من التيار الاسلامي لشعب مصر

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ٠١:٥٠، ٢٦ ديسمبر ٢٠١٠ بواسطة Rod (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
من التيار الإسلامي إلى شعب مصر

بقلم/ الأستاذ "مصطفى مشهور"

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(يوسف:108)


ما هو الهدف؟

"أوضح للقراء أن القصد من هذه التوجيهات تحت هذا العنوان هو تحقيق الالتحام الكامل، والتعاون التام بين التيار الإسلامي والشعب للنهوض بالوطن، والتعرف على الداء، وتشخيص الدواء، والتعاون في إقامة البناء على أساس سليم متين بإذن الله".

مصطفى مشهور


تقديم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين... وبعد.

فإنه ليسعدني أن أقدم إلى القراء توجيهاتٍ صادقةً من (التيار الإسلامي إلى شعب مصر) موجهةً من الأخ الداعية الحاج/ مصطفى مشهور، وهو غنيٌّ عن التعريف في حقل الدعوة الإسلامية وغيرها، وقد بين فيها الداء، ووصف الدواء.. وهذا من حق الأمة المسلمة على دعاتها،

وهو المعبر عنه في عرف الإسلام بالنصيحة التي قال فيها رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "الدين النصيحة. قلنا لمن يا رسول الله؟، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".

وانطلاقًا من قول إمام الدعوة في القرن العشرين، إذ يقول: "يتساءل كثير من الناس -من إخواننا الذين أحببناهم من كل قلوبنا، ووقفنا لخيرهم، والعمل لمصلحتهم الدنيوية والأخروية، وجودنا وأموالنا وأرواحنا، وفنينا في هذه الغاية – غاية إسعاد أمتنا وإخواننا

– أموالَنا وأنفسنا، وذهلنا في سبيلهم عن أبنائنا والحلائل. وكم أتمني أن يطلع هؤلاء الإخوان المتسائلون على شباب الإخوان المسلمين، وقد سهرت عيونهم والناس نيام، وشغلت نفوسهم والخليون هجع، وأكب أحدهم على مكتبه

- من العصر إلى منتصف الليل- عاملاً مجتهدًا ومفكرًا مجدًا، ولا يزال كذلك طوال شهره، حتى إذا ما انتهي الشهر جعل موردَه موردًا لجماعته، ونفقتَه نفقةً لدعوته، ومالَه خادمًا خادمًا لغايته.. ولسان حاله يقول لبني قومه الغافلين عن تضحيته: "لا أسألكم عليه أجرًا، إن أجري إلا على الله"؟! ومعاذَ الله أن نمن على أمتنا!!، فنحن منها ولها. وإنما نتوسل إليها بهذه النصيحة أن تفقه دعوتنا وتستجيب لندائنا". (رسالة: إلى أي شيء ندعو الناس؟).

من هذا المنطلق كانت -وما زالت- التوجيهات المفعمة بكل معاني الحب والوفاء؛ لكي يستيقظ هذا الشعب المسلم العريق، وأن يعرف دوره، وأن يدرك مهمته وغايته، وأن يتحمل المسئوليات التي كلفه الله بها والتي وضعها الحق سبحانه على عاتقه، حيث يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًاعَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾(الحج: 77 - 78)

توجيهات خالصة لوجه الله فيها بيان الطريق السوي الذي يجب على كل أمة راشدة أن تسلكه وأن تعيش فيه، وفوق هذا الطريق يجد الإنسان نفسه ويحس بطعم الحياة. فالإسلام دعوة جاءت لخير الأمم والشعوب جميعًا لا فرق بين أعجمي أو عربي أو شرقي أو غربي.

﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾(الفرقان:1).

ولهذا دعا بالقضاء على الفوارق العنصرية والجنسية، وأعلن -من أول يوم- الأخوةَ الإنسانيةَ فقال سبحانه:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾(النساء:1).

كما أعلن الإسلام أقوى معاني الحب والأخوة بين المؤمنين به والمنتسبين إليه؛ حتى جعل الأخوة عقدًا نافذًا وحقًا بين المؤمنين﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾(الحجرات: من الآية10).

وفي توجيهات الداعية الحاج/ مصطفى مشهور، الخير الكثير -من إحياء للعقيدة.. إلى الشعور بالمسئولية.. إلى تصحيح الخلل.. إلى الرجاء في عودة الناس إلى ربهم.. إلى بيان العلاج، وهو البدء بإصلاح النفس ثم دعوة غيره "أصلح نفسك وادع غيرك"، ثم بعد إصلاح أنفسنا نستطيع أن نشيد القاعدة الصلبة التي يقوم عليها بناء الإسلام...

وعندها يجئ الحق ويزهق الباطل﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾(سـبأ:49). ولقد أثري المؤلف الداعية الحاج / مصطفى مشهور، المكتبةَ الإسلاميةَ بالمؤلفات؛ التي تعين الدعاة، وتسدد العاملين على السير في هذه الطريق، وترشدهم إلى مسالكه،

وتكشف لهم عن المعوقات، وتحدد واجبات القيادة ومنزلة الجندية، وتبين مراحل الدعوة وزادها على الطريق، وتشير إلى القدوة الحسنة ومنزلتها في حياة الدعاة وأثرها الإيجابي على طلاب الحق وحملة المنهج الإلهي علي ظهر الأرض، نذكر من هذه المؤلفات على سبيل المثال:

1- طريق الدعوة.

2- زاد على الطريق.

3- تساؤلات على الطريق.

4- طريق الدعوة بين الأصالة والانحراف.

5- بين القيادة والجندية.

6- الجهاد هو السبيل.

7- الدعوة الفردية.

8- الحياة في محراب الصلاة.

9- مناجاة على طريق الدعوة.

10- قضية الظلم في ضوء الكتاب والسنة.

11- القدوة على طريق الدعوة.

12- التيار الإسلامي ودوره في البناء.

وننصح كلَ أخ -يعمل في حقل الدعوة- أن يحرص كل الحرص على قراءة هذه المؤلفات وأمثالها؛ لما فيها من صدق التوجيه، والحرص على أمانة التبليغ، والشمول لمعاني الإسلام.. وهي خلاصة تجارب عاشها صاحبها في هذا الميدان المليء بالعقابيل.

جزي الله الأستاذ المؤلف خيرًا عما قدم من زاد طيب ونصح سديد لأبنائه وإخوانه وتلاميذه.

هدانا الله جميعًا إلى الخير وجمعنا على طاعته؛ إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

القاهرة في 27 شعبان 1408 هـ 14 أبريل 1988م محمد عبد الله الخطيب


مقدمة

في جو الانتخابات لمجلس الشعب، والتي تم فيها التحالف بين الإخوان المسلمين وحزب العمل وحزب الأحرار، والتي رُفع فيها "شعار الإسلام هو الحل"، وما لمسناه من تجاوب الشعب المصري المتدين بطبعه مع هذا الشعار، وبعد نجاح ستين نائبًا من التحالف، منهم ستة وثلاثون من الإخوان، وذلك رغم ما تم من تدخل سافر للحيلولة دون النتيجة التي تعبر عن التمثيل الحقيقي للشعب.

في هذا الجو العام ومن منطلق شعور التيار الإسلامي

-وفي مقدمته الإخوان المسلمون

- وجدت من المناسب أن أكتب هذه السلسلة من المقالات في جريدة "الشعب" والتي جُمعت في هذا الكتيب، أردت أن أوضح لأبناء وطننا العزيز مصر أن التيار الإسلامي رغم ما تعرض له من نظم الحكم المتتالية

-من اضطهاد وإيذاء وتعذيب وتشريد وقتل

- سيظل يحمل لهذا الوطن كلَ الحب والإخلاص على أساس سليم من شرع الله الحنيف الذي يضمن له أمنَه واستقرارَه وازدهارَه ومكانتَه.

وأردت كذلك أن يتجاوب معنا جماهير شعبنا في التخلي عن كل المبادئ الأرضية، التي لم نذق من تطبيقها إلا كلَ شقاء وتدهور، وأن يزداد الشعب قناعة بأن الإسلام هو الحل، والحل الوحيد لكل مشاكلنا، وأن التغيير يبدأ من أنفسنا؛ لكي نتفق مع سنة الله في التغيير ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (سورة الرعد:11).

لابد من عودة إلى الله.. وأن نكف عن مبارزته بالمعاصي والكبائر.

ونريد من المواطنين ألا يخدعهم الكلام، وأن يحاسبوا المسئولين، وأن يحسنوا اختيار ممثليهم، وأن يستشعروا مسئوليتهم أمام الله ومسئوليتهم عن الأجيال التالية؛ بأن يهيئوا لهم مستقبلاً سعيدًا آمنًا رخاءً.

نريد أن يتلاحم أبناء الوطن، وأن يتكاتفوا للقيام بالبناء، وأن ينبذوا الفرقة والخلاف. وأن يكونوا على حذر من أعداء الوطن وأعداء الإسلام وعملائهم.

نريد أن يستشعر الجميع الخطر المحدق بالوطن لو استمر الحال على ما هو عليه!! فلا بد من تدارك الأمور وإحياء روح التعاون والحب والوحدة؛ وبالله التوفيق...

مصطفى مشهور


تعريف وعاطفة

لعله من المفيد أن نلقيَ ضوءًا على مدلول عبارة "التيار الإسلامي"؛ حتى تتضح حقيقته ولا يتأولها أحد بغير مفهومها. كأن يقول البعض: هل يعني ذلك أن غير التيار الإسلامي ليسوا مسلمين؟ إلى غير ذلك من فهم خاطئ...

نحن لا ننفي عن مسلم إسلامه مهما كان عاصيًا إلا أن ينكر معلومًا من الدين بالضرورة، أو يأتي عملاً لا يحتمل تأويلاً إلا الكفر..

ومع ذلك تتاح له فرصة الاستتابة، ولكننا نميز أفرادَ التيارالإسلامي عن باقي المسلمين بأنهم انتبهوا وعرفوا معني انتمائهم للإسلام، وما يمليه عليهم الإسلام، من واجبات نحو أنفسهم، وأهلهم، ووطنهم، وأمتهم الإسلامية، فالتقوا وتعارفوا وتعاونوا معًا على تحقيق هذه الواجبات...، وصاروا يدعون باقي المسلمين، أن هلمّوا إلينا؛ لتتضافر الجهود لمواجهة الكيد والحرب من أعداء الله ضد الإسلام والمسلمين.

وقد أضاءَ الطريقَ أمام التيار الإسلامي أئمةُُ فضلاءُ من القرون الأولى، ثم تتبعهم أئمة اهتدوا بهديهم، أمثال: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وابن باديس، وحسن البنا، والمودودي،...، ووفق الله الإمام حسن البنا في وضع الأسس والمقومات التي يقوم عليها العمل الإسلامي لتحقيق أهم هدف يجب على المسلمين جميعًا تحقيقه، وهو التمكين لدين الله في الأرض،وإقامة دولة الإسلام العالمية وعلى رأسها الخلافة الإسلامية.

فكان الإخوان المسلمون في مصر هم الطلائع الأولى للتيار الإسلامي في مصر وخارجها.

ونقول: إن التيار الإسلامي الذي نعنيه ليس قاصرًا على الإخوان، ولكن يتسع لكل مسلم

-ذكرًا كان أو أنثى

- عرف معنى انتمائه للإسلام، وتعرف على ما يطلبه منه إسلامه من واجبات، فدفعه ذلك إلى الحركة والعمل مع العاملين الصادقين لتحقيق مبادئ الإسلام، أيًا كان موقع هذا الفرد.

إن التيار الإسلامي الذي نعنيه يتميز بفهمه الشامل النقي للإسلام كما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم

- دون اجتزاء أو خطأ أو انحراف، ويطبقونه في اعتدال دون تطرف أو غلو، ودون تفريط كذلك.

إن التيار الإسلامي الذي نعنيه هو الذي يلتزم بتعاليم الإسلام في كل شئون الحياة العامة والخاصةً، ويسعي إلى تحقيق أهدافه بالحكمة والموعظة الحسنة، دون تهور أو فتور، ودون عنف أو ضعف، مقتديًا في ذلك برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الأكرمين.

إن أفراد التيار الإسلامي لا يضفون على أنفسهم هالة معينة، ولم ينسبوا لأنفسهم تفويضًا إلهيًا كما يفتري البعض عليهم، ولم يعتبروا أنفسهم "جماعة المسلمين" ولكن جماعة من المسلمين، ويمتنعون عن تكفير المسلم برأي أو معصية.

التيار الإسلامي ليس قاصرًا على جماعة بذاتها أو أفراد بذواتهم، بل إنه يضم في كل لحظة كلَ مسلم يصحو من غفوته، ويعرف حقيقة رسالته في هذه الحياة، وما يجب أن يؤديه للإسلام والمسلمين من تضحية وجهاد، فهو تيار متجدد متنامي.

إن كلمة "تيار" تفيد الحركة والتدفق، وكلمة "إسلامي" تفيد الوجهة والهدف؛ فهدف "التيار الإسلامي" هو الإسلام، ولا شيء غير الإسلام، فلا أغراض شخصية ولا مطامع دنيوية بل تضحية وفداء!!

إن التيار الإسلامي هادئ ومتواضع، ولكنه قوى وعزيز؛ يستمد قوته وعزته من الله القوي العزيز القهار.

إن التيار الإسلامي يهتم بقضية الإيمان، فالإيمان هو الذي يضيء الطريق، ويوضح الخير من الشر والنافع من الضار، فهو بذلك تيار مبصر.

والإيمان هو الذي يفجر طاقات العمل والحركة والتضحية والجهاد، ويضبط هذه الطاقات، ويصرفها في الوجهة المناسبة وفي الوقت المناسب، فهو بذلك تيار متجدد الطاقة ويتحكم فيها بعيدًا عن الارتجال وردود الأفعال.

إن معظم أفراد التيار الإسلامي تمرسوا على الصبر والتحمل، واكتسبوا خبرة وتجربة وحكمة يستفيد منها الشباب من أفراد التيار الإسلامي، فتمتزج الحكمة والتجربة بالحيوية والحماس؛ فيحدث الاعتدال في السير دون التعجل والاندفاع غير المدروس، ودون السير البطيء الذي يؤدي إلى التخلف.

إن بوابةَ التيار الإسلامي متسعة ومفتوحة لكل راغب في العلم لتحقيق أهداف الإسلام ومبادئه وتحكيم شريعته وإقامة دولته، وليست مغلقةً في وجه غير المسلم الذي يقتنع أن هيمنة شريعة الإسلام على حياة الناس تحقق لهم الأمن والعدل والحياة المعيشية الرغيدة بصورة أفضلَ ألف مرة مما عليه الحال الآن، وقد سبق أن انتقل كثير من غير المسلمين من أوطانهم إلى دولة الإسلام ليهنئوا بحياة فاضلة آمنة في ظل شريعة الإسلام.

إن التيار الإسلامي من صميم شعب مصر ومن أبناء مصر وليس دخيلاً عليه، وما هو بالجسم الغريب على شعب مصر، إن جزءًا من هذا الشعب يفرح لفرحه ويألم لألمه يشعر بكل أحاسيسه، ولا نغالي إذا قلنا:

إنه الأشد حساسيةً والأكثر انفعالاً بكل ما يخص شعبَ مصر من آمال وآلام، والأسرع تلبيةً لكل عمل أو جهد أو تضحية لإسعاد هذا الشعب وراحته. هذه الاستجابة غرسها الإسلام وعقيدته في أفراد التيار الإسلامي، فصاروا يسارعون فيها طاعةً لله وأداءً للواجب الديني، وليس مجرد واجب وطني.

إن أفراد التيار الإسلامي يقدرون -أكثر من غيرهم- مكانةَ مصر وشعب مصر ودروه التاريخي ومواقفه الإسلامية الرائعة ضد الصليبيين والتتار وغيرهم، فعرفوا لماذا ركز أعداء الإسلام على مصر وعلى شعب مصر بكل ألوان الغزو والكيد؟!، ولماذا حرص أعداء الإسلام وعملاؤهم على إيجاد فجوة بين شعب مصر وبين العاملين للإسلام بإلصاق التهم الباطلة للتيار الإسلامي،

وتصوير العاملين في حقل الدعوة الإسلامية وكأنهم أعداء الشعب ويريدون الدمار والتخلف؟!، ويعلم الله أن العكس هو الصحيح، وأن هؤلاء العملاء هم الذين يسيئون لشعب مصر وينحدرون به إلى الهاوية.

وشاء الله أن تتاح الفرصة بعض الشيء لتتضح للشعب الحقيقة، ويكشف الزيف والتهم الباطلة التي ألصقت

-زورًا وبهتانًا- على العاملين الصادقين للإسلام، ومدى الظلم الذي وقع عليهم دون جريرة ولا ذنب إلا أن يقولوا: ربنا الله، وأن شريعة الله لابد أن تحكم لكي يسعد بها الناس.

إن التيار الإسلامي يحمد لشعب مصر هذه المشاعر وهذه العاطفة الجياشة التي لمسها في الانتخابات الأخيرة، ويحمد الله أن بدأت القناعة تأخذ مكانتها في نفوس أبناء الشعب بأن الإسلام هو الحل، وأنه لا خلاص ولا إنقاذ مما نعانيه إلا بمنهاج رب العالمين الخالق العليم بخلقه الرءوف الرحيم بهم.

إن أفراد التيار الإسلامي الذين تعرضوا للسجن والتعذيب والقتل لا لشيء إلا أنهم يريدون الخير لهذا الشعب، ويقولون كلمة الحق للطغاة، ولا يخافون لومة لائم، ولم يقبل الطغاة أن يكون من بين الشعب من يقول لهم:

"لا"، وأطلق الطغاة علي أبناء التيار الإسلامي أنهم أعداء الشعب، وعلم الله أنهم أخلص الناس لهذا الشعب وأحب أبناء الشعب لهذا الشعب، ولم نكن نصدق أبدًا -ونحن في السجون وتحت سياط التعذيب

- أن أفرادًا من الشعب يحملون لنا كراهية أو بغضاء رغم خداع أجهزة الإعلام!!، وقد أكد هذا الإحساسَ ما لمسناه في الانتخابات الأخيرة من رصيد مُدخر في أعماق هذا الشعب نحو عقيدته ونحو العاملين الصادقين لهذه العقيدة.

إن التيار الإسلامي يتوجه بكل الصدق والإخلاص إلى الشعب المصري لتوضيح المواقف وتصحيح المفاهيم، وبقصد توحيد الوجهة وتضافر الجهود لإعادة بناء هذا الوطن العزيز، والتخلص من كل صور المعاناة التي يلاقيها شعبنا؛

ولكي نبني مستقبلاً طيبًا عزيزًا هنيئًا للأجيال التالية، ولتستعيد مصر مكانتها السامقة بين الدول، وتحتل مكان الريادة بين دول العالم الإسلامي، وليؤدي الأزهر الشريف دوره المشرق المنير-كما كان وأفضل-، ولتصدر مصر الخير والخيرات كعهدها السابق بدلاً من أن تستورد،

ولتقدم العلم والخبرة لأشقائها من الأقطار العربية والإسلامية، ولتفتح أبوابها لطلاب العلم من كل الأقطار، ولتقف بجانب المظلومين والمعتدي عليهم من الأقليات الإسلامية في أي مكان.

هذا ما يريد التيار الإسلامي أن يوضحه لشعب مصر، فليستمع الشعب المصري لصوت التيار الإسلامي، وليلب نداءه، ولنسارع جميعًا إلي فعل الخيرات مستعينين بالله، وفي ظل الحب والأخوة والعاطفة بين أبناء الشعب جميعًا،

متخلصين من أسباب الفرقة والخلاف والنفاق والمهاترات، فالأمر لا يحتمل، والوقت لا يمهل، فإلى الأمام دائمًا، وإلى العمل الجاد، وبالله التوفيق.


حول تشخيص الداء

بكل معاني الحب والفداء يتوجه التيار الإسلامي إلى الشعب المصري يدعوه إلى التفهم والتشاور حول ما يحيط بوطننا العزيز من مؤامرات وما أصابه من علل وأمراض،

فإنه لعزيزعلى أفراد التيار الإسلامي -جد عزيز- بأن يروا هذا الحال ثم يستسلموا للذل أو يرضوا بالهوان أو يستكينوا لليأس،

فهم يريدون أن يعلم شعب مصر أنه أحب إليهم من أنفسهم، وأنه حبيب إلى هذه النفوس أن تذهب فداءً لعزة هذا الشعب إن كان فيها الغَناء.

ويقرر أفراد التيار الإسلامي أنهم يعملون للناس في سبيل الله أكثر مما يعملون لأنفسهم، وأنهم للشعب المصري الحبيب، ولن يكونوا عليه يومًا من الأيام.

ما أحوجنا أن نستشعر أن هذا الوطن وطننا وأننا مسئولون عنه وعن مستقبل أبنائنا والأجيال التالية، ومن خيانة الأمانة أن نرى العلل والأمراض تفتك به ثم نقف مكتوفي الأيدي، أو موقف اللامبالاة وكأنه أمر لا يهمنا،

أو أن نترك فئة من الناس تتصرف في مقدرات هذا الوطن كما تشاء دون رقيب من الله ودون حرص على مصلحة إلا مصالحهم الشخصية. علينا أن نتعرف معًا على الداء،

ونعلم متى وكيف أصيب مجتمعنا بتلك العلل والأمراض، ثم نشخص الداء ونصف الدواء وطريق العلاج وما يحتاجه من تخطيط وعزم وصبر كي ننهض من هذه الكبوة ونصحو من تلك الغفوة، وتعود لشعبنا عزته وكرامته ومكانته.

لقد كان لشعب مصر مواقفُُ بطوليةُُ رائعةُُ ضد الحملات الصليبية وضد التتار وغيرهم، فركز أعداء الإسلام كيدهم وحربهم ضد مصر وشعب مصر فكانت الحملة الفرنسية ثم الاحتلال البريطاني، وما صاحب كلاً منهما من غزو فكري وانحلالي فاسد،

وتنحية لشريعة الله وإحلال القوانين الوضعية محلها، وأنشأوا لذلك كليات الحقوق

– ومدرسة الحقوق سابقًا – وطوال مدة الاحتلال العسكري يتم تنفيذ هذا المخطط وبعد الجلاء قامت أنظمة حاكمة بمواصلة تنفيذ المخطط بأسوأ مما كان يتم أثناء الاحتلال.

وأنقل هنا بعض ما ذكره الإمام الشهيد حسن البنا في وصفه لما كان عليه وطننا من خير واكتفاء ذاتي وقيم ومثل، ثم ما أحدثه الاحتلال والغزو الأوروبي من آثار مدمرة فيقول:

"إننا في أخصب بقاع الأرض وأعذبها ماء، وأعدلها هواء، وأيسرها رزقًا، وأكثرها خيرًا،

وأوسطها دارًا، وأقدمها مدينةًً وحضارةً وعلمًا ومعرفةً، وأحفلها بآثار العمران الروحي والمادي والعملي والفني، وفي بلدنا المواد الأولية والخامات الصناعية والخيرات الزراعية، وكل ما تحتاج إليه أمة قوية تريد أن تستغني بنفسها،

وأن تسوق الخير إلى غيرها، وما من أجنبي هبط هذا البلد الأمين إلا صحّ بعد مرض واغتني بعد فاقة وعز بعد ذلة، وأترف بعد البؤس والشقاء ...

فماذا أفاد المصريون أنفسهم من ذلك كله؟ لا شيء، وهل ينتشر الفقر والجهل والمرض والشغف في بلد متمدن كما ينتشر في مصر الغنية مهد الحضارة والعلوم، وزعيمة أقطار الشرق غير مدافعة؟".

وبعد تفاصيل حول سوء الأوضاع وسوء أحوال الفلاحين والعمال، وتحكم شركات الاحتكار التي وضعت يدها على مرافق الحياة والمنافع العامة. وانتشار الأمراض وكذا انتشار الأمية،

وانحطاط الأخلاق وانتشار الجرائم، مع عدم الإبقاء على قوانا الروحية وعزتنا الإسلامية، يقول رضى الله عنه:

"أما سبب ذلك ففساد النظام الاجتماعي في مصر فسادًا لابد له من علاج، فقد غزتنا أوروبا منذ مائة سنة بجيوشها السياسية وجيوشها العسكرية وقوانينها ونظمها ومدارسها ولغتها وعلومها وفنونها، وإلى جانب ذلك بخمرها ونسائها ومتعها وترفها وعاداتها وتقاليدها،

ووجدت منا صدورًا رحبة وأدوات طيعة تقبل كل ما يُعرض عليها.

ولقد أُعجبنا نحن بذلك كله، ولم نقف عند حد الانتفاع بما يفيد من علم ومعرفة ونظام وقوة ومنعة وعزة واستعلاء، بل كنا عند حسن ظن الغاصبين بنا، فأسلمنا لهم قيادنا وأهملنا من أجلهم ديننا، وقدموا لنا الضار من بضاعتهم فأقبلنا عليه،

وحجبوا عنا النافع منها وغفلنا عنه، وزاد الطين بلة أن تفرقنا على الفتات شيعًا وأحزابًا يضرب بعضنا وجوه بعض، وينال بعضنا من بعض، لا نتبين هدفًا ولا نجتمع على منهاج".

"أما المسئول عن ذلك فالحاكم والمحكوم على السواء، الحاكم الذي لانت قناته للغامزين وسلُس قيادة الغاصبين، وعُني بنفسه أكثر مما عُني بقومه، حتى فشت في الإدارة المصرية أدواء عطلت فائدتها وجرّت على الناس بلاءها..

فالأنانية والرشوة والمحاباة والعجز التكاسل والتعقيد كلها صفات بارزة في الإدارة المصرية.

والمحكوم الذي رضي بالذل وغفل عن الواجب وخُدع بالباطل، وانقاد وراء الأهواء وفقد قوة الإيمان وقوة الجماعة، فأصبح نهب الناهبين وطعمة الطامعين".

هكذا نرى الإمام البنا يشرح حقيقة ما وصل إليه مجتمعنا ودور المحتلين في ذلك، ولكنه يحمّل الحاكم والمحكومين المسئولية، وذلك بضعف الحاكم ولين قناته

وانشغاله بنفسه، وكذلك المحكومين الذين رضوا بالذلة وبغفلتهم عن واجبهم، وانقيادهم وراء الأهواء وفقدهم لقوة الإيمان وقوة الوحدة.

فواجبنا اليوم أن نزداد معرفةً ودراسةً لأحوال مجتمعنا وكيف تطورت أحواله إلى هذا الانحدار، ثم نتحاور حول كيف نتدارك الأمر لننقذ وطننا من التردي إلى الهاوية.

ويزيدنا الإمام البنا تعريفًا ودراية بأصل الداء ومصدره فيقول:

"لقد عمل الأوربيون جاهدين على أن تغمر موجة هذه الحياة المادية بمظاهرها الفاسدة وجراثيمها القاتلة جميع البلاد الإسلامية، التي امتدت إليها أيديهم وأوقعها سوء الطالع تحت سلطانهم، مع حرصهم الشديد أن يحتجزوا دون هذه الأمم عناصر الصلاح والقوة من العلوم والمعارف والصناعات والنظم النافعة، وقد أحكموا خطة هذا الغزو الاجتماعي إحكامًا شديدًا، واستعانوا بدهائم السياسي وسلطانهم العسكري حتى تم لهم ما أرادوا،

أغروا كبار المسئولين بالاستدانة منهم والتعامل معهم وسهلوا عليهم ذلك وهونوه عليهم، واستطاعوا بذلك أن يكتسبوا حق التدخل الاقتصادي وأن يغرقوا البلاد برؤوس أموالهم ومصارفهم وشركاتهم،

وأن يديروا دولاب العمل الاقتصادي كما يريدون، وأن يستأثروا دون الأهلين بالأرباح الطائلة والثروات العظيمة، وتمكنوا بعد ذلك من أن يغيروا قواعد الحكم والقضاء والتعليم وأن يصبغوا النظم السياسة والتشريعية والثقافية بصيغتهم الخالصة في أقوى بلاد الإسلام.

وجلبوا إلى هذه الديار نسائهم الكاسيات العاريات وخمورهم ومسارحهم ومراقصهم ملاهيهم وقصصهم وجرائدهم ورواياتهم وخيالاتهم وعبثهم ومجونهم.

وأباحوا فيها من الجرائم ما لم يبيحوه في ديارهم، وزينوا هذه الدنيا الصاخبة العابثة التي تعج بالإثم وتطفح بالفجور في أعين البسطاء الأغرار من المسلمين، الأغنياء وذوي الرأي فيهم وأهل المكانة والسلطان،

ولم يكفهم هذا حتى أنشأوا المدارس والمعاهد العلمية والثقافية في عقر ديار الإسلام تقذف في نفوس أبنائه الشك والإلحاد، وتعلمهم كيف ينتقصون أنفسهم ويحتقرون دينهم ووطنهم، وينسلخون من تقاليدهم وعقائدهم ويقدسون كل ما هو غربي،

ويؤمنون بأن ما يصدر من الأوروبيين وحده هو المثل الأعلى في هذه الحياة، واحتوت هذه المدارس على أبناء الطبقة العليا وحدها وصارت وقفًا عليهم،

وأبناء هذه الطبقة هم العظماء والحكام ومن سيكون بيدهم بعد قليل مقاليد الأمور في هذه الأمم والشعوب. ومن لم يتم نضجه في هذه المعاهد الموضعية فإن في البعثات المتلاحقة ما يكفل لهم التمام، ونجح هذا الغزو الاجتماعي المنظم العنيف أعظم النجاح،

فهو غزو محبب إلى النفوس لاصق بالقلوب طويل العمر قوي الأثر، وهو لهذا أخطر من الغزو السياسي والعسكري بأضعاف الأضعاف".

ثم يقول: "ولقد استطاع خصوم الإسلام أن يخدعوا عقلاء المسلمين، وأن يضعوا ستارًا كثيفًا أمام أعين الغُيّر منهم بتصوير الإسلام نفسه تصويرًا قاصرًا في ضروب من العقائد والعبادات والأخلاق، إلى جانب مجموعة من الطقوس والخرافات والمظاهر الجوفاء،

وأعانهم على هذه الخديعة جهل المسلمين بحقيقة دينهم حتى استراح كثير منهم إلى هذا التصوير واطمأنوا إليه ورضوا به، وطال عليهم في ذلك الأمر حتى صار من العسير أن نُفهم أحدهم أن الإسلام نظامُُ اجتماعيُُّ كاملُُ يتناول كل شئون الحياة".

وهكذا كان من الضروري ونحن بصدد التعرف على العلل والأمراض التي أصابت مجتمعنا أن نذكر هذه النظرة العميقة الجامعة للإمام البنا حول أصل وأسباب هذا البلاء، ورغم أن هذا الكلام مر عليه حوالي أربعين عامًا،

ولكنه لا يزال واضحًا ونافعًا لكل من يريد أن يأخذ بأسباب علاج العلل والأمراض التي نعاني منها حاليًا، خاصةً وقد تضخمت بعض هذه العلل وأضيف إليها غيرها،

فها هي الديون وأرباحها تتضخم وتشكل عبئًا ثقيلاً على شعب مصر حاليًا ومستقبلاً، وها هي التبعية الذليلة لمن يتحكمون في توفير رغيف الخبز الذي لا يستغني عنه كل فم من هذه الملايين الخمسين. وها هي المخدرات بأنواعها تدمر أفراد الشعب وخاصةً الشباب الذي هو عدة المستقبل،

وهاهي السفارة الصهيونية تحتل مكانها في عاصمة مصر، وتقوم بدورها الذي لن تتخلى عنه من الإفساد والتجسس والتأثير المباشر وغير المباشر في المجالات المختلفة سياسية واجتماعية واقتصادية وتعليمية وغيرها؛ تنفيذًا للتطبيع الذي فرضته الاتفاقية المشئومة.

وهاهو التضخم النقدي المرتفع الذي ينعكس بانخفاض القيمة الشرائية لعملتنا المحلية. وهاهي القوانين الاستثنائية التي تقيد الحرية وعلى رأسها قانون الطوارئ مما يسم الحكم بأنه حكم دكتاتوري بوليسي.

وهاهو الاعتقال العشوائي وما يصحبه من إيذاء وتعذيب، وقد ظهر بأبشع صورة في عام 54 وعام 65 وعام 81، ثم هاهو يعاود هذه الأيام.

وهاهي البطالة ونتائجها السلبية المتعدد نتيجة سوء التخطيط عامة وسياسة التعليم خاصةً.

وهاهي جرائم السرقة والاختلاس ونهب المال العام والكسب غير المشروع أصبحت لا تخلو الجرائد اليومية من ذكر الكثير منها.

وهاهو القضاء يفقد مكانته ومنزله التي كان يعتز بها في العهد البائد، إذا بها تهب في العهد السائد.

وهاهو التزوير وتزييف إرادة الشعب يبرز بصورة لم تبرز من قبل ودون استحياء.

وهاهو الغش الجماعي في الامتحانات لأول مرة مقتديًا بالتزوير الجماعي في الانتخابات.

وهذا بالإضافة إلى صورة أخري من الأمراض والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، التي تلح علينا جميعًا بالمسارعة إلى حلها على أساس سليم ولن يكون ذلك على أساس من شرع الله.


الداء والدواء

أوضحنا فيما سبق للشعب المصري العزيز بصورة قاطعة الدلالة، أن مدنية المادة وحضارة المتع والشهوات التي غزت مجتمعاتنا مع الاحتلال العسكري كانت وراء ما أصابنا من علل وأمراض متنوعة وأزمات ومشاكل مختلفة،

وبينا كيف أن هذه الحضارة المادية قد انتصرت بوسائلها الفتاكة المختلفة في تلك الحرب الضروس على أرض الإسلام، وكان ميدانها نفوس المسلمين وأرواحهم وعقائدهم وعقولهم كما انتصرت في الميدان السياسي والعسكري، فمظاهر الحياة لا تتجزأ،

والقوة قوةُُ فيها جميعًا، والضعف ضعف فيها جميعًا كذلك﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية140).

ومن ذلك فقد ظلت مبادئ الإسلام قوية في ذاتها لأنها الحق، ولن تقوم الحياة الإنسانية كاملةً فاضلةً بغيرها، ولأنها من صنع الله وفي حفظه: ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (التوبة: من الآية32).

ولكن في ظل قاعدة لكل فعل رد فعل مضاد، فقد تنبهت المشاعر للتصدي للغزو السياسي والعسكري كذلك كان للغزو الاجتماعي ردُُ فعل كان له أثره في انتعاش الفكرة الإسلامية، ويوضح الإمام البنا هذا المعنى بأسلوبه السهل العميق فيقول:

"وكما كان للعدوان السياسي والعسكري أثره في تنبيه المشاعر القومية، كذلك كان لهذا الطغيان المادي أثره في انتعاش الفكرة الإسلامية،

فارتفعت الأصوات من كل مكان تطالب بالرجوع إلى الإسلام،

وتفهم أحكامه وتطبيق نظامه، ولا بد أن يأتي قريبًا ذلك اليوم الذي تندك فيه صرح هذه المدنية المادية على رؤوس أهلها، وحينئذ يشعرون بسعير الجوع الروحي تشتعل في قلوبهم وأرواحهم ولا يجدون الغذاء والشفاء والدواء إلا في هذا الكتاب الكريم:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ*.قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾".

وتعالوا معنا ننظر كيف يحلل الإمام البنا هذه الحضارة المادية التي انبهر بها الكثير من أبناء وطننا في حين أنها لم تحقق الراحة والسعادة لأهلها فيقول رضوان الله عليه: "حقًا لقد تقدم العلم وتقدم الفن وتقدم الفكر،

وتزايد المال، وتبرجت الدنيا، وأخذت الأرض زخرفها وازينت، وأترف الناس ونعموا، ولكن هل جلب شيء من هذا السعادة لهم؟

هل اطمأنت الجنوب في المضاجع؟ هل جفت الجفون من المدامع؟ هل حوربت الجريمة واستراح المجتمع من شرور المجرمين؟ هل استغني الفقراء وأشبعت الملايين التي ملأت الأرض وسرت مسرى الهواء العزاء إلى المحزونين؟ هل تذوقت الشعوب طعم الراحة والهدوء وأمنت عدوان المعتدين وظلم الظالمين؟

لا شيء من هذا أيها الناس، فما فضل هذه الحضارة –إذن- على غيرها من الحضارات؟ وهل هذا فحسب؟ ألسنا نرى هذه النظم والتعالى والفلسفات

– حتى في العلوم والأرقام – يحطم بعضها بعضًا ويقضى بعضها على بعض، ويرجع الناس بعد طول التجربة وعظيم التضحيات فيها بمرارة الفشل وخيبة الأمل وألم الحرمان؟".

ثم يتعرض إلى الموقف الواجب علينا إزاء هذه الموجة المادية الطاغية وضرورة التصدي لها وإزالة آثارها بكل العزم والقوة والأمل فيقول: "إن مهمتنا أن نقف في وجه هذه الموجة الطاغية من مدنية المادة وحضارة المتع والشهوات التي جرفت الشعوب الإسلامية، فأبعدتها عن زعامة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهداية القرآن،

وحرمت العالم من أنوار هديها، أخرت تقدمه مئات السنين، حتى تنحسر عن أرضنا ويبرأ من بلائها قومنا.

ولسنا واقفين عن هذا الحد بل سنلاحقها في أرضها ونغزوها في عقر دارها، حتى يهتف العالم كله باسم النبي - صلى الله عليه وسلم-،

وتؤمن الدنيا كلها بتعاليم القرآن، وينتشر ظل الإسلام الوارف على الأرض، وحينئذ يتحقق للمسلم ما ينشده، فلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (الروم:4- 5).

هكذا بهذه البساطة والإيجاز مع عمق النظرة وسلاسة الأسلوب يوضح لنا الإمام البنا زيف هذه الحضارة المادية التي غزت بلادنا وتركت آثارها المدمرة،

وكيف أنها أشقت أهلها وأشقتنا كذلك، حيث أبعدتنا عن منابع السعادة والراحة والأمن والاطمئنان وعن النور الإلهي والهدي القرآني وزعامة النبي -صلى الله عليه وسلم-،

وأوضح أن الإسلام هو الحل لكل هذه المشاكل التي عمت البشرية. ونراه يحدد مهمة العاملين للإسلام إزاء هذه الموجة المادية في أن يحسروها عن أرضنا وأن يغزوها في عقر دارها، ولا شك أن هذه روح عالية واطمئنان أن نور الحق حينما يحمله المؤمنون سيزهق الله به الباطل في أي مكان مهما انتفش.

وعلى ضوء ذلك فإن التيار الإسلامي يطلب من شعب مصر أن يجدد علاقته مع ربه وأن يجدد الثقة بدينه وأنه الدين الحق المقبول عند الله، وبالشريعة السمحة العادلة التي لا يعدلها شيء من قوانين البشر.

نريد من شعب مصر أن ينزع من قلبه كل آثار الوهن والضعف، وأي شعور باليأس وأن يملأ الأمل كل قلب والشعور بالعزة والقوة، وأن ينفض أفراد الشعب غبار النوم والكسل، وينشغلوا بقضية بناء هذا الوطن.

نريد أن نقف جميعًا حراسًا أمناء لهذا الوطن نحميه من كل من يريد به شرًا سواءً كان من أعدائه أومن عملائهم.

وحول هذه المعاني يقول الإمام الشهيد البنا:

"إن من واجبنا -وفي يدنا شعلة النور وقارورة الدواء- أن نتقدم لنصلح أنفسنا وندعو غيرنا، فإن نجحنا فذاك وإلا فحسبنا أن نكون قد بلغنا الرسالة وأدينا الأمانة، وأردنا الخير للناس، ولا يصح أبدًا أن نحتقر أنفسنا فحسب الذين يحملون الرسالات ويقومون بالدعوات من عوامل النجاح،

أن يكونوا بها مؤمنين ولها مخلصين وفي سبيلها مجاهدين، وأن يكون الزمن ينتظرها والعالم يترقبها، فهل من مجيب ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾(سـبأ:46).

فالتيار الإسلامي يريد من أفراد شعب مصر أن ينزعوا من قلوبهم أي اعتقاد بصلاح النظم الأرضية وأن يتحقق عندهم اليقين بفشلها وإفلاسها، وأنه ليس أمامنا إلا النظام الإسلامي بتعاليمه وأحكامه. فقد آمنا بهذا الإسلام الحنيف دينًا ودولة، واعتبرنا مصر دولة إسلامية بل هي زعيمة دول الإسلام، وهذا الشعب يدين بهذا الدين الحنيف،

والأقلية غير المسلمة من أبناء هذا الوطن تعلم تمام العلم كيف تجد الطمأنينة والأمن والعدالة والمساواة التام في كل تعاليمه وأحكامه. هذا الذي يقوله كتابه﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ

الْمُقْسِطِينَ﴾(الممتحنة:8) والكلام في هذا المعنى مفروغ منه، وهذا التاريخ الطويل العريض للصلة الطيبة الكريمة بين أبناء هذا الوطن جميعًا – مسلمين وغير مسلمين – يكفينا مؤونة الإفاضة والإسراف، فإن من الجميل حقًا أن نسجل لهؤلاء المواطنين أنهم يقدرون هذه المعاني في كل المناسبات، ويعتبرون الإسلام من معاني قوميتهم وإن لم تكن أحكامه وتعاليمه من عقيدتهم.

ونريد أن نؤكد للشعب المصري أن التيار الإسلامي -الذي سبق تعريفنا له- لم ولن يكون بإذن الله موضع اتهام بما يسمونه الفتنة الطائفية، بل إنه حريص كل الحرص على الوحدة الوطنية وعلى تحقيق الأمن والاستقرار لهذا الوطن العزيز، ولكن ماذا نقول للأقلام المأجورة؟ نسأل الله أن يهديها وأن يسخرها لصالح هذا الوطن.

نريد من شعب مصر أن يكون على بصيرة ومعرفة دقيقة بمن يريدون له الخير والأمن والسعادة والرقي من غيرهم، الذين يريدون مصالحهم الشخصية ولو كانت على حساب أمن وسعادة ورقي الشعب، ولو كانوا في مواقع المسئولية ويظن الناس أنهم يسهرون على خدمة الشعب.

إن تحديد هذه النوعيات وتحديد المواقف معهم أمر ضروري حتى لا تلتبس الأمور ويختلط الحق بالباطل.

لقد تعرض وطننا العزيز مصر إلى محاولات مريرة لتطبيق بعض المبادئ الأرضية كالرأسمالية والاشتراكية والقومية وغيرها، وقاسى ولا يزال يقاسي من النتائج السيئة لتلك المحاولات، وسواء كان فرض تطبيق هذه المبادئ على شعبنا تنفيذًا لمخطط الأعداء لإبعادنا عن ديننا وشريعتنا، أو كان نتيجة انهيار حكامنا المغلبين بهذه المبادئ وظنهم أن فيها صلاح بلادنا،

فقد أثبت الواقع التطبيقي خطأ هذا الظن وأوصلنا إلى الشقاء والضياع والدمار والضعف الذي دفعنا إلى التبعية وفقدان عزتنا وكرامتنا واستقلال قراراتنا.

وصار الكثير من أبناء هذا الشعب المخلصين في حيرة حول كيفية الخروج من هذا الأزمة والنجاة من الانحدار إلى الهاوية،

بدأ اليأس يداخل نفوس الكثيرين من أبناء هذا الوطن لكثرة العلل وعدم سلوك الطريق الصحيح الذي يؤدي إلى الشفاء والتخلص من هذه العلل والأمراض،

بل على العكس نرى المسئولين يحاربون من بيدهم قارورة الدواء من الدعاة المخلصين المطالبين بتطبيق شريعة الله، وإلغاء كل المنكرات والكبائر التي تجلب علينا سخط الله ومحق البركة كالربا والخمر والميسر وغيرها من المعاصي والآثام.

هذا هو الدواء ولا دواء غيره؛ لأنه من عند الله العليم الخبير اللطيف بخلقه﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾(الملك:14).

نريد من أفراد الشعب أن يقتنعوا أولاً بأن هذا هو الدواء الوحيد الذي يرجى من روائه الشفاء والنجاة وأن يطالبوا المسئولين بكل الإصرار بأن يعدلوا عن هذا التخبط بين المبادئ الأرضية التي تعلن كل يوم فشلها وإفلاسها، وليلجأوا إلى العلاج، إلى شريعة الله العادلة.

نريد من الشعب أن يطالب المسئولين بعدم التضييق على المواطنين المخلصين الذين يتحرقون شوقًا لبناء وطنهم على أساس من شرع الله، وأن تُتاح لهم فرص التحرك وتوضيح الحل الإسلامي للرأي العام، والقيام بالمشروعات الناجحة للإنتاج وتحقيق الاكتفاء الذاتي.

نريد من شعب مصر أن تكون له وقفات مع نوابه في مجلس الشعب ويطالبونهم بتحقيق هذه المطالب ويتابعون ذلك معهم ويحاسبونهم على حسن تمثيلهم في مجلس الشعب وألا يخونوا أمانة هذا التمثيل. ﴿قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد﴾

لقد أتى على بلادنا الإسلامية حين من الدهر زحف عليها ظلام من الغرب ومن الشرق، وكان نور الإيمان قد خفت في قلوب الكثير من المسلمين، وزيّن عملاء الغرب والشرق هذا الظلام وقدموه على أنه النور والرقي والحضارة،

وفي المقابل صوروا إسلامنا الدين الحق على أنه التخلف والرجعية. وانبهر الكثيرون بهذا الخداع، وقيل يومئذ عن باريس إنها مدينة النور،

تلك المدينة التي اشتهرت بالإباحية والتبرج والانحلال، وهكذا انقلبت الموازين وعميت القلوب التي في الصدور وغفل الناس عن مصدر النور الحقيقي، الذي ظهر في مكة المكرمة واكتمل في المدينة المنورة، إن نور الوحي المتمثل في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

وأثناء فترة الظلام التي لا تزال ممتدة أُصيبت مجتمعاتنا بأنواع شتى من العلل والأمراض الفتاكة، وسبق أن أوضح لنا الإمام البنا شيئًا من تلك العلل والأمراض وكيف صارت بلادنا ضحية تجارب مريرة لنظم ومبادئ أرضية من صنع البشر العاجز القائمة على فلسفة مادية أو إلحادية.

ولكن رغم هذا الظلام شاء الله أن ترتفع الأصوات من جديد بالإسلام دينًا ودولة ومنهاجًًا كاملاً للحياة، وطالبت تلك الأصوات وما تزال تطالب برفض كل هذا المبادئ الوضعية التي تعلن كل يوم فشلها وإفلاسها في إسعاد الناس، والتي أشقت من طبقوها حتى في البلاد التي نشأت فيها.

ولقد قامت أجهزة الإعلام في بلادنا الإسلامية بالدعاية لهذا المبادئ وتقديمها للشعوب على أنها المنقذة لهم مما يعانونه من مشاق. وساندت دول عظمى هذه المبادئ والنظم الحاكمة التي تطبقها في بلادنا.

وكلما نادى أهل الحق بدعوة الحق والعود لهذا الدين الحق عقيدة وعبادة وشريعة، قامت النظم الحاكمة المتسلطة بكل الوسائل لتخفت هذا الصوت وتقضي عليه، ولكن أنى لهم ذلك، لقد ظنوه صوت البشر الداعين إليه،

ولكنه صوت الحق خالق البشر صوت الله المهيمن على كل من في هذا الكون﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ (الأعراف: من الآية54).

فباءت كل محاولات إخفات صوت الحق بالفشل وأخذ يعلو ويرتفع رويدًا رويدًا وأخذ صوت الباطل يتوارى وينحسر وتمجه الآذان ويرفض العقلاء المخلصون، وصدق الله العظيم﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾(الاسراء:81)،﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾(سـبأ:49)،

﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾(الانبياء: من الآية18) ظهر ذلك واضحًا في الانتخابات الأخيرة حينما ارتفع شعار(الإسلام هو الحل) وانزوى بجواره غيره من الشعارات الأرضية.

نعم أيها الشعب المصري الكريم جاء الحق بقوته وجاء باستعلائه وهيمنته،﴿وما يبدئ الباطل وما يعيد﴾ نعم سينتهي أمر الباطل بإذن الله إن عاجلاً أو آجلاً، ومهما يقع من غلبة مادية للباطل في بعض الأحوال والظروف، إلا أنها ليست غلبةً على الحق إنما هي غلبة على المنتمين إلى الحق. غلبة الناس لا المبادئ، وهذه موقوتة ثم تزول.

أيها الشعب المصري.. إن المؤمنين بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعد الله بنصرة الحق، فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حينًا من الدهر عرفوا أنها الفتنة وأدركوا أنه الابتلاء، وأحسوا أن ربهم يربيهم لأن فيهم ضعفًا أو نقصًا،

وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر، وأن يجعلهم ستار القدرة، فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف. وكلما سارعوا إلى العلاج قصر الله عليهم فترة الابتلاء وحقق على أيديهم ما يشاء، أما العاقبة فهي مقررة﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق﴾.

إننا لا ننكر أن المبادئ والنظم الأرضية ليست خالية من بعض الجوانب النافعة، ولكنها يسيرة ولا يكاد يظهر أثرها النافع بجانب ما تثمره هذه المبادئ الأرضية من آثار مدمرة، سبق أن أشرنا غليها بل قاسيناها ولا زلنا نقاسيها.

إن التيار الإسلامي يتوجه إلى الشعب يدعوه إلى الالتفاف حول شعار(الإسلام هو الحل) والمطالبة بتطبيق الشريعة.

ننادي بكل الصدق والإخلاص أن انفضوا أيديكم من هذه المبادئ والشرائع الأرضية العاجزة القاصرة، وأن ارجعوا إلى دينكم الحق وإلى شريعته السمحة العادلة المنقذة فهي الدواء الوحيد الناجح، إننا نطلب من شعب مصر أن يؤمن بهذه القضية،

وأن يقتنع تمام الاقتناع بصدق هذا الصوت وإخلاص أصحابه وأنهم أحرص الناس لتحقيق الخير لهذا الوطن وإسعاد أبنائه وأجياله التالية.

التيار الإسلامي يريد من أفراد شعب مصر أن يضعوا أيديَهم في أيدي أفراد التيار الإسلامي، وكلهم ثقةُُ واطمئنانُُ أن هذا المنهاج الرباني هو وحده الدواء لكل الأدواء والمنقذ من كل المتاعب والآلام.

إنه المنهاج الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأنه من عند الله الحق الذي سيقذف به الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.

تعالى أيها الشعب الكريم نؤمن معًا أن المستقبل لهذا الدين الحق، وأن شريعته هي التي ستهيمن على حياة الناس لأنهم لن يجدوا النجاة والإنقاذ إلا بها.

نحن نعلم أن شعوبنا الإسلامية وقعت تحت تأثير دعايات خادعة لتلك المبادئ الأرضية الزائفة، والأمر يحتاج إلى بعض الوقت وبعض الجهد من قبل الشعب ومن قبل الداعين إلى الله حتى تزول كل آثار هذه الدعاية الكاذبة لتلك المبادئ من عقول الناس،

وتصفو القلوب من كل شائبة لتستقل وتتقبل الحق المتمثل في هذا الشرع الحكيم. ولن يطول بنا الوقت كثيرًا فقد بدت البشائر واضحة من أبناء الشعب عندما رُفع شعار(الإسلام هو الحل) فلمسنا تجاوبًا كبيرًا وقويًا ومطمئنًا، والأمل كبير في أن يزداد هذا التجاوب ليعم جميع أبناء شعب مصر.

أيها الشعب المصري الكريم،(اعلم أن القوة أجمل ما تكون مع الحق والضعف أقبح ما يكون أمام الباطل)، وشعب مصر شعب أبي كريم لا نريد له أن يضعف أمام الباطل وزحفه وانتفاشه، والمطلوب أن نتخلص من أي شعور بالهزيمة،

فدولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، فمهما طال ليل الظلم والظلام فسوف يبزغ فجر، وإشراق يبدد الظلم والظلام، وحينئذ ستتبدل الصور ويتوارى المنافقون ولا يبقى حول الحاكم غير الصادقين المخلصين،

وتعلو مصلحة الوطن على مصالح الأفراد المنتفعين. ويتبدد اليأس ويبعث الأمل في المستقبل ويستعيد أفراد الشعب الشعور بالعزة بعد الذل، والكرامة بعد الهوان، والإيجابية بدل السلبية، وتنطلق المواهب في بناء الوطن بعد الشعور باللامبالاة، وينحسر الظلم وتلفيق القضايا وتأخذ العدالة مجراها وتحترم أحكام القضاء،

ويشعر المواطنون بالأمن والطمأنينة.

نريد من الشعب المصري أن ينتصر كل فرد من أفراده على أي لون من ألوان الهزيمة النفسية فهي أخطر أنواع الهزائم. لذلك نرى كيف أن الله تعالى يتوجه إلى المسلمين بعد هزيمة غزوة أحد ليزيل آثار الهزيمة النفسية فيقول سبحانه:﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾(آل عمران:139-141)

وحول تهيئة النفوس وإعدادها للنهوض وتحقيق الآمال يرشدنا الإمام البنا، فيقول تحت عنوان من أين نبدأ؟:"

إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر،

وتضحية عزيز لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه والإنحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره.. على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها،

وعلى هذه القوة الروحية الهائلة تبني المبادئ وتتربى الأمم الناهضة وتتكون الشعوب الفتية وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمنًا طويلاً.

وكل شعب فقد هذه الصفات الأربعة أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه، فهو شعب عابث مسكين، لا يصل إلى خير ولا يحقق أملاً... وحسبه أن يعيش في جو من الأحلام والظنون والأوهام﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾(يونس: من الآية36)، هذا هو قانون الله تبارك وتعالى وسنته في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية11).

يعود التيار الإسلامي فيدعو شعب مصر إلى الإيمان الكامل والثقة التامة بأن "الإسلام هو الحل"، وأن المستقبل لهذا الدين الحق الذي سيكتسح أمامه كل بقايا النظم الأرضية وآثارها السلبية في مجتمعاتنا.

نقول لشعب مصر إنه ليس في الدنيا نظام يمد الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر كما يمد الإسلام بذلك كله أممه الناهضة..

ولقد امتلأ القرآن الكريم بتصوير هذه الناحية خاصةً. فنراه يبعث الأمل للمستضعفين فيقول:﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾(القصص:5-6).

ونراه يدعو إلى العزة القومية لأمة الإسلام﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾(آل عمران: من الآية110). ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾(المنافقون: من الآية8).

ونراه يستنهض الهمم للجهاد ورد عدوان المعتدين﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾(الأنفال: من الآية60)﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾(النساء: من الآية74).

نراه يهتم بالصحة العامة وقوة الأبدان﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾.

وحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- "المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف"، وقوله:"إن لدينك عليك حقًا" ونراه يهتم بالعلم وبالأخلاق وبالاقتصاد وبكل النظم العامة ولنا عود حول هذه القضايا وغيرها بإذن الله تعالى.


نحو قوة نفسية عظيمة

سبق لنا أن أوضحنا العلل والأدواء التي أصابت مجتمعاتنا وكيف أنها أدواء متشعبة كثيرة الأغراض قد نالت من كل مظاهر حياتنا، ففي الناحية السياسية فلا زال الاستعمار رغم جلاء الجيوش له سلطانه وسيطرته،

وفي الناحية الاقتصادية الربا والتضخم والديون وارتفاع الأسعار، وفي الناحية الفكرية الفوضى والمروق ومحاولات هدم العقائد وتحطيم المثل العليا في نفوس المواطنين وفي الناحية الاجتماعية الإباحية والتحلل من عقدة الفضائل وتقليد الغرب في مدنيته المادية وفي قوانينه الوضعية التي لا تزجر مجرمًا ولا تؤدب معتديًا ولا ترد ظالمًا ولا تغني يومًا من الأيام غناء القوانين السماوية التي وضعها خالق الخلق ومالك الملك ورب النفوس وبارئها.

وفوضى في سياسية التعليم والتربية تحول دون التوجيه الصحيح لنشئها ورجال مستقبلها وحملة أمانة النهوض بها، وفي الناحية النفسانية بيأس قاتل وخمول مميت وجبن فاضح وذله حقيرة وخنوثة فاشية وأنانية تكف الأيدي عن البذل وتقف حجابًا دون التضحية وتخرج الأمة من صفوف المجاهدين إلى اللاهين اللاعبين.

وبعد أن عرفنا الداء تعرفنا على الدواء وعرفنا أنه الدواء الوحيد الذي يضمن معه الشفاء من كل هذه الأدواء وهو هذا الدين الحق بشريعته السمحة العادلة، وقلنا إن بداية الطريق هو التخلص من آثار الهزيمة النفسية أولاً.

وقلنا أن الهزيمة النفسية هي أخطر أنواع الهزائم.. ولن نستطيع أن ننهض من هذه الكبوة ونصحو من تلك الغفوة إلا إذا تخلصنا من آثار هذه الهزيمة النفسية،

وتولدت في أفراد الشعب الإرادة القوية، وبعث الأمل في المستقبل وإزالة كل آثار اليأس من النفوس. ونريد التخلص من الخمول والكسل ومن الشح والجبن، ونريد التخلص من الإعجاب بالخصم ومن التبعية الذليلة له ويحل محلها الاستقلالية وحرية اتخاذ القرار.

والتيار الإسلامي يؤمن إيمانًا قويًا أن عقيدة الإسلام كفيلة بالتخلص من كل الآثار السلبية التي تركها الاستعمار وخاصةً الهزيمة النفسية، وأوضحنا أنه ليس في الدنيا نظام يمد الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر كما يمد الإسلام بذلك كله أممه الناهضة، وبفضل الله ظهرت جليًّا قناعة الشعب المصري بهذا المعنى حينما تجاوب بصورة قوية وفعالة مع شعار "الإسلام هو الحل" الذي رفعه التحالف الإسلامي في الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب.

نريد من الشعب المصري أن يتعرف على نفسه وعلى القوى الكامنة فيه، وكأنى بشعب وقد خطط له الأعداء ليفقد وعيه بوجوده ويعيش وكأنه مخدر في شبه غيبوبة لا يشعر بما يحاك له من مؤامرات ولا بما يصيب جسده من جراح عميقة وإصابات قاتلة خاصةً في العقل والقلب في الفكر والروح.

نريد من شعب مصر أن يفيق من هذه الغيبوبة، وأن يستيقظ من هذه الغفوة، وأن يتحسس أعضاء جسمه والقوى الكامنة فيه، أن يتعرف على شبابه بناة المستقبل فيهتم بإعدادهم وتربيتهم على العزة والقوة لا على الذلة والضعف.

نحن نعلم أن عهدًا سابقًا قد أذل الشعب وترك في النفوس خوفًا وجبنًا؛ بسبب ممارساته الفظيعة من الإيذاء والتعذيب والقهر خاصةً للدعاة إلى الله وما صاحب ذلك من جو التجسس والتصنت حتى صار الابن يتجسس على أبيه والأخ على أخيه،

وما ينتجه ذلك من تقطيع للأرحام وهبوط بكل القيم والأخلاق. التيار الإسلامي الذي خرج من هذه المحن أشد قوة وأقوي عزمًا وأصلب قناةً يدعو شعب مصر إلى أن يتخلص من كل هذه الآثار السلبية، وأن يلجأ إلى الله القوي القهار المعز المذل، ولن تظل القيود قيودًا أبد الدهر فإنما الدهر قلب، وما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال، ولن يظل الحائر حائرًا، فإنما بعد الحيرة هدى وبعد الفوضى استقرار ولله الأمر من قبل ومن بعد.

نريد من أفراد الشعب أن ينتصر كل منهم على نفسه أولاً، وإلا ففاقد الشيء لا يعطيه، نريد قوة نفسية عظيمة تدفع صاحبها إلى الشعور بالمسئولية نحو مستقبل هذا الوطن، قوة نفسية تدفع إلى العمل الجاد لتحقيق البناء والاستقرار والازدهار، نريد قوة نفسية عظيمة لا تسمح بالاستجابة إلى وسائل الإلهاء والتخدير والخداع بزخرف القول.

نريد قوة نفسية تجعل صاحبها يقول الحق ولو كان مرًا ولا يخاف في الله لومة لائم. نريد قوة نفسية نربي عليها أبناءنا وأجيال المستقبل، فيشبون على العزة وقوة الشخصية والشعور بالمسئولية وأن الوطن وطنهم وعليهم أن يدعموا بناءه وأن يكونوا حراسًا عليه من أي لون من ألوان الاعتداء السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الفكري من داخله أو من خارجه.

لا نريد أن نترك فردًا من أفراد الشعب مخدرًا أو في حالة اللاوعي نريد حركة إيقاظ عامة تعم كل طوائف الشعب، وتقوي حاسة الاستشعار عند أفراد الشعب، فيتنبهون إلى كل صغيرة وكبيرة تمس مصالح الوطن ومستقبله فإن كانت خيرًا اغتنموها وإن كانت شرًا درءوها ومنعوها، إن التخدير المعنوي أخطر من التخدير البدني،

إنه يعطل الطاقات ويقبر المواهب ويقضي على القيم والمثل ويقضي على العزة والكرامة، ويجعل الفرد وكأنه كمُُّ مهملُُ لا أثر له ولا تأثير، موجود وغير موجود.

لقد لمسنا في الانتخابات الأخيرة تغيرًا واضحًا في نفوس الكثير من أبناء الشعب، لمسنا الغيرة الوطنية الصادقة والحيوية المتدفقة، والرغبة الصادقة في العمل لصالح الوطن وتخليصه من أزماته ومشاكله.

لمسنا ذلك خاصةً عند الشباب فاستبشرنا خيرًا وفرحنا وازداد سرورنا بهذه الظاهرة الطيبة، واستشعرنا مع ذلك ثقل المسئولية على عاتق أمثالنا نحو هذا الشباب، وما يحتاجه من تسديد وإرشاد ومن تزكية هذه الروح التي لمسناها لتتأصل وتنمو مع الزمن.

ما أحوج الشباب إلى حكمة الشيوخ، وما أحوج الشيوخ إلى حيوية الشباب؛ لذلك يلزم إتاحة الفرص الكافية لامتزاج حكمة الشيوخ مع حماس الشباب لينتج الاعتدال والانضباط مع التقدم المطرد.

إن الكثير من الشباب المسلم يحمل مع حماسته وفتوته حكمةً وتعقلاً والحمد لله، رغم ما يتعرض له من ضغوط وما يراه من تناقضات مثيرة، كما نري شيوخًا منا كثيرين يحملون بين جوانحهم روح الشباب، ولسان حال بعضهم يقول:

عمري إلى السبعين يركض مسرعًا

والروح ثابتة على العشرين

ما أجمل تعاون الشباب والشيوخ في بناء هذا الوطن في ظل شريعة الله رافعين شعار "الإسلام هو الحل" قولاً وعملاً، بكل الصدق والوفاء والإرادة القوية والقوة النفسية والتضحية والفداء، دون شح ولا بخل ودون ضعف أو خوف وبكل التصميم والعزم مع حسن التوكل على الله، والتوجه الخالص لوجهه سبحانه والرجاء في ثوابه العظيم.

كم سمعنا شعارات(إيدك في إيدي يا عم يا عم* نفدي الوطن بالدم) وكذا(بالروح بالدم* نفديك يا فلان) إلى غير ذلك من شعارات وهتافات جوفاء ليس لها ظل في واقع الحياة، ولكننا نريد من شبابنا المسلمين العمل والعمل الجاد دون ضجيج،

خالصًا لله خاليًا من النفاق ومن الرياء، نريد أن تكف الحناجر من هتافات النفاق وتكف الأيدي من تصفيق النفاق، وتخلو الصحف من مقالات وإعلانات النفاق، ولتوجه هذه الطاقات والأموال إلى النافع المفيد.

نريد من شعب مصر أن يشجع كل صادق مخلص يعمل في صمت، وأن يبكت كل منافق يتقرب زلفى إلى ذوي السلطان والجاه، حتى يشعر كل منافق أنه حقير منبوذ، فيعدل عن نفاقه ويصحح مساره.

نريد من كل فرد في الشعب أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نتواصى جميعًا بالحق ونتواصى بالصبر، ويذكر بعضنا بعضًا فالذكرى تنفع المؤمنين، وهكذا فالوقاية خير من العلاج، لو التزمنا بهذه الأمور فسيتطهر جسد مجتمعنا مع الزمن من كثير من الأمراض والعلل النفسية والخلقية وتنمو فيه المقومات اللازمة لأداء مهمة البناء وما أثقلها مهمة وما أيسرها إذا أحسنا الصلة بالله والاستعانة به.


إلى الشعور بالمسئولية

من أخطر العلل والأمراض التي أصابت الكثير من أفراد الشعب المصري ظاهرة السلبية واللامبالاة وعدم الشعور بالمسئولية نحو وطننا مصر ومستقبله. نعلم أن هناك أسبابًا أدت إلى ذلك سنعرض لها، ولكن هل لنا أن نتساءل:

إذا لم يشعر أبناء مصر بمسئوليتهم عن صالح مصر ومستقبل أجيالها فعلى من نلقي هذا المسئولية؟ هل نلقيها على أمريكا والشعب الأمريكي؟ أم على الكيان الصهيوني المغتصب؟ أم أن الأولى بذلك هيئة الأمم المتحدة باعتبار مصر إحدى دولها؟ أم نخص دول عدم الانحياز؟ أم أن الأولى من هؤلاء جميعًا جامعة الدول العربية؟

لا يجوز لمصري أن يدور بخلده أن يتوقع من أي من الجهات التي ذكرناها أن تشعر بمسئولية نحو مصر، تدفعها للإسهام في إنقاذ شعبها أو بناء مستقبلها، ولسنا مغالين إذا قلنا إن بعض هذه الجهات تريد لمصر الخراب والتخلف وتسهم فعلاً في تحقيق ذلك.

إن التيار الإسلامي وقد أبصر حقيقة هذا الواقع يتوجه إلى شعب مصر ويقول إنه لن يقوم بهذه المسئولية وبكل تبعاتها الثقيلة غير شعب مصر نفسه.

فهو الذي يعاني الآلام والمتاعب ويقاسي الأزمات المتعددة، فهو الأولى بأن يستشعر هذه المسئولية،

وأن تكون هذه المعاناة هي الوقود الذي يدفعه إلى التفكير الجاد والعمل المخلص للتخلص من كل هذه العلل والأمراض، والتخطيط العلمي الدقيق لتحقيق مستقبل زاهر للأجيال التالية من شعب مصر، وإذا أحسنا الظن بالبعض بأنهم يلقون بهذه المسئولية على المسئولين عن الحكم في مصر وعلى ممثلي الشعب، فإننا نقول لهؤلاء:

لقد أثبتت الأيام والسنون والأحوال والتجارب غير ذلك، وأن الكثير ممن في هذه المواقع تشغلهم مصالحهم الشخصية عن مصلحة الوطن، وإذا أحسنا الظن ببعضهم وقلنا إنهم لا تشغلهم مصالحهم، فإننا نجد معظمهم ليس على مستوى المسئولية من حيث القدرة والكفاءة؛ لأنهم اختيروا للثقة وليس للكفاءة.

ولسنا في حاجة إلى تدليل على خطأ الطريقة التي يختار بها ممثلو الشعب في مجالس الشعب وما يعمها من تزوير وتزييف لإرادة الشعب، وبالتالي الحكومة التي تمثل الأغلبية في مثل هذه المجالس، وكذا الرقابة عليها ومحاسبتها.

من النادر أن تجد من بين من يختارون بتلك الطريقة المزورة من يشعرون حقًًا بآلام الشعب ومتاعبه بصورة تؤرقهم وتشغل بالهم وتدفعهم إلى العمل الدائب لتغيير هذه الأحوال والتخلص من أسباب تلك المعاناة.

ولئن كانت الانتخابات الأخيرة رغم ما صاحبها من ضغوط وتزوير إلا أنها أفرزت عنصرًا جديدًا تحت لافتة التحالف الإسلامي وشعار "الإسلام هو الحل" إنه عنصر يؤرقه ضميره الإسلامي لكي يبذل جهده ووقته وتفكيره في سبيل مصلحة الشعب وإنقاذه من مآسيه، وتهيئة مستقبل فاضل للأجيال التالية، حقًا،

إن نسبة هذا العنصر بالنسبة لنواب الحزب الحاكم أقلية بسيطة، وتحاول الأغلبية إخفات صوت الحق الذي يرتفع به هذا العنصر الجديد، ولكنه لن يخفت وسيظل يعلو ويعلو حتى يصير هو صوت الرأي العام كله، ولن يعلو عليه صوت آخر بإذن الله.

إن التيار الإسلامي الذي قاسى أكثر من غيره من سياساتٍ غاشمةٍ سابقةٍ يلتمس بعض العذر لأفراد الشعب الذين ظهرت عليهم حالة الشعور باللامبالاة أو اليأس من الإصلاح.

فالحكم الدكتاتوري وسياسة القمع والقهر والسجون والتعذيب والقتل كل ذلك كان كفيلاً أن يوقف أي محاولات للبناء والإصلاح وإحجام الكفاءات المخلصة عن الظهور والتقدم وآثرت الوقوف في الظل خشية التعرض لشيء مما ذكرنا، وبهذا تهيأ المناخ لبروز المنافقين والمنتفعين من غير ذوي الكفاءات.

كما أن تجربة تطبيق النظام الاشتراكي الفاشل وما صحبه من سياسة التأميم والمصادرات والحراسات والقطاع العام وإسناده لمن لا خبرة لهم من أهل الثقة الضباط،

والتحكم في الاستيراد والتصدير وما رتبه ذلك من ظهور السوق السوداء وما أفرزته من تدنٍ في الأخلاق وانتشار الرشوة والكسب غير المشروع،

وعمليات نهب أموال الدولة بشتى الصور، والتستر عليها لمشاركة المقربين للسلطة فيها، وخداع الميزانيات للقطاع العام وإظهارها أنها رابحةُُ وهي في الحقيقة خاسرة وغير ذلك الكثير مما لا يتسع له المقام، ومما لا يجهله العامة والخاصةُ من الشعب.

لا شك أن هذه الظواهر التي ذكرنا بعضها كفيلة أن تولد السلبية واللامبالاة عند الكثير من أفراد الشعب المصري، ونحن لا نسوق هذا التشخيص جزافًا أو فتراءً، ولكن يكفي أن أضرب للقراء مثلاً لصورة تكررت مراتٍ ومراتٍ:

يقوم فرد أو مجموعة من الأفراد بالتفكير في مشروع إنتاجي نافع يغني الدولة عن استيراد ذلك المُنتج من الخارج بالعملة الصعبة، وبعد جهود مضنية في سبيل الحصول على الترخيص والتغلب على الإجراءات القانونية والروتين المعقد،

ثم يبدءون في إقامة المبنى واستيراد الآلات اللازمة وكلهم أمل مشرق في نجاح المشروع، وإذا بهم فجأة يُعتقلون أو يُعتقل بعضهم ضمن الإعتقالات العشوائية التي تتم بين الحين والحين وتنقطع صلتهم بالمشروع بل تنقطع عن ذويهم أيضًا، وبعد أشهر وربما سنوات يفرج عنهم دون محاكمة إذ لم يكن هناك جريرةُُ أو جريمةُُ تستدعي اعتقالهم، ليتصور معي القراء مصير هذا المشروع الذي بدءوه،

ومدي الإحباط النفسي الذي يصيب هؤلاء وكل من علم بأمرهم؟ وكيف يكتب لمثل هذه المشروعات النافعة أن تتم في مثل هذه الظروف؟ والبركة في قانون الطوارئ وسوء استخدامه.

بسبب هذه المآسي وغيرها تولد الشعور باللامبالاة وعدم الشعور بالمسئولية ودفع الكثير من شباب مصر إلى الهجرة خارج مصر وطنهم العزيز وقد استفادت دول الغرب من هذه العقول المصرية الكثير، فقد وجدوا هناك الأمن واحترام حرمات الفرد بما لم يجدوه في وطنهم مصر، وإن كان البعض هاجر إلى بعض الدول العربية فقد أفادوا واستفادوا،

ولكنهم كلما سمعوا عن حالة عدم الاستقرار في مصر واستمرار قانون الطوارئ عزفوا عن العودة وعن استثمار أموالهم داخل مصر.

واليوم تعلو الأصوات باستنكار استثمار هؤلاء الأفراد أموالهم خارج مصر، ونحن نؤيد الاستثمار في بلدنا ولكن الأولي بهذه الأصوات المرتفعة أن تطالب بإزالة الأسباب التي أدت إلى هذه الظاهرة، فإنه لو تم ذلك وتهيأ المناخ الآمن فسيتم تلقائيًا عودة أبناء الوطن بأموالهم إلى وطنهم فهو أحق بهم وبجهودهم وأموالهم.

هذا الذي ذكرناه هو محاولة متواضعة مبسطة لتشخيص الأسباب التي أدت إلى بروز ظاهرة اللامبالاة وعدم الشعور بالمسئولية عند الكثيرين من أفراد الشعب، وكنا نود أن تتوارى هذه الأسباب كلية في العهد الحاضر،

ولكن للأسف الشديد لازال بعضها يُمارس بصورة واضحة لكل ذي عينين، فحالات التفزيع والإرهاب الحكومي والاعتقال دون جريرة والتعذيب قائمة وغير خافية وقد أدانها القضاء. وتزييف إرادة الشعب عند تمثيله في مجلس الشعب أمر واضح ومعلوم وقد أدانه القضاء أيضًا وضرب بحكم القضاء عرض الحائط، وعدم الاستفادة من الكفاءات المخلصة وتقديم المتقربين زلفى عليهم أمر مستمر أيضًا،

وتعقيد الإجراءات والروتين لازال قائمًا.

ولكن... مع كل ذلك فإن التيار الإسلامي وكله أمل في مستقبل زاهر مستقر لمصر يناشد شعب مصر وكل أفراد شعب مصر ألا يتخلوا عن الشعور بالمسئولية نحو وطنهم، وأن يتخلصوا من كل آثار السلبية واللامبالاة التي ترسبت في نفوسهم بسبب الظروف التي أشرنا إليها.

ولنبدأ جميعًا حكامًا ومحكومين صفحة جديدة نتبادل فيها الرأي والحوار حول مصلحة مصر ومستقبل مصر، وتعود الثقة المفقودة بين الشعب والسلطة الحاكمة، نريد حوارًا جادًا تتاح فيه فرصة النصح والنقد البناء بكل صبر وسعة صدر ودون ضيق أو تبرم بكلمة الحق مهما كانت مرة.

نريد صفحةً جديدةً يضيق فيها الخناق على النفاق والمنافقين، ويفسح فيها الطريق للصادقين والمخلصين. نريد للمواهب التي قبرت في الماضي أن تبعث من جديد وتنطلق لتسهم في بناء الوطن، ولتحقيق الاكتفاء الذاتي خاصةً في المواد الغذائية والسلاح،

نريد تهيئة المناخ الآمن لتعود كفاءاتنا المهاجرة لتسهم معنا في هذا البناء بجهودهم وأموالهم، وعلى النظام الحاكم أن يبدأ الخطوات الأولى في هذه الصفحة الجديدة بإلغاء قانون الطوارئ وتذليل كل العقبات التي تقف في طريق الإنتاج والاكتفاء الذاتي وأن تتوج ذلك كله بإزالة وإلغاء المنكرات التي تجلب علينا سخط الله وتمحق البركة كالخمر والربا والميسر واللهو والفجور.

لقد قامت دول-أقل من مصر شأنًا- بنهضةٍ عظيمة تحولت فيها من التبعية الذليلة إلى الاكتفاء الذاتي واستقلال الشخصية واعتدال موازينها الاقتصادية،

وصارت مصدرة أكثر منها مستوردة، وذلك عندما توفر لدى أبنائها القوة النفسية العظيمة والإرادة القوية والعزيمة الماضية مع الشعور الكامل بالمسئولية وإن التيار الإسلامي ليهيب بشعب مصر وهو الشعب المسلم الأبي العريق أن يستيقظ من الغفلة التي عمّت الكثيرين، وأن يصحو من تلك الغيبوبة التي أرادها له الأعداء،

نريده أن ينفض غبار النوم ويتخلص من آثار الهزيمة النفسية ومن أهمها الإحباط والسلبية واللامبالاة وعدم الشعور بالمسئولية.

إن عقيدة الشعب المصري من شأنها أن تربي فيه العزة والقوة والكرامة وتربي فيه الضمير الحي والشعور بالتبعة والمسئولية أمام الله، وتمده بكل المقومات التي يحتاجها للنهوض من هذه الكبوة، ولكي يطوي تلك الصفحات القاتمة من حياته ليبدأ صفحات بيضاء ناصعة مشرقة مليئة بالأمل الكبير نحو مستقبل فاضل تسوده الحرية والسعادة والأمن والعدل متخلصًا من السلبيات والعلل والأمراض، وبالله العون والتوفيق:﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾(التوبة: من الآية105).


تصحيح الخلل

يقول الحق تبارك وتعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾(البقرة: من الآية143) خلق الله لنا عقولاً نفكر بها ولكنه رحمة بنا لم يتركنا لعقولنا ولكن أرسل لنا الرسل وأنزل الكتب توضح لنا رسالتنا في هذه الحياة وتوضح لنا القيم والمثل ولمقاييس الربانية التي نميز بها الخطأ من الصواب والنافع من الضار لكي يعيش الناس في جو من التفاهم والتعاون على البر والتقوى فلا ضرر ولا ضرار.

وكلما ابتعد الناس عن هذه المثل والمقاييس الربانية أرسل الله لهم الرسل؛ لتصحيح أي خلل يحدث فيها، فهذا الخلل الذي أصاب قوم لوط في علاقاتهم الجنسية، والذي جعل الأمر يصل عندهم إلى أن يقولوا ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾(النمل: من الآية56) ولما أرسل الله لهم سيدنا لوط ليصحح هذا الخلل ودعاهم فلم يستجيبوا له أنزل الله عليهم مطرًا أهلكهم به. كذلك لما حدث بين أهل مدين خلل في موازينهم ومكاييلهم أرسل إليهم الله سيدنا شعيب ليدعوهم إلى الله وعبادته الذي يأمرهم بأن يوفوا الكيل والميزان بالقسط، ولما تأله فرعون وصار يسوم بني إسرائيل سوء العذاب أرسل الله له موسى لينبهه وقومه الذين استخفهم فأطاعوه لتصحيح هذا الخلل، ولما لم يستجب أغرقه هو وجنوده في اليم.

العقل وحده لا يكفي لهداية الناس إلى ما فيه صلاحهم وسعادتهم ولابد له من نور الوحي الذي يضئ له الطريق المستقيم، فمثله كمثل العين لابد لها من نور كي تبصر الأشياء.

ولقد مرت شعوبنا الإسلامية ومنها شعب مصر بظروف أحدثت خللاً عند الكثيرين في نظرتهم للأمور وأوجدت مقاييس أخري مادية غير المقاييس الربانية، وحدث تلبيس وتضليل واختلط الحق بالباطل والصواب بالخطأ والضار بالنافع وهكذا مما يحتاج معه إلى تصحيح وتصويب.

ففي ظل الاستعمال أو الاحتلال الذي عم معظم بلادنا الإسلامية تم غزو فكري انحلالي ونظمت حملات من الفساد والإفساد، بل والإلحاد وتخطيط لحسر نور الوحي وتضييق دائرته في حياة الناس،

فنتج عن ذلك خلل في كثير من المفاهيم والتصورات والقيم والمثل وبعد عن المقاييس الربانية وتبني مقاييس مادية بدلاً عنها.

ثم تعرضت كثير من الشعوب الإسلامية ومنها الشعب المصري إلى حكم دكتاتوري ظهر في ظله ألوان أخري من الخلل في مفاهيم الناس وتصوراتهم ومقاييسهم، وسنعرض لكل ذلك ببعض التفصيل كي نعمل على تصحيح هذا الخلل، لأن التيار الإسلامي الذي يحرص كل الحرص على تحقيق الخير لهذا الوطن، ويرغب أشد الرغبة في بنائه على أساس سليم متين يرى ضرورة تصحيح هذا الخلل أولاً كي تتهيأ الظروف للبناء وتحقيق الرقي والاستقرار والازدهار،

وإلا فكيف يتم البناء وتتضافر الجهود في طريق صحيح، ومن بيننا من التبست عنده الأمور وصورت له الهزيمة نصرًا والنفاق وطنيةً وإخلاصًا والإخلاص تهورًا أو عداءً، والفسق والفجور تقدمًا وحضارةً، والتدين والاستقامة تخلفًا ورجعيةً، والتخريب والهدم بناءً والبناء هدمًا، وهكذا؟

أما عن بعض صور الخلل التي حدثت نتيجة موجة المدنية المادية وحضارة المتع والشهوات التي غزت بلادنا في ظل الاحتلال فكثيرة ومتنوعة، فقد صارت الدنيا أكبرَ هم الكثيرين ومبلغ علمهم وسخروا لها أوقاتهم وجهودهم لإشباع شهواتهم وكأنها دارُ النعيم والاستقرار،

ونسي الكثيرون في ظل هذه الموجة المادية ربهم وآخرتهم وصار المستقبل الذي يجب أن يهتم به كل فرد هو مستقبل الأيام التي يقضونها أو لا يقضونها في هذه الدنيا أما مستقبلهم الأخروي الدائم فلا يجد الاهتمام اللائق به.

وصار المال معبود الكثيرين يجمعونه بكل الوسائل المشروعة وغير المشروع ولا يتحرون الحلال من الحرام، وظهر الشح والبخل بدلاً من الإنفاق ومعاونة الفقراء، وظهرت الأنانية بدلاً من الإيثار.

واختلت موازين الرجال فصار المقياس هو ما لديه من مال أو منصب أو جاه ولو كان سيءَ الأخلاق! في حين أن المقياس الرباني هو﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾(الحجرات: من الآية13). ومن آثار الموجة المادية صِِرْت تري الوالدين يهتمان بأبنائهم اهتمامًا كبيرًا عندما تصاب أجسامهم بالأمراض، أما إذا قصروا في عبادتهم وأمور دينهم، فلا نرى من الوالدين مثل ذلك الاهتمام، في حين أن الله تعالى يقول:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾(التحريم: من الآية6).

ومن آثار الموجة المادية صار التبرج هو العرف السائد، والتحجب مستغربًا ومثار سخرية، وصار أهل الفسق والفجور في حرية يمرحون في حماية القانون، وأهل الاستقامة والفضيلة يُطاردون ويُلاحقون، وصار الشباب المائع هو المواطن الصالح، والشاب المستقيم عدوًا للشعب.

وصارت الحضارة الغربية المادية هي القدوة، وصار تقليدها في أمور حياتنا دليلَ الرقيِّ والتقدم، وتُركت سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهديه في كل عاداتنا وتقاليدنا.

اهتم الناس بأجسادهم وشهواتهم وأهملوا أرواحهم، فأحدث ذلك خللاً في حياتهم وشقاءً وقلقًا وحيرةً،

وصرف المستعمر والحكام المتغلبون عاطفة الشعب الدينية إلى الموالد والطرق الصوفية والأضرحة وغير ذلك مما لا يقلق المستعمر والحاكم، وأبعدوا الفهم الصحيح للإسلام كنظام كامل للحياة عن فهم الناس. وأبدلوا الشريعة بقوانين وضعية، وحصروا الشريعة في الأحوال الشخصية، وحتى هذه بدلوا فيها وغيروا، ألغيت المحاكم الشرعية أيضًا.

أما الحكم الدكتاتوري فقد ظهرت في ظله صور أخرى من الخلل، فالحكم الدكتاتوري يتميز بالتسلط وكبت الحريات وعدم السماح للرأي الآخر، وعادة يلجأ إلى البطش والتنكيل بالمعارضين ومقاومة الآراء والأفكار بالحديد والنار،

وفي مثل هذه الظروف يتهيأ المناخ لظهور الخلل في كثير من التصورات والمفاهيم والمقاييس التي تقاس بها الأحداث والتي يقدر بها الرجال بحيث توجه كلها لصالح النظام الحاكم ودعمه ولو كان ذلك بتزييف الحقائق.

ويتهيأ بذلك الجو للنفاق والمنافقين وللخداع والتضليل، وفي الحقيقة أن هذا الأسلوب لا يدعم النظام ولا يخدمه ولكنه يعرضه للاهتزاز والانهيار، لأن الباطل زهوق والخداع لا يدوم ولابد أن يأتي عليه يوم تكشف فيه الأقنعة وتعرف الحقائق.

فوجدنا في ظل الحكم الدكتاتوري كيف قُلبت الهزيمة نصرًا وقامت المظاهرات المصطنعة تطالب المسئول الأول عنها بعدم التخلي عن موقعه، في حين أن هذا التخلي كان أمرًا تفرضه الهزيمة، فقد كانت هزيمةً نكراءَ فقد الوطن فيها عددًا غير قليل من أبنائه، وفقد معدات كثيرة لازلنا نئن من الديون بسببها، وأعز من ذلك فقدنا جزءًا عزيزًا من وطننا.

وفي ظل الحكم الدكتاتوري يقدم المنافقون والمتقربون زلفى للحاكم على أبناء الوطن المخلصين، في حين يعتبر الوطنيون الصادقون أعداءً للشعب وإرهابيين مخربين، ولا أحد يجهل ما تعرض له الإخوان من إيذاء وتعذيب وقتل، وما ألصقت بهم من تهم وأوصاف كاذبة باطلة، وكيف سخرت أجهزة الإعلام لترسيخ ذلك في أذهان الشعب، ونُصبت محاكم الشعب وكأن الشعب هو الذي يقوم بمحاكمة أعداء الشعب، ويعلم الله أن الإخوان من أخلص أبناء الشعب لهذا الشعب المفترى عليه.

وفي ظل الحكم المتسلط يصير العرف السائد هو الظلم والاعتقال والتعذيب لأصحاب العقيدة وأصحاب الرأي المعارض، ويصبح الاستثناء بل والتفضل من الحكام هو الإفراج والخروج من الزنازين الضيقة إلى السجن الكبير الذي يعيشه الشعب.

وفي ظل الحكم المتغلب تُصادر الأموال وتُقام الحراسات وتًُؤمم الشركات ويتعرض الكثيرون إلى الإذلال، ويُنسب كل ذلك إلى مصلحة الشعب والقوى العاملة من العمال والفلاحين المفترى عليهم، وتوضع كل هذه الأموال والشركات في أيدي فئة من أهل الثقة ممن لا خبرة عندهم ولا كفاءة، ويُساء التصرف وتسوء الإدارة وتتوالى الخسائر، ولكن يتم الخداع وتقدم الميزانيات على أن شركات القطاع العام رابحة وهي في الحقيقة خاسرة. ولا تُعرف الحقيقة إلا بعد إنتهاء العهد وحينما تتاح الفرصة لحرية الكلمة في الصحافة كما هو واقع في العهد الحالي.. وذلك مما يُحمد له..

فتظهر الفضائح وتُحل مجالس إدارة معظم الشركات ويقدم الكثيرون للمحاكمات وهكذا.

وفي ظل الحكم الدكتاتوري تُباح الحرمات ويسود التجسس والتصنت، ويُكره الوالد على التجسس على أبنائه والعكس كذلك، ويُلاحق معارضو النظام من المخلصين بما لو لوحق به تجار المخدرات لانتهت المخدرات من زمن بعيد.

ومن صور الخلل أيضًا تزييف إرادة الشعب بعند انتخابه لممثليه في المجالس النيابية بصورة يدينها القضاء، ومع ذلك توصف بأنها انتخابات حرةُُ نزيهةُُ.

وبعد فهذه بعض صور الخلل التي ظهرت في حياة الشعب المصري نتيجة موجة الغزو الفكري في ظل الاحتلال وما بعده، وكذلك نتيجة فترات الحكم الدكتاتوري التي تعرض لها.

ولكن من فضل الله على هذا الشعب أن سرت فيه صحوة إسلامية كان للإخوان دور أساسي فيها،

وتمّ تصحيح الخلل السابق عند الكثيرين، فأخذت الفضيلة تأخذ مكانها بين الناس كما أخذ الحجاب تتسع رقعته وأخذ التبرج ينحسر شيئًا فشيئًا. كما تم كشف زيف الحضارة الغربية المادية التي لم تحقق السعادة حتى لأهلها، وبدأت العودة إلى السنة النبوية وتعاليم الإسلام وآدابه، والالتزام بعقيدة التوحيد النقية بعيدًا عن البدع والخرافات، وانتشر الفهم الصحيح الشامل للإسلام وكذلك الاقتناع بفشل النظام الأرضية الوضعية، وأنه لا بديل غير شريعة الله وأن الإسلام هو الحل وكانت الانتخابات الأخيرة خير دليل على هذا التغيير والتصحيح، مما يطمئن أن الشعب المصري بدأ يفيق من غيبوبته ويعرف الأمور على حقيقتها، وتولدت عنده حصانة ضد التضليل والخداع والتزييف.

وقد ظهرت في صفوف الشعب المصري أثناء فترات الضغط والإرهاب من يقول: لا للخطأ، مهما كان مصدره وتعرضوا بسبب ذلك إلى ألوان من البطش والتنكيل، ولكنهم ثبتوا تحملوا بفضل الله وعونه ليكونوا قدوةًَ لغيرهم.

والتيار الإسلامي بعد هذا العرض يدعو جميع أفراد الشعب المصري إلى تصحيح كل صورة الخلل في مفاهيمنا وتصورت ومقاييسنا التي ذكرناها وغيرها مما لم يتسع المقام إلى ذكره، وأن نتعاون جميعًا في كشف كل خداع أو تضليل لتصبح الرؤية واضحة سليمة تساعد على التفاهم والتعاون وتتضافر الجهود لبناء مستقبل زاهر لهذا الوطن تتاح فيه الفرصة لبروز المخلصين ولتختفي العناصر المنافقة من الساحة.


هل من رجعة إلى الله

لقد بارزنا الله بالمعاصي وارتكاب الكبائر واستجلبنا سخط الله وغضبه علينا، وكفرنا بأنعمه علينا واستعملناها في معصيته ولم نقم بواجب الشكر عليها، أبحنا ما حرمه الله من خمر وميسر وزنا وربا فاستوجبنا حرب الله ورسوله لنا بنص آيات القرآن ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ وصدق فينا ذلك المثل الذي ضربه الله في كتابه﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾(النحل:112) وقوله تعالى:﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(الروم:41) هذه سنن الله في خلقه لا تتبدل ولا تتغير.

فإذا كنا صادقين حقًا في إصلاح أحوالنا وبناء وطننا، فلابد من رجعة إلى من بيده الأمر وهو على كل شيء قدير، لابد أن نصطلح مع الله ونستجلب رضاه ونتخلص من كل ما يجلب سخطه وغضبه. إنه يقول وقوله الحق﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية11) ويقول أيضًا:﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾(يونس: من الآية81)، ويقول ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾(الكهف:103 - 104).

لا يكفي ما أشرنا إليه سابقًا من ضرورة توفر القوة النفسية العظيمة ومن الشعور بالمسئولية، ولكن لابد من الرجعة إلى الله والتوبة والإنابة إليه وإلغاء كل صور المنكر التي نعصي الله بها.

لابد من العودة إلى الإيمان بالله وتقوى الله مع الأخذ بالأسباب، وحينئذ فقط تؤتي أعمالنا ثمارها ويعم الخير والرخاء، وهذه سنة أخرى من سنن الله التي لا تتبدل حيث يقول سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(لأعراف:96)﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾(هود:117).

إننا ندعو كل فرد من الشعب المصري أن يوقن تمامًا أن سعادته في دنياه وآخرته مبنية على حسن صلته بالله والتزامه بتعاليمه وطاعته في كل ما أمر به وعدم معصيته بارتكاب ما نهى عنه.

إننا في حاجة إلى تصحيح مقاييسنا وموازيننا لأمور حياتنا لتصبح ربانيةً قرآنيةً ولا تكون ماديةً دنيويةً، نريد أن نتعرف على حقيقة رسالتنا في هذه الدنيا فنؤديَها على الوجه الصحيح، وأن نتعرف على مصادر السعادة الحقة، وأنها تنبع من تقوى الله وطاعته، وأن نتعرف على أسباب العزة والنصر والتمكين ونعلم أنها الإيمان الصادق، فالله تعالى

يقول:﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لايَعْلَمُونَ﴾ (المنافقون: من الآية8) ويقول:﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(الروم: من الآية47) ويقول﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(النور:55).

إذا كنا نشكو الضعف والذلة، فمن إله غير الله يعزنا ويمدنا بالقوة؟

وإذا كنا نشكو الحاجة ونقص الأموال والثمرات، فمن إله غير الله يرزقنا من السموات والأرض؟

وإذا كنا نشكو العلل والأمراض، من إله غير الله يشفينا منها؟

وإذا كنا نشكو الفساد وقسوة القلوب، فمن إله غير الله ينجينا من كل ذلك؟

الله الذي بيده الأمر وهو على كل شيء قدير.

وإذا كنا نشكو من غلبة الديون وقهر الدول لنا، فمن إله غير الله يعيننا على ذلك، وبمن نستعيذ ونستجير غيره سبحانه؟

عندما لجأنا إلى غير الله لم نزدد إلا ضعفًا وفقرًا ومهانةً وتبعيةً.

إذا شقينا بسياسة الشرق معنا لجأنا إلى الغرب فنزداد شقاء فنلجأ إلى الشرق مرةً ثانيةً، وهكذا نتخبط ونتقلب في ألوان متعددة من الشقاء والمعاناة، كالمستجير من الرمضاء بالنار.

يا قوم، إن المشركين إذا وقعوا في شدة لجأوا الله، وضرب الله لنا ذلك المثل حينما يكونون في البحر﴿وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾(يونس: من الآية22) ويقول الله تعالى:﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ﴾(الاسراء: من الآية67) هكذا يظهر الإيمان الفطري الذي طمس عليه الشرك أو الإلحاد في وقت الشدة حينما تنقطع الأسباب الأرضية.

ونحن -يا قوم- مؤمنون ولسنا مشركين، ونحن في شدة لا ينكرها أحدُُ فهلا رجعنا إلى الله، وهلا لجأنا إلى الله؛ ليأخذ بناصيتنا إلى طريق النجاة من هذه الشدائد والأهوال؟

فليرجع كل منا إلى ربه يستغفره عما بدر منه من ذنوب، ليرجع إليه تائبًا منيبًا، والله -من جوده وكرمه- يقبل التوبة، ويبدل السيئات حسنات، فقد قال وقوله الحق:﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا* إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِح فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (الفرقان:68-70)، ويقول تعالى:﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(الزمر:53).

فيا من أغواه الشيطان وسلك طريق الغواية، ارجع إلى ربك واستغفره، واسلك طريق الهداية؛ لتفوز بسعادة الدنيا والآخرة.

ويا من أغواك الشيطان؛ لتأكل أموال الناس بالباطل، عد إلى ربك واستغفره يغنك بالحلال ورد أموال الناس إليهم.

ويا من أغواك الشيطان واستجبت لأوامر رؤسائك وقمت بتعذيب الأبرياء، توقف عن ذلك واستغفر الله ولا تعص الله طاعة لرؤسائك، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولن يحمل رؤسائك الوزر عنك يوم القيامة.

ويا من أغواك الشيطان فغفلت عن طاعة الله وعبادته، انتبه من غفلتك وتدارك أمرك قبل أن يأتي أجلك بغتةً، فتقول يا ليتني قدمت لحياتي، أو تقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب، فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها.

ويا أيها الحكام الذين يحاربون الدعاة إلى الله ويضيقون عليهم أقلعوا عن ذلك؛ فإن ربكم لبالمرصاد وتوبوا إلى الله تعالى فالله يقول:﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾(البروج:10)، فالله قد ترك لكم باب التوبة مفتوحًا رغم ما قمتم به من مظالم فأدركوه قبل أن يغلق بالموت.

وياأيها الحكام يا من تعرضون عن تطبيق شريعة الله، وتضعون العراقيل أمام تطبيقها، ارجعوا إلى الحق ولا تقفوا في طريق سعادة شعوبكم، وطبقوا شريعة الله السمحة العادلة، واتركوا التخبط بين المبادئ الأرضية القاصرة.

وأنتم يا من عرفتم ربكم وسلكتم طريقه المستقيم، الجأوا إلى ربكم، واسألوه العون والنصر، وألحوا عليه بالدعاء وتقربوا إليه بالطاعات المفروضة وازدادوا قربًا بالنوافل؛ فإنه قريب مجيب. وادعوا غيركم إلى العودة والرجعة إلى الله وإلى صراطه المستقيم، وتعاونوا جميعًا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.

إن الرجعة إلى الله واللجوء إليه لا يعني عدم الأخذ بالأسباب، ولكن علينا بعد الاستقامة على أمر الله أن نأخذ بكل الأسباب المشروعة للنهوض بوطننا وبقومنا من هذا الواقع المؤلم، وأن نتوكل على الله بعد الأخذ بالأسباب موقنين أن الأمر كله بيده وأنه على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وأن قوى الأرض جميعًا لو اجتمعت علينا لن تضرنا إلا بما كتبه الله علينا، ولن تهزمنا إذا نصرنا الله وكنا أهلاً لنصره.

لا نريد أن يظهر من بيننا من يتبنى منطق قارون حينما قال عن ماله:﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ (القصص: من الآية78) إننا يا قوم لن نستطيع أن ننجز عملاً ولا أن نحقق تقدمًا وإصلاحًا في أمورنا إلا بتقدير الله وعونه لنا، فلنلجأ إليه ولنستعن به.

كفانا ذلة وتبعية لغيرنا بسبب حاجتنا لرغيف الخبز، فإننا بعون الله لو صدقت فينا العزائم وصلحت النوايا ورجعنا إلى الله، وألغينا تلك الكبائر والمنكرات التي تغضبه علينا؛ فإننا نستطيع أن نحقق الاكتفاء الذاتي بل ونفيض على غيرنا مما ننتجه في بلادنا:﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾(نوح:10-12) ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾(الواقعة:63، 64).

يا أصحاب الأموال أدوا حق الله في أموالكم، أدوا زكاة أموالكم وطهروا أموالكم من كل مصدر حرام أو فيه شبهة، يبارك لكم في أموالكم:﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ (البقرة: من الآية276) ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(البقرة:261).

هذا ما ندعو إليه أفراد الشعب المصري الكريم.. الرجعة إلى الله والالتزام بدين الله إذا كنا حقًا راغبين في النهوض بوطننا، والإمام البنا يقول حول هذا المعني: "قد علمت أيها القارئ الكريم أن الإخوان المسلمين يقصدون أو ما يقصدون إلى تربية النفوس وتجديد الأرواح وتقوية الأخلاق وتنمية الرجولة الصحيحة في نفوس الأمة، ويعتقدون أن ذلك هو الأساس الأول الذي تبنى عليه نهضات الأمم والشعوب.

وقد استعرضوا وسائل ذلك الطريق والوصول إليه فلم يجدوا فيها أقرب ولا أجدى من الفكرة الدينية والاستمساك بأهداب "الدين".

الدين الذي يحي الضمير ويوقظ الشعور وينبه القلوب، ويترك مع كل نفس رقيبًا لا يغفل وحارسًا لا يسهو وشاهدًا لا يجامل ولا يحابي ولا يضل ولا ينسي، يصاحبها في الغداة والروحة والمجتمع والخلوة، ويرقبها في كل زمان ويلحظها في كل مكان، ويدفعها إلى الخيرات دفعًا، ويدعها عن المآثم دعًّا، يجنبها طريف الزلل، ويبصرها سبيل الخير والشر:﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ (الزخرف:80).

الدين الذي يجمع أشتات الفصائل ويلم أطراف المكارم، ويجعل لكل فضيلة جزاءً، ولكل مكرمة كفاءً، ويدعو إلى تزكية النفوس والسمو بها وتطهير الأرواح وتصفيتها ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس:9-10).

الدين الذي يدعو إلى التضحية في سبيل الحق، والفناء في إرشاد الخلق، والفناء في إرشاد الخلق، ويضمن لمن فعل ذلك أجزل المثوبة، ويعد من سلك هذا النهج أحسن الجزاء، ويقدر الحسنة وإن صغرت، ويزن السيئة وإن حقرت، يبدل الفناء في الحق خلودًا والموت في الجهاد وجودًا﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ (آل عمران:169 ومن الآية170).

وبعد أيها الشعب المصري الكريم هذا هو الطريق ولا طريق للنجاة غير رجعة إلى الله والتزام بدين الله وتطهر من كل الآثام﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾(البقرة: من الآية222).


ولنبدأ بإصلاح أنفسنا

إن لله في خلقه سننًا لا تتبدل ولا تتغير، علينا أن نراعيها ونسايرها لا أن نصادمها أو نغفل عنها، ومن هذه السنن قوله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد: من الآية11)، والذي حدث أننا تحولنا من الصلاح والتقوى، ومراقبة الله وطاعته إلى الفساد والانحلال ومبارزة الله بالمعاصي والمنكرات؛ فتحول حالنا من القوة

والعزة والسيادة إلى ما نحن فيه من ضعف وتخلف وتبعية وتفرق، فإذا أردنا التخلص من هذه الحال وتعود للأمة الإسلامية سيادتها وقوتها وعزتها، فلنرجع إلى الله، ونصلح أنفسنا، ولنتسلح بسلاح الإيمان ونتزود بزاد التقوى، ونكف عن مبارزة الله بالمعاصي والكبائر من خمر وربا وميسر وفجور.

هذا ما يسعى إليه التيار الإسلامي مع نفسه ومع شعب مصر حكامًا ومحكومين، أن يحدث التغيير إلى الأحسن في أنفسنا أولاً على أساس من شرع الله وتعاليم الإسلام وآدابه.

إن تغير حال النظام الحاكم إلى الأحسن والأفضل أمر لازم ومطلوب ففي صلاح الحاكم صلاح للرعية وهذا ما ندعو إليه ونأمله، ولكن التغيير الأهم والأدوم أثرًا هو التغيير من قِبل الشعب إلى الصلاح والاستقامة، فالشعب هو القاعدة التي يستقر عليها الحكم أو لا يستقر، فإذا صلحت القاعدة يستقر عليها الحكم الصالح ولا تسمح لحكم غير صالح أن يستقر عليها.

من هذا المنطلق فإن التيار الإسلامي يدعو كل مواطن مسلم وغير مسلم أن يبدأ بإصلاح نفسه كخطوة أولى في وضع أساس البناء لهذا الوطن الحبيب، فبصلاح الأفراد تصلح الأسر ويصلح المجتمع وتتكون القاعدة المتينة للبناء.

إننا ندعو كل مواطن -رجلاً كان أو امرأة يحمل روحَ الوطنية حقيقةً لا ادعاءً- أن يخطو معنا هذه الخطوة الأولي في البناء بإصلاح كل منا نفسه، فبناء الوطن كما سبق أن أوضحنا ليس مجرد بناء مؤسسات، ولكن الأصل فيه بناء الرجال، فلا فائدة من مؤسسات يقوم عليها أشباه رجال لا ضمير لهم ولا قيم ولا مثل.

نريد بناء شخصية المواطن أولاً بكل مقومات الشخصية القوية من العقيدة السليمة والعبادة الصحيحة والأخلاق المتينة والفكر المثقف والبدن القوي، وأن يكون قادرًا على الكسب نافعًًا للغير، منظمًا في شئونه حريصًا على وقته، مجاهدًا لنفسه صاحب إرادة قوية تلزمه الصراط المستقيم وتبعده عن طريق الغواية.

كثيرًا ما نسمع من يذكرون العيوب الموجودة في المجتمع، وكأنهم مبرءون منها، وربما انطبق عليهم قول الشاعر:

نعيب زماننا والعيب فينا

كوما لزماننا عيب سوانا

نريد من مواطن أن يقف مع نفسه وقفة جادة صادقة يتعرف فيها على نقط الضعف والنقص فيه؛ كي يضع في تصميم خطة التخلص من كل صور الضعف أو النقص، فإننا نريد المواطن صاحب الضمير الحي الذي يشعر بالمسئولية نحو وطنه ومستقبله..

نريد المواطن الذي يشعر بمسئوليته عن كل شبر من أرض الوطن من أن يحتله محتل أو يغتصبه غاصب.

نريد المواطن الذي يشعر بمسئوليته عن كل قرش من ثروة وطنه أن يبدد فيما لا نفع من ورائه ومن باب أولي ألا ينفق فيما يضر.

نريد المواطن الذي يشعر بمسئوليته عن حرية المواطنين وحرماتهم من أن ينال منها نظام حاكم ومن أن يتعدى عليها ظالم.

نريد المواطن الذي يشعر بمسئوليته عن أمن الوطن واستقراره، وازدهاره، فلا يصدر منه ما ينال من الأمن أو الاستقرار، بل ويعمل على منع غيره من ذلك حاكمًا كان أو محكومًا. نريد المواطن الذي يشعر بمسئوليته عن حماية المواطنين من كل فكر منحرف أو مبادئ هدامة، ومن كل فساد أو انحلال وخاصةً ما تبثه أجهزة الإعلام.

نريد المواطن الصالح الذي يتخلص من روح السلبية واللامبالاة التي أصابت كثيرًا من المواطنين؛ نتيجة الحكم الدكتاتوري المتسلط الذي نال من الثقة بين الشعب والحكام، ونال من روح التعاون والاستجابة لما يطلبه الحكام من الشعب وما يطلبه الشعب من الحكام.

نريد المواطن الصالح الذي يتقي الله ويحسن اختيار ممثليه في المجالس النيابية، والذي يراجع ممثليه ويحاسبهم على حسن أدائهم لواجب التمثيل في تلك المجالس، وهل أقروا قانونًا ظالمًا، أو لم يوافقوا على رفع ظلم إرضاءً لأحزابهم دون مراعاة لإرضاء ربهم ومصلحة الوطن، أم أنهم كانوا عند مسئوليتهم وأمانة النيابة عن الشعب.

أيها الشعب المصري الكريم، نعم إننا نريد المواطن الصالح الذي يحقق كل ذلك ويزيد، ولن يتحقق ذلك إلا بإصلاح النفوس الذي لن يكون إلا بالمنهاج الذي وضعه بارئ النفوس الذي خلقها وسواها، فهو سبحانه أدري بها وبما فيها من نوازع الخير ونوازع الشر، فيرسل الرسل وينزل الكتب لهداية البشر وتزكية نفوسهم حيث يقول﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾(الجمعة:2) ويقول﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الاسراء: من الآية9).

ولو علمنا أنه لم يجدّْ جديدُُ على الجزيرة العربية وحوَّل أهلها من تلك الجاهلية، وما كانوا عليه من تخلف وفساد اجتماعي وانحراف خلُقي إلى خير أمة أخرجت للناس، إلا نزول القرآن على خاتم رسله -صلى الله عليه وسلم-،

وتحقق في ظل تلك الدولة الإسلامية من الأمن والعدل والحب والتعاون والتكافل الاجتماعي ما لم يتحقق في أي وقت وفي أي مكان مثله حتى أن غير المسلمين كانوا يهجرون بلادهم إلى الدولة الإسلامية ليتمتعوا في ظلها بهذه الحياة الهانئة.

فما أحوجَنا وقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تدهور في أحوالنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى أن نتتلمذ على مدرسة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى مائدة القرآن الكريم؛ فيصلح الأفراد والأسر ويصلح المجتمع، فهذا هو الطريق الوحيد للإصلاح الشامل الدائم الذي يولد مع كل فرد، الرقيب الذاتي الذي يصحح له مساره ويضبط تصرفاته على منهج الله الذي يحقق الخير ويحمي من الشر، ويولد الدافع الذاتي الذي يحقق الإيجابية ويتغلب على السلبية.

ومن أبرز المقومات لهذا المنهاج الإصلاحي بعد توافر الإيمان قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد وصف الله هذه الأمة بها في قوله تعالى:﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾(آل عمران: من الآية110).

فالمجتمعات تتعرض للعلل والأمراض النفسية الخلقية وتنشر فيها بالعدوى كما تتعرض لانتشار أوبئة الأمراض البدنية، فلابد لها من الوقاية والتحصين ضد تلك الأمراض، ومن أهم الوسائل لذلك وأفضلها الأمر بالمعروف النهي عن المنكر، ومن هنا كان نظام الحسبة في الإسلام،

ولا شك أن العلماء المسلمين يقع على أكتافهم أمانة ثقيلة في هذا الباب بما يتاح لهم من فرص وما تخصصوا فيه وخاصةً المنابر في المساجد كل يوم جمعة وغير ذلك من دروس ومحاضرات، ولكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس قاصرًا على العلماء فقط بل هو واجب على كل مسلم ومسلمة، كما أنه واجب رجال الكنيسة نحو إخواننا الأقباط...

أخي المواطن، إنك حينما ترى رجلاً كفيفًا يسرع، ويكاد يقع في حفرة تسارع لإنقاذه، وما أكثر من عميت بصائرهم وغفلوا عن الحق الذي خلقوا من أجله،

وأمامهم حفرة النار يكادون يقعون فيها إن لم تتداركهم وتأخذ بأيديهم وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر.

وقد لعن الله قومًا كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه حيث يقول:﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾(المائدة:78-79)،

وهاهو رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يُرغب في عمل الخير ويحذر من الضلال، فعن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه لا ينقص من ذلك من أجورهم شيئًا،

ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا" وهذا الحديث يوضح لنا الأجر العظيم للقائمين على أجهزة الإعلام إذا سُخرت لهداية الناس لما لها من تأثير وانتشار، كما يوضح الآثام الكبيرة التي يحملها هؤلاء بما يبثونه من ضلالات وانحراف.

إن أي فرد يرتكب منكرًا، كمثل الميكروب يسري في جسد المجتمع ويفتك به إن لم يتدارك بحصره وعلاجه ووقاية المجتمع منه، وإنَّ مجتمعًا يتعارف أفراده، على دعوة بعضهم البعض إلى فعل الخير ويتناهون عن فعل المنكرات لهو مجتمع فاضل طاهر تنمو في ظله الأجيال على الاستقامة والأخلاق الفاضلة التي هي أساس بناء الأمم، فكما يقول الشاعر:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

والتيار الإسلامي يدعو كل مواطن -رجلاً أو امرأة- إلى القيام بواجب النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للحاكم والمحكومين على السواء، فالدين النصيحة،

وألا نخاف في الله لومة لائم، فإن ذلك لا يقرب أجلاً ولا يباعد من رزق، وإن المعروف الأكبر الذي يجب على أفراد الشعب أن يطالبوا به، هو تطبيق شريعة الله العادلة على الناس، كما أن المنكر الأكبر الذي يجب أن يُنهى عنه أفراد الشعب، هو الحكم بغير شريعة الله.

ولا يفوتنا أن ننبه إلى أن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجب أن يتم بالأسلوب المناسب الذي يحقق الغرض منه ولا يؤدي إلى منكر، ولنا في رسول لله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة، وقد قال الله تعالى﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(النحل: من الآية125) وقوله تعالى:﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: من الآية159).

فليؤد كل منا النصيحة لغيره على أكمل وجه؛ ليتقبلها وينتفع بها؛ وليتحقق التعاون بين أفراد الشعب؛ لإرساء القاعدة الصلبة المتينة من الأفراد الصالحين والأسر الصالحة والمجتمع الفاضل؛ ليقوم عليها بناء الوطن سليمًا مستقرًا يتوفر فيه الأمن والاستقرار والإنتاج والازدهار بإذن الله.


تشييد قاعدة البناء

لكل بناء قاعدة يقوم عليها؛ ليعلو ويستقر أو ينهار حسب قوة القاعدة ومتانتها أو ضعفها ورخاوتها، والأفراد والأسر في المجتمع يمثلون القاعدة التي يقوم عليها نظام الحكم، فإذا اعتُنى بإعداد الفرد الصالح والأسرة الصالحة، قام نظام الحكم على قاعدة صلبة واستقر وحقق للوطن كل أسباب الخير والازدهار، أما إذا خرب الفرد وانهارت الأسر تصبح القاعدة هشةً ضعيفةً، وانهار من فوقها نظام الحكم، ولم يستطع أن يحقق أي إصلاح مهما حاول وبذل من جهد وأنفق من مال، ما دامت القاعدة رخوةً هشةً، وما دام الأفراد الذين سيسهمون في البناء أشباهَ رجال وليسوا رجالاً.

إن أعداء الإسلام خططوا منذ زمن بعيد لتفريغ المواطن المصري من كل مقومات الرجولة والعزة، وسخروا في سبيل تحقيق هذا الهدف العديد من الوسائل ومعاول الهدم، الرسمية وغير الرسمية -وللأسف الشديد- استجابت لهم الحكومات المتوالية حتى صار الحال إلى هذه الحال التي نتباكى اليوم عليها، وصرنا نلهث ونصرخ لتدارك الأمر قبل فوات الأوان.

أيها الشعب المصري الكريم، نقولها لكم بكل الصراحة:

إن أية محاولة لترميم هذا الكيان المتداعي لن تفلح، ومآلها الفشل ولو أنفقت المليارات العديدة، فإذا كنا جادين في بناء وطننا فالخطوة الأولى في البناء هي إيقاف معاول الهدم التي تهدم الفرد والأسرة، ثم تشييد القاعدة الصلبة للبناء والمتمثلة في المواطنين الصالحين والأسر الصالحة النموذجية.

لا يجوز لعاقل أن يصدق ادعاء الحكومة في الإصلاح والبناء، ومعاول الهدم الحكومية تزاول مهمتها في الهدم، ولا يمكن أن يتحقق إصلاح، وأجهزة الإعلام على حالها ومصانع الخمر الحكومية تواصل إنتاجها لأم الخبائث، وأماكن بيعها وشربها منتشرة في كل مكان، نوادي الميسر قائمة وأماكن اللهو والفسق يحميها القانون، والمخدرات تنتشر، ولو طُوردت وحُوربت بنفس المستوى الذي يطارد ويحارب به الإسلاميون لانتهت منذ زمن بعيد.

لقد ارتفع الصوت بالصحوة ثم ارتفع الصوت بالنهضة، ولا أحسب أن هناك من أبناء هذا الوطن من لا يريد لوطنه أن يصحو من هذه الغفوة أو من لا يريد لوطنه أن ينهض من هذه الكبوة. ولكن كيف نصحو ووسائل التخدير والإلهاء تمارس دورها في أمن وأمان، ومن يحاولون إيقاظ الشعب وإحياء ضميره يحاربون ويطاردون ويعتقلون، وكيف ننهض من كبوتنا ومعاول الهدم تهوي بنا إلى الحضيض وتحول دون كل عمل بنَّاء؟؟!

إن التيار الإسلامي يطالب الحكومة أن تقدم الدليل على صدق رغبتها في الصحوة والنهضة والبناء، بإيقاف كل معاول الهدم رسميةً كانت أو غيرَ رسمية، وأن تسخر وسائلها في تشييد القاعدة المتينة ببناء المواطن الصالح والأسرة الصالحة، ولن يكون ذلك إلا على أساس من هديِ الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

إن القاعدة الشعبية الصالحة تقدم ممثلين لها صالحين، وتقوم عليها حكومة صالحة تسلك الطريق الصحيح في الإصلاح والبناء، وتستطيع -باستقرارها على قاعدة صلبة- أن تصمد أمام أي ضغوط سياسية أو اقتصادية أو عسكرية يتعرض لها الوطن من الأعداء.

إن التيار الإسلامي يريد القاعدة الصالحة القوية المستعدة لبذل الجهد والعرق في سبيل الاكتفاء الذاتي وخاصةً في المواد الغذائية والسلاح، نريد القاعدة الصالحة القوية المستعدة لربط الأحجار على البطون في سبيل التخلص من التبعية الذليلة للغير بسبب رغيف الخبز، نريد القاعدة التي يسهر أبناؤها ليلاً ونهارًا لإصلاح الأرض وزراعتها بما يغنينا من قمح وغيره ويزيد عن حاجتنا.

إننا نثق ثقةً كبيرةً في شعب مصر وقدرته وهمته في تخطي الصعاب وإنجاز المهام الشاقة بكل جلد وصبر وعزم صادق، خاصةً إذا تولدت الثقة بينه وبين النظام الحاكم، ووجدوا فيه القدوة العملية الأولى على طريق البناء، وإذا شعر بالأمن والأمان والحرية والتقدير.

نعود ونؤكد للشعب وللنظام الحاكم أن هذا هو الطريق، ولا طريق غيره وهذه بدايته وخير لنا جميعًا أن نفقه الدرس ونوفر الجهود والأموال أن تبذل وتنفق في طرق محكوم عليها مقدمًا بالفشل،

وخير لنا نحن البشر أن نلتزم بسنن الله في خلقه التي لا تتبدل ولا تتغير والتي تعبر عنها الآيات الكريمات:﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد: من الآية11)﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾(طـه: من الآية123)﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ (طـه:124)﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(لأعراف:96)﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾(الجـن:16)..

إننا نريد أن تتضافر الجهود في صدق وإخلاص لتشييد القاعدة المؤمنة الصلبة التي يقوم عليها البناء، بعيدًا عن كل صور المزايدات والنفاق والتزييف، ورفع الشعارات الجوفاء،

وبعيدًا عن إرهاق الحناجر بالهتاف، وإلهاب الأكف بالتصفيق، فقد أخرت هذه الصور تقدمنا كثيرًا، ولن نتقدم إلا إذا تخلصنا منها وأنكرناها وأنكرنا من يقومون بها، وأبعدناهم من مواقع التأثير؛ حتى يبرأ المجتمع من آثارهم الضارة المدمرة.

نريدها تعبئةً عامةً وتوعيةً شعبيةً جادةً يقوم بها كل فرد مع نفسه وفي محيطه ومن موقع تأثيره؛ لنزيل معًا هذا الركام من العلل والأمراض والعادات الضارة والأخلاق السيئة، التي رسبتها وخلفتها معاول الهدم ووسائل التخريب التي خطط لها الأعداء وأشرفوا علي قيامها بمهمتها.

نريد من علمائنا المسلمين أن يقوموا بدورهم المؤثر من منطلق مسئوليتهم أمام الله أولاً ثم من واقع ما أنيط بهم من مهمة التوجيه والإرشاد.

نريد منهم وعلى رأسهم فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر أن تكون لهم وقفةُُ خالصةُُ لله ينكرون فيها صناعة الخمر وبيعها في مصر الإسلامية، مصر الأزهر، مصر القدوة لغيرها من الأقطار الإسلامية، فيوضحون التحريم القاطع لها في شرع الله،

ومسئولية الحكومة أمام الله ثم أمام الشعب والتاريخ وإباحتها وموضحين ما تولده أم الخبائث من خبائث وشرور تعود على المجتمع وتقوض بنيانه، وما يحمله الحاكم وحكومته من أوزار إزاء ذلك.

أيها الإخوة العلماء، استشعروا أمانة العلم، واحذروا عقوبة كتمانه التي لا تعدلها أية عقوبة تتعرضون لها في الدنيا... إذا قلتم كلمة الحق لا تخافون معها لومة لائم...

واستنكروا التعامل بالربا، ووضحوا كيف أنه يمحق البركة ويوقعنا في حرب مع الله ورسوله، وأنه لن يصلح اقتصادنا إلا بعد أن نتخلص من الربا في كل معاملاتنا؟!. استنكروا صور الفساد والإباحية

-التي لطخت وجه مصر المسلمة- المتمثلة في أجهزة الإعلام وما تعرضه في التلفاز والراديو وما يعرض في دور السينما وأشرطة الفيديو، وكذلك بؤر الفساد في شارع الهرم وفي القري السياحية وغيرها.

نريد من علماء الاجتماع أن يشاركوا في هذه التوعية والتعبئة الشعورية، فيوضحوا للشعب وللحكومة الأضرار الاجتماعية التي تسببها هذه المعاول الهدامة وتأثير الخمر في هدم الأسر وتشرد الأبناء، كذلك أثر أجهزة الإعلام وما تبثه من أفلام أو مشاهد فاسدة تدعو إلى الانحلال وإثاره البهيمية والغريزة في النفوس، وأثر ذلك على بنية المجتمع وانهياره.

نريد من الأطباء أن يوضحوا للحكومة أولاً وللرأي العام ثانيًا الآثار الصحية الضارة للخمر والمخدرات بأنواعها، وأن يطالبوا المسئولين بحماية المجتمع من هذه الأضرار،

وكذلك أطباء الأمراض العصبية والنفسية، نريد منهم أن يقولوها صريحةً أن البعد عن الإيمان والهدى النبوي وراءَ هذه الأزمات النفسية والأمراض العصبية، وما في المجتمع من متناقضات وصراع مادي كذلك.

نريد من أهل القانون والقضاء أن يقدموا للمسئولين وللرأي العام تقاريرَهم وتحليلاتهم لانتشار الجرائم من واقع التحقيقات والمحاكمات، وكيف أن للخمر والمخدرات دورًا أساسيًا في ارتكاب هذه الجرائم، كذلك الأفلام التي تعرض في السينما والتلفاز، وعدم الاهتمام التربوي بالنشء على أساس من العقيدة والأخلاق الإسلامية والقوانين الوضعية التي لا تزجر ولا تمنع من انتشار الجرائم، وعلى رجال القانون والقضاء أن يطالبوا بتطبيق الشريعة والاهتمام بالتربية الدينية.

هكذا يدعو التيار الإسلامي كل فئات الشعب وأصحاب التخصصات المختلفة والتي لها دور في التوجيه والتأثير أن يشاركوا في هذه التعبئة الشعورية والتوعية الشعبية حول التخلص من هذا الركام وإلغاء كل معاول الهدم ووسائل التخريب والتدمير للوطن والمواطنين؛ لنشيد بعد ذلك القاعدة الصالحة الصلبة على أساس متين.

ثم لننظر بعد ذلك موقف النظام الحاكم ونواب حزبه من هذه المطالب الهامة والرئيسية، هل سيصرون على بقاء مصانع الخمر ومحال بيعها متحدِّين في ذلك شرع الله ومصلحة الوطن؟ أم أنهم سيتجاوبون معنا ويصرون على اتخاذ القرارات بإيقاف كل معاول الهدم وكل ما يجلب سخط الله علينا ويحول دون بناء المستقبل الزاهر لوطننا العزيز؟ نأمل أن يستجيبوا.


هيا إلى أقوى سلاح

نعم أقوى سلاح نقاوم به كل عدوان، ونُصلح به كل فساد ونحقق به كل خير وكل عزة ونصر، ألا وهو سلاح الإيمان بالله القوي العزيز الجبار، والإيمان بملائكته ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيرِه وشرِه.

إن الرجل المؤمن أثقلُ في ميزان القوى وأخوف للأعداء من مفاعل ذري، ذلك أننا لو تسلحنا بسلاح الإيمان وأصبحنا مؤمنين حقًا سنستحق تأييد الله ونستحق النصر والتمكين تحقيقًا لوعد لله الصادق للمؤمنين، كما ورد في كتابه العزيز، فالنصر من عند الله العزيز الحكيم، ولله جنود السموات والأرض، ولن تقف قوى الأعداء جميعًا مهما تألبوا علينا أمام قوى الله

-مُوهب القوى-:﴿وَكَانَ حَقًّاعَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(الروم: من الآية47)﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾(النور: من الآية55).

إن العدو الصهيوني لا يزال يذكر– ولن ينسى– تلك النوعية من الفدائيين الإخوان المؤمنين الذين أبلوا بلاءً حسنًا في الجهاد ضدهم على أرض فلسطين، وقاموا ببطولات رائعة سجلها البعض في كتيبات يمكن الرجوع إليها، إن الإيمان يفعل الأفاعيل إنه يحدث تغييرًا كبيرًا في النفوس ويفجر طاقات من القوة والتضحية والجهاد والصبر.

لقد حدث التآمر ضد هؤلاء المؤمنين، ودخلت الجيوش العربية لتوقف الجهاد الفدائي المؤمن، وتعلن الهدنة، ويتم التقسيم ويعلن قيام الكيان الصهيوني، ويؤخذ المجاهدون إلى المعتقلات، وتوالت المحن وألصقت التهم الباطلة بهذه النوعية، إنهم إرهابيون ومخربون ويريدون نسف المنشآت وتدمير الوطن.

أعتقد أنه قد اتضح لشعب مصر بل والشعوب العربية والإسلامية زيف هذه التهم، ووضح للجميع أن هذه النوعية من المؤمنين هم أخلص أبناء الوطن لوطنهم وأكثرهم إخلاصًا واستعدادًا للبذل والتضحية في سبيل تحقيق الخير لكل أفراد الشعب مسلمهم وغير مسلمهم.

من أجل ذلك ندعو أفراد الشعب إلى التحلي بالإيمان الصادق؛ لتتولد الطاقات والمواهب البناءة.

إن الإيمان حينما يباشر قلب صاحبه يكسبه الاطمئنان والسكينة، ويولد الشعور بالقوة والعزة والإقدام، ويخليه من الشعور بالقلق أو الضعف أو التردد والحيرة واليأس.

نريد من كل مسلم أن تصفوَ عقيدة التوحيد عنده من كل شائبة، نريد أن نتخلص من كل ألوان البدع والخرافات والدجل، خاصةً وقد ارتفعت نسبة التعليم بين أفراد الشعب مما يساعد على رفض هذه الأشياء وانحسارها وتلاشيها.

ونريد منه أن يدعم إيمانه بالعمل الصالح في كل مجال من مجالات العمل، فليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، لذلك نجد العمل الصالح مرادفًا للإيمان في كثيرٍ من آيات القرآن.

كما نريد من كل مسلم أن يؤديَ كل تكاليف الإسلام، فيقوم بعبادة الله تحقيقًا للرسالة التي خلقنا الله من أجلها في حياتنا الدنيا حيث قال:﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾(الذريات:56).

فليحافظ كلُُّ منَّا على الصلاة في وقتها، وفي المسجد ما استطاع إلى ذلك سبيلاً وبحضور قلبٍ؛ كي تؤتي ثمرتها وثوابها، فالصلاة من أقوى الوسائل لحفظ الإنسان من الانحراف وفعل المنكرات،

وصدق الله العظيم ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾(العنكبوت: من الآية45)، وهي كفارة لما بينها من السيئات.

ونريد من كل مسلم أن يصوم شهر رمضان المعظم صيامًا صحيحًا بكل جوارحه وخواطره، وليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب..

نريد أن يعود لشهر رمضان نورُه وأثرُه وروحانيتُه، وننفي عنه هذا التشويه والمسخ الذي أصابه حتى صار شهرَ التخمة و"الكنافة" والسهر والسمر و"الفوازيز".

نريد من كل مسلم صاحب مال أو تجارة أن يؤدي حق الله في ماله بالزكاة لمستحقيها ويكون قد تحرى الحلال في كسبه لهذا المال، وعلى المزكي أن يسعى هو إلى الفقراء والمحتاجين، وألا ينتظر سعيهم إليه؛ فهو الأشد حاجةً؛ لأنه يحتاج إلى ثواب الله الذي يدخله الجنة وينجيه من النار، وهذا هو الفوز العظيم، أما الفقراء فهم يحتاجون فقط إلى ما يسد رمقهم ويستر عورتهم هنا في الدنيا وهذا أمر هين.

ونريد من كل مسلم –توفرت له أسباب الاستطاعة لحج بيت الله الحرام- أن يسارع إلى أداء هذه الفريضة، ولا يسوِّف..

فلا أحد يضمن بقاءه لعام قادم، وإن رحلة الحج فرصةُُ عظيمةُُ للزاد الروحي ولغفران الذنوب، فمن أدى الحج أداءً صحيحًا، ولم يرفثْ ولم يفسقْ رجع كيوم ولدته أمه.

كثير من المسلمين يظنون العبادة المطلوبة قاصرةً على هذه الفرائض الأربع فقط، ولكن المفروض أن تكون حياتنا كلها عبادة... بمعنى أن نجعل من أكلنا وشربنا عبادة... ومن دراستنا وتعلمنا عبادة... ومن عملنا عبادة.. ومن زواجنا عبادة.. ومن رياضتنا عبادة... وهكذا، ويتحقق ذلك بأمرين اثنين: هما النية والتزام الشرع في كل من هذه الأمور وغيرها،

فلتكن نيتنا حين نأكل ونشرب أننا نتقوى بالطعام والشراب، ونتحرر من الحرام، فبهذا يصير الأكل والشرب عبادةً وننال ثوابًا على ذلك، كذلك لنجعل نيتنا في الدراسة والعلم وإفادة المسلمين بالمهنة أو الحرفة التي نتعلمها ونتحرى في تعلمنا ما لا يخالف شرع الله،

وتكون نيتنا في العمل أننا نخدم الإسلام والمسلمين بعملنا ونكسب المال الحلال لمعيشتنا وأهلنا ونتحرى ألا نعمل في عمل حرامٍ أو فيه شبهة،

وكذلك النية في الزواج تحصين النفس وإقامة البيت المسلم وتنشئة الذرية الصالحة،

والرياضة كذلك بنية تقوية الجسم ليعينه على الجهاد والعمل لصالح الإسلام والمسلمين، وبهذه الصورة تتحول الحياة إلى محراب كبير نتعبد فيه إلى الله بكل عملٍ نزاوله في حياتنا.

والتيار الإسلامي يريد من كل مسلم أن يتحلى بالأخلاق الإسلامية الفاضلة وبآداب الإسلام في كل صغيرة وكبيرة من أمور حياته ومعاملاته.

ونريد منه أن يهتم بفهم إسلامه فهمًا صحيحًا شاملاً خاليًا من أي اجتزاء أو خطأ أو انحراف، وألا يتأثر بتشكيك المشككين، وإذا أبهم عليه شيءُُ فليسأل أهل الذكر من العلماء.

أيها الشعب المصري الكريم، ليبدأ كل منَّا بتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية على نفسه وأهله وأن يرفض التعامل في أيِّ شيء حرمه الله، وألا ننتظر حتى تقوم الحكومة بتطبيق الشريعة، فالله سائلنا عن كل شيء. نستطيع أن نلزم أنفسنا بحكم الله وشرع الله فينا،

ورحم الله الأستاذ حسن الهضيبي حيث كان يقول "أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم".

نريد من كل فرد مسلم أن يقيم العدل ويتخذه أسلوبًا في حياته مع الله.. فلا يقصر في حقوق الله وأداء واجب الشكر على نعمه

-باستعمالها في طاعته وعدم استعمالها في معصيته-، وأن يكون عادلاً مع نفسه فلا يظلمها بتركها تنحرف وتعصي ربها، وأن يكون عادلاً مع الناس فلا يظلم أحدًا ولا يجورعلى حق أحد من الناس.

ونريد من كل مسلم أن يتخذ الإحسانَ أسلوبًا في حياته مع الله ومع نفسه ومع الناس، فيعبد الله وكأنه يراه وإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وأن يحسن مع نفسه بأن يسلك بها سبيل الرشاد والنجاة من عقاب الله، ويحسن مع الناس بأن يقدم لهم الخير حتى ولو أساءوا إليه﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(فصلت:34).

نريد من كل مسلم أن يبر والديه ويحسن إليهما، وأن يصل رحمه ويحسن إلى جيرانه- مسلمين كانوا أو غير مسلمين

- ونريده أن يختلط بالناس وأن يعايشهم ويتعاون معهم على البر والتقوى وكل عمل نافع لهذا الوطن، وأن يشاركهم مشاعرهم في أفراحهم وأتراحهم ويعينهم في أزماتهم وحل مشاكلهم.

ونريد من كل مسلم أن يتحرز كل التحرز من التعرض لإخواننا الأقباط بأي إيذاء أو إعنات، وألا يتورط في عمل يثير فتنةً طائفيةً أو ينال من الوحدة الوطنية. إنه ولا شك مجتمع فاضل، الذي يتمثل فيه أفرادُه هذه الآداب السامية والأخلاق الفاضلة، وما أسعد أفراده، شتان بينه وبين مجتمع تنتشر فيه الأخلاق السيئة، من كذب وغش وأنانية ونفاق وغير ذلك.

وهكذا بسلاح الإيمان نستطيع أن نحقق الكثير من مجتمعنا وأن نتخلص من كثير من العلل والأمراض، ومن السلبية واللامبالاة.

والتيار الإسلامي لا يقصر حديثه وكلامه على المواطنين المسلمين فقط، ولكنه يتوجه بالحديث أيضًا إلى إخواننا الأقباط فنقول للأفراد أولاً.

أن يحسنوا ظنهم ويصححوا أي خطأ في تفكيرهم حول الإسلام والمسلمين وذلك بالتبين وسؤال أهل الذكر، فالإسلام يهتم كثيرًا بحسن العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب الذين يعيشون في ظل دولتهم ويقر لهم بكل الحقوق الأساسية.

نريد منهم أن يراجعوا التاريخ ليعلموا كيف أنقذ الفتح الإسلامي الأقباط في مصر من ظلم الرومان؟! وقد سمعت هذه العبارة بنفسي من سيادة الأنبا شنودة، كما ذكر أيضًا تعايش إخواننا الأقباط مع المسلمين هذه القرون الطويلة في جو من الوحدة الوطنية ودون متاعب.

نريد من إخواننا الأقباط أن يطمئنوا كل الاطمئنان أن تطبيق الشريعة الإسلامية سيضمن لهم حقوقهم أكثر مما تحققه القوانين الوضعية حاليًا، ويذكر التاريخ أن كثيرًا من إخواننا النصارى تركوا الأقطار التي كانوا يقطنون فيها ليعيشوا في ظل الدول الإسلامية لما يتحقق في ظلها من أمن وعدل وأمان.

نريد من إخواننا الأقباط ألا يستجيبوا للإشاعات والأباطيل التي يرددها أعداء الإسلام والمسلمين، وأعداء المسيحيين أيضًا من الملحدين والماديين، ومن هؤلاء الذين في المهجر، الذين يرسلون مجلات وكتابات لإثارة الفتنة هنا في مصر.

فالتيار الإسلامي يؤكد لإخواننا الأقباط أن المسلمين لا يحملون كراهيةً أو حقدًا نحوهم، ويحرصون على المعايشة الهادئة الخالية من أية إثارة أو احتكاك، كما يتوجه التيار الإسلامي إلى الهيئات غير الإسلامية ويطلب منهم النظر إلى الإسلام بعين الإنصاف ومحاولة التعرف عليه من مصادرة الصحيحة لا من الأقاويل والأراجيف الصادرة عن أعداء الإسلام، ونحذر من كثير مما يقوله بعض المستشرقين عن الإسلام والمسلمين.

كما نطلب منهم العمل على منع صدور أية إساءة أو تشويه للإسلام،لأن ذلك خلق يأباه كل دين، يأباه الإسلام للمسلمين، وعلى تلك الهيئات أن تنتبه إلى التيارات التي تحاول بث الفتنة بين أبناء الوطن الواحد.

ونطلب منهم النظر بعين الحذر للتيارات العالمية التي تستهدف حرب الأديان عمومًا كالإلحاديين والماديين، كما نطلب منهم الاقتراب من الهيئات الإسلامية والتفاهم معها في كل القضايا التي تهم المسلمين أو غيرهم من أهل الأديان الأخرى.

إن ما يطلبه التيار الإسلامي من أفراد الشعب-من إصلاح أنفسهم ومن التسلح بسلاح الإيمان

-أمر يحتاج إلى جهد ومجاهدة، وإلى عزم صادق وتعاون كبير لتحقيق هذا الإصلاح، والأمل عظيم وكبير في استجابة أبناء الوطن لهذا المطلب الذي يعتبر الخطوة الأولي على طريق الإصلاح الذي ليس هناك طريق إصلاح غيره.


هيا إلى الإيجابية وتصحيح المسار

سبق أو أوضحنا أن مجتمعاتنا قد انتابتها علل وأمراض عديدة من أثر الاستعمار أو الاحتلال الأجنبي من الأعداء وكذلك من أثر الحكم الديكتاتوري الذي ابتُليت به كثير من أقطارنا العربية والإسلامية ومن هذه العلل السلبية والتسيب واللامبالاة وعدم الشعور بالمسئولية الوطنية، وهذه أمراض غاية في الخطورة.

كم سبق أن أوضحنا أن السبيل إلى العلاج من هذه العلل والأمراض لن يكون إلا بالدواء الشافي الذي وضعه الله لخلقه متمثلاً في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(الاسراء: من الآية82) وحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "تركت فيكم من إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا كتاب الله وسنتي".

فالأزمة أو الأزمات التي تعاني منها مجتمعاتنا في الحقيقة أزمة قلوب وضمائر، ومهما جمعنا من أموال وأقمنا من مؤسسا دون أن يوجد الضمير وتصلح القلوب فلن تحل هذه الأزمات ولن يتحقق أي إصلاح ولن تجدي القوانين مهما كثرت أو اشتدت في تقويم الحال وانضباطه ما لم يوجد الضمير بجانب القانون الرباني الذي شرعه الله أحكم الحاكمين والعليم الخبير بخلقه.

وسبق أن ذكرنا أن واجب كل مواطن أن يطالب النظام الحاكم مباشرة أو عن طريق ممثليه في المجالس النيابية بضرورة تطبيق شريعة الله وإيقاف معاول الهدم وكل هذه المنكرات الرسمية وغير الرسمية التي تبارز الله بالمعاصي كالخمر والربا والميسر ودور اللهو والإعلام الفاسدة وغير ذلك.

وقلنا إن صلاح الحكام مطلوب؛ لأن فيه صلاح الحكم وصلاح الوطن والمواطنين، ولكن قلنا ألا نعوّل فقط على صلاح الحكام فقد يطول بنا الموقف كي يتحقق ذلك، ولكن نبدأ مباشرة ودون تأخر بإصلاح المواطنين وتشييد القاعدة الصلبة التي يقوم عليها البناء والتي تتكون من المواطن الصالح ومن الأسرة الصالحة والمجتمع الصالح،

وطالبنا سابقًا بالتسلح بأقوى سلاح وهو الإيمان، لأن الإيمان الصادق هو الكفيل بتخليص الفرد من العلل والأمراض التي تعاني منها.

الإيمان هو الذي يخلص الفرد من السلبية واللامبالاة والتسيب وغير ذلك ويجعل منه مواطنًا إيجابيًا يستشعر مسئوليته نحو وطنه ويسعى لأداء واجبه وتعبدًا لله وأداء لواجب ديني.

توجهنا إلى كل مواطن مسلم لكي يفهم إسلامه فهما صحيحًا شاملاً بعيدًا عن الاجتزاء أو الانحراف أو الخطأ، وأن يتسلح بسلاح الإيمان ومتطلبات الإيمان من العبادة الصحيحة والأخلاق الإسلامية الفاضلة وغير ذلك من مقومات الشخصية البناءة النافعة.

واليوم نطالب بتحقيق ثمرة من ثمار الإيمان وهي الإيجابية والتخلي عن السلبية، فنتوجه إلى كل مواطن مسلم كان أو غير مسلم أن نستشعر ملكيتنا لهذا الوطن ولكل شبر فيه ولكل مقوم من مقومات الحياة فيه، وليس لأى جهة أن تتصرف في أي شبر من أرض الوطن أو أي مقوم من مقوماته مغفلة حق المواطنين وملكيتهم للوطن ومقوماته.

ولن يكون ذلك بمجرد الكلام ورفع الشعارات وتسويد الصحف بالمقالات ولكن بالعمل والإيجابية.

نريد من كل مواطن أن يقوم بدور إيجابي بناء في موقعه وفي دائرة مسئوليته واختصاصه،

وأن يتحرى في ذلك مراقبة الله وصالح الوطن ولا يخشى في الله لومة لائم، وأن يشعر أنه على ثغرة من ثغرات الوطن عليه أن يسدها ويؤديها على أكمل وجه، إن الإيمان يدفع صاحبه إلى إتقان عمله وحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-

يحثنا على ذلك "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" كما يحثنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى العمل وتحمل مشاقه فيقول "من بات كالاً من عمل يده بات مغفورًا له".

نريد من المواطن المدرس رجلاً كان أو امرأة أن يخلص في أداء عمله الذي يعتبر من أهم وأخطر مراحل البناء في المجتمع، فالأجيال الناشئة أمانة في أيدي المدرسين على مختلف مراحل التعليم، نريد المدرس القدوة العملية لأبنائه الطلبة يقتدون به في إخلاصه لله وللوطن ويقتدون به في أخلاقه وسلوكه،

إن الطلبة في فترة التعليم يمرون بمراحلة بناء شخصيتهم بدنيًا وعقليًا وروحيًا، وبالتالي تتشكل الأجيال حسب ما يتلقونه من مفاهيم ومبادئ ومثل وقيم عن طريق مدرسيهم ويكون لذلك أثره الممتد في حياتهم بعد ذلك.

إن التيار الإسلامي يحث على العلم والتعليم فأول آيات نزلت من القرآن تحث على العلم بقوله تعالى﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾(العلق:1-5)،

لا نريد التعليم الذي يكفي فقط لمجرد النجاح في امتحان آخر العام، ولكن نريد التعليم الذي يفتح الأذهان ويدعو إلى التدبر في هذا الكون والكشف عن أسراره لتسخيرها في صالح البشرية لا في تدميرها كما يحدث في العالم المادي الذي يطلقون عليه اسم العالم المتحضر،

لا نريد مجرد حشو عقول الطلبة بالمعلومات لغرض النجاح في الامتحان، ولكن نربط العلوم بواقع الحياة وكيفية تطبيقها والاستفادة منها في الرقي بالوطن.

كما ننبه إلى الفارق الكبير بين التعليم والتربية، فإذا كان التعليم يتعامل مع العقول والأذهان فإن التربية تتعامل مع النفوس والأرواح وهذا يجعل الاهتمام بالتربية أكبر وألزم، وللأسف نري أن معظم مؤسساتنا التعليمية تركز على العلم والثقافة، وتهمل التربية، ولكن المدرس القدوة يمكنه أن يؤدي هذا الدور ويكمل هذا النقص، وأن يربط العلم بالله وقدرته وإبداعه في خلقه﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾.

ربما ظن كثير من المدرسين أنه يعتبر مدرسًا ناجحًا بنجاح أكبر عدد من الطلبة في المادة التي يدرسها لهم دون قيامه بدور المربي والموجه لطلبته في سلوكهم وأخلاقياتهم، وهذا فهم خاطئ فكما قلنا أن التربية أهم وأخطر من العلم.

إن الاستعمار تدخل في مناهج التربية والتعليم في مؤسساتنا التعليمية وبناها على فلسفته المادية، والواجب على المسئولين عن التربية والتعليم أن يراجعوا هذا المناهج وأن يخلوها من كل دخيل غريب على مجتمعاتنا وعقيدتنا وتقليدينا وأن يقيموها على فلسفة إسلامية لتوافق عقيدة شعبنا وتقاليده.

الإسلام لا يمنع من تعلم المرأة، بل يحث عليه ولكن لا نريد من وراء ذلك أن نتعرض إلى الابتذال والاختلاط والتبرج الذي يمهد للفساد والانحراف.

وقبل أن نترك مجال التدريس نطلب من كل مواطن في موقع ناظر المدرسة أو مدير المعهد أو عميد الكلية أو مدير الجامعة، أن يستشعر مسئوليته الضخمة أمام الله أولاً وأمام التاريخ والوطن ثانيًا بعدد الطلبة الذين في مدرسته أو معهده أو كليته أو جامعته، مسئوليته عن حسن إعدادهم روحيًا وعلميًا وبدنيًا؛

فهم عدة المستقبل وأداة بنائه رقيه، لا يكفي أن تدار هذه المؤسسات من المكاتب ولكن لابد من المتابعة الميدانية والاطمئنان على أداء كل من تحت إدارته لعمله على أكمل وجه ودون مجاملة.

إن مشكلة التعليم في مصر تحتاج إلى مراجعة، فقد أفرزت سياسة التعليم أفواجًا من أصحاب الشهادات المعطلين وأنتجت مشكلة البطالة التي يخشي من تفاقهمها ومن مضاعفاتها وردود أفعالها الضارة اجتماعيًا وسياسيًا.

إنها السياسة التي وضعها المستعمر ولم نفكر جديًا في تغييرها، وإن كنا نسمع اليوم عن محاولات في هذا المجال بعد أن أزعجتنا مشكلة البطالة،

في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الأيدي العاملة المنتجة في التخصصات المختلفة ولا يكون ذلك بإعدادهم في مراحل التعليم الأولي مع إعداد مجالات العمل لهم في الصناعة والزراعة واستخراج الثروات الطبيعية، ولا يكون ذلك أيضًا إلا في جو من الحرية والأمن والاستقرار،

لا في جو من الإرهاب والاعتقالات والمصادرات والتحكم في كثير من مقدرات العمل والإنتاج.

ونختم حديث اليوم مع المواطن الطالب ندعوه أن يعطي قضية الدراسة والتعلم الاهتمام اللائق بها،

وأن تكون نيته إفادة وطنه وبني وطنه بالتخصص الذي سيتخصصه وللإسهام في بناء الوطن كي يتحقق الاكتفاء الذاتي ونتخلص من التبعية لغيرنا،

وندعو المواطن الطالب أو الطالبة أن يركز اهتمامه وينظم وقته ليجتاز مرحلة التعليم باستيعاب واستزادة وترقي في مدارج العلوم، وألا يكون همه مجرد الحصول على درجة النجاح ولو باللجوء للغش، وندعوه أن يتحرز من قرناء السوء الذين يفسدون عليه حياته العملية والخلقية وندعوه إلى احترام أساتذته ويقدر فضلهم في تعليمه، وندعوه إلى الالتزام بالقيم الدينية والأخلاق الفاضلة، كما ندعوه إلى توسيع مداركه خاصةً في المجالات العملية كي يواجه الحياة ومتطلباتها.

نريد من طلابنا أن يفكروا في كيفية إسهامهم في بناء مستقبل فاضل لوطنهم.


مع الإيجابية وتصحيح المسار

نواصل دعوة أبناء الوطن إلى الإيجابية ونبذ السلبية وتصحيح المسار، وقد تعرضنا سابقًا إلى مجال التعليم ووجهنا حديثنا إلى الأساتذة والمدرسين وإلى المسئولين عن التعليم وكذلك إلى أبنائنا الطلاب.

ونتوجه بعد ذلك إلى المواطن الطبيب والمواطنة الطبيبة سواء من يعملون كموظفين في مؤسسات حكومية أو من يعملون في قطاع خاص أو عيادات خاصة.

نطلب منهم جميعًا أن يقدروا أهمية الدور الذي يقومون به في علاج إخوانهم المواطنين المرضى، ونوصيهم أن يراقبوا الله في عملهم وأن يقصدوا وجه الله وثوابه قبل أن ينظروا إلى العائد المادي، هناك شكاوي كثيرة من مستوي العلاج والاهتمام في المستشفيات الحكومية،

وإننا نناشد الأطباء والطبيبات أن يؤدوا مهمتهم أحسن أداء لينالوا حسن الجزاء من الله، ولا يكون هناك مجال بينهم لما نسمعه من بعض موظفي الحكومة(على قدر فلوسهم بنشتغل)،

فالمرضى وصحتهم أمانة في أعناقهم، كما نوصيهم بالا يغالوا في أسعار العلاج وأن يراعوا ما أمكن حال المريض المادية خاصةً إذا كان فقيرًا، نريد من إخواننا الأطباء أن يتسموا بالحلم وسعة الصدر والرحمة والدقة، كما نوصيهم أن يحرصوا علي زيادة خبراتهم ودراساتهم التخصصية كي يرتقوا بمستوى العلاج في وطننا فلا نحتاج إلى الخارج إلا نادرًا.

ولعله من المفيد في هذه المناسبة أن يستقر في ذهن كل طبيب وطبيبة أنه ليس هو الذي يشفي، ولكن الله هو الشافي وهو فقط يقوم بالتشخيص قدر علمه ويأخذ بأسباب العلاج، وبقدر إخلاصه لله واهتمامه في الحصول على الكفاءة والخبرة سيوفقه الله إلى العلاج المناسب ويتحقق الشفاء بعون الله.

وحبذا في العيادات الخاصةً أن ينظم الطبيب مواعيد مرضاه ما أمكن حتى لا يطول انتظار بعضهم ويضيع وقتهم وتعطل مصالحهم ومرافقيهم.

ونتوجه بعد ذلك إلى العالم الديني، والإيجابية المطلوبة منه تكون بدراسته لما عليه أفراد المجتمع وأسرهم من أحوال وتقديم التوجيه المناسب الفعال المؤثر في النفوس، ويكون ذلك بأن يكون هو في ذاته قدوة حسنة لما يدعو إليه من فضائل،

وأن يؤدي عمله قاصدًا وجه الله وثوابه وليس لمجرد أداء واجب وظيفي، وأن يعيش القضايا التي يدعو إليها بعمق وبقلبه ووجدانه، حينئذ سيكون لتوجيهه الأثر الطيب النافع لأن ما خرج من القلب يصل إلى القلوب، وما خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان.

كما نريد من إخواننا العلماء أن يرفعوا أصواتهم برأي الدين في القضايا المختلفة التي يعيشها الناس وخاصةً ما يخالف منه الشرع كالخمر والميسر والربا والإعلام وغير ذلك.

لقد صار من الأمور المتعارف عليها بين الناس أن العلماء والموظفين يتحاشون الحديث عن بعض القضايا المخالفة للشرع والتي تمارسها الحكومة خوفًا على وظيفتهم،

هذه سلبية غير مطلوبة تستجلب غضب الله علينا وعليهم، نريد تلك النوعية من العلماء الإيجابيين الذين يقولون الحق ولا يخافون في الله لومة لائم، ولو تعرضوا بسبب ذلك إلى الإيذاء، فإيذاء الدنيا أهون من عذاب الله يوم القيامة بسبب كتمان العلم.

ثم نتوجه إلى المواطن رجل القانون قاضيًا كان أو محاميًا أو رجل نيابة، إن كثيرًا منهم لهم مواقف سلبية يجب أن يتخلصوا منها وتكون لهم مواقفهم الإيجابية،

إن دورهم يتصل بجانب هام من حياة الناس وهو تحقيق العدل والأمن وحماية الحقوق والحريات من أي جور أو اعتداء سواء كان من الأفراد أو النظام الحاكم،

إننا نجد هذه السلبية عند البعض عندما يكون الجور أو الاعتداء أو النيل من هذه الحقوق من قبل الحكم نحو المواطنين، نحن لا ننكر صورًا كريمة من الإيجابية الصادقة من الكثيرين من رجال القانون ووقوفهم بجانب الحق والعدل ضد الظلم والجور مهما كان مصدره،

والحقيقة أن القضاء المصري كان دائمًا يُشهد له بكل التقدير والاحترام والدقة في تحري العدل وكان ذلك واضحًا في الماضي قبل تسلط الحكم الدكتاتوري منذ أكثر من ثلاثين عامًا،

ورحم الله رجل القانون الأستاذ عبد الرازق السنهوري وكيف ذُبح القانون والقضاء بالاعتداء عليه بالضرب والهتافات التي خرجت من الحناجر المأجورة تقول(يسقط المحامين الجهلة).

نريد من رجال القانون أن يقولوا قولة الحق بقوة وهي أن الشريعة الإسلامية هي القوانين التي لا بديل لها لتحقيق العدل والأمن واختفاء الجرائم أو تقليصها على الأقل، وهذا ما قرره مؤتمر العدالة،

ونريد من الضمائر الحية لرجال القانون أن تصر على هذا المطلب أداء لأماناتهم تجاه وطنهم وأبناء وطنهم، وأن يطالبوا الحكومة بإيقاف معاول الهدم التي تدفع إلى ارتكاب الجرائم كالخمر والميسر والجانب الفاسد في الإعلام وغير ذلك من صور الفساد والإفساد.

نريد من رجل النيابة ألا يستجيب لطلبات رجال الأمن من حيث تلفيق القضايا وإلصاق الاتهامات الباطلة إلى بعض المواطنين وخاصةً الإسلاميين منهم، نريد منهم ألا يتورطوا في إيقاع ظلم بأحد من المواطنين، فالظلم ظلمات يوم القيامة ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.

نحن نقدر دور رجل النيابة في المحافظة على حرمات المواطنين من الذين يعتدون عليها وكذا المحافظة على سلامة الوطن وأمنه، ولكننا لمسنا بل قاسينا الكثير من الإيذاء والتعذيب ولم تطالب النيابة بحقنا ممن قاموا بتعذيبنا، وربما استجاب بعضهم لتلفيق قضايا نتيجة اعترافات مأخوذة تحت التعذيب من رجال الأمن.

ونريد من المواطنين المحامين أن يتحروا الحق في دفاعهم عن المتهمين، وأن يطالبوا مع غيرهم من رجال القانون بأن تسود شريعة الله وأن يحترم الدستور الذي ينص بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسى للتشريع، نريدهم أن يدافعوا عن الحريات خدمة للوطن والمواطنين ففي ظل الحرية تنطلق المواهب ويتحقق الإنتاج والاستقرار والازدهار، وبالتالي يطالبون باصرار بإلغاء القوانين الاستثنائية المقيدة للحريات.

ثم نتوجه إلى المواطن رجل الشرطة أو رجل الأمن المركزي وغير المركزي ونقول له إن التيار الإسلامي رغم ما تعرض له من إيذاء وتعذيب بل وقتل على أيدي بعض رجال الشرطة أو الأمن،

فإننا نقدر المهمة التي يقوم بها رجال الشرطة والأمن والمسئولية الملقاة على عاتقهم في تحقيق الأمن للوطن والمواطنين ولكننا نشجب ونعارض أشد المعارضة التجاوزات التي تحدث من بعضهم في انتزاع اعترافات خاطئة تحت الإيذاء والتعذيب وما يترتب على ذلك من تلفيق القضايا والمحاكمات والأحكام الظالمة، نقول لهم نريدكم رجال أمن حقًا لا رجال ترويع وتفزيع، نريدكم

- وخاصةً المسئولين فيكم

– إيجابيين مع وطنيتكم فتوقفوا أي اعتداء على حرمات إخوانكم المواطنين،

وألا تتورطوا في مظالم وجرائم تقترفونها في حقهم واعلموا أن الذي يظلم إنما في الحقيقة يظلم نفسه قبل أن يظلم غيره، ولا يغرنكم أي وعود بأنكم ستفلتون من عقاب القانون،

وحتى لو تم ذلك فإن الحكم العدل لن يضيع عنده حق لمظلوم﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ* مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ* وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾.

إن الإسلام الذي نلزم أنفسنا به يوجب علينا المحافظة على أمن الوطن والمواطنين، وهذا هو الفهم الصحيح للإسلام والتطبيق الصحيح له،

والإيجابية التي نطالب المسئولين عن الأمن بها أن تكون لهم دراسة دقيقة لأي ظاهرة تظهر في المجتمع تؤثر على أمنه لمعرفة الأسباب الحقيقة التي وراء هذه الظاهرة وكيف تُعالج ليكون حلا جذريًا وليس مجرد حل جزئي وقتي خاطئ بالاعتقال والتعذيب والمحاكمة.

نتعرض في حديثنا على نوعيات من أبناء الوطن نحثهم على نبذ السلبية واللامبالاة والتسيب، إلى الإيجابية البناءة النافعة للوطن والمواطنين، وتعرضنا إلى مجال التعليم ومن يعملون فيه طلابًا كانوا أو أساتذة ومدرسين والمسئولين عن سياسة التعليم،

ثم تعرضنا إلى الأطباء وإلى العلماء الدينيين ودورهم الخطير ثم إلى رجال الشرطة والأمن والمسئولين عنهم.

ونتوجه بعد ذلك إلى رجال الإعلام بمجالاته المختلفة مطالبين إياهم بوقفة مراجعة يتعرفون فيها على دورهم الخطير ذي الأثر الكبير في تغيير المجتمع سلبًا أو إيجابًا،

ونحثهم على نبذ السلبية والبعد عن كل ما من شاْنه التأثير السلبي الضار بالوطن والمواطنين، ونريد منهم إيجابية نافعة بناءة تفيد الوطن والمواطنين.

إن أجهزة الإعلام من إذاعة صوتية ومرئية ومسرح وسينما وصحف ومجلات وكتب ونشرات ودور نشر ومراكز ثقافية ومكتبات عامة وخاصةً وأشرطة صوتية ومرئية كل ذلك يعمل عمله ويترك أثره في النفوس والسلوكيات بالخير أو الشر بالبناء أو الهدم، ولا نريد من الحكومة أن تقف من هذه الوسائل الموقف السلبي بتركها تبث الكثير الضار بجانب القليل النافع.

نتوجه إلى من يشاركون في جهاز الإذاعة والتليفزيون أن يراقبوا الله فيما يقدمون، فهذه الأجهزة تكاد لا يخلو منها بيت ولها تأثيرها المباشر،

وقد كثر النقد والإنكار لكثير مما يقدم في هذين الجهازين من برامج تخدش الحياء إن لم تذبحه وتخرب المواطن من داخله، ليعلم كل من يقدم هذا النوع رجلاً كان أو أنثي أن كلاً منهما يحمل أوزارًا بعدد المشاهدين في كل مرة حتى بعد وفاة من قدم هذه البرامج السيئة،

إن هناك مجالات راقية نافعة مربية يمكن أن تقدم من خلال الإذاعة والتليفزيون يكون لها الأثر البناء في المجتمع. ما لنا نحن والباليه الذي يعرض أحيانًا على الشاشة الصغيرة(بلاوى إيه دي؟).

كما نتوجه إلى المواطن الصحفي رجلاً كان أو امرأة ليلتزم المسار الصحيح النافع في رسالته كصحفي بأن يتحرى الخبر الصادق دون انتقاص أو تضخيم أو مغايرة للواقع،

وأن يقدم التحليل الموضوعي الدقيق الذي يفيد القارئ، وأن يتجنب التجريح وإيذاء الغير بما يكتب، نريد القلم الحر النزيه البعيد عن النفاق والتزلف، والذي يقول للمحسن أحسنت وللمسئ أسأت في أدب دون مغالاة.

ونريد من المواطن الصحفي أن يكون وطنيًا صادقًا، ولا تغريه المادة فيكتب لصالح الأعداء.

ونريد من المؤسسة الصحفية أن تستشعر مسئوليتها أمام الله ثم أمام الوطن فيما تسود به صفحاتها فلا تقدم إلا النافع، ألا تضيع وقت القراء في كتابات غثة تافهة ومن باب أولي تتجنب الكتابات الضارة.

ونريد من دور النشر أن تتحرى فيما تنشر من كتب ما يحوي الخير النافع وتتجنب السيء الضار، وألا يغريها الكسب المادي لترويج الكتب أو المجلات الهابطة.

نريد أيضًا من المكتبات مراعاة توزيع الكتب والمجلات النافعة ومقاطعة الكتب والمجلات الهابطة.

نريد من الكتاب والمؤلفين أن يراقبوا الله ويراعوا مصلحة الوطن، فلا يكتبوا إلا النافع المفيد والذي لا يتعارض مع عقيدة الشعب المسلم، وأن يستشعروا مسئوليتهم عن كل وقت ينفقه كل قارئ لكتبهم أو مقالاتهم ومن الأثر الطيب أو الخبيث الذي تتركه هذه الكبت أو المقالات في نفوس القراء.

وينطبق ما سبق أن ذكرناه أيضًا على من يعملون في مجال السينما والمسرح، وكذلك أشرطة الفيديو.

ونتوجه بعد ذلك إلى موظفي الدولة والقطاع العام كل في موقعه وقد كثرت الشكوى من كثير من الجماهير من صور السلبية واللامبالاة والتعقيد في قضاء المصالح، وضياع الأوقات الكثيرة في التردد لإنجاز المهام، ربما تعلل البعض أن المرتبات ضعيفة ولا تتناسب مع بذل الجهد المطلوب،

ولكن هذا خطأ كبير وسلبية خطيرة يجب التخلص منها، فطالما أن كل فرد ارتضى بقاءه في وظيفته فعليه أن يؤديها على الوجه الأكمل، وأن يحترم مشاعر ووقت إخوانه المواطنين، وليكن صادقًا أمينًا في أداء مهمته.

للأسف الشديد إننا نجد اليوم المكتب الذي كان يؤدي مهامه اثنان أو ثلاثة على الوجه حسن صار فيه ما يقرب من عشرة وهبط مستوى الأداء، نريد أن تختفي هذه الظاهرة.

إن الوظيفة في أي مرفق أمانة وثغرة، وأي إهمال فيها يمكن أن يرتب مضاعفات ضارة كبيرة، وقد يتحايل الفرد للهروب من طائلة المساءلة والعقاب، ولكن ليستشعر رقابة الله عليه.

ونتوجه إلى أصحاب الحرف المختلفة ونتواصى معهم بإتقان العمل الذي يقومون به ويتمونه في الوقت الذي يحددونه دون إهمال أو تأخير، ونريد منهم الترقي في مستوي حرفهم ليرتقي المستوي الفني والحرفي في قطرنا مصر ونثبت أن عندنا حرفيين مهرة في كل المجالات.

ونتوجه إلى المواطن الزارع في حقله أن يستشعر دوره الهام في الإنتاج الزراعي وخاصةً ما يغنينا عن استيراد القمح الذي تجعله أمريكا وسيلة ضغط علينا، وعلى المسئولين أن ييسروا لإخواننا المواطنين الذين يعملون في حقل الزراعة استصلاح الأراضي والارتقاء بمستوى إنتاجنا الزراعي كمّا وكيفًا.

ونتوجه إلى كل مواطن مهندسًا كان أو عاملاً ممن يعملون في مجال الصناعة والإنتاج القومي أن يعلموا أنهم يؤدون دورًا هامًا في بناء الوطن يحقق الاكتفاء الذاتي،

وبقدر زيادة إنتاجنا والارتقاء بمستواه يكون اقتصادنا قويًا ويتوقف انحدار قيمة عملتنا المحلية وتتضاءل نسبة التضخم، ويقل ارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة.

إننا نتألم غاية الألم كلما سمعنا عن شركات القطاع العام وما تتعرض له من خسارة، وهبوط مستوي إنتاجها أو على الأقل عدم ارتقائه،

إننا نؤمن بكفاءة المهندس المصري والعامل المصري فلماذا هذه النتائج المؤسفة؟ نريد تهيئة الظروف والإمكانات المناسبة ليظهر إبداع الكفاءة المصرية في مجال الصناع لنكتفي ذاتيًا ولنصدر لغيرنا من الأقطار.

ثم نتوجه إلى المواطنين النواب في مجلس الشعب ومجلس الشورى، ونطالبهم بالإيجابية وتصحيح مسارهم في أداء الدور المنوط بهم، وقد انتخبهم الشعب ممثلين له؛

لتحقيق رغباته ومحاسبة الحكومة نيابة عن الشعب عن أدائها لدورها في خدمة الشعب، لا نريد السلبية التي نلمسها عند بعض النواب وخاصةً نواب الحزب الحاكم،

لم نر أو نسمع مرة أن نائبًا من الحزب الحاكم قدم نقدًا أو اعتراضًا على تصرف للحكومة أو أحد وزرائها في حين أن ذلك يعلي من شأن نواب الحزب الحاكم ولا ينال من ولائهم للحزب، أما الموافقة على طول الخط والتصفيق لكل صغير أو كبير فذلك أمر يسيء إلى النواب وإلي الحكومة ويعتبر موقفًا سليبًا غير مقبول.

ثم نتوجه أخيرًا إلى المواطنين جميعًا للتخلي عن السلبية واللامبالاة التي نرى لها صورًا كثيرة في حياة الناس، نراها في عدم نظافة الأحياء والشوارع لإلقاء المواطنين الفضلات في غير الأماكن المخصصة لها، ونرى حفرًا في بعض الشوارع يتعرض المارة إلى الخطر بسببها ولا يفكر أحد في ردمها، نرى سيارات تقف في أماكن غير مخصصة لها فتعطل المرور،

نري مخالفات المرور، نرى تسعكًا في الطرقات واساءات للمارة، نرى إسرافًا في استعمال الماء والكهرباء، وها نحن نسمع عن احتمال تعرض مصر إلى نقص في الماء في السنوات القادمة، كذلك الطاقة الكهربائية لن تغطي احتياجات الشعب مستقبلاً.

نريد من كل مواطن أن يحرص على المال العام من التلف أو الضياع ومن باب أولى لا يأخذ منه بغير وجه حق، نريد من كل مواطن أن يأمر بالمعروف وأن ينهى علن المنكر لتتضافر الجود في تطهير المجتمع من الآفات التي تحطمه، كما تتضافر الجهود في مقاومة الأوبئة.

نريد من كل مواطن أن يقلع عن العادات الضارة التي تفسد صحته وتضر بالمجتمع وتبدد ثروته كالتدخين والمخدرات والخمر والميسر وغير ذلك.

نريد من المواطنين أن يتخففوا من الكماليات وأسباب الترف التي تدعو إلى الإخلاد إلى الدعة وأن يتعودوا على الحياة المعتدلة في حدود الضروريات لنستطيع أن نواجه الأزمات الاقتصادية بالإرادة القوية والتقشف إذا اقتضى الأمر.

نريد من كل مواطن أن يكون رحيم القلب عطوفًا على اليتامي والفقراء والمساكين، وأن يساهم في كل عمل فيه بر وإحسان وخير لإخوانه المواطنين وخاصةً المحتاجين.

بعد هذه الجولة الممتدة حول الإيجابية وتصحيح المسار عند طوائف الشعب المختلفة أحسب لو استجبنا لهذا النداء سيتحقق خير كثير للوطن ونكون قد بدأنا إيجابية في بناء الوطن تتلوها خطوات بإذن الله.

الأسر دعامة أساسية في البناء

إن شعورنا بالألم يصاحبه شعور بالأمل يعتملان في نفس كل فرد من التيار الإسلامي بسب ما آل إليه الحال في مجتمعنا من تراكم المشاكل والأزمات التي يعاني منها الغالبية العظمى من الشعب دون حل جذري لها من جهة المسئولين، فدفعنا ذلك إلى القيام بما يمليه علينا ديننا من واجب الإقدام بكل القوة والإيجابية لتدارك الأمر والحيلولة دون انهيار الأوضاع،

وضرورة الإسهام في بناء الوطن وتخليصه من العلل والأمراض التي أصابته في فترات احتلال الأعداء وما تلاها من فترات حكم دكتاتوري متسلط.

وإن الشعار الذي رفعه التحالف الإسلامي بأن "الإسلام هو الحل" هو الطريق الوحيد للإصلاح الشامل والعلاج الشافي من تلك العلل والأمراض، وسنظل نطالب به المسئولين ونكسب الرأي العام لجانبه وحتى يستجيب له المسئولون ونكسب الرأي العام لجانبه، وحتى يستجيب له المسئولون اختيارًا أو إجبارًا نزولاً على إرادة الشعب،

طالبنا أبناء الوطن بالإيجابية وتصحيح المسار كل مع نفسه وفي موقعه وعمله، بأن يلزم كل منا نفسه بتعاليم ديننا الحنيف وما فيه مصلحة الوطن المواطنين.

ونوجه حديثنا هذه المرة إلى الأسرة وما يمكن لرب الأسرة وأفرادها من خطوات إيجابية لتصحيح المسار، فالأسرة دعامة أساسية في البناء، لأن المجتمع ما هو إلا مجموعة من الأسر، فإذا صلحت الأسرة صلح المجتمع وتكونت القاعدة المتينة لبناء الوطن،

وإذا انهارت الأسرة انهار المجتمع، وقد حرص أعداء الوطن وأعداء الإسلام على تحقيق هذا الانهيار بكل وسائل الفساد والإفساد بالخمر والميسر والتبرج والفحشاء واستخدام المرأة كوسيلة لنشر الرذيلة، وشغلها عن رسالتها الأساسية في تنشئة الأجيال، وتسبب ذلك في تشرد كثير من الأبناء وضياعهم وانتشار الجرائم وساعد إعلامنا الفاسد على ذلك، كما أن التعليم في مدارسنا ومعاهدنا أهمل جانب التربية في مراحل التعليم وفي فترة بناء شخصية الأجيال.

ونريد من كل رب أسرة أن يستشعر مسئوليته وواجبه الديني والوطني نحو أسرته وألا يقتصر اهتمامه بتوفير المطعم والمشرب والملبس ومستلزمات الحياة الدنيوية فقط، ولكن ليعلم أنه قبل ذلك وأهم منه رعايتهم دينيًا وخلقيًا، فالله تعالى يقول﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾(التحريم:6) وكذلك حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يؤكد رعاية الرجل لأهل بيته والمرأة راعية في بيت زوجها.

نريد هذا التصحيح في المقاييس والموازين لتكون ربانية قرآنية لا ما دية دنيوية، فكثيرًا ما نري الأبوين يهتمان بمن يمرض من أبنائهم وبعلاجه وانتظامه في أخذ الدواء ولا نلمس منهما مثل هذا الاهتمام حينما يقصر الأبناء في أمور دينهم وفي انتظامهم في أداء الصلاة أو الصوم أو امتثال الأخلاق الإسلامية.

وهنا نحب أن نذكر الآباء والأمهات أن الأبناء يكونون نعمة وقرة أعين إذا أحسن إعدادهم وتربيتهم وتنشيءتهم على الاستقامة، ويصيرن نقمة ومصدر عنت إذا أهملت تربيتهم، والأبناء في فتراتهم الأولي مثلهم كمثل النبتة اللينة إذا نمت مستقيمة اشتد ساقها مستقيمًا، أما إذا حدث لها اعوجاج وهي لينة فسيشتد ساقها بعد ذلك معوجًا وقد يصعب إعادته إلى الاستقامة إلا من رحم ربك.

ونذكر أيضًا بمعنى في غاية الأهمية يغفل عنه كثير من الناس وهو الفهم الخاطئ عند الكثير من الشباب والفتيات حيث يعتقدون إن السعادة الزوجية تتحقق بتوفر المسكن الجيد والأثاث الفخم والثياب الفاخرة وتوفر السيارة وغير ذلك من متاع الدنيا،

في حين أن السعادة الزوجية الحقة تتحقق بتوفر تقوى الله عند الزوج والزوجة، هذه التقوى التي تولد تبادل الثقة بينهما وتبعد الشكوك والظنون ووسوسة الشيطان، ويضفي الله على حياتهما السكن والمودة والرحمة ولو كانا يسكنان في كوخ صغير،

وقد يكونان في قصر منيف لكنهما يفقدان هذه النعم وتكون حياتهما شقية لا أنس فيها ولا مودة ولا رحمة.

والقرآن الكريم يشير إلى هذا المعني في قوله تعالى﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الروم:21) ورسولنا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- ينبهنا عند اختيار الزوجة أن نظفر بذات الدين ولا يغرينا مالها أو جمالها أو حسبها إذا نقص دينها.

والشاعر يقول:

ولست أرى السعادة جمع مالٍ

ولكن التقيّ هو السعيد

ونريد رب الأسرة الذي يغار على عرضه فلا يترك زوجته أو بناته دون تربية، فيخرجن متبرجات متكشفات يتعرضن إلى الفتنة وإلى الذئاب البشرية وإلى غضب الله عليهن، ويعدن إلى البيت وقد حملن من السيئات بعدد النظرات التي سقطت عليهن ممن لا يحل لهم أن يروا ما أمر الله به أن يستر، وهذه النظرات المحرمة لو قدرت لتجاوزت الآلاف في كل مرة يخرجن فيها.

ونريد من الرجل رب الأسرة أن يعامل زوجته بالحسنى، وأن يقوم بواجباته نحوها فرسولنا -صلى الله عليه وسلم

- يقول "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" وكان دائمًا يوصي النساء خيرًا وكان يشارك أهله أحيانًا في عمل البيت، لا نريد رب الأسرة المستبد برأيه والذي يريد فقد أن يأمر فيطاع فالزوجة لها دورها الخطير في بناء الأسرة واستقرارها فلابد أن تشارك بالرأي وأن يسود جو التفاهم والتعاون فيما بينهما في شيءون الأسرة.

على رب الأسرة أن يضفي على الأسرة جو البهجة والحب والمناخ الطاهر النظيف الخالي من العادات السيئة والأخلاق الهابطة كي لا ينعكس ذلك على الأبناء لأنهم يقتدون بألصق الناس بهم وهما الأب والأم.

لا نريد رب الأسرة الذي تشغله أعماله عن رعاية بيته وأولاده وحمايتهم من الانحراف فلن ينفع المال مهما كثر في إصلاح أي فساد أو انحراف نتج بسبب انشغاله في جمع المال. وصدق الشاعر حين يقول:

أصون عرضي بمالي لا أدنسه

لا بارك الله بعد العرض في المال

أحتال للمال إن أودى فأكسبه

ولست للعرض إن أودى بمحتال

ونريد من المرأة زوجة كانت أو أمًا أن تقدر دورها الخطير في بناء الوطن، وذلك بحسن أدائها لدورها في البيت وتنشئة الأبناء، فهي صانعة الرجال.

إن الإسلام جاء من أكثر من ألف وأربعمائة سنة ليكرم المرأة ويرفع من مكانتها وما كانت عليه من امتهان، وأعطاها حقوقها كاملة بما لم تعطه لها قوانين الدول الحديثة التي يسمونها بالدول المتقدمة وأصحاب الحضارة الحديثة،

إن كثيرًا من هذه الدول وإلي عهد قريب كانت تحرم المرأة من الميراث إذا كان لها أخ كما كانت تحرمها من الميراث إذا كانت أمًا.

إن هناك فئة ضالة تدعي أنها تدافع عن حقوق المرأة وأنها تريد أن تحررها من القيود التي يقيدها بها الإسلام وتعاليمه الخاصة بها،

والحقيقة أن هؤلاء الأدعياء لا يدافعون عن المرأة ولكنهم يدفعون بها إلى الضياع والابتذال والامتهان، في حين أن الإسلام بتعاليمه الربانية يريد أن يكرمها ويحفظ عليها كمالها وجلالها، وأن يصونها من أن تكون مجرد متعة لحظية يتبادلها أمثال هؤلاء الأدعياء الذين يدعون أنهم يدافعون عنها، يريدون لها السفور والتبرج والاختلاط الذي لا يُلتزم فيه بما يحول دون الفتنة.

ألا فليعلم الجميع أن الحرية الحقيقية التي تحقق الخير للأفراد والمجتمع هي في التزام تعاليم الله خالق البشر وهو أعلم بمن خلق وبهم رءوف رحيم، وهل يتصور عاقل أن الله في تعاليمه يجور على المرأة! أو أنه منحاز للرجل على حساب المرأة! كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا.

ويكفينا نظرة إلى الواقع في بلاد الغرب أو الشرق المادي وحال المرأة والأسرة والعلاقة بين أفرادها، وكثير من هذه الدول يشكون اليوم من التفريغ السكاني ويحاولون بكل الوسائل معالجة هذه الظاهرة.

كما نرى المرأة في تلك الدول تشقى في سبيل توفير أسباب معيشتها، في حين يُلزم الإسلام الرجال بكفالة المرأة وتكريمها، وهذا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحث على تكريم المرأة، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم تدرك له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة".

إننا نطلب من كل زوجة أو أم أن تقوم بدورها بإقامة البيت على أساس من آداب الدين الحنيف وتعاليمه وتنشيء الأبناء على أخلاق الإسلام وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وحمايتهم من التأثر بالأخلاق والعادات السيئة التي يجدونها في الشارع وعن طريق أجهزة الإعلام،

كما ننبه إلى خطورة ترك الأبناء للخادمات أو المربيات بسبب الانشغال بالعمل، فإن ذلك له انعكاسات سيئة في بناء شخصية الأبناء، وإن أي نقص أو انحراف في تنشيءتهم لا يعدله مال.

كما نطالب ربة البيت أن تتحرى الحلال والبعد عن الحرام في مطعمهم ومشربهم، كذلك عدم الإسراف في استهلاك المياه والكهرباء والطعام وغير ذلك، خاصةً في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها الشعب.

وهكذا عندما تستجيب الأسر لهذا الذي ندعوهم إليه نكون قد خطونا خطوة بناءة عظيمة في مراحل بناء الوطن، ومما يبشر بخير أن نرى هذا الأثر الطيب على الساحة المصرية، بل وعلى غيرها في الأقطار الإسلامية من انتشار الزي الإسلامي للمرأة بعد أن كان مستغربًا وموضع سخرية منذ عشرات السنين القليلة وكان التعري والتكشف هو السائد،

فبفضل الله وانتشار الوعي الإسلامي ساد الحجاب وصارت المرأة أو الفتاة المتكشفة المتبرجة هي المستغربة المستنكرة، وهكذا نرى دعاة السفور والتبرج تمتلئ قلوبهم بالغيظ والكمد تحسرًا على جهودهم التي ذهبت هباء، والأمل كبير في أن يستمر هذا المد الإسلامي الواعي حتى يعم الساحة كلها بإذن الله والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


المجتمع هو القاعدة التي يقوم عليها البناء

توجهنا في حديثنا إلى كل فرد من أبناء الوطن مطالبين إياه بالإيجابية وتصحيح المسار كل في نطاق مسئوليته وموقع عمله، ثم توجهنا إلى الأسرة كدعامة أساسية في البناء ودور الرجل والمرأة في تقوية هذه الدعامة لتؤدي دورها البناء،

ونتوجه اليوم إلى المجتمع كقاعدة للبناء نريد له أن تكون متينة قوية صلبة ليقوم عليها البناء ويعلو ويستقر.

ولما كنا قد أوضحنا أن فلسفتنا في بناء وطننا لابد أن تكون على أساس الإسلام ومبادئه لذلك لزم أن نوضح معالم المجتمع المسلم ومقوماته ونحن نتوجه إلى أفراد مجتمعنا لنتعاون في إيجاد هذا المجتمع النموذج بإذن الله.

إن المجتمع المسلم الذي ننشده مجتمع فاضل يهدف إلى إقامة الحياة المتوازنة التي تتجلى فيها خصائص الفطرة وتتسق مع دور الإنسان في الحياة، إنه مجتمع متميز في منهجه عن المناهج الاجتماعية حديثها وقديمها، فلا يقصر نظره على مطالب المادة ولا يسعى نحو رفاهية العيش فحسب،

ولكنه يقرن ذلك – يؤثر عليه – بأن يمكن الإنسان من عبادة خالقه وأن يرشده في مسلكه في الحياة وأن يصحح اتجاهه في دنياه فيتحقق الخير ويدعو إليه وينأى عن الشر وينهى عنه، ويقيم نظامه وبرامجه على أساس المبادئ الأخلاقية التي تصل بالفرد إلى المستوي الذي يصلح له.

ولا يقتصر المجتمع المسلم في نظرته إلى نفسه، بل يمد النظر إلى الآفاق المظلمة في الأرض، إلى كل مجتمع يشقى بجهله ويتعثر في سعيه ويضل في اتجاهه فيرشد ويدعو ويبين ويصلح حتى يعم الخير في الأرض ويسعد الإنسان في كل مكان.

إن مجتمعات الشرق والغرب في هذا العصر لم تنجح في حل مشكلات الإنسانية، ولم تستطع برغم ما تملك من وسائل أن تحقق السعادة للبشر، فليس الأمر أمر القوت والآلة فحسب، بل وراء ذلك عناصر ضرورية تفقدها ولا تستطيع إليها سبيلاً، فلابد أن يتاح المجال للوحي الإلهي الصادق أن يهدي البشر إلى التي هي أقوم، ويحقق لهم الحياة الطيبة المطمئنة التي تتوازن فيها القوى ويعم الخير والسلام.

يخطئ البعض ويسرع في نفي الصفة الإسلامية عن مجتمعاتنا بسبب عدم تحاكمها إلى شريعة الله أو بسبب انتشار الكثير من المعاصي والمنكرات، وهنا يلزم أن نفرق بين المجتمع وبين الدولة،

فلئن كان الاستبداد قد عرف طريقه إلى الحكم في فترات، وإذا كانت المظالم الكثيرة قد أشاعها أصحاب الأهواء وفسدت الأخلاق فإن ذلك لا يعني سقوط المجتمع المسلم.

فالمجتمع المسلم هو هذه الأمة التي التفت حول دينها في أحرج الأوقات وحالك الظلمات، وهي التي تقيم الدين وتصر على تطبيقه حتى عندما ينحرف الحاكمون وتهمل الدولة تطبيق شريعة الإسلام. وقد لمسنا ذلك جليًّا في مجتمعنا المصري في الانتخابات الأخيرة عندما رفع التحالف الإسلامي شعار الإسلام هو الحل، فتجاوبت جماهير الشعب تجاوبًا واضحًا،

حال التزوير دون ظهوره في نتائج الانتخابات، ولا يزال ذلك المجتمع قائمًا في كل بيئة إسلامية تصح فيها العقيدة وتنجو عن الأدواء التي بثها أعداء هذا الدين في كثير من الأنحاء، وهذا ما يسعى التيار الإسلامي إلى تصحيحه والوصول إليه.

إن ديننا الإسلام ليس دينًا فرديًا رهبانيًا، ولكنه دين حياة شامل ينظم شئون الحياة في المجتمع، سياسيةً واجتماعيةً واقتصاديةً، فهو لذلك يهتم بالمجتمع وبكل ما يتصل به، فيحميه من العقائد الفاسدة الضالة والنظم الظالمة، ويحرص على إقامة مجتمع يحقق مبادئ الإسلام ويطبق نظرته إلى الوجود ويفسر رأيه في الحياة والأحياء.

وهل يُقبل لمجتمع، غالبيته العظمى تدين بالإسلام، أن تدار شئونه بمبادئ غير الإسلام، أو تعارض مبادئ الإسلام التي نزل بها الوحي؟! وليكن معلومًا أن كل ما يعارض الوحي الإلهي من الاتجاهات والفلسفات، فهو هوى ونزوة تنزع بالفرد والمجتمع إلى الهلاك.

لذلك نرى القرآن ينبه إلى ضرورة التمسك بشرع الله ويحذر من التفريط في أية جزئية منه فيقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾(المائدة:49 - 50).

إن الإسلام جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ ولرفع الإصرعن المستضعفين وفك الأغلال عن المستعبدين لتحقيق الحياة الطيبة والهداية للتى هي أقوم.

إن للإسلام رأيه في العلاقة بين البشر ونظامه في الثوارت والأموال، ومنهاجه في القيم والمعاملات، وتوجيهه للشباب، وخطته للمرأة، وأسلوبه في الحياة، واتجاهاته في الغايات والاهتمامات، والعبودية الحقة لله تلزم كل مؤمن ومؤمنة بتنفيذ تعاليم الإسلام وهديه: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا﴾ (الأحزاب:36).

هل منا من يجهل ما كان عليه المجتمع الجاهلي في جزيرة العرب قبل الإسلام؟! وكيف فقدت فيه أسس الأخلاق السليمة، وفشت فيه أدواء الأثرة، ودبت فيه نوازع السيطرة والاستبداد،

وضاعت فيه حقوق الضعاف وأهمل البائسون، ثم كيف تحول هذا المجتمع وصار مجتمعًا فاضلاً حل فيه الإيثار مكان الأثرة، والعدل والإنصاف محل الظلم والاستبداد، والحب والتعاون بدلاً من الحروب والقتال، ووجد الضعيف والمسكين والفقير العناية والرعاية؟؟!.

ومن حكمة الله البالغة أن ربط هذه المعاملات الفاضلة بالعقيدة لضمان استمراريتها وتجدد الدافع لها كعبادة وقربى إلى الله، ومن مثال ربط العقيدة بالتكافل الاجتماعي قوله تعالى:﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُنَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾(الماعون:1-7).

ونرى الإسلام -وهو لازال في أول عهده بمكة- يعالج قضايا اجتماعية مثل تطفيف الكيل والميزان﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(المطففين:1-6).

إن التيار الإسلامي يدعو أفراد مجتمعنا إلى الالتزام بتعاليم الإسلام وأخلاقه، والتزام منهج الإسلام في بناء المجتمع الفاضل المتعاون والمتكافل الذي يُعتبر الخطوة الأساسية، بل القاعدة المتينة التي يقوم عليها بناء الوطن على أساس سليم من شرع الله ونور الوحي الإلهي.

إن مجتمعنا يشكو من كثير من العلل نريد أن نسعى جميعًا للتخلص منها، وإذا كان النظام الحاكم يتحمل عبئًا كبيرًا في علاج هذه العلل، ولكن أفراد الشعب عليهم أيضًا مسئولية يجب أن يقوموا بها.

إننا نريد أن نضع المجتمع المسلم كقدوة أمامنا نسعى لتحقيقه، وإن الدعائم الأساسية التي يقوم عليها المجتمع المسلم، هي الأخوة والمساواة والحرية والتكافل.

كما أن لهذا المجتمع الإسلامي خصائصَ تميزه عن غيره، فهو مجتمع رباني يقوم على طاعة الله وتحقيق إرادته كما تمثلت في آخر رسالة وأصدق كتاب،

وهو كذلك مجتمع إنساني بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى نبيل يفسح جنباته لكل من يؤمن بالحق ويعمل للخير، لا يفرق بين لون أو جنس أو منزلة فالكل لآدم والكل خلفاء في الأرض ما داموا على سنن الهداية والرشاد، ومن خصائص هذا المجتمع الإسلامي أنه يقوم في تطبيق مبادئه ورعاية أهدافه على الالتزام الذي يؤدى فيه كل فرد واجبه عن طواعية ويقين،

ويرجع فيه الجميع إلى مبادئ واضحة لا يقصر عن بلوغها أحد، وكل فرد منهم يراقب الله في عمله وواجبه قبل أن تشغله رقابة البشر.

وسنعرض إلى الدعائم الأساسية الواحدة تلو الأخرى وهي الأخوة والمساواة والحرية والتكافل؛ لنتبين سويًا واجبنا ودورنا في إقامة هذه الدعائم في مجتمعنا المصري.

الدعامة الأولي، وهي الأخوة: دعامة أساسية.. إذ لابد أن تتوثق الروابط والأواصر بين أفراد المجتمع؛ كي يكون مجتمعًا متماسكًا صلبًا يصمد أمام التحديات التي تواجهنا وما أكثرها، إنَّ الوحدة رمز القوة والطريق إلى النصر، والفرقة رمز الضعف والطريق إلى الهزيمة.

لذلك نرى الإسلام يهتم بآصرة الحب والأخوة بين أفراد المجتمع كل الاهتمام، وقد آخى رسول الله

-صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار، وسجل القرآن هذه المؤآخاة التي أثمرت الإيثار.

ونجد القرآن يوجه نداءاته للمؤمنين بصيغة الجمع،﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ثم يحث الإسلام على صلاة الجماعة في المسجد لتقوية الصلة بين الأفراد المسلمين في الحي أو القرية، كما يؤكد على صلة القرابة والرحم في الأسرة، وكذا يوصي بالجار كثيرًا، وعلي الساحة العالمية يصوم المسلمون جميعًا في شهر واحد وهو رمضان،

كما يؤدى المسلمون من كل الأجناس فريضةَ الحج ويجتمعون في صعيد واحد يتعارفون ويتبادلون آلامهم وآمالهم.

ونرى الإسلام قادرًا على تهذيب المجتمع الإنساني وإزالة الفوارق الإقليمية والعصبيات القومية والقبلية، ونجد الحب والرحمة والطمأنينة تمتد على طول البلاد التي دخلت في الإسلام واستظلت بظله طالما حافظت على هدايته واستمسكت بمبادئه قرونًا عديدة، ولم يغيرأمرها إلا نبذها لتعاليم الإسلام وافتتانها بمكر الكافرين وما يعرضونه من مبادئ خادعة لا تسلم أهلها إلا إلى ضيق وقيود وهبوط بالإنسانية، كما هو مشاهد في الغرب والشرق الماديين.

والرسول -صلى الله عليه وسلم- يشبه المجتمع المتحاب المترابط بالجسد الواحد فيقول: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" كما يقول -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم".

ونجد الإسلام يرتب على الأخوة طائفةً من الحقوق والواجبات يقوم بأدائها نحو إخوانه، فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة".

ويطلب الإسلام من المسلم أن ينصر أخاه ظالمًا فيمنعه من الظلم، وينصره مظلومًا بأن يدفع عنه الظلم، وتحث السنة النبوية على أمور كثيرة من شأنها أن توثق الروابط بين أفراد المجتمع المسلم.

وفي المقابل نرى أن الإسلام ينهى عن كل شيء من شأنه أن يحدث خلافًا أو فرقةً وتنازعًا، فلا سخرية ولا تنابز بالألقاب ولا غيبة ولا نميمة ولا تجسس، ولا إساءة ظن، وسورة الحجرات تناولت ذلك بتفصيل، وهذا الحديث الجامع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

"إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا لا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا كما أمركم الله تعالى المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه".

والإسلام إذ يوصي بالعلاقات الطيبة والتعاطف والتراحم بين أفراده المسلمين لا يعني أنه يتجاهل الأقليات التي تعيش في مجتمعه من غير المسلمين، ولكنه يوصي بالبر بهم في قوله تعالى:﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة:8)

فالمجتمع الإسلامي لا يقف موقف العداء والمناوأة لغير المسلمين، بل يعاملهم بالجانب الإنساني الذي لا يقبل الظلم لأي إنسان مهما كان، فمن الممكن أن يقوم التعاون في المجتمع الإسلامي بين المؤمنين وأهل الكتاب استنادًا للمصالح المشتركة والتعاضد في مواجهة المشكلات والتعاون على جلب المنفعة ودفع المضرة، ولا يؤثر على هذه العلاقة أو يقطعها إلا كيدهم للعقيدة الإسلامية، أو أن يدبروا السوء لجماعة المسلمين.

وكلنا يعلم كيف نزل القرآن يبرئ اليهودي ويدين المسلم في قوله تعالى:﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾(النساء:105-107).

والمجتمع المسلم لا يقر الطبقية والتفاضل بالمال والجاه ولكن:﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

ولا يقر العنصرية الجنسية والتي لا تزال موجودةً عند بعض الدول غير الإسلامية، وها هو بلال- رضى الله عنه- يأخذ مكانة بين المسلمين، وصار له ذلك الذكر المجيد والمرتبة السابقة؛ حتى ليقول فيه عمر بن الخطاب"أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا"، وها هو رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اسمعو وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة".


الأخوة والمساواة من دعائم المجتمع المسلم

ونحن إذ نؤكد حرص التيار الإسلامي على بناء وطننا العزيز على أساس متين من شرع الله، ولإعداد مستقبل زاهر للأجيال الحالية والتالية، نوضح أن المجتمع هو القاعدة التي يقوم عليها البناء مستقرًا وقويًا ومتصديًا لكل التحديات أو الضغوط من الأعداء،

وقد اتخذنا المجتمع الإسلامي قدوةً نسعى لتحقيقها، وذكرنا أنه يقوم بعد صفة الربانية على دعائم أربع، وهي الأخوة والمساواة والحرية والتكافل، وسنتناول هنا دعامتي الأخوة والمساواة.

من الطبيعي أن تكون قاعدة أي بناء صلبة متماسكة، ونرى ذلك في أساس العمارات، وكلما كان البناء عاليًا احتاج إلى أساس عميق ومتين، ونحن نريد لبناء وطننا أن يكون عاليًا شامخًا ثابتًا مستقرًا؛ لذلك كان من ألزم الأمور قوة الترابط بين أفراد المجتمع أو ما نسميه في المجتمع الإسلامي رابطة الأخوة التي تجعل المجتمع وحدة متماسكة، والوحدة رمز القوة والطريق إلى النصر، والفرقة رمزالضعف الطريق إلى الهزيمة.

لذلك نرى الإسلام يهتم بآصرة الحب والإخوة ويحث على كل ما من شأنه تقويتها، وينهى عن كل ما من شأنه أن ينال منها، وها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته إلى المدينة حيث كانت بداية المجتمع المسلم بدأ بعد بناء المسجد بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وقد سجل القرآن الكريم هذه المؤاخاة التي ضربت المثل الرائع للحب والإيثار:﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾(الحشر: من الآية9).

لدوام الشعور بالوحدة والاجتماع نرى القرآن الكريم يوجه النداء للمؤمنين بصيغة الجمع دائمًا فيقول:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ويقول:﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾(الحجرات: من الآية10)، دون اعتبار لجنس أو لون أو نسب فاجتمع سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي مع إخوانهم العرب.

لهذا فإننا نشجب النعرات القومية التي ينعق بها البعض بين الحين والحين تنفيذًا لتخطيط أعداء الإسلام، لتمزيق وحدة المسلمين، وهل هناك مثل أروع في التشبيه لقوة الترابط من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"،

ثم نجده -صلى الله عليه وسلم- يحفز المسلمين على هذا الترابط بأقوى حافز وهو دخول الجنة فيقول "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم" وها هو القرآن يصف هذه الأخوة بأنها نعمة من الله﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾(آل عمران: من الآية103).

ولم يقتصر الإسلام على جعل هذا الحب وتلك الأخوة مجرد عاطفة، ولكنه رتب عليها طائفة من الحقوق والواجبات يلتزمها كل مسلم بمقتضى تلك العلاقة ويكلف بها على أنها دين يحاسب عليه وأمانة لابد من أدائها، فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة". فهل نرى مجتمعًا إنسانيًا – غير مجتمع الإسلام

– يقوى على أن يلزم كل فرد فيه بأن يسعى في حاجة أخيه؟! بل إن صراع الحياة وزحامها يصير بالناس إلى أن يسعى بعضهم في إحباط مصالح البعض حين تتعارض المصالح وفي عصرنا الحاضر تبلغ تلك الحرب غايتها.


وهكذا يرتفع المجتمع المسلم إلى درجة عالية من التضامن والتكافل وأن يتوحد الإحساس، فيعمل كل فرد على تفريج ضوائق أخيه وحل مشكلاته، ويقف منه موقف العون والمساندة لا موقف الحقد والشماتة.

بل أن يطالب بالمواقف الإيجابية إزاء ظاهرة الظلم حينما تظهر بين أفراد المجتمع، بأن يقوم المسلم بنصرة أخيه إن كان ظالمًا، بأن يمنعه من الظلم وإن كان مظلومًا بأن يرفع عنه الظلم.

وإن صلاة الجماعة في المسجد خمس مرات في اليوم تحقق الألفة والوحدة بين المسلمين الذين يجتمعون على الصلاة كذلك صلاة الجمعة وصلاة العيدين، ثم إن صيام المسلمين في العالم في شهر واحد واجتماعهم في صعيد واحد لأداء فريضة الحج، كل ذلك من شأنه أن يدعم الأخوة والرابطة بين المسلمين.

ونرى في سورة الحجرات وغيرها من سور القرآن، النهي عن كل ما من شأنه إحداث فرقة أو خلاف بين المسلمين، كالسخرية والتنابز بالألقاب والغيبة والنميمة وسوء الظن والتجسس وغير ذلك.

كذلك حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد اله إخوانًا كما أمركم الله تعالى المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه".

وبجانب دعامة الأخوة العامة بين أفراد المجتمع المسلم نجد روابط أخري خاصةً يحث عليها الإسلام ويوصي بها، كصلة القرابة والرحم، وصلة الجار ويقرن القرآن هذه الصلات بعبادة الله في قوله: تعالى﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا﴾ (النساء:36)، ولا يظن ظان أن تقوية الرابطة بين أفراد المجتمع المسلم تعنى إهمال العلاقة مع غير المسلمين أو عزلهم أو الشعور نحوهم بشيء من العداوة،

ولكن الإسلام يوصي بالبر بهم والعدل والقسط بينهم فيقول تعالى:﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(الممتحنة:8)، فلا يقبل أن يتعرض أحد منهم إلى ظلم،

بل من الممكن أن يقوم التعاون في المجتمع الإسلامي بين المؤمنين وأهل الكتاب استنادًا للمصالح المشتركة والتعاضد في مواجهة المشكلات والتعاون على جلب المنفعة ودفع المضرة، ولا يؤثر على هذه العلاقة أو يقطعها إلا كيدهم للعقيدة الإسلامية أو أن يدبوا سوءًا لجماعة المسلمين.

أما عن دعامة المساواة فإن المجتمع الإسلامي يرتقي إلى أفق عال في استمساكه بالمساواة وطرحه لكل ما اصطنعه الظالمون من فروق بين البشر من حر وعبد وشريف ووضيع ورد البشر إلى حقيقتهم الكبيرة وأصلهم الواحد في قول الله تعالى﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات:13)،

وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- "الناس لآدم وأدم من تراب لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى".

وهاهو بلال العبد الحبشي يأخذ مكانه بين المسلمين حتى يقول فيه عمر بن الخطاب رضى الله عنه"أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا". ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "اسمعوا واطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة"، ثم إن سيدنا عمر بن الخطاب عندما طعن وأشرف على الموت فكر فيمن يلي الأمر بعده فقال: "لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًا لاستخلفته على المسلمين".

أين هذا المستوى من المساواة في المجتمع الإسلامي مما كان موجود قبل الإسلام وما زال موجودًا في بعض الدول التي يطلق عليها بالدول المتقدمة من تفرقة عنصرية بغيضة في أمريكا وغيرها والرجوع بالبشرية إلى العهود القديمة؟،

من الرجعيين ومن التقدميين، أم هكذا تقلب الأوضاع وتكون أسماء الأضداد؟

لقد حاول السادة الأقوياء من المشركين أن يخصهم رسول لله -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة في يوم لا يشترك معهم فيه الأذلاء أو العبيد فنزل الوحي موضحًا الموقف السليم في هذا الأمر﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾(الكهف:28-29).

ولقد علمنا الإسلام أنه ليس هناك حقوقُُ مقدسةُُ أو هيبةُُ مصنوعةُ لإنسان ما تحميه من المساءلة أو المقاضاة والقصاص إذا لزم الأمر ليس في الإسلام ما يسمونه(مواطن من الدرجة الثانية)،

وليس هناك طبقات وصراع بين الطبقات، كما أن أهل الذمة لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وقد نزل القرآن بتبرئة يهودي من اتهام باطل في قوله تعالى:﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾(النساء:105).

كما رفض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الشفاعة في العقوبات، ورد على أسامة قائلاً: "أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها".

وإذا نظرنا إلى ما يحدث اليوم في مجتمعنا، لوجدنا من يسرقون الملايين يهربون أو يهربون. ومن يسرقون المئات يُحاكمون ويُسجنون.

إن التيار الإسلامي حينما رفع شعار "الإسلام هو الحل" لم يقصد فقط تطبيق الحدود وتعديل القوانين، ولكن الإسلام دين شامل يعمل على الرقي بالأفراد والأسر والمجتمعات إلى أرفع مستوى،

وما تعرضنا إليه حول الأخوة والحب وحول المساواة وما سنتعرض له بإذن الله حول الحرية والتكافل كلها تعتبر من الأساسيات التي يدعو التيار الإسلامي أبناء الوطن إلى امتثالها والالتزام بها.

وثمَّة معنى هام نلفت النظر إليه ونحن نتحدث عن المساواة، وهو أن الإسلام مع مبدأ المساواة يقرُّ التفاوت بين البشر في الطاقات والمواهب، ويعلن أن تمايز الناس في الاستعداد والعمل يقضي بتفاوتهم في التقدير والأجر في الدنيا والآخرة.

إن الاعتراف بالتفاوت، وتقرير مبدأ الامتياز على أساسه، ضرورةُُ للتقدم الإنساني وحافظ للإخلاص، وانطلاق المواهب، تجني البشرية ثماره كل آن، وقد حاولت بعض المبادئ الشاذة أن تجعل الناس سواء من كل وجه وتعسفت في ذلك كثيرًا، وقبرت المواهب حتى بان لها ضلال الطريق.

فقد فشلت الشيوعية في محاولتها أن تطبع الناس في مجتمعها بطابع واحد وأن تجعلهم يحيون في مستوى واحد، وينالون في التقدير ولوازم الحياة حظًا متساويًا، ولكنها فشلت؛ لأنها محاولة تخالف سنن الله في خلقه، وهاهي اليوم تتراجع تدريجيًا عن المبادئ التي تأسست عليها.

إن بعض الأيدي يستحيل فيها الذهب إلى تراب، وبعضها يستحيل فيها التراب إلى ذهب، وكم من فرص متساوية أمام البشر لا تنتهي إلى مقادير متساوية في الرزق ولا يملك الفرد ولا المجتمع إزاء ذلك شيئًا؟؟! وحكمة الله في التفاوت من ضرورات انتظام الحياة والله تعالى يقول:﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (الزخرف: من الآية32). وهكذا يتعايش الناس ويخدم بعضهم بعضًا في رضا وتسامح ودون حقد ولا حسد.


الحرية من أهم دعائم المجتمع المسلم

إنه لا يرتفع للطغيان صرح إلا ويدك للحرية صرح مقابل، وإذا تمادى الطغيان في قطر تحول إلى سجن كبير تحوي شعبًا مسلوب الحرية يحكمه مستبد حوله منافقون ومنتفعون، وقد شجب القرآن الكريم هذا النوع من الحكام، وشجب الملأ حول الحاكم المستبد، كما شجب الشعب الذي يستسلم لهذا الهوان، وقصة فرعون التي كررها القرآن في أكثر من موضع خير مثال لذلك.

إن الإسلام يفرد الله- سبحانه وتعالى- بصفات العظمة والجلال، وأنه وحده الذي له الخلق والأمر، فالخضوع والخشوع لله وحده، والخوف منه وحده، وذلك في ظل حبنا لله واطمئنان القلوب بذكره، فلا يجوز لهامة من هامات البشر أن تستعلي وتُذل رقاب الغير لها،

لقد شجب القرآن منطق فرعون عندما قال:﴿أَنا رَبُّكُمُ الأعْلَى﴾ وعندما قال:﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ فكان حكم الله:﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ* وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ وحكم الله على قومه:﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾.

إن الله ذكر لنا قصة فرعون وقومه في القرآن وقصة موسى وقومه؛ لنأخذ العبرة، ونرفض الظلم وسلب الحريات، وقد ندد القرآن في مواضع كثيرة بالظلم والظالمين، كما ندد بالاستكانة للظلم فقال تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾.

إن رسالات السماء تضافرت منذ القدم على تحرير ساحة الحياة ورفع رؤوس الجماهير في مواجهة الطاغين؛ مما يمد الشعوب بطاقات هائلة في سعيها نحو الحرية ورفضها لقيود العبودية وأغلال الهوان.

لذلك كانت الحرية من أهم وألزم الدعامات في المجتمع الإسلامي، ولنا أن نقول هل للحياة من قيمة بغير الحيرة؟ وهل لمجتمع فقد حريته من صلاحية البقاء؟

ومن أبرز وأعلى قمة للحرية التي كفلها الإسلام للإنسان حرية العقيدة، حريته في أخص خصائصه التي خلقه الله من أجلها في هذه الدنيا، فيقول تعالى:﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ وقال أيضًا:﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾،

ولكنه أوجب مع ذلك إزالة العقبات والحواجز التي تحول دون تبليغ عقيدة التوحيد ودين الله الحق إلى خلق الله، تلك العوائق التي يضعها الطغاة من البشر؛ ليستمروا في استعبادهم لغيرهم وتحكمهم في مقدراتهم.

لذلك شرع الله القتال لرفع الإصر عن المستضعفين، وكسر قيود الاستعباد عن المستعبدين، وتأكيد حق الإنسان في أن يختار عقيدته ويحدد مصيره:﴿وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾(النساء:75)

لذلك كان انتصار بدر هو انتصار للحرية وتخلص من الاستضعاف:﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(الأنفال:26).

وأكد هذا المعنى قوله تعالى﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(الحج:40).

وثَمَّة معنى له أهميته نلفت النظر إليه، وهو أن ما تعرض له المسلمون الأُوَل من اضطهاد وتضييق وإعنات من المشركين، وما استنفده المسلمون من جهد في مقاومة هذا الظلم كان تجربةً ضروريةً في قيام المجتمع الإسلامي؛ كي يدرك قيمة الحرية، ويحافظ على تحقيقها كعنصر من عناصر الحياة.

وإن التيار الإسلامي- وقد تعرض في عصرنا هذا إلى ألوان شتى من الظلم والإعنات والتضييق- ليشعر بأهمية الحرية وضرورة السعي لتحقيقها، والمحافظة عليها بكل غال ورخيص.

وفي ظل حرية العقيدة التي يكفلها الإسلام، لا يشعر أحدُُ ممن لا يدينون بالإسلام باضطهاد ولا ذلة، وقد عاش أهل الكتاب في حرية ظاهرة في كل أنحاء المجتمع المسلم، لم يُحملوا على ترك عقيدتهم، ولم يُضيق عليهم في شعائرهم، ولم يشعروا يومًا بالهوان والاضطهاد، ولا يزالون حتى اليوم في كل أقطار الإسلام. فالمسلمون يتعبدون لربهم بمعاملتهم بالبر والقسط امتثالاً لقول الله تعالى:﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(الممتحنة:8) هكذا طالما أنهم ملتزمون بما نصت عليه الآية الكريمة. وحرية الرأي للفرد مكفولة في ظل المجتمع الإسلامي، فكل فرد يستطيع أن يستعلن برأيه وأن يجهر بحجته، دون أن يصيبه أذىً أو يلحقه خوف، ولو كان خاطئَ الرأي ،إلا أن يدعو إلى الكفر والإلحاد.

ورغم أن الوحي كان ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرشده إلى الصواب، إلا أن الله أمره أن يشاور المؤمنين في الأمر، وأن يستمع إلى كل رأي، ثم يتبع الرشاد في كل وجهة، والأمثلة على مشورة الرسول -صلى الله عليه وسلم

- لأصحابه كثيرة، وتَصلح أن تكون دستورًا لحرية الرأي في المجتمع الإسلامي، يُعلَن فيه أنه ليس هناك رأيُُ مقدس لفرد من الأفراد، ولتختفي تلك الصورة البالية، صورة قطيع من البشر ينطلق وراء فرد مهما كان حظه من العبقرية والصواب، إنها صورة لا تتفق ورشد البشرية.

هكذا، يجب أن يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- قدوةً لكل من يلي شيئًا من أمر هذه الأمة، بطلب المشورة والسماح لكل مؤمن أن يقول كلمته ورأيه في اطمئنان.

ويتبع حرية الرأي في الإسلام حق الفرد في النقد والتقويم، فليس للإنسان أن يري الخطأ والانحراف ثم لا يرفع صوته بالمعارضة، وإلا فإنه يأثم، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول "الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابة ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"، ويقول:

"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

ورحم الله عمر بن الخطاب حين قال: "من رأى فيَّ اعوجاجًا فليقومه" فيجيبه أحد الناس "لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا"، دون أن يتعرض إلى اعتقال أو تعذيب، بل إن الإسلام يحث اتباعه على الجهر بكلمة الحق والشجاعة في النصح، ويرى ذلك أفضل الجهاد.. حيث يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".

ولننظر لهذا القول الذي يذم طائفة من الناس قد ابتلي مجتمعنا بالكثير منهم..

عن محمد بن زيد أن ناسًا قالوا لجده عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على سلاطيننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، فقال كنا نعد هذا نفاقًا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

والإسلام ينهى عن إيذاء المؤمنين قال تعالى﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾، بل إن الإسلام يحمى الفرد من كل ألوان الاعتداء أيًا كان مصدره، ويكفل له الحصول على حقوقه في أية يد كانت، فهو يحمى حياته،

ويرى في النفس الإنسانية قدسيةً تحتم صيانتها وحفظها من الهلاك، وقد قال الله تعالى:﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ ويقول سبحانه وتعالى﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾.

وليس هناك من سبب يبيح إلحاق الأذى بإنسان إلا ما يقترفه من جرائم لها حدودها المقررة، وما عدا ذلك عدوان تجب مقاومته، وأقل الناس في ذلك كأعظمهم ممن يقدس حق الفرد ويصونه، وهانحن نرى في أيامنا هذه رجالاً من الأمن، يؤذون ويعذبون المواطنين دون جريرة أو إدانة لذنب اقترفوه، وقد أدان النائب العام بعضًا منهم، ولكننا نرى محاكمتهم تتعثر وتكاد تموت.

وقد كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يوصي الأمراء ألا يضربوا المسلمين فيذلوهم، وألا يميتوا فيهم مشاعر الحرية والكرامة، وهاهو- رضى الله عنه- يمكِّن ابنَ رجلٍ مصري قبطي-من عامة الشعب- من القصاص من ابن عمرو بن العاص- فاتح مصر وواليها- ويقول له: اضرب ابن الأكرمين، وقال كلمته المضيئة على مر الزمان والتي تعتبر شعارًا للحرية:"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا".

وهذا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ضارّ أضر الله به ومن شاق شق الله عليه" كما قال "أبغض الرجال الألد الخصم" وقال "أيها الناس اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيام".

فمن ضمانات الحرية في المجتمع الإسلامي، أن الإسلام لا يُقرّ نزعة العدوان والانتقام في مجتمعه، فليس هناك تنكيل من قوي بضعيف، ولا تسلط من حاكم على محكوم،

ولا تزر وازرة وزر أخري، وللجريمة والعقاب حدودُهما الفاصلة، التي تكفل أن يكون العقاب على قدر الذنب بلا تهويل ولا تنكيل،

ولكنَّا -وللأسف الشديد- نجد في مجتمعنا الحالي تجاوزات لا حدود لها، ويؤخذ البريء بجريرة المذنب، وينكل به أشد التنكيل، ثم تظهر براءته بعد ذلك وربما حُوكم ظلمًا وحُكِم عليه بشهداء زور.

إن التيار الإسلامي يريد أن يتخلص مجتمعنا من هذه الصورة المشينة، وأن يسعد أبناء وطننا بالحرية والمساواة والأمن والتكافل في ظل الإسلام وشريعة الله، والأمل في الله كبير أن يتحقق ذلك، رغم كيد الكائدين وتشاؤم المتشائمين.

مع الحرية مرة أخرى

ما أعزَّ الحريةَ وما أغلاها عند كل إنسان!! بل وعند كل حيوان أو طائر!!، وما نسينا ما كنا نقرأه منذ أكثر من خمسين عامًا في كتاب المطالعة، للرشيد على لسان طائر في قفص:

الحبس ليس مذهبي وليس فيه طربي

ولست أرضى قفصًا وإن يكن ذهَبِ

ما أعظم الفارق بين الحر والعبد!، بين العزة والذل!، بين الكرامة والهوان!.

وإذا أردنا أن نعرف مدى استمساك مجتمع بالحرية، فلنبحث عن قيمة الفرد فيه، ومدى صيانة حقوقه والحفاظ على حريته، فذلك هو المقياس الحق للإيمان بالحرية والولاء لها.

لقد أخطأت النظم والمبادئ الأرضية، وتخبطت في الموازنة بين حرية الفرد وحرية المجتمع وسلطة الحاكم ومدى تسلطه أو انتقاصه من حرية الأفراد أو منحهم إياها.

فنجد نظامًا يهضم الفرد حريته وحقوقه، ويصبح وكأنه ترس في آلة أو سجن، ما يكاد يجد فرصة للهرب منه إلا ويغتنمها، ولو كان فيها مخاطرة، كمن يحاولون تخطي سور برلين، أو الذين كانوا يهربون من كوبا، كما نجد نظمًا تعطي الحرية للأفراد دون ضوابط كافية، فيتسلط أفراد على غيرهم، أو يقوى سلطان أفراد أو هيئات، ويصبح لهم التأثير على السياسة العامة بما يخدم مصالحهم الخاصة.

وهكذا صرنا نسمع عن نظام حكم دكتاتوري، ونظام حكم ديمقراطي، وللأسف حتى ما يطلق عليه بالنظام الديمقراطي نجده في حقيقته دكتاتوريًا متواريًا في الزي الديمقراطي، أو يحقق حريته على حساب حرية شعوب أخرى.

ولكن الإسلام بنظامه المحكم من لدن حكيم خبير، عليم بخلقه، فهو نظام كامل يحقق الخير والاستقرار والعدل، ويتجنب الحيف والميل والخلل، ولا يحابى أفرادًا أو فئاتٍ على حساب غيرها. فقد حدد الحقوق والواجبات بين الفرد والمجتمع،

وبين الحاكم والمحكوم أفضلَ تحديد وأعدَله، وقد جعل الإسلام الالتزام بهذه الحقوق والواجبات عبادةً وقربى لله، ثم حدد عقوبات وحدودًا لمن يتجاوز أو يخالف هذه الحقوق والواجبات، فجمع بين القانون والضمير المسلم.

إن المجتمع الذي تختل فيه موازين الحرية بين الفرد والمجتمع وبين الحاكم والمحكوم، يُحكم عليه بالاضطراب وعدم الاستقرار والصراع والصدام، ويتعرض لانهيار اقتصادي واجتماعي وسياسي، بل وعسكري أيضًا، وكثيرًا ما يخطئ النظام الحاكم في علاج مثل هذه الحال بمزيد من القمع والظلم وكبت الحريات، ومعلوم أن الكبت عادةً يولد الانفجار.

إن سلب الحريات من أفراد المجتمع، يُفقد الثقة بين الشعب والنظام الحاكم، وتقل مواهب الأفراد، ولا يتحقق تعاون صادق بين الشعب والحكومة في مواجهة الأزمات والمشاكل، وتسود السلبية واللامبالاة بين أفراد الشعب،

في حين أنه عند توفر الحرية، تنطلق المواهب وتتولد الثقة بين الشعب والنظام الحاكم، ويحدث التعاون في مواجهة التحديات، ولو أدى إلى ربط الأحزمة على البطون؛ للتخلص من التبعية ولتحقيق الاكتفاء الذاتي.

وإن المرء ليعجب حينما يري أناسًا يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، وهم يعلمون عاقبة الظالمين في الماضي البعيد، بل وفي الحاضر القريب، فقد رأينا بعض من عَذبوا وقَتلوا حينما تبدلت الظروف وتعرضوا إلى السجن والمحاكمة،

إذا هم يبكون في زنازينهم كالنساء والأطفال، فياليت غيرهم يأخذ العبرة منهم، ويتدبر قول الله تعالى:﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ وقوله تعالى:﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾.

وأنبه هنا إلى معنى هام يغفل عنه الكثيرون، وهو أن العبودية الحقة لله- بالتزام أوامره واجتناب نواهيه- هي قمة الحرية، فليس هناك من هو أعلم من الله بما فيه خير العباد، وليس هناك من هو أرحم بهم منه سبحانه، وبناءً على ذلك فإن أية مخالفة لتعاليم الله تعتبر قيدًا على الحرية وانتقاصًا منها.

وبهذه المناسبة نلفت النظر إلى تلك الصيحات، التي تُسمع بين الحين والحين باسم الدفاع عن حقوق المرأة، ويصورن التعاليم الإسلامية الخاصة بها وكأنها قيود يجب أن تتحرر منها، أقول، إن هؤلاء مُوغلون في الخطأ، وإنهم في الحقيقة لا يدافعون عن المرأة،

ولكن يريدون أن يدفعوا بها إلى الابتذال والضياع، في حين أن الإسلام يحفظ لها كمالها وكرامتها، ويصون لها عرضها من الذئاب البشرية الضالة.

وهانحن نرى الإسلام يحوط شرف الإنسان وعرضه، ولا يحل لأحد مساسه أو الطعن فيه بغير حق، وجعل حد القذف للذين يفترون على الناس ويغمون أعراضهم بغير حق﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

والإسلام يكفل للفرد باقي جوانب الحرية، مثل حرية التملك، وحرية التصرف فيما يملك في غير سفه، وحرية اختيار العمل الذي يشاء، وحرية الانتقال والاجتماع، لا حجر في ذلك، ولا قيد إلا في حدود رعاية مصالح الجماعة وكف الضرر عنها.

كما ترك الإسلام للفرد اختيار ما يريد من أنواع الثقافة، وأن يفكر في جوانب العلم النافع كما يشاء، وليس الإسلام بالذي يحجر على البحث والفكر، ففي ظلال الإسلام ازدهر البحث ونما العلم، واهتدى العلماء المسلمون إلى نتائج باهرة، انتفع بها العالم كله،

بينما كانت المجتمعات الأخرى تحرق العلماء، وتحجر على الباحثين خوفًا على العقائد الباطلة، وإبقاء على هيبة الدين، ورسولنا- صلوات الله وسلامه عليه- يحثنا على العلم والتعلم فيقول: "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها"، وليس مجهولاً أن أول آيات نزلت من القرآن تحث على العلم :

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.

ونرى الإسلام يتابع توفر الحرية للفرد، حتى في بيته،فالاستئذان أدب يقرره القرآن؛ ليحفظ لكل إنسان حريته وحرمته:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾

وحتى بين أفراد الأسرة يقرر الاستئذان في أوقات معينة تعتبرعورة،وهكذا؛ لينشأ كل فرد على تقديس الحرية واحترامها:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾ .

انظر أخي القارىء إلى هذا الأدب الرفيع، والارتفاع بحرية الفرد إلى الذروة، ثم انظر إلى زوار الفجر ومنتصف الليل، يفزعون النساء والأطفال باسم الأمن، وينتهكون الحرمات، ويئدون الحرية، ويحرمون أهل المعتقل وذويه من مجرد معرفة مكانه وأخباره، بل وصلت بهم الجرأة في الطغيان، أنه إذا قتل أحد بين أيديهم من التعذيب، يذهبون إلى أهله؛ ليخبروهم أنه هرب منهم، وجاءوا ليبحثوا عنه، ويقلبون المنزل تفتيشًا.

نعود مرةً أخرى إلى الإسلام والحرية، فموقف الإسلام من الرق معروف وكتب عنه الكثيرون، فهو ظاهرة اجتماعية قديمة، أقرتها الفلسفات اليونانية وغيرها كما أقرها رهبان الكنيسة قديمًا، وكذلك الجاهلية قبل الإسلام في جزيرة العرب، ولما جاء الإسلام لم يرض بهذا الوضع، وحرم أساليب الرق المألوفة في ذلك الوقت،

ولم يملك تحريمه عن طريق الحرب ما دام العدو لا يتورع عن ذلك، ولكن فوضت الشريعة ضرب الرق على الأسرى إلى الإمام حسب ما يراه من المصلحة، كما وسع الإسلام أسباب تحرير الأرقاء، وحث عليها بما هو كفيل بإنهائه، وصاحب ذلك التوجيه بحسن معاملة الأسرى الأرقاء:﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾.

ومع اهتمام الإسلام بحرية الفرد داخل مجتمعه، فإنه يلزم الفرد أن يشعر بأن مجتمعه نفسه حر، لا يعيش تحت وصاية دخيل أو تسلط أجنبي، ولا ينفذ إرادة إلا إرادة أبنائه، والمجتمع المسلم في طبيعته لا يقبل أن يعيش في قبضة مستعمر، أو تحت سلطان معتد، إن ذلك يشله عن أداء رسالته، ويخرجه عن صيغته التي ميزه الله بها، إنه مجتمع يحقق إرادة الله وسعادة أبنائه، فكيف يعيش في ذلة أو يرضى بعبودية، وهو الذي قام لتحقيق الحرية في الأرض وتأسيس الكرامة والإنسانية؟!!.

إنه من هذا المنطلق نرى انتفاضة الشعب الفلسطيني الأخيرة كدليل عملي على عدم الرضا بالذل وتسلط العدو الصهيوني الذي ظن أنه بمرور الوقت سيميت روح المقاومة عند الشعب الفلسطيني، وتشب أجيال تستسلم للأمر الواقع، ولم يعلم أن روح العزة التي تولدها العقيدة تشب مع الطفل ومع فطرته، فلن يقر لهذا العدو قرارعلى أرض فلسطين حتى يرحل أو يقبر في فلسطين، بإذن الله.

إن الأوضاع التي عانتها المجتمعات الإسلامية في القرون الأخيرة حين تحكَّم فيها الطغاة وانتهبها الأعداء، وبثوا فيها جراثيم التحلل والاتجاهات المنحرفة، التي لا تزال مجتمعاتنا تعاني منها، إنما سادت في غيبة الإيمان الحي، حيث همدت العزائم وضعف اليقين، مما جعل قيام حركات التحرير- التي أجْلَت الغاصبين، ورفعت سيطرة المعتدين- فريضةً إسلاميةً لا يُقبل إسلام بغيرها. والتيار الإسلامي يدعو الجميع إلى التخلص من كل هذه الآثار السيئة التي رسبها الاستعمار، ومن وراءه من عملاء، إننا ندعو إلى صحوة من هذه الغفوة، وإلى نهضة من تلك الكبوة.

هكذا أوضحنا مكانة الحرية في المجتمع المسلم الذي اتخذناه قدوةً؛ لنقيم مجتمعنا على غراره، وإنه لم يُشوِّه جلالَ الحرية في المجتمع الإسلامي غيرُ نفر من المستبدين قفزوا إلى الحكم في أحوال بئيسة، وأولئك آفة التاريخ الإنساني لم ينج منهم عصر من العصور، حتى في عصور الحضارة وفي عصور المبادئ والدساتير وفي عصرنا هذا، والوقاية من هذا الداء لا تكون إلا في استبسال الشعوب، ويقظتها وتضحيتها في سبيل الحرية، وإلا فلن تجد لها إلى الحياة سبيلاً.

إننا نطالب بالحرية في ظل شريعة الله؛ لنقوم جميعًا ببناء وطننا في جو من الحرية والحب والأخوة والمساواة والتعاون بين الحكومة والشعب، والله الموفق والمعين.


المجتمع الإسلامي مجتمع متكافل

التكافل في المجتمع الإسلامي ليس قاصرًا على التكافل المادي فحسب، ولكنه يقوم على التكافل المعنوي الروحي أولاً، وهو أسمى صور التكافل، ولا تجده في غير المجتمعات الإسلامية، وهو في الوقت نفسه الدعامة الأساسية، والدافع الأصلي للتكافل المادي، فالإسلام يريد العلاقة بين أفراد مجتمعِه مثاليةً ويعتبرها مقياس إيمانه واستقامته،

حيث يقول -صلى الله عليه وسلم- "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، ويقول "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا".

إن هذه الصورة من العلاقة تجتث من الإنسان مشاعر الفردية البغيضة والأنانية والأثرة، ويؤكد القرآن هذه العلاقة في قوله تعالى﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، وفي قوله تعالى﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾،

وهاهو الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجسم لنا هذه العلاقة في صورة حسية في قوله -صلى الله عليه وسلم- "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" وهكذا تتَّحد مشاعر وأحاسيس أفراد المجتمع وتساند بعضها بعضًا؛ لتحقيق السعادة والأمن للمجتمع الإسلامي.

ولقد تحقق تطبيق هذه المعاني الإيمانية بين الأنصار والمهاجرين بأروع صورةٍ سجلها لهم القرآن الكريم:﴿ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

هل هناك مجتمع -غير المجتمع الإسلامي- يملك وسيلةً يحارب بها الفردية، ويستل الأثرة من قلوب أفراده، كما يحققها المجتمع الإسلامي؟!

بهذا المنهاج الرباني في التكافل المعنوي والمادي استطاعت الشعوب الإسلامية، أن تعيش في عافية وطمأنينة -رغم العسف والظلم الذي يلاقونه من الحكام الطغاة-، فهذه الروابط القوية جعلت الأفراد يخففون أعباء الحياة بعضهم عن بعض،

ويتعاونون في مواجهة الصعاب والعقبات، بينما عانت المجتمعات الأخرى- في القديم والحديث- من قسوة الأنانية وصراع المادة، مما كان أثره الثورات الدامية والمذاهب الشاذة.

لقد طحنت أوروبا رَحى الإقطاع الذي كانت الكنيسة تسانده وتضع له الدعائم، وكان المجتمع يعيش كحيوانات الغابة، لا يأسَي أحد على أحد، ولا يحسون بالتعاطف، ولا يشعرون بوحدة ولا رحمة، ولا يجوز أن يخدعنا التقدم المادي في الغرب،

فرفاهية الإنسان ليست الطريق إلى السعادة الحقة، فنسبة الانتحار نجدها أعلى في المجتمعات الأكثر رفاهيةً، فكل إنسان هناك يحس أنه يعيش حياته بل مأساته وحده، فليس هناك تراحم يجعل المجتمع جسمًا واحدًا.

هكذا نرى أن الإسلام ينفرد بإحكام الرابطة بين أبنائه في مجتمعه ويؤسِّسها على قاعدة طبيعية عميقة، لا تنبت الحقد، ولا تثمر الصراع، ولا تحيل الحياة جحيمًا لا يطاق.

وإذا كانت هناك بعض مظاهر الشرور في مجتمعاتنا اليوم، فهي من الثمار الخبيثة التي أثمرتها الموجة المادية التي طغت على أقطارنا الإسلامية مع الغاصبين المحتلين من أعداء الإسلام، وهذا ما نريد أن نطهر مجتمعاتنا من آثارها، ونعيد لها طابعها الإسلامي الحاني المتراحم.

تعاليم الإسلام وروحه كلها تحث على تقوية الرابطة بين أفراد المسلمين، وتحذرهم أن يقللوا من شأنها، فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا"، ونجد صلاة الجماعة في المسجد- خمس مرات- في اليوم، تدعم العلاقة، وتؤكد التآزر والتضامن، ويحث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليها فيقول:

"صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة"، ويقف فيها الجميع في صف واحد بروح واحدة، لا شذوذ ولا اختلاف، وتذيب ما بين المؤمنين من فوارق الثورة والجاه، وتؤكد لهم حق الأخوة، كما فرض الإسلام صلاة الجمعة لا يُعفى منها إلا أصحاب الأعذار.

ومن الروابط الاجتماعية التي يحرص عليها الإسلام علاقةُ الجوار، وقد وردت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية،

التي تحث عليها، وتعززها، فيقول الله تعالى:﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

"مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" وقال أيضًا: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا من يا رسول الله، قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه. قيل: وما بوائقه؟

قال شره" وهكذا إذا قويت الرابطة بين كل جار وجاره سيؤدي ذلك إلى ربط المجتمع بعضه ببعض.

وقد رتب الرسول -صلى الله عليه وسلم- على علاقة الجوار جانبًا ماديًا أيضًا، فنجده -صلى الله عليه وسلم- يقول لأبي ذر- رضى الله عنه-: "يا أبا ذر إذا طبخت فأكثر المرقة وتعاهد جيرانك أو اقسم بين جيرانك"،

وفي جزء من حديث عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول "لا يشبع الرجل دون جاره"، وإذا كان ذلك فيما يخص قضية الجوع، فيمكن أن ينعكس ذلك أيضًا على المرض والعجز عن العلاج، وقسوة البرد والمعاونة على الدفء وهكذا.

ولعنا نجد آثار هذه العلاقة لا زالت تظهر في القرى، وفي كل بيئة تحتفظ بعلاقات الإسلام، وتعيش في ظلها، في حين نري مشاعر العزلة والانفراد تسيطر على المجتمعات الغربية، وقد لا يعرف الجار شيئًا عن جاره، ولو عرف لا يشاركه شيئًا من أعبائه، وقد نري بعض هذه الصور ابتليت به بعض الأوساط في مجتمعاتنا، وهذا ما نسعى للتخلص منه.

وثَمَّة رابطةُُ أخري يدعمها الإسلام، وهي رابطة الأسرة، وما بينها من قرابة ورحم، وما المجتمع إلا مجموعة من الأسر، فإذا قويت الرابطة بين أفراد الأسرة، وقويت الرابطة بين الجيران تحقق المجتمع المترابط المتكافل المتعاون المتراحم.

وهاهو القرآن يحث على صلة القرابة والرحم، وينهي عن قطعهان فيقول تعالى:﴿وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ﴾ ويقول﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ويقول﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾،

ويحث الإسلام على إصلاح ذات البين، وأن فساد ذات البين هي الحالقة التي تحلق الدين، كما يدعو إلى وصل ما ينقطع من رحم، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها".

وهكذا يتميز المجتمع الإسلامي بقوة صلة الرحم وذي القربى، بما لا تجده بهذه الصورة في غيره من المجتمعات التي يسمونها مجتمعات تقدمية، فلم يعد للأبوة والأمومة شأنها الغابر، وأصبح الناشيء ينسلخ من منبته، ويكاد يقطع صلاته به،

وإذا اضطر للسكن مع أبويه يطالبونه بإيجار الحجرة التي ينام فيها معهم، كما نجد الأب المسنّ أو المرأة المسنّة لا يجدون العطف والبر والرعاية من أولادهم، وربما مات أحدهم في شقته دون أن يدري بهم أحد.

وكما أن الجوار في الإسلام يعني المشاركة في الأفراح والأحزان مشاركةً عمليةً مخلصةً، وتعنى تكافلاً ماديًا أمام النوائب، وتسانُدًا أمام الأحداث، يهون على الجار ما يلقاه.. فإن صلة القرابة والرحم يرتب الإسلام عليها تكافلاً اجتماعيًا واضحًا،

فقد أوجب الإسلام على القادر أن يكفل العاجز من أصوله أو فروعه، حتى يستغني بكسبه ويواجه الحياة بقدرته، فالرجل يرعى زوجته وأولاده، ويسعى في الأرض من أجل كفايتهم وسعادتهم، وهو يصنع ذلك عن رضا وسرور، وهو يعلم أنه مأجور من الله على ذلك، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول

"دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك".

وليس هذا غضًا من أجر الإحسان، ولكنه ترتيب لأنواع التكافل الاجتماعي، فما يقدمه الإنسان للآخرين، لابد أن يلي ما يقدمه لنفسه وأهله، وقد بين ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول:"خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول".

وكما فرض الإسلام على الأصول أن تراعي الفروع في الأسرة الواحدة، فكذلك أوجب على الفروع النفقة على الأصول في حالة العجز، وتبدو المسألة حينئذٍ وفاءً وأداءً للدين الذي استودعه الآباء لدى الأبناء،

فرعاية الأبناء للأباء عند الضعف والكلال، من أول ما يفرضه الإسلام، حتى تبقي للأسرة قداستها، وتصان كرامتها، وإلا فلا بقاء للأسرة ولا حياة.

وللأسف نسمع عن بعض الجحود بين الأنباء لآبائهم؛ وهذا نتيجة البعد عن تعليم الإسلام وآدابه، مما نُحذر منه، وندعو الجميعَ إلى العودة للالتزم بتعاليم هذا الدين القويم.

وبعد الآباء والأبناء يأتي ذوو القربى أوالأقربون، وأولئك يشملهم أمر التضامن، ويحيطهم أفق التكافل الاجتماعين فيقول الله تعالى:﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾،

﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ﴾، وهذا يقتضي ألا يكون في الأسرة الواحدة غنيُُ مترفُُ وفقيرُُ مُعْوزُُ، وأن يتضامن أبناء الأسرة الواحدة في سد ثغرات الفقر وكفاية أعباء الحياة.


التكافل والتعاون في المجتمع الإسلامي

لقد أوضحنا -من قبل- تميز المجتمع الإسلامي بنوع خاص من التكافل، وهو التكافل المعنوي الروحي، وذلك بتقوية أواصر الرابطة بين أفراد المجتمع الإسلامي على المستوى العام، وتقوية الرابطة والعلاقة بين الأفراد بالجوار، وفي إطار الأسرة بصلة الرحم والقربى، كما أوضحنا كيف أن هذا التكافل المعنوي الروحي يرتب تكافلاً ماديًا أيضًا،

وبيَّنَّا كيف ربط الإسلام هذه الروابط، وذلك التكافل بالعقيدة والإيمان، وكيف أن هذه العلاقات الروحية تجتث من الإنسان مشاعر الفردية البغيضة والأنانية والأثرة، وتبدلها بروح التعاون والتكافل والإيثار.

ونضيف هنا ركيزةً أساسيةً في تحقيق التكافل في المجتمع الإسلامي، وهي فريضة الزكاة، التي جعلها الإسلام ركنًا من أركانه الخمسة، واعتبر من ينكر فرضيتها مرتدًا.

وقد أحكم الإسلام رسالتها من حيث مصادرها ومصارفها، بحيث تؤدي الغرض المقصود منها. فقد تعددت أنواعها ومصادرها، فهي لا تذر موردًا من موارد الكسب إلا ضمنت حق الفقير فيه، في الزرع والثمار والتجارة والذهب والفضة والماشية، وما يوجد في باطن الأرض من كنوز،

ولها أنصبتها التي لا تجحف بالغني ولا تضيع حق الفقير، ونسبتها لا تؤثر في نشاط الفرد، ولا تضيع ثمرة كدِّه، كما أن دخلها في اتساعه وشموله يحقق الكفاية وسد الحاجات،

ويحدد الإسلام مصارفَها حتى لا تنحرف عن غايتها من تحقيق التكافل وسد ثغرات الفاقة والهوان، فقد جعل مصارف الزكاة للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل.

وقد تختفي بعض هذه المصارف في بعض العصور، كالمؤلفة قلوبهم والرقاب، ولكنها قد توجد باختلاف الأجيال والأحوال، ولكن يبقى بصفة دائمة من مصارفها ما يسد الثغرات المفتوحة في المجتمع للضعف والحاجة.

ومع أن الزكاة فريضةُُ ماديةُُ، ولكن الإسلام ربطها بأصل الإيمان، ويقرر لها قداسة العبادة في قوله تعالى﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ ويجعل الإسلام الكفر بحق الفقير تكذيبًا بالدين﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ﴾ ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾، ولا يذكر القرآن الصلاة إلا ويقرنها بالزكاة في كثير من آياته﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.

ووقفة أبي بكر-رضى الله عنه- في محاربة مانعي الزكاة معروفة بحرب أهل الردة، ولم يقبل فيها مساومة، وهكذا ما كان للإسلام أن يرضى بإقامة العبادات والشعائر، ثم يقطع نظره عن الحياة، وما يجرى فيها من فقر أو عوز أو طغيان.

ثم إن مورد الزكاة متجددُُ، ويشمل كل مصادر الكسب والعمل، ويتجه إلى مصبٍّ رئيسي هو الفقر والعوز والحاجة، وهكذا يمسح الآلام ويقرب الفوارق، ولا يفسح مجالاً للثروة الفاحشة أو الاستعلاء على البائسين.

وأريد هنا أن أصحح النظرة المادية عند البعض بالنسبة للزكاة، فقد يتصور البعض أنها تفضُّلُُُ من الغنى على الفقير، وأن الفقير أحوج لأخذها من حاجة الغني لإخراجها، أو يتصور البعض أن من الواجب على الفقير أن يسعى هو إلى الغني، وأن يشكره عليها،

أقول: إن العكس هو الصحيح، فإن حاجة الغني إلى الثواب والحسنات يوم القيامة؛ لترجح كفته، ويدخل الجنة، أشد من حاجة الفقير إلى المال في الدنيا، لسد حاجته من الغذاء والكساء، وبالتالي على الغنيِّ أن يسعى هو إلى الفقير؛ ليعطيه زكاة ماله أو صدقته، وعليه هو أن يشكر الفقير إن قبل منه الزكاة، وعليه أيضًا ألا يبطل ثواب زكاته وصدقته بالمن والأذى، فالمال مال الله،

وليتصور هذا الغني أنه كان من الممكن أن يتبادل المراكز مع الفقير، ويكون هو الفقير الذي يأخذ الزكاة، فالله تعالى هو الذي يقسم الأرزاق بعلمه وحكمته، ولا يقولن أحد من الأغنياء قولة قارون:﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾.

ولو راجعنا التاريخ نجده يشهد أن المجتمعات الإسلامية -بفضل الزكاة- كانت تعيش حياةً كريمةً على كل فرد، مع تحقيق السلام بين الطبقات، ومُحيت صور الفقراء والمسكنة في المجتمعات التي التزمت بأداء تلك الفريضة، وقيل إنه في بعض الفترات فاضت ولم تجد من يستحقها.

ولكننا اليوم نرى كثيرًا من مجتمعاتنا الإسلامية قد أسقطت تلك الفريضة، ووضعت ما يسمي بالضرائب، وإني أتساءل، هل تضمن أية حكومة من حكومات الأقطار الإسلامية التي أسقطت فريضة الزكاة أن تواجه قدرًا من المال، كإيراد الزكاة من مصادرها المختلفة للفقراء والمساكين، وكافة أوجه الضعف والاحتياج بين الناس؟ اللهم لا، والحاجة اليوم أكثر إلحاحًا لإقامة تلك الفريضة..

إذ إن مشاعر الخير تنصب، ومنابع الرحمة تجف والأنانية تنتشر، فلا ندري ما الذي يحول بيننا وبين إقامة تلك الفريضة، وشعبنا -والحمد لله- شعب مؤمن متدين، ولا ينكص عن واجبه.

كما أن فقهاء المسلمين يقررون أنه، إذا لم تف الزكاة بحاجات الفقراء والمساكين، فإن للإمام أن يأخذ من أموال الأغنياء بمقدار تلك الحاجة﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾.

ونرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يثني على الأشعريين ويجعلهم نموذجًا؛ لتحقيق التكافل والتضامن فيقول: "نعم القوم الأشعريين؛ كانوا إذا أرملو – أي أصابهم نقص في الزاد – عمدوا إلى ما معهم من طعام فجعلوه في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم"، وأذكُر بهذه المناسبة،

أن هذا المسلك هو الذي كان يتم في مجتمعات الإخوان داخل السجون، فما يأتي من مال للبعض من ذويهم يوزع على الجميع.

ونرى الإسلام أيضًا شرع زكاة الفطر على كل فرد مسلم في المجتمع صغيرًا أو كبيرًا ذكرًا أو أنثي؛ ليتحقق الاكتفاء والغني عن الحاجة في عيد الفطر، وكونها على كل فرد يجعلها تشكل حجمًا لا بأس به.

وقد قطع المجتمع الإسلامي شوطًا بعيدًا في تحقيق التراحم والتعاطف، فمِمَّا شرعه الإسلام نظام الوقف، والذي يراجع تاريخ الأوقاف الإسلامية يرى فيها صورة مضيئة، فقد وضعت ثروات هائلة عن رضا واقتناع في خدمة البائسين وسد حاجات المعوزين والأرامل واليتامى وتخفيف آلام المكروبين؛ ولتيسر العلم على الراغبين فيه،

ولو أن تلك الأوقاف سلمت من عوادي الاستبداد ومظالمه ووجدت من يحقق أهدافها، لنمت واتسعت، ولكن كان الحكام الناهبون أول معول في صرح الأوقاف، فاعتدَوا عليها ونهبوها، ومن وراء أولئك من لا خلاق لهم ولا دين من القائمين على تلك الأوقاف، فكف أهل الخير عن تقديم وقف جديد.

والإسلام يشيع في أبنائه الترغيب في الصدقة والإحسان والإنفاق في سبيل الله، ويحذر من البخل فيقول تعالى:﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾. والإسلام حين يأمر بالخير والإحسان لا يعفي منه فردًا في المجتمع، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق".

وهنا معنى هام هو شعور الفرد بسعادة حين يقدم خيرًا للمجتمع، ويقبله منه مهما كان صغيرًا، فلا تكون هناك يد سفلى على الدوام، بل يأخذ الفرد ويعطي، وتنمو فيه نوازع الخير. ويحث الله تعالى المؤمنين جميعًا على التعاون، فيقول تعالى:﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى﴾.

وبعد هذه الجولة حول المجتمع المسلم بدعائمه الأساسية، من الأخوة والمساواة والحرية والتكافل، نرى نموذجًا رائعًا للمجتمعات نستحث كل فرد في مجتمعاتنا الإسلامية أن نسعى متعاونين لتحقيقه ليسعد الجميع وتتلافى صور البؤس والسقاء.

وإنها لحسرة فاجعة حين نرى الأمة الإسلامية في عصرنا هذا تسعى شرقًا وغربًا تنشد الدواء عند من أصابها بالداء، وترفض أن تتطلع إلى الدواء الشافي الناجع والذي سبق تطبيقه فأسعد من طبقوه، فهيا إلى المنهج الإسلامي وإلى تطبيق شرع الله، إن كنتم حقًا جادين في الإصلاح والبناء.


حماية المجتمع من الانحراف

لقد أوضحنا هذا النموذج المثالي للمجتمع الإسلامي بدعاماته الأساسية من الأخوة والمساواة والحرية والتكافل والطهارة والنقاء، والمجتمع كالجسد لابد له من الحماية والوقاية من العلل والأمراض التي تنال من بنيته ومقوماته، والمجتمع الإسلامي يتميز بخصائصه التي تحقق له هذه الحماية، فهو مجتمع رباني يقوم على طاعة الله وتحقيق إرادته سبحانه التي تمثلت في آخر رسالة وأصدق كتاب.

فهذه الربانية تجعل كل فرد في المجتمع يلتزم بتطبيق مبادئ الإسلام ورعاية أهدافه عن طواعية ويقين، لأن العقيدة التي تربط بين قلوب أفراد هذا المجتمع تقوم على أساس الاقتناع الحر لا إكراه فيه ولا عنت﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾،

بل إن الإسلام يجعل من كل مسلم حارسًا أمينًا على حماية المجتمع من الفساد والانحراف، فيطلب من المؤمنين أن يتواصوا بالحق وأن يتواصوا بالصبر وأن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر، وهكذا يعملون جميعًا على استقامة سيره وصوابه.

﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ والرسول -صلى الله عليه وسلم- يحث كل أفراد المجتمع الإسلامي ليكونوا بمثابة المضاد الحيوي ضد أمراض المجتمع ومنكراته فيقول "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".

1. وبجوار الزواجر والحدود والقوانين يعتمد المجتمع الإسلامي أيضًا علي ما ينشله من قلب كل فرد من وازع دينى عميق يشعره برقابة الله عليه وإحاطته بأمره﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾،

﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾،﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ * ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره﴾.

ومن العجيب أن نرى المسئولين في مجتمعاتنا يهتمون بمقاومة الأمراض والأوبئة التي تصيب الأجسام ويجندون الأطباء وغيرهم لحماية المجتمع منها،

وهناك ما يسمى بفرع الطب الوقائي، في الوقت الذي نجد مثل هذا الاهتمام بوقاية المجتمعات من العلل والأمراض الخطيرة التي تهدم المجتمع وتطعنه في مقاتله كالانحلال والفساد والخمر والميسر والربا والتسيب واللامبالاة والفاحشة وغير ذلك من المنكرات.

ومع أن الدور الأساسي في الأمر بالمعروف النهي عن المنكر والتذكير من شأن العلماء؛ لطبيعة تخصصهم وما يتاح لهم من منابر،

ولكن الإسلام جّيش كل أفراد المجتمع ليؤدوا دورهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك دليل خيرية هذه الأمة﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾،

ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- يحثنا على ذلك فيقول "من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا".

ومما لا شك فيه أن مجتمعًا يتعارف أفراده على دعوة بعضهم البعض إلى الخير ويتناهون عن كل منكر، ومجتمع فاضل طاهر من الآثام قد تحلي بالفضائل وفعل الخير، وفي هذا المناخ النقي التقي الصالح تشب الأجيال على الاستقامة والأخلاق الفاضلة التي هي أساس الأمم:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا

والصورة المقابلة لذلك هي صورة المجتمعات التي تترك المنكرات تنتشر فيها دون منع لها حتى تهلكها، ولا ينجو منها ومن بلائها أحد واستحقت لعنة الله﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (المائدة: 78-79).

إن التيار الإسلامي يدعو كل مواطن يقوم بواجب النصيحة لغيره وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للحكام والمحكومين على السواء، فعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يمنعن رجلاً منكم مخافة الناس أن يتكلم بالحق إذا رآه وعلمه، فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكر بعظيم".

وننبه هنا إلى أن الأمر والنهي عن المنكر لا يقتصر فقط على المحيط الضيق في السلوكيات والأخلاق والعادات، ولكن الأمر بالمعروف الأهم والأعظم هو ما يتصل بتوجيه البشرية إلى الهداية وطريق الحق والتزام منهج الله وتطبيق شريعته،

وأن نقوم بتوجيه الرؤساء والملوك إلى ما فيه خير الشعوب بهيمنة دين الله وتنظيمه لكل مرافق الحياة ومجالاتها، كما أن النهي عن المنكر لا يقتصر على المعاصي والآثام وصور المنكر المعروفة فقط، ولكن المنكر الأكبر الذي يجب أن نعمل على إزالته وتغييره هو إبعاد شريعة الله عن الحكم والحكم بغير ما أنزل الله، ونهي الطغاة عن الطغيان والظالمين عن الظلم والمتكبرين والمتجبرين عن التكبر والتجبر، وكلنا يعلم المثل الذي يقول(يا فرعون من فرعنك، قال لم أجد من يردني).

ويجمل بنا في هذا المقام أن ننبه إلى أمر أساسي هام حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغيير المنكر، فلكي يحقق القيام بهذا الواجب الغرض منه لابد أن يؤدى بالأسلوب المقبول السليم الذي لا ينفر ولا يدفع الغير أن تأخذه العزة بالإثم فيتمادى في غيه وبغيه وبعده عن الحق، فالله تعالى يقول:﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾(المؤمنون:96) ويقول﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: من الآية125)،

فيجب تجنب أسلوب التجريح أو التشهير أو الاستفزاز، ومن الحكم الجميلة في هذا المجال"من وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه"، وحكمة أخرى "أد النصيحة على أكمل وجه واقبلها على أي وجه".

أما عن إزالة المنكر فقد أفسح لنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- المجال في ثلاث صور باليد فإن لم نستطع فباللسان، فإن لم نستطع فبالقلب، فلينظر الإنسان مدى ما يتحقق من خير أو ضرر بحيث لا يترتب على خطوته ضرر أكبر، ولا ننسي أن هناك دوائر لإزالة المنكر ويجب الالتزام بذلك حتى لا تحدث فوضى واجتهادات خاطئة من الأفراد.

المجتمع الإسلامي لا يقر السلبية من أفراده ولكن لابد من الشعور المشترك بالمسئولية، وأن يتحقق عمليًا تشبيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"،

وقد قال المشرِّعون إن هناك الجريمة التَرْكية: بمعنى أنه لو رأى رجل إنسانًا في خطر ويمكنه إنقاذه ثم تركه حتى مات وثبت ذلك، تعتبر جريمة قتل خطأ، وإذا ثبت أن هناك أسبابًا خاصةً وراء تركه يموت يمكن أن يعتبر قتلاً عمدًا.

ومن خصائص المجتمع الإسلامي أنه مجتمع الإنسانية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان نبيلة، فهو يحمي حقوق الإنسان ويحفظ عليه خصائصه السامية، ويفسح جنباته لكل من يؤمن بالحق ويعمل للخير لا يفرق بين لون أن جنس أو منزلة، فالكل لآدم.

ولا يعرف التاريخ الإنساني نظيرًا لتلك الحقبة الطويلة التي حقق فيها المجتمع الإسلامي إنسانيته، وحافظ على عدالته وسواسيته بين كل من عاش في أنحائه من مختلف الأجناس والأديان والألوان، وكم من أخل الكتاب من تركوا أقطارهم وعاشوا في ظل دولة الإسلام لينعموا فيها بإنسانيتهم وبالعدل والأمن والتكافل.

حتى اليهود الذين قُطعوا في الأرض وذاقوا ألوان العذاب في كل مجتمع أقاموا فيه لم يجدوا لهم ملجأ ولا مأمنًا إلا في حمى المجتمع الإسلامي في المشارق والمغارب، فرفع عنهم سوط العذاب وأذاقهم طعم الأمان، وهم اليوم يُذيقون العرب الذين يعيشون تحت وطأتهم

– بعد أن اغتصبوا أرضهم

– أقسى ألوان النكال والبطش، وتعينهم أمم البغي التي اجتمعت مع الصهيونية على الحقد والعدوان كأمريكا ومن سار في ركابها.

ورغم ما يتعرض له المسلمون من بطش وتنكيل كما حدث في محاكم التفتيش في الأندلس، فلن يحمل ذلك المجتمع الإسلامي في أي وقت على الكفر بالإنسانية، أو النكول عن مبدأ العدالة؛ لأن أوامر الله تنهى عن ذلك﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى ألا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾(المائدة: من الآية8).

فهل تفيق البشرية من عمايتها عن الحق، وتكف عن نفسها شرور التعصب المقيت والصراع الجائر الذي تمارسه قوى الجور والطغيان؟

وهل تفيق مجتمعاتنا وتعود إلى طريق ربها لتسعد بالأمن والعدل وكل ألوان السعادة الدنيوية والأخروية؟

نسأل الله ذلك...

تم بحمد الله