مقدمة كتاب الرسول لسعيد حوى

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مقدمة كتاب الرسول لسعيد حوى

مقدمة

الداعية سعيد حوى

هذا هو الكتاب الثاني من سلسلة الأصول الثلاثة "الرسول - r -" ، وقد استهدفت فيه مع أخويه في السلسلة ما كنت قد ذكرته في مقدمة السلسلة ، وقد حاولت أن أعرض أدلة رسالة رسولنا عليه الصلاة والسلام ، وهو موضوع قد كتبت فيه مئات الألوف من الصفحات قديماً وحديثاً ، ومع ذلك فقد بقيت المكتبة الإسلامية المعاصرة فارغة من كتاب جامع يتحدث عن مجموع القضايا الكبرى التي تعتبر أعلاماً على رسالته عليه الصلاة والسلام ، وإذا وجد شيء من ذلك في القديم فقد فاته ما قدمته معطيات عصرنا ، وإذا وجد شيء من ذلك حديثاً فقد كان في جانب دون أن يستوعب . فهناك من أبْرَزَ صفاته عليه الصلاة والسلم كعلم من أعلام نبوته ، وهناك من تحدث عن المعجزة القرآنية أو المعجزات ، وهناك من تحدث عن البشارات ، وهناك من تحدث عن النبوءات ، هناك من تحدث عن الآثار ، وهناك من جمع بين أكثر من جانب وذلك باختصار ، فكان لا بد من كتاب يسد هذه الثغرة ، وقد حاولت ذلك في هذا الكتاب مستفيداً من جهد الكاتبين في هذه الموضوعات.

... وقد جعلت هذا الكتاب في مدخل وخمسة أبواب:

... ذكرت في المدخل حاجة الناس إلى الرسل عليه الصلاة والسلام ، والمعالم التي جعلها الله علامة يُعرفون بها ، وأن هذه العلامات لا تظهر في رسول الله كما تظهر في محمد - صلى الله عليه وسلم - .

وكان الباب الأول في صفاته وكمالاته التي لا يلحقه بمجموعها لاحق ، والتي لا تتأتى على هذا الكمال والجمال والجلال والشمول إلاّ من رسول .

... وكان الباب الثاني في معجزاته ؛ المعجزة القرآنية والمعجزات الأخرى .

... وكان الباب الثالث في نبوءاته التي كان في تحققها علامة صدق على أنه لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى .

... وكان الباب الرابع في ثمراته التي تشهد أنها ثمرات بنبوة ورسالة .

... وكان الباب الخامس في بشارات الرسل السابقين عليه - r - ، وانطباق هذه البشارات عليه .

... فجاء الكتاب جامعاً مختصراً شاملاً يعمق بإذن الله في قلب المؤمن – هو والكتاب الذي قبله – معاني الشهادتين " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله " وهي كلمتا الإسلام ومفتاح الدخول إلى الجنة .

... ولقد أزال الكتاب كثيراً من الشبه والإشكالات وصحح كثيراً من المفاهيم وقضى على أوهام ، فهناك مَن أبرز شخصية الرسول - r- على أنها عبقرية فذة وكمال هائل قاطعاً ذلك عن الوحي والرسالة ، فأثبتنا في هذا الكتاب أنه أكمل خلق الله وهو محل الاصطفاء من الله ، وإنما كان أكمل خلق الله بما آتاه الله من الاستعداد وبما أوحاه إليه من الرسالة ووفّقه إليه من كمال الأعمال وجمال الأخلاق . وهناك من حاول أن ينفي معجزاته مما سوى القرآن أو ينفي الإعجاز من القرآن وهناك من حاول أن يجعل المعجزة هي الأصل في حياته - صلى الله عليه وسلم - معطلاً ابتلاءه في عالم الأسباب فجاء الكتاب مصححاً لهذا كله ، وهناك من الكافرين من حاول التشكيك في أفعاله وثمراته فنفى أن تكون ثمار نبوة فجاء هذا الكتاب مصححاً ومسدّداً ومفنّداً.

... فاجتمع بذلك في الكتاب ما يحتاجه كل مسلم ؛ إنْ لمعرفة رسول الله - r- أو لمعرفة أدلة رسالته أو لمعرفة الشبه المعاصرة الرد عليها أو لمعرفة ما يحتج به وهو يدعو إلى الله وينصر رسوله أو لمعرفة ما يزداد به توقيراً وتعظيماً لرسول الله - r - ، ولقد طالب الله كل مؤمن أن يؤمن برسول الله - r- وينصره ويوقره : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}. (الفتح : 8 ، 9)

... ونسأل الله أن يجعل في هذا الكتاب من النفع العام والخاص ما يجعلنا قائمين بحق رسول الله - r - ونسأله أن يتقبل ويغفر الزلل .

مدخل

... من بين المخلوقات الحسية التي تعد بالبلايين يظهر هذا الإنسان بشكل متميز جداً ، وتميزه عن بقية المخلوقات يجعله عالَماَ وحده ، تنطوي فيه العوالم ويبقى بعد ذلك بقية من التفرد .

ونواحي هذا التفرد في الإنسان كثيرة نشير إلى بعضها :

1 – في خلقته : قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي? أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }(1) فما من شيء في الإنسان إلا وقد ركب وصور على أحسن مثال وأجمله وأعدله وأكمله ، قارن بين الإنسان وبين أي مخلوق آخر من حيث الخلقة تجد تشابهاً في ما لا بد منه للحي كحي ، ثم ترى بعد ذلك أوجه التمايز . يد الإنسان تمتاز على أي مخلوق آخر ، ولولا هذا لما كانت حضارات ، وقامة الإنسان وانتصاب جسمه لا يشبه فيه غيره ، وبشرة الإنسان وأعضاؤه كل ذلك فيه تميز ، وهو في الإنسان أكمل وأعدل وأجمل من الظفر إلى الشعر إلى الأنف إلى الأذن إلى الوجه إلى القدم إلى أي شيء .

2 - في علمه : قال تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا }(2) وقال : {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(3) فالإنسان أعطي ملكة التعلم بشكل لا مثيل له عند غيره . فالمادة لا تعقل أصلاً ، وكذلك النبات ، وعلم الحيوان محصور ضمن حدود طعامه وشرابه وسفاده ، والخطر الذي يتهدده ، ولا يتعلم شيئاً إلا بصعوبة . أما الإنسان فيعقل ذاته ، ويعقل غيره ، ويركب ويحلل ، يعرف الأشياء ، ولماذا وجدت ، وكيف يستفاد منها ، ويعرف القوانين التي تربط بين الأشياء أو التي تخضع لها الأشياء ، وآثار علم الإنسان واضحة جلية وتميز الإنسان في ذلك واضح جلي .

3 - في إرادته: قال تعالى : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}(4) إن العلم شيء سلبي ، والذي يجعله إيجابياً هو الإرادة ، وكلما كانت الإحاطة في موضوع أتم كان مجال الاختيار أوسع ، ولما كان الإنسان أكثر علماً فهو أوسع إرادة ، ومجال الإرادات أمامه أكثر وهو بالتالي يملك أكبر قدر من الإرادة . ولذلك تراه يستطيع أن يتصرف أمام الحادث الواحد بأكثر من أسلوب ، فإذا ظلم قد يعفو أو ينتقم ، وقد يكظم غيظه أو يظهره ، وقد يؤخر الانتقام لتسنح له الفرصة وقد يجبن ، وقد يترفع وقد يسف ، وقد يرد بالمثل وقد يطغى وقد وقد ... مواقف كثيرة أمام الحادث الواحد ، أما الحيوان فله تصرف واحد أمام الحادث الواحد على ضآلة عدد مواقفه ومحدوديتها ... وهكذا فتميز الإنسان في صفة الإرادة واضح جلي .

4 – في مكانته وإمكاناته : إن مكانة الإنسان في الوجود هي السيادة ، وذلك أن كل شيء مسخر له : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}(5) . {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}(6) . {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}(7) وإمكانيات الإنسان تبلغ أن تستفيد من طاقات هذا الكون . فقدرة الإنسان هائلة يكفي لمعرفة تميزها على سبيل المثال أن نذكر أن كل الحيوانات لا تستطيع أن تصنع فأساً بينما صنع الإنسان الأقمار الصناعية والقنابل الذرية .

5 – في ملكة البيان عنده : قال تعالى : {الرَّحْمَانُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ}(8) إن الحيوانات كلها لا تخرج من أفواهها إلا أصواتاً مبهمة ، أما الإنسان فإنه يستطيع أن يخرج هذه الأصوات وزيادة على ذلك فإنه يستطيع أن يخرج سبعاً وعشرين حرفاً تتركب منها مليارات الكلمات في كل لغات العالم يتكلم بها الإنسان . فيسخر ويضحك ويبكي ويفسد ويصلح ويشعر أو ينثر ويبين عن خلجات الخاطر وإشراقة الوجدان ، وقوانين الكون والسماء والأرض ويغني وينشد ، إن تميز الإنسان في ملكة البيان من أبرز خصائصه .

6 – في عقله وإدراكه وخياله وتصوره : إن الحيوان يشترك مع الإنسان في حواسه ولكن يمتاز عنه إدراكاً وتصوراً وخيالاً بشكل أرقى وأعلى . فالإنسان والحيوان يشاهدان زرقة البحر ولكن شتان بين النظرتين . فزرقة البحر ألهم بسببها الإنسان شعراً ونثراً وعلماً ومتعة وتأملات وإشارات وأشياء كثيرة ، وتضع السم للذبابة في ماء السكر فتأكل منه وتموت وتأتي الأخرى والأخرى ويمتن جميعاً ولا يخطر لواحدة منهن أن تتعظ ، ترى كم إنساناً يأكل من طعام مات منه غيره ورآه ؟..

7 – في استعداده الأخلاقي : هناك أخلاق عالية وأخلاق سافلة ، أخلاق راقية وأخلاق منحطة ، أخلاق فاضلة وأخلاق مرذولة ، والإنسان عنده استعداد لأن يتدنى فيكن أخبث الموجودات أو يَتَعَلَّى فيكون مثال طهر . وعنده استعداد ليكون في أحد حيزي الخير أو الشر أو يخلط بين الجانبين على حين الحيوان يبقى ذا خلق واحد في الغالب ، فالغل والحقد والحسد والغش الكبر والرياء والغضب والطمع والبذخ والبطر والفخر والخيلاء والصلف والمداهنة والعجب والمكر والخيانة والمخادعة والقوة والفظاظة والجفاء والطيش وقلة الحياء وقلة الرحمة ، ثم تأتي أضداد هذه المعاني كلها وأمثال هذه وهذه كثير ، كل ذلك مما يمكن أن يتخلق به الإنسان ومن ثم كان استعداد الإنسان الأخلاقي سمة بارزة تميزه عن أي مخلوق آخر .

... والسؤال الآن هو : ماذا يترتب على الإنسان نتيجة لهذا التفرد ؟

... إن القاعدة : "على قدر ما تعطى تطالب ضمن استطاعتك" هي قاعدة هذا الموضوع ، فإن الله جلت حكمته الذي سخر الكون للإنسان قد رتب على ذلك أن جعل الإنسان هو المسؤول الوحيد أمامه من هذه المخلوقات المرئية كلها فقال : {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى}(9) وقال : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}(10) وقال : {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (11) فالله عز وجل جعل الإنسان بهذا التفرد خليفة في الأرض فقال : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}(12) وقال : {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ}(13)

والاستخلاف يعني ما يلي :

إن المستخلف في الملك ليس مالكاً أصيلاً .

أن عليه أن يتصرف حسب أمر المستخلف لا حسب أمره هو .

ألا يشق عصا الطاعة ويتعدى الحدود المقررة له .

أن يفعل ما يريد المستخلف لا ما يريده هو .

... وهذا كله يعني أن الإنسان ليس حراً بل هو عبد الله الذي أقامه هذا المقام في الوجود قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}(14) فسيادة الإنسان على الكون تأتي في مقابل عبوديته لله . وما لم يعط الإنسان عبوديته لله يكون قد أقام نفسه مقام الجماد والنبات والحيوان غير المسؤولين . لذلك نرى القرآن عقد ألح على عدم إنسانية من لا يلتزم بطاعة الله فقال تعالى : {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ}(15) وقال : {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}(16) وقال : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}(17) وقال : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَاب عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ }(18) وقال : {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَائِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَائِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}(19) وقال : {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ}(20) وقال : {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً}(21) وقال : {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}(22) . إن القيام بأمر الله هو وحده الذي يطلق طاقات الإنسان كلها في طريقها الصاعد نحو الكمال ، وترك أمر الله يعني إطلاق الطاقات نحو الحيوانية الحرة .

... ولا يقوم الإنسان بأمر الله إلا إذا عرفه حق معرفته وعرف ما يأمر به ، ولا يتم للإنسان هذا إلا بمعرفة الرسول الذي يصطفيه الله للقيام بهذه المهمة ، ذلك أن الله لم تقتض حكمته أن يتصل بكل إنسان على حدة ليبلغه أمره ، بل اقتضت حكمته أن يصطفي من الناس رسولاً يقوم بهذا نيابة عنه {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ}(23) وفي ذلك حكم منها:

1. إن الاتصال بعالم الغيب يحتاج لأهلية خاصة واستعداد عظيم , ولم يعط كل إنسان مثل هذا {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(24) إذ أن حكمة الله اقتضت ألا تجعل الناس درجة واحدة لأنه لا تستقيم الحياة البشرية بذلك . فمن للمهن ، ومن للحرف ، ومن لقضاء حاجات الناس ، ومن للخدمة ، ومن للسيادة ومن للتبعية ، إذا كان الناس على نسق واحد ، قال تعالى : {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً}(25) وكانسجام مع هذا القانون العام اصطفى الله بشراً ليكونوا رسلاً ، وقال – عز من قائل : {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَاذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ...}(26) .

2. إن امتحان الإنسان واختباره هدف أساسي من أهداف التكليف {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(27) وامتحان الإنسان بالإنسان هدف آخر {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً}(28) ، {وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولو?اْ أَهؤلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}(29) وانسجاماً مع هذا جرت سنة الله أن يختار إنساناً رسولاً ليبتلي الآخرين به . إنه الاختبار العظيم الذي من نجح فيه تخلص من رجس الحسد ، وشهوة الاستعلاء ، وتمحص خالصاً للحق محباً له . ولأهمية ذلك نلاحظ أنه حتى الرسل امتحنوا بهذا المعنى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِي قَالُو?اْ أَقْرَرْنَا}(30) .

3. ومن أهم ما امتحن به الإنسان تكليفه بالإيمان بالغيب الذي قام الدليل على صدق المُخْبِر به وهذا لا يتم إلا إذا كان بين الله وخلقه واسطة هو الرسول ، هذا مع ملاحظة أن الرسل ممتحنون بشيء من هذا {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ}(31) {قَالَ رَبِّ أَرِنِي? أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي}(32) وإذن كانت حكمة الله أن يصطفي رسلاً من البشر يعرفهم على ذاته ويعرفهم على ما يريد منهم ومن خلقه ، ويأمرهم أن يعرفوا الناس عليه وعلى تكاليفه ؛ لتتحقق بذلك إنسانيتهم ، ولتتطهر بذلك أنفسهم ، وليعيشوا محققين ما من أجله خلقوا .

... وهؤلاء الرسل يمثلون ذروة الكمال البشري ، لأنهم يمثلون ذروة العبودية لله ، ويقومون بأضخم مهمة في الوجود وهي مهمة إرشاد الإنسان إلى طريقه الصحيح ، أي إلى الكمال ، بتخليصه من أدران نفسه وكل مؤثر حيواني أو مادي أو غريب عن فطرتها ، حتى تصبح ربانية {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}(33) {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}(34) {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلا?ئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً}(35)


... وبعد : كيف نعرف نحن بقية البشر رسل الله ؟ إن معرفة الرسول واتباعه يترتب عليها هدايتي واستحقاقي ثواب الله ، بينما جهلي وكفري به حال وجوده ودعوته لي يترتب عليها بقائي على ضلالي واستحقاقي عذاب الله في الدنيا والآخرة ، لذلك كان مهماً جداً أن أعرف كيف أهتدي إلى الرسول ، وبدون معرفة هذا قد يلتبس علي الأمر فأعتبر غير الرسول رسولاً فأضل أو أجهل الرسول فأعذب {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(36) .

لذلك فقد جعل الله للرسل علامات يعرفون بها . هذه العلامات هي :

1- الصفات الشخصية لصاحب الرسالة : فليس من المعقول أن يكون الرسول كذاباً إذ أن الكذاب لا يصدق في الأمور العادية فضلاً عن مثل هذه القضية الكبرى ، فالأخلاقية العالمية سمة لا بد منها لإنسان مرسل من عند الله ليطهر البشر من كل شر ويدلهم على كل خير .

فإذا ما كان شريراً تظهر عليه صفات الأشرار فأنى يجعله الله محل رسالته ، كما أنه ليس من المعقول أن يكون أبلها أو غير ذكي إذ المغفل أو عادي الذكاء لا يسلم له الناس عقولهم ولا يستطيع هو أن يقنع هذه العقول ، ومهمة الرسول لا تقوم إلا إذا كان أكبر الناس عقلاً وفطنة كي يستطيع إقامة الحجة على الناس ، كما أنه ليس من المعقول أن يدعو الرسول إلى شيء ويكون سلوكه مخالفاً لما إليه يدعو .

فهو يدعو إلى طاعة الله فليس من المعقول أن يعصيه ، ويدعو إلى ترك معصيته فلا يعقل ألا يطيعه ، فينبغي إذن أن يكون مظهراً كاملاً للطاعة وترك المعصية .

كما أنه ليس من المعقول أن يرسل رسولاً ولا تكون عنده إمكانية تبليغ الرسالة المكلف بها إلى أصحابها . وبدون هذا لا تقوم الحجة على الناس وهذا يحتاج إلى شخصية فذة عظيمة .

إذ دعوة الرسل ليس كغيرها من الدعوات التي ترضي شهوات البشر ، بل هي دعوة مهمتها كبح جماح النفس البشرية ، وعلى هذا فأمام عملية التبليغ عقبات ومخاطر وصعوبات واضطهاد لا يصبر عليها إلا صادق مع الله .

ثم الرسول هو قدوة البشر في طريقهم إلى الله ،فلا بد أن يكون أرقى البشر في كل جانب من جوانب الحياة وعنده دائماً الحل الأمثل للبشر.

2- المعجزات : والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة الذي يظهره الله على يد الرسول أو النبي . وهي علامة على الرسالة لأنها تخرج عن عالم الأسباب كلها ، بحيث يعجز الإنسان كإنسان أن يأتي بها وذلك أن قدرة الإنسان محدودة ضمن قوانين الكون ، وقدرة الله وحدها هي المطلقة ، فكون الرسول تظهر معه آثار القدرة المطلقة فذلك دليل على أن له صلة مع الله .

ويخلط الناس عادة بين المعجزة التي هي علامة رسالة الرسول وبين السحر وآثار الرياضة الروحية .

والذي نحب أن نقرره هنا هو أن السحر والشعوذة نوعان من العلوم التي تخضع لقوانين هذا الكون وإن كانا مجهولين إلا للقليل من الناس ولكن أي إنسان تعلم علم السحر يستطيع أن يفعل ما يفعله الساحر وكذلك فيما يتعلق بآثار الرياضة الروحية ، فلعالم الروح قوانينه التي من اكتشفها قد تظهر معه بعض آثارها ولكنها ما خرجت عن كونها من الأسباب العادية إذ أن أي إنسان يستطيع أن يفعل ما يفعله الرائضون إذا سلك نفس طريقهم . أما المعجزة فلا علاقة لها بعالم الأسباب أصلاً ، فليست كأثر عن علم أو تجربة أو قانون ، إذ أن من شروط المعجزة ألا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بها .

... إن المعجزة تكون بقدرة الله الذي يقول للشيء كن فيكون .

إن عيسى عليه السلام كان يبرئ الأبرص ، وقد يشفى البرص على يد طبيب ولكن الفارق بين الحالتين أن ذلك بقدرة الله وهذا بمعرفة القوانين التي بثها الله بالكون .

إن الإنسان يستطيع بذكائه وإمكانياته أن يستخرج الماء من أعماق الأرض أو أن يركب بالسوائل المعروفة من الأوكسجين والهيدروجين ماء ، ولكن الفارق بين الماء المستخرج والمصنوع ، وبين الماء الذي خرج بضرب عصا موسى أو نبع حيث وضع محمد - صلى الله عليه وسلم - أصابعه كالفارق بين صنع الله وصنع وربط القانون بالقانون ، وهكذا استطاع الإنسان أن يجاوز سطح الأرض ، ويسير في الفضاء ، ولكن الفارق بين هذا وبين عروج محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء كالفارق بني كل ما صنع الله وصنع المخلوق ، العروج كان بكلمة الله ، وصعود الإنسان إلى هذا الفضاء كان بالارتقاء بالأسباب .

فالمعجزة إذن لا دخل لأي سبب كوني فيها سواء كان روحيّاً أو ماديّاً أو أي شيء آخر .

ومن هنا كانت ذات دلالة كاملة على أن صاحبها رسول الله .

3- النبوءات : النبوءة هي الإخبار عن المستقبل ، وكون وقوعها دليلاً على صحة دعوى الرسالة يعود إلى أن علم الإنسان محدود بالزمان الحاضر والماضي ومحجوب عن المستقبل ، والله وحده ذو العلم المحيط بكل زمان ومكان ، وما كان ويكون ، فكون الرسول يخبر عما سيكون ويقع كما أخبر ، فذلك دليل على أن له صلة بالله ، وكما أن المعجزة تخرج عن عالم الأسباب لتصلح دليلاً ، فكذلك هنا ، والمقصود بالإخبار عن الغيب ما ليس له علاقة بنتائج تترتب على مقدمات ، أو توقعات دلت عليها طوالع ، فهذا يستطيعه كثير من الناس بما أوتوا من حكمة وحنكة وخبرة ومعرفة وتجربة .

4- الثمرات : إن ثمرات الرسول تدل عليه ابتداءً من انسجام دعوته مع قواعد الفطرة ، إلى الأخلاقية العظيمة التي تظهر على أتباعه ، كأن يحكم الحق القوة ، ويظهر الوفاء على الغدر وإن كان في الغدر منفعة ، وكأن تصبح نفس الإنسان منضبطة انضباطاً كاملاً بالخير ، فيؤدي الحقوق ويقيم الواجبات ويعيش لله وبالله عادلاً في دنياه حريصاً على آخرته ، تفجرت طاقاته كلها ، وسارت في طريقها الصحيح ، فنمت ملكاته العليا وانضبطت ملكاته الدنيا جميعاً .

إن ثمرات دعوة الرسول تختلف اختلافاً جوهرياً عن ثمرات أي دعوة أخرى حتى لتكاد الفطرة تحس بحدسها إذا رأت ثمرات النبوة أن سبب هذه الثمرات لا بد أن يكون وراءه عناية ربانية خاصة ..

5- البشارات : إن الرسل كلهم رسل الله الواحد الأحد ، وقد يأمر الله الرسول السابق أن يبشر برسول لاحق فتكون نبوءة للأول وتمهيداً للثاني . وليس هذا شرطاً في كل رسالة ولكنه متوقع وجوده ومتأكد حصوله ، وقد يذكر في البشارات اسم الرسول اللاحق أو صفاته أو كليهما والبشارة يستأنس بها إذ وجدت بقية العلامات .

... قدمنا هذا الكلام بين يدي الأبواب الخمسة التي لها علاقة بهذه القضايا الخمس والتي نتحدث فيها عن رسالة النبي العربي محمد - r - وثبوتها .

هذه الرسالة التي ختم الله بها النبوة {وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}(37) ونسخ بها كل شريعة سابقة ، وكلف الإنسانية كلها بها ، بحيث لا يستحق أحد رحمته إلا إذا التزم بها ، ومن لم يلتزم بها استحق عذابه .

وتم بها انتقال الرسالة من طور القومية إلى طور الإنسانية الشاملة ، إذ أن رسل الله قبل محمد - r - كانوا يبعث الواحد منهم إلى قومه خاصة وبعث rوسلم - إلى الناس عامة ، فأصبحت الإنسانية كلها ببعثته ملزمة بشريعة واحدة هي شريعته ، وليس أمام أحد من البشر خيار سوى سلوك الطريق الذي هدى إليه ، وإلا فإنه يكون من الضالين .

ولما كانت هذه الرسالة لها مثل هذه الأهمية . جعل الله عز وجل فيها ومعها واضحات الأدلة ومشرقات البراهين الكثير الكبير بحيث لا يبقى معه حجة لمحاج أو شبهة لأحد .

... هذه الأبواب الخمسة ستجد إن شاء الله في كل واحد منها ما يؤكد لك هذا المعنى بشكله الكامل بحيث لا تشك معه أن محمداً رسول الله وأنه لا عذر لأحد كفر به أو أعرض عن شريعته بعد أن بلغته دعوته .

وسنعرض الأبواب الخمسة على الترتيب التالي :

... الباب الأول : الصفات .

... الباب الثاني : المعجزات .

... الباب الثالث : النبوءات .

... الباب الرابع : الثمرات .

... الباب الخامس : البشارات .

... وبذلك ينتهي المبحث الثاني من مباحث سلسلة الأصول الثلاثة ليبدأ المبحث الثالث وهو الإسلام دين الله وشريعته التي بلغنا إياها رسوله - صلى الله عليه وسلم - . وبذلك نكون قد عرفنا المكلِّف وهو الله في المبحث الأول . والتكليف وهو الإسلام في المبحث الثالث ، ومبلِّغ التكليف والقدوة فيه وهو الرسول في المبحث الثاني ، وهو هذا فإلى الباب الأول من هذا المبحث .

الشيخسعيد حوا


الرجوع الى فهرس براهين سعيد حوى

_________

(1) التين : 4 .

(2) البقرة : 21 .

(3) العلق : 5 .

(4) الإنسان : 2 .

(5) البقرة : 39 .

(6) لقمان : 30 .

(7) هود : 61 .

(8) الرحمن : (1 – 4)

(9) القيامة : 36 .

(10) المؤمنون : 15 .

(11) الأحزاب : 72 .

(12) البقرة: 30 .

(13) الأنعام : 165 .

(14) الذاريات : 56 .

(15) المنافقون : 4 .

(16) البقرة : 74 .

(17) الأنفال : 55 .

(18) الأنفال : 22 ، 23 .

(19) الأعراف : 179 .

(20) محمد : 12 .

(21) الجمعة : 5 .

(22) الأعراف : 176 .

(23) الحج : 75 .

(24) الأنعام : 124 .

(25) الزخرف : 32 .

(26) الزخرف : 31 ، 32 .

(27) الملك : 2 .

(28) الفرقان : 20 .

(29) الأنعام : 53 .

(30) آل عمران : 81 .

(31) الشورى : 51 .

(32) الأعراف : 143 .

(33) آل عمران : 79 .

(34) البقرة : 151 .

(35) النساء : 172 .

(36) الإسرء : 15 .

(37) الأحزاب : 40 .

المصدر