس قبل اقتراح حسين بك هلال أحد النواب الوفديين تأجيل النظر في المشروع حتى تفرغ اللجنة المالية من درس الميزانية , و قد عارضت في هذا التأجيل ولكن ذهبت معارضتي سدى , و أدركت من هذا التأجيل أنه قد يؤدي إلى نظر المشروع و تعطيل تقرير السلفة التعاونية إلى دور مقبل , فاقترحت بجلسة 34 مايو سنة 1924 أن لا يفض الدور الحالي دور سنة 1924 قبل النظر في المشروع , فقبل المجلس اقتراحي في تلك الجلسة و أصدر القرار الآتي :" يقرر المجلس نهاية الدور الحالي من انعقاده بمجرد الانتهاء من نظر الميزانية و قانون شركات التعاون الزراعية و ما يقرر له المجلس صفة الاستعجال من القوانين الأخرى ".

و لكن المجلس عدل عن هذا القرار بجلسة أول يونيه و قرر " أن يترك أمر فض المجلس لما تقتضيه ظروف العمل و حكمة جلالة الملك ".

و بجلسة 11 يونيه سنة 1924 اقترحت أن يقرر المجلس فتح اعتماد من المال الاحتياطي بربع مليون جنيه لتسليف شركات التعاون الزراعية من خلال السنة المالية الحالية 19241925 , فعارض وزير المالية ( محمد توفيق نسيم باشا ) في هذا الاقتراح , و قرر المجلس إرجاء النظر فيه إلى وقت نظر قانون شركات التعاون .

و لما عرض القانون على المجلس بجلسة 8 يونيه سنة 1924 طلب رئيس الوزراء ( سعد زغلول باشا ) تأجيل النظر فيه إلى دور الانعقاد المقبل بحجة أن الحكومة غير مستعدة للمناقشة فيه في تلك الجلسة لغياب وزيرالزراعة ( فتح الله بركات باشا ) , و لأن وكيل الوزارة عزل , فعارضت في التأجيل و قلت :" إن هذا القانون من اختصاص قسم التعاون و لهذا القسم مدير و مفتش فيستطيع أحدهمت أن يمدنا بما نحتاجه من المعلومات , و من مصلحة البلاد القصوى تقرير هذا القانون في هذا الدور " , فعقب سعد باشا على معارضتي بقوله :" كنا نود أن ينظر هذا القانون في الدور الحالي و لكن لا يوجد في قسم التعاون الموظف الكبير الذي يعنيه الدستور لأجل أن يمثل الوزارة أمام المجلس لأن الدستور يقضي بأن لا يمثل الوزارات أما المجلس إلا كبار الموظفين ", فوافق المجلس على تأجيل النظر في اقلانون إلى الدةر المقبل ..

و معلوم أن مجلس النواب قد حل في أوائل الدور المقبل ( ديسمبر سنة 1924 ) فلم ينظر القانون و لا تقررت السلفة , ثم حل المجلس الجديد ثانية في مارس سنة 1925 و عطلت الحياة النيابية .

و في سنة 1927 أقر البرلمان قانون التعاون رقم 22 لتلك السنة , و قد أخذ بمعظم التعديلات التي عرضناها على مجلس النواب سنة 1924 , و هو قانون صالح في مجموعة إذ جعل التعاون شعبيا و حكوميا معا , و من ثم أخذت الجهود تتضافر لإقامة صرح التعاون في الريف و الحضر .

و بجلسة 21 يونيه سنة 1924 , لمناسبة نظر الميزانية اقترحت إرسال بعثة إلى الخارج لدرس نظام التعاون بلإيطاليا و بلجيكا و هولندا و إرلندا , فوافق نائب ووزير الزراعة على هذا الاقتراح , و تم تنفيذه .

لجنة سنة 1939

في سبتمبر سنة 1939 على عهد وزارة علي باشا ماهر ألفت وزارة الشئون الاجتماعية لجنة من بعض المعنيين بالحركة التعاونية و هم : الدكتور إبراهيم رشاد بك ( باشا ) مدير مصلحة التعاون , و أنا , و محمد ذو الفقار بك , و الدكتور أحمد حسين بك ( باشا ) وكيل مصلحة التعاون وقتئذ , و الدكتور يحيى أحمد الدرديري , لبحث كافة الوسائل التي تؤدي إلى النهوض بالحركة التعاونية .

فبحثنا مليا على ضوء التجارب الماضية في خير الوسائل العلمية لتحقيقي هذا الغرض , و رأينا أنه يجب علاج هذه الحالةمن نواح ثلالثة : 1- تمويل الجمعيات التعاونية 2- الاشراف عليها 3- تعديل قانون التعاون .

و الحلول التي عرضناها من جهة التمويل , هي إما إنشاء بنك تعاوني مستقل أو تحويل بنك التسليف الزراعي إلى بنك تعاوني .

أنا الإشراف على الجمعيات فقد رأينا أنه أساس ضروري لنهضتنا و انتظام أعمالها , و إرشاد أعضائها إلى حسن إدارتها , و هذا الإشراف تتولاه مصلحة التعاون , و لكن ليس لديها الموظفون الكافون للقيام بهذه المهمة , فإن عدد الجمعيات التعاونية كان يبلغ سنة 1939 نحو 800 جمعية , و رأينا أنه يلزمنا أن نصل بها إلى أربعة آلاف جمعية و لم يكن يتسنى لمصلحة التعاون بنطاقها وقتئذ أن تقوم بمهمة الإرشاد و الإشراف بالنسبة لهذا العدد الكبير , و أوضحنا في التقرير أنه من الضروري إنشاء تفتيش للتعاون في كل مديرية قوامه مفتش و مراجع لحسابات الجمعية أو مراجعان بحسب اتسالع المديرية , و منظم لكل ثلاثين جمعية , و نظرا لصعوبة زيادة عدد الموظفين اقترحنا نقل العدد الكافي من حملة دبلوم تجارة العليا بمختلف الوزارات إلى مصلحة التعاون ليقوموا بمهمة مراجعي حسابات الجمعيات و أن ينقل إليها بالتدريج العدد الكافي من مهندسي الزراعة و معاونيها من حملة دبلوم الزراعة العيلا من موظفي التفاتيش الزراعية للعمل كمنظمين للجمعيات , على أن يتولى هؤلاء المنظمون مهمة الإرشاد الزراعي و نشر التعاليم الحديثة لوزارة الزراعة و الإشراف على عملية مقاومة دودة القطن في مناطق الجمعيات .

قدمنا تقرير اللجنة بهذه المقترحات إلى الوزارة في أكتوبر سنة 1939 , و قد نوهت إلى هذا التقرير و مقترحاته في كلمتي بمجلس الشيوخ بجلسة 11 ديسمبر سنة 1939 و أهبت بالحكومة أن تعمل بمحتوياته , و أظن أن هذا التقرير صار مع الزمن موضع التنفيذ تدريجيا , مما كان له أثره في إطراد النهضة التعاونية .


و بجلسة 20 مايو سنة 1941 بمجلس الشيوخ لمناسبة المناقشة في ميزانية الدولة تحدثت عن نصيب التعاون في الميزانية المعروضة على المجلس و الميزانية السابقة , و أخذت على وزارة الشئون الاجتماعية عدم عنايتها بالتعاون خلال عامين تقريبا منذ إنشائها , و قلت إن كل ما عملته أنها ألفت في سبتمبر سنة 1939 تلك اللجنة التي كنت عضوا فيها , و طلبت تنفيذ نقترحاتها .

و قد قابل المجلس هذه الملاحظات بتصفيق الاستحسان و اغتبط لها التعاونيون , و إني أستسمح القارئ أن أورد هنا ما قاله الدكتور إبراهيم رشاد بك مدير مصلحة التعاون وقتئذ في ( مجلة التعاون ) التي كانت تصدرها المصلحة – عدد يوليو سنة 1941 – تحت عنوان ( الحركة التعاونية في مجلس الشيوخ ) قال : " إذا ذكرنا عمر لطفي بك بأنه " رائد التعاون " في مصر الذي كان أول من دعا إليه و أسس جمعياته , و السلطان حسين كامل بأنه " أبو التشريع التعاوني " في مصر إذ قدم باسم الجمعية الزراعية في سنة 1913 أول مشروع قانون للتعاون , و فتح الله بركات باشا بأنه " الوزير التعاوني " الذي بعث الجركة التعاونية من مرقدها و أمدها بالقوة و النشاط , إذا ذكرنا هؤلاء الأعلام التعاونيين في تاريخ حركتنا المباركة , فإننا لا ننسى صديقنا الفاضل الأستاذ عبد الرحمن بك و هو أول من وضع التعاون في مصر وضعا علميا و أطلع الأمة على دقائق هذا المذهب الاقتصادي الاجتناعي الحديث , على أنه و هو تلميذ عمر لطفي لم يقف جهده في خدمة التعاون عند تأليف أول كتاب عربي فيه , بل ساير الحركة التعاونية في مصر منذ سنة 1908 حتى اليوم , و شاركها نعيمها و بأساءها , و لا يزال يرفع صوته عاليا في الدفاع عن حقوقها و مصالحها , و أقرب ما كان ذلك في جلسة مجلس الشيوخ مساء يوم 20 مايو سنة 1941 إذ تكلم في التعاون كلام خبير به عليم بحالته مطلع على مزاياه و فوائده , و أقف على العقبات التي تعترض سبيل تقدمه و انتشاره في هذه البلاد .

" هكذا ظل هذا الوطني الكبير و المحامي الشهير و الشيخ المحترم , زهاء ثلاثة و ثلاثين عاما و هو ملازم للحركة التعاونية المصرية , متصل بها أوثق اتصال , مجاهد في سبيلها جهاد الأبطال , أفلا يدل ذلك على إيمان ثابت بالتعاون و نفعه لمصر بل ضروريته لها ؟ لقد ظهرت في خلال تلك الحقبة من الزمن نظريا اجتماعية شتى في نواحي العالم , و جربت مشروعات و وسائل لا عداد لها لإصلاح أحوال الطبقات , و أطلع الأستاذ الرافعي على ذلك كله و هو العالم المؤرخ , و لكنه مع هذا لا يزال إيمانه بفضل التعاون على كل حال نظام إصلاحي آخر .

" إذا كان في هذا الثبات شهادة للتعاون , فإن فيه أيضا شهادة لذلك الرجل الثابت على مبدئه التعاوني , و دلالة على متانة خلبقه و شدة وفائه , و قد يتعدد الأصدقاء و يتفاوتون مودة و إخلاصا , و لكن أفضلهم أبقاهم هو الصديق القديم , فهنيئا للتعاون هذا الصديق , ثم أوردت المجلة نص كلمتي بالمجلس , و علقت عليها بقولها :" هذا ما قاله الأستاذ الكبير الرافعي بك في التعاون و ضرورة العناية به , و أنا لنرجو أن يكون لكلامه صدى تردده الأرجاء حتى تحظى الحركة التعاونية بالرعاية الواجبة لها و التي لا يمكنها من دونها أن تنهض و تؤتى ثمارها اليانعة , و قليل بعد ذلك أن نوجه عبارات الشكر إلى صديقنا بل صديق التعاون الوفي , و لكنه شكر تاريخ الحركة التعاونية في هذه البلاد الذي سوف يسجل له بأحرف من نور".

و لمناسبة الرد على خطاب العرش سنة 1942 عرجت في كلمتي التي ألقيتها بجلسة 9 ديسمبر من تلك السنة على التعاون وقلت :" أظن أن حضراتكم سمعتم مني غير مرة كلاما عن مسألة التعاون ربما إلى درجة الاملال , لقد تكلمت عن التعاون و تأييد النهضة التعاونية , و كلامي التكرر في هذا الموضوع لم يكن بدون مقتض , فالظروف أثبتت أن التعاون من أهم الأسلحة لمكافحة الغلاء و سهولة التوزيع ,و لذلك رأينا – و الحمد لله – نهضة طيبة في إنشاء الجمعيات التعاونية , و نهضة من الوزارة بمعاضدة هذه الجمعيات , و لكن الذي أرجوه بإلحاح من الحكومة أن تعني عناية خاصة بالرقابة على هذه الجمعيات على أحسن وجه , فإن إهمال الرقابة يؤدي إلى تدهور الجمعيات بمرور الزمن , و الرقابة تكون بزيادة عدد الموظفين المراجعين لحسابتها و المفتشين على أعمالها يجب أن تقوي ( مصلحة التعاون ) التي تقوم بهذه الرقابة , و يجب على وزارة التموين أن تمد الجمعيات التعاونية بطلباتها في كل شيء لأن إمداد هذه الجمعيات بكل طلباتها من جميع المواد يساعدها على نمو أعمالها , و يزيد الجمهور إقبالا عليها , لأني أخشى إذا ما تراجعنا في إمدادها و تراخينا في إجابة طلباتها أن يحدث رد فعل سلبي الأثر و يؤدي إلى تعثر الحركة التعاونية لا سمح الله .

أول مؤتمر للتعاون 5يونيه سنة 1943

في سنة 1943 أعدت مصلحة التعاون مؤتمرال عاما للتعاون , و اختارت لإقامته مدينة المنصورة باعتبارها العاصمة الدقهلية الي تعد من أولى المديريات في الإقبال على الحركة التعاونية , و قد ساهمت في هذا المؤتمر لأنه من الوسائل العلمية الفعالة في النهوض بالتعاون و الدعاية له و ترغيب الناس فيه .

رأس المؤتمر فؤاد سراج الدين وزير الشئون الاجتماعية وقتئذ و دعاني إلى حضور المؤتمر فلبيت الدعوة لأنها قامت على أساس النهوض بنظام ساهمت فيه منذ الساعة الأولى , و حضر المؤتمر أيضا وزير آخر من وزراء الوفد و هو المرحوم الدكتور عبد الواحد الوكيل بك وزير الصحة .

أقيم المؤتمر في سينما " ركس " بالمنصورة بالسكة الجديدة , و كان النكان غاصا بالمدعوين من كبار الأعيان و الموظفين و المثقفين من مختلف الطوائف , و كان من خطبائه مدير الدقهلية وقتئذ محمود حسيب بك , و قد أشار في خطبته إلى من خدموا التعاون في مصر , و ذكرني منهم , فما أن سمع الجمهور اسمي حتى ضج المكان بالتصفيق الحاد المتكرر حتى اضطررت أن أقف و أشكرهم مبتسما فزاد التصفيق حدة و تكرار , فاغتبطت في خاصة نفسي لهذه الظاهرة المفاجئة , و علمت أن منزلتي في النفوس أكبر مما ظننت , و أنه لا يجوز للمجاهد أن ييأس من أن هذه الأمة تقدر يوما عمله و جهاده .

قانون التعاون سنة 1944

و قد أدت بحوث مختلف اللجان إلى وضع قانون جديد للتعاون و هو القانون رقك 58 لسنة 1944 , و كنت مقررا لهذا القانون عند نظره في مجلس الشيوخ , و قد دعا إلى وضعه ما ظهر من التجربة من وجوب إدخال تعديلات جوهرية على قانون سنة 1927 تمشيا مع التطور الحديث و تيسيرا للجمعيات التعاونية , و تنظيما لأعمالها , و تعضيدا لها في القيام بمهمتها , و أدمجت هذه التعديلات في نصوص هذا القانون بحبث صار قانون سنة 1944 هو القانون الشامل لأحكام التعاون .

اعتذاري عن الاستشارة نوفمبر سنة 1932

في سنة 1932 عندما عين مصطفى الشوربجي بك و محمد زكي علي بك ( باشا ) مستشارين بمحكمة الاستئناف أفضى إلي المرحوم فؤاد بك حمدي بأن علي ماهر باشا وزير العدل وقتئذ يسره أن يعييني مستشارا , وقال لي إذا كنت تقبل هذا المنصب فإني مبلغ جوابك ماهر باشا , فأعربيت لع عن رغبتي في بقائي محاميا , و رجوته أن يبلغ ماهر باشا شكري و تقديري لثقته في , و كان فؤاد بك يميل في خاصة نفسه إلى أن يبقى كما كنت , لأنه لم يكن يريد لي أن أتخلى عن مهمتي في الكفاح الوطني , و لكنه أبلغني هذه الرغبة إبراء لذمته و لكي يستشف من جوابي إذا كنت قد تعبت أو سئمت من الكفاح فاستريح في ظل هذا المنصب القضائي , فقلت له أني على الرغم مما لقيته و ألاقيه لم أتعب بعد و لم أسأم بعد , فقال لي : و لكن ألم تشهد خذلان الأمة لنا في كفاحنا على طول الخط ؟ فقلت : نعم أني عالم بهذا الخذلان , و قد عانيت منه أكثر من سواي و أن لا ألوم من يقبل أي منصب في هذه الظروف , و لكني شخصيا أود الاستمرار في الكفاح , و طلب مني زكي بك بحضور فؤاد بك حمدي إذا كنت أشعر يوما ما بحاجتي إلى الراحة من عناء هذا الكفاح أن أبلغهما رغبتي في هذه الصدد لكي يهيء لي السبيل لتعييني مستشارا دون أن يكلفاني أي إجراء يقتضيه هذا التعيين , فشكرتهما و وعدتهما بذلك و حفظت لهما هذا الجميل , على أني رغبت في خاصة نفسي أن لا تلجئني الظروف إلى طلب الراحة من هذا العناء , و كان مما قوي في نفسي فكرة الاعتذار عن عدم قبولي هذا المنصب القضائي الممتاز أنني كت بسبيل تأليف الحلقات الباقية من " تاريخ الحركة القومية " و لم يكن صدر منها حتى ذلك الحين سوى الأجزاء الثلاثة الأولى , و كنت أعلم – و لم أزل – أرى أن القاضي يجب أن يكون بعيدا عن السياسة عملا و تأليفا , فكيف أتولى منصب القضاء و أخرج من آن لآخر مؤلفا في التاريخ القومي لا بد أن يتناول حالة مصر السياسية من شتى نواحيها ؟ لقد شعرت بالتعارض بين العملين , حقا أن للقاضي أن يجمع بين القضاء و التأليف , و لكن في المسائل القانونية , و إذا أراد أن يتجاوزها فليكن ذلك في المسائل العلمية أو الاجتماعية , أما السياسية فلا أرى أن يخوض القاضي غمارها , بأي شكل إيجابي , لأن القضاء يجب أن يكون بمنأى عن السياسة و عواصفها و خلافاتها , و لا يمكن لمن يكتب في السياسة أن لا يكون له ميول سياسية واضحة يحسن القاضي أن يكون بعيدا عنها , فاشتغالي بتاريخ الحركة القومية كان من أهم الأسباب التي صرفتني عن قبول مناصب القضاء , و من جهة أخرى فقد كنت في ذلك العام أقوم بطباعة كتابي ( عصر إسماعيل ) , و قد ظهر فعلا في أواخر ديسمبر سنة 1932 , و كنت أتوقع أثناء طبعه أن لا ينال رضاء الغفور له الملك فؤاد , فرأيت حرجا في أن يصدر المرسوم الملكي بتعييني مستشارا و بعد ذلك شهر أو شهرين أخرج تابا فيه هذه المآخذ على والد الملك الذي يصدر هذا التعيين , لم أرتض لنفسي هذا الموقف إذ لم أجد فيه شيئا من اللياقة .

اعتذاري عن الوزارة نوفمبر سنة 1940

ألف حسين سري باشا وزارته الأولى في 15 نوفمبر سنة 1940 عقب وفاة المرحوم حسن صبري باشا رئيس الوزراء السابقة , و قد ألفها من المستقلين و الأحرار الدستوريين و وزير اتحادي , و عرض علي أثناء تأليفها أن أِترك فيها كوطني , فأعتذرت و عرضت الأمر على اللجنة الإدارة للحزب الوطني , فأقرتني على اعتذاري .

استدعاني حسين سري باشا أثناء اشتغاله بتأليف الوزارة إلى دار رئاسة مجلس الوزراء , و كان معه المرحوم الدكتور على إبراهيم باشا ( وزير الصحة في هذه الوزارة ) فعرض علي أمر اشتراكي في هذه الوزارة , فشكرته شكرا عميقا على تقديره لي , و قلت له إني لا أستطيع أن أبدي رأيي النهائي إلا بعد الرجوع إلى اللجنة الإدارية للحزب , قال : و لكن الأمر مستعجل و ستؤلف الوزارة اليلية , فقلت له : إن في الإمكان استدعاء أعضاء اللجنة على عجل لتجتمع اليوم و تقرر ما تراه , قال : إذن أرجو بعد صدور قرارها أن تبلغني بفحواه تليفونيا اليوم قبل الساعة السادسة مساء , و أعطاني رقم تليفونه الخاص لأتصل به مباشرة في دار الرئاسة , قال :" أرجو حين تعرض المسألة على اللجنة أن تعرضها بروح الاعتدال و الموافقة , فوعدته و كررت له شكري , ثم اتصلت باخواني و اجتمعنا و اتفقنا رأيا على الاعتذار , و مع تقديري لحسن ظن حسين سري باشا بشخصي فإني و إخواني رأينا أنه لم يكن بد و الحرب قائمة من أن يكون برنامج الوزارة هو تنفيذ معاهدة سنة 1936 بروح الود و الاخلاص , و قد رأينا في هذا البرنامج ما يتعارض مع سياسة الحزب الوطني , و على ذلك لم يكن بد من الاعتذار , و قد حافظت على موعدي مع سري باشا غي إبلاغه ما أسفر عليه رأي اللجنة , و إذ كان الوقت قد أزف فقد اضطررت إلى أن أتصل به من مكتب أنطون بك الجميل ( باشا ) رئيس تحرير الأهرام , و كنت على موعد معه , و طلبت منه الرقم الخاص الذي أعطاه لي سري باشا فرد علي شخصيا , و قال لي : خير , فقلت له : أنا آسف يا دولة الرئيس أن أعتذر فقد اجتمعت باللجنة و اللجنة قررت الاعتذار و اني على كل حال شاكر لدولتك حسن ثقتكم بي و أرجو لدولتك كمال التوفيق , فقال : إني كنت أود أن تكون معنا لنتعاون على خدمة البلاد , فكررت له اعتذاري و شكري , و انتهت المكالمة على ذلك , و كان أنطون بك جميل على مكتبه يتابع عباراتها , فلما انتهت قال لي : لقد علمت قبل حضورك أنك دعيت للاشتراك في الوزارة , و كنت أود أن أهنئك بها , و لكني الآن أهنئد باعتذارك عن عدم قبولها , ثم سكت قليلا و قال :" رأيتك تعتذر ببساطة عن اشتراكك في الوزارة كما يعتذر الإنسان عن حضور حفلة شاي ! و بعد أن سكت هنيهة قال مبتسما : و هل تظن يا عبد الرحمن بك أن الأمة تقدر مثل هذه المواقف ؟ فأجبته على الفور : إني أشك في ذلك و لكن هذا أنا مرتاح و مطمئن , ثم عاد و قال : أظن أنه سينعم قريبا على الوزراء الجدد برتبة الباشوية ( و قد حصل ) أفلم تكن الفرصة سانحة لتنال هذه الرتبة التي تستحقها ؟ و نناديك يا عبد الرحمن باشا ؟ قال ذلك متفكها , فقلت له : ما دمت قد اعتذرت عن الوزارة فإني أعتقد أن الوزارة أهم من الباشوية ..

إسقاطي من وكالة نقابة المحامين ديسمبر سنة 1940

في ديسمبر سنة 1939 , على عهد وزارة علي ماهر باشا , صدر مرسوم بتعيين أعضاء مجلس نقابة المحامين , و منهم الرئيس الوكيل , و كان صدور هذا المرسوم باتفاق جمهرة المحامين على اختلاف أحزابهم , و حسم خلافا كان قائما بين المحامين بعضهم و بعض , في هذا المرسوم عين المرحوم الأتاذ محمود بسيوني نقيبا , و عينت أنا وكيلا للنقابة , و الأستاذ محمد توفيق خليل بك أمينا للصندوق , الأستاذ عبد الحميد عبد الحق ( باشا ) سكرتيرا , و كامل صدقي بك ( باشا ) و غبريال سعد بك و أدوار قصيري بك و محمد عبد الملك حمزة بك و الأساتذة صبري أبو علم باشا و راغب اسكندر و على أيوب و يوسف الجندي و محمود سليمان غنام و محمود صبري و عبد الحميد لطفي أعضاء .

و لوحظ في هذا المرسوم أن تكون الأحزاب كلها ممثلة في مجلس نقابة المحامين , و كنت بصفتي وكيلا للنقابة أمثل المحامين الوطنيين , وصادف هذا التعيين ارتياح المحامين , لأنه كان نموذجا للائتلاف بين الأحزاب و توحيد الكلمة في محيط المحاماة , و كان يمكن أن يكون مثلا لتوحيد الصفوف و ائتلاف الأحزاب في المسائل القومية عامة .

و قد عمل هذا المجلس سنة كاملة في روح من الود و التضامن و صفاء النفوس بين أعضائه , و لم تفرق بينهم الحزبية في أي أمر من الأمور .

فلما جاء موعد الانتخابات السنوية للنقابة اجتمعت الجمعية العمومية يوم الجمعة 27 ديسمبر سنة 1940 بدار النقابة بشارع الملكة , وجلس أعضاء المجلس على منضدة في صدر المكان , و جلست أنا إلى اليمين الأستاذ محمود بسيوني , و كان الاتفاق كما أبلغني أقطاب الوفد في مجلس النقابة أن يعيدوا انتخاب الأستاذ محمود بسيوني نقيبا و يعيدوا انتخابي وكيلا للنقابة , كما كان الوضع السابق , وذهبت مطمئنا إلى مكان الاجتماع , و جلست مطمئنا أيضا طيلة المدة التي اجتمعت فيها الجمعية العمومية , و كان المحامون الوفديون يهنئونني مقدما بإعادة انتخابي وكيلا , فازددت اطمئنانا إلى وعودهم , فلما تم انتخاب النقيب و فاز الأستاذ محمود بسيوني جاء دور انتخاب الوكيل و كنت أيضا إلى اللحظة التي أعطيت أوراق الانتخابات مطوية إلى سكرتير النقابة مطمئنا إلى إعادة انتخابي للوكالة , و لكن في أثناء فرز الأوراق لاحظت أن أصواتا كثيرة أعطيت للأستاذ صبري أبو علم , و كان عضوا بالمجلس , و أخذت أصواته فيا لازدياد حتى زادت على الأصوات التي أعطيت لي .. و علمت بعد ظهور النتيجة أن الوفديين نقضوا عهدهم معي و اتفقوا سرا في آخر لحظة أن يجعلوا النقابة وفدية لحما و دما , فرشحوا فيما بينهم الأستاذ صبري أبو علم للوكالة , و كانت كلمة السر تنتقل بينهم من جماعة إلى جماعة بحيث لم يشعر بها أحد سواهم , و لم أشعر أنا طبعا بالمؤامرة إلا بعد نفاذها , و على ذلك سقطت في الانتخاب لوكالة النقابة !

كان لهذا الحادث و ما انطوى عليه من نقض العهد و الحزبية الجامحة ضجة استياء في الأوساط المثقفة , و استاء لها على الأخص الأستاذ يوسف الجندي الذي الذي كانت تجمعني و إياه صفوف المعارضة في مجلس الشيوخ , و استنكر فعلة المحامين الوفديين معي – و كان بعيدا عن المؤامرة – فأبدى لي أسفه الشديد على هذه الفعلة , و رجاني أن لا يكون لها أثر في نفسي يغير من موقفي في المجلس بصفتي معارضا فقلت له إن معارضتي ليس أساسها ارتباطي بالوفديين – و كانوا وقتئذ في المعارضة – بل أساسها إيماني بالمعارضة , فليطمئن من هذه الناحية .

و هكذا تعددت دلائل نقض العهد معي من الوفديين , فلم أستغرب ما فعلوه هذه المرة , و لكن الأمر الذي حز في نفسي أن يساير المحامون و هم الصفوة المختارة من الطبقة المتعلمة هذه السياسة الملتوية و يعاملوني هذه المعاملة الخالية من روح الاستقامة و التقدير و اللإنصاف , فهل تطغى الحزبية على هذه المعاني السامية إلى هذا الحد ؟

الخلاف في الحزب الوطني

كان اشتراك حافظ رمضان باشا في وزارة حسن صبري باشا سببا لخلاف كبير بين أعضاء الحزب الوطني , و قد بدأ هذا الخلاف في دائرة ضيقة باشتراكه في وزارة محمد محمود باشا سنة 1937 , إذ كان اشتراكه بغير قرار من اللجنة الإدارية للحزب , فلما فوتح في ذلك اعتذر بأن الوقت لم يكن يتسع لعقد اللجنة قبل تأليف الوزارة فإنها ألفت على عجل , و سكتت اللجنة حتى استقالت وزارة محمد محمود و ألف وزارته الثالثة دون أن يشترك فيها حافظ رمضان باشا , فلما وقعت أزمة يونيه سنة 1940 و استقالت وزارة علي ماهر باشا اجتمعت اللجنة الإدارية للحزب يوم 24 يونيه و بحثت في الموقف و هل يشترك الحزب في الوزارة الجديدة إذا دعى لذلك أم لا يشترك , فقررت اللجنة عدم الاشتراك فيها , ثم ألفت وزارة حسن صبري باشا و فيها حافظ رمضان باشا , فوقع الانقسام في اللجنة الإدارية بين معارض لموقف حافظ باشا لمخالفته قرار اللجنة و مؤيد له في موقفه , بقي هذا الخلاف قائما و شعبتا اللجنة على خلاف بينهما إلى أن تم الصلح بين الفريقين و عادت الوحدة إلى اللجنة في نوفمبر سنة 1946 .

الصلح بين فريقي الحزب الوطني نوفمبر سنة 1946

ما فتئت المساعي تبذل من وسطاء الخير في إزالة أسباب الخلاف و الانقسام في الحزب الوطني , و كنت من ناحيتي أرحب بكل مسعى لهذا الغرض , بل كنت أسعى بنفسي لذلك , لأني لم أكن مرتاحا مطلقا لوجود لجنتين إداريتين للحزب , كل منهما تعارض الأخرى , و إذ كان الاشتراك في الحكم هو سبب الانقسام فإني كنت أسعى لصيغى للاتفاق تكون مقبولة من الطرفين , و قد اتفق الرأي على أن لا يشترك الحزب في وزارة إذا كان برنامجها يتعارض مع مبادئه , و أن يكون هذا هو أساس الاتفاق , لأن الأصل في تأليف الوزارات و قيامها و تغييرها أن تقوم على تحقيق مبادئ و غايات معينة تؤمن بها الجماعات و الأشخاص الذين يشتركون فيها , و قد تجدد هذا السعي في سنة 1943 , و لكنه أخفق , ثم استمر إلى سنة 1946 , و كان من أبرز وسطاء الخير في هذا الصدد محمد زكي علي باشا و فكري أباظة باشا , فإنهما و الحق يقال كان لهما فضل كبير في إزالة أسباب الانقسام , و قد تم الصلح في نوفمبر سنة 1946 و اتفقنا على صيغة عامة أبلغناها إلى الصحف و هي :

" في الظروف العصيبة التي تجتازها البلاد و حيال الأحداث التي تهددها في كيانها و وحدتها و استقلالها رأى رجال الحزب الوطني أن يزيلوا ما بينهم من خلاف لكي يعيدوا الوحدة إلى صفوفهم و لتكون دعوتهم إلى وحدة صفوف الأمة أقوى و أدعى إلى الاستجابة , و لذلك اجتمعوا و تك الاتفاق بينهم و عادوا إخوانا متضامنين في العمل و الجهاد " .

و نشرت الأهرام هذه الصيغة بعدد 7/11/1946 مع تعديل عبارة ( في العمل و الجهاد ) و جعلها في ( خدمة البلاد ) , و كانت الرقابة على الصحف لا تزال قائمة , و لعلها أشارت بهذا التعديل الذي لا يغير من جوهر البيان شيئا .

و لم ندخل في البيان شيئا عن الاشتراك في الحكم , على أنه في صدد أحاديث الصلح كان الاتفاق على أن لا يدخل الحزب الوطني الحكم منفردا أو مشتركا إلا إذا كان برنامج الوزارة لا يتعارض مع مبادئه , و أن الأمر في هذا الصدد يكون موكلا للجنة الإدارية , و اتفقنا على أن تكون اللجنة الإدارية مؤلفة من فريقي اللجنة و من انضموا إلى كل منهما أثناء الخلاف .

و قد حدث مع الأسف صدع جديد في الحزب سنة 1950 أرجو أن يتلافاه وسطاء الخير و يعيدوا إلى الحزب وحدته .

إذاعاتي بالراديو 1940-1951

كانت أول إذاعة بالراديو لي فيا لساعة الثامنة من مساء يوم السبت 10فبراير سنة 1940 , و كان حديثي عن ذكرى مصطفى كامل , لمناسبة مرور اثنين و ثلاين عاما على وفاته , و قد فكرت في أن أجعل كلمتي عن ذكرى الزعيم عن طريق الراديو بدلا من الصحف أو الخطب في المحافل , و رأيت في ذلك تنويعا في أساليب الحديث عن الذكرى , و قد رأيت في هذه الوسيلة تعميما للحديث , فإن الذين يحبون أن يستمعوا إلى الراديو أكثر ممن يحبون القراءة في الصحف أو المجلات , وهم من بابا أولى أكثر عددا ممن يسمعون الخطيب في اجتماع مهما كان كبيرا ( إلا إذا أذيع بالراديو ) .

و ما أذكره عن أول إذاعة لي أني قبل موعدها بشهر تقريبا كتبت إلى وزارة الشئون الاجتماعية ( التي كانت تتبعها الإذاعة ) خطابا بإبداء رغبتي في إلقاء حديث عن مصطفى كامل ) لمناسبة ذكرى وفاته , فرحبت الوزارة بطلبي , و اتفقت مع دار الاذاعة ( و كانت لا تزال شركو بريطانية ) على تحديد الموعد الذي طلبته لإذاعة حديثي , و قبل الموعد بأسبوع جاءني خطاب من مراقب عام الإذاعة يدعوني فيه إلى الحضور إلى دار الإذاعة في الساعة العاشرة و النصف من صباح يوم الجمعة 9 فبراير " للتمرن على الميكرفون " , فاستغربت من هذا الخطاب , و ابتسمت و أنا أقرأه و قلت يا عجبا! هل يكون الكلام في الميكروفون أصعب من المرافعات أمام المحاكم أو الخطب في المحافل ؟ و على كل حال فقد لبيت الطلب , وذهبت إلى دار الإذاعة في الموعد المحدد " للتمرين " , وقابلت سعيد بك لطفي ( باشا ) و هو صديق و زميل لي , و قلت له مبتسما : ها أنذا قد حضرت لأداء الامتحان , فضحك و قال : لا تعجب لذلك فإن الكلام في الراديو غير الكلام في المحافل أو المحاكم , إننا نريد أن يكون حديثك ناجحا , خصوصا و هذا أول حديث لك في الراديو , فلا بد أن تعرف طريقة الكلام في الراديو و درجة علو الصوت أثناء إلقاء الحديث , و المسافة التي يستحسن أن تكون بينك و بين الميكرفون .

و ما إلى ذلك من الملاحظات الفنية , فقلت حسن و أنا مرتاح لأداء الامتحان .. فدخلت مع الموظف المختص إلى غرفة ضيقة مقفلة الأبواب و النوافذ , و أشار علي بأن يكون صوتي هادئا , لا عاليا و لا متهدجا , و أبدى لي بعض الملاحظات الفنية , و كان الحديث مكتوبا و وافقت عليع الإذاعة من قبل , فجلست أمام الميكروفون في الموضع الذي عينه لي المذيع , و أخذت في إلقاء الحديث , و أخذ هو يسمعه وحده من سماعة وضعها على أذنيه , فبدا لي و هو يسمعه أنه مرتاح لطريقة إلقائي , و بعد أن ألقيت ربعه أو ثلثه قال لي : كفى يا بك , إنك تلقي حديثك بإبدع ما يمكن , فقلت : الحمد لله , لقد نجحت في الامتحان ...

و في اليوم المحدد لإلقائه ألقيته على الطريقة التي أديتها يوم الامتحان .. و استمع له الناس في مختلف المدن و المقاهي و المنازل , و سمعت إعجابا به من كل ناحية , و قال لي بعض أصدقائي الفنيين إنك في الميكروفون أخطب منك في المحافل , و قال لي بهذه المناسبة إنه قد يكون الانسان من أعظم الخطباء و لكن صوته في الراديو لا يكون مرغوبا فيه , و العكس بالعكس , و إن صوتك و طريقة إلقائك منسجمان تمام مع الراديو , و قد لاحظت أن الإذاعة بالراديو أعم من الكتابة في الصحف و من الخطابة في المحافل ( إلا إذا أذيعت الخطبة بالراديو ) , و هذا ما دعاني إلى أن أتابع أحاديثي في الراديو , فأخذت منذ ذلك العام أذيع كل سنة حديثين الأول في 10 فبراير عن ذكرى وفاة مصطفى كامل و الثاني في 15 نوفمبر عن ذكرى محمد فريد , عدا ما تطلبه الإذاعة من أحاديث في مواضيع أخرى .

و من أهم الأحاديث التي طلبتها مني ة أذعتها عدة أحاديث عن السودان سنة 1947, و قد أذعت حديثي الأول في هذا الموضوع يوم 8 مارس سنة 1947 عن ( وحدة وادي النيل . تكييفها و ما هو الغرض منها ) , و الثاني يوم 15 منه عن ( الدعوة الانفصالية في السودان فكرة استعمارية ) , و الثالث ( خدعة الحكم الذاتي في السودان ) و الخامس يوم 5 إبريل عن النظام الحاضر في السودان ) , و قد نشرت هذه الأحاديث في مجلة الإذاعة المصرية عقب إذاعتها .

مباراة مصطفى كامل الأدبية – 1941

في سنة 1940فكرنا في عمل تقترن فيه الدعوة الوطنية بالنهضة الثقافية , لاعتقادنا أن الوعي القومي يساعد غعلى الإيمان بهذه الدعوة , و هي فكرة سار عليها الحزب الوطني منذ تكوينه , و كان من أثرها نشرة الصحف و المؤلفات و المجلات و إنشاءه مدارس الشعب , و ما إلى ذلك .

فلما أزيح الستار عن تمثال مصطفى كامل في مايو سنة 1940 , اجتمعت مع إخواني أعضاء اللجنة الإدارية للحزب و قررنا فيما قررنا الدعوة إلى مسابقة تسمى " مباراة مصطفى كامل الأدبية " , يشترك فيها شباب الجيل , و موضوعها كتابة بحث عن ( جهود مصطفى كامل في نواحي النشاط الإنشائي القومي و بخاصة في التعليم و الاقتصاد و الاجتماع , وعلاقة ذلك بدعوته الوطنية ) , و تبرع صديقي و زميلي محمد محمود جلال بك بمبلغ خمسين جنيها تعطى مكافأة لمن يحوزون قصب السبق في هذه المباراة , و كانت شروط المباراة : 1- أن يكون المشترك فيها شابا مصريا لا تويد سنه عن ثلاثين سنة 2- أن لا تزيد الكتابة في موضوع المباراة عن عشر صحائف من القطع الكبير . 3- أن تقدم المواضيع إلى لجنة المباراة التي ألفت من : أنطون الجميل بك ( باشا ) , عبد الرحمن الرافعي بك , فكري أباظة بك ( باشا ) , الأستاذ محمود العمري , في مدة ثلاثة أشهر من تاريخ الإعلان عن المباراة .

و قد لبى الدعوة كثير من الشباب بلغت عدتهم عشرين متباريا , و قدم كل منهم بحثه , و كانت بحوثا قيمة دلت حقا على تقدم كبير في أفكار الشباب .

و قد قرأت اللجنة كل هذه البحوث و راجعتها و وازيت بينها , و وجدت أن أربعة منها جديرة بالجائزة , فوزعناها بينهم بالتساوي , و أقمنا لهذه المناسبة حفلة شاي فخمة في صالة على الدلة يوم 9 فبراير سنة 1941لمناسبة الذكرى الثالثة و الثلاثين لوفاة الزعيم , و فاز في المباراة كل من : الأستاذ نجيب تاوفليس الموظف بمصلحة السكك الحديدية , و علي منصور الطالب بكلية الحقوق , و الأستاذ لبيب السعيد الموظف بتفتيش مراقبة القطن بالدقهلية , و الأديب محمد الخالد توفيق ببني مزار .

و ألقيت في هذه الحفلة كلمة نوهت فيها بفكرة المباراة و ختمتها بقولي : " سادتي الأعزاء : إننا نحن الذين نؤمن برسالة مصطفى كامل نشعر بالغبطة و السرور إذ نرى الشباب يشترك معنا في حمل هذه الرسالة , و ما رسالة مصطفى كامل إلا رسالة البعث و الحياة , رسالة الحق و الحرية , رسالة الوطنية المنزهة عن الهوى , الخالصة لوجه الله و الوطن , رسالة الاستقلال و الجلاء , رسالة وحدة وادي النيل من منبعه إلى مصبه , فهي رسالة مجيدة جديرة بأن يشترك الشعب بجميع طبقاته في حملها , هي المثل الأعلى في حياة الأمة , في حاضرها و مستقبلها , و الأمم لا تنهض و لا تسير قدما إلى الأمام إلا إذا كانت لها مثل عليا تنشدها و تعمل على تحقيقها , و يسرنا و يثلج صدورنا أن نرى الشباب يقدر هذه الرسالة و يدركها بفهمه و بحثه و يؤمن بها بقلبه و فؤاده , و يخدمها بقلمه و لسانه , و لا غرو فالحقائق الكبرى و المبادئ الانسانية السامية مكتوب لها البقاء و الخلود , و الله نصير العاملين " .

ضريح مصطفى و فريد

أقيم ضريح مصطفى كامل القديم في المدفن الذي شيده الزعيم لوالدته بشارع المغافر بمدافن الإمام الشافعي , و قد شيعها إلى مرقدها الأخير سنة 1907 , و دفن إلى جوارها سنة 1908 , و من يومئذ لم تعمل يد في إصلاح هذا المدفن أو تجديده , حتى أخذ التصدع يظهر في سقفه و جدرانه سنة 1939 , و صار يخشى على الضريح الطاهر أن يستهدف للأمطار و الأعراض الجوية في شتاء ذلك العام , ففكرت مع لفيف من إخواني في تدارك هذا التصدع , و ألفنا في أواخر سنة 1939 لجنة لاصلاح الضريح , و تم لها جمع مبلغ يسير اكتتب به تلاميذ الفقيد و أنصاره و المعجبون به , فرممنا ضريحه ترميما جزئيا , و لم يعد مع ذلك في حالة تليق بمكانة الزعيم , فاقترحت في مجلس اشليوخ بجلسة 10 مايو سنة 1944 لمناسبة نظر ميزانية وزارة الأشغال اعتماد مبلغ خمسين ألف جنيه لتشييد مدفن جديد يضم رفات الزعيم , و وعدت الحكومة في هذه الجلسة بتنفيذ هذا الاقتراح , و وضعت تصميم المدفن الجديد , و أقيم في ميدان صلاح الدين بجوار القلعة , و تم تشييده في أواخر سنة 1947 .

أما ضريح محمد فريد القديم في مدفن العائلة بجوار مقام السيدة نفيسة رضي الله عنها , و قد أقيم القبر على عجل , و بقي طوال السنين عرضة للعراء و الأمطار في حالة لا تتفق و منزلة الشهيدة الذي ضحى في سبيل مصر بماله و صحته و نفسه و حياته , و قد اقترحت عندما كنت وزيرا في وزارة حسين سري باشا الائتلافية أن ينقل إلى وار مصطفى كامل , فقرر المجلس الوزراء في 18 سبتمبر سنة 1947 نقل رفات المرحوم محمد فريد إلى جوار مصطفى كامل بالمدفن الجديد , و هكذا يتاح للزعيمين العظيمين و الصديقين الوفيين أن يلتقيا بعد طول النوى , و يضمهما قبر واحد , بعد أن فرق الزم بينهما نيفا و أربعين سنة , و أصبح الضريح الجديد " ضريح مصطفى و فريد " .


استجوابي عن المعتقلين السياسيين 1941- 1942

في إبان الحرب العالمية الأخيرة اعتقلت الحكومة بعض الشبان استنادا إلى نظام الأحكام العرفية , فتقدمت في 24 نوفمبر سنة 1941 بسؤال عن الأسباب التي سوغت اعتقالهم , و هل كان بأمر النيابة العمومية أم ماذا , و هل هناك تهم معينة موجهة إلى أولئك المعتقلين , و هل حصل تحقيق في هذه التهم أم لا ؟ و كان غرضي من السؤال و صيغته اعتبار الاعتقال باطلا ما لم يكن بأمر من النيابة .

أجابت الحكومة عن هذا السؤال بجلسة 9 ديسمبر سنة 1941 ( في عهد وزارة حسين سري باشا ) و قد ذكرت في بياني بالجلسة أسماء بعض هؤلاء المعتقلين و هم المرحوم الأستاذ حسن البنا المرشد العام لجمعية الإخوان المسلمين , و الاستاذ أحمد السكري وكيلها , و الاستاذ عبد الحكيم عابدين سكرتيرها , و من المحامين الأساتذة أحمد حسين , و إبرهيم الزيادي , و إبراهيم طلعت , ومن الصحفيين الاستاذ محمد صبيح , و من المهندسين الاستاذ فتحي أبو الوفا .

كان جواب الحكومة على السؤال أنها أفرجت عن الأساتذة حسن البنا و أحمد السكري و عبد الحكيم عابدين " لزوال الأسباب التي بني عليها أمر اعتقالهم " , فطلبت من الوزارة إعادة البحث في التهم المنسوبة إلى المعتقلين الآخرين , فوعدت بذلك .

ثم تقدم استجواب من المرحوم الاستاذ يوسف الجندي عن المعتقلين السياسيين , و بعد وفاته تمسكت بهذا الاستجواب , و بدأ المجلس بنظره بجلسة 20 يناير سنة 1942 في أواخر عهد وزارة سري باشا , و أخذت في شرحه , ثم استقالت الوزارة و خلفتها الوزارة الوفدية برئاسة مصطفى النحاس باشا في فبراير سنة 1942, و استمر اعتقال المعتقلين , وزاد عليهم معتقلون آخرون .

و في 7 إبريل سنة 1942 جددت الاستجواب بتوجيهه إلى رئيس الوزارة الوفدية و نظر بجلسة 20 مايو سنة 1942 .

و قد استغرق شرحي للاستجواب خمس صحائف كاملة من مضابط المجلس المطبوعة , و أخذت على حكومة الوفد إبقاءها المعتقلين السياسيين و زادت عليهم من اعتقالتهم هي , و في مقدمتهم علي ماهر باشا , و قلت أن الاعتقال السياسي في عهد حكومة الوفد قد حصلت له مضاعفات شديدة تدعو للأسف .

و كان المجلس قبل أن أشرح هذا الاستجواب قد نظر بجلسة سابقة استجواب الاستاذ مصطفى الشوربجي بك عن اعتقال علي باشا ماهر , و قرر المجلس بعد مناقشته " الانتقال إلى جدول الأعمال " , و لاحظ لي بعض الأعضاء من أنصار الحكومة قبل انعقاد الجلسة أن هذا القرار له حجته في استجوابي , فناشدت أعضاء المجلس أن ينظروا في استجوابي غير متأثرين , بقرارهم السابق , و قلت في هذا الصددما يأتي :

" إني أرجو من حضراتكم ألا تعتبروا القرار الذي صدر فيما يتعلق بالحصانة له أثره في استجوابي , لأن القرار الذي صدر من المجلس في شأن رفعة علي ماهر باشا إنما هو قرار بالانتقال إلى جدول الأعمال , فليس قرارا موضوعيا , و لا مسببا , و إنما هو قرار سلبي بالانتقال من المسألة الفلانية إلى المسألة الفلانية , و هذا لا يمكن أن يؤثر في رأي حضراتكم فيما لو عرضت عليكم مسألة تشبه هذه المسألة عن قرب أو بعد .

" و مع ذلك – يا حضرات الزملاء – فإن المبادئ السامية التي قررت حقوق الإنسان , و منها الحرية الشخصية , ووضعت بذلك حجر الأساسي للحضارة البشرية و للمجتمع الإنساني , لم تتقرر دفعة واحدة في المجالس التشريعية في مختلف العصور و البلدان , بل احتاجت إلى أخذ ورد كويلين و شد و جذب , و مد و جزر , حتى أستقرت آخر الأمد على أساس مكين , و إن مضابط هذه المجالس التشريعية لتفيض بشتى القرارات و البحوث , بعضها غامض مبهم , و بعضها صريح فصيح , و كانت هذه المبادئ في حاجة إلى هذا التطور حتى وضعت في نصابها , فلا يضيرنا أبدا أن تعرض هذه المسائل مرة بعد مرة , لأن هذه المبادئ التي اسنفدت قرائح العلماء و الفلاسفة و المشرعين , و السياسيين و المجاهدين , استنفدت قرائحهم و جهودهم على توالي السنين , جديرة بأن يعاد فيها النظر المرة بعد المرة , و الكرة بعد الكرة , حتى تبرز في حقيقتها الرائعة , و في حلتها الساطعة , مقررة حقوق الإنسان .

" فهذه المبادئ – يا حضرات الزملاء – جديرة بأن تعيدوا النظر فيها حينا بعد حين , و أنا بعد آن , و في كل الظروف , و في كل مناسبة , و لا يحول دون ذلك قرار سابق أو لاحق , هذه المبادئ جديرة بأن تحبوها بتأييدكم و عنايتكم , حتى يمكن أن تبرز جلية واضحة , و أن توضح في نصابها الصحيح , و حتى يتقرر فيها حقا أن حرية الفرد مكفولة بحكم الدستور و حكم المبادئ السامية .

" هذه المبادئ جديرة بأن تحبوها بتأييدكم و نايتكم , و أنتم جديرون بذلك , و من أجدر منكم بذلك يا شيوخ الأمة ؟ يا حماة الحق , و حماة الدستور و حماة الحرية ؟

" فلا يؤثر إذن في موضوع الاستجواب القرار الذي صدر منكم , وهو قرار محترم , و لكنه ليس قرارا صادرا في الموضوع , ولا في الموضوع الذي صدر فيه , و لا يؤثر في الموضوع المعروض الليلة عليكم , ومع ذلك فإن ميزة هذه القاعة الكبرى أنها تشد الحقيقة في كل مسألة تعرض عليها و تنشد المثل العليا , فإذا ما عرضت عليها مسألة وجب أن ينظر فيها كانت مسألة جديدة , جديرة بأن يتظر فيها بعين العدل و الإنصاف و الدستور , فاسمحو لي إذن – يا حضرات الزملاء – أن أعرض على حضراتكم وجهة نظري في أن الأحكام العرفية لا تؤثر مطلقا في حقوق الأفراد التي قررها الدستور , و أن السلطة العسكرية لا تملك القبض على الأشخاص إلا في الحدود الواردة في قانون تحقيق الجنايات ".

ثم شرحت للمجلس وجهة نظري في مدى سلطة الحكومة في الاعتقال , و خلاصتها أن الدستور إذا جاز تعطيل حكم من أحكامه في أثناء قيام الأحكام العرفية قد اشترط أن يكون ذلك على الوجه المبين في اقلانون و هو قانون الأحكام العرفية الذي صدر في 26 يونيه سنة 1923 أي في أعقاب الدستور , و هذا القانون حدد الأحكام العرفية التي يصح فيها تعطيل حكم من أحكام الدستور , وهي التي تعلن كلما تعرض الأمن أو النظام العام في مصر أو في أي جهة منها للخطر سواؤ كان ذلك بسبب إغارة قوات العدو المسلحة أو بسبب وقوع اضطرابات داخلية , أما الأحكام العرفية التي أعلنت في سبتمبر سنة 1939 فقد كان إعلانها بناء على طلب الحكومة البريطانية تنفيذا لمعاهدة سنة 1936 كما هو ثابت من الوثائق الرسمية , فليس هذه الحالة التي عناها الشارع في قانون الأحاكم العرفية , ومن ثم تظل حصانة الأفراد في ظلها قائمة و لا يجوز المساس بها إلا في حدود قانون نحقيق الجنايات .

و هنا قال صبري أبو علم باشا ( وزير العدل وقتئذ ) إن المعاهدة قد أجرمت بقانون , فأجبت بأن لي رأيا آخر و هو أن المعاهدة شيء و القانون شيء آخر , و المعاهدة ليست قانونا , و تابعت شرح وجهة نظري في أن الأحكام العرفية التي أعلنت في سبتمبر سنة 1939 بناء على طلب الحليفة ليست من النوع الذي يحوز فيه إهدار حصانة الأفراد , لأن هناك نوعين من الأحاكم العرفية , نوع يقصده الدستور في المادة (155) و هو الموضح في قانون سنة 1923 , ونوع آخر تولد عن التزام في معاهدة سنة 1936 , فما كان الدستور و هو يوضع في سنة 1923يتنبأ بأحكام عرفية ستعلن طبقا لمعاهدة أبرمت في سنة 1936 أي بعد ثلاث عشرة سنة من صدور الدستور .

و قد رد صبري أبو علم على وجهة نظري ردا ارتكن فيه على المعاهدة , و اشترك بعض الأعضاء في الممناقشة , ثم قدمت اقتراحا هذا نصه " أقترح أن يقرر المجلس أن يطلب من الوزارة الإفراج عن المعتقلين السياسيين الذين لم يثبت التحقيق اتهامهم بأي تهمة قانونية و أن يحيل إلى المحاكمة من أثبت اللتحقيق إدانتهم قانونا ".

فرد صبري أبو علم على هذا الاقتراح بأنه غير دستوري .. بحجة أنه تكليف من المجلس للسلطة التنفيذية باتخاذ إجراء معين , و أن هذا يحل أحد المجلسين محل الحكومة في مباشرة سلطتها التنفيذية و هذا إخلال بمبدأ فصل السلطات .

فأجبت بأن المجلس سار على قاعدة مطردة منذ سنة 1924 إلى الآن و هي أن يقبل الاقتراحات برغبات . و أقترح بعض الشيوخ الوفديين إقفال باب المناقشة و الانتقال إلى جدول الأعمال , و تقدم اقتراح ثالث من الشيخ حسن عبد القادر بإحالة الاستجواب إلى لجنة الشئون الدستورية لإبداء رأيها فيه و بحثه من الوجهة الدستورية و تقديم تقريرها للمجلس في ظرف أسبوعين , و قد أجل أخذ الرأي في الاقتراحات الثلاثة إلى جلسة تالية , و بهذه الجلسة ( 9 يونيه سنة 1924 ) وافقت الأغلبية على الانتقال إلى جدول الأعمال .."


استجوابي عن الخبير الاقتصادي البريطاني يونيهيوليو سنة 1943

عينت وزارة الوفد في مايو سنة 1943 المستر جيمس باكستر الاقتصادي البريطاني خبيرا ماليا للحكومة المصرية في المسائل المالية و الاقتصادية بعقد لمدة ثلاثلة سنوات , و كان أمين عثمان باشا وزيرا للمالية في ذلك العهد .

فتقدمت في 5 يونيه سنة 1943 إلى رئيس الوزارة باستجاب عن مسوغات هذا التعيين و أسبابه و ظروفه و ملابساته , و مبلغ الحاجة إليه , و عن راتبه و مدى سلطته الرسمية و غير الرسمية و أثره في سياسىة مصر الاقتصادية و المالية الحالية و المستقبلة .

نظرا هذا الاستجواب بجلسة 15 يوليو سنة 1943 , و كانت آخر جلسة للدورة البرلمانية , فلما شرعت في شرح استجوابي طلب مني بعض الأعضاء الوفديين أن أنتظر حتى أسمع رد رئيس الوزراء النحاس باشا , ثم أتكلم بعده , فقلت لهم إن الوضع السليم أن أتكلم أولا ثم يرد رئيس الوزارة , و تمسكت بحقي في الكلام أولا مستندا إلى الالائحة الداخلية فأجاب المجلس طلبي على مضض و أخذت في شرح الاستجواب , وموجز أقوالي أن تعيين هذا الموظف المالي الكبير البريطاني قوبل بالدهشة و أن ما يوحي به هذا التعيين أن ليس لدينا خبير أو خبراء ممتازون فنيون في المسائل الاقتصادية و المالية , مع أننا خطونا في الثلاثين سنة الماضية خطوات واسعة في هذا الميدان و تكونت في البلاد فئة ممتازة من الخبراء الاقتصاديين و الماليين , أفلا يوجد رجل واحد في هذه الفئة يمكن للحكومة أن تسترشد بخبرته الاقتصادية و المالية في المشاكل التي نشأت عن الحرب و التي ستنشأ بعد انتهائها ! و استطردت إلى أن المسائل المالية و الاقتصادية ليست مسائل فنية فحسب , و إنما هي أولا و قبل كل شيء مسائل قومية قبل أن تكون فنية , و أن الفن فيها يجب أن يكون في خدمة الأغراض القومية , وهي مرتبطة بما يسمى الاستقلال الاقتصادي للبلاد و كلها ترجع إلى هذا الأساس لأنه لا يصح مطلقا أن تعتبر مصر سوقا دولية , و بعد أن شرحت هذه الفكرة انتقلت إلى فكرة أخرى و هي أن هذا التعين بالذات هو نوع من أنواع الغزو السلمي قد تكون له نتائج أخطر من الغزو المسلح , لأن الغزو السلمي يسير في شيء من الهوادة و الاطمئنان و عدم الامعارضة و ربما يؤدي إلى تدخل دولة أجنبية في شئون الدولة .

و قد أثارت هذه الملاحطة اعتراضات بعض الشيوخ الوفديين , و صاح أحدهم ( محمد المغازي عبد ربه باشا .. ) قائلا في حدة : لقد استنار المجلس و كفى ! )

فقلت ( يجب أن تتركوني أتمم كلمتي و تستمعوا لها ) , و طلب الرئيس ( علي زكي العرابي باشا ) من الأعضاء أن يدعوني أتمم كلمتي .

فتابعت الكلام و ضربت مثلا بالبعثة العسكرية البريطانية و النص في المعاهدة على أن الغرض منها أن تستعين الحكومة المصرية بخبراء حربيين أجانب .

فغقال الرئيس :" إن الخبير الاقتصادي لم يأت ذكره في المعاهدة المصرية البريطانية ".

و قال النحاس باشا :" هل نحن نتناقش الآن في المعاهدة المصرية البريطانية أن في تعيين الخبير الاقتصادي ؟ إننا نعرف رأيك في المعاهدو و لا داعي لأن تدخل شيئا في شيء ".

فأجبت بأن البعثة العسكرية نص عليها في المعاهدة, أما الخبير الاقتصادي و هو أشد خطورة منها فلم ينص عليه في المعاهدة , وبالتالي نحن غير ملزمين بأن يكون هذا الخبير انجليزيا .

و ألمعت في حديثي إلى ما كان من تعيين مستشار مالي بريطاني سنة 1883 ثم أخذ نفوذه يستفحل حتى صارت له السيطرة الفعلية في الحكومة , و ختمت كلمتي بأنه لا توجد مسوغات لتعيين خبير اقتصادي أجنبي للحكومة المصرية , فضلا عن أن هذا التعيين يتعارض مع الاقتصاد القومي .

و رد النحاس باتشا على استجوابي ردا طويلا , خلاصته أن المشاكل الاقتصادية و المالية التي واجهتها مصر خلال الحرب و ستواجهها بعد انتهائها استدعت تعيين هذا الخبير , ثم قال ما يأتي عن اختياره من الماليين الانجليز :" و كان من الطبيعي أن يختار الخبير من رجال دولة بيننا و بينها صلات مودة و صداقة و تحالف , و أن يكون معروفا لمصر و عارفا بظروفها المالية , و لم يكن ممكنا اختيار خبير أوروبي من أية دولة أخرى و لا أمريكي لصعوبات مالدية ظاهرة , و لأن النظام الانجليزي المالي أقرب إلى الأنظمة المصرية ". و بعد أن انتهى النحاس باشا من رده قرر المجلس الانتقال إلى جدول الأعمال .


الأرصدة الاسترلينية بمجلس الشيوخإبريل سنة 1944

أخذت الأرصدة الاسترلينية تتزايد خلال الحرب العالمية بسبب إهمال الحكومة و مجاملتها لبريطانيا , و أشتد التضخم في عهد وزارة الوفد , و قد نبهت إلى هذا الخطر في مجلس الشيوخ بجلسة 18 إبريل سنة 1944 لمناسبة المناقشة في السياسة المالية العامة للدولة , و كان ذلك أيضا في عهد وزارة الوفد و كان أمين عثمان باشا وزيرا للمالية , و ألقيت كلمة في منشأ الأرصدة و تكييفها و طالبت بوضع حد لها . و أيد بهي الدين بركات باشا وجهة نظري , وزادها وضوحا و تفصيلا في كلمته التي ألقاها في هذا الموضوع بجلسة 20 إبريل سنة 1944 و قال ضمن ما قال :

" إن اللجنة المالية أرادت أن تقول أن ليس عندنا تضخم و أكتفت بأن تثبت نتائج التضخم – و هي كلها موجودة عندنا – و لكنها لم ترد أن تقول بأن في مصر تضخما , فما هي الحقيقة إذن و بماذا نكيف هذه الحالة و ما سببها ؟ السبب ما قالته اللجنة و هو وجود الجيوش الأجنبية المتحالفة في مصر , كيف هذا ؟ إن الجيوش تصرف و تدفع لنا مقابل ما تصرفه , إذن هي تدفع نقدا في مقابل البضائع , و المطبعة المصرية تشتغل , إذن كيف يمكن أن يكون في مصر تشخم ؟ منذ يومين عالج زميلي حضرة الشيخ المحترم عبد الرحمن الرافعي بك موضوع النقد في مصر و عالج هذه الحالة معالجة دقيقة بعد دراسة مسببة و عرض الحالة على حقيقتها فلا حاجة بي إلى أن أرجع إلى تكرار شيء مما قاله عن المبادئ الاقتصادية و لا عن تاريخ العملة في مصر لأني أوافقه على كل ما قاله " , ثم أفاض بهي الدين باشا في ضرر الأرصدة الاسترلينية و اقترح عدو حلول لاستخلاصها .

و بجلسة 25 إبريل سنة 1945 رد أمين عثمان باشا وزير المالية على أقوالي و أقوال بهي الدين بركات باشا , فلم يزد عن عبارات عامة دعا فيها إلى الثقة في تعهدات " حليفتنا الكبرى " قال :

" و أود بهذه المناسبة أن أِير إلى ما أبداه بعض حضراتكم من التشكك في إمكان استردادنا بعد الحرب لما ندين به بريطانيا , ولعلي لست بحاجة إلى أن أذكر أنه لا محل مطلقا لهذا التشكك بل لمجرد التفكير فيه , بعد أن علقنا مصيرنا بمصير الديمقراطيات و وقفنا إلى جانيها في دفاعها عن الحرية و العدالة و المدنية , و بالنظر إلى ما هو معروف عن حليفتنا الكبرى من سلامة ماليتها و شدة محافظتها على تعهداتها و دقة وفائها بديونها مما يجعل ضمان هذه الديون في مرقى عن كل شك " .. كذا .

و لعمري ليس بمثل هذه الأقوال و لا بمثل هذه الروح حقوق تصان البلاد السياسية و المالية , و قد برهنت الحوادث على أن ديون مصر على بريطانيا من الأرصدة الاسترلينية بقيت طوال الحرب و بعد انتهائها قائمة لم توف منها إلا النزر اليسير .


استجوابي عن الأهداف القومية يونيهأغسطس سنة 1945

انتهت الحرب العالمية في أوروبا في مايو سنة 1945 حين استسلمت ألمانيا للحلفاء , وكانت وزارة المرحوم محمود فهمي النقراشي باشا الأولى تتولى الحكم , وكنت أرى واجبا عليها أن تبادر إلى المطالبة رسميا بأهداف مصر القومية , و لكنها تباطأت في هذه المسألة الهامة , فقدمت استجوابا في هذا الصدد إلى رئيس الوزارة .

كان هذا الاستجواب من أهم الاستجوابات التي نظرت في البرلمان , و قد اهتمت به الصحف و اهتم به الرأي العام اهتماما كبيرا يتناسب مع خطورة موضوعه , و لأنه أول استجواب قدم في البرلمان عن هذه الأهداف بعد انتهاء الحرب العالمية مباشرة .

قدمت طلب الاستجواب إلى رئيس مجلس الشيوخ يوم 9 يونيه سنة 1945 و هذا نصه : " حضرة صاحب السعادة رئيس مجلس الشيوخ " :

" تحية و سلاما . و بعد فإني أرغب في استجواب حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء عن الأسباب التي دعت الوزارة إلى عدم المبادرة بالمطالبة بأهداف مصر الأساسية و في مقدمتها الجلاء و تحقيق وحدة وادي النيل , و متى يجين الوقت لتطالب بهذه الأهداف , و تفضلوا بقبول فائق الاحترام .

" 9 يوينه سنة 1945عبد الرحمن الرافعي "

كتبت هذا الخطاب بعد تفكير طويل لأني أردت أن أحدد فيه الأهداف القومية في أعقاب الحرب العالمية الأخيرة تحديدا يكون موضع اتفاق الجميع شعبا و حكومة و يكون شعارا للجهاد في هذه المرحلة الهامة من تاريخ مصر القومي , هل نطالب بالجلاء فقط و يكون مفهوما منه أنه الجلاء عن مصر و السودان معا ؟ لقد ترددت في أن نطالب بالسودان لأن النداء بهذا الطلب قد يجرح شعور إخواننا المجاهدي نمن أبناء الجنوب , لأنهم يأبون فيما أعتقد أن نعبر عن السودان كقطعة من مصر , و يريدون تعبيرا أخر يتفق مع تقدم الوعي القومي في جنوب الوادي و يوائم روح الاعتزاز بالكرامة في نفوس المجاهدين السودانيين , و إذا قلنا الجلاء عن مصر و السودان , ففي هذا التعبير ما قد يوحي بأن مصر قطر و السودان قطر آخر , و هذا ما لا نرضاه كدعاة للوحدة , ثم أن الجلاء عن مصر و عن السودان قد لا يتعارض مع الدعوة الانفصالية التي خلقها الاستعمار في السودان , فالجلاء عن كليهما لا يمنع الانفصال التام بينهما , و لا بد من تعبير آخر يكون وجيزا و يشمل الجلاء عن مصر و السودان مع ربط شطري الوادي برباط الوحدة لا انفصام لها , تلك الوحدة التي هي ضرورة طبيعية و تاريخية و جغرافية لكلا الجزءين , فرأيت أن أوجز تعبيرا للأهداف القومية هو ( الجلاء و وحدة وادي النيل ) , و قد لا يعرف إلا القليلون أن هذا التعبير قد ورد لأول مرة على لساني بجلسة 8 ديسمبر سنة 1942 ( ص 132 ) و في هذا الاستجواب , و صار شعار الجهاد في أعقاب الحرب العالمية الأخيرة.

أخذ هذا الاستجواب يؤجل من جلسة إلى أخرى إلى أن نظر بجلستي 6 و7 أغسطس سنة 1945و في كل مرة يزداد اهتمام الرأي العام به .

قالت الأهرام بعدد 22 يونيه سنة 1945:" و أما مصر فسيفتح ملف قضيتها وشيكا فقد طلب الشيخ المحترم عبد الرحمن الرافعي بك استجواب الحكومة عن " عدم المبادرة بالمطالبة بأهداف مصر الأساسية و في مقدمتها الجلاء و وحدة وادي النيل , و قد نمى إلينا أن دولة رئيس الوزراء ينتظر عودة مندوبي مصر من مؤتمر سان فرنسيسكو ليقف على ما لديهم من بياناتو معلومات عن قرارات المؤتمرين النهائية و عن الاتجاهات الدولية فيجمع اللجنة السياسية التي جمعها قبل السفر إلى المؤتمر و لعله بعد ذلك يدلي بتصريح في البرلمان خلال مناقشة الاستجواب الذي تقدمت الإشارة إليه أو قبل ذلك ".

و قالت أيضا بالعدد الصادر في 2 أغسطس سنة 1945 :" عقد مجلس الوزراء ظهر أمس برياسة حضرة صاحب الدولة محمود فهمي النقراشي باشا و ظل منعقدا إلى منتصف الساعة الثالثة و قد عرض على المجلس في هذا الاجتماع البيان الذي سيلقيه دولة النقراشي باشا في مجلس الشيوخ يوم الاثنين المقبل لمناسبة الاستجواب المقدم من الشيخ المحترم عبد الرحمن الرافعي بك في موضوع مطالب مصر القومية و موقف الحكومة منها ".

و قالت بالعدد الصادر في 6 أغسطس سنة 1945 :" يجتمع مجلس الوزراء ظهر اليوم برئاسة صاحب الدولة محمود فهمي النقراشي باشا للنظر في البيان الذي يلقيه دولته مساء اليوم في مجلس الشيوخ ردا على الاستجواب المقدم من الشيخ المحترم عبد الرحمن الرافعي بك في موضوع مطالب مصر القومية ".

شرحت استجوابي بجلسة 6 أغسطس شرحا وافيا استغرق خمس صفحات من الضابط , و خلاصة حديثي في تلك الجلسة أنه كان يجب على الحكومة أن تبادر إلى المطالبة بأهداف مصر القومية منذ الساعة الأولى , منذ أن وضعت الحرب الأوربية أوزارها , بل منذ عقد مؤتمر في فبراير سنة 1945 , وكانت كل دولة تطالب علنا بأهدافها و حقوقها , و حذرت من قبول الاحتلال الأجنبي تحت أي وضع سواء كان انفراديا أو ثنائيا أو دوليا , وختمت حديثي بقولي :" لا يجوز لنا أن نقبل أن تكون مصر سوقا دولية أو محطة استعمارية , لأن مصر ليست سوقا بل هي وطن , وهي وطن لأمة من أعرق الأمم في الحضارة و المدنية ".

و قد رد المرحوم النقراشي باشا على استجوابي ردا وافق على الجلاء و وحدة وادي النيل , قال رحمه الله في هذا الصدد :" إذا كان ما قصد إليه حضرة المستجوب هو السؤال عما إذا كانت الحكومة تعتزم السعي إلى تحقيق تلك الأهداف فليس الجواب إلا أن هذا واجب وطني لا يسع الحكومة أن تتخلى عنه أو أن تتردد في أدائه أو أن تفوت فرصة القيام به ".

إلى أن قال :" ثم إن مصر أقامت الدليل تلو الدليل على حفظها العهد و قد ناصرت حليفتها و أبلت في ذلك خير بلاء , و أبدت صادق العزيمة في مقاومة المعتدين و بلذلت من المعونة لقضية الديمقراطية ما اعترفت الأمم المتحدة بجليل قدره و ببالغ أثره في انتصار الحلفاء , و ليس فوق ذلك كله سبب أكثر تبريرا و أقوى سندا لإنهاء القيود التي أحاطت استقلال البلاد و لتحقيق مطلبها من جلاء الجنود الأجنبية عنها , أما وحدة وادي النيل بمصره و سودانه فإن المبادئ التي أطلعها على العالم هذا العهد الجديد جديرة بتحقيقها لاسيما و أن هذه الوحدة تتفق مع صميم رغبات أبناء الوادي جميعا , و لا تتوقع الحكومة أي صعوبة في مفاوضة بريطانيا العظمى لأنها تلمس ما تكنه بريطانيا نحو مصر من حسن النوايا و خالص الصداقة و لا شك في أنها تشاطر مصر الشعور بملاءمة الظروف و تدرك حق الإدراك أن هذه الحكومة تترجم عن مطالب الأمة جمعاء لا مطالب فريق دون آخر " .

و اكتفى المجلس بالمناقشات التي دارت في الاستجواب و لم يصدر في شأنه قرارا معينا .

قرار الحكومة في هذا الصدد سبتمبر سنة 1945

في 22 سبتمبر سنة 1945 اجتمعت الهيئة السياسية الاستشارية التي ألفتها الحكومة و أصدرت القرار الآتي :" ترى الهيئة السياسية بإجماع الآراء أن حقوق مصر الوطنية كما أجمع عليها رأي الأمة و أعلنتها الحكومة هي جلاء القوات البريطانية و تحقيق مشيئة أهل وادي النيل في وحدة مصر و السودان , كما ترى الهيئة أن الوقت الحاضر هو أنسب الأوقات للعمل على تحقيق أهداف البلاد القومية و اتخاذ الوسائل لمفاوضة الحليفة للاتفاق على هذه الأسس يزيد ما بين البلدين من علاقات الصداقة و التعاون توثقا و متانة ".

و وافق مجلس الوزراء في اليوم التالي على هذا القرار .

تعليقي على هذا القرار

أن قرار مجلس الوزراء جاء إعلانا صريحا بأن حقوق البلاد الوطنية كما أجمع عليها رأي الأمة و أعلنتها الحكومة هي جلاء القوات البريطانية و تحقيق وحدة وادي النيل , و كان هذا القرار مكسبا للقضية الوطنية .

و لكن فيه ناحية نقص في الوسيلة , ذلك أنه جعل الوسيلة إلى تحقيق الأهداف القومية مفاوضة بريطانيا للاتفاق على هذه الأسس و جعلها أساس للتحالف بينهما .

و قد قدم المرحوم صبري أبو علم باشا في أكتوبر سنة 1945 استجوابا آخر عن الأهداف القومية نظر بجلسة 16 أكتوبر سنة 1945 , و لاحظت في هذه الجلسة على قرار الهيئة السياسية هذا النقص في الوسيلة و قلت في هذا الصدد ضمن ما قلت :" أعود فأقول هل طالبت الحكومة الكصرية الحكومة الانجليزية بالجلاء عن وادي النيل ؟ كلا لم يحصل , و كل ما تقدمت به الحكومة هو مذكرة رفعت إلى مؤتمر الدول الخمس فيما يتعلق بتصفية المستعمرات الإيطالية , لذلك استسمح حضراتكم أن أبين لكم ملاحظاتي على هذه المذكرة , و الأصل هو الجلاء هن وادي النيل , و أنا أستسمح حضرات أعضاء الهيئة السياسية أن ألاحظ على قرارها أنها توصي باتخاذ الوسائل لمفاوضة " الحليفة " للاتفاق على هذا الأساس , و أنا لا أريد أن أعرض بالهيئة السياسية و إنما أوثر طريقة المطالبة على طريقة المفاوضة " .

و بعد انتهاء المناقشة في هذا الاستجواب عرض علىالمجلس اقتراحات ثلاثة .

أحدهما مشروع قرار مقدم من محمد علي علوبة باشا هذا نصه :" يؤيد المجلس المطالب الوطنية التي أعلنتها الحكومة , و يطلب إليها المبادرة بالعمل على تحقيقها ".

و الثاني مقدم مني و نصه :" اقترح أن تبادر الحكومة إلى مطالبة انجلترا رسميا بالجلاء الكامل العاجل عن وادي النيل ".

و الثالث مقدم من صبري أبو علم باشا و بعض زملائه الوفديين و نصه :" يعلن المجلس أنه بعد انتهاء الحرب و تغير الظروف و بعد إبرام مصر لميثاق سان فرانسيسكو – أصبح من المتعين إعادة النظر فورا في معاهدة التحالف و الصداقة مع بريطانيا و ما توجبه من التزامات على مصر , حتى تصبح المعاهدة متفقة مع الأحوال الدولية الجديدة و مع ما يوجبه ميثاق سان فرانسيسكو ".

و قد أخذت الآراء في هذه الجلسة فوافقت أغلبية المجلس على اقتراح علوبة باشا .

تكييف القضية الوطنية أمام الهيئة الدولية

مطالبة لا احتكام

كنت و لا أزال أرى في المفاوضات قبل الجلاء صرفا للبلاد عن هدفها الأكبر و هو الجلاء . فلما أعلنت وزارة المرحوم النقراشي باشا في أواخر يناير سنة 1947 عرض قضية البلاد على مجلس الأمن اعتبرت ذلك مكسبا للقضية , على أني مع ذلك لم أكن أثق بأن مجلس الأمن سينصفنا , فنظرت إلى عرض القضية عليه كوسيلة من وسائل الكفاح , و حذرت من ضرر الاحتكام إلى الهيئات الدولية .

عرض هذا الموضوع على مجلس الشيوخ بجلسة 12 فبراير سنة 1947 , فأدليت بوجهة نظري و قلت في مستهل كلمتي :" لاشك أن إعلان الحكومة قطع المفاوضات و عزمها على رفع القضية المصرية إلى مجلس الأمن هو قرار يقابل في ذاته بالغبطة لأن إعلان الحكومة أن المفاوضات قد أصبحت غير مجدية – و قد كانت غير مجدية منقديم – يعد كسبا للقضية المصرية , لأنها مع الأسف الشديد قد خسرت كثيرا بالالتجاء إلى طريق المفاوضات ".

ثم تكلمت عن طريق تكييف القضية أمام مجلس الأمن و قلت : " إن القضية الوطنية تنحصر في أمر واحد , هو جلاء لالانجليز عن مصر و السودان , هذا هو التكييف الصحيح الذي يجب أن تعرض به قضيتنا على أية هيئة دولية و هذا التكييف يستتبع اعتبار الاحتلال منذ 1882 عملا غير مشروع , و أن كل ما أبرم أو عقد في ظل الاحتلال نتيجة لوجوده هو عمل باطل ابتداء من سنة 1882 و استمر إلى اليوم , و هذا يستتبع أن اتفاقية سنة 1899 الخاصة بالسودان هي اتفاقية باطلة , و أن معاهدة سنة 1936 هي كذلك باطلة ".

لا احتكام في الجلاء

ثم عرجت بمسألة الاحتكام و حذرت منه و قلت في هذا الصدد :" لا يصح لنا – صيانة لقضيتنا – أن نعرضها كمحتكمين , و لا يصح لنا أن نلجأ إلى طريقة الاحتكام , لأن جوهر ما نطالب به هو الاستقلال في ذاته , لأن الجلاء هو الاستقلال و لا يبصح أن يكون الاستقلال موضع تحكيم , و لا توجد أمة تقبل أن يكون استقلالها موضع تحكيم , إنما يكون التحكيم في مسائل فرعية أو خلافات محلية بينها و بين بلد آخر , فتعرض الأمر على الهيئات الدولية محتكمة إليها , لتفصل بينها و بين الدولة الأخرى التي يكون بينها و بينها خلاف , لقد قال الكثيرون بالاختكام إلى محكمة العدل الدولية و معنى الاحتكام إليها أن نقبل قرارها , في هذا من الضرر ما فيه , و لذلك قلت إنه لا يصح الاحتكام , بل يجب أن يكون موقفنا أمام الهيئات الدولية موقف مطالبة , لا موقف احتكام , يجب أن نطالب بالجلاء لأن هذا الجلاء هو حق طبيعي لنا , و لأن هناك سببا من شأنه أن يضم إلينا مجموعة الأمم , وهو أن الجلاء أمر لازم للسلام العام ".

و قلت في جلسة 13 يناير سنة 1948 :" إن الوقت المناسب لعرض قضية مصر على مجلس الأمن كان فبراير و مارس سنة 1946 حيث عرضت على هذا المجلس قضايا سوريا و لبنان و إيران , و لعلكم تذكرون حضراتكم أنه في هذا الوقت قد عرضت هذه القضايا على مجلس الأمن و كسبت هذه الدول قضاياها إذ تقرر فيها وجوب جلاء القوات الأجنبية عنها , فاسمحوا لي أن أقول أننا تأخرنا في عرض قضيتنا على مجلس الأمن عاما و نصف عام , لقد تعطل عرض القضية لأن الحكومة لجأت إلى طريق المفاوضة ".

== منع تمليك الأجانب الأراضي الزراعية و العقارات ==

في 8 ديسمبر سنة 1948 قدمت إلى مجلس الشيوخ مشروع قانون بمنع تملك الأجانب للأراضي الزراعية و العقارات المبنية أو المعدة للبناء في المملكة المصرية , وكان غرضي من هذا المشروع صيانة الأملاك المصرية من أن تنتقل إلى الأجانب , و حفظها للمصريين , و أرفقت بالمشروع مذرة إيضاحية توضح الغرض منه و ترسم خطوطه الرئيسية قلت فيها :

" تحرص الأمم على حفظ كيان أملاكها الثابتة و جعل ملكيتها مقصورة على المواطنين , لأنها بوصف كونها ثابتة لا منقولة تعتبر ملتصقة بأرض الوطن , بل هي جزء منه , ومن ثم تمنع الحكومات الأجانب لها حفظا لكيان الوطن ذاته , و لقد سارت مصر على هذه القاعدة إلى منتصف القرن التاسع عشر , إذ كانت قوانينها المقتبسة منقوانين تركيا وقتئذ لا تجيز التصرف للأجانب في الأراضي و العقارات , وكانت هذه حجة الخديوي إسماعيل في معارضة شروط الامتياز التي نالتها شركة قناة السويس في عهد سعيد باشا و حصلت بمقتضاها على ملكية رقعة واسعة من الأراضي المصرية , و لكن مصر تحللت من هذه القيود وجعلت حق الملكية العقارية عاما للمواطنين و الأجانب على السواء , فانتقلت على تعاقب السنين ملكية جزء كبير من الأراضي إلى الأجانب أفرادا و شركات , فبحسب إحصاء سنة 1946 يتبين أن مجموع الأراضي الزراعية فيا لمملكة المصرية تبلغ 5.903.143فدانا منها 3570192 فدانا يملكها الأجانب عدا مالهم من حقوق عقاربه على جزء كبير من الأراضي المملوكة للمواطنين , ومما يستوقف النظر في هذا الإحصاء أن الملكية الزراعية التي يزيد نصابها على ألفي فدان يبلغ عدد ملاكها 35 مالكا عدا الوقف منهم ثمانية عشر من المصريين و مجموع ما يملكونه 54.882 فانا , و سبعة عشر من الأجانب و مجموع ما يملكونه 114.607 أفدنة , أي أن كبار ملاك الأجانب يملكون أكثر من ضعف ما يملكه كبار الملاك المصريين , و لهذا الوضع من الدلالة ما لا يخفى .

" و فضلا عن أن في انتقال ذلك الجزء الكبير من الأملاك الثابتة إلى أيدي الأجانب خطرا على الكيان القومي , فليس معروفا إلى أي مدى يستفحل هذا الخطر في المستقبل إذا ترك انتقال الملكية العقارية إلى الأجانب مطلقا من كل قيد .

" فالتطورات الاقتصادية و المالية , و الوسائل الاستغلالية , قد تتنوع و تغري الملاك المصريين بمختلف الأساليب بالتصرف في أملاكهم للأجانب إذا لمحوا بريقا من الكسب الوقتي , ولو كان بريقا خداعا , لا يلبث أن يكون سرابا , فعلى الدولة أن تحتاط لكيان الملكية العقارية و تضع من القوانين ما يمنع تسربها إلى أيدي الأجانب أفرادا أو شركات و ليست هذه القوانين بدعا في التشريع ,فإن معظم الدول حتى العظمى التي لايخشى على كيانها الاقتصادي تسير على هذا الوضع , إما بمقتضى قوانينها أو بموجب الأمر الواقع بحيث لا ترخص للأجانب بامتلاك أملاك ثابتة في بلادها , و يكفي لمن يريد أن يتثبت من هذه الحقيقة أن يجرب طلب شراء أرض زراعية أو عقارات مبنية في أي بلد من هذه البلدان فإنه يصطدم حتما بقوانين تحظر تملك الأجنبي لشء منها أو يرفض طلبه بحكم الأمر الواقع المعمول به في هذه البلاد .

" فهذه الحماية للملكية العقارية في الدول المتحضرة هي التي يستوحي منها المشروع المعروض على هيئة المجلس أحكامه ونصوصه .

" وليس في هذا المشروع مساس باللحقوق المكتسبة للأجانب , فإنه لا يسري على ما يملكونه قبل أن يصير قانونا , بل يبقى ملكا لهم , و لا يسري كذلك على ما يئول إليهم بعد صدوره بطريق الإرث , و بذلك تصان الحقوق الكتسبة للأجانب من كل وجه .

" هذا إلى أنه قد قصر الحظر بالنسبة لأراضي البناء و العقارات المبنية على المخصصة منها للسكن , فأباح بذلك تملك الأجانب لهذا النوع من الأملاك الثابتة إذا كان الغرض منها إقامة المصانع أو المتاجر , وقد روعي في هذا التمييز أن لا يضيق التشريع مجال النشاط الاقتصادي الصناعي و التجاري و المالي في البلاد إذا ساهمت فيه رؤوس أموال أجنبية , ففي هذه الحالة لا يسري الحظر الوارد في المشروع , لأن الأصل فيه يقتصر على الأملاك الثابتة دون المنقولة , و لما كانت المنشآت الصناعية و التجارية لا تعد من الأملاك الثابتة فلا تدخل ملحقاتها العقارية في مدلول الأملاك المقصودة بالحماية التشريعية , لأن هدف المشروع إنما هو حماية الملكية الملتصقة أصلا و حكما بأرض الوطن و التي تعد جزءا لا يجوز أن ينفصل عنه .

" و لقد سبق للمشروع المصري أن أخذ بهذه الحماية و لكن في دائرة ضيقة ,إذ حظر في المرسوم بقانون رقم 111 لسنة 1945 على كل شخص طبيعي أو معنوي أجنبي الجنسية أن يمتلك بأي طريق كان غير الإرث عقارا كائنا بأحد المناطق التي تقوم على إدارتها مصلحة الحدود و يسري الحظر في هذا المرسوم على كل وقف على أجنبي و تقرير حقوق عينية له .

" فإذا كانت هذه الحماية قدراها المشروع واجبة في حدود الوطن و أطرافه , فأولى بها أن تعم أرجاء البلاد جميعها " 8 ديسمبر سنة 1948

خطوات المشروع

مشى المشروع وئيدا في مجلس الشيوخ , و مع أنه لقى من الرأي العام تأييدا كبيرا و لم يلق من محيط الأعضاء معارضة ما , لكن يبدو أن تبارات خفية كانت تعمل على عرقلته .

عرض لأول مرة على المجلس بجلسة 13 ديسمبر سنة 1948 , فقرر قبل نظره موضوعا إحالته إلى لجنة الشئون الدستورية لبحثه من الوجهة الدستورية و من جهة انطباقه أو عدم اتنطباقه على معاهدة مونترو .

و قد بحثته اللجنة من هذه الناحية , و انتهت إلى أن المشروع مقبول دستوريا و لا يخالف أحكام معاهدة مونترو , و وافقت الحكومة على ذلك بلسان مندوبها الذي حضر جلسات اللجنة و قدمت تقريرا مستفيضا في هذا الصدد .

عرض هذا التقرير على المجلس بجلسة 24 يناير سنة 1947 , فوافق عليه بالإجماع , وقرر إحالة المشروع إلى لجنة الموضوع و هي لجنة العدل , و قد بحثته هذه اللجنة بحثا مستفيضا , و وافقت عليه بعد إدخال تعديلات عليه أهمها قصر حظر عدم تملك الأجانب على الأراضي الزراعية , دون العقارات المبنية أو المعدة للبناء , وحضر جلسات اللجنة مصطفى مرعي بك وزير الدلوة في عهد وزارو إبراهيم عبد الهادي باشا و أعلن باسم الحكومة موافقته على المشروع بعد التعديلات سالفة الذكر , ودافع عنه دفاعا حارا شكرته عليه , وقال إن مجلس الوزراء بحث المشروع و انتهى إلى قبوله و الموافقة عليه , وقد بذل مصطفى مرعي بك جهودا موفقة لدى سفارات بريطانيا و فرنسا و اليونان لاقناعها [أن المشروع لا ينطوي على روح عدائية للأجانب بل يهدف إلى صيانة الثروة الزراعية و أنه مشروع اجتماعي له نظائره في التشريعات الأوروبية و الأمريكية و قد اقتنعت السفارات بدفاعه .

قدمت لجنة العدل تقريرها عن المشروع بعد التعديلات التي اتفقت عليها مع الحكومة و عرض التقرير على المجلس بجلسة 10 مايو سنة 1947 , فوافق على المشروع من حيث المبدأ , و لكن عند تلاوة المواد ثارت اعترراضات على بعض أحكامه ترتب عليها أن قررالمجلس إحالته إلى لجنتي المالية و العدل مجتمعين لبحثه من الوجهة الاقتصادية و المالية .

و قد تعطل المشروع أمام اللجنتين طويلا إلى أن نظرتاه مجتمعتين في 24 مايو سنة 1950, وفيها أثيرت مناقشات مناقشات جديدة أخرى و أبديت اقتراحات عديدة , فرأى المجلس إعادة المشروع إلى لجنة العدل لبحث الاقتراحات التي قدمت في تلك الجلسة و اانفضت الدورة البرلمانية بعد ذلك فلم يتسع الوقت لانعقاد اللجنة , و لما حلت الدورة الجديدة اجتمعت اللجنة يوم 12 ديسمبر سنة 1950 و درست الاقتراحات و الناقشات التي أثيرت حول نصوصه فقبلت بعضها و رفضت البعض الآخر و قدمت تقريرا جديدا بالنصوص التي انتهت إليها , وهي لا تختلف عن جوهر المشروع إلا في قصر الحظر على الأراضي الزراعية دون العقارات و المباني , عممت الحظر بالنسبة للأراضي الزراعية فأضافت إليها الأراضي القابلة للزراعة و الأراضي الصحراوية باعتبار أن مال هذه الأراضي أن تكون أراضي زراعية عن طريق استصلاحها , و أدهلت تعديلات يسيرة في المواد الأخرى , وعرض تقرير اللجنة على المجلس مرفقا به نصوص المواد كما عدلتها اللجنة فأقرها بجلسة 18 ديسمبر سنة 1950.

و بعد إقرار المشروع في مجلس الشيوخ أحيل مجلس النواب فأقره أيضا و صدر به القانون رقم 37 لسنة 1951 في 10 مارس من تلك السنة و نشر أيضا في " صحيفة الوقائع المصرية " عدد 17 مارس سنة 1951 , و قد حمدت الله على صيرورته قانونا نافذا من قوانين الدولة مع رجائي تعديله في المستقبل بجعل الحظر شاملا المباني المعدة للسكن و أراضي البناء .

عندما تتشابه الأسماء

يشترك معي في اسم ( عبد الرحمن الرافعي ) بعض الأفراد الممتازين من أقاربي , فمنهم عبد الرحمن أمين الرافعي بك وكيل محكمة استئناف مصر الآن 1951 , و الدكتور عبد الرحمن الرافعي مراقب الصحة المدرسية بوزارة المعارف .

و قد سبب هذا التشابه في أسمائنا سلسلة من الحوادث الطريفة فكثيرا ما يحدث اللبس بيننا في المكالمات التليفونية , فيا لخطابات الخاصة و العامة , ففي التليفون يسألني الكثيرون على اعتبار أني عبد الرحمن بك الرافعي وكيل محكمة الاستئناف ( و الأفوكاتو العمومي و رئيس النيابة من قبل ) أو على اعتبار أني الدكتور عبد الرحمن الرافعي , فأجيبهم بلطف أن " النمرة غلط" و أني لست المقصود بالكلام , و أرشدهم عن مقصدهم , و الخطابات قد ترد لنا خطأ , فيعيدها كل منا إلى المقصود بالخطاب , وقد حدث في سنة لا أذكرها أن قرأ صاحب قضية هامة في الصحف نبأ تعيين عبد الرحمن الرافعي بك رئيسا لنيابة مصر , فانزعج لهذا الخبر , وكنت وكيله في هذه القضية , وكانت في آخر مراحلها , وظن أنه سيتعذر علي أن أترافع فيها في اليوم الموعود بعد تعييني رئيسا للنيابة .. وراح يبدي دهشته و يقول : كيف يقبل الرافعي أن يكون رئيسا للنيابة و هو الذي اعتذر عن منصب الوزارة ؟ و هرول إلى مكتبي يسأل عن الخبر ليطمئن على قضيته , فرآني على مكتبي , و اطمأن بعد أن فهم أن رئيس النيابة هو ابن عمي .

و كثيرا ما ألبي نداء التليفون , فإذا بالمتكلم يستنجد بي لاسعاف مريض أو لإنقاذ شيدة مشرفة على الوضع .. فأفهمه بأني لست الدكتور بل المحامي , و أرشده إلى رقم الدكتور عبد الرحمن الرافعي .

و أذكر ذات مرة أن الدكتور احتفل بزواج كريمته , ونشر نبأ الزواج في الصحف , و إذا بي أتلقى رسائل و برقيات التهاني .. وعلى الرغم من أن اسمه ذكر مسبوقا بكلمة " دكتور " إلا أن الذين هنأوني لم يترددوا في الأمر , إذ ظنوا أني أنا المقصود و أني لا بد أن أكون دكتورا في القانون ! و كان في مقدمة الرسائل خطاب من المغفور له الأمير عمر طوسون , و قد رأيت أنه ليس من اللائق أن أكتفي بإحالة خطابه إلى الدكتور الرافعي , فكتب لسموه خطابا رقيقا شكرته فيه بالنيابة عن قريبي الدكتور .. و أرسل إليه الدكتور من ناحيته خطاب شكر آخر على تهنئته .


عندما دخلت الوزارة سنة 1947

كنت اصطاف في الأسكندرية سنة 1947 حينما استقالت وزترة إبراهيم عبد الهادي باشا يوم 25 يوليو و قد عهد جلالة الملك إلى حسين سري باشا تأليف الوزارة الجديدة , وهي وزارة ائتلافية تمثل الوفد و السعديين و الأحرار الدستوريين و الحزب الوطني و المستقلين , ودعاني سري باشا إلى الاشتراك في هذه الوزارة , و إذكان لا يعرف المنزل الذي اصطاف فيه ( رقم 143 بشارع الأميرة فوزية بسيدي بشر ) فقد عهد إلى أحد ضبط حرس الوزارة أن يستقل سيارة حكومية ليبلغني رغبته في مقابلته بدار الوزارة ببولكى , فجاء الضابط إلى المنزل حوالي الظهر يوم 26 يوليو و سأل عني فقيل له أني أتريض على الكورنيش و إني سأعود بعد ساعة , فقال إن الأمر مستعجل فأرجو أن تعرفوني في أي جهة من الكورنيش يتريض " و ليحضر معي خادم ليعرفني به " , فأصطحبه أحد الخدم في السيارة و ذهب معه إلى الكورنيش , ما هي إلا بضع دقائق حتى رأياني عائدا إلى المنزل , فوقفت السيارة ونزل الضابط و الخادم , وحياني الضابط و أبلغني رغبة سري باشا في أن أقابله الآن , و بعد أن عدت إلى المنزل ذهبت معه إلى دارا لوزارة , و وجدت هناك جمعا من الصحفيين فقابلوني متهللين و قالوا لي :مبروك ! فقلت على إيه ؟ فقالوا : مبروك الوزارة , وكنا في آخر أيام رمضان ( وقفة العيد ) . فقلت لهم : غدا العيد فمبروك العيد , ثم دلفت إلى مكتب رئيس الوزارة و قابلت سري باشا , و بعد تبادل التحية قال لي : هل تكون ثقيلا هذه المرة أيضا ؟ فقلت : أنا لست ثقيلا و لم أكن ثقيلا المرة الماضية .. إشارة إلى إعتذاري عن دخولي وزارته الأولى سنة 1940. و استوضحته برنامج الوزارة فأفهمني أنها وزارة قومية تعمل على توحيد الصفوف و ائتلاف الأحزاب و إجراء انتخابات حرة , ألا توافق على ذلك ؟ قلت : بل أغتبط به و أؤيده , و لكن ما هو موقف الوزارة تجاه معاهدة سنة 1936 ؟ فقال : إني أعتبرها غير قائمة لأن البلاد أعلنت ذلك , و أن وزارتي مع أنها وزارة انتقال فإنها متمسكة بالجلاء و وحدة وادي النيل , فقلت : على بركة الله أقبل .

و سألته في تلطف : و كم سيكون للحزب الوطني من مقاعد الوزارة ؟ قال : مقعدان , و هذا تمييز مني للحزب الوطني فقد كان له في الوزارة السابقة وزيران في حين كان للأحرار الدستوريين ستة وزراء و كذلك للسعديين و الآن سيكون له وزيران في حين أن لكلم ن الوفد و الأحرار الدستوريين و السعديين أربعة وزراء أي نسبة الحزب قد ارتفعت في وزارتي , فشكرته على حديثه و على ثقته بشخصي و رجوت له التوفيق في مهمته , و استغرقت المقابلة نحو عشرين دقيقة . و انصرفت فتلقاني الصحفية بالأسئلة و الاستيضاحات و عبارات " مبروك" , فتخلصت من زحمة الأسئلة بقولي : أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مشاورة . فقالوا : نريد أن نقول مبروك يا معالي الوزير , فأعدت عليهم قولي : مبروك على العيد لأن غدا يوم العيد , فقالوا : بل نقصد الوزارة .

عدت إلى منزلي و أخبرت زوجتي بما حدث , فقالت :و هل قبلت الوزارة ؟ قلت : نعم . قالت : و لكنك رفضتها فيما مضى . قلت : إن الظروف تغيرت لأن برنامج الوزارة الجديد لا يتعارض مع مبادئنا , ومع ذلك فإن الأمر لا يزال في دور المشاورة فماذا ترين ؟ قالت : إني أرى ما تراه فلتقبل على بركة الله , فارتاحت نفسي لهذا الجواب , و لم أخبر أحدا بالأمر . و من حسن الحظ لم يكن بالمنزل الذي اصطاف فيه تلفون فتخلصت بذلك من الأسئلة و الأجوبة .. إلى أن كانت الساعة العاشرة مساء و إذا بطرق شديد على الباب , ففتحنا و وجدنا ضابطا آخر غير الذي جاء ظهرا , يصحبه أحد أقربائي , وكان الضابط قد ظل يبحث عن منزلي ليلا أكثر من ساعة وهو لا يهتدي إليه , إلى أن دله الناس على رافعي آخر هو الأستاذ جلال الرافعي , فطلب إليه في لهفة أن يصحبه إلى منزلي , فجاء معه وهنأني الاثنان بالوزارة , و رجاني الضابط أن أسرع في ارتداء ملابسي لحلف اليمين أمام جلالة الملك , فقلت له : و لكن ليس عندي هنا ردنجوت , فأجابني : لا لزوم لها و التعليمات أن يحضر أصحاب المعالي بأي ملابس رسمية أو غير رسمية لأداء اليمين الليلة , فذهبت مع الضابط في سيارة الحكومة إلى دار الوزارة متأخرين و وجدنا أن الوزراء قد سبقونا إلى سراي رأس التين فلحقنا بهم و هنا أقسمنا اليمين بين يدي جلالة الملك .

توليت وزارة التموين , و بدأت في فترة العيد أصرف بعض شئون الوزارة المستعجلة .

و قد قوبل دخولي الوزارة بارتياح عام , على أن صديقي محمد محمود جلال بك و الأستاذ محمود العمري لم يوافقاني على الاشتراك في الوزارة , و أرسل لي جلال بك خطابا رقيقا من جنيف يطلب مني الاستقالة من الوزارة و طلب مني أيضا الاستاذ محمود العمري, نظريتهما أن الاشتراك فيا لوزارة أيا كان برنامجها يتعارض مع سياسة الحزب الوطني , و لم يقنعاني برأيهما , و لا أقنعتهما برأيي , أما نظريتي فهي أن الأمر مرجعه إلى برنامج الوزارة و سياستها , ورأيت في نظريتهما تشددا لم أقره , و أنا بطبعي أميل إلى الاعتدال , و أراه أقرب إلى نشر الدعوة الوطنية و اجتذاب الأنصار إليها , و مع اختلافي و إياهما في الرأي فقد حفظت لهما خالص الود و التقدير , و يطيب لي في هذه المناسبة أن أنوه بفضل الأستاذ محمود العمري , فهو من الوطنيين الملهمين المغمورين في زحمة البلبلة و الهرجلة التي يعيش فيها المجتمع , و قد اعتدت إن أشاوره في المسائل الهامة التي تحدثت فيها بمجلس الشيوخ و أفيد من أفكاره و آرائه و نظراته فيها , كبطلان المعاهدة , و التضخيم النقدي , و الأرصدة الأسترلينية , و المعاهدات و مواثيق الضمان , و الميزانية , و المسائل الاجتماعية , وما إلى ذلك .

مشاهداتي في الوزارة

تعلمت من الوزارة أشياء وحقائق كثيرة,كنت فى حاجة إلى تعرفها,حقا أني كنت أشعر ببعضها من قبل,ولكن الوزارة زادتني معرفة بها وعرفتني بغيرها.

لاحظت بعد دخولي الوزارة أن احترام الناس حتى أقاربي قد زاد على ماكان عليه أضعافا مضاعفة.

ولم ترضني هذه الظاهرة,فإنها دلتني على قلة تقدير الناس للجهاد البعيد عن مظاهر الحكم بالنسبة إلى تقديرهم للجاه والمناصب,وقلة تقديرهم للخدمات التي تؤدي للبلاد,مالم يكن صاحبها ذو مركز حكومي كبير,ومعنى هذه الظاهرة أيضا أني لم أكن محترما الاحترام الكافى قبل دخولى الوزارة,وهذا مالم أرضه لنفسي ولا للناس.


ويدخل في هذا السياق أني لم أهنأ في حياتي على عمل بقدر ما هنئت على دخولي الوزاري,مع أن دخول الوزارة فى ذاته ليس عملا,بل هو ابتداء لعمل.

فإذا كانت التهنئة مقصودا منها الشكر على عمل نافع,فلينتظر المهنئون حتى يعمل الوزير عملا نافعا للبلاد فيهنئونه عليه,ولكن الحال هنا على عكس ذلك,إن التهنئة ,هي على الوزارة فى ذاتها, أي على تقلد المنصب , أو بعبارة أخرى على كرسي الوزارة . و إني لواثق أنه إذا عمل الوزير عملا يستحق التهنئة فقلما يهنأ عليه التهنئة الكافية . و أغلب الظن أن يمر و لا يلتفت إليه أحد .

تلقيت بعد ان دخلت الوزاره نحو ستمائه برقيه و بريدية. عدا التهانى الشخصيه وهى تعد بالمئات.اى أنى تلقيت نيفا والف تهنئه,وقد كنت أتساءل في خاصة نفسي ليت شعري ألم يسبق لي عمل في حياتي الوطنية يستحق مثل هذه التهاني أو نصفها أو ربعها أو واحدا في المائة منها؟ إني مع شكري العميق لمن هنأونى و تقديري لشعورهم النبيل كان لي أن أسأل نفسي هذا السؤال فلا أجد جوابا عليه.

عملي في الوزارة

توليت بدخولي الوزارة أول منصب حكومي في حياتي .وكان بعض الناس يظنون أنى لعدم خبرتي بالروتين الحكومي سأرتبك أو أعجز عن الإضلاع بأعباء وزارة هي في ذاتها من اعقد الوزارات ومن أكثرها مسئوليات(وزارة التموين).ولكني والحمد الله وجدت في الأسبوع الأول من توليتي شئونها إني أفهمها و أديرها إدارة خبرة ودراية.وأن الاستقامة في إدارة شئون أي وزارة مع الكفاءة حتى المتوسطة هي الكفيلة بإصلاح الإدارة الحكومية وجعلها أقرب إلى تحقيق مرافق البلاد و مصالح الجمهور.

أيقنت في الأشهر التي قضيتها بالوزارة أن استقامة الوزراء هي أساس الاصلاح ,فالوزير المستقيم يشيع روح الاستقامة فى نفوس مواظفينه كبارا وصغارا.ومن السهل على الوزير المستقيم-حتى إذا لم يكن فنيا- أن يستعين بأراء الفنين في الوزارة وإني أعتقد أن المستوى الفني لموظفي الوزارات عندنا هو مستوى حسن وممتاز و يمكن الاعتماد عليهم فى النهوض بمرافق البلاد ولكن على الوزير ان يكون –إلى جانب استقامتة-غيورا على العمل رقيبا على الموظفين.يكافئ المحسن الأمين ويجازي المسيئ و المقصر منهم.وان يكون دؤوبا على الدرس و البحث وعلى جانب من الذكاء ويكفي أن يكون متوسط الفهم.وبذلك كله يفهم شئون وزارته ويديرها بنجاح وتوفيق.

بعد أن توليت الوزارة بعدة ايام ولمناسبة ذهابي إلى دار الوزارة بالقاهرة جمعت رؤساء المراقبات و الادارات وبعض كبار موظفي الوزارة وألقيت فيهم كلمة كانت وحي اللحظة.قلت لهم فيما قلت : (لقد دخلت الوزارة لأول مرة و أنا لا أملك إلا سمعتي وماضي الطويل,وقد جعلت سمعتي و تاريخي وديعة فى أيديكم, فأنتظر منكم أن تحافظوا على هذه الوديعة) فكان لهذه الكلمة العبارة أثر عميق فى نفوسهم ولاحظت هذا الاثر باديا على وجوههم.

ومن الحق ان اقول أني- في الفتري التي توليت فيها هذه الوزاري وجدت كبارموظفيها و متوسطيهم وصغارهم قد عاونوني بصدق واخلاص وحافظوعلى الوديعة التي ائتمنتهم عليها وكانو يرون مني أني في عملي لا أريد الا الحق ورعاية مصالح الجمهور ولا أريد لنفسى مغنما لا في الحاضر ولا في المستقبل . وكنت ألمح من طريقه إبداء آرائهم فى المسائل التي تستدعيها هذه الشئون أنهم يتواخون تلبيي رغبتي فى الوصول إلى الحق وكانوا يرون من مناقشتي لهم أني أدرس مذكراتهم وآرائهم بروح الفحص والتدقيق . وأنى رغم ميلي إلى الطيبي لا التساهل فى كل ما له علاقي بالصالح العام فكان هذاحافزا لهم إلى تواخي هذا الصالح ومن الحق أن أقول أيضا أن أحدا منهم لم يحاول أن يدخل الغفلة علي .

لم أدخل الحزبية ولا الميول الشخصية في أعمالي ولا في معاملتي للموظفين .بل كنت أنظر إليهم جميعا بعين العدل والمساواة . فمن كان له حق يناله . ومن لم يكن له حق لا أعطيه ما ليس له حق فيه قد اكون أخطات فى التقدير كالقاضي الذي يجوز عليه الخطأ في بعض احكامه ولكن ما دام الحق هو رائد الانسان فإن هذا يكفي لاستقامة الأمور التي يضطلع بها وبهذه الروح كنت أنظر إلى ذوي المصالح وطلاب الحاجات .كنت أنظر في طالبتهم كما لو كنت قاضيا يقضي فى دعاوي الناس ويعطى كل ذي حق حقه لم أعين أحدا من أقاربي او أصهاري في الوزارة ولم أعط احدا منهم درجة استثنائية.

لم أغير او أبدل في موظفي مكتب الوزير بل ابقيتهم كما كانوا فى عهد الوزير السابق .ولم أزد عليهم احدا وخوطبت فى إجراء ماشاء من التغيير والتبديل أو الزيادة او النقصان فكنت أقول ليبق كل موظف في مكانه إني اعتبر نفسي أبا ورئيسا لجميع الموظفين وهم في نظري سواء فلا داعي للتغيير والتبديل واحسبني لم اغير من طباعي بعد ان توليت الوزارة لم أتعاظم على الناس وبقيت محتفظا بديمقراطيتي وشعبيتي حقا إن منصب الوزير محاط عندنا بمظاهر كثيرة من التفخيم والتعظيم ولكن هذه المظاهر لم تؤثر في نفسي ولم ألقي إليها بالي بل كنت أعرض عنها أحيانا دعك من التحيات والتعظيمات التي يلقها الوزير في ذهابه إلى الوزارة او خروجه منها فهذه مسائل مألوفة ولابد من قبولها ولكني لم استطع أن أهضم الطريقة التي يقابل بها الوزير فى محطة العاصمة ولا الأسكندرية عند انتقاله من احداهما الى الاخرى فقد كان يحيط بى ضابط أو ضابطان وثلة من الجنود يتقدمهم جندي ممتاز ( لعله شاويش) يفسح الطريق لي على رصيف المحطة لم أقبل هذا الوضع بالذات وطلبت من الضابط أن يأمر الجندي بالتنحي عن السير أمامي فنفذ ما طلبت وكان الطلب واجابته يتكرران كل مرة ولم أكن أحجز ديوانا خاصا لسفري بل كنت أكتفي بمقعد فى عربة تكييف الهواء وعندما كنت فى الأسكندرية لم أغير عادتي .

من التريض سيرا على قدمي في طريق الكورنيش بعد غروب الشمس إلا فى الايام التي كنت اضطر الى العودة للوزارة مساء وكان الجندي المرافق لي من حرس الوزاري يطلب مني بإلحاح ان يرافقني في نزهتي ولو بعيدا عني لأن التعليمات تقضي عليه بذلك فكنت آمره بأن لا يرافقني لا من قرب ولا من بعد وفي بعض الاحيان ترويحا للنفس وتحررا من مظاهر الفخفخة الوزارية - كنت اركب ترام الرمل في بعض تنقلاتي وأصرف سيارة الوزارة وكان يلمحني بعض معارفي وأصدقائي راكبا الترام فيدهشون لهذا المنظر -منظر وزير يركب الترام وشاهدني مرة في هذه الحالي احد مراسلي .الكتلي .فاعتقد أن في الجو أزمة وزارية وان الوزارة وشيكة السقوط وأبرق إلى صحيفته بذلك لانه لم يتصور أن وزير يركب الترام إلا إذا كان على أهبة الاستقالة وكان جيراني في المصيف يلاحظون أني أعود الى منزلي بعد رياضتي سيرا على قدمي ويلاحظون على وجه العموم أنى لم أتغير عما كنت عليه قبل دخولي الوزارة بالرغم من مظاهر العناية والرعاية الحكومية التي أحاطت منزلي كالكشك وحرس الوزارة وما إلى ذلك وقد أقامت بلدية الأسكندرية عمودا من النور أضاء الرحبة التي أمام المنزل وكانت من قبل مظلمة .وأصلح عمالها الرحبة نفسها وسورا أرضها وأزالوا منها اكوام الطوب والحجارة التي كانت منتشرة فيها .فحمد الجيران هذه الصدفة التي جعلت جارهم وزير وبدا منهم نحوي شعور من الانعطاف والتقدير إذ رأوني لم أفارق تواضعي كنت أهتم بشكاوى الجمهور وأتولى فحصها وتحقيقها بواسطة الموظفين المختصين .ولا اكتفي باحالتها على المراقبات المختصة بل اؤشر عليها بنفسي بوجوب تحقيقها وعرض نتيجة التحقيق علي لأبدي فيها القرار الأخير .وكانت إشارتي المكتوبة كلها بخطي تشعر الموظفين المختصين بأنى رقيب عليهم .وكنت اسأل فعلا بين حين وآخر عن نتيجة تأشيراتي على هذه الشكاوى وساعدني على ذلك أني كنت أدون في مذكرة خاصة (أجندة) أهم الشكاوى و أنتظر الوقت المناسب فأسأل عما تم فيها . و إذا تأخر تحقيقها كنت اّمر بكتابة استعجال عنها , فأدرك الموظفون أن عين الوزير ساهرة ترقبهم , و هذا وحده يساعد على استقامة الأمور .

وكنت اّخد معي يوميا عند انصرافى من الوزارة محفظة تحوى المذكرات والتقارير المهمة التى يُطلب فيها قرار من الوزير وأدرسها بمنزلى ليلا أو فى الصباح الباكر و أكوّن فيها الرأى الصحيح و أستدعى فى الوزارة الموظفين المختصين و أناقشهم فى تفصيلات هذه المذكرات فيعرفون أنى درستها دراسة دقيقة , ثم أصدر القرار الذى يعتقد أنه يطابق العدل والصالح العام بحضورهم , دون إرجاء أو تسويف , أو وضع للملفات فى الأرشيف .. و كنت أميل إلى سرعة البت فى الأمور التى يستدعيها عمل الوزارة , فأتولى دراستها بنفسى بعد أن اّخد رأى اللجان والموظفين المختصين , ة كثيرا ما كنت أستعجل دراستها لكى لا يتأخر البت فيها .

إن وزارة التموين موضع احتكاك و تضارب فى المصالح و الاتجاهات بين المنتجين و المستهلكين . وخاصة بين الجمهور وطبقة التجار والشركات و الرأسمالين ,, فكنت أيذا أفصل فى خلافاتهم بروح العدل و الإنصاف.

وكانت نزعتى – وستبقى دائما – شعبية لا رأسمالية , فكنت أميل إنصاف الطبقات الشعبية و أقف فى صفهم ضد بعض الرأسماليين , و من هنا صادفتنى متاعب و عقبات تغلبت على كثير منها , و لم يعمل برأيى فى بعضها.

وقد نسبت إلىّ بعض الصحف – بإيعاز من بعض كبار الرأسماليين – أنى تنقصنى الكفاءة الفنية فى شؤن التموين , وأن بعض الوزراء شكا إلى رئس الوزراء هذا النقص . وقد ابتسمت حينما قرأت هذه النبذه , فأى طفاءة يقصدونها هؤلاء السادة ؟ إنى فى المحاماة أستطيع أن أناقش آراء الفنيين فى الطب والهندسة و الصناعة و الملاحة والشؤن المالية وما إليها . و أن أوازن بين تقاريرهم و آرائهم التى يدلون بها أمام المحاكم , و أن أتعرف وجه الحق و الصواب فيما يقررون . فهل أعجز عن فهم الآراء الفنية فى شؤن التموين وهى أسهل بكثير من الأمور المعقدة التى تعرض فى ساحات القضاء؟

و قد أشتد الخلاف على الأخص بينى و بين شركة السكر , إذ كنت أراها تعمل على إنقاص مقررات السكر للعائلات و الأفراد و المصانع وتتبطأ فى شحن هذه المقررات فى الوقت المناسب مما أدى إلى ارتفاع سعر السكر فى السوق السوداء .. و جائتنى شكاوى كثيرة من هذا المعني من مختلف البلاد , فأصدرت التعليمات للشركة بأن تفى بالتزاماتها , و لكنى رأيت منها تَلكُّوا متعمدا فى تنفيذها , فأصدرت قرار وزاريا ( رقم 144 لسنة 1947) بتاريخ 29 سبتمبر سنة 1947 ألزامتها فيه بشحن مقررات السكر الشهرية إلى جميع المناطق الإستهلاك طبقا لما تحدده وزارة التموين وأن يتم شحن هذه المقررات فى ميعاد لا يتحاوز الخامس و العشرون من الشهر السابق للشهر المخصصة له , و حظرت عليها التصرف فى إى نوع من السكر الخام أو المكرر بغير ترخيص الوزارة . و ألزمتها بإرسال بيان إلى الوزارة بالمركز الإحصائى للسكر الذى فى مخازنها و أن ترسل فى الأسبوع الأول من كل شهر بيانا برصيد السكر المكرر الموجود فى اليوم الأول من الشهر السابق بمصنع التكرير بالحوامدية وبمخازن الشركة كل على حدة , و فرضت فى القرار عقوبات على عضو مجلس الإدارة المنتدب و مديرى الشركة فى حاة مخالفتهم لأحكام القرار .

و قد نشر القرار فى الجريدة الرسمية فى عدد غير اعتيادي صدر فى اليوم نفسه , فصار قانونا ناقذا , ولاحظت أن توزيع السكر قد انتظم بعد صدور هذا القرار و ارتاح الجمهور من هذه الناحية . على أن عضو مجلس الإدارة المنتدب قد ثار وشكانى إلى رئيس الوزارة . و كان يظن أن صداقته لسرى باشا تجعله فوق القانون ؛ و فى الحق أن سرى باشا قد وقف من هذا الخلاف موقفا قويما و تركنى أتصرف فى حدود سلطتى . و لم يتدخل فى إختصاصى ولا وجه إلى إى إعتراض فيما أتخذت من إجراءات . و قد أكبرت منه هذا المسلك الذى يدل على روح محمودة من الاستقامة و النزاهة .

وفى ظنى أنى تغلبت على أزمة السكر بوقوفى هذا الموقف تجاه شركة السكر ثم مبادرتى باستيراد كميات كبيرة من السكر من الخارج لكفاية الإستهلاك المحلى . و قد وافقتنى لجنة التموين العليا على ما عرضته عليها من استيراد خمسين ألف طن من السكر ورد بعضها أثناء وجودي بالوزارة وورد البعض بعد خروجي منها .

و قامت فى عهدى مشكلة أخرى و هى أسعار الأقمشة التى تنتجها شركات الغزل ة النسيج المصرية , فقد كانت تشكو من مزاحمة الوارد من الأقمشة الأجنبية و تطلب بزيادة الرسوم الجمركية على هذه الواردات حماية للإنتاج المحلى . وقد وافقت ضمن من وافقوا من الوزارة على هذه الحماية بزيادة التعريفة الجمركية على الأقمشة الواردة من الخارج ولكنى اشترطت أن تتعهد الشركات بأن لا يزيد فى المستقبل من أسعار الأقمشة الشعبية التى تنتجها . و قد تعهدت بذلك . و أشير إلى هذا التعهد فى المذكرة التى أقرها مجلس الوزراء فى 4 سبتمبر سنة 1947 على أن مندوبى هذه الشركات قد قابلونى فى أواخر أكتوبر و طلبوا منى الموافقة على زيادة هذه الأسعار بزيادة تتناسب مه ارتفاع أسعار القطن . فرفضت ذلك و ذكرتهم بتعهدهم السابق. و بقيت الأسعار كما هى , و أظن أن هذه الشركات و غيرها قد أغتبطت لخروجي من الوزارة فى 3 نوفمبر سنة 1947 حيث استقالت الوزارة الائتلافية . فقد قرأت بعد أسبوعين فى صحيفة ( المقطم ) بالعدد الصادر يو 19 نوفمبر خبرا تحت عنوان ( ارتفاع أسعار الأقمشة الشعبية بدون مبرر ) جاء فيه أن شركات الغزل ووالنسيج رفعت أسعار منتجاتها فى الأسبوع الماضى . و بعد أن ذكرت الصحيفة مقدار الزيادة فى كل صنف من المنتجات أضافت إلى ذلك قولها : و قد علمنا بعد كتابة ما تقدم أن هذه المصانع قد أعلنت صباح أمس ( 18 نوفمبر سنة 1947 ) أسعار جديدة تزيد على الأسعار النى أشرنا إليها بمقدار 5% .

و تساءلت الصحيفة " هل عند الحكومة أو المسئولين فيها علم بذلك , و هل وافقت أو وافقوا على هذه الأسعار الجديدة التى سيتخملها المستهلك فوق ما يتحمل من أعباء جسام ؟ وهل هذا يتفق و تصريحات المسئولين كل صباح و مساء عن مكافحة الغلاء و خفض الأسعار؟ " .

و فى يقينى أنى لما أكن متجنيا على الشركات الصناعية عامة فى منعها من زيادة أسعار منتجاتها . لأن هذه الزيادة لم يكن منشؤها الموازنة بين التكاليف و الأسعار كما تدعي بل الرغبة الملحة فى زيادة أرباحها . وقد أشرت إلى هذه الحقيقة فى مناقشة سياسة حكومة الوفد نحو الغلاء بمجلس الشيوخ إذ قلت بجلسة 8 مايو سنة 1950 أن شركات الغزل والنسيج لم تحترم تعهدها فى سبتمبر سنة 1947 و أنها رفعت أسعار منتجاتها من الأقمشة أكثر من 30 ( ثلاثين ) فى المائة عما كانت عليه فى ذلك التاريخ . و قارنت بين أرباح شركات الغزل و النسيج فى انجلترا .

فوجدت أن متوسك أرباح هذه الشركات فى تلك السنه بلغت 15% من رأس مالها فى حين أن أرباح شركات الغزل و النسيج فى مصر فى نفس هذه السنة بلغت 37% و قلت أن من واجب الحكومة أن تحد من هذه الأرباح لتكون فى مستو أرباح الشركات فى بريطانيا . و أن القانون رقم 95 لسنة 1947 الخاص بشؤن التموين يخول الوزارة هذا الحق . ولكن وزير التجارة و الصناعة – غنام باشا – عارضنى فى هذا الرأى .

روح الائتلاف

لم أجد فى الوزارة الائتلافية ما كنت أنشده و أنتظره من غشاعة روح الاتلاف بين أعضائها , بل رأيت تنافرا شديدا بين مختلف الكتل الممثلة فيها . و قد أسفت لهذه الحالة . وعددتها من تناقص حياتنا السياسية . و طالما أفضيت لبعض زملائى فى الوزارة أن يكبحوا جماح الحزبية فى العنيفة و أن يبذلوا جهودهم فى تدعيم الائتلاف . لأنه تجربة تشهدها البلاد بعد سنوات طويلة من التناحر و الشقاق . و قلت لهم أن الأمة قد اغتبطت بهذا الائتلاف اغتباطا كبيرا و أملت من ورائه خيرا كثيرا . و أنها ترقب فى لهفة نجاخ هذه التجربة فإذا فشلت فإن الأمة ستكون معذورة و إذا تزعزعت ثقتها فى الأحزاب و فى كفائتها و قدرتها بل و فى إخلاصها . و بالرغم من أنى كنت أسمع تحبيذا لآرائى من زملائى فإن تيارات الشقاق كانت تفعل فعلها فى هدم الائتلاف . و ساعد على ذلك لهجة بعض الصحف إذ كانت تعمل على خلق الاسباب و الذرائع لفضه . و كان الخلاف على أشده فى تقسيم الدوائر الانتخابية و توزيعها , و يبدو لى مما كنت أشاهده أن الوزراء السعديين لم يعملوا على نقض الائتلاف بل كانوا يسيرون فى فلكه , و كذلك الوطنيين . و كذلك أيضا شأن الوفديين فى بداية عهد الوزاره , و رأيت الثورة على الائتلاف تبدأ من معسكر الأحرار الدستوريين و العجيب فى هذا الصدد أن أغلبية وزرائهم كانوا ميالين إلى بقاء الائتلاف و لكن الأقلية الصاخبة قد تغلبت على الأغلبية الهادئة .

و كان يمكن لرئيس الوزارة أن يتغلب مع ذلك على تيارات الشقاق و يعيد إلى الائتلاف كيانه . لأن عقبات جوهرية قد تخطتها الوزارة و اجتازتها بسلام . و لم يكن يبقى سوى عدد قليل من الدوائر الانتخابية أشتد عليها الخلاف بين الوزراء الوفديين و الأحرار الدستوريين . و قد وافقت اللجنة الوزارية الموكول إليها تقسيم الدوائر على تحكيم رئيس الوزراء فى أمر هذه الدوائر . و لكن لسبب لا أعرفه تنحى رئيس الوزراء عن قبول التحكيم . ولو أنه قبله لانتهى الخلاف على الدوائر المعدودة التى مانت مثار خلاف . و يبدوا لى أن عاملا جديدا ظهر فى محيط الوزارة و عجل بسقوطها قبل أن تتم مهمتها . و هو أن الوزراء الوفديين أخذوا يتنكرون للائتلاف و يعملون على إسقاط الوزارة لتحل محلها وزارة محايدة . و تلك كانت أمنيتهم بل أنشودتهم القديمة.

و لعمرى ليست التشكيلات الوزارية هى جوهر الموضوع . إنما أدعو الله من كل قلبى أن تصفو نفوس المواطنين و تخف حدة ما بينهم من خلاف و شقاق . لأن أمام البلاد من أعباء ما يستدعى أن نواجهها بجبهة متحدة . وأن و حدة الكلمة هى أقوى الأسلحة فى تحقيق أهدافنا القومية .

إخراجي من مجلس الشيوخ إبريل سنة1951

في سنة 1950 وسنة 1951 وقفت من حكومة الوفد في مجلس الشيوخ موقفي من كل وزارة ، وهو تأييدها فيها تحسن ومعارضتها فيها تسيء ، وهذه هي الخطة التي رسمتها لنفسي بالحياة البرلمانية ، ولكن هذا الموقف لم يرض وزارة الوفد ، لأن الوفد لا يريد الخضوع والإذعان ، وقد نبهني إلى ذلك بعض أصدقائي ، ولفتوا نظري إلى أن مدة عضويتي بالمجلس تنتهي في مايو 1951 ، وسأدخل الانتخاب في التجديد النصفي للمجلس ، فمن الحكمة بأن أكف عما اسميه .. المعارضة النزهية .. لأن هذه المعارضة ستجلب لي المتاعب التي لقيتها سنة 1924 ، وربما أقصتني عن الحياة البرلمانية ، ومع أن النصيحة كانت الوجهة العملية معقولة ، لكني لا ادري لماذا لم اقتنع بها .. وكل ما تملكني ان النيابة في نظري رسالة لا حرفة ، يجب ان يؤديها عضو البرلمان بكل إخلاص ونزاهة ، ألم نقسم اليمين المرة تلو المرة علناً في البرلمان أن نؤدي أعمالنا بالذمة والصدق ؟

وغن كانت مساوئ وزارة الوفد في سنة 1950 و 1951 قد فاقت كل مساوئ له في أي عهد مضى ، فلم يكن في استطاعتي أن اسكت عن معارضة سياسة الوفد في الحكم (1) ، ومع ذالك فإن معارضتي كانت غاية فالاعتدال ، وضبطت النفس ، لكن هذا المسلك قد أثار على غضب الوفد ، وزعامة الوفد ، تماماً كما حدث لي سنة 1925 و 1926 و 1936 ، فلما حل موعد التجديد النصفي رشح الوفد ضدي في دائرة الشيوخ محمد عبد الحليم سماحة .. وكان عضو في مجلس النواب .

وقد فهمت من ملابسات هذا الترشيح أن المقصود منه إقصائي عن المجلس ، لأنه إذا كان الغرض منه الاستفادة من مواهب منافسي .. فإن في مجلس النواب متسع لها ، ومع هذه الملابسات فقد خضعت معركة الانتخاب ، وكان ذالك في إبريل سنة 1951 ، ولو تركت حكومة الوفد الانتخاب حراً لما كان هناك شك – فيما اعتقد – في نجاحي لان الوعي لقومي قد تنبه بحيث يمكن للناخبين لو تركوا أحرارا أن يختاروا الأصلح لعضوية المجلس,وكان الواجب على الوفد وقد ظقر بالاغلبية فى مجلسي البرلمان ان يحترم حرية الانتخاب فى الدوائر التي خلت فى عهده,ولكن الحكم المطلق- وهو شعار الوفد-يولد فى النفوس نزعة التمادي فى الاستبداد والطغيان و محاربة الحرية أينما وجدت ,وبرغم ان الاحزاب المعارضة , توقعا لهذه النتيجة, قد اضربت عن دخول انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشيوخ سنة 1951,ولم يبقى إلا ثلاث عشر دائرة جرت فيها الانتخابات- ومنها دائرتي فإن وزارة الوفد قد أتت فيها من صفوف الضغط وضروب الإرهاب و التزيف ما لم يحدث مثله في عهد أي وزارة اخرى, و تولى فؤاد سراج الدين وزيرا الداخلية وقتئذ الاشراف على هذه العملية الاجرامية,ففاز مرشحو الحكومة في جميع هذه الدوائر ولم ينجح احد من المعارضين ولا المستقلين فيها ,و تبين من المقارنة بين الماضي و الحاضر ان إسماعيل صدقي كان ارحم من فؤاد سراج الدين فى التدخل فى الانتخابات ,واخف وطأة,فقد أجرى صدقي باشا انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشبوخ سنه 1946. فترك حوالى نصف الدوائر حرة لم تتدخل فيها الحكومة بأي وجه ,وتدخل تدخلا هينا فى نصف الاوائر الاخرى, اما فؤاد سراج الدين فقد ابى إلا أن يعصف بحرية الانتخابات , في كل الدوائر,و سخر قوات الشر والاجرام لإنجاح مرشحي الحكومة فيها جميعا.

ولما تأثر كثيرا هذه المرة مما فعله الوفد معي في الانتخاب ,ويظهر لي ان هذا يرجع إلى اعتيادي محاربة الوفد لي سنة 1942 و1925 و1936 ,والى أني لم اخسر المعركة بمقدار ما خسرها الوفد معنوايا ووطنيا,ولم أنشا ان اكتي شيئا عن أساليب وزارة الوفد معي في الانتخاب,ولكنى رأيت جريدة البلاغ وهي من صحف الوفد تأخذ من سكوتي دليلا على ما زعمته من حرية الانتخابات ,فلم ار بدا من أن أذكر بعض الحقائق الوجيزة,وبعثث بها إلى صحيفه البلاغ فنشراتها فى العدد الصادر بتاريخ 9 مايو سنة 1951 و ويطيب لي ان انشر هذا المقال فان فيه صوره مصغره لما جرى فى عهد الوزاره التى اسمت نفسها وزاره الشعب قلت : ،،حضره الاستاذ المحترم رئيس تحرير ،،البلاغ،،الأغر،، ،، اقحمتم اسمى مرتين فيما كتبتموه عن انتخابات الشيوخ الاخيرة , و ذلك فى عددي 5,6 مايو , وفى الاخير بالذات جعلتم عنوان المقال (نحن نقدم الشواهد على حريه الانتخابات ) ,وذكرتم عني اني قدمت شكوى حققت بمعرفه مفتش الداخلية واني قلت في محضر التحقيق انى مطمئن إلى حياد رجال الإدارة. و لولا ان اقحام اسمي فى هذا السياق قد يفهم منه اني موافق على ان هذه الانتخابات جرت فى حياد لآثرت السكوت عن الخوض فى شأنها لأني أستنكف أن موقف الشاكي من أي ضيم وقع بي أما و في مقالكم تعريض بى إلا أن أعقب عليه بأن ما جرى فى دائرة فارسكور هو التدخل الاداري السافر المبني على الضغط و الارهاب و كل صنوف التزيف " لقد شكوت الى معالى وزير الداخلية قبل موعد الانتخابات بنحو شهر تدخل مأمور المركز و جمعه العمد و التنبيه عليهم بمساعدة مرشح الحكومة و تهديد بما حدث لزملاء لهم من العمد من الفصل و الايقاف عقب انتخابات يناير 1950 فأكد لي معالى الوزير بأن الانتخابات هذه المرة ستجرى فى حياد و حرية تأمين و كلم مأمور مركز فارسكور بالتليفون بحضوري منبها عليه بالتزام الحياد و لم ينكر المأمور الواقعة التي شكوت منها و انتدب الوزير مفتش الداخلية بالدقهلية لتحقيق هذه الشكوى و كان المراد من التحقيق أن أذكر أسماءهم حتى لايتعرضوا هم أيضا للأذى و التنكيل و اكتفيت بما تضمنته برقيتي التي أرسلتها الى وزير و قلت فى محضر التحقيق بأني لا أتردد عن الشكوى كلما حدث تدخل من الادارة.

ولا أذيع سرا اذا قلت لكم أن شكوت لسعادة مدير الدقهلية ( فؤاد عثمان ) مشافهة و بالتليفون فى كل يوم تدخل الادارة عشرات المرات و كان يعدني كل مرة بأنه سيوقف هذا التدخل دون أن أجد نتيجة لهذة الوعود و أما اعطاؤه أجازة مأمور مركز المنصورة ( قريب مرشح الحكومة ) عقب شكواي من تدخله فقد تبين لي أن المقصود من هذة الأجازة هو إفساد المجال لحضرته ليمر باستمرار ليلا ونهارا مع قريبه في معظم بلد الدائرة و التنبيه على العمد و المشايخ بأن الحكومة يهمها نجاح مرشحها و مما فعله هذا المأمور أنه في اليوم السابق للانتخابات حصل من المدرية على أسماء المندوبين الذين اخترتهم عني فى جميع لجان الانتخابات رغم سرية هذه البيانات, وتسنى له ولرجال الإدارة بهذه الوسيلة معرفة اسمائهم جميعا وتهديدهم شخصيا وتشريدهم لكيلا يحضرون عملية الانتخابات , ولقد وصلوا فعلا إلى هذا الغرض, ومن الامثلة على ذلك انه فى الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف ليلة الانتخاب دق جرس التليفون فى منزل صهري بالمنصورة وإذا بالمتكلم أحد مندوبين فى لجنه كفر العرب من بلاد مركز فارسكور يحدثني من دمياط ويخبرني فى لهجة من الهلع و الفزع أن عمدة كفر العرب و خفراءها نبهوا عليه وعلى الوكيل الذي اخترته في هذه اللجنة بأن الإدارة تأمرهما بمغادرة البلدة وتهددهما بالحبس إذا لم يغادراها واضطرهما العمدة والخفراء تحت تأثير هذا التهديد إلى مغادرة البلدة ليلا إلى دمياط ، وتبين لي في الصباح أن معظم مندوبي في اللجان منعوا بهذه الطريقة من حضور عملية الانتخاب وخلت معظم اللجان من وجود ممثلين لي مما سهل مأمورية ورجال الإدارة في تسويد تذاكر الانتخاب .

" ومن أمثلة التدخل أن الإدارة في ليلة الانتخابات حققت مع بعض العمد بدعوى مساعدتي في الدعاية الانتخابية في الوقت الذي أوحت إلى معظم العمد بإقامة حفلات في بلادهم لتأييد مرشح الحكومة .

" وأن مندوب مرشح الحكومة أمر ضابط البوليس في صبيحة يوم الانتخابات بالقبض على محام من أنصاري فنفذ الضابط الأمر و استمر المحامي محبوسا من الساعة التاسعة صباحا حتى الرابعة والنصف مساء أي طيلة يوم الانتخاب تقريبا مما ترتب عليه تشتيت أنصاري من الناخبين وإلقاء الفزع في نفوسهم .

" وفي يوم الانتخاب لم تكن تمر عشر دقائق إلا وتبلغني أنباء التهديد الواقع على الناخبين في جميع اللجان و احتشاد جنود البوليس والخفراء والضباط والعمد وتهديدهم الناخبين لانتخاب مرشح الحكومة . وكنت أبلغ المدير هذه الشكوى تليفونيا . وكان الجواب في كل مرة أنه سيتخذ الإجراءات الكفيلة بمنع التدخل !وأخيرا رأيت من العبث أن ابلغه الشكاوى لكثرتها ولعلمي أن لا جدوى ولا فائدة منها .

" وإنني أذكر سعادة المدير في هذا السياق بما قاله لي شخصيا قبل الانتخابات بأسبوعين من أنه قد أبلغ الداخلية بما عرفه من تحرياته في بلاد الدائرة وهو أنه إذا استمرت الحالة طبيعية والإدارة على حياد فان أمل مرشح الوفد في النجاح مفقود .

" فإذا كان هذا هو رأي المدير في نتيجة الانتخاب قبل موعده بأسبوعين فبماذا يمكن إن نفسر النتيجة التي ظهرت سوى أنها الأثر المباشر للتدخل الإداري السافر ؟ "

وقد فاتني أن أذكر في هذا المقال تعاون رجال خفر السواحل مع رجال الإدارة في إسقاطي ، فان بعض بلاد الدائرة كعزبة البرج وغيط النصارى تقع في مناطق خفر السواحل فتبارى رجالها الرسميون من ضباط وجنود مع رجال الإدارة في الضغط على الناخبين ، ونالوا بغيتهم ! وثناء رؤسائهم .

مذهبي السياسي

ليس الجلاء و وحدة وادي النيل هو وحده مذهبي السياسي , بل أراه لا يكفي إلا إذا كان له سند من مذهب جوهري آخر , هو الأساس لكل المذاهب الصالحة , وهو الاستقامة السياسية , فهي في نظري الأصل , و المذاهب الصالحة متفرعة عنها .

إن من طبيعة المجتمعات الحرة المتقدمة أن تتعدد فيها المذاهب و البرامج السياسية , فلا يمكن لمجتمع حر أن يتألف منه حزب واحد , إلا إذا سادته روح الديكتاتورية التي لا تحتمل حرية الرأي في السياسة و الاجتماع .

و لست أرى في اختلاف المذاهب السياسية غضاضة على المشتغلين بشئون البلاد العامة , و لا أرى ضررا من تعدد الأحزاب و تعدد المذاهب في السياسة , و لكن هناك مبدأ يجب أن يكون أساس قيام الأحزاب و تعدد مناهججها و برامجها , دعامة كفاحنا السياسي , وهو الاستقامة السياسية فالاستقامة السياسية هي خير مذاهب السياسة , وهي الوسيلة الفعلية لإفادة البلاد من المشتغلين بالسياسة , أحزابا و جماعات و أفرادا .

الاستقامة السياسية هي التزام المشتغل بالسياسة جادة الصدق و النزاهة و الخلق القويم في حياته العامة , و في حياته الخاصة أيضا , لا أقول هذا مبالغة مني في هذا المذهب السياسي , بل لأني أرى الاستقامة السياسية غالبا ما تكون نتيجة للاستقامة الاجتماعية و الشخصية .

كثيرون من الناس يظنون أن الحياة السياسية لا تتفق و الاستقامة , و يرون أن الذي ينشد الاستقامة يحسن به أن يبتعد عن السياسة , لأن السياسة في نظرهم كذب و خداع و نفاق و رياء و تسابق على اقتناص المنافع الشخصية , و هذا وهم سرى إلينا من إلتواء السياسة عندنا , فعلينا أن نحارب هذا الوهم , لأنه و لا شك من أسباب تأخر الحياة السياسية و تأخر المجتمع تبعا لذلك .

الاستقامة هي أساس السياسة الناجحة , و أقصد بالسياسة هنا السياسة الداخلية , أي علاقات الناس بعضهم ببعض في الشئون العامة .

أما السياسة الخارجية فالاستقامة فيها موضع نظروخلاف , قد تكون الاستقامة السياسية غير مرغوب فيها في السياسة الخارجية أي في علاقات الدول بعضها ببعض ، فالكذب ، والخداع ، و الغصب ، والعدوان ، ونقض العهود والمواثيق ، لا تزال مع الأسف من وسائل النجاح في السياسة الخارجية ، ومع ذلك فان محبي السلام والإنسانية في العالم يدعون إلى الاستقامة في السياسة الدولية ، أي في علاقات الدول والأمم بعضها ببعض ، ويدعون إلى المساواة بينها ، واحترام حقوق كل دولة في الحرية والاستقلال ، ويستنكرون سياسة الغش والغصب والإكراه ، ويرون فيها مصدر الكوارث التي تصيب الإنسانية ، حقا إن هذه الدعوة لم تستجب إلى الآن ولا يزال أمام الإنسانية زمن طويل حتى تستجاب وتعم الدول جميعا وعلى أي حال فإذا كانت الاستقامة مشكوكا في صلاحيتها في السياسة الخارجية ، فهذا القول ليس صحيحا قطعا في الحياة السياسية الداخلية ، بل يجب لكي تنهض البلاد وتتخلص من نقائصها أن يتذرع الساسة والقوامون على شئونها العامة بالاستقامة والنزاهة ، فالحياة السياسية ، والحياة الحزبية ، والحياة البرلمانية ، والحياة الصحفية ، يجب أن تسودها روح الاستقامة لكي تكون حياة ناجحة منتجة خيرا للمجتمع .

ولا يظن أحد إن البلاد تفيد من حياة عامة تتنكب سبيل الاستقامة ، قد يتقدم المرء في المجتمع بغير الاستقامة ، ولكن هذا التقدم يكون على حساب مصالح الوطن العليا ، وليس هذا هو السبيل لتقدم المجتمع . فعلينا أن نتذرع بالاستقامة في حياتنا السياسية ، وأن نقيم بناءها على هذا الأساس ، فانه الكفيل بتحقيق أهداف البلاد في السياسة والاقتصاد والاجتماع ، يجب أن يكون قوام الأحزاب والجماعات إيمان أعضائها بمبادئ معينة يقتنعون ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، أما قيام الحياة السياسية على أساس العبارات الجوفاء والكلمات البراقة المطاطة ، والروابط الشخصية ، والسعي وراء المصالح الذاتية ، فان هذا يؤدي لا محالة إلى تراجع الحياة العامة ، ويعرقل تقدم الأمة وإصلاح شئونها .

وعلى من يشتعل بالسياسة سواء تحت لواء الأحزاب أو مستقلا – على أن يكون هذا الاستقلال استقلالا حقيقيا – أن تكون له مبادئ عامة يعتنقها ، ويعمل على تحقيقها ، ويصدر عنها في أعماله وتصرفاته ، لا أن يكون هدفه الوحيد أن ينال لنفسه مركزا ممتازا في المجتمع فحسب .

إن من أسباب تأخر الحياة السياسية اتخاذ المشتغلين بها انضمامهم إلى الأحزاب وسيلة لإدراك المراكز الممتازة فحسب ، فان هذا الهدف يصرفهم عن السعي للنهوض بالبلاد عامة ، ولعل هذا يفسر لنا تلك الظاهرة التي تبدو أحيانا عندنا ، وهي سرعة تنقل بعض المشتغلين بالسياسة من حزب إلى أخر ، فكثرة هذا التنقل لا تدل على إيمان عميق بالمبادئ السياسية ، ولا على تقدير للاستقامة ، بل تدل على الرغبة في الوجاهة ، أي أن يكون المرء وجيها في المجتمع ، وليس هذا هو الهدف القويم للحياة السياسية المستقيمة .

إذا عمت روح الاستقامة والنزاهة محيطنا السياسي ، أفادت كثيرا في تقدم البلاد وارتقاء الروح ، فإنها عدة الأمة وعتادها في نهوضها ومواجهتها للحوادث و الأحداث ، وعلى الأحزاب أيضا أن تكون لها مذاهب وبرامج معينة واضحة المعالم تعمل على تنفيذها سواء كانت في الحكم أو في المعارضة ، عليها أن تحترم برامجها وتحترم وعودها للناخبين لكي تكتمل ثقة الأمة بأحزابها وجماعاتها والقائمين على شئونها ، فالثقة المتبادلة بين الأحزاب والأمة ، وبين الحكام والمحكومين ، هي من العوامل الفعالة في تقوية جبهة البلاد ومقاومة عوامل الضعف والفساد .

إن الاستقامة والنزاهة هي المذهب السياسي الأول لما يريدون أن يخدموا البلاد عن طريق الاشتغال بالسياسة وهي، السبيل إلى إصلاح ما فسد من شئون الحكم والى جعل الأداة الحكومية أداة إنتاج وتقدم ومناعة ، وذود عن حقوق البلاد وكيانها ، الاستقامة هي أساس كل صلاح وفلاح ، وقد جمع فيها رسول الله أطراف الإسلام كافة ، إذ سأله سفيان ابن عبد الثقفي أن يقول له في الإسلام قولا لا يسأل عنه أحدا غيره ، فأجابه رسول الله صلوات الله عليه بهذا الجواب الجامع المانع الحكيم : " قل آمنت بالله ثم استقم " .

اعترافاتي

إن الاعترافات بمعناها اللغوي و معناها القانوني تنصرف إلى المآخذ و النقائص , فاعتراف الإنسان لغة هو إقراره بالشيء على نفسه , و الاعتراف قانونا هو الإقرار بالدين أو بالتهمة , و في القرآن الكريم " و آخرون اعترفوا بذنوبهم " , فالذي يكتب عن اعترافاته إنما يتكلم عن نقائصه و عيوبه , وعليه أن يحصي على نفسه السيئات .. دون الحسنات , و بغير ذلك لا يكون موضوع حديثه " اعترافات " .

بهذا المعنى أكتب عن " اعترافاتي " , و ليس الحديث عنها عسيرا , فما أكثر ما في حياة المرء من نقائص و عيوب , و أخطاء و مآخذ ! و حسب الإنسان أن تربو حسناته على سيئاته , و أن ترجح في الميزان مزاياه على نقائصه . إني أعترف بأن بي نقائص كثيرة .. سعيت جهدي و لا أزال أسعى في أن أتحرر منها , و أخفف من وطأتها .

الحياء ضعف

و أول ما اعترف به على نفسي أني شديد الحياء .. لازمني هذا النقص منذ صباي , و لم يفارقني في أدوار حياتي . إني أعتقد أن الحياء ضعف في الإنسان , ومهما قيل في مدحه , فإني أراه على العكس مجلبة للضرر , و وسيلة إلى الزلل , و قد شعرت بأنه أضرني فعلا , و ضيع علي حقوقا و مصالح ومزايا كثيرة , و سعيت جادا في أن أتحرر منه .. و لكن ذهب مسعاي سدى .

لست أدري مصدر هذا الضعف , و لا كيف تمكن مني , و لعله من العناصر الأصلية في تكويني , ومع شعزري بأني لست ضعيف الإرادة فقد ضعفت إرادتي عن علاج هذا النقص .

أنا لا أحب الحياء و لا أريده .. و لكن ما حيلتي و قد ركب هذا النقص في طبعي ؟ و كل ما سعيت إليه لا يتحول الحياء عندي جبنا , و لعلي قد نجحت في هذا المجال , فأني و الحمد لله لست جبانا , بل عندي قسط لا بأس به من الشجاعة .. و لا أريد أن أقول كيف نجحت في هذا المسعى و إلى أي مدى نجحت , لأني إذا استطردت إلى هذا الحديث خرجت من دائرة " الاعترافات .

الحياء و الحب

و ما دمت في صدد " اعترافاتي " فإني أقر على نفسي بأني تورطت مرة في الحب عن طريق الحياء , كان ذلك في باكورة الشباب , و أنا بطبعي مرهف الحس , وهذا باب ينفذ منه الحب في يسر و سهولة , و لقد أحببت حبا عاطفيا روحانيا , و لكني أدركت مع الأيام أن الحب أمر متعب لا لزوم له و لا فائدة منه .. فتخلصت منه , وكان للحياء دخل في نهايته , كما كان له أثره في بدايته , و تعلمت من هذه التجربة أن من الخير للإنسان أن ينشد الحب العائلي – أي الحب بين الزوجين – الحب الهادئ المعتدل المتصل , فإنه من أركان السعادة في هذه الحياة .

المرونة و العناد

إني لا أملك المرونة الكافية التي يقتضيها الانسجام فيا لمجتمع , أنا مهذب و مؤدب في أحاديثي مع الناس , وفي معاملتي لهم كبارا و صغارا , و الناس – فيما أظن – يشهدون لي بذلك , و لكني أعترف بأني لست مرنا كما ينبغي , و المرونة في نظري واجبة , و عندي جانب منها , و لكني أعتقد أنه ضئيل , و قد سعيت أن استزيد منه , فلم أبلغ ما أريد , و لعل السبب في ذلك أن بي عيبا آخر لا يتفق مع المرونة , وهو العناد , و لا أعرف من أين جاءني هذا العيب .

أرى الناس أحيانا يكونون في الشرق , و أنا أكون في الغرب , أليس هذا عنادا , و عبثا حاولت أن أعالجه فلم أستطع , و تساءلت لكي أقنع نفسي بالإقلاع عنه : كيف يتفق الحياء مع العناد ؟ فلم أجد جوابا مقنعا , إلا أن كليهما عيب , و لكن لا سبيل إلى التخلص منهما .

على أن العناد لم يبلغ بي مبلغ التطرف و السخف , بل إني لأعذر نفسي أحيانا في عنادي , لأني إنما أعاند فيما أعتقد اعتقادا راسخا بعد دراسة عميقة بأني على حق فيه , فكيف أكذب نفسي و أصدق الناس ؟ ثم أني كثيرا ما آراهم يسيرون في بعض الشئون وراء أكاذيب ضخمة اصطلحوا عليها دون بحث أو دراسة , فكيف أوافقهم على ذلك ؟ و أراهم يرجعون أحيانا عن آرائهم و اتجاهاتهم , فما رأوه بالأمس أبيض يرونه غدا أو بعد غد أسود , و ما رأوه حراما يرونه اليوم حلالا , فهل أدور معهم كل يوم أينما داروا ؟ إن هذا ما لا احتمله و لا أطيقه , فليكن مسلكي عنادا , و ليكن العناد عيبا , و لكنه عيب له " ظروفه المخففة " كتعبير رجال القانون .

الحفلات و المآدب

الحفلات و المآدب من الوسائل العملية ليكون الإنسان " اجتماعيا " و يتعرف إلى أكبر عدد من الناس , وتعلو بذلك منزلته الاجتماعية و السياسية , و لكني أعترف بأني لاأميل كثيرا إلى حضرو الحفلات و المآدب , و أعتذر عن كأكثرها , و لا أحضر إلا القليل منها , وهذا عيب كبير .

إني بطبعي أميل إلى الاجتماعات , أما الحفلات و المآدب فيصدني عنها أن الرسميات لها المقام الأول فيها , فأصحاب الرفعة و الدولة يقدمون على أصحاب المعالي , و أصحاب المعالي يقدمون على أصحاب السعادة ,و الوزراء يقدمون على غير الوزراء , و الباشوات يقدمون على البكوات , و البكوات على الأفندية , و هلم جرا . و أصحاب الدعوات يلاحظون هذا الترتيب بكل دقة , و لهم عيون و رقباء يقومون على تنفيذه , و الصحافة أيضا تسير على هذا الغرار في وصف الحفلات و أسماء من يحضرونها , و أنا شخصيا لا أقر هذه الأوضاع و لا أهضم توزيع مظاهر الاحترام و الحفاوة بهذا الميزان , و من هنا أميل إلى الاعتذار عن معظم هذه الحفلات و الولائم , و هذا و لا شك نقص كبير سأعالجه مع الزمن .

حسن ظني بالناس وبالحوادث

إني حسن الظن بالناس أكثر مما يجب , و يلزمني أن أتعلم المثل القائل " إن سوء الظن من أقوى الفطن ", لقد قرأته كثيرا , و لكني لم أعمل به و لم أتبعه .

أحسنت ظني بأناس كثيرين , وخاب ظني فيهم , ومن الغريب حقا أني لا أفيد من التجارب فكان يجب علي أن أسيء الظن بالناس بعد ما رأيت المرة بعد المرة من خيبة ظني في كثير منهم , و لكني مع ذلك أعود فأحسن ظني بهم , أي أعود إلى ما كنت فيه .. فمتى – ليت شعري – أتعلم ؟


ومن عيوبي أني حسن الظن بالحوادث,وأني متفائل أكثر مما ينبغي, وكثيرا ما تأتي النتائج على غير ما كنت أتوقع, ومع ذلك لا أتعلم ,لا أغير من نظري إلى الناس والحوادث

انا لا أتهم نفسي بالغباوةة, أني لست غبيا ولا بليد الذهن,فلا أظلم نفسى وأدعي الغباوة, ولكن لماذا إذن لا اتعلم إساءة الظن بالناس و الحوادث؟ لعل لي عذرا في هذا العيب,فأني لو رضت نفسي على أن أعرف العالم على حقيقته واسأت ظني بالناس, لما ترك لي اليأس مجلا للعمل, ولسد على منافذ الامل, او لعل الايام و الحوادث سواسية فيما تأتي به من خير أو شر,فلنقبلها على علاتها, و لننظر إليها كما يقول فيها أبو تمام على أنها الأيام قد صرن كلها عجائب حتى ليس فيها عجائب وليكن الانسان متغابيا و متجاهلا , لكى يستطيع أن يبقى مكافحا و مناضلا,فالحياة مرادفة للكفاح و النضال.

الحقيقة و الخيال

وأظهر عيوبي أنى لست رجلا عمليا و لا واقعيا , وأني أقرب أن اكون نظريا او خياليا,واني لا أريد أن أفهم الحياة على حقيقتها. أنا أعلم حق العلم أن الحقائق شئ والخيالات شئ آخر, و أشعر أنني أعيش غالبا في جو من الخيال, ومع اعترافي بهذا , فإني أوثر الخيال على الحقيقه أحيانا, قد يكمن هذا مكابرة, أو غفلة,أو ما إلى ذلك, لكني أود أن أبقى متعلقا بالخيال,فقد يكون الخيال خيرا من الحقيقة, وقد يصبح حقيقة بعد حين , وقد تفيد الامم من الخيال أكثر ما تفيد من الأمر الواقع!


نصائحي للشباب و ما عليهم من واجبات

إن آمالنا معقودة بقيام شباب الجيل بواجباتهم نحو أنفسهم ونحو بلادهم, فالشباب عده الوطن و ذخيرته, ومن حقنا ان ننتظر منهم ان يؤدوا واجباتهم على اكمل وجه, ولست أريد شططا فيما اذكره من واجبات الشباب, ولا ابتغي إرهاقا لهم بل إني استملي فى هذه الكلمه روح الاعتدال والرفق بالشباب.

إني لأبدأ بهذا الواجب عن عقيدة واقتناع, ولا يدهشن أحد أذا أقدم هذا الواجب على واجب الشباب نحو وطنه,فإن خير النصح ما كان مطبقا لحقائق الأوامر,و الوطنية حقيقة واقعية,لا خيال كما يدعون.

أنا لا أتملق الشباب إذا قلت إن أول واجب عليه نحو المجتمع هو تكوين أنفسهم ليكونوا مواطنين صالحين فى المجتمع وكلما كان الشباب ذا مركز محترم و ذا مكانة مستقلة, ولا يعيش عالة على غيره ,استطاع ان يخدم بلاده بأكثر مما كان يعتمد على غير نفسه فى الحياة.

فنصيحتي إلى الشباب أن يكونوا لأنفسهم مراكز محترمة في المجتمع,وان يعتبروا واجبهم نحو أنفسهم هو الحجر الاساسي لما تطلبه البلاد منهم,وأنهم بتكوينهم هذه المراكز يمهدون لأنفسهم سبيل العمل المنتج والجهاد المثمر فى سبيل إحياء البلاد و رقيها و عظمتها.

وواجب الشباب نحو أنفسهم يضمن واجبهم نحو أسرهم و ذويهم ذلك لانهم ينتظرون منهم أن يكونوا عونا لهم في هذه الحياة فالآباء عندما يبذلون كل جهودهم لتربية أبنائهم يحق لهم أن ينتظروا منهم أن يكونوا عونا لهم في مستقبل حياتهم , وإن هذا العون لمما يشرف الشباب و يرفع شأنه بين الناس .

ثم تأتى فى المرحلة الثانية, واجبات الشباب نحو وطنه ولا أقول إن هذه الواجبات تأتي في الصف الثاني من الاهمية بل على العكس فإن واجب الشباب نحو وطنهم اعظم واوسع مدى من واجبهم نحو أنفسهم,ذلك لان البلاد ما هى إلا عائلة كبيرة تتألف من مجموع عائلات المواطنين وفعندما يؤدي الانسان واجبه نحو نفسه عليه ان يؤدي واجباته نحو عائلته الكبرى وهي الوطن.

وواجبات الشباب نحو وطنهم تتفرغ إلى ثلاثة اقسام:واجبات سياسية,ووجبات اقتصادية,واخرى اجتماعية

الواجبات السياسية

الواجب السياسي ان يساهم الشباب بجهوده و بعلمه و بكفاءته و باخلاصه فى النهوض بالبلاد من الناحية السياسية,وأول ما يجيب على الشباب هو ان تكون له عقيدة سياسية,او بعبارة اوضح عقيدة وطنية,لأن الذي يعمل بغير عقيدة قلما تفيد البلاد منه فائدة ما قد يقال إن هذا الكلام نظري .. وأن البيئة و الوسط و الظروف و حالة البلاد تدعو إلى عدم تقيد الانسان بعقيدة سياسية.ولكني على العكس أقول إنه يجب على الشباب الا يعيش على هامش الحوادث والأحزاب, بل يحب أن يكون له رأي و تكون له عقيده يدافع عنها ويصدر عنها فى اعماله واتجاهاته على الشباب إذن ان يختار لنفسه الهيئة السياسية التي تتفق مع عقيدته ولا يتحول على هذه العقيدة

اني ادعو الشباب ان يحيوا بالعقيدة الوطنية ,لأنها اساس التقدم و الكفاح, كما ان الملاذ الأخير للانسان إذن ما صادفته في حياته عقبات او صدمات او نكران للجميل... و الرجل الذى يخلو من العقيدة لا يلبث ان يتخاذل و يتراجع,وينتهي في آخر الامر إلى اطراح الجهاد. إنى ادعوهم إلى تنمية روح العقيدة الوطنية من نفسهم, والا يتعجلوا تقدير الناس لجهودهم فانا أعلم الناس بان المواطن الذى يعلق عمله على تقدير الناس لجهوده لا يلبث ان يصاب من المجتمع بخيبة أمل قد تؤدي به الى ان ينقلب على عقبيه ,كما أن الوطنية الحقة اساسها ان يؤدي الانسان واجبه دون ان ينظر من الناس جزاء ولا شكورا, ان الشباب وان كان يجب عليهم ان يتمسكوا بعقيدتهم فليس من الخير ان يسخطوا على الناس إذا كانوا لا يشاركونهم فى عقائدهم,ولا ان يحاسبوهم حسابا عسيرا اذا خالفوهم فيما يعتقدون, وان لهم أن يتشددوا في عقائدهم ولكن عليهم ان يكونوا اشداء على انفسهم ,رحماء على الناس فلعل ذلك أدعى لخدمة عقائدهم واجتذاب القلوب اليها , وأقرب إلى اعتناق الناس مع الزمن لمبادئهم,إننا فى خلال أربعين عاما عندما كنا ننادى بالجلاء والملحقات لم يكن نداؤنا يقابل فى الجملة إلا بالتهكم و السخرية.لا من الاشخاص العاديين فحسب,بل من الاشخاص ذوي المراكز الكبيرة والاسماء الضخمة..ولقد كنت أرى دائما الا نناصب من يخالفوننا في عقائدنا العداء, بل كنت ادعوا إلى التسامح معهم ,لعلهم يرجون أخر الامر إلى مبادئنا, واظنني كنت محقا في أن هذه الخطة اقرب الى تعميم هذه المبادئ, وانها كسب مع الزمن الانصار و المويدين من طبقات الشعب كافة,حتى اولئك الذين كانوا يجرحون مبادئنا و يعتبرونها خيالا في خيال.

وأود ان أضيف نصيحة أخرى وهي أن يعمل الشباب دائما على تاليف القلوب,لاعلى تفريقها,لأن تأليف القلوب و توحيد الصفوف من أمضى الاسلحة التي تعتمد عليها في كفاحنا فليكن الشباب رسل و ئام و محبة و سلام و لا دعاة فرقة و كراهية و انقسام.

إن الشباب هم طليعة جيش الوطن وفعلييهم أن يكونوا قدوته في التماسك و التكتل,وبدون ذلك لا يستطيع الشباب ان يؤدوا رسالتهم,إن الانسان مهما ضحى فى سبيل الوحدة,فإن تضحيته لها قيمتها و هى جديرة بأن يشكر صاحبها عليها.

الواجبات الاقتصادية

من الناس من يظن ان الحياة الوطنية هي السياسية,وهذا خطأ أربا بالشباب أن ينحدروا إليه لأن الحياة القومية يجب أن تشمل الجانب الاقتصادي و الاجتماعي و فلا يمكن لأمة أن تحقيق أهدافها إذا لم تهتم بالناحيه الاقتصادية فيها,فالنهضة الاقتصادية هي من الاسلحة التي تتميز بها الامم القومية عن الامم الضعيفة الأمة الغنية أقوى في ميدان الكفاح السياسي من الأمة الفقيرة .

لقد لاحظنا كيف كان لعامل المال الاثر الفعال في نتائج الحرب العالمية الأولى و الثانية,فقد كتب النصر لأمم التي تفوقت على أعدائها في ميدان المال و و لذلك قالوا إن النصر يكون لأقوى الأمم و أكثرها مالا, و لعل من الخير أن نلاحظ أن الحرك الوطنية قد أقترنت بالنهضة الاقتصادية, فقد كان مصطفى كامل يعمل فى الناحية السياسية,بينما كان طلعت حرب و عمر لطفي يعملان في الناحية الاقتصادية,فكلما النهضتين إذن ضرورية لاخرى بل مكملة لها , ومن ثم كان من الواجب علينا ان نتعاون على تشجيع ما هو من الأنتاج , فالأمم الأوروبية تؤثر انتاجها الوطني على اي انتاج آخر .

إني لا أقصد أن أدعو الشباب إلى التعصب , وإنما أقصد إلى دعوتهم إلى تشجيع الانتاج المصري , لأن هذا من العوامل الكفيلة بالنهوض الاقتصادي للبلاد .

كما أنني أدعوهم إلى المساهمة في المنظمات الاقتصادية التي تنهض بالثورة القومية , و أدعوهم على الأخص إلى تشجيع المنظمات التعاونية , بحيث لا تخلو جمعية تعاونية من مساهمتهم فيها , و لا يصح أن يحتج أحدهم بعدم وجود جمعية تعاونية ينضم إليها فى بلده أو فى بيئته , بل يجب عليه فى هذه الحالة أن يتعاون مع إخوانه على إنشاء جمعيات تعاونية لا جمعية واحدة , ولذلك فإني أوجه اللوم إلى الشباب المثقف الذي يعيش في المدن أو القرى ولا يعمل على إنشاء الجمعيات التعاونية فيها.

الواجبات الإجتماعية

لاشك أن المجتمع الراقي والسليم أقوى على الأزمات السياسية العالمية من المجتمعات المتأخرة وأقدر منه على تحمل أعباء الدفاع الوطني , ومما تجدر ملاحظته أن الجمعيات الرياضية في أوروبا تساعد على تكوين الموطنين الصالحين والجنود المكافحين , فعلى الشباب إذن يساهموا في نهضة الرياضية و الصحية والتعاونية و الإجتماعية والخيرية , إن الجمعيات الرياضية واسعة المدى في أوروبا وضعت نصب عينيها المثل القائل "العقل السليم في الجسم السليم", ومن ثم كونت جيلا قويا رياضيا , هذا بينما نحن نجد أن 80% من شباب الجامعة لا يصلحون للجندية لضعف بينيتهم وإعتلال صحتهم .

وعلى والشباب أن ينظموا جماعات للعمل على الرقي الإجتماعي , وأن يؤسسوا هذه المنظمات إذا لم تكن موجودة , وعليهم أن يكونوا دعاة للخير , عاملين على تخفيف آلام الإنسانية , مساهمين في الخدمات الإجتماعية , ساعين في تخفيف عن الفقراء والمرضى إلى هذه الناحية والمعوزين وأن يساهموا في نشر الثقافة بين مواطنيهم , فإذا إتجهوا إلى هذه الناحية تمت في نفوسهم الروح الإجتماعية والتي تجعل من الإنسان مواطناً صالحاً يحس بآلام مواطنيه فيعمل على التخفيف منها , ويشعر بشعورهم فيعمل على إسعادهم , وفي هذا معنى التسامي في الوطنية .

وأرجو أن يكون الشباب رسل تطور , وأن لا يتخذوا العنف وسيلة لهم في الكفاح وأود من الشباب ما داموا لا يزالون في معاهد التعليم على إختلاف درجاتها ألا يساهموا في السياسة الحزبية , إذ ليس من مصلحتهم ولا من مصلحة البلاد أن يساهموا في هذه السياسة , وعليهم إذا كانت لهم قبول نحو هذا الحزب أو ذاك أن يرجئوا الجهر بهذه الميول وتحقيقها حتى يتخرجوا من معاهد العلم , لأن هذه المعاهد يجب أن تصان فعن أن تكون مسرحا لخلافات الأحزاب وتطاحنها .

ان السياسة الوطنية هي وحدها السياسة التي لا يلام عليها الشباب من الطلبة,ومن السهل على الشباب المثقف ان يفرقوا بين السياسة الوطنية و السياسة الحزبية .و إن وحي الوطنية في نفوسهم لكفيل بان يلهمهم الفوارق بين السياستين , فعلى الطلبة ان يتعهدوا فى نفوسهم روح الفوارق بين السياستين , فعلى الطلبة ان يتعهدوا فى نفوسهم روح الوطنية لا روح الحزبية, وان ينموا هذه الروح و يحافظوا عليها.حتى إذا تخرجوا من معاهدهم أمكنهم ان يستلهموا روح الوطنية فى حياتهم الشخصية, وحياتهم العامة ,لاننا إذا امعنا النظر في نقص المجتمع فى بلادنا و تعمقنا فى دراسة علل هذه النقائص و أسبابها نجد ان أول سبب لها هو ضعف الروح الوطنية في نفوسنا, فإن هذا الضعف يميل بالمرء إلى أن يحيا حياة شخصية,لا حياة قومية,و هذه ةالنفسية لا تجعل منه مواطنا صالحا يؤدى لبلاده ما يجب عليه من التزامات ووجبات,وأول هذه الالتزامات ان يؤثر مصالحها العامة على اطماعه الشخصية و الروح الوطني هي كالاخلاق, ولا تكتسب بعد تخرج الشباب من معاهدهم,بل يجب أن تنشأ و تتكون في البيت , و في المدرسة الابتدائية, فالثانوية, ثم في الجامعة , وإذا لم تتكون في هذه المرحلة فمتى- ليت شعرى-تتكون ؟صفوة القول ان على طلبة العلم ان يتعهدوا في انفسهم روح الوطنية و ينموها و يقدسوها و يحرصوا عليها, ولكن ليس لهم يشتغلوا بالسياسة العملية إلا بعد تخرجهم من معاهدهم و عليهم أن يحترموا النظام و القانون, وان يتخلقوا بالاخلاق القومية.

الاخلاق

الاخلاق!الاخلاق! هي أساس الوطنية وركنها الركين وهي سياجها و حصنها الحصين هي قوامها و غذاؤها الدائم و ان امة بلا أخلاق لا تستطيع ان تحمل اعباء الوطنية او تسير خطوة إلى الامام فنتعهد الاخلاق و و ليبدأ كل منا بنفسه.كبارا و صغارا. شيبا و شبانا فإن الاخلاق و الفضائل الوطنية لا تنموا و لا تقوى إلا إذا كان أساس الدعوة اليها القدو الصالحة ,فليتعهد كل منا أخلاقه , و يقوم المعوج منها ويحصن السليم منها, فإنه بذلك يؤدي أعظم خدمة للمجتمع , ويضع لبنة فى صرح الاستقلال و النهضة القومية.