مستقبل جماعة الإخوان المسلمين

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مستقبل جماعة الإخوان المسلمين


بقلم:د: عمرة الشوبكي


مقدمة

حافظت جماعة الإخوان المسلمين على وجودها التنظيمي منذ تأسيسها عام 1928 على يد الشيخ الراحل حسن البنا حيث تمكنت خلال ما يقرب من ثمانية عقود من البقاء كحركة دعوية ذات طابع ديني، وكتنظيم سياسي واجتماعي، أعطاها عناصر للقوة والتمايز مقارنة بالقوى السياسية الأخرى, وأحيانا ضعف وترهل.

والحقيقة أن رحلة تنظيم الإخوان المسلمين هي أيضا مع النظم السياسية المصرية، ف الإخوان نشأوا كتنظيم في ظل الملكية والحقبة شبه الليبرالية, واصطدموا بالسلطة الناصرية وتعايشوا مع نظام السادات, وتأرجحوا في علاقتهم بالرئيس مبارك , وإن ظلت قائمة على الاستبعاد الجزئي لا الشامل كما حدث في عهد عبد الناصر , وبقيت محظورة معظم تاريخها, وتحديدا منذ عام 1954 وحتى الآن, إي منذ ما يزيد عن نصف قرن.

وظل الإخوان شاهدا وطرفا في الجدل السياسي والثقافي الدائر في مصر والعالم العربي، وعبر فترات تاريخية مختلفة – مصر الملكية و مصر الجمهورية بطبعاتها الثلاث- حول قضايا الهوية والانتماء الحضاري, وعلاقة الدين ب السياسة والغرب والشرق، والوافد والموروث. وامتلكت الجماعة مرجعية فكرية وسياسية مرنة لها أن تمتلك تصورا شاملا وعاما ل إسلام ، يسمح ل لإخوان أن يكونوا سياسيين إذا أرادوا, وأن يكونوا دعاة فقط للأخلاق الحميدة إذا أحبوا، وأن يكونوا شيوخا على منابر المساجد أو نوابا تحت قبة البرلمان ، وأن يكونوا صوفيين، وأن يكونوا ثوارا، وأن يكون بين قادتهم المحافظحسن الهضيبي والمناضل الراديكالي سيد قطب .

هذا التنوع والثراء عرفه تاريخ الإخوان المسلمين المليء بالمحن أكثر من الانتصارات، سيدفعنا ألا نكتفي في هذه الدراسة برصد واقع الإخوان المسلمين ، إنما أيضا أن نستشرف مستقبلها خاصة في ظل الجدل الدائر في مصر والعالم العربي حول إمكانية دمج الحركات الإسلامية السلمية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين ، في عملية الديمقراطية كما جرى في أكثر من بلد عربي ليس بينها مصر.

والحقيقة أن الاقتراب من تجربة الإخوان المسلمين يثير مجموعة من التساؤلات التي تعطي أهمية مركبة لعملية تحليل واقع جماعة الإخوان المسلمين :

السؤال الأول يتعلق بقضية الثبات والتغير في الخطاب السياسي الإسلامي، وهل يمكن الحديث عن بناء خاص واستثنائي للخطاب المقدس يضعه بمعزل عن تأثير البيئة الاجتماعية والواقع السياسي المحيطين به؟

ولعل خبرة الإخوان المسلمين أنفسهم, ومعهم باقي تيارات الحركة الإسلامية من المغرب حتى أفغانستان , ومن مصر إلى تركيا ، يدل على أنه ليس خطابا مغلقا واستثنائيا, وأنه لا يعاني من عيوب "جينية" تحول دون تطور، وانفتاحه الديمقراطي، ولعل الخبرة التي قدمها الإخوان المسلمين منذ عام 1928 وحتى الآن قد دلت على حجم التغير الذي شهده الخطاب الإخواني ، وأنه لم يكن أبدا خطابا ساكنا لا يتأثر بالسياق المحيط به.

السؤال الثاني يتعلق بطبيعة هذا التحول الذي شهده الخطاب الإخواني وهل يمكن اعتباره تحولا في اتجاه الانفتاح الديمقراطي وقبول قواعد التعددية السياسية، أم أنه تحول في اتجاه رفض الديمقراطية والتعددية الحزبية.

وهنا يصعب القول إن الإخوان المسلمين قد تحولوا في اتجاه تبني كامل لقيم الديمقراطية، ولكن ما حدث هو تبني وسائلها وإجراءاتها بشكل كامل والاستفادة من الهامش الديمقراطي الموجود لصالح حركتها ونشاطها السياسي، فاحترموا قواعد الديمقراطية السياسية السلمية، وآمنوا بالديمقراطية كآلية سياسية أكثر منها كقيمة أو كمفهوم سياسي، دون أن يعني ذلك رفضهم الكامل لكل قيمها.

وقد مال الإخوان إجمالا إلى التميز بين الإسلام ، الذي هو دين ورسالة تتضمن مبادئ تنظم عبادات الناس وأخلاقهم ومعاملاتهم، وبين الديمقراطية التي هي نظام للحكم وآلية للمشاركة وعنوان محمل بالعديد من القيم الإيجابية، ف للإسلام مشروعه الحضاري الخاص، بينما الديمقراطية جزء من مشروع حضاري مغاير، ولعل هذا ما جعل الإخوان المسلمين يحسمون على المستوى النظري والعملي إيمانهم بالوسائل الديمقراطية للوصول للحكم دون حسم قيمي مواز على اعتبار أن الديمقراطية قد تحمل بعض القيم التي يراها الإخوان غير متفقة مع القيم والمبادئ الإسلامية.

ويمكن القول أيضا إن موقف الإخوان المسلمين من قضايا الديمقراطية قد تفاوت من عصر إلى عصر آخر، فقد رفضوا في الثلاثينيات الديمقراطية كقيمة، وذلك باعتبارها نتاج الحضارة الغربية، ولكنهم قبلوها أحيانا كآلية للعمل السياسي المحدد. أما في الخمسينات والستينيات فقد غاب عن قاموسهم السياسي "الثورة " أي الحديث ذي أهمية عن الديمقراطية لصالح مفردات الخطاب القطبي التي قسمت الطليعة. أما في الثمانينات والتسعينيات فقد أبدى الإخوان اهتماما ملحوظا بقضايا احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان داخل المجتمع المصري، وشاركوا بفاعلية في الحملات السياسية التي أطلقتها المعارضة المصرية من أجل مواجهة أي اعتداءات من قبل السلطة على الديمقراطية وعلى حق المواطنين في التعبير السلمي عن آرائهم.

وقد ساهمت الخبرات الاجتماعية والسياسية التي عاشها الإخوان طوال هذه الفترة في انفتاحهم الديمقراطي على القوى السياسية الأخرى، واهتمامهم بأجندة سياسية جديدة وضعت احترام قواعد الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير بين أولوياتها.

وبقيت شكوى باقي القوى السياسية من الإخوان ، باعتبارهم تيارا فرديا لا يميل إلى العمل الجماعي، ويعتمد على قوته التنظيمية وجماهيرته الكبيرة، ثم جاءت مبادرة الإخوان المسلمين للإصلاح في عام 2004 بصورة فردية ودعائية، وبمعزل عن باقي القوى السياسية لتضيف مزيدا من الشكوك حول فردية حركة الجماعة.

السؤال الثالث يتعلق بالربط الدائم بين تيار الإسلام السياسي والظلامية، ف الإخوان المسلمين كما يرى كثير من المثقفين العلمانيين في مصر هم مرادف للتخلف والرجعية، وهم تيار رافض للحداثة وغارق حتى النخاع في أفكاره الظلامية، ومعاد للفن والإبداع وكاره للثقافة والمثقفين. وفي الحقيقة، فإن الخبرة المصرية في التسعينات قد أثبتت أن الذين شنوا حربا على المثقفين والمبدعين والفنانين كانوا ممن يمكن تسميتهم "شيوخ الظلام" الموجودين إما داخل مؤسسات الإسلام الرسمي، أو بين الشيوخ "المستقلين" ذوي التكوين الفقهي البعيد عن السياسة والمختلف تماما عن خبرات تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين .

وهذا الوضع لا يعني أن الإخوان المسلمين كانوا من مناصري الفن والفنانين، أو كانوا في مقدمة المدافعين عن حرية التعبير والإبداع، بقدر ما كانوا بعيدين عن تلك الحملات التي طاردت المثقفين والأدباء والشعراء في المحاكم المصرية، أو هددتهم بالقتل، لأسباب ترجع أساسا لتفاعلهم مع الواقع الاجتماعي والسياسي، فالعقل السياسي الإخواني ، وبناؤهم التنظيمي الحديث، والتكوين السياسي لكوادرهم، جعل من الصعب على "مطبخهم السياسي" أن ينظر إلى قضية مطاردة المبدعين في مصر باعتبارها القضية النضالية الأولى في مجتمع مكتظ بالعديد من المشكلات الاجتماعية والسياسية.

ويمكن القول بالإضافة إلى هذا التساؤلات الثلاثة، إن الاقتراب من رحلة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها، مثل في الحقيقة استدعاء لمجموعة من الظواهر المركبة على مستوى الخطاب والحركة السياسية على السواء، فالاقتراب من خطاب الإخوان أدى إلى اكتشاف حدود تلك المساحة التي يحتلها المقدس والاجتماعي والسياسي داخل مكونات الخطاب الإخواني ، وفي أي سياق يرجح الإخوان أحد هذه الجوانب على حساب الآخر، فالمؤكد أن الإخوان في الثلاثينيات كانوا بالأساس حركة دعوية ذات نشاط سياسي، بينما كانوا في الخمسينات حركة "ثورية" وقع الجزء الأنشط من كوادرها تحت تأثير الخطاب القطبي. أما في الثمانينات والتسعينات والألفية الجديدة فقد نشطوا بصورة أساسية كحركة سياسية دون أن يتخلوا عن خطابهم الدعوي ولغتهم الوعظية.

وبقى التضارب بين لغة العموميات التي أتقنها الإخوان في كثير من الأحيان، وبين البرنامج التفصيلي والرؤية التي كثيرا ما حرصوا على عدم الدخول في دهاليزها، وأخيرا ذلك التفاوت بين الخبرات الجيلية داخل الإخوان، فهناك الجيل الكبير الذي تكون في الأربعينيات وأعتقل في الخمسينيات والستينيات، وهو أكثر ميلا إلى لغة العموميات والتمسك بالخطاب الدعوي والديني ذي الطابع الأخلاقي، وهناك أيضا جيل السبعينيات ذو التكوين السياسي الصرف الذي نشط في الجامعات المصرية طوال عقدي السبعينيات والثمانينيات الذي ظهرت بصمته واضحة في الانتخابات التشريعية الأخيرة في عام 2005 .

والسؤال الذي سنحاول الإجابة عليه في هذه الدراسة سيتمثل في معرفة الواقع الحقيقي الذي يعيشه تنظيم الإخوان المسلمين ، بعيدا عن أي مبالغات دعائية أو إعلامية من أجل معرفة الإمكانات الحقيقية التي يتمتع بها التنظيم وقدرته على التحول إلى تنظيم سياسي وحزبي في حال انفتح النظام السياسي المصري وبدأ مسيرة جادة نحو الإصلاح السياسي والديمقراطي.

وفي هذا السياق، تنقسم الدراسة إلى ثلاثة أقسام رئيسية: الأول يتناول الخبرة التاريخية التي عاشها الإخوان المسلمين ، وتنقسم تلك الخبرة إلى مرحلتين أساسيتين : الأولى هي مرحلة " الإخوان المؤسسين" التي عاشها الإخوان قبل ثورة يوليو 1952 والثانية ب إخوان الجمود والعزلة والتي بدأت منذ حرب فلسطين عام 1948 وحتى نهاية عصر الرئيس الراحل محمد أنور السادات ، أما القسم الثاني فيتناول واقع الجماعة، وحاضرها، والوضعية السياسية والاجتماعية والدعوية التي تعيشها الجماعة حاليا، وفي أي شروط يمكن أن تتحول من تنظيم ديني/ سياسي إلى حزب سياسي بالمعنى الكامل للكلمة، وأخيرا يتناول القسم الثالث مستقبل الجماعة، وما هي السيناريوهات المتوقعة لهذا المستقبل؟ وفي ظل أي ظروف يمكن أن تصبح حزبا سياسيا قانونيا لا يمثل تهديدا للديمقراطية؟ وهل احترام قواعد الديمقراطية ومبادئها يتوقف على الإخوان المسلمين أم أيضا على طبيعة النظام السياسي والقانوني المحيط بهم؟

أولا : الإخوان المؤسسون من عصر انتشار الدعوة إلى مرحلة الصدام والعزلة

لا زال ينظر ل جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها التيار الأكبر والأكثر تأثيرا وتنظيما في الحياة السياسية المصرية، وهو أيضا التيار الأكثر ثراء وتنوعا في استخدام استراتيجيات مختلفة ومركبة تبعا لظروف كل عصر، بحيث نجحت في الاستمرار رغم المحن والأزمات التي مرت بها.

وعاشت الجماعة عصرا مديدا اقترب من 80 عاما، وعرفت داخلية مليئة بالتنوع الداخلي والجيلي والثراء الفكري والسياسي، وعرفت كثيرا من الجدل داخلها وحولها، وشهدت مراحل صعود هائلة واستثنائية وخاصة في المراحل الأولى من تاريخ تأسيسها وحتى حرب فلسطين عام 1948 ، حيث عرفت انتشارا هائلا في محافظات مصر المختلفة وعضوية هائلة داخل القرى والنجوع، وأيضا ضعفا سياسيا كبيرا وبصورة لا تتناسب مع حجم الجماعة وانتشارها حيث غابت عن البرلمان طوال الفترة شبه الليبرالية، ولم يكن لها نائب واحد قبل ثورة 1952 .

وقد دخلت الجماعة في صدام قاس مع السلطة الناصرية، وعانى أعضائها من ويلات السجون والمعتقلات، كما فرضوا على أنفسهم سياجا من العزلة، والانسحاب من المشاركة في الحياة السياسية طوال عهد الرئيس السادات الذي أفرج عنهم في بداية حكمه وعاد واعتقلهم في نهاية السياسية طوال الرئيس السادات الذي أفرج عنهم في بداية حكمه وعاد واعتقلهم في نهايته.


1 – الإخوان الأوائل : الدعوة قبل السياسة

تأسس تنظيم الإخوان المسلمين في عام 1928 على يد الشيخ حسن البنا في مدينة الإسماعيلية, واستمر منذ ذلك التاريخ وحتى الآن كواحد من أكبر التنظيمات السياسية في مصر والمنطقة العربية، ونجح في استخدام تكتيكات مختلفة تبعا لظروف كل عصر، تراوحت بين التقدم والكمون، والهجوم والدفاع، والحوار والمواجهة، وعكست قدرات تنظيمية خاصة، سمحت للجماعة أن تبقى في العصر الملكي والعصور الجمهورية.

وكثير ما أبدى دهشة من الأسباب التي أدت إلى بقاء الإخوان المسلمين طوال تلك الفترة متماسكين ومحافظين على بنائهم التنظيمي، وأيضا من قدرة الإخوان المعاصرون على أن يتعايشوا معا وجود هذا القدر الكبير من التباين الفكري والجيلي بينهم.

وقد حافظ الإخوان المسلمين على بنائهم التنظيمي لأسباب كثيرة أبرزها يرجع لطبيعة البناء الذي شيده حسن البنا في عام 1928 ، وبقى صامدا رغم اغتيال الشيخ المؤسس منذ أكثر من نصف قرن، إلا أن هذا الغياب لم يؤد إلى غياب مواز لفكره، فلم نقض الرصاصات التي أطلقت عليه في الثاني عشر من شهر فبراير عام 1949 على تراث الرجل العقيدي والتنظيمي والسياسي، ولم يرحل معه تنظيم الإخوان المسلمين الذي أنشأه وترعرع ونما تحت قيادته.


2 – جماعة وليست حزبا

حرص حسن البنا و"إخوانه المؤسسون" على اعتبار الجماعة دينية، وليست حزبا سياسيا بالمعنى المتعارف عليه، إنما هي جماعة دعوية أو هيئة إسلامية، وظل هذا المفهوم مهيمنا على بناء الجماعة في مراحلها الأولى، ولكنه تراجع في المراحل الأخيرة، لصالح تصاعد العقل السياسي، الذي لم يلغ الثقافة والبنية الدعوية داخل الجماعة، وإنما تشارك معها في تشكيل صورة الجماعة في العصر الحالي .

وقد حرص المؤسس الراحل حسن البنا على أن يصنف جماعة الإخوان في إطار وصف عام من الصعب إمساكه، حين قال: ... أيها الإخوان أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزبا سياسيا ولا هيئة موضوعية لأغراض محدودة ولكنكم روح تسري في قلب هذه الأمة فتحيه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داو يعلو مرددا دعوة الرسول ومن الحق الذي لا غلو فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس.

وقد أكد المرشد الثالث في تاريخ الجماعة الراحل عمر التلمساني طوال السبعينات على نفس تلك "المعاني التأسيسية" السابقة التي طرحها حسن البنا ، فقد أشار التلمساني ردا على سؤال طرحته صحيفة كندية حول تفسير الإخوان لسماح الحكومة بنشر مجلة الدعوة "التي هي مجلة حزبكم، ومع ذلك ترفض منحكم الحق في تشكيل الحزب؟ فأجاب المرشد العام قائلا: تفسير حقيقة هذا الأمر أصلا تسأل عنه الحكومة ومجلة الدعوة بدأت في الصدر منذ الخمسينات، أما أن الحكومة لا تريد إعادة جماعة الإخوان المسلمين ، إلى الوضع القانوني فكما أسلفت أن الأخوان المسلمين هيئة إسلامية وليست حزبا كباقي الأحزاب ، نحن ندعو إلى الإسلام ، للبناء والتصحيح لا الهدم والتجريح، وقد لا يفهم الكثيرون هذا الأسلوب النبيل ولكننا نحن الإخوان المسلمين لا نهتم برضاء الناس، واهتمامنا الأول والأخير هو إرضاء الله مهما كانت النتائج التي تترتب على هذا الإرضاء.

وكان حسن البنا قد رفض الحزبية ولم يتعاطف معها بأوضاع الأحزاب وصراعتها في الفترة التي سبقت ثورة يوليو 1952 ، واعتبر أن الإسلام لا يقر التعددية والحزبية حيث قال: "أعتقد أيها السادة أن الإسلام وهو دين الوحدة في كل شيء، وهو دين سلامة الصدور ونقاء القلوب والإخاء الصحيح، والتعاون الصادق بين بني الإنسان جميعا فضلا عن الأمة الواحدة، والشعب الواحد لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه... ولن ينقذها إلا أن تنحل هذه الأحزاب كلها، وتتألف هيئة وطنية عاملة تقود إلى الفوز وفق تعاليم القرآن الكريم.


3 – جماعة متعددة التكوين والمستويات

إن بعضا مما نراه الآن من "تكتيكا" يمثل إلى حد كبير امتدادا لما شيده الراحل حسن البنا من رؤى عقدية وتنظيمية مركبة، وتحديدا منذ المؤتمر الخامس للجماعة في عام 1937 ، حيث تعتمد على مجموعة متنوعة من الثنائيات التي تنطوي في بعض الأحيان على الموقف ونقيضه، أو على الموقف غالب شديد الوضوح ومواقف فرعية شديدة الغموض يمكن استعادتها وتغليبها في بعض الأوقات، خاصة في أوقات الأزمة.

فقد كان للإخوان المؤسسين موقف غالب على سلمية الدعوة والحركة ويرفض العنف، حيث شكل الفرع الأساسي في ثنائية الإخوان ، إلا أن ذلك لم يحل دون وجود فرع آخر أقل طولا ووضوحا مال إلى العنف ومارسه في بعض الأحيان من خلال ما عرف بالتنظيم الخاص. ومن هنا لم يكن اختيار الإخوان المسلمين بناء تنظيم واسع ومتنوع أمرا للصدفة المحصنة، أو الرغبة فقط في ضم أعداد ضخمة من الأعضاء والأنصار، ولكنه رؤية إخوانية متكاملة في البناء التنظيمي والفهم السياسي.

وعلى عكس الصورة الواسعة – والمترهلة أحيانا في أعين البعض – التي بدا عليها تنظيم الإخوان المسلمين ، إلا أنه في داخل جنبات هذه الصورة بدت هناك خيوط وقنوات محددة ومعدة بدقة لكي يقوم كل عضو بدوره التنظيمي على نحو محدد ودقيق، ولا يعبر عنه بدقة المظهر الخارجي الواسع والمترهل في بعض الأحيان، وحرص الإخوان على تشييد تنظيمهم على أسس مركبة شديدة الدقة، ضمنت مستويات متعددة، لكل منها برنامجها الخاص في التثقيف الديني والعقائدي، على نحو أدى إلى تمايز تنظيم الجماعة عن باقي التنظيمات السياسية والجماعات الدينية الأخرى، وكانت هناك ثلاثة أبعاد أساسية ميزت هذه التنظيم.

البعد الأول يتعلق بمستويات التنظيم، حيث حرص الإخوان على أن تتم عملية التجنيد على أكثر من مستوى، وهو ما ذكره حسن البنا بشكل واضح حين أشار في مذكرات الدعوة والداعية إلى ضرورة أن تعني المكاتب والهيئات الرئيسية لدوائر الإخوان بتربية الأعضاء تربية نفسية صالحة تتفق مع مبادئهم، وتحقيقا لهذه الغاية يكون الانضمام لعضوية الإخوان على ثلاث درجات هي:

1 – الانضمام العام ، وهو من حق كل مسلم توافق على قبوله إدارة الدائرة ويعلن استعداده للصلاح ويوقع استمارة التعارف ويسمى "أخا مساعدا".

2 – الانضمام الأخوي، وهو من حق كل مسلم على توافق على قبلوه إدارة الدائرة، وتكون واجباته – بالإضافة إلى الواجبات العامة السابقة "حفظ العقيدة" والتعهد بالطاعة، ويسمى العضو في هذه المرتبة "أخا منتسبا".

3 – الانضمام العملي، وهو من حق كل مسلم توافق إدارة الدائرة على قبوله وتكون واجبات الأخ – فضلا عن الواجبات السابقة – إعطاء البيانات الكافية التي تطلب منه شخصه, ودراسة شرح عقيد الإخوان ، وحضور مجالس القرآن الأسبوعية ومجالس الدائرة والالتزام بالتحدث باللغة العربية الفصحى بقدر المستطاع والعمل على تثقيف نفسه في الشئون الاجتماعية العامة – وليس السياسة – والاجتهاد في حفظ 40 حديثا نبويا ويسمى العضو في هذه الدرجة "أخا عاملا".

وهناك درجة رابعة، أصر الشيخ المؤسس ألا يضعها مع الدرجات السابقة وبصورة لا تخلو من دلالة وهي التي اسماها درجة "الانضمام الجهادي" وهي ليست درجة عامة ولكنها من حق الأخ العامل الذي يثبت لمكتب الإرشاد محافظته على واجباته السابقة، واجبات "الأخ" في هذه المرتبة – فضلا عما سبق – فتتمثل في تحري السنة النبوية والصلاة في الليل، والعزوف عن مظاهر المتع الفانية، والبعد عما هو غير إسلامي في العبادات والمعاملات، والاشتراك المالي في مكتب الإرشاد وصندوق الدعوة، والوصية بجزء من تركته لجماعة الإخوان ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحمل المصحف ليذكره بواجبه نحوا القرآن ، وأخيرا الاستعداد لقضاء مدة التربية الخاصة بمكتب الإرشاد ويسمى الأخ في هذه المرتبة "مجاهدا"

وقد بدا التنوع في مستويات التجنيد داخل الجماعة ذا دلالة، فالفارق هائلا بين تكوين "الأخ المساعد" و"الأخ العامل" من جهة وبين نظيره "الجهادي" من جهة أخرى، وحتى لو أعلن الاثنان ولاءهم لمرجعية سلمية واحدة.

البعد الثاني يتعلق بالتكوين العقائدي لكادر الإخوان ، فمثلا حمل التنظيم مستويات متعددة من التجنيد حمل أيضا مستويات من التكوين فإذا أخذنا برنامج النشاط الشهري والأسبوعي ل لإخوان ، والذي أشار إليه المؤتمر الخامس الذي عقد عام 1938 ، فسنجد أ،ه قد عبر إلى حد كبير عن تلك الرؤية والمركبة للبناء العقائدي لكادر الإخوان ، فقد اقترح مكتب الإرشاد المستوى القيادي للجماعة – أن يحدد الإخوان لأنفسهم أياما معينة من كل شهر لتنفيذ البرنامج التالي:

- يوم النصيحة ، ويقومون فيه بتوجيه النصيحة لجيرانهم بالتي هي أحس، وينهون عن المنكر، ويدعونهم للخير.

- يوم الآخرة، الذي يزور فيه الإخوان المقابر للعظة وتذكر الآخرة.

- يوم العيادة، ويزورون فيه مرضى المسلمين.

- يوم التعارف، لزيارة أواصر الصداقة بين الإخوان .

وقد تواكب مع هذا النشاط السلمي ذي الطابع الاجتماعي والأخلاقي نشاط آخر مواز أكثر حدة وتمثل الأعمدة الثلاث للنشاط الأسبوعي للإخوان ، وهي:

1 – نشاط ليلة الدرس، ويخصص لمذاكرة الدرس الذي يلقيه المرشد كل أسبوع.

2- نشاط الكتيبة، حيث الاستعداد لتحمل المشقة ومقاومة النفس في سبيل الله.

3 – نشاط يوم المعسكر، أي الجندية والتدريب والاستعداد للجهاد المقدس، ذلك هو ما يعني به "الإخوان المسلمين " لتكوين الجيش الإسلامي، ولم يكتف منشور مكتب الإرشاد بما سبق، إنما أضاف معلقا على هذا اليوم: "نرجو أن يكون لهذه الناحية أكبر قسط من اهتمام الأخوان ، فيعطون لأنفسهم كل أسبوع عرضا عسكريا يتدربون فيه، أو رحلة يزورون بها البلدان المجاورة فيثابون ويكونون نموذجا حسنا للناس.

البعد الثالث يمكن اعتباره تجسيدا عمليا للبعدين السابقين أو الثمرة "الواقعية" لهما ، وتتمثل في ثنائية الخاص والعام التي حكمت حركة الإخوان المسلمين طوال الفترة الممتدة من عام 1938 ، أي عقب اشتعال المعارك والثورات على أرض فلسطين وحتى نهاية العهد الناصري تقريبا. وقد تبلورت تلك الثنائية بشكل واضح في التنظيم "الخفي" و "الموازي" لتنظيم الجماعة الأساسي، وهو ما عرف لأعضاء الجماعة باسم "التنظيم الخاص" وعرف خارجها باسم "التنظيم السري".

وقد نجحت الجماعة في استبعاد أعضاء التنظيم الخاص، رغم تكوينهم العقائدي الصلب والمخالف لتكوين معظم أعضاء الجماعة، على مدار ما يقرب من ثماني سنوات – إذا اعتمدنا رواية محمود عبد الحليم أحد مؤسسي التنظيم الخاص والتي أعلن فيها أن التنظيم قد تقرر إنشاؤه في عام 1940 إلا أن تغير البيئة الاجتماعية والسياسية في الداخل، وتحول البيئة الإقليمية باندلاع حرب فلسطين قد أدى إلى تفجر الخلافات داخل الجماعة بين "الكادر الخاص" و"الكادر العام".

وكان برنامج المنضوين تحت لواء هذا النظام يقوم على الأسس الأتية – كما أشار محمود عبد الحليم في الجزء الأول من كتابه.

- تقسيم إلى أسر خاصة بهم، مع تسلسل القيادة، واشتراكهم في جميع الأنشطة العامة للدعوة.

- دراسة عميقة مستفيضة للجهاد في الإسلام وما جاء في القرآن الكريم من سور وآيات، وما جاء بشأنه في السنة النبوية والتاريخ الإسلامي القديم والحديث، مع قيام العضو بأنواع من العبادات والصيام.

- التدريب على الأعمال الشاقة

- التدريب على توزيع المنشورات

- التدريب على التخاطب والتراسل بالشفرة

- التدريب على استعمال الأسلحة

- المبالغة على السمع والطاعة في المنشط والمكره وكتمان السر.

وقد اعتبر الباحث الأمريكي ريتشارد ميتشيل أنه في أواخر عام 1942 أو أوائل عام 1943 خرجت إلى الوجود الوحدة التي عرفت داخل الجماعة باسم "التنظيم الخاص" وعرفت خارجها باسم "الجهاز السري" ويشير هذا التاريخ، وهو الأرجح بين كل التواريخ الأخرى، إلى بدء تأسيس الواحد وليس التفكير في إنشائها وقد حدد الأعضاء أنفسهم شفويا تاريخ بدء الجهاز السري بوقت ما يقع بين عامي 1930 و 1947 وهو ما يعد تعبيرا عن جهل الجمهور الواسع من الأعضاء بالمسائل المتعلقة بهذا الجهاز.

ومع ذلك إذا كان هذا الجهاز السري لم يكن قد تم إنشائه بعد ، فإن التأكيد على السرية قد أصبح أسلوب عمل تم إرساؤه فيما يتعلق بأهداف التشكيلات القائمة، فقد شاركت كوادر التنظيم الخاص في حرب فلسطين عام 1948 التي أوضحت القدرات العسكرية ل"الجهاز الإخواني " أما في الداخل فقد قامت عناصر التنظيم بوضع قنابل وعبوات ناسفة في كثير من الأماكن ب القاهرة استهدف بعضها اليهود المصريين، والعديد من المتاجر اليهودية، كما أقدم شابان من أعضاء التنظيم الخاص على اغتيال قاض معروف هو الخازندار بسبب حكم قد أصدره بالسجن على أحد عناصر الإخوان لمهاجمته مجموعة من الجنود البريطانيين في أحد الملاهي الليلية. وقد أثارات هذه العملية ردود فعل عنيفة داخل مصر حيث حكم على الشابين بالأشغال الشاقة المؤبدة، وتم احتجاز حسن البنا لبعض الوقت وأطلق سراحه لعدم توافر الأدلة.

وخلال الفترة نفسها وتحديدا في عام 1948 اكتشفت الحكومة المصرية مخبأ للأسلحة والمعدات في الإسماعيلية في عزبة الشيخ محمد فرغلي قائد كتائب الإخوان في فلسطين وفي العام نفسه تم اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي على يد أحد شباب التنظيم الخاص.


4– الصادم الخاسر مع صورة يوليو

استمر الإخوان على نهجهم هذا بعد قيام ثورة يوليو 1952 ، حيث جرت في عام 1954 محاولة لاغتيال عبد الناصر على يد أحد عناصر التنظيم الخاص، والذي تأكد فيه لكل أطراف الساحة السياسية، بما فيها قادة الإخوان أنفسهم، استقلالية التنظيم الخاص عن باقي هيكل الجماعة وعقب تلك العملية وتحديدا في التاسع من ديسمبر تم شنق ستة من الإخوان ، كما تم اعتقال الآلاف من أعضاء الجماعة ، وأصبح التنظيم كما أكد ريتشارد ميتشيل مقضيا عليه تماما.

فقد كشفت العملية من ناحية عن حجم التباين بين تكوين كادر العمل السري, وتكوين كادر العمل العام. كما أكدت من ناحية أخرى، على عجز الجماعة عن احتواء تناقضاتها الداخلية في لحظات الأزمة والمواجهة، وهي خبرة جديدة لم يعتد إخوان العصر شبه الليبرالي على مواجهتها. فعلى ما يبدو فإن الخيارات العقائدية لمرحلة التأسيس صممت للعمل والنجاح في مراحل الهدوء والسكون السياسي، وعجزت عن الاستمرار في مرحلة المواجهة والاحتقان، بل ربما تكون ساهمت تلك الخيارات نفسها في خلق أجواء المواجهة والاحتقان هذه.

وقد أدى هذا الوضع الجديد إلى تكريس الانقسام داخل الجماعة بين تياري العنف والإصلاح حتى لو حافظ كلاهما على انتمائه الشكلي للتنظيم، ودخلت الجماعة منذ تلك الفترة في حالة من الكمون الداخلي والعزلة استمرت تحت صور مختلفة حتى اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر 1981 وقد انعزلت تماما عن ممارسة أي نشاط أو دور سياسي أو اجتماعي أو ديني داخل المجتمع المصري طوال عقد السبعينيات باستثناء النشاط الطلابي في الجامعات المصرية، كما أدى انعزالها عن الواقع السياسي إلى عودتها نحو التشرنق خلف تصورات أيديولوجية مغلقة حصرت داخلها السجال الفكري والعقائدي الذي دار داخل الجماعة بمعزل عن التفاعل مع المجتمع.

فقد تجاهل الإخوان الأحداث الكبرى التي شهدتها مصر في ذلك الوقت، فلم يشاركوا في أحداث (18 – 19) يناير التي خرجت احتجاجا على ارتفاع أسعار بعض السلع الأساسية، بل تجاهلوا التعليق على الحدث في مجلة الدعوة، وبدوا بعيدين عن أي عمل سياسي أو شعبي مباشر طوال عهد الرئيس السادات .

ويمكن القول إجمالا إن "خطاب التماسك والوحدة" مقولات السمع والطاعة" التي تبناها حسن البنا طوال مدة قيادته للجماعة في الحفاظ على وحدة الإخوان، عجزت في ظل التحديات المحلية والإقليمية الكبرى في الحفاظ على وحدة الجماعة وتماسكها.

ومن هنا فرغم النجاح الذي حققه ثنائيات الإخوان في تقديم نبية تنظيمية مغرية يمكن أن تنال رضاء العناصر المتشددة والإصلاحية على السواء، وتلك ذات التكوين الصوفي والثوري، وتستقطب عناصر لخدمة الدعوة والدين مع من يمارس العمل السياسي، وانتمى إليها من يدعون إلى مكارم الأخلاق وينشط فقط في المجال الاجتماعي، ورغم نجاح "بوتقة" حسن البنا في جمع كل هذه الثنائيات في بناء تنظيم وخطاب سياسي واحد في لحظات الهدوء والسكينة كما حدث طوال الفترة من 1928 حتى 1948 أي على مدار ما يقرب من عقدين من الزمان، إلا أنه مع تغير البيئة السياسية أرتبك تنظيم الإخوان ، وعجز بنيته التنظيمية وخطابه السياسي عن الأداء بالكفاءة السابقة خاصة في مراحل المواجهة مع السلطة حيث عجزت تلك الثنائيات "التوفيقية" عن الحفاظ على وحدة الجمعة وتماسكها.

ثانيا : الإخوان الجدد : بدايات التحول وحدوده

1– أزمة القراءات الساكنة للحركات الإسلامية

قد يكون من الصعب النظر لأحد أبرز تجليات الثقافة الإسلامية المتمثلة في تيارات الإسلام السياسي باعتبارها مجموعة من النصوص الجامدة التي لا تتغير من مرحلة تاريخية إلى أخرى. وقد يكون من الصعب أيضا اختزال هذا التيار داخل أفكار الأيديولوجية التي أطلقت في عصر دون غيره ومرحلة دون غيرها فمن المؤكد أن حركات الإسلام السياسي المعاصرة منذ تبلورها في القرن العشرين تضمنت معتدلين ومتطرفين، وأنصار سلم وأنصار عنف، كما أن خطابها السياسي نفسه لم يكن ثابتا في كل مرحلة، فقد شهد تحولات ومراجعات كثيرة تبعا للبيئة الاجتماعية والسياسية المحيطة به.

واعتبر البعض أن الحركات الإسلامية المعاصرة أصولية في أسسها النظرية والفكرية، ولكنها ذات منحى سياسي واضح ومركز يطغى على الجوانب الأخرى الدينية والثقافية والفكرية، لذلك نستطيع أن نصف الحركات الإسلامية بأنها أصولية وزيادة، أي تشترك مع الأصوليات في ملامحها العامة، وتزيد على ذلك بالعمل السياسي التي تبحث عن مبررتها وعقلانيتها في الدين الأول أو عودة إلى إسلام الصحابة.

وهنا في الحقيقة من الصعب أن نسلم بأن هذه الأصوليات منعزلة عن الواقع الاجتماعي، وأن بعدها السياسي غير قابل للتطور والتحول بحيث يمتلك القدرة حتى على التأثير في كثير من الجوانب الأصولية للظاهرة، ويكون قادرا على "تسييسها" بالكامل في ظل ديمقراطية ومدنية، ومن هنا تأتي أهمية قراءة الخطاب الإسلامي السلمي في مصر والمتمثل أساسا في الإخوان المسلمين ، من خلال تفاعله مع أكثر من خبرة سياسية عرفتها البلاد منذ العهد الملكي وحتى العهود الجمهورية، وذلك حتى نتعرف بصورة أوضح على حجم التحول ودرجة الثبات الذي شهده هذا الخطاب.

فالنص الإسلامي بكل ما يتفرع عليه من نسق قيمي وخطاب أيديولوجي يمثل في الحقيقة البعد الثقافي في قراءة الظاهرة الإسلامية، هذا البعد يؤثر ويتأثر بالبيئة الاجتماعية، وبالتالي فإننا في ظل بيئة سياسية ديمقراطية يمكن إعادة قراءة هذا" النص الثقافي" بصورة تجعله عنصرا إيجابيا من عناصر عملية التطور الديمقراطي، أي أن الثقافي يمكن أيضا عبر تفاعله مع الاجتماعي أن يتغير، صحيح بصورة أبطأ من السياسي والاقتصادي إلا إنه في النهاية يتغير بحيث يمكن الحديث عن ثقافة ديمقراطية يمكن في ظل بيئة سياسية واجتماعية مواتيه أن نولد ولو " قيصريا" من رحم الثقافة التقليدية، وبمعنى آخر، فإن رحلة التفاعل بين الثقافي والاجتماعي هي رحلة تاريخية يصعب فيها تثبيت الثقافي باعتباره قدرا حتميا لا يتغير، مثلما يصعب أيضا تجاهل الاجتماعي على الثقافي ورغم الطبيعة المختلفة لكلا الحيزين ، والآلية الخاصة التي تحكم عملية التغيير داخل كل منهما ، إلا أننا في النهاية يصعب القول بوجود حيز ثقافي خالد. وهنا يصبح من الوارد أن يكون الوعاء الثقافي والحضاري الإسلامي عنصرا مساعدا في نجاح عملية التحول الديمقراطي في مصر والعالم العربي، ويمكن أن نتصور في المستقبل المنظور ظهور تيار "إسلامي ديمقراطي" لا يجد أي تناقض بين ارتباطه الديني والتاريخي والثقافي ب الإسلام ، وبين خطابه السياسي المدني وممارساته الديمقراطية.

وهكذا يصبح الصراع اليومي أو الهتاف الإعلامي لقطاع كبير من المثقفين العلمانيين حول ضرورة استئصال قوى "الظلام الإسلامية" حديثا قاصرا ولا مستقبل له، لا لأننا نتبنى الخطاب الإسلامي، إنما ببساطة لأننا أمام ظاهرة قادرة بحكم خصوصية الموروث الثقافي الذي أنتها أن تستمر وأن يعاد إنتاجها مرة ومرات، وتأخذ أشكالا متعددة تبعا لظروف العصر وطبيعة الواقع الاجتماعي والسياسي الذي تعيش في ظله.


2- تحولات الإخوان المسلمين

من الصعب أن نجد الآن حدثا كبيرا أو صغيرا يحدث على الساحة العربية أو الإسلامية، إلا وكان الإخوان حاضرين فيه بالرأي أو بالفتوى كما يصعب أن نجد نشاطا نقابيا أو سياسيا أو طلابيا إلا وكانوا من بين المشاركين فيه، بل حتى الجدل حول كثير من القضايا الأخلاقية من مشاهد سينمائية اعتبرت إباحية أو كتب اعتبرت لا تحترم الدين، كان فيها أيضا الإخوان من بين الحاضرين في التعليق، وأخيرا، فإن الإخوان كانوا أكثر التنظيمات السياسية تعرضا للملاحقة الأمنية عبر تاريخهم الممتد، صحيح أنها بلغت أقصى مراحلها في الفترة التي أعقبت اغتيال رئيس وزراء مصر الأسبق محمود فهمي باشا النقراشي على يد أحد عناصر الإخوان في عام 1948 ثم عقب محاولة اغتيال عبد الناصر في عام 1954 ، إلا أن هذا لم يمنع تعرضهم الدائم للملاحقات الأمنية وللمحاكمات العسكرية طوال الفترات التالية.

ومع ذلك مثل عقد الثمانينيات بداية مرحلة جديدة في تاريخ تطور الجماعة حيث بدأت في خوض تجربة الانتخابات البرلمانية، وشاركت بفاعلية في الانتخابات النقابية بجانب دورهم المتواصل منذ السبعينات في اتحادا طلاب الجامعات المصرية، ولعل " الإخوان الجدد" في النقابات المهنية وفي البرلمان طوال عقد الثمانينيات، تعد مؤشرا واضحا على حجم التطور والانفتاح الديمقراطي الذي شهده أحد ابرز الإسلام السياسي على امتداد الوطن العربي.

ويمكن اعتبار مرحلة الثمانينيات هي المرحلة الأكثر نضجا في مسار جماعة الإخوان المسلمين في مصر . فرغم أن " إخوان الثمانينيات" حافظوا على نفس العقلية المركبة السابقة الذكر، إلا أنهم قدموا ثنائيات جديدة تختلف عن ثنائية العنف والسلم التي راجت طوال العقود الأربعة التي أعقبت تأسيس الجماعة وحتى منتصف الستينيات، فقد أنهى "أبناء" حسن البنا و"إخوانه" منذ بداية السبعينيات علاقتهم بكل صور العنف وأشكاله، وحولوا السمة السلمية الغالبة في خطاب "الإخوان المؤسسين" إلى سمة وحيدة بإحداث قطعية فقهية وتنظيمية وسياسية مع كل الأفكار التي تم على أساسها بناء التنظيم الخاص للجماعة.

وقد اقتحم " إخوان السياسة" منذ بداية الثمانينيات الحقل النقابي والبرلماني من أوسع أبوابه، حيث خاضوا انتخابات عامي 1984 ، 1987 التشريعية وحققوا نتائج طيبة، كما نجحوا ديمقراطيا في السيطرة على أكثر من نقابة مهنية في مصر طوال عقد الثمانينيات،

وعادوا مع بداية الألفية الثالثة وتواجدوا بقوة في نقابة المحامين ونجح لهم عنصران في نقابة الصحفيين، وقد حكم الإخوان طوال تلك الفترة هاجس إدارة العلاقة بين تفسيراتهم الخاصة للنص الديني المقدس، وبين متطلبات الواقع الاجتماعي والسياسي فلأول مرة يخوض الإخوان معركة انتخابية وهم متحالفون مع تيار سياسي آخر مثلما حدث في عام 1984 حين تحالفوا مع خصمهم التاريخي حزب الوفد ، وأيضا في عام 1987 حين شكلوا العمود الفقري لما عرف باسم "التحالف الإسلامي" ثم قاموا بالترشيح كمستقلين في الانتخابات التشريعية التي جرت عامي 2000 ، 2005 .

وقد انتخب الشعب في انتخابات عام 1984 سبعة نواب من الإخوان ، وفي انتخابات عام 1987 نجح حوالي 35 نائبا إخوانيا من أصل 60 نائبا للتحالف الإسلامي، وفي الانتخابات عام 2000 بلغ عدد النواب الإخوان 17 نائبا ، ثم قفز عددهم إلى 88 نائبا في انتخابات عام 2005 .

وخلال تلك المرحلة أكتسب الكادر الإخواني – أو اضطر أن يكتسب – طوال تلك المرحلة مهارات جديدة عقب تحالفه السياسي والعلني لأول مرة مع أحزاب سياسية أخرى وفق قانون "العمل الجمهوري" فهم معنى "السيادة للشعب" والحاكمية للأمة والدستور، والذي أدى بهم إلى التأكيد على أن برنامجهم هو برنامج سياسي مدني ذو مرجعية إسلامية.

ونجح الإخوان في السيطرة ديمقراطيا على عدد من أهم النقابات المهنية، واكتسبوا خبرات جديدة نتيجة التفاعل مع كثير من الفصائل السياسية الأخرى، ومال بعضهم إلى صياغة مفردات "وسطية" تعترف ولو نظريا بأحقية وجود "الآخر" رغم أنهم عمليا قاموا باستبعاده ولكن – وهذا جديد أيضا – من خلال صناديق الانتخابات ومن خلال وسائل ديمقراطية.

ومن خلال تلك التجارب اكتسب الإخوان المسلمين أيضا خبرة جديدة انعكست بشكل مباشر على خطابهم السياسي ومقولاتهم الدعائية، وأصبحنا بالفعل أمام صيغة إخوانية ثالثة تختلف عن إخوان العهد الملكي و إخوان العهد الناصري والساداتي على السواء.

وإذا كان من الصعب " إخوان الثمانينيات" قد تحولوا تماما في اتجاه تبنى المفاهيم الديمقراطية والتعددية والسياسية نظريا وعمليا، كما أنه من الصعب أيضا اعتبارهم قد تخلوا عن هذا الربط بين المقولات الدينية والسياسية ، إلا أنه من المؤكد أن حيز السياسة بمعناه العملي والسلمي قد أخذ مساحة كبيرة في اهتمامات الإخوان على خلاف ما ساد طوال العهد الملكي حين توسعت دعوة الإخوان السلمية أساسا من خلال النشاط الاجتماعي والدعوة إلى القيم الدينية ومكارم الأخلاق البعيدة عن مفاهيم العمل السياسي بمعناها الحديث.

أما بالنسبة للضفة الأخرى من ثنائية الإخوان المتمثلة في "الإعداد للعنف" فسنجد أن الإخوان قد تجاوزوا نظريا وعمليا هذا المفهوم ، فمن الصعب أن نضع كادر التنظيم الخاص للإخوان في أربعينيات هذا القرن مع كادر العمل النقابي والبرلماني في الثمانينيات، فلا الأولويات السياسية التي حملها على عاتقة هي نفسها، ولا طبيعة البناء التنظيمي الذي أفرز عنفا في الأربعينيات والخمسينيات هو نفسه الذي صمم من أجل أصوات الأطباء والمحامين والصيادلة والمهندسين والصحفيين في النقابات المهنية المختلفة، ومع ذلك ظلت الإشكالية الرئيسية التي تواجه حركة الإخوان المسلمين تتمثل في هذا التدخل بين المقدس والمدني، والسياسي والأخلاقي، بصورة تجعل من الصعب النظر إلى الجماعة باعتبارها بالكامل حركة سياسية.

ورغم أنه يمكن القول إجمالا أن حيز السياسة قد أكتسب في الفترة الأخيرة مكانة أكبر في الخطاب الإخواني على حساب الحيز المقدس، إلا أننا من الصعب أن نعتبر أن الإخوان بدأوا في التعامل مع أنفسهم باعتبارهم فقط حركة سياسية وتنظيميا سياسيا، فكثيرا ما يتعامل عدد كبير من كوادر الإخوان خاصة داخل ما يعرف "بالحرس القديم" وقطاعات يعتد بها من قواعد الجماعة وفي مستوياتها الوسيطة من الذين دخلوا الجماعة أساسا نتيجة خلقية دينية محافظة دون أن يتملكوا خبرة سياسية ذات قيمة، على أنهم يعبرون عن الإسلام وأن ما يقولونه هو تعاليم الدين وبالتالي فإن من يخالفهم في الرأي يختلف مع الإسلام ، ولكن من دون أن يطرحوا بناء عقيديا ودينيا تكفيريا كالذي طرحته الجماعات الجهادية الأخرى.

ومن هنا ، فإن تجاوز هذا الخلط بين الحيز الديني والحيز السياسي لا يعني بالضرورة غياب أي ارتباط فكري وسياسي ب الإسلام أو تخلي الإخوان عما يسمونه بالمرجعية الإسلامية بقدر ما يعني قبول الإخوان بأن هذا الاختيار هو اختيار سياسي يمثل فهم الإخوان للدين وليس الدين نفسه، وبالتالي – أو النتيجة – من الوارد الاختلاف عليه ورفضه والاحتكام لتصويت المواطنين في الحكم عليه دون النظر إلى معارضيه باعتبارهم مارقين.

ومن ثم ، تظل الإشكالية الكبرى لإخوان الألفية الثالثة هي عدم نجاحهم (وربما عدم رغبتهم) في الفصل بين الحيز الديني والسياسي، بصورة تعتبرهم تنظيما سياسيا مدنيا يسعى بشكل سلمي للوصول إلى السلطة وفق القواعد الديمقراطية ، وليس جماعة هدفها إصلاح الناس ودعوتهم إلى التمسك بتعاليم الإسلام ، نتصور إمكانية الوصول للسلطة عبر برنامج أخلاقي لهداية الناس، حتى لو استفاد من المؤسسات المدنية الحديثة ك البرلمان والنقابات لتحقيق هذا الهدف الديني والأخلاقي.

وقد اعتبر الإخوان أن ترددهم في حسم مسالة "الهوية السياسية" يرجع أساسا إلى عدم قبولهم كتيار سياسي شرعي وفق قواعد قانونية محددة تحكم حركة كل القوى السياسية السلمية، وبالتالي اعتبروا أن مطالبتهم بتمييز خطابهم السياسي عن الديني في ظل واقع سياسي لا يعطيه من الأصل حق الوجود القانوني والشرعي قضية يسأل عنها الواقع السياسي أولا ، لا الإخوان المسلمين .

وقد بدا حرصهم على استمرار هذا التداخل بين الحيز الديني والسياسي وكأنه نوع من "الحماية" الإخوانية للذات، بتصوير أي ملاحقه لهم وكأنها أحيانا اعتداء على الإسلام ، وفي أحيان أخرى اعتداء على "المسلمين المتدينين" الذين يعرفون الله مما يساعدهم على اكتساب تعاطف قطاعات من الرأي العام.

3– استمرار التعايش التنظيمي والجيلي داخل الجماعة

نجح الإخوان المسلمين في الحفاظ على تماسك بنيتهم التنظيمية رغم مرور كل هذه العقود الطويلة من الزمن، أفادهم في ذلك الطريقة التي شيد بها "الإخوان المؤسسون" الجماعة بمستوياتها المتعددة والخبرات والمتنوعة التي اكتسبها أعضائها، فتنظيم الإخوان ضم أثناء نشأته الأولى مستويات تنظيمية مركبة سمحت للجماعة باستقطاب نوعيات مختلفة من العناصر أغلبها على أرضية "دعوية" سلمية تدعو المجتمع إلى التمسك بتعاليم الإسلام، وبعضها على أرضية جهادية أعدته من خلال انخراطه في "المستوى الجهادي" لكي يصبح عضوا في التنظيم الخاص المسئول عن عمليات العنف التي خاضتها الجماعة منذ حرب فلسطين وطوال العصر الناصري.

وقد ترجم الإخوان هذه العقلية في بناء تنظيم متعدد المستويات والهياكل، حكمت حركتهم عادة مجموعة من الثنائيات التي تحمل في بعض الأحيان الرؤية ونقيضها. صحيح أن مضمون هذه الثنائيات قد تغير جذريا من عصر إلى آخر إلا أن استمرار التنوع كنتاج لهذه الثنائيات المتغيرة ظل عابرا لكل عصور الجماعة.

ورغم أن الأخوان قد أحدثوا منذ بداية السبعينيات قطعية فكرية وسياسية مع ميراث العنف الذي عبر عنه جناح التنظيم الخاص الذي نشط في حرب فلسطين وسيطر على مفاتيح العمل داخل الجماعة منذ محالة اغتيال عبد الناصر في عام 1954 وحتى نهاية الستينيات، إلا أنه بقى لديهم تلك "الميزة التاريخية" وهي امتلاكهم لبناء تنظيمي متنوع المستويات، ولديه قدرة أكبر من غيره على استيعاب أفكار متنوعة تعكسها حركة الأجنحة والخبرات الجيلية المختلفة داخل صفوف الجماعة، والتي أصبح لديها ميل عام نحو التعايش مع التنوع الداخلي، رغم صرامة البناء الهيراركي وطاعة المستويات الأدنى لقرارات المستويات العليا بصورة صارمة تعكس في بعض الأحيان ثقافة "السمع والطاعة" أكثر من قيم الديمقراطية.

وقد ظلت الجماعة محافظة على قدرتها في امتلاك بناء متعدد المستويات ومتنوع التكوين، فكما احتفظت في عقدي الأربعينيات والخمسينيات ببناء تنظيمي عام ضم معظم الأعضاء ويقوم على مفاهيم دعوية، بالتوازي مع تنظيم خاص يضم قطاعات محدودا من أعضاء الجماعة يعدهم لممارسة العنف، فقد تحولت منذ بداية الثمانينيات إلى جماعة تحكمها على مستوى الفهم والتكوين رؤيتان، أحداهما دعوية والأخرى سياسية، وكثيرا ما حدث تداخل بينهما أدى إلى تقديم صورة خاصة لجماعة لها قدم في السياسة وأخرى في الدين، جعلها قادرة على التعايش مع تناقضات عديدة. وقد نجح في التعايش داخل التنظيم أسماء مثل عمر التلمساني و مصطفى مشهور و حامد أبو النصر و محمود عزت ، مع آخرين مثل خيرت الشاطر و محمد حبيب و عبد المنعم أبو الفتوح و عصام العريان و علي عبد الفتاح ، على مدار ما يزيد من ربع قرن، وبصورة تدعو أحيانا للدهشة ولو على الأقل من زاوية استثنائيتها عن الصورة السائدة في الحياة السياسية المصرية المليئة بالانشقاقات.

وفي الحقيقة فإن قدرات تنظيم الإخوان تكمن ليس فقط في قدرته على استيعاب كل هذه الخبرات – وأحيانا التناقضات – الجيلية داخله، إنما أيضا وربما أساسا في قدرته على أن يفهم المرحلة التي يعيشها ويصيغ خطابا قادرا على التأثير فيها. وهذا ما حدث في الثمانينيات حين قدم الإخوان خطابا سياسيا محكما يعبر عن نسق أيديولوجي كامل، وطرحوا شعارهم الشهير " الإسلام هو الحل" في الانتخابات التشريعية لعام 1987 في مواجهة الخطاب الرسمي والعلماني على السواء. ومع تفكك الأيديولوجيات الكبرى في العالم، ومع عجزها عن التعبئة والتأثير السياسي في مصر التسعينيات، حرص " إخوان الآلفية الثالثة" على تقديم أنفسهم في انتخابات عام 2005 التشريعية بصورة أكثر سياسية وأقل أيديولوجية – إلا في حدود شعارهم العام والفضفاض "الإسلام هو الحل" وعبروا عن كفاءة تنظيمية واضحة، وقدرة على تقديم خدمات اجتماعية للمواطنين كبديل عن حالة الفوضى الحكومية وغياب الأحزاب المعارضة من الساحة السياسية.

وقد نجح الإخوان إلى حد كبير في طرح خطاب مؤثر مناسب لكل مرحلة تاريخية، فإذا قرروا تجميع أعداد هائلة داخل تنظيم الناشئ في الثلاثينيات، فنجدهم يطرحون خطاب عاما يخلط بين الأخلاق والنشاط الاجتماعي حتى لا يختلف عليه معظم المؤمنين وإذا أراد بعضهم، أن يواجه السلطة القائمة بالعنف فنجد أن نفس مناضلي هذا التنظيم السلمي والاجتماعي قادرين بسلاسة مدهشة أن يتحولوا إلى طلاب ثورة وحملة سلاح0 وأخيرا حين أرادوا أن يؤثروا في عصر الانفتاح الديمقراطي النسبي في مصر الثمانينيات نجدهم قد قدموا خطاب سلمي لفظ بشكل حاسم أي تقاطع مع خطاب العنف القطبي، ونجح في أن يحول بشكل كامل البنية التنظيمية الإخوانية إلى بنية سلمية تمارس السياسة عادة بصورة متداخلة مع المقدس ولكنها في النهاية وعلى مدار ما يقرب من أربعين عاما نجحت في أن تحول خطاب العنف إلى ذكرى.

وقد حكمت جماعة الإخوان المسلمين ثقافة سياسية قائمة منذ البداية على استهداف المجتمع وليس السلطة السياسية، واعتبرته طريقها للوصول إلى السلطة , وبالتالي نظرت للأخيرة باعتبارها جزءا من المجتمع وليست عدوة له.

هذا الفهم أدى ب الإخوان المسلمين إلى امتلاكهم منذ البداية طريقة للحوار مع الحكام والمحكومين ، وتجاوز الثقافة السياسية اليسارية أو "الثورية" التي علمت أعضاءها أن الهدف النضالي الأسمى هو مواجهة السلطة وقلب النظام القائم بصرف النظر عن ظروف المجتمع، أما الإخوان فقد كانت عينهم من البداية على "دعوة المجتمع" وليس الحرب على السلطة حتى لو كان هدفهم النهائي هو تغييرها، ولكن ظلت ثقافتهم السياسية تحث أعضائها على التفاعل مع المجتمع حكما ومحكومين، فكان دورهم في المساجد والزوايا والمستوصفات الصحية جنبا إلى جنب مع دورهم في النقابات و البرلمان ، وهذا في الحقيقة ما جعلهم أكثر هدوءا في التعامل مع قضية السلطة السياسية، فلم يتدرب الكادر الإخواني إجمالا على أن " الثورة " غدا أو أن حكومة المنفى يجب أن تعد من الآن، بقدر ما عتاد التريث واعتبار التغيير هو عملية بطيئة، تتم أساسا عبر "وسائل دعوية" وبالتالي فإن صراع الأجيال داخل الجماعة لم يحكمه الاستعجال أو القرارات الجذرية التي تنتهي بانشقاق جبل الوسط عن الجماعة أو تخليه عن أفكاره التجددية، إنما تخضع لعملية تراكمية يحقق فيها جيل الوسط مكاسب مؤكدة دون أن يتعامل معها الجيل الكبير على أنها هزائم قاضية، وبالتالي، ظلت الثقافة الدعوية مدخلا مريحا للحلول الوسط بين التيارات المختلفة على عكس "الثقافة الثورية" التي لم تعط أي مساحة بين الأجيال والأجنحة المختلفة، وكانت انشقاقات تنظيمات اليسار دليلا على أزمتها.

وقد ساعد على التماسك التنظيمي للجماعة – وليس بالضرورة باقي القوى السياسية أو عملية الإصلاح الديمقراطي – حرصها على التمسك "بخطاب العموميات" الذي يصعب القول إنه يحدد برنامجا واضحا للعمل السياسي، فهو يخلط بين المقدس والسياسي، والديني والاجتماعي، والعمل تحت قبة البرلمان وتحت مآذن المساجد، ولا زال هذا الخطاب غير واضح في عدم الإجابة عن الأسئلة المفصلية التي يمكن أن تثير خلافا صفوف الجماعة حول مدنية النظام السياسي وحق الشيوعيين والمسيحيين والعلمانيين في الوصول للسلطة بإرادة المواطنين في انتخابات ديمقراطية حرة، بل ودعم الأدباء والفنانين كما حدث مؤخرا من قبل القطب الإخواني البارز عبد المنعم أبو الفتوح حين زار الأديب العالمي نجيب محفوظ في لقاء أثار كثير من أعضاء الجماعة.

ورغم أن الجماعة انفتحت في الفترة الأخيرة حول قضايا الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وحقوق المرأة والأقليات، إلا أنه يصعب القول إنها تحولت نحو الفصل بين الحيز السياسي والديني بل استمرت في الاحتفاظ بالحيز في إطار لغة عامة عادة ما تتميز بالبعد عن الدخول في التفاصيل كما حدث في الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي رفعت فيها الجماعة شعار "الإسلام هو الحل".

ويبدو أن هذا النقد الذي كثيرا ما وجه إلى الجماعة حول غياب البرنامج السياسي التفصيلي، بدأ حاميا للجماعة من الانشقاقات على اعتبار أن الدخول في التفاصيل سيعني مزيدا من الخلافات وحرصت الجماعة على الحفاظ على خطاب العموميات وقرأت الواقع السياسي الحالي قراءة صحيحة باعتباره لا يحمل أي أفق ديمقراطية شامل من شأنه أن يدمج الجماعة في العملية السياسية، ولذا نجد أن جيل الوسط الأكثر ليبرالية إجمالا من الجيل القديم يعرف جيدا أنه ليس هناك مستقبل لأطروحاته السياسية خارج الجماعة، فليس هناك أي فرصة لقبول حزب سياسي إسلامي ديمقراطي، كما أن الأحزاب السياسية الشرعية تعاني من الانهيار الداخلي والعزلة شبه الكاملة عن الجماهير، وبالتالي يصبح البقاء داخل الجماعة والحفاظ على وحدتها لا يرجع فقط لقناعة داخلية إنما وعي بطبيعة الظرف السياسي الخارجي الذي يتميز بالجمود التام، والعجز عن دمج الفصائل الليبرالية واليسارية المنتمية لنفس هذا الجيل داخل العملية السياسية ، وهو ما ينسحب أيضا وبصورة أقصى على جيل الوسط الإخواني الذي يمتلك قدرات حقيقية للفعل والمبادرة تستلزم نظاما ديمقراطيا حتى يستطيع توظيف تلك القدرات لصالح نهضة المجتمع، ويكون أيضا على دمجها في عملية التطور الديمقراطي.

وعليه، فإن انقسام الجماعة بصورة عميقة أمر لا يمكن تخيله في المرحلة الحالية، إنما يمكن فقط تصوره في حال إذا تغير الظرف السياسي وسمح للإخوان ببناء حزب شرعي، عندما سيكون الحسم لا مناص عنه بين العموميات الدعوية والدينية، وبين الرؤى السياسية التفصيلية، وهو ما يمكن أن يترجم في انقسام بين جيل الوسط ذي التكوين السياسي والخلفية الإسلامية، وتيار آخر معظمه من الكبار، ذي تكوين ديني محافظ ورؤية إسلامية عقائدية تتسم بالعمومية والشمولية.

4– الإخوان وانتخابات 2005 التشريعية

بعد أكثر من 18 عاما من ابتكار الإخوان المسلمين لشعار الإسلام هو الحل في انتخابات عام 1987، وبعد أن تصور الكثيرين أن شعاراتهم المدنية المتصاعدة منذ انتخابات عام 2000 حسمت توجهاتهم الفكرية كتيار سياسي مدني لا كحركة دينية تستهدف فقط أو أساسا الإحياء الديني والحفاظ على مبادئ الإسلام وتعاليمه، عاد الإخوان وتبنوا شعارهم والعام الفضفاض "الإسلام هو الحل" في الانتخابات الأخيرة، وجاء طرح شعار الإسلام هو الحل ليمثل تراجعا كبيرا عما طرحة الإخوان من قبل وليمثل استراتيجيا في فهم دور المرجعية الفكرية – ولو الدينية – في صياغة الرؤية السياسية لأي تيار يخوض غمار العمل السياسي.

وتبدو المشكلة الأساسية في طرح هذا الشعار ليس فقط أو أساسا في كونه شعارا دينيا كما ذكرت الحكومة، لأن مرشحي حكومة الحزب الوطني الحاكم ومسئوليها كانوا من أكثر من رفع شعارات دينية في الانتخابات الأخيرة، وبصورة فاقت في بعض الأحيان مرشحي الإخوان .

ولكن المعضلة الحقيقية في شعار الإسلام هو الحل إنه شعار مراوغ، فهو يحيل الناخب إلى قيمة كلية – عامة وفضفاضة – ثبت الواقع العملي إنها لن تحل مشكلات الواقع المعاش بمعزل عن برنامج سياسي محدد ف"الإسلام هو الحل" كان شعار طالبان في أفغانستان، أو بتعبير فهمي هويدي "جند الله في المعركة الغلط" ولم يشكك أحد في إخلاصهم للإسلام السلفي ولا حتى في نواياهم الدينية النقية، ولكنهم استخلصوا من هذا الدين استنتاجات سياسية كارثية أعادت أفغانستان إلى حكم القرون الوسطى وهل يمكن اعتبار فشل الإسلاميين السودانيين (أصدقاء الإخوان ) والذين وصلوا إلى الحكم بشكل انقلابي ولعبوا دورا سلبيا في مسيرة التطور الديمقراطي، هو فشل شعار "الإسلام هو الحل" أم بسبب خبرة سياسية محدودة غاب عنها الأفق الديمقراطية والتعددي؟

والواقع أن عصر الشعارات والمرجعيات الكلية قد انتهى من الحياة السياسية في العالم كله بشرقه وغربه، فلا أحد يقول في أي مجتمع ديمقراطي إن "الاشتراكية هي الحل" أو "الليبرالية هي الحل" إنما ما يطرح هو كيف يمكن أن يستلهم هذا الحزب أو ذاك التيار من الاشتراكية أو الليبرالية أفكار سياسية محددة للنهضة والتقدم.

ويبدو أن الإخوان قد افترضوا أن انطلاقهم من "مرجعية إسلامية" سيعني نجاحا تلقائيا في التعامل مع مشكلات الواقع نتيجة لتبني هذه المرجعية وهذا الشعار بصرف النظر عن المضمون الذي سيحتويه، فطرح شعار الإسلام هو الحل يعني ترجيح الاهتمام بالشعار العام الذي لا يقدم حلا حقيقيا لمشكلات الواقع المعاش على حساب الشعارات التفصيلية التي تمثل اجتهاد لحل هذه المشكلات.

والحقيقة أن فكرة تيار مدني ذي مرجعية إسلامية يضر بها من أساسها شعار " الإسلام هو الحل" فهذا الشعار يتعلق بمرجعية الإخوان الإسلامية، والتي كما سبق وأكدنا أنها من حقهم، كما هو من حق أي تيار سياسي أن يمتلك مرجعيته الخاصة، ولكن شعارات المعركة الانتخابية لابد وأن تكون شعارات مدنية وسياسية، ولو كانت مستمدة من تلك المرجعية الإسلامية، يتم فيها اختيار قدرة الإخوان على التعبئة السياسية والنضال من أجل الإصلاح السياسي والاقتصادي ومحاربة الفساد وغيرها، فالتاريخ الإسلامي والإنساني كله لم يطبق فيه العقائد والأفكار الكلية من خلال ملائكة أو أفراد معصومين عن الخطأ لأنهم مسلمون أو مسيحيون مؤمنون، وحين حدث ذلك واعتبر البعض أنفسهم حراس العقيدة الدينية أو السياسية كانت النتيجة هي كوارث حقيقية شهدها العالم ، بدءا من بلدان أوربا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق وانتهاء ب أفغانستان و السودان و العراق و سوريا وغيرها من النظم الاستبدادية.

ولقد أخطأ الإخوان بطرح شعار "الإسلام هو الحل" مرة أخرى وأعادوا الاعتبار لطريقة في الفهم السياسي انتهت من العالم، خاصة أن الجميع يعرف بما فيهم الإخوان أن شعار " الإسلام هو الحل" ليس حلا، إنما الحل هو رؤية سياسية واجتماعية وثقافية حديثة يتبناها الإخوان ويكونون قادرين على الدفاع عنها وتقديمها بشكل ديمقراطي للمواطنين.

المؤكد أن مستقبل الإخوان يظل مرهونا بقدرتهم على امتلاك وزن مساو لقدراتهم التنظيمية، وأن يجتهدوا اجتهادا حقيقيا لا غموض فيه ليكونوا الطرف الأبرز في مسيرة بناء تيار إصلاحي عريض يضم قطاعا من نخبة الدولة بجواز تيارات المعارضة الإصلاحية الجديدة، لا الوقوف في المنتصف بين جميع الأطراف.

5– حزب سياسي للإخوان : السيناريوهات المؤجلة

يمكن القول إن تحول الإخوان المسلمين إلى حزب سياسي يقبل بشكل قاطع بقواعد الديمقراطية والتعددية الحزبية، ويقبل بحق جميع القوى السياسية بما فيها العلمانية والشيوعية في إقامة أحزابها المستقلة، وتقديم لبرنامج سياسي – حتى لو سمي "برنامج إسلامي" يحصل على شرعيته الوحيدة من خلال إرادة المواطنين، سيمثل من جهة خطوة كبيرة في اتجاه تدعيم التجربة الديمقراطية في مصر ، كما سيدفع من جهة تنظيم الإخوان لتحقيق هذا الفصل بين المجالين السياسي والديني.

هذا التطور لن يتم في الحقيقة إلا بعد السماح للإخوان المسلمين بالوجود الشرعي والقانوني وفق قواعد محددة لممارسة اللعبة السياسية، تحسم بشكل قاطع خيار دمج الإخوان المسلمين كتيار سلمي داخل عملية التطور الديمقراطي، وتجعل من عملية فصل الحيز المقدس عن السياسي أحد شروطها أو بالأحرى أحد نتائج اكتساب الرعية القانونية لتنظيم الإخوان.

وتظل مسألة دمج أحد أهم فصائل الإسلام لسياسي المتمثل في الإخوان المسلمين داخل عملية التطور الديمقراطي تحتاج إلى جهد نظري على المثقفين والباحثين الاهتمام به، كما تحتاج إلى جرأة سياسية تعتبر استكمال عملية التطور الديمقراطي في العالم العربي لن يتم إلا بحل "إشكالية" الإسلام السياسي بشكل عام والأخوان المسلمين بشكل خاص، وليس عبر ابتكار وسائل متنوعة للاستبعاد والاستئصال أثبتت فشلها الذريع في حل تلك الإشكالية على مدار ما يقرب من ثلاث أرباع القرن.

ولعل أهمية الصيغة الإخوانية تكمن في أنها عبرت إجمالا في العقود الثلاثة الأخيرة عن صيغة حديثة هي بالأساس تعبير عن "مكونات الداخل" الذي أثبت قدرات أكبر على التأثير في الواقع السياسي والاجتماعي في المجتمع المصري، مقارنة بكل الأحزاب الشرعية وجماعة حقوق الإنسان، التي ظلت جميعها محدودة التأثير في هذا الواقع، مقارنة بالقدرات الهائلة التي تمتع بها تيار الإسلام السياسي السلمي.

وهنا سيصبح مشروع دمج تيارات الإسلام السياسي السلمي داخل عملية التطور الديمقراطي هو ليس فقط حلا لإشكالية تاريخية عمرها يزيد عن ثلاث أرباع القرن، إنما هو أيضا عملية دمج لكتلة كبيرة من المواطنين داخل هذه العملية وداخل آلياتها المختلفة – المشاركة الإيجابية في الانتخابات والانتماء إلى حركة سياسية، احترام نتائج التصويت – عن طريق عملية مقرطة شاملة للجماعة الأم و "لمؤسسات الداخل" النقابية والسياسية على السواء.

ومن هنا يمكن القول إن عملية تحديث وعصرنة تيار الإسلام السياسي السلمي تعني في الحقيقة محاولة دفع "قوى الداخل" ممثلة في التيار السياسي الأكبر في مصر والعالم العربي في اتجاه تبني قواعد ومفاهيم الديمقراطية، وسيصبح الرهان على السياق الاجتماعي والسياسي الديمقراطي كعامل حاسم في التأثير على التفسيرات الدينية للإخوان ، هو المدخل الأكثر قدرة على فهم تطور الظاهرة الإسلامية، والأهمية التاريخية لعملية دمج الإسلاميين داخل عملية التطور الديمقراطي.

وعليه، فإن دمج التيار الإسلامي السلمي داخل التطور الديمقراطي سيعني ميلاد مشروع "إسلامي ديمقراطي" قادر على مواجهة تحديات الداخل من فساد واستبداد, الخارج متمثلة في سياسة الإدارة الأمريكية الحالية، وممارسات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ، في ساحة سلمية وديمقراطية تستند على الشرعية الدولية في مقاومتها لتلك السياسات وهي الساحة التي تتعامل معها الإدارة الأمريكية باعتبارها حكرا عليها تفرضها بالدماء وعلى أنقاض ألاف الضحايا.

6– مسئولية الإخوان المسلمين في بناء مجال مدني ديمقراطي

سيظل هناك جانب كبير من المسئولية ملقى على عاتق الإسلاميين وعل رأسهم جماعة الإخوان المسلمين ، لكي يجري دمجهم في عملية التطور الديمقراطي، وهو أمر لا يتعلق كما يرى البعض بالتفتيش في نواياهم إذا كانوا مؤمنين حقا بالديمقراطية أم لا، فهذا التخوف يمكن سحبه على كل القوى السياسية من اليسار غلى اليمين، إنما يجب أن يرتكز على مسالة دفع التيار الإسلامي نحو ممارسة سياسة مدنية تحكمها قواعد قانونية ودستورية، لا تقبل أي تفسيرات دينية تضع التيار الإسلامي في مساحة "متفوقة" على التيارات الأخرى لأنه "تيار إسلامي" إذ نجد أن بعض قيادات وأعضاء التيارات الإسلامية السلمية يتصور أن من يختلف معه، يعني بدرجة أو بأخرى الاختلاف مع الإسلام، وأنه ينظر بدرجة كبيرة من الريبة والتعالي إلى التيارات السياسية التي تنقده باعتبارها تنقد الأمناء على الإسلام وحراسة الأوفياء.

والحقيقة أن أزمة التفوق والاستعلاء على التيارات الأخرى نتيجة لنظرة التيار الإسلامي لنفسه باعتباره "حارسا لقيم الإسلام " جعلته في كثير من الأحيان لا يعي أن هذه القيم هي مسالة تدخل في صميم الاختيار الشخصي للأفراد، وأن الانتقال إلى "الاختيار العام" يجب ألا يتمتع بأي حصانة خاصة أو استثنائية، إنما هو يخضع لدوافع دنيوية محضه، تتوقف على قدرته على التنمية الاقتصادية والسياسية بصرف النظر عن مرجعيته ومنطلقاته الفكرية.

ويبقى السؤال الكبير هل يمكن أن يكون الإسلاميون وتحديدا الإخوان المسلمين ، ليسوا فقط تيارا ديمقراطيا، إنما أيضا قوة دفع في اتجاه استكمال عملية التطور الديمقراطي؟ الإجابة من وجهة نظرنا بالإيجاب، لأن مشاركة الإخوان المسلمين كحزب سياسي شرعي كجماعة دينية/ سياسية – كما هو الحال الآن – في العملية السياسية والحزبية، سيعني تحولا موازيا في خطاب الجماعة وانقسامات متوقعا في صفوفها بين تيارين أحداهما سيبقى داخل إطار الأفكار القديمة التي تدمج بين الجماعة الدعوية والسياسية، وبين تيار آخر سيتحرك سياسي دون أي نزوع نحو الاحتماء بالمقدس، والخلط بين النشاط الدعوي الديني، وبين العمل السياسي الحزبي.

وفي ظل حالة الجمود السياسي التي تعيشها مصر ، وغياب الطبقة السياسية بل وربما السياسة نفسها، وعجز النظام عن دمج أجيال جديدة – وليس أفرادا منتقين – من كل الاتجاهات السياسية سواء كانوا ليبراليين أو إسلاميين أو يساريين، سيصبح من الصعب دمج الإخوان المسلمين داخل اللعبة السياسية المجمدة – كما سنوضح لاحقا – فاستمرار التعامل مع الإخوان باعتبارهم جماعة محظورة قانونا يعطل من فرص تطور الجماعة وانفتاحها نحو مزيد من الديمقراطية، وسيعني أيضا استمرار حالة الجمود الحالية واستبعاد دور السياسة والكادر السياسي من العمل العام، لصالح آليات بيروقراطية يتم على أساسها فرز النخبة القيادية من الإداريين والموظفين الكبار دون أن يحملوا معهم حدا أدنى من الخبرة والتكوين السياسي.

وقد أدى هذا الوضع إلى أن فقدت القوى الحزبية الشرعية حيويتها ، وتم حصار أحزاب المعارضة داخل مقارها، حتى لا تنافس جديا الحزب الحاكم، الذي قدم نموذجا "يحتذى" لقادة باقي أحزاب المعارضة من غياب للديمقراطية الداخلية، ومن بقاء قادته "خالدين" في مواقعهم ، لينعكس هذا الوضع على الأحزاب الأخرى التي انهار أداؤها في الانتخابات الأخيرة.

لقد حان الوقت لتجديد ساحة الشرعية القانونية، وجعل القوى الحزبية القانونية تعبر عن القوى الحقيقية في الواقع وليس العكس، وتكسر بالتالي هذه المفارقة النادرة التي ضمنت فيها ساحة الشرعية القوي غير الموجودة عمليا، وضمت الساحة المحظورة القوى الفاعلة والمؤثرة وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين ، وهو أمر يهدد مستقبل الشرعية والديمقراطية.

والحقيقة أنه لا يمكن تصور بناء مشروع ديمقراطي حقيقي دون امتلاك رؤية إدماجية لحركات الإسلام السياسي السلمي، فدمج الإخوان في عملية التطور الديمقراطي سيعني في الحقيقة دمج السياسة في الحياة العامة وعودة الروح لباقي الأحزاب المدنية – بما فيها الحزب الوطني الحاكم – التي ستحرص على أن تطور من خطابها وأن تجند أفضل العناصر السياسية لمواجهة الكادر الإخواني النشط في الشارع السياسي.

ولعل النجاحات التي حققتها تجارب بعض التيارات ذات الأصول الإسلامية كما في تركيا مثلا، يرجع إلى هذا الفصل التام بين الحيز الديني والسياسي، بحيث أصبح معيار نجاح الإسلاميين هو إنجازاتهم الاقتصادية والسياسية وليس شعاراتهم المقدسة والدينية، وصار الحكم هو الإنجاز وليس الشعار أو المرجعية الأيدلوجية.

وتبدو دلالة النموذج التركي، أو مفارقته، في أن جانبا كبيرا من القوى التي يفترض أنها علمانية أصبحت هي الأقل ديمقراطية والأكثر تحفظا تجاه الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، وهي التي حاربت في مراحل سابقة من أجل إبراز الوجه الأوربي ل تركيا ، كما أن القوى التي انطلقت من منطلقات إسلامية صارت حاليا هي الأكثر حرصا على الإصلاحات الديمقراطية والأكثر تحمسا إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوربي والتمسك بالمعايير الأوربية في الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وأصبحت البيئة الديمقراطية في تركيا ، ولو أنها غير مكتملة تماما، عاملا حاسما نحو تحول الإسلاميين إلى تيار "ديمقراطي محافظ" كما يقولون عن أنفسهم – وظفت فيه الطاقات الاجتماعية والسياسية لهذا التيار لصالح التقدم والديمقراطية، وبقى الآخرون جامدين خلف شعارات علمانية تخفي أحيانا ميولا شمولية واضحة.

وهكذا سيصبح من المهم البحث عن صيغة جديدة للتعامل مع التيار الإسلامي السلمي تبدأ بالتوافق على وضع قواعد قانونية ومدنية منظمة للعمل السياسي، وضابطة لعملية التحول الديمقراطي، يمكنها الاستفادة من طاقة الإسلاميين وقدراتهم التنظيمية والسياسية في دفع باقي القوى السياسية نحو التطور والمراجعة الفكرية والسياسية حتى يمكنهم منافسة القوى الإسلامية المعتدلة.

ثالثا: مستقبل الإخوان – جماعة دعوية أم حزب سياسي؟

لا زال وضع جماعة الإخوان المسلمين في مصر غامضا ومثيرا للحيرة والجدل، فالجماعة ليست جماعة شرعية ولا تتمتع بوضع قانوني، ورغم ذلك حصلت على 88 مقعدا في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وأدارت معركة انتخابية على قدر كبير من الكفاءة والتنظيم، اتضحت فيها إمكانيات الجماعة السياسية المرتفعة، وتبدو مفارقة هذا الوضع أن تلك الجماعة غير القانونية أو المحظورة – كما تسميها الحكومة – حصلت على حوالي 20% من أصوات الناخبين، وحوالي عشرة أضعاف ما حصلت عليه أحزاب المعارضة الثلاثة الممثلة في البرلمان(ستة مقاعد للوفد، مقعدين لحزب التجمع، مقعد واحد لحزب الغد).

ويبقى السؤال المطروح : إذا كانت جماعة الإخوان المسلمين قد حصلت على هذا العدد وهي جماعة غير شرعية قانونا، فهل معنى ذلك أنها ستكتسح الانتخابات في حال حصلت على الشرعية؟ إن الإجابة قد تكون بسيطة فيما يخص أي تيار سياسي آخر، أما فيما يتعلق ب جماعة الإخوان المسلمين فإن الإجابة ستكون شديدة التعقيد، فجزء من تماسكها التنظيمي وقدرتها على ضبط عضويتها يرجع إلى كونها جماعة دعوية/ سياسية تستفيد من وضعها غير القانوني في الحفاظ على تماسكها التنظيمي وفي سيادة ثقافة السمع والطاعة داخلها.

ولأنها لا يمكنها أن تناطح سياسيا أو دينيا الدولة المصرية بجيشها الإداري وأجهزتها الأمنية وقدرتها على الترهيب والترغيب، فقد "حصنت" نفسها بخطاب المحنة والابتلاء الذي تربى عليه جانب كبير من أعضاء الجماعة، وهو الخطاب الذي رددته قيادة الجماعة منذ اعتقالات الثورة ضد الإخوان ، ويساعد على دفع الأعضاء إلى الالتزام بتعليمات قيادة الجماعة، وبدا الحفاظ على وحدة الجماعة وتماسكها هدفا في حد ذاته.

وصارت الجماعة الدينية أحد العوامل الرئيسية وراء تماسك الجماعة وقوتها، فعضو الإخوان لا ينشط في المجال العام فقط من أجل الإصلاح السياسي والديمقراطي إنما أيضا ابتغاء رضا الله، ولا يذهب للاقتراع في الانتخابات من أجل اختيار تياره السياسي إنما أيضا وربما أساسا من أجل كتمان الشهادة، وأن تكون كل خطوة يخطوها من أجل دعم مرشح الإخوان هي خطوة تقربه إلى الله بحسنة.

ويصعب مطالبة الإخوان في ظل نظام غير ديمقراطي وحصار أمني وسياسي خانق، بإجراء إصلاحات فكرية وتنظيمية وسياسية "مجانية" من شأنها أن تفكك الجماعة دون الحصول على حزب سياسي يتحرك في ظل نظام ديمقراطي، وليس كما هو حادث الآن حين سمحت الحكومة ل 22 حزبا بالتواجد حولتها "الشرعية القانونية" الحالية إلى حطام، وصارت مسئولية النظام القائم وقادة الأحزاب الحالية مشتركة عن هذا الانهيار الذي شهدته الحياة السياسية في مصر .

وأصبحت الشرعية القانونية عبثا على القوى السياسية الحقيقية، فأغلقت أمامها كل الفرص الممكنة لكي تؤثر جماهيريا عبر الإعلام والتواجد خارج غرفة الأحزاب المغلقة، وظلت أسيرة قيود لجنة الأحزاب وغياب سلطة القانون، فأصبح مصير أكبر أحزاب المعارضة وهو حزب الوفد مأساويا بعد حرب الشوارع وطلقات الرصاص التي شهدها وظلت سلطة الدولة والقانون تشاهد تلك الأحداث بسلبية بدت متعمدة، وصار مسرح الأحزاب الشرعية لا يشجع أي تيار عاقل نجح في التواجد خارج تلك الشرعية على دخولها.


على ضوء ما سبق يمكن تحديد مستقبل جماعة الإخوان المسلمين في إطار أربعة سيناريوهات


السيناريو الأول : استمرار الوضع القائم

ويقوم هذا السيناريو على بقاء الجماعة هي كجماعة دينية وسياسية، تجند أعضاءها على أسس دينية، وتعلمهم بعض الأفكار السياسية، وتبقى غير مرخص لها بالعمل القانوني والشرعي.

ومن التوقع استمرار هذا السيناريو في ظل حكم الرئيس مبارك، بمعنى عدم تغير طريقة تعامل النظام القائم مع الجماعة في اتجاه دمجها كحزب سياسي مدني يلتزم بالدستور المدني والنظام الجمهوري وبحقوق المواطنة، وستبقى الجماعة خارج إطار الشرعية القانونية، بحجة عدم دستورية تأسيس حزب سياسي على أساس ديني، وهو الأمر الذي رفضه الإخوان وأعلنوا أكثر من مرة أنهم لن يؤسسوا حزبا دينيا إنما جماعة سياسية ومدنية.

وسيبقى المدخل الأمني والإداري المدعوم بحملات التشويه والسب والقذف هو السلاح المشهر في وجه الإخوان ، وستبقى لغة العموميات وخطاب المحنة والبلاء وصورة "الإخواني المظلوم" ضحية النظم الاستبدادية هو سلاح الإخوان في مواجهة السلطة، والذي يلعب دورا كبيرا في تجنيد عضوية كبيرة في صفوفه ، حيث تمتلك الجماعة قدرات كبيرة على الحشد لصالح الدنيا والدين معا، بصورة تفوق بكثير حزب الدولة الحاكم: الوطني الديمقراطي، وباقي أحزاب المعارضة.

وأدى هذا الوضع إلى استمرار التعامل غير السياسي مع "الجماعة المحظورة" والمساهمة في تكريس جو غير صحي داخل الحياة السياسية المصرية، نزع منه الجدل السياسي، ودفع الإخوان إلى الاستمرار في طرح رؤى عامة، بعضها غير قابل للتنفيذ، والبعض الآخر يطرح لمشاعر الرأي العام، لا من أجل التطبيق في الواقع، وهناك أيضا حرص من قبل الجماعة على عدم الاشتباك المباشر مع قضايا واقعية، لصالح طرح لغة عامة وفضفاضة لا تضمن أي رؤية سياسية محددة على نحو ما جاء في برنامج الإخوان في الانتخابات التشريعية الأخيرة، حين أشار إلى أن موقف الإخوان من موضوع العلاقات مع الولايات المتحدة ومستقبل اتفاقات كامب ديفيد سيتحدد على ضوء تقدير مراكز الأبحاث الاستراتيجية من هذا الموضوع، وهو أمر لا يمكن تخيل وجوده في برنامج انتخابي لحزب أو تيار سياسي في ظل نظام ديمقراطي.

ونظرا لحرص الجماعة على ألا تفتح ملفا مثيرا للجدل والانقسامات في صفوف الرأي العام بين أعضائها، كمسألة كامب ديفيد، فإنها فضلت الانسحاب عن مناقشة الموضوع بصورة واضحة لصالح مجموعة من الشعارات العامة، لأن النظام السياسي الذي تتحرك في إطار الجماعة لا يتطلب منها بذل جهود حقيقة من أجل صياغة برنامج سياسي تفصيلي.

وربما تكون أحد أبرز إنجازات الحزب الوطني الذي أسسه الرئيس السادات في أعين قطاع مهم من الرأي العام المصري هو ذلك التوجه السلمي تجاه الولايات المتحدة و إسرائيل ، وعدم خوض البلاد لأي حروب خارجية منذ عام 1973 ، وهو توجه لديه أنصار كثر من الشعب المصري، فكثير من رافضي السياسات الأمريكية والإسرائيلية ليس لديهم استعداد لخوض حرب ضد الدولة العبرية، ولا الدخول في مواجهة عسكرية أو جهادية ضد الولايات المتحدة، وسيصبح دفع الإخوان إلى اتخاذ مواقف واضحة من اتفاقية كامب دافيد من شأنه دفعهم نحو خيارات سياسية، لها "ثمنها" وليس البقاء في عزلة عن الحوار السياسي متحصنين خلف شعارات عامة، يدفعهم في ذلك المعالجة غير السياسية للحزب الوطني الذي ظل هو الأخر يرددا خطاب عاما، ويضم توليفة متناقضة من العضوية معظمهم من "الموظفين" المطيعين وقليل من السياسيين وكثير من نواب الخدمات.

قضية أخرى تتعلق بمسألة السياحة والثمن الذي يمكن أن يدفعه قطاع من المصريين يقدر بحوالي أربعة ملايين شخص يعيشون من دخل السياحة، في حال رفض الإخوان الشكل الحالي الذي تقوم عليه صناعة السياحة، خاصة المنتجعات الممتدة على الشواطئ البحر الأحمر وسيناء، بجانب مسألة الربا في البنوك، وإقدام الإخوان على إجراء تغيير فجائي في نمط التعاملات المستقر في المصارف، وكل ما يمكن أن ينتج عنه من تبعات اقتصادية وخيمة.

ونتيجة لغياب هذا النوع من الجدل السياسي والاقتصادي، ظل الإخوان في إطار العموميات وبقى جانب كبير من خطابهم السياسي في قلب وعظي وتبشيري، لم يكتشف بعد أن هناك ثمنا سيدفع في الواقع لكل فكرة أيديولوجية أو دينية قائمة على تفسير ضيق لنصوص الدين.

وبدا الحل الأمني والملاحقات الأمنية والبلطجة هي السبيل المعتمد للتعامل مع الإخوان ، فنزع النقد السياسي لبرنامج الإخوان ولبعض أفكارهم، وبدت محدودية قدرات الحاكم عاملا أساسيا وراء غياب المنافسة السياسية وغياب الدافع لدى القوى المختلفة وعلى رأسها الإخوان للتطور والتجديد، لأنهما غير مطلوبين، ولأن الصراع يجري في ساحة غير سياسية أثبتت الانتخابات الأخيرة أنها تحتاج إلى الأموال والعضلات المفتولة، لا إلى تنظيمات وبرامج سياسية.

السيناريو الثاني : الفوضى غير الخلاقة

ويقوم هذا السيناريو على أن تتجه الأوضاع في مصر نحو مزيد من التدهور، بصورة تؤدي إلى انتشار حالة من الفوضى خاصة مع تصاعد الاحتجاجات العشوائية التي لا تقودها تيارات سياسية، وتعبر عن أزمة اجتماعية وسياسية عميقة داخل المجتمع. وفي هذا الإطار، يطرح سيناريو يتعلق بإمكانية استغلال بعض القوى السياسية وعلى رأسها الإخوان المسلمين لحالة "الفوضى المتصورة" أو أن تساهم في خلقها، من أجل انقضاضهم على السلطة.

والمؤكد أن وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة بغير الطريق الديمقراطي وبأوضاعهم الحالية، سيكون تأثيرها سلبيا على عملية الإصلاح الديمقراطي والسياسي، بل سيؤثر سلبيا على تطور الإخوان المسلمين أنفسهم.

والحقيقة أن هذا السيناريو هو أضعف السيناريوهات الأربعة من حيث فرص التحقيق، ذلك لأن الإخوان بداية لا يسعون بأي صورة من الصور إلى الانقضاض على السلطة، ولا يرغبون في التخلي عن مشروعهم المثالي الكامن داخل ثقافة الجماعة الدعوية ويحلم بعودة الخلافة الإسلامية وتحرير فلسطين ، وهو أمر يمكن الحفاظ عليه بعد الدخول في تفاصيل الواقع السياسي وتوازناته وحساباته المعقدة والبعد عن حكم البلاد في ظروف غير مواتية، لأن في السلطة مفسدة و"غواية" قد تضعف من صلابة "الأخوة" وتدفعهم نحو "الانحراف" والابتعاد عن "ثقافة الزهد" وابتغاء "رضاء الله" الموجودة عند كثير من أعضاء الجماعة.

إن تحول الإخوان إلى تيار سياسي يخطئ ويصيب يحتاج إلى وجود نظام سياسي ديمقراطي وقوى سياسية أخرى تحاسبهم وتتنافس معهم على اكتساب ثقة الناس، وهو الوضع الذي لا بد وأن يؤدي إلى الفصل بين الجماعة الدينية التي تدعو إلى مكارم الأخلاق وبناء الفرد المسلم، عن الحزب والتنظيم السياسي.

وفي حال وصولهم بطريق غير ديمقراطي إلى السلطة هناك خطر أن يضعوا حكمهم "عصمة" وقدسية دينية خاصة باعتبارهم يحكمون بما أنزل الله، وفي ظل غياب أسس النظام الديمقراطي وعدم وجود مؤسسات ديمقراطية قوية( برلمان ومجالس محلية حرة وأجهزة رقابية وقضائية مستقلة) سينظرون إلى معارضيهم على أنهم من "المارقين" الخارجين على وحدة الصف والأمة، وهو الخطر ذاته الذي يمكن أن يحدث أيضا في حال وصول تيار سياسي آخر إلى السلطة بغير الطريق الديمقراطي.

من المؤكد أن الإخوان المسلمين يرغبون في أن يظلوا "أسطورة" ملهمة للأجيال القادمة لم تجرب بعد، وأملا في الخلاص مما تعانيه الأمة، خاصة أنه ظل تعقيدات الواقع المحلي والضغوط الأمريكية، والاستحقاقات الدولية وكامب دافيد، لا يرغب في الوصول إلى السلطة عنوة ليقضوا بأيديهم على حلمهم المثالي.

وتظل إمكانية استفادة جماعة الإخوان من حالة الفوضى غير الخلاقة، حتى تلك التي لن يصنعوها ولن يساهموا فيها – واردة، ولكن على الأرجح في هذه الحالة سيكون القادر على مواجهة تلك الحالة الفوضوية هي جهات سيادية من خارج النخبة المدنية الحاكمة والمعارضة و الإخوان المسلمين .

إن دخول الإخوان إلى الساحة السياسية لن يكون عبر حالة انقلابية، ولن يسعوا إليها، وفي حال وصولهم إلى الحكم عبر وسائل غير ديمقراطية، فسيكون لهذا الوضع أثر شديد السلبية على مستقبل البلاد والديمقراطية، لأن المطلوب هو دفع الجماعة للاندماج في العملية الديمقراطية كحزب سياسي مدني قد يصل إلى السلطة عبر صناديق الانتخاب وفي ظل سيناريو آخر مختلف.


السيناريو الثالث : تطعيم الوضع القائم "بالفكر الجديد"

ويقوم هذا السيناريو على إجراء دمج قانوني – جزئي أو كلي– لبعض تيارات الإسلام السياسي السلمية، ولكن في ظل استمرار الجانب الأكبر من القيود المفروضة على العملية السياسية، وفي ظل نفس القواعد (بعد تحسينها) التي وضعها الحزب الوطني وفي ظل استمراره كحزب حاكم.

هذا السيناريو سيعكس في الحقيقة تحولا شبيها بالتحول الذي صاحب تعديل المادة 76 والتي بمقتضاها انتقل الناخب المصري من اختيار الرئيس بالاستفتاء إلى مرحلة الانتخابات التعددية، إلا أن القيود التي فرضت على تعديلات هذه المادة فرغتها تقريبا من مضمونها حتى تضمن استمرار الأوضاع القائمة بشروط محسنة في الشكل لا الجوهر.

وفي حال استمرار حكم الحزب الوطني من الوارد في مرحلة قريبة أن يقبل الحكم بالشرعية القانونية لحزب الوسط (الذي يمثل انشقاقا على الإخوان المسلمين ) المعطلة منذ عام 1996 وهذا سيعني أن ملف حركات الإسلام السياسي قد تم فتحه، وإذا تفاءلنا أكثر فربما توافق حكومة "الفكر الجديد" على مجموعة من الأحزاب السياسية الإسلامية، بغرض سحب بعض عناصر الإخوان إليها، حتى يتم إضعاف الجماعة الأكبر سياسيا وتنظيميا، وفي هذه الحالة يمكن مع مزيد من التفاؤل أن تقبل تلك الحكومة بحزب سياسي لبقايا الإخوان أو بشرعية الوجود القانوني لجماعة دينية أو دعوية تضم عناصر الإخوان المسلمين – أو حتى تسمى الإخوان المسلمين – وليس حزبا سياسيا يعبر عن امكاناتها وقدراتها الحالية.

ولكن لن يكون بمقدور النظام بأوضاعه الحالية أو المحسنة، وبفكره القديم أو الجديد، دمج الإخوان وتنظيمهم السياسي، لأن هذا يتطلب وجود حزب حقيقي ذي رؤية فكرية واضحة وكوادر سياسية فعالة يمكنها مواجهة الكادر الإخواني النشط سياسيا والممتد تأثيره بين الطلاب ووسط النقابات وداخل قبة البرلمان ، ولأن مسألة دمج تيارات الإسلام السياسي السلمي في عملية التطور الديمقراطي ليست بالخيار السهل، ولكنه لا بديل عنه لإجراء إصلاحات ديمقراطية حقيقية، تساعد في فرز نخبة مدنية جديدة قادرة على منافسة الإسلاميين في الانتخابات التشريعية والنقابية، دون أن تحتاج إلى مساعدة الأجهزة الإدارية والأمنية لإنجاح عناصر لا تتمتع بشرعية شعبية وسياسية.

ويبقى من المهم الإشارة إلى أن معظم التيارات الإسلامية السياسية تعبر عن بنية تنظيمية وسياسية حديثة، والتصويت لها يتم على أساس / ديني ، وليس لاعتبارات عصبية أو مالية كما أنها نجحت في أن يكون لها وجود مؤثر في أكثر من نقابة مهنية عبر آليات ديمقراطية وانتخابات حرة ، وأبدى كثير من قادتها انفتاحا أكبر تجاه قضايا حقوق الأقباط والمرآة، وتسامح بالمعنى النسبي مع الأنشطة الفنية والأدبية، مقارنة بتجمعات دينية أخرى من الشيوخ الرسميين الذين يشكلون جزءا من مؤسسات الدولة والحكم.

وبدا أن "الحالة السياسية" التي يعيشها حزب الوسط أو جماعة الإخوان المسلمين بجانب بعض التيارات الإسلامية المستقلة، واستهدافها العمل الجماهيري والسياسي، وتفاعلها مع قوى وتيارات أخرى دفعتها أن تكون أكثر انفتاحا على المستوى الديني والسياسي والثقافي، بدرجة أكبر من "الموظفين" من رجال الدين الرسميين الذين أخرجوا طوال العقد الماضي فتاوى التحريم، ومطاردات المثقفين ومصادرة الكتب.

وهكذا لم تعد المعركة بين حركات الإسلام السياسي السلمي والحكومة في طبعتها القديمة أو الجديدة، ترجع إلى أنهم تيار ظلامي يواجه الدولة المدنية الحديثة كما يتصور البعض، إنما لكونهم تيارا سياسيا عجز مرشحو الحزب الحاكم والمنشقون عنه عن منافستهم رغم الأموال الهائلة التي أنفقت، ودعم البلطجية وأجهزة الأمن، وعليه فإن الصراع الدائر بين الحكومة الحالية بطبيعتها القديمة والجديدة، مع تيارات الإسلام السياسي السلمي هو ليس معركة بين الظلاميين والعلمانيين، إنما هو في كثير من الأحيان بين السياسيين والبيروقراطيين ، وبين الديناميكية والجمود.

السيناريو الرابع: الدمج الكامل للإخوان في عملية الإصلاح الديمقراطي

ويقوم هذا السيناريو على دمج الإخوان في عملية الإصلاح الديمقراطي بصورة كاملة، بما يؤدي لظهور تيار " إسلام ديمقراطي" يؤمن بالتعددية الحزبية وبحقوق الإنسان وبعدم التمييز بين المواطنين على لسان الدين أو العراق ، كما يؤمن بمبادئ النظام الدستوري، وبمدنية الدولة والدستور والنظم القانونية.

والحقيقة أن نجاح تلك التجربة يتطلب توافر مجموعة من الشروط أولها يتعلق بطبيعة النظام القائم، فلابد من إجراء إصلاحات سياسية حقيقية تتجاوز توازنات النظام الحالي وقدرته، حتى يمكن الحديث عن فرص حقيقية لإجراء إصلاح سياسي شامل ومتدرج – ولكن حقيقي وجاد – داخل النظام السياسي المصري، ولابد من الحديث عن دور لنخبة جديدة من داخل الدولة، قادرة على أن تبدأ عملية الإصلاح في مرحلة ما بعد الرئيس مبارك وخارج حسابات تيار "الفكر الجديد" الذي اثبت عدم قدرته على تقديم إصلاحات حقيقية من داخل النظام، ولنجاح هذا السيناريو، أي الإصلاح من داخل النظام، لابد من تواصل القوى الإصلاحية داخل الدولة مع بعض التيارات الشعبية الإصلاحية من مختلف الجماعات السياسية، ليعملا على الاستفادة من حالة الاستقرار الموجودة داخل مؤسسات الدولة – لا هدمها عن طريق "الفوضى غير الخلاقة" – والانفتاح على بعض التيارات الشعبية التي لا ترغب فقط في تغيير ما هو قائم، وإنما لديها قدرات على بناء الجديد.

ويظل هذا السيناريو هو السيناريو المثالي للتطور الديمقراطي في مصر ، أي سيناريو الانتقال الهادئ من نظام تسلطي إلى نظام ديمقراطي، بصورة متدرجة لا تخضع لأي أغراض سياسية "تهندس" مسالة الإصلاح على مقاس لجنة السياسات ليصبح مجرد تغيير شكلي.

وفي ظل سيناريو "اًلإصلاح الحقيقي" ستبقى هناك بعض المحاذير بدمج الجماعة في العملية السياسية، أي شروط الثاني الذي يخص جماعة الإخوان المسلمين نفسها، ومشكلة الدمج بين الديني/ الدعوي من ناحية، والسياسي والحزبي من ناحية أخرى، فالجماعة لا زالت حتى هذه اللحظة تشترط في عضويتها أن يكون العضو مسلما وممارسا للشعائر الدينية، بل وبشكل تعمقه في الأمور الدينية أحد شروط تصعيده داخل الجماعة، التي تصبح بالتالي مغلقة في وجه أي مواطن مصري مسيحي أو علماني، بما يتناقض مع الدستور، والقوانين المنظمة للعمل السياسي. وستصبح مسالة الفصال بين الجماعة الدعوية والحزب السياسي شرطا لقبول الجماعة كحزب سياسي شرعي ، يحترم مدنية النظام السياسي، ويعلن بشكل قاطع رفضه للدولة الدينية ولأي أفكار تمييزية للمواطنين على أساس الدين، أما الجماعة الدعوية فمن حقها أن تنشط في المجال الديني، وربما تؤثر أخلاقيا على شكل النظام السياسي والممارسة السياسية للحزب المدني للإخوان ، كما يعطي الحق نفسه لعشرات ومئات الجمعيات الدينية الإسلامية والمسيحية لكي تنشط في المجال العام، ولكن حين تدخل المجال السياسي، تكون بشروط الأخير وليس بشروطها الدينية، وعلى أرضية مدنية كاملة يكون الاحتكام فيها للدستور المدني ولإرادة الناخبين، ولمبدأ السيادة للشعب.

والمؤكد أن الدلالة السياسية لدمج الإخوان المسلمين بصورة كاملة داخل العلمية السياسية سيعني في الحقيقة بداية وجود نخبة حاكمة قادرة على أن تدير "صراعا سياسيا" مع الجماعة في حيز الأفكار والمبادرات الاقتصادية والسياسية والثقافية المختلفة من أجل نهضة المجتمع والصالح العام، وليس عبر سيف الإدارة وأجهزة الأمن.

وقد عجز الحزب الحاكم نتيجة ضمه لكل ألوان الطيف السياسي وغير السياسي من النخبة المصرية عن بناء حزب حقيقي في الشارع المصري، خاصة بعد الصورة التي بدا عليها في الانتخابات التشريعية، ومسئوليته عن حوادث العنف التي شابتها، وعكست غياب العقل السياسي وفشل الدخول في منافسة سياسية حقيقية مع أي جماعة ذات وزن، سواء كانت الإخوان أم غيرها.

وطالما ظلت أكبر الجماعات السياسية المصرية في هذا الوضع الغامض الذي يحله النظام الحاكم بكلمة تبدو سحرية- ولا أساس لها في الواقع – وهي "الجماعة المحظورة" فإنه لا يمكن الحديث عن إصلاح سياسي حقيقي، إلا إذا تحولت هذه الجماعة المحظورة إلى حزب سياسي مدني وفق شروط الدولة المصرية الحديثة وقوانينها. خاتمة

رغم هذه التحولات الكبيرة التي شهدها خطاب الإخوان نتيجة تغير البيئة الاجتماعية والسياسية المحيطة به، إلا أنه مع ذلك ظلت هناك مساحة قلقة في مكونات الخطاب الإخواني تتعلق بهذا التداخل بين المقدس والسياسي، والتي عجز الإخوان عن حسمها بشكل قاطع.

إن تجاوز الإخوان لهذا الخلط بين المجال الديني والسياسي لا يعني بالضرورة غياب أي ارتباط فكري وسياسي للإخوان ب الإسلام وتمسكهم بما يسمونه "الأيديولوجية الإسلامية" بقدر ما يعني قبولهم بأن هذه الأيديولوجية هي اختيار سياسي يمثل فهم الإخوان للدين وليس الدين نفسه، وبالتالي أو بالنتيجة من الوارد الاختلاف عليه ورفضه، والاحتكام لتصويت المواطنين في الحكم عليه، بل وقبول مشاريع أخرى تكون على النقيض منه في حال إذا اختارها المواطنون.

وإذا كان الخطاب الإخواني في مجمله قد تميز باحتوائه على مجموعة من الثنائيات المتعارضة ثنائية السياسي والديني، والتنظيم الحزبي، والزهد في السلطة والسعي لها، فإن هذا قد عطل من فرص تطورهم، وجعل تأثيرهم السياسي في مسار التحولات الكبرى التي تشهدها البلاد أقل بكثير من قوتهم التنظيمية، وإذا كان من المؤكد أن اللغة السياسية قد اكتسبت في الفترة الأخيرة، مكانة أكبر في الخطاب الإخواني على حساب الحيز المقدس، إلا أنه من الصعب القول إن الإخوان قد تجاوزا بشكل كامل هذا الحيز لصالح بناء سياسي مدني واضح المعالم، حتى لو كان ذا مرجعية دينية، ولكن الحكم عليه يجب أن يتم فقط وفق معايير سياسية يختارها المواطنون دون أي قدسية دينية خاصة.

والحقيقة أن الفصل بين الديني والسياسي لازال يمثل أبرز العوائق أمام تطور الجماعة ودمجها في عملية التطور الديمقراطي، فالجماعة كثيرا ما تعبر نفسها مجرد جماعة دعوية تدعو الناس إلى الالتزام بتعاليم الإسلام ، وتدعو الحكام – أيا كانوا – إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بصرف النظر عن مشاركة الإخوان في الحكم من عدمه، هذه اللغة التي تبدو زاهدة في الحكم والسلطة، يتوازى معها مباشرة في العملية السياسية عن طريق المشاركة بفاعلية في الانتخابات التشريعية والنقابية، كما أن الجماعة كثيرا ما طرحت رؤاها السياسية بصورة مباشرة كالمبادرة التي طرحتها للإصلاح السياسي في عام 2004 .

ولعل استمرار هذا التدخل بين الديني والسياسي في خطاب الإخوان يرجع في جانب منه إلى بقاء الجماعة خارج الشرعية، فمن الصعب الرهان على اكتمال خطابها السياسي في ظل واقع سياسي لا يساعد على ذلك ولا يعطيها من الأصل حق الوجود القانوني.

وهنا سيصبح أحد أبرز سيناريوهات المستقبل أو الإصلاح في مصر هو القبول بشرعية حزب سياسي للإخوان المسلمين ، لأن مستقبل تطور الجماعة يتوقف على مدى انفتاح النظام السياسي المصري على قيم وقواعد الديمقراطية بشكل كامل، بحيث يقبل التعبير والتنظيم لكل القوى السياسية وبتداول السلطة سلميا، وبكافة الأفكار والقيم المصاحبة لعملية التطور الديمقراطي من شفافية ونزاهة وإقامة دولة القانون، وسيصبح بعدها القبول بحزب سياسي شرعي للإخوان المسلمين متوقفا فقط على قيام الإخوان بالفصل بين الجماعة والحزب السياسي الذي يجب أن يعلن احترامه الكامل للديمقراطية ومبادئها والالتزام بمدنية الدولة ودستورها.