من بقايا الأيام (الجزء الثانى)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
من بقايا الأيام ( الجزء الثاني )

بقلم / الأستاذ عصام العطار


أزمَـة روحيـَّة

إنَّنا نتحدّث كثيراً عن حاجة المسلمين إلى المال، أو القوّة الماديّة، أو الاختصاصات العلميّة المختلفة، الفلسفيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة وغيرها.. لإقامة حكم الله عزَّ وجلَّ، ولا نتحدّث إلاّ قليلاً جدّاً عن حاجة المسلمين إلى صدق الإيمان بالله تعالى، وتمتين الصلة به، وخلع كل ما يُعْبد من دونه، وامتثال أمره ونهيه، وتحرّي مرضاته في كلِّ عمل، وإرادة وجهه في كلّ قصد.. مع أنّنا إن لم نؤمن بالله حقّ الإيمان، ولم نربط قلوبنا به، ولم ننظر من وراء كلّ عمل إلى مرضاته، لم ننتفع بكلّ ما سوى ذلك، ولم تفدنا الوسائل إنّ صارت في أيدينا الوسائل.. وكم رأينا المال في أيدي بعض المنعوتين بالإسلام مَفْسَدَةً لهم، ومَهْلَكَةً للدين والْخُلُق، وكم رأينا الفكرَ والعلمَ مطيّةً للأغراضِ والمنافعِ الحقيرة، بل كم رأينا من العلماء بالإسلام نفسه من يضعون أنفسهم في خدمة أعداء الإسلام، ويحاربون أولياءه، ويشترون بآيات الله ثمناً قليلاً؛ مكسباً أو منصباً أو مالاً أو جاهاً أو عَرَضاً زائلاً ومتاعاً فانياً من متاع هذه الدنيا..

لا بدَّ إذن قبلَ كلِّ شيء من الإيمانِ الصادق، والعبوديّةِ الخالصة، والمراقبةِ الدائمة، وأن تكونَ كلُّ حركةٍ من حركاتِنا، وكلُّ طاقةٍ من طاقاتِنا، لله عزَّ وجلَّ.. وعندما تكونُ الوسائل الأخرى نافعةً لنا في إرضاء ربّنا، وبلوغ أهدافنا، وتحقيق غايتنا، وإصلاحِ دنيانا وآخرتِنا.. بل إنَّنا عندما نُسْلِمُ لله عزَّ وجلَّ حقّاً وصدقاً، وننقادُ لما أمرنا في كتابه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم، لا بدّ لنا من اتخاذِ الأسبابِ، واستكمالِ الوسائل، طاعةً لله، وامتثالاً لأمره، وإقامةً لدينِه وحكمه.

ولم يكنِ السرُّ في انتصارِ المسلمينَ الأوّلين، ونجاحِهم في تحقيقِ أهدافِ الإسلام، أنَّهم ملكوا الوسائل، فهم إنَّما ملكوها بفضلِ إيمانهم، واتّباعهم، واستجابتهم لمتطلّباتِ دينهم.. إنّما سِرُّ النجاحِ والنصر أنَّهم بإيمانهم الصادق الخالص، وبانصِياعِهِمُ الكاملِ لأمر الله عزَّ وجلَّ، ورغبتِهمُ العميقةِ في مرضاتِه وثوابِه، قد تَوَفَّر عندهم الاستعدادُ التَّامُّ لتلبية كلّ حاجة من حاجات الإسلام، والنهوض بكلّ مطلبٍ من مطالبه، مهما كانت المشقّة والتضحية

لقد احتاجَ الإسلامُ إلى الدعوة، فكانَ المسلمونَ خيرَ دعاة، وأجرأَ دعاة، وأصبرَ دعاة.. بلَّغوا رسالةَ الله بأقوالِهم وأفعالِهم وواقِعهم، وشَقّوا لها الطريقَ في أصعبِ الظروف، وأعظم المخاطر، لم يرهبْهم الوعيدُ والتهديد، ولم يَثْنِهِمْ ما أصابَهم من المشركينَ في أنفسهم، وفي أهليهم، وفي أموالهم، وفي إخوانهم، وصَبَروا على الأذى المرير، والبلاءِ الشديد، دونما أملٍ بعونٍ من الأرض -وقد تَكَالَب عليهم أهلُ الأرض- ولا رجاءٍ إلاّ بالله عزَّ وجلَّ، وبما عندَ اللهِ من ثواب..

واحتاجَ الإسلامُ إلى الدم يُبْذَلُ من أَجله، دفاعاً عنه، وقتالاً لأعدائه، أعداءِ الحقّ، وجندِ الباطل، وعبيدِ الأهواءِ والمنافعِ والمطامع، الكائدينَ له، المتظاهرينَ عليه، المستكبرينَ الطاغين.. فاستبق المسلمونَ في بَذْلِ دمائِهم، وتقديمِ حياتِهم، ولم يروْا في الشهادةِ -عندما كانتْ تُكْتب الشهادة- إلاّ انتصاراً وفوزاً دونَه كلُّ فوز، وظفراً بما يتطلّعون إليه، ولا يعدِلون به غيرَه، من رضا الله، وجنّةِ الخلد.. واحتاجَ الإسلامُ إلى المال، فقدّموا المالَ كما قدّموا الأرواح، ولم يضنّوا بما حصّلوه، وتعبوا فيه، وكانوا أحوجَ ما يكونُ إليه ولم يبخلوا أن يُنفِقوا ما أنفقوا، وأن يتحمّلوا من الشّدة والحرمان ما تحمّلوا، طَيِّبةً نفوسُهُم، راضيةً قلوبُهم، مستيقنين أعظمَ الرِبْح عندَ الله..

واحتاجَ الإسلامُ على توالي القرونِ إلى ضروبٍ من المعارفِ والدراساتِ والجهودِ العلميّة لفهمه، وتبيانِ أحكامِه، وتوجيهِ الحياةِ -بجوانبها المختلفة- بهديه، وتطويرِها في حدوده، والدفاع عنه، وكشفِ باطلِ الْمُتَشَكِّكينَ فيه، والمفترينَ عليه، والزائغينَ عن طريقه القويم، فنهض المخلصونَ من أبنائهِ بذلك أحسنَ نهوض، ولم تكن مبادرتُهُم لسدِّ هذه الثغرة أبطأَ من مبادرتِهِمْ إلى الجهادِ بالمال والنفس، ولا عملُهم أقلّ، ولا عزمُهم أضعف

واحتاجَ الإسلامُ إلى كثيرٍ غيرِ ذلكَ في تبليغِ دعوتِه، وإقامة حكمه، فوجدَ دائماً من يَسُدُّ حاجتَه على أكملِ وجه، بدافع ذاتيٍّ أصيلٍ عميق، ورغبةٍ صادقةٍ جارفةٍ، لا تقفُ أمامَها العوائق، ولا تكبر عندها التضحياتُ الجِسَام..

ولم يبدأ الإسلامُ دعوتَه بالفروع، لكن بدأها بالجَذْرِ وبالأساس

لم يطالبِ الناسَ أوّلَ ما طالبَ بالدعوة، ولا بالقتال، ولا بالزكاة، ولا بالصوم، ولا بترك الخمر والميسر.. وإنّما طالبهم أَوَّلَ ما طالبَ بالإيمانِ بالله، وتوحيدِه، وخلع ما يعبدونَ من دونه.. لقد بدأ بالعقيدةِ ولم يبدأ بغيرِها من التكاليف، لأنّها الأساسُ الذي يُبْنَى عليه كلُّ تكليف، وبدأَ بالباطنِ لا بالظاهر، بقلبِ الإنسانِ وفكرهِ قبلَ كلِّ شيء، لأنّه من هناك يبدأُ التغيير ويكونُ الانطلاق..

لَمّا أمرَ اللّهُ رسولَه صلى الله عليه وسلّم بإظهارِ دينه، وبأن يَصْدَع بما جاءَه منه، وبأن يُبادِيَ الناسَ بأمرِه، ويدعوَ إليه صَعِدَ الصفَا ونادى:

يا معشرَ قريش! قالت قريش: محمدٌ على الصفا يَهْتِف، وأقبلوا عليه يسألونَهُ ما لَهُ، فكانَ ممّا قال: «يا بني عبدِ الْمُطَّلِب، يا بني عبدِ مَنَاف، يا بَني زُهْرة، يا بني تَيْم، يا بني مَخْزوم، يا بني أَسَد، إنّ اللّهَ أمرني أن أُنْذِرَ عشيرَتِيَ الأقربين، وإنِّي لا أَمْلِكُ لكم من الدنيا منفعة، ولا من الآخرةِ نصيباً، إلاّ أن تقولوا: لا إله إلاّ الله»

ولمّا اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشاً ثِقَلُه، مَشَوْا إليه -كما قال ابن عباس- وهمْ أشرافُ قومِه، فقالوا: يا أبا طالب، إنّكَ منّا حيثُ قد علمت، وقدْ حضرَكَ ما تَرى، وتَخَوَّفْنا عليك وقد علمتَ الذي بيننا وبينَ ابنِ أخيك، فادْعُهُ فَخُذْ له منّا، وخذْ لنا منه، لِيَكُفّ عنّا، ونكفّ عنه، ولِيَدَعَنا ودينَنَا، وندعَه ودينَه فبعثَ إليه أبو طالب فجاءه، فقال: يا ابن أخي، هؤلاء أشرافُ قومِك، قد اجتمعوا لكَ لِيُعْطُوكَ ولِيَأْخُذوا منك

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:

«نَعَم، كلمةٌ واحدة تُعْطُونِيهَا، تَمْلِكُونَ بها العرب، وتَدِينُ لكمْ بها العَجَم»

فقال أبو جهل: نعمْ وأبيكَ، وعشرُ كلمات

قال: «تقولون لا إله إلاّ الله، وتَخْلَعونَ ما تَعْبُدون منْ دونِه».

وما أروعَ هذا الحديثَ الذي يُرْشِد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى نقطة البدْء، وقطبِ الرحى في هداية الناس وإصلاح أحوالهم:

«...ألاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ألاَ وَهِيَ الْقَلْب» رواه البخاري ومسلم

وهذا المنهجُ الذي نَهَجَه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، هو منهجُ الرسلِ جميعاً في الدعوة إلى الله، وإقامةِ شرعه، وهو المنهجُ الذي يلائمُ فطرةَ الإنسانِ التي فطرَهُ الله عليها، وما سَنَّ اللّهُ في خلقِهِ من السُّنَن. يقول عزَّ وجلَّ:

وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ... [النحل:36]

ويُفَصِّلُ لنا تعالى بعضَ ذلك فيقول:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون:23]

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ  فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون:31-32]

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ [المؤمنون:41]

ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى... [المؤمنون:44]

يَتَتَابَعونَ على تبيانِ هذه الحقيقةِ الخالدة، وعلى الدعوةِ إليها، وتقريرها، وترسيخها في القلوب والعقول، رسولاً بعدَ رسول..

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]

إلى أن ختمَ تعالى رُسُلَه بمحمد صلى الله عليه وسلّم فأمرَهُ أن يقول:

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [فصلت:6]

وعندما آمنَ المسلمون الأوّلُونَ بالله وبالرسول وباليوم الآخر، انقادوا انقياداً طبيعيّاً لكلِّ ما جاءهم به صلى الله عليه وسلّم، في خَوَاصِّ أنفسِهِمْ، وفي علاقاتِهم بمجتمعِهِم، مؤتمرينَ بما أمرَ به، منتهين عمّا نهى عنه، ولم يحتجِ الأمرُ إلى إقناعٍ جديدٍ بكلِّ تكليف، وإلى مشقّةٍ كبيرةٍ في إنفاذِ كلِّ حكم.. عندما حَصَلَتِ المقدِّماتُ أعقَبَتْها النتائج، وعندما ثَبَتَ الأصلُ الحيُّ في الأرض امتدَّتِ الفروعُ إلى السماء، وعندما رسَخَ أساسُ البِنَاء أمكَنَ أن يقومَ البناءُ السامقُ المتين..، ولو لم يكنِ الإيمانُ أوّلاً لَمَا كانت لوازِمُه، لو لم يَكُنِ الأصلُ ما كانتِ الفروع، لو لم تكنِ العقيدة، ما كانتِ الشريعة، وما كانتِ الأمّة، وما كانتِ الدولة..

ولا بدَّ أنْ تكونَ للإيمانِ الصادقِ لوازِمُهُ وآثارُه؛ الدّاخليّةُ في القلبِ والفكرِ والضمير، والخارجيّةُ في كلِّ مظاهرِ السلوكِ الخاصّ والعام وأنْ نَلْمَس هذه اللوازمَ والآثار.

قال تعالى:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ  الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ  أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4]

وقال تعالى:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]

وقال تعالى:

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:74]

وقال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].

ودلَّ الله تعالى رسولَه الكريم على من يُكَذِّبُ بالدين، بأعمالِه السيِّئةِ الفاسدةِ المخالفةِ لما شَرَع الله أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ  فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ  وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:1-3] إذ لو كانَ يؤمنُ باللهِ حقّاً وصِدْقاً، وبقيامِهِ المؤكَّدِ بينَ يديه يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ... [آل عمران:30] لاستحى منه، وخافَ عقابَه: أن يَدُعَّ اليتيم، ولا يَحُضَّ على طعامِ المسكين، وَلَطَلَبَ ثوابَه وتقرَّبَ إليه بتركِ ما فعل، وفعلِ ما ترك من البرِّ والخير.

وإذا خلا قلبُ المسلمِ من الإيمانِ بالله، انعدمتْ لوازمُهُ عندَه، وماتَ الإسلامُ في حياته، وانتهى عملُه من أجلِه، كالشجرةِ التي اجتُثَّ جَذْرُها ومصدَرُ حياتِها ونمائِها، وأساسُ بقائِها، فإنّها تَذْبُل وتموت، وتَتَحَوَّلُ إلى حطبٍ يابسٍ لا يَصْلُحُ إلاّ للحرق.

وإذا نقصَ الإيمانُ في قلبه، وضَعُفَتْ صِلَتُه بربِّه، ووهَنَ ارتباطُه به، وانصرفتْ نفسُهُ إلى الدنيا، وآثرَها بحبِّهِ وسَعْيِه، ذَبُلَ الإسلامُ في حياتِه، وأصبحَ رَسْماً حائِلاً لا حرارةَ فيه، ولا رُوحَ له، وتراجَعَ عندَهُ إلى مرتبةٍ مُتَأَخِّرة، ولمْ يَعُدْ يصدُرُ عنه، أو يقيسُ به، أو يجدُ حلاوةَ العمل له، والتضحيةِ من أجله.. بل إنّه ليستكثِرُ عليه كلّ جهد، ويستغلي كلَّ بذل، ويُحِسُّهُ عبئاً ثقيلاً على كتفيه وحاجزاً في وجهه دونَ ما يشتهيه، فهو يَتَخَفَّفُ منه خطوةً بعد خطوة ويوماً بعدَ يوم، ولا يستبقي إلاّ أشكالاً مَيِّتَةً لبعضِ أجزائه التي لا تتعارض في ظاهرِ الأمر -أو لا يَسْمَحُ لها بأن تتعارض- مع أهوائِه وشهواتِه ومصالحِه الدنيويَّة غيرِ المشروعة.. وهو يُحَكِّمُ فيهِ هذه المصالحَ والشهواتِ والأهواء، فيقبلُ منه ويَرْفض، ويَأْخُذُ ويدَع، ويُغَيِّر ويُبدِّل، ويطيعُ فيه الناسَ ولا يطيعُه في الناس، و لا يَشْعُرُ نحوَه بأيِّ تَبِعَة، ولا يُحِبُّ فيه أحداً، ولا يُبْغِض أحداً، فإذا أحبَّ فيه أحياناً أو أبغض، في أمورٍ لا تَدْخل فيها مصلحتُهُ أو هواه، لم يتجاوز ذلك قلبَه إلى مُوَالاةِ من يحبّ ومعاداةِ من يبغض، بل ربّما وقفَ مع أعداءِ الإسلامِ يحاربُ معهم الإسلام، إيثاراً للسلامة، أو طمعاً في الغنيمة، أو مجاراةً للتيّار، وتزلّفاً لبعض الناس..

وهذه هي حال كثير ٍ من المسلمين الآن.. وقد نجدُ فيهم أصحابَ الذكاء، وأصحابَ المهارة، وأصحابَ المعرفة، وأصحابَ الاختصاصات.. ولكنَّها مواهبُ مصروفةٌ في غيرِ طريقِ الإسلام، معطَّلَةٌ عن خدمته، والعملِ لتحقيقِ أهدافِه.. مُسَخَّرَةٌ في كثيرٍ من الأحيانِ لحربِه، والتمكينِ لمذاهَب وأوضاعٍ مناقضةٍ له.. ولا سبيلَ إلى تبديلِ هذه الحال، وتحويل هذه الإمكاناتِ إلى خدمةِ الإسلام، إلاّ أن تَتَحَوَّلَ القلوبُ إلى الله، وتمتلئَ به، وتخلصَ له، وتتأجَّجَ بحبّه وخشيته، ويصبحَ اللّهُ ورسوله، والجهادُ في سبيله، أحبَّ إلى أصحابِها من الآباء، والأبناء، و الإخوان، والأزواج، والعشيرة، والأموال، والتجارة، والمساكن، والدنيا كُلِّها.. وتَغْدُوَ الدارُ الباقيةُ آثرَ عندهم، وأرجى لهم، من الدارِ الفانية، وتُنْتَزَعَ من صدورِهِمْ خشيةُ الناس، ليحلَّ محلّها خشيةُ الله.. وبذلك تَدِبُّ الحياة، بمعرفةِ الله عزَّ وجلَّ، وبالإيمانِ الصادقِ المتدفِّقِ من القلب، في أوصالِ المسلمين، ويَنْبَعِثُ الإسلامُ قويّاً غلاّباً في حياتهم، وتتوجّهُ طاقاتُهم إلى إعلاءِ كلمةِ الله، وإقامةِ حكمه، ويقعُ الانقلابُ الجذريُّ العميقُ الذي يَرُدُّ الأوضاعَ المنكوسةَ إلى الحال السويّ.. يقع هذا الانقلابُ الأصيلُ الحاسمُ في حياتهم ومجتمعهم وأرضهم، عندما يقعُ في أنفسِهِمْ أوّلاً، فتتغيّرُ هذه الأنفس، وتتوجّهُ بكلِّ طاقاتِها إلى الله عزَّ وجلَّ، بعدَ أن تَفَرَّقَت بها السبُل، وكادت تضيعُ، وتستهلكُها الصغائر، وتخسرُ الآخرةَ والدنيا.

لذلكَ فأنا أدعو المسلمين، والشبابَ الغيورينَ، الثائرينَ على الواقعِ الفاسد، الْمُتَلَمِّسِينَ الطريقَ القاصِد.. أدعوهم إلى رجعةٍ حقيقيّةٍ -لا رجعةٍ كلاميّةٍ لفظيّةٍ- إلى الله عزَّ وجلَّ..

أدعوهم إلى تجديدِ إيمانهم به، وخلعِ كلِّ ما يعبدونَ من دونه، فلا إله إلاّ الله

أدعوهم إلى محبّتِهِ وطاعتِه، والرغْبَةِ إليه وحدَه، لا رَغْبَةَ إلى سواه، والرهبةِ منه وحدَه، لا رَهْبَةَ مِمّن عداه.. وإلى معرفته، وتوثيقِ الصِلةِ به، وصدقِ العبوديّة له، وربطِ القلبِ والفكر، وربطِ الجوارح والحياة، بأمرِه ونَهْيِه، وألاّ يَتَوجَّهوا بالقصدِ إلاّ وجهِهِ الكريم، وأن يكونَ الْعَيْشُ عندَهم هوَ عيشُ الآخرة، وأن تكونَ الدنيا طريقاً لهم إلى الله عزَّ وجلَّ، وإلى جنّة الخلد..

إنّكمْ -يا شباب- إذا رجعتم إلى الله هذه الرجعة الصادقة، كنتم الأعْلَيْن، وكنتم قَدَراً مِنْ قَدَرِ الله الذي لا يُرَدّ

إذا أردتمُ الآخرةَ هانت عليكم الدنيا، فتحرّرتم من إسار الدنيا

وإذا عرفتمُ اللّهَ صَغُرَ عندكم مَنْ سواه، وما سواه، بلْ ذابَ في أعينِكم، وفَنِيَ في قلوبِكم، كلُّ ما عداه.. ولم يَعُدْ يستأهلُ الطَلَبَ والنَصَبَ إلاّ قربُه ورضاه

وإذا اسْتَشْعَرْتُمْ رابطَتكُمْ بربّكم، وعونَه لكم، وأيقنتم أنّه معكم، رأيتمْ أنفسَكم أقوى من كلِّ قُوى الشيطانِ والطغيان.

إذا رجعتم هذه الرجعة، تحوّلتم خَلْقاً جديداً، جديراً بحملِ الأمانة، التي أشفقت منها السماواتُ والأرضُ والجبال، وبتكريمِ الله عزَّ وجلَّ، واتّصلت أرواحُكُم من وراء القرون، بروحِ رسولِكمْ وقائدِكم محمّد صلى الله عليه وسلّم، وارتبطتم ارتباطاً حيّاً، بالميامينِ من صحابَتِهِ الكرام، والتحقتمْ بذلك الركبِ الخالدِ العظيم، الذي يرضى عنه الله، وتنفتحُ له أبوابُ الجنان، وأصبحَ الواحدُ منكم أثمنَ في قيمتِه، وأنفعَ لدعوتِه وأكبرَ في أثرِه، من ملايينِ المسلمينَ بأسمائهم -لا بحقيقتهِمْ وأعمالِهِمْ- مِنَ المجرورين في مواكبِ الشيطان، الْمنْقَطِعَةِ صلتُهُمْ بالرحمن، الغُثَاءِ الذي يَحْكِي غُثاءَ السيل، لا بَقاءَ له، ولا منفعةَ فيه.. إنّكم إذا رجعتم إلى الله كما وصفت، وملكتُمْ هذه الروحَ الجديدة، وهذه المشاعرَ الجديدة، وهذه القدرةَ الجديدة، وهذا التفكيرَ والتصوّر، أمكنكم بسهولةٍ، أن تُضَحّوا بالمالِ، وبالمنصب، وبالجاه، وبالدنيا جميعِها، وبالحياةِ كلِّها، في سبيل الله عزَّ وجلَّ، وأن تستسهلوا العقبات، وتستصغروا النكبات، وترتفعوا على الشدائدِ والمغريات، وتستعلوا على قُوى الباطل، وطواغيتِ الأرض، بإيمانِكم بربِّ السماواتِ والأرض، ولو كنتم عُزْلاً من كلِّ سلاح.

وهكذا يولدُ المسلمُ ولادةً جديدة، مِنْ عقيدتِهِ لا مِنْ رَحِمِ أمّه، وينبعثُ بمعرفتِهِ بالله، وحرارةِ إيمانِه به، وتصديقِه بوعده ووعيده، عملاقاً شامخاً، يرتفعُ ببصره، ويعلو بأمله، ويسمو بواقعه، فوقَ هذه الدنيا التي لا تَعْدِلُ عندَ اللهِ جناحَ بعوضة، وفوقَ طغاتِها المغرورينَ المساكين، الذين يظنّونَ أنّهم قادرون على حربِ ربِّ العالمين، في مكانِهِمْ على جناحِ البعوضةِ ذاك، وفي لمحةِ البصرِ التي يعيشونها من عُمُر الوجود.

وعندما توجدُ العقيدةُ الصادقةُ في الله، يوجدُ المسلمُ الحقّ، لا فرقَ في ذلك بينَ عصرٍ وعصر، ومصرٍ ومصر، وجيلٍ وجيل، وما تزال ملءَ قلوبِنا وعيونِنا وعقولِنا -ولن تزال- تلكَ الصورةُ الصادِقةُ الرائعة، التي قدَّمَها لنا أخونا العظيم سيّد قطب، بقلمِه في «المعالم»، وبواقِعِهِ في السجن، وعلى أبواب الخلود. قال رحمة الله عليه:

{.. تتبدّل الأحوالُ ويقفُ المسلمُ موقفَ المغلوبِ المجرّدِ من القوّةِ المادّيـّة، فلا يفارقُه شعورُه بأنَّه الأعلى، وينظرُ إلى غالبه من علٍ ما دام مؤمنا. ويستيقنُ أنّها فترةٌ وتمضي، وأنّ للإيمانِ كَرَّةً لا مفرَّ منها. وهَبْها كانتِ القاضية، فإنّه لا يحني لها رأساً. إنّ الناس كلَّهم يموتون. أمّا هو فيستشهد. وهو يغادر هذه الأرضَ إلى الجنّة. وغالبه يغادرها إلى النار. وشتّان شتّان. وهو يسمع نداء ربّه الكريم: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:196-198]}

ولقد رأينا جميعاً أخانا الحبيب؛ الشهيدَ السعيد؛ سيّد قطب، في سيّارة البوليس التي نقلته ممّا سًمِّيَ: «محكمةً» إلى السجنِ الحربيّ، بعدَ أن سمعَ الحكَم عليه بالموت

لا أستطيعُ أن أنسى تلكَ الصورةَ العظيمة المعبِّرَة.. لَكَأنَّه -رحمةُ الله عليه- لم يتلقَّ الحكمَ بالإعدام، بل تلقّى البُشْرى بجنّةِ الخلد، فغلبتْهُ الفرحة، وانفرجتْ شفتاهُ عن تلكَ الابتسامةِ الباقية، التي نطقتْ بها أساريرُه، وأشرقَ بها وجهُهُ كلُّهُ بنورِ ربِّهِ عزَّ وجلَّ..

إنّ هذه الصورةَ، وهذه الابتسامةَ الرائعة، في تلكَ الساعة، في تلكَ الظروف، لأَبْلَغُ من ألفِ كلمةٍ ومقال. إنّها التجسيدُ الحيُّ للطمأنينةِ، والرضى الكاملِ بقضاءِ الله، والسموِّ على عَالَمِ الفَناء.

إنّها التعبيرُ القويُّ، يفهمُهُ كلُّ إنسان -مهما اختلفَ اللسان- عمَّا فاضَ به القلبُ الكبيرُ من السعادةِ والغِبطةِ بقربِ لقاءِ الله، وبما حقَّقَ بالشهادةِ الْمُرْتَقَبَةِ من الأمل، ونال بها من الفوز.. والشهادةُ عندَ المؤمنِ الصادقِ فوزٌ لا شكَّ فيه..

ومعَ سيّد قطب، وقبلَ سيّد قطب، قدّمَ الإسلامُ لنا أمثالَه من النماذِج الكريمةِ العظيمةِ الملهِمة، التي ارتفع بها الإيمانُ إلى أرفعِ مستوىً يتصوّرُهُ الإنسان، والتي انتَصَبَتْ خلالَ العصورِ الْمُتَعاقِبات، مَناراتٍ شاهِقات، تضيءُ للبشرِ الطريق، وتَدُلُّ بالمثالِ الحيّ لا بمجرّدِ اللسان، على معجزةِ الإيمان.. لَمّا وردَ الأمرُ بسجنِ الإمامِ أحمدِ بنِ تيميّة بقلعةِ دمشق، أظهرَ السرورَ بذلك وقال -كما نقل عنه تلميذُه العظيمُ الإمام ابنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّة-:

«ما يصنعُ أعدائي بي؟ أنا جنَّتي وبستاني في صدري أينَ رُحْتُ فهيَ معي لا تُفَارِقُني. أنا حَبْسي خَلْوَة، وقَتْلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة..»

وكان يقول في مجلسه في القلعة:

«لو بذلتُ مِلءَ هذه القلعةِ ذَهَباً ما عَدَلَ عندي شُكْرَ هذه النعمة، وما جَزَيْتُهُمْ على ما تَسَبَّبُوا إليّ فيه من الخير..»

ويقول: «المحبوسُ من حُبِس قلبُهُ عن ربِّه، والمأسورُ مَنْ أَسَرَهُ هواه»

ويقول في السجود:

«اللّهُمَّ أعنِّي على ذِكرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبادَتِك» ما شاء الله أن يقول

ولَمّا أُدْخِلَ إلى القلعةِ، وصارَ داخل سورِها، نظرَ إليه وقال: ...فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13]

فقولوا لي بالله يا شباب، كيفَ يُمْكِنُ أن يُقْهَرَ أمثالُ هؤلاءِ الرجال؟ وكيف يمكن أن تَنْخَفِضَ هذه الجباه؟ وكيف يمكن أن ينهزمَ الإيمانُ في هذه القلوب؟

بالسجن؟ والسجنُ عندَها خَلْوَةٌ تَصِلُ بأحبِّ محبوب

بالقتل؟ والقتلُ عندَها شهادةٌ تُبْلِغُ جنّةَ الخلد

بالنفي؟ والنفيُ عندَها سياحةٌ في دنيا الله عزَّ وجلّ

بالمحنة؟ والمحنةُ عندها نعمةٌ تستوجبُ أعظمَ الشكر

كيف يمكن أن يُقْهَرَ هؤلاء؟.. وكيف لا تنتصرُ بهم دعوةُ الله، ولا تُنالُ بهم أبعدُ الأهداف؟.. وقد غَدَوْا بالإيمانِ المهيمنِ عليهم شُعْلَةَ إيمان، وأمراً من أمرِ الرحمن، يعلو على وسائلِ أبناءِ الفناءِ، ويصنعُ اللّهُ به ما يشاء.

ولقد أحسَّ جُنْدُ اللهِ المؤمنونَ المخلصونَ الذينَ فَرَغوا منْ أَنْفُسِهِمْ، ووهبوا حياتَهم -كلَّ حياتِهم - لربِّهم، فلمْ يتحرّكوا ولم يقفوا، ولم يُعْطوا، ولم يَمْنَعوا، ولم يُحبّوا، ولم يُبغضوا، ولم يحاربوا، ولم يسالموا، إلاّ بهِ وفيهِ ومِنْ أجلهِ عزَّ وجلّ.. لقد أحسّوا أنّهم قَدَرٌ من قَدَرِ اللهِ الغَلاَّب، لا تصدُّهُ ولا تَرُدُّهُ قوّةٌ في الأرض، إلاّ أن يشاء الله

«أُتِيَ رُسْتُم (قائدُ الفرس) وهو في طريقه إلى القادِسيَّة برجلٍ من العرب فقال له:

- ما جاءَ بكم؟ وماذا تَطلبون؟

فقال: جئنا نَطْلُبُ مَوْعُودَ اللهِ بمِلْكِ أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تُسلموا

قال رستم: فإن قُتِلْتُم قبلَ ذلك

قال: من قُتِلَ منّا دخلَ الجنّة، ومن بقي منّا أَنْجَزَهُ اللّهُ ما وعده فنحنُ على يقين

فقال رستم: قد وُضِعْنَا إذن في أيديكم

فقال: أعمالُكُمْ وَضَعَتْكُم فَأَسْلَمَكُمُ اللّهُ بها، فلا يَغُرَّنَّكَ من تَرى حولَك، فإنّكَ لستَ تُجاوِلُ الإنس، إنّما تُجاوِلُ القضاءَ والقدر».

وبعدُ يا شباب!

فقد وضحَ لنا الْمُنطَلَقُ الصحيح.. ولم يَعُدْ مجالٌ لمخادعةِ النفسِ أو الناس، ببعضِ أعمالٍ سطحيّةٍ أو فرعيّة، نوهِمُ أنفسَنا بها، أنّنا مسلمونَ نعملُ للإسلام

لا بدَّ لنا من إعادةِ النظرِ في أوضاعِنا قبلَ كلِّ شيء، ومن موقفٍ جذريٍّ حاسمٍ صريح

هل نحنُ مع الإسلام أم لا؟

أمّا أَنْ نَضَعَ قدماً مع الإسلامِ وقَدَماً مع التيّار، ونُقَدِّمَ في العملِ رِجلاً ونُؤَخِّرَ أُخرى، وننظرَ إلى الآخرةِ بعين، وعينُنَا الثانيةُ تَطرِفُ وراءَ الدنيا، ونرضى بأنصافِ الحلولِ بلْ بالأرباعِ والأخماسِ والأعشار.. فهذا لن يُقْبَلَ مِنّا، ولن يَجْعَلَنا نقطةَ التحوُّلِ من الْجَزْرِ إلى الْمَدّ، ولن يَكتبَ بنا النصر، ولنا الجنَّة.. ولن يَجْعَلَ مِنّا إلاّ جيلاً ضائعاً ممزَّقاً يُسْلِمُ نفسَه إلى الانحرافِ الكاملِ أو إلى الدمار.. إنْ كُنّا معَ الإسلام حَقّاً، فلْنَرْجِعْ إلى الله.. فلنرجعْ إليه مَرَّةً واحدةً بقوّةٍ وجرأةٍ وعُمْقٍ وإخلاص، ولْنَصُغْ حياتَنا كلَّها صِياغةً جديدةً على هذا الأساس، ولْنَبْدَأْ معركَتَنا داخلَ أنفسِنا أَوّلاً، لِتَخْلُصَ لله، ولينتصرَ فيها الإسلام، ولتُصْبِحَ صورةً مُجَسِّمةً للحقّ، وعندَها تهونُ علينا معاركُنا الأخرى.. ويكونُ للإسلام رجالُه الذينَ يمثِّلونَه أصدقَ تمثيل، ويعيشونَ له، ويَشقُّونَ طريقه.. رجالُه الذينَ يربطونَ مصيرَهم به، ويَحْصُرونَ وُجُودَهم في حدودِه، فلا يكونُ لهمْ وجودٌ خارجَ إطارِه أبدا.. هؤلاء الرجالُ همُ المسلمونَ حقّاً وصِدْقا، وهمْ مَعْقِدُ الأمل، ومَوْطِنُ الرجاء، وهم الذين يَحُلّ وجودُهم كلَّ مشكلة ويُذَلِّلُ كلَّ عقبة، ويحقّق كلَّ هدف، ويُبَلِّغُ كلَّ غاية، ويجعل البعيدَ قريباً، والعسيرَ يسيراً، والمستحيلَ -على أمثالِنا الآن- ممكِنا.. وهمُ الذين تحيا بهم الأمّة، وتعودُ بهم إليها الروح، وتقومُ عليهم الدولة، وتتوفّرُ بهم لإقامتها الوسائل، كلُّ الوسائل، علميّة، وفكريّة، وهمُ القادرونَ على مواجهةِ كلّ التحدّيات، وعلى تقديمِ كلِّ التضحيات، وعلى الاستقامةِ على طريق الحقّ أبداً، لا يَتَرَدَّدُون، ولا يَتَوَقَّفُون، ولا يَنْحَرِفُون ذات الشمال أو اليمين، وهم الذينَ اصطفاهُمُ اللّهُ لأعلى منازلِ الكرامةِ في الدنيا والآخرة، وكتبَ لهم من فضلِهِ أن يحملوا لواءَ الدعوة إليه، والجهادِ لإقامة دينه وحكمه، في أحلكِ الأيّامِ وأقسى الظروف

أَلا فَلْنُجَدِّدْ جميعاً عهدَنا لله عزَّ وجلَّ، ولْنَسْتَغْفِرْه لما فَرَطَ مِنّا وسَلَفَ من القصور، ولْنَبْدَأْ طريقَنا بالإيمان، لينتهيَ بنا إلى الجنّة، ونمتلكَ مفاتيح النصر.. ولْنُغِذَّ السيرَ، واثقينَ بالله، وبوعدِه الصادق الأكيد..

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]

يجب أن يبدأ في أنفسنا التحوُّل

يكثُر الحديثُ في هذه الأيّامِ، وقبلَ هذه الأيّامِ، عن أَدْواءِ المسلمينَ، وواجباتِ المسلمين.

ونكادُ نَسْمَعُ هذا الحديثَ في كلِّ لقاءِ صغيرٍ أو كبيرٍ يضمُّ أصحابَ الاتّجاه الإسلاميّ.

ويتحدّثُ المجتمعونَ عن العِلَلِ وكأنَّهم خالونَ منها، وعن الواجباتِ وكأنَّ غيرَهم هو المطالَبُ بها.

والحقيقةُ أنَّ أكثرَ هؤلاءِ الذينَ يعقِدونَ الاجتماعاتِ والمؤتمرات، ويتناقشونَ في المناسباتِ والسهرات، ويكتبونَ في الصحفِ والمجلاّت، وكأنَّهم -كما قلنا- خالونَ من العلل.. الحقيقةُ أنّهم جزءٌ من المسلمينَ الحالِيِّينَ المنتقدَين، فيهم من كلِّ العللِ التي تفتكُ بهم، والتي أوصلتهم إلى ما هم عليه الآن من هوانٍ وبلاءٍ شديد..

ويجبُ ألاّ يهربوا من هذه الحقيقة، ومن مواجهتِها بشجاعةٍ وإخلاص..

إنّنا نقولُ دوماً في لقاءاتِنا: المسلمون.. المسلمون.. ولا نَذْكُرُ أنفسَنا كأنّنا لسنا منهم..

عندما نعدِّدُ العللَ، لا نُدْخِل أنفسَنا فيمن تَفْتِكُ بهم هذه العلل.

وعندما نعدّدُ الواجبات، لا نُدْخِل أنفسنا فيمن يجب عليهم النهوضُ بهذه الواجبات.

أحاديثُنا في الغالب ثرثرات، وكلماتُنا مجرَّدُ كلمات، لا تضعُنا مباشرةً أمامَ أيِّ واجبٍ منَ الواجبات.. نطوفُ بأحاديثِنا الشرقَ والغرب، ونذهبُ بها إلى أبعدِ مكانٍ وأبعدِ إنسان، وننسى مكانَنا الذي نحنُ فيه، وأنفسَنا التي يجبُ أن نَبدأ بها، وننطلقَ منها.. وهكذا لا نجدُ أبداً نقطةَ البدء، ولا نُكَوِّنُ المنطلقَ المنشودَ للتغيير.


إنّ واقعَ المسلمينَ الراهنَ هو أسوأُ واقع، والانهيارَ المستمرَّ في حياتِهم يهدّدُ وجودَهم نفسَه، ولكنْ أينَ يُمكنُ أن يقفَ هذا الانهيار، ويبدأ التحوّل؟

جوابنا الحاسم: في أنفسنا.

يجب أن يقفَ في أنفُسِنا الانهيارُ، وأن يبدأَ في أنفسنا التحوُّل.. فإذا تَحَوَّلْنَا إلى مسلمينَ حقيقيّين كما يريدُ الإسلام، تحوَّلَ بنا مجتمعُنا، وتحوَّلُ بنا المسلمونَ في كلّ مكان، وتحوَّلَ بنا العالم.. أمّا إذا لم نتحوَّلْ نحنُ التحوُّلَ المطلوب، فلا يمكنُ أن نحوِّلَ مجتمعَنا وأمّتَنا وعالَمَنا مهما تكلّمنا وصحنا وكتبنا.. بل إنّ كلامَنا وكتابتَنا لَتَسْتَحيلُ إلى ضربٍ من العبثِ والنفاقِ والخداع.


لقد كانَ عمادُ التحوُّلِ العظيمِ الذي تمَّ بالإسلامِ في تاريخِ البشر أيّامِ الرسول صلى الله عليه وسلّم أمرين: الرسالةُ، ومَنْ حملوا الرسالة.

أمّا الرسالةُ فهي باقيةٌ بيننا في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم.. وقد تكفَّلَ الله لها بالحفظ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]

إنّما تغيّرَ من حملوا الرسالة، أو لم يَعُدْ لها من يأخذُها بقوّة، ويحملُها بإخلاصٍ وَجِدٍّ إلاّ قليل.. فتغيّرتْ بنا الحال، وصِرنا إلى هذا الضعْفِ والهوانِ والبلاء.

ولن يتغيّر وضعُنا من جديد، ولن يحدثَ التحوّلُ الجذريُّ الحقيقيُّ المنشودُ في حياتنا، ولن نأخذَ مكانَنا في قيادةِ أمّتِنا وقيادةِ العالم.. إلاّ أن نصعدَ بأنفسِنا إلى مستوى من حملوا الرسالةَ أوّل مرّة.. إلى مستوى أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلّم، إيماناً وصدقاً، وعلماً ووعياً، وجهاداً وتضحية.. وإلاّ أن يكون لنا في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ كما طلب الله عزَّ وجلَّ.. وعندها يقع التحوّل العظيم كرّة أخرى. يجبُ أن نُجَسِّمَ في حياتِنا -لا في كلامِنا فقط- الإسلام، وأن نرتفعَ إلى مستواه، لا أن نتحدّثَ عنه في سمائِه العالية، ونحن في أرضَنا المنخفضة، وواقعِنا المنحطّ نتمرَّغُ في الوحول.


العلَّةُ الكبيرة إنّما هي فينا نحن الذين نسمي أنفسَنا «العاملين للإسلام»، ونتصدّى لقيادةِ المسلمين.. ونحن دونَ إسلامِنا ومهمّتِنا بما لا يقاس..

العلّةُ فينا أكبرُ منها في غيرنا، وأخطرُ منها في غيرنا، فَبِنَا يَصْلُحُ المسلمون -إلى حدٍّ كبير- أو يفسدون، وبنا يهتدونَ أو يضِلُّون، وبنا يَتَوَلَّدُ عندهم الثقةُ والأمل، أو اليأسُ القاتل..

لقد أصبحَ فينا حقيقةً من يُحسنون الحديثَ عن الإسلام، ولكنْ قلَّ فينا من يعيشون الإسلام، ويعيشون للإسلام.. ومن هنا كان المظهر أكبر كثيراً من الحقيقة، وكانت خيبات الأمل في كثيرٍ من المسلمين، وكان من المتحدّثين عن الإسلام أدواتٌ للاستغلال والتضليل.

نحنُ -أو أكثرنا- في واقِعنا الحاليّ، جزءٌ من الواقِع الفاسدِ المنحلِّ الذي نزعم أنّنا نريد تغييره بالإسلام..

نحنُ جزءٌ من هذا الواقعِ في دوافعِنا، ومطالِبنا، وأخلاقِنا، وكثيرٍ من مفاهيمِنا وأفكارِنا ووسائِلنا، فكيفَ نُغَيِّرُ هذا الواقعَ ونحن جزءٌ منه مرتبطٌ معه؟

إنّنا نتكلّم بألسنتِنا عن الإسلام، ونعيش بواقِعِنا الجاهليّة، فكيفَ يتحقّق بنا الإسلام العظيم؟

لا بدَّ لنا إذن -إن أردنا أن نكونَ حقيقةً نُقْطَةَ التحوُّلِ في حياةِ المسلمين، وحياةِ العالم- من أن نثورَ على واقعِنا، وواقع مجتمعِنا.. من أن نتحرّرَ من هذا الواقعِ بأفكارِنا ومشاعرِنا وسلوكِنا.. من أن نتحوّلَ إلى صورةٍ حقيقيّةٍ مجسِّمَةٍ للإسلام الذي نؤمنُ به وندعو إليه، حتى يمكن أن نحوّل مجتمعَنا إلى الإسلام، ونقودَ أمّتنا على طريقه، وننقذ به العالم من بَعْد.

لا بدّ لنا أن نُحَقِّقَ في أنفسِنا، وفي مجتمعاتِنا الصغيرة، منذ الآن، كلَّ ما نُريد أن نحقِّقَهُ في حياةِ المسلمينَ في المستقبل.. إن كنّا صادقين، وكنّا جادّين.

إنّ الفردَ مِنّا قد لا يَمْلِكُ أمرَ سواه، ولكنّه يملِكُ أمرَ نفسِه فلماذا لا يبدأُ بها؟ ولماذا لا يحقِّقُ فيها ما يدعو إلى تحقيقِه الناس؟

وإنّ الجماعةَ منّا قد لا تملكُ أمرَ سواها، ولكنّها تملك أمرَ نفسِها، فلماذا لا تبدأُ بها؟ ولماذا لا تحقّقُ في نطاقها ما تدعو إليه الناس، وهو السبيل الوحيد إلى مرضاة الله، وإلى خير الآخرة والدنيا؟


لقد استعاض المسلمون مع الأسف عن الواقع بالألفاظ، وعاشوا في عالم الكلمات والأسماء لا عالم الحقائق.. فلفظةُ الإيمان حلّت عندهم محلّ الإيمان، ولفظةُ الإخلاص حلّت محلّ الإخلاص، ولفظة الأخلاق والعمل والجهاد حلّت محلّ الأخلاق والعمل والجهاد.. فكانوا في واد وكلامهم في واد؛ بل إنّ من المتحدّثين عن الإسلام هذه الأيام مَنْ يعيشون حياةً مختلفةً كلَّ الاختلاف، أو متناقضةً كلَّ التناقض مع الإسلام، بل إنّ منهم من لا يزيد الإسلام عندهم عن وسيلة لمصالحهم الشخصيّة، أو أداةٍ لاستغلال المسلمين، وتسخيرهم لهذه الجهة أو تلك..


أيّها الإخوة

يجب أن تنتهي في حياة المسلمين هذه الحال.

يجب أن يزول في حياتهم هذا الانفصام الذي يرفضه الإسلام، وهذا التناقض الرهيب المزري. يجب أن يعود الاقتران بين القول والعمل من جديد: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة:44]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ  كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ [الصف:2-3]

والله تعالى يقول إخباراً عن شعيب عليه السلام:

وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [الحجر: 88]

ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يخبرنا في الحديث الصحيح الذي رواه البخاريّ ومسلم عَنِ الرَّجُلِ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ (أمعاؤه) فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ فِي الرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: «يَا فُلاَنُ مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ».

وفي حديث آخر رواه الطبرانيّ في الكبير: «إنّ أُناساً من أهل الجنّة ينطلقون إلى أناس من أهل النار، فيقولون: بِمَ دخلتمُ النار؟ وما دخلنا الجنّة إلاّ بما تعلّمنا منكم. فيقولون: إنّا كنّا نقول ولا نفعل».


يجب أيّها الإخوة -كما قلت- أن يعود الاقتران بين القول والعمل كما يفرض الإسلام، وأن تكون كلماتُنا الإسلاميّة تعبيراً صادقاً عن حياتِنا، وحياتُنا تجسيماً حيّاً لكلماتنا على كلّ صعيد.. وأن نقضي قضاءً مبرماً على الازدواجيّة والزيف، وأن يكون الطابع المميز لنا هو الصدق، والإخلاص، واستواء الباطن والظاهر، والقول والعمل.. وأن نبدأ جهادنا بأنفسنا، وأن نكون كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا يأمرُ بخيرٍ إلاّ كان أوّل من يأتي به، ولا ينهى عن شرٍّ إلاّ كان أوّل تاركٍ له، فهذا هو الطريق. ومن هنا كان حرصُنا في عملنا الإسلاميّ، في كل مكان ومجال، على أن نحقّق الإسلام في أنفسنا أوّلاً أفراداً وجماعة -مهما كان الجهد والثمن- وعلى أن نبدأ بأنفسنا كلّ ما ندعو إليه الناس


ونحن في هذه المرحلة التاريخيّة الحاسمة في حياة المسلمين، نشعر بواجبٍ خاصٍّ بالإضافة إلى كلّ الواجبات، وتَبِعَةٍ خاصّةٍ بالإضافة إلى كلّ التبعات في سائر الأوقات.. نشعر بأنّ علينا أن نوقف في أنفسنا الانهيار الذي يهدّد وجود المسلمين، وأنّ علينا أن نجعل من أنفسنا نقطة تحوّلٍ من الْجَزْرِ إلى الْمَدّ، ومنطلقاً حقيقيّاً لإقامة الحياة الإسلاميّة والحكم الإسلاميّ.. ولكلّ ما يريده الإسلام للمسلمين وللعالم في الحاضر والمستقبل.

إنّها مسؤوليّةٌ تاريخيّة خاصّة، كتب الله أن نحملها في هذه المرحلة الحاسمة.. وإنّها لأكبر مسؤوليّة يحملها إنسان أو مجموعة من الناس في هذا العصر.

وليس لنا أمام هذه المسؤوليّة خيار، إمّا أن ننهض بها بقوّة، فيكون لنا النصر أو الجنّة، وننقذ المسلمين والعالم.. وإمّا أن نرتدّ عنها فيكون لنا وبنا الهزيمة، والهوان، والهلاك.

أمّا الموقف بين موقفيْن في هذا الأمر، وفي هذا الوقت بالذات، فأخشى أن يكون خسارة الآخرة والدنيا.. ولا نضرُّ اللّهَ بعد ذلك شيئا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ  إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ  وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:54-56]

لو كنّا نعي ونعني ما نقول

نحن مع الأسف لا نعيشُ الإسلام، يكادُ يكونُ الإسلامُ عندَنا عنواناً لماضٍ مضى وانقضى، لا لحقيقةٍ يجبُ أن تعيشَ في الحاضر والمستقبل وفي أنفسنا قبلَ كلِّ شيء.

عندما نسمع الكلمات الإسلاميّة أو نتكلم بها لا نتجاوز في الغالب حروفها وإيقاعها إلى مدلولاتها البعيدة، ولا يكون لها أثرها الذي يجب أن يكون في حياتنا، وإنّما نعيش منها في مجرّد ألفاظ. وعندما نقرأُ كتابَ اللهِ عزَّ وجلَّ، نقرؤه بألسُنِنا وبينَه وبينَ قلوبِنا حجاب، وإلاّ فيكفي لتتبدّلَ حياتُنا تبدّلاً جذريّاً أن يَعِيَ الواحدُ منّا ما يقولُ كلَّ يوم، وأن يَعْنِيَ ما يقول.

عندما يصلّي الواحد منّا -مثلاً- يستفتحُ القراءةَ بدعاء الاستفتاح: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»(2) وليس هنالك أكبرُ ولا أقوى من خالق السماوات والأرض، فالإنسانُ عندما يوجّه وجهَه إليه، يرتفعُ فوقَ كلِّ قُوى الأرض، وعندما يجعلُه الْقَصْد، ينمحي عندَه كلُّ قَصْد.

«حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ»(2) أي بعيداً كلّ البعدِ عن الباطل، متّصلاً كل ّ الاتّصالِ بالحقّ، منقاداً كلّ الانقياد، وخاضعاً كلّ الخضوع، لله عزَّ وجلَّ، لا أخضعُ ولا أنقادُ لأحدٍ سواه، ولا أشركُ به غيرَه في أيّ أمرٍ من الأمور، ولا أنحرفُ ولا أميل عن صراطه المستقيم.

«إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»(2)

إنّ صَلاتي وعبادتي وأعمالي التي أعملها لله ربِّ العالمين.

حياتي إنّما كانت بإرادةِ، ولا يملكُها ويملكُ استمرارَها إلاّ الله، ومَماتي.. لا يملكُ مَماتي إلاّ هو، ولا يكونُ إلاّ بإرادتِه عزَّ وجلَّ.

حياتي -إنْ حَييت- كلُّها في سبيله، ومماتي في سبيله، وَمَرَدِّي ومصيري إليه وحده «لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ».

هكذا يقول المسلمُ في دعاء الاستفتاحِ في كلّ صلاة، فهل هذا هو الواقع؟

لو كان المسلمُ يَعي حقيقةَ هذه الكلماتِ التي يردِّدُها كلَّ يوم، لو كانَ يفهمُ ويعني حقّاً ما يقول، أَما كان يَكفي ذل ليتحوَّلَ بهذه الكلماتِ وحدَها فقط إنساناً جديداً، وليتحرَّرَ بها من كلِّ قيدٍ من قيود الدنيا، ويرتفعَ بها فوقَ المخاوفِ والمغريات، وفوقَ طواغيتِ الأرضِ مهما كان طواغيتُ الأرض.. وليصبحَ مؤهَّلاً لحمل رسالةِ الله، والتزامِ طريقِه المستقيم، لا يَحيدُ عنه ولا يرتدّ، ولا يتوقّفُ بحالٍ من الأحوال. والمسلمُ الذي يُخلِصُ العبوديَّة لله، ويتحرَّرُ من العبوديّة لِما سواه ولِمَن سواه، ويكونُ له ما يستتبعُه ذلك من المؤهِّلات والصفات، هو المسلمُ الذي يريدُه ويحتاجُه لبنائه الإسلام: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لا إِلَهَ إلاّ هُوَ. كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ. لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88].

والله تعالى يقول:

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاّ هُوَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]

والله تعالى يقول:

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاّ هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِه... [يونس:107]

والله تعالى يقول:

مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا، وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ... [فاطر:2] إنّ المؤمنَ الذي يُؤمن بربّه ويصدّقُ بكلام ربّه، إنّ هذا المؤمنَ لا بدَّ أن يعتقدَ عقيدةً لا مجالَ فيها للشكِّ أنّ أحداً في الوجود لا يَمْلِكُ له ضرّاً ولا يملك له نفعاً، ولا يملكُ له حياةً ولا يملكُ له موتاً إلاّ بإرادة الله. إنّ هذا المسلمَ بهذه العقيدةِ يصبحُ أكبرَ من كلِّ قوّة، وأجرأَ من كلِّ إنسان، وبذلك يستطيعُ أن يعلنَ كلمةَ الحقِّ مهما كانت الظروف، وبذلك يستطيعُ أن يُتابعَ خُطاه على دربِ الحقِّ مهما تكنِ العقبات، وبذلك يستطيعُ أن يُواجه كلَّ المخاطرِ في سائرِ الأوقات.

قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلاّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ  قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا، فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:51-52]

ولكنَّ المسلمينَ قد وقعَ انفصالٌ بينَهم وبينَ قرآنِهم، وبينَهم وبينَ نبيِّهم، يقرأون ألفاظاً، ويقفون بينَ يَدَيِ اللهِ جُثَثاً لا قلوبَ لها، ولا حياةَ فيها، ولو أنّنا أقبلْنا على الله صادقين، ووقفنا بينَ يَدَيْهِ خاشعينَ متدبّرين، نقرأُ القرآن، ونفهمُ القرآن، ونعملُ بالقرآن، لكنَّا أَقوى أُمّةٍ في هذا الوجود، ولَشعرَ الفردُ الواحدُ منّا أنّه أقوى من قوى الأرض جميعا.

وبهذه الروحِ بدأَ محمد صلى الله عليه وسلّم الدعوة، وبهذه الروح حملَ الأبطالُ المسلمونَ مشاعلَ الإيمانِ في كلِّ عَصر، وفي كلِّ مِصر.

هذا الأمرُ الأساسيُّ الذي نغفلُ عنه، هو ما كان يُربّي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم الشبابَ المسلم يقولُ لابنِ عبّاسٍ عندما كان ابنُ عبّاسٍ غلاماً صغيرا:

«يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَات: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إلاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُف» رواه الترمذي وقال حسن صحيح

فلا غَرابةَ أن يكونَ خِرِّيجو هذه المدرسةِ النبوِيَّةِ رجالاً، وأن يُحوّلوا مجرى التاريخ، وأن يصنعوا لنا هذه الحضارةَ العظيمةَ الضخمةَ التي أضعناها بما حصل عندنا من ضعف الإيمان، ومنَ الإعراضِِ عن الرحمن.. فأينَ أينَ الإيمانُ يا شباب؟ أينَ هذه النارُ المتَّقِدَةُ التي تُعيدُ صلَتنا بالله، وتعيدُنا، وتعيدُ أمتَّنَا وبلادَنا، إلى حيثُ يجبُ أن نكونَ من صدرِ الوجودِ؟

لذلك فإنّ علينا أن نجدِّد إيمانَنا بالله، وإنَّ علينا أن نَدخل دُخولاً جديداً في الإسلامِ كما كان يفعل الذين يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ويخرجون بعد ذلك، أكبر بإيمانهم، وبإيثارهم الآخرة على الدنيا، من كلِّ هذه الدنيا.

إنَّنا نقرأُ قولَ اللهِ تعالى:

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ. يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ. وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ. وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]

إنّ المسلم الحقيقيّ، هو الذي باع لله نفسَه، وباع لله مالَه، بأنّ له الجنّة، فهو مستعدٌ في كلّ لحظةٍ لأن يقدّم مالَه في سبيل الله، وحياتَه في سبيل الله.. وشبابٌ مستعدٌّونَ لتقديمِ المال، ولتقديمِ الحياةِ في كلِّ لحظة، لا ينهزمون، ولا ينخذلون، ولا يخضعون.. يمشون فيمشي النصرُ في ركابهم، ويستطعيونَ أن ينتصروا على قُوى الأرض مهما عَتَتْ قوى الأرض، ولكنّ عِلَّتنا الأولى أنّنا نتكّلمُ عن الإسلام، ولا نَعي الإسلام، ولا نعيشُ الإسلام، وهذا هو الفرقُ العظيمُ بينَنَا وبينَ الأوّلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

ينظرُ المسلمُ الآنَ فيجدُ الكفرَ غالباً في بلده، ويجدُ الكفر غالباً في عصره، فتنكسرُ نفسُه، وييأسُ وينهزم، ولكنّه عندما يكون مرتبطَ القلبِ بربِّ العالمين، وخالق الناسِ أجمعين، يشعرُ أنّه بالله أقوى من الكُفْر، ومن كلّ شيءٍ من الأشياء، ويؤمنُ بأنّه في جهادِه قَدَرٌ من قَدَرِ اللهِ الذي لا يُرَدُّ ولا يُغْلَب.

أُتِيَ رستمُ قائدُ الفرسِ وهو في طريقه إلى القادسيّة برجلٍ من المسلمين، فقال لهذا المسلمِ الأسيرِ الوحيد:

ما جاء بكم، وماذا تَطلُبون؟

قال: جئنا نطلبُ مَوْعودَ اللهِ بملكِ أرضِكم وأبنائِكم إنْ أبيتم أنْ تُسْلِموا.

قال رستم: فإنْ قُتِلْتُم قبلَ ذلك؟

قال: من قُتِلَ منَّا دخلَ الجنَّة، ومن بَقِيَ منَّا أنجزَه اللّهُ ما وعدَه فنحن على يقين.

فقال رستم: قد وُضِعْنا إذَنْ في أيديكم؟!.

فقال: أعمالُكُم وضعَتكم فأَسلَمَكُم اللّهُ بها، فلا يَغُرَّنَّكَ من ترى حولَك، فإنّك لستَ تُجاول الإنس، إنّما تُجاولُ القضاءَ والقدَرَ.

كان المسلمُ يرى نفسَه شيئاً من قضاء اللهِ وقدرهِ الذي لا يُغْلَبُ ولا يُرَدُّ، فأين تلكَ الروحُ من هذه الروحِ المتخاذلةِ التي نراها هذه الأيام.

تلك هي الروح التي كانت تحرّكُهم، والتي كانت تدفعهم، والتي كانت تقودهم إلى النصر في مختلف الأحوال..

رسالة.. إلى الإخوة المؤمنين

أيّها الإخوة المؤمنون

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فإنّني أكتب إليكم هذه الرسالة، لأؤكّد لكم إيمانَنا بغايتنا وأهدافنا، وتصميمَنا القاطع على متابعة طريقنا، مهما كانت العقبات، ومهما غَلَت التضحيات. إنّ هذا الطريق هو سبيلُنا إلى مرضاة ربّنا، وسبيلُ أمّتنا وبلادنا، إلى التحرّر، والعدالة، والكرامة، والتقدّم، وخَيْرَيِ الدنيا والآخرة.

إنّه طريقٌ صعبٌ طويل، هذا حقٌّ لا مِرْيَةَ فيه، ولكنَّ الغاياتِ الجليلةَ البعيدة، لا يوصل إليها طريقٌ سهل قصير، وغايتُنا بعيدة، ومطلُبنا جليل، ولن نتحوّل أبداً إلى سياسيّين سطحيّين، وانتهازيّين مستعجِلين، يشترون الدنيا بالدين، ويلصقون شعاراتِ الإسلام على واقع اليسار أو اليمين، و الإسلام من هذا الواقع بريء، ويَرون مكانَهم في ذَيْلِ هذه القافلة أو تلك، طَلَباً لسلامة، أو أَمَلاً في مَغْنَم، أو انجرافاً مع تيار.. وقد أراد الله لحملة رسالته، أن يكونوا رادةً قادةً شهداءَ على الناس، وأن تَهتديَ بهم الدنيا إلى الصراط المستقيم، وأن تتحوّلَ بهم عن الباطل إلى الحقّ، وعن الشرّ إلى الخير، وعن الفساد إلى الصلاح.


نعم لقد مررنا بظروفٍ صعبة، وتعرّضنا أفراداً وجماعةً لصنوفٍ من الشدائد والمحن، واجتمع علينا الشرّ في كلّ مكان، من كلّ مكان، ولكنْ لم يكن ذلك مفاجئاً للمؤمنين الواعين، ولا مستغرباً منهم فهذا هو سبيلُ كلّ دعوة أصيلة وسبيلُ دعوتنا على الخصوص.

لقد سار رسول الله صلى الله عليه وسلّم في طريق هذه الدعوة وهو يتوقّعُ من الخطوة الأولى ما سيلقاه من التكذيب والأذى والإخراج والقتال..

«لقيه ورقةُ بن نَوْفَل، أوّلَ نزولِ الوحي، وهو يطوف بالكعبة، فقال: يا بنَ أخي، أخبرني بما رأيتَ وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنّك لَنبيُّ هذه الأمّة، ولقد جاءك الناموسُ الأكبر الذي جاء موسى من قبل، ولَتُكَذَّبَنَّهْ، ولَتُؤْذَيَنَّهْ، ولَتُخْرَجَنَّهْ، ولَتُقَاتَلَنَّهْ». ولقد كانَ كلُّ ما توقّعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم، وَرَسَمَ لنا ولكلّ جيلٍ معالم الطريق، دماً، وألماً، وصبراً، وجهاداً متواصلاً، ويقيناً راسخاً، وثقةً لا حدّ لها بالله عزَّ وجلَّ، وبنصره المؤكّد.


ولقد كان المسلمون الأوّلون -أفراداً في العهد المكّي، وجماعةً على أبواب العهد المدني- على بيّنةٍ من هذه الحقيقة أيضاً.

سلكوا الطريقَ -وهم يرون كلَّ أهوالِ الطريق- إلى الغاية التي يَرْخُصُ في سبيلها كلُّ بذل، ووطّنوا النفسَ على مجابهة كلّ الدنيا، والتضحيةِ بكلّ ما في الدنيا، واحتمالِ أقصى ما يُتَصّوَّرُ في هذه الدنيا، لا يستعجلون النتائج، ولا يطلبون إلاّ الجنّة ومرضاة الله عزَّ وجلَّ.

قال خَبّابُ بن الأرَتّ رضي الله عنه:

«شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ -وفي رواية: وقد لقينا من المشركين شِدّة- فَقُلْنَا أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلا تَدْعُو لَنَا، فَقَالَ: قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللّهُ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إلاّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» رواه البخاري

ولَمّا اجتمعَ الأنصارُ لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بَيْعَةَ العَقَبةِ الثانية، قال العباسُ بنُ عُبادَةَ بنِ نَضْلَةَ الأنصاريّ: «يا معشرَ الْخَزْرَج، هل تدرون علامَ تُبايعونَ هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنّكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم تروْن أنّكم إذا نُهِكَتْ أموالُكُم مُصيبَةً، وأشرافُكم قَتْلاً أسلمتموه، فَمِنَ الآن، فهو والله إن فعلتم خِزْيُ الدّنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنّكم وافون له بما دعوتموه إليه، على نَهْكَةِ الأموالِ، وقتلِ الأشراف، فخذوه، فهو والله خيرُ الدنيا والآخرة. قالوا: فإنّا نأخذه على مُصيبةِ الأموال، وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفّينا بذلك؟ قال: الجنّة. قالوا: ابسُطْ يدك، فبسطَ يده فبايعوه». وكان لهم من بعد ذلك النصرُ، وتغيّرَ بهم تاريخ الدنيا.


ونحن الآن بحاجة إلى مثل هذه البيعة، وإلى أمثال هؤلاء الرجال، وسيكونُ لنا بعد ذلك النصرُ الذي كان، مهما طال الزمن، وتوالت المحن.

إنّ الشدائدَ أيّها الإخوة، وإنّ التحدّياتِ الكبيرة، إمّا أن تهزم الإنسان وتسحقه، وإمّا أن تَستخرجَ أقصى طاقاتِه، وتجعلَه بطلاً، يرتفعُ على الشدائد، وينتصرُ على التحدّيات.. ونحن الآن بحاجةٍ إلى أبطالٍ تَثْبُتُ بهم الدعوة، وتأخذُ طريقَها إلى النصر.

أمّا أولئك الذين انهزموا أمامَ الشدائد، وضعفوا أمام التحدّيات، فنناشدُهم أَلاّ يُوَلِّدوا من هزيمتهم وضعفهم، فلسفةً تُلغي دورَ الإسلامِ المتميّزِ العظيم، وتواري معالِمَهُ عن العيون، وتَشُدُّه يميناً وشِمالاً، ليرضى عنه هذا أو ذاك من الناس، ولِتُبَرِّرَ وجودَه بموافقة واقعٍ أو رأي، وهو دينُ اللهِ الذي يُهيمِنُ ولا يُهيمَن عليه، والذي يجب أن يتغيّرَ كلُّ واقعٍ أو رأيٍ يناقضهُ وينافيه.

وأمّا الانتهازيّون الذينَ يتاجرونَ بالإسلام، ويبيعونَه بالمزاد هنا وهناك، ويستغلّونَه لخدمة سواه، ويستخدمونَه، ويضحّونَ به لأحقر المنافع، فنحنُ نحذِّرُ منهم أشدَّ تحذير.

إنّ الإسلام في مثلِ ظروفِنا الحاضرة، يَسْهُلُ استغلالُه، وتصعبُ خدمتُه، ونحن بحاجةٍ إلى من يَخدمون الإسلام، وعلى خَطَرٍ ممّن يَسْتغلّونه ويستخدمونه، ولا يُمَيَّزُ بين هؤلاء وهؤلاء، إلاّ بالإخلاص، والإدراك، والمعرفة بالإسلام، وبواقع المسلمين، والعالم الذي نعيش فيه.. فأينَ من يَتَجَرَّدون لهذا الأمر، ولخدمةِ الإسلام على مستوى العصرِ وحاجات العصر؟.

وأمّا الْمُشَكِّكُونَ، الذينَ يُلْقون في روع الشباب العاملين، أنّ الإسلام لم يعدْ في إمكانه أن ينتصرَ، وأن يحكمَ في هذا العصر، وأنّ عليهم أن يتخلّوْا عن هذا الْمَطْلَبِ الكبير، وأن يَقْنعوا ببعض الجزئيّاتِ والفروعِ والرموز التي تَدُلُّ عليه من بعيد، والعناوينِ التي لا يَنْدَرِجُ تحتها ما تَقْتضيه.. أمّا هؤلاء، فإنّنا نقول لهم: إنّ ثقتنا بانتصار الإسلام تَنْبُعُ من إيماننا بالله عزَّ وجلَّ، وبوعدِه الصادقِ في كتابه الكريم، وتَنْبَثِقُ من اعتقادنا بأنّ الإسلام هو ما تَحتاجه أمّتُنا وبلادُنا والدّنيا في هذا العصر، لِتُنْقِذَ نفسَها ممّا تُعانيه، وتجدَ طريقَها القويم، وقد أنزله اللّهُ عزَّ وجلَّ لِيُلَبِّيَ حاجات البشر، ويكونَ سبيلَهم إلى خير الدنيا والآخرة في كلّ عصرٍ ومصر، ولِيَبْقى النورَ الهاديَ لهم على الدوام.

وأحبُّ أن أقولَ للذين يجعلونَ من فَشَلِهم في خدمة الإسلام، وخدمةِ الأمّةِ بالإسلام، مبرّراً للتشكيك في مستقبله، وفي القدرة على حُكْمِ الحياةِ به.. أحبُّ أن أقول لهؤلاء ما قاله الفيلسوف الألمانيّ نِيتْشه: «وإذا فشلتم أنتم فلا تقولوا فَشِلَ الإنسان»

إذا فشلتم أنتم فلا تقولوا فشلَ الإسلام.. وفشلَ العملُ للإسلام، وسيفشلُ كلُّ عامل..

إنّ الإخفاقَ والنجاحَ لا يقاسانِ في حياة البشر بالشهورِ والأعوام، وما كانَ -وما قد يكونُ- من الإخفاقِ، إنّما مصدرُه نقصُنا نحن، لا نقصُ المنهجِ الإلهيِّ العظيم، وقصورُنا عن أداءِ الواجبِ على الوجه الأمثل، واتّخاذِ الأسباب التي أمرَ باتخاذِها اللّهُ عزَّ وجلَّ.. وواجبُنا أن نعترفَ بذلك بجرأة، وأن نُفَتِّشَ عن مكامِنِ العلَّةِ فينا بإخلاص، وأن نُواجِهَ أنفسَنا بشجاعة وصدق، وأن نَسْتَفْرِغَ جهدَنا في جعل أنفسِنا على مستوى مهمّاتِنا وواجبِنا الضخم، وألاّ نَدَّخِر وُسْعاً، لنكونَ جديرينَ بالإسلام، وبتحقيق أهدافِه العظمى.. ولا بدَّ أن يجدَ الإسلام فينا، أو في غيرنا -إن تولّينا لا سمح الله- رجالَه الذينَ يُجَسِّمونه، ويعيشونَ به وله، وتَنْفَتِحُ بإيمانهم، ووعيِهم، وجهادِهم الدائب ِ، أبوابُ النصر.

ولقد رأينا على توالي العصور، في تاريخ أمّتِنا، وأقطارِ بلادِنا، ما ظنَّهُ النّاسُ انتصاراتٍ لغيرِ الإسلام، ثمّ ذهبتْ كلُّها ذهابَ الزَبَد، وبقيَ الإسلام العظيم، وبقيتْ ببقائه الأمّةُ والبلاد، وسيذهبُ كلُّ انتصارٍ موقوت للباطل، ولن تعلوَ إلاّ كلمةُ الله عزَّ وجلَّ

فيا أيّها الإخوةُ المؤمنون، اشحَذوا عزائمَكُم، وأحيوا ثقتَكُم بربّكم، ودينِكم، وأمّتِكم، وجَدِّدوا عهدَكم للهِ عزَّ وجلَّ، على الجهادِ في سبيله كما أمر، ووطّنوا أنفسكم، وأكّدوا تصميمَكم، على متابعةِ السيرِ في طريقكم المتميِّز، إلى أهدافِكم البيِّنَةِ، وغايتِكم الناصعةِ، وانطلقوا مُتَوَكِّلين على الله، حتّى تظفروا بإحدى الْحُسْنَيَيْن: الشهادةِ أو النصر.

ولا تَرْبِطوا عملَكم بالنتائج القريبة، والمكاسبِ المادّية والدنيويّة، إنْ تَوَقَّعْتُموها عملتم، وإلاّ انصرفتم عن العمل، فهذا شأنُ المرتزقةِ، لا شأنُ المؤمنين.

أمّا المؤمنونَ الصادقون، فحسبُهم أن يكونوا مع الله، ومع الحقِّ الذي أنزَلَه اللّهُ، يجاهدونَ في سبيله، ويموتونَ من أجله، ويَرَوْنَ جزاءَ اللهِ عزَّ وجلَّ، خيراً من كلّ مكاسب الدنيا، التي يَتَراكَضُ إليها، وَيَتَهافَتُ عليها، الذينَ لا يَرْجونَ اللّهَ، واليومَ الآخر.

وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ  وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:157-158] صدق الله العظيم.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الرابطة الإسلاميّة والرابطة القوميّة

تحدّث الأخ عصام العطار أوّلاً عن الرابطة القوميّة وعن مقوّماتها الأساسيّة في نظر القوميّين فقال: إنّ مفكّري القوميّة العربيّة يكادون يجمعون على أنّ المقوّم الأول للقوميّة هو اللغة، والمقوّم الثاني هو التاريخ، ثم يأتي في نظرهم بعد ذلك مقوّمات أخرى يختلفون في تحديدها، منها الدين والإرادة المشتركة.

أما اللغةُ فهي حياةُ الأمّة، فإذا فقدت الأمّة لغتها فقدت حياتها وفقدت وحدتها.

وأمّا التاريخ فهو شعور الأمّة، فإذا فقدت الأمّة تاريخها، فقدت شعورَها بشخصيّتها ووحدتِها، وهو ذاكرةُ الأمّة، يصل ماضيَها بحاضرها، فإذا هي فقدته أو نسيته، انقطع الحاضر عن الماضي، كما يقول شوقي:

مثَلُ القـومِ نَسَـوْا تاريخَهـم

أو كمغلـوبٍ علـى ذاكــرةٍ

كلقيطٍ عَيَّ في الناسِ انتسابا

يَشْتكي من صِلَةِ الماضي انقضابا

وأمّا الإرادةُ المشتركة فهي أن يريد أبناء الأمّة أن يكونوا بعضهم مع بعض كياناً واحدا.

ثمّ تحدّث الأخ عصام عن الرابطة الإسلاميّة فقال:

إنّها رابطةُ الإيمان بالله ورسوله

...الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ... [الأنفال:73] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ... [التوبة:71]

ثمّ قال: إنّ هذه الرابطة في نظر الإسلام مقدّمة على كلّ رابطة، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ  قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:23-24]

ثمّ قال الأخ عصام: بعد أن قرّرتُ أنّ الرابطة المعتبرة في نظر الإسلام هي رابطة الإيمان، رابطة الإسلام نفسه، أودّ أن أقرّر أنّ الإسلام ينطوي على كلّ مقوّمات الرابطة القوميّة التي ذكرتها.

ينطوي الإسلام على مقوّم (اللغة)

فاللغة العربيّة هي لغة القرآن والحديث، و الإسلامُ يجمعُ الناس بها وعليها.

أتى القرآن فأتمّ الوحدة اللغويّة حتّى بين العربِ أنفسهم، ولم تكن مكتملة من قبل. ولخدمة القرآن نشأت علوم العربيّة المختلفة؛ النحو والصرف والبلاغة.. وبالإسلام تطوّرت العربيّة وتقدّمت وازدهرت، ولولا الإسلام لبقيت العربيّة كالسريانيّة والكلدانيّة والعبرانيّة من اللغات الساميّة التي بقيت متأخرة، إذ العربيّة واللغات الساميّة أخواتٌ ترجع إلى اشتقاق واحد.

وبعد أن تجزّأت أمّتنا إلى وحدات سياسيّة متفرّقة، بقي القرآن هو الحافظ لوحدتها اللغويّة. ولَمّا طغت العاميّة، وقام دعاتها يدعون إليها في كلّ مكان، حَدَّ الإسلام طغيانها، وتصدّى المؤمنون لدعاتها، فردّوا كيدهم، وبذلك حفظت الفصحى.

ثمّ قال الأخ عصام: إنّ الإسلام يوجب على المسلم تعلّم العربيّة، يقول ابن تيميّة:

«تَعَلُّمُ العربيّة واجب، لأنّ فهم القرآن واجب، وهو لا يتمّ إلاّ بالعربيّة، وما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب»

والمسلم أشدّ الناس إتقاناً للعربيّة، واستمساكاً بها، لأنّه يقرؤها قرآناً، ويسمعها حديثاً وخُطَباً ودروساً، ويحبّها حُبَّهُ لدينه، ويحافظ عليها محافظتَه عليه، ويعتقد بأنّ ضياعَ العربيّة ضياعُ الإسلام، والانتقاصَ منها انتقاصٌ منه..

هكذا ينطوي الإسلام كما رأيتم على الرابطة اللغويّة، بل إنّ هذه الرابطة أقوى بين أبنائه ممّا هي عليه بين غيرهم.

وينطوي الإسلام على مقوّم (التاريخ)

والتاريخُ المقصود هنا هو التاريخ الذي تلتقي فيه عواطفُ الأمّة فتتّحد، ويهزّها، ويحفِزها، ويحرّكها.. التاريخ قسمان: حيّ وميّت.. والتاريخ الحيّ هو الذي يُعَدُّ مقوِّماً للوحدة.

فما هو التاريخ الحيّ عندنا؟ هل هو تاريخ (زينون) و (نبوخذ نصر) و (حمورابي) و (رعمسيس)؟!.. أم هو تاريخ محمّد صلى الله عليه وسلّم، وتاريخ الإسلام الذي فتح القلوب والعقول، وفتح الدنيا للنور والحقّ والعدل والخير..

إذا كان الأمر كذلك فمن هو أوثق صلةً بهذا التاريخ من المسلمين؟ ومن هم الذين تتوحّد فيه مشاعرهم، وتتأثّر به حياتهم، أكثر من المسلمين؟ ومَنْ أشدُّ ولاءً لتاريخ محمّد، وأبي بكر، وعمر، وعليّ، وأبي عبيدة، ولتاريخ الإسلام من المسلمين؟

الإسلام ينطوي إذن على الرابطة التاريخيّة، وهي بين أبنائه أقوى ممّا هي عليه بين غيرهم.. ورابطة الدين حاصلة (بالطبع) في الإسلام، بل الإسلام رابطة دينيّة.

ورابطة الإرادة المشتركة نتيجة من نتائج الإيمان بالإسلام.. إذا اتّحدت نظرة الأمّة إلى الكون والحياة، إذا اشتركت في الإيمان بالله وبما سنَّ لها الله من سنّة وشرع لها من نظام، إذا التقت في العبادة، وفي الأخلاق، وفي الغاية، وفي المنهج، فلا بدّ أن يريدَ أفرادها حياة مشتركة. ثمّ قال الأخ عصام:

رأيتم أنّ الإسلام ينطوي عل مقوّمات الرابطة القوميّة ويزيد عليها رابطةَ الإيمان، وهي في نظرنا أقوى من سائر الروابط، ويزيد عليها رابطةَ النظام الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ الواحد، ورابطةَ الأخوّةِ والحبِّ العميق في الله

..إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]

..لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ... [الأنفال:63]

هكذا -أيها الإخوة- نجد الرابطة الإسلاميّة أقوى من الرابطة القوميّة في ميزان البحث المجرّد، وهي عندنا أيضاً أقوى إيماناً واعتقادا..

إنّنا -أيّها الإخوة- نؤمن بربٍّ واحد هو الله، ونتَّبعُ نبيّاً رسولاً هو محمّد، ونتوجّه إلى مكان واحدٍ هو الكعبة، ونتمسَّك بلغةٍ واحدةٍ هي العربيّة، ونعتزُّ بتاريخٍ واحدٍ هو تاريخ الإسلام، ورجالٍ مشتركين كأبي بكر وعمر وعليّ وخالد وصلاح الدين، ولنا مُثُلٌ واحدة، وأخلاقٌ واحدة، ونريد حياةً واحدة، ونظاماً واحداً، وغايةً واحدة.. فهل في الروابط ما هو أقوى من هذه الرابطة؟

الوحدة العربيّة والإسلام والوحدة بين سوريّة مصر

س- إنّك تدعو إلى الوحدة العربيّة فما علاقة ذلك بالإسلام؟

ج- إنّ الذين يطرحون مثلَ هذا السؤال ينسوْن أنّ الإسلام هو الذي وحّدَ العربَ أوّلَ مرّة، وهو الذي جعل بلادَنا هذه عربيّة.

لقد كانت أرضُ العرب لا تتجاوز شبهَ الجزيرةِ وأطرافَ بعضِ البلاد المجاورة لها.. أمّا أغلبُ الأقسام في سوريةَ و العراق، وأمّا الدولُ العربيّةُ الأخرى فقد أصبحت عربيّةً بالإسلام.

وإذا كانتِ الوحدةُ عندَ بعضِ الناس رأيّاً اجتماعيّاً، أو عملاً سياسيّاً، أو اتِّجاهاً عاطفيّاً، فهي عندَ المسلم جزءٌ من عقيدته لا ينفكُّ عنه، ولا يختلفُ موقفُه منه.

و الإسلام دونَ ريب هو طريق الوحدة العربيّة الراسخة، وسياجُها، وحافظُ مقوّماتها، ومعزّزُها، وهو الذي يعطيها هدفَها العظيم، ويجعلها قوّة للحقّ والخير..

ولقد عملنا دائماً ودعونا لوحدةٍ أساسُها الإسلام، و الإسلام يَعْني في جُملةِ ما يعنيه، التحرّرَ الداخليَّ والخارجيّ، والكرامةَ، والمساواةَ، والعدالةَ الاجتماعيّة، والحكمَ الشوريَّ الصحيح.. ولذلك فإنّ كفاحَنا من أجل الوحدةِ قد اقترنَ دوماً بكفاحِنا من أجل الحريّةِ، والكرامةِ، والمساواةِ، والعدالةِ الاجتماعيّة، والحكمِ الشوريّ.. وكان عملُنا للإسلام عملاً لوحدةٍ تقومُ على أسُسٍ راسخة، تضمنُ لها البقاءَ والنماء، وتحميها الانتكاسَ والانهدام، ويتحقّقُ للنّاس في إطارها التقدّمُ والأمن، ويكونُ للدنيا من ورائها النفع.

س- ما هو موقفك من الوحدة مع مصر وهل تغيّر عمّا كان عليه من قبل؟

ج- إنّ لَدَيَّ في الجواب على هذا السؤال كلاماً طويلاً لا ينفسحُ له الوقتُ الآن، ولكنّني أقول بإيجاز: إنّ موقفَنا في الحاضر هو نفسُ موقفِنا في الماضي، لأنّنا لا نندفعُ في هذه المواقفِ بهوىً مُتَقَلِّب، أو مصلحةٍ شخصيّةٍ متبدّلة، ولكنّنا نَصْدُرُ فيها عن عقيدة، ونَخضعُ لمقاييس، وننظرُ إلى رضى الله قبلَ أنْ ننظرَ إلى أيّ شيءٍ آخر..

ولقد وقفنا مع الوحدة بكلّ قلوبِنا وإمكاناتِنا، ونَصَحْنا في نطاقها لأمّتِنا وبلادنا، وراقبنا الله في كلّ عملٍ من أعمالنا، فلم تَمِلْ بنا رغبةٌ أو رهبة، ولم نقصِّر في بيان مصلحةٍ أو كشف خطأٍ أو محاربةٍ انحراف، وتعرّضنا في ذلك كلّه للخطرِ والعَنَتِ والشدّةِ والأذى.. ولكنّنا لم نتخلَّ قَطُّ عن الوحدة، ولم نقبل التعاونَ مع من غيّر رأيَه فيها وعندما قامت حركةُ 28 أيلول/ سبتمبر( ) كتبتُ أقول:

«لقد حزّ في قلوبنا وآلَمَنا أشدَّ الألمِ هذا التصدّعُ الموقوتُ في الوحدة بينَنا وبينَ الشقيقةِ الغالية مصر، وما ينطوي عليه من خسارة، ويَسْتَتْبِعُه من أثرٍ في المجال العربيّ والدوليّ.. وكنّا نتمنّى أنْ لو بقيتِ الجمهوريّة العربيّةُ المتّحدة، والوحدةُ التي آمنّا بها، وسعينا لها، وجاهدنا وضحّينا من أجلها.. وأنْ لَوِ استقامتِ الأمورُ في نطاقها على أساسٍ سليم يضمنُ استمرارَها ونموَّها وقوّتَها وتَحَقُّقَ الرجاء فيها.. ولقد جَهِدنا في ذلك جهدَنا، وحاولناه وُسْعَنا، فلم يُقْدَر لنا أن ندفعَ الكارثة.

وعلينا الآن أن نأخذ العبرةَ من الماضي للمستقبل، وأن نرتفع في هذه الأيّام الحرجة فوقَ الأهواءِ والمطامع والمكاسب والانفعالات السطحيّة، وأن نُحكِّم في تصرّفاتنا وآرائنا المصلحةَ العليا والمقاييسَ السليمة.

ونحن الذي نؤمنُ بالإسلام، ونصدرُ عنه في أحكامنا ومواقفنا، ونتحرّى جهدَنا مصلحةَ أمّتِنا وبلادنا، نرى الواجبَ المحتّم علينا جميعاً: أن نستأنف الجهادَ من أجل الوحدة، وأن نحرصَ على إقامتها في المستقبل على أساسٍ مكين يحميها مثلَ هذه النكسة المفجعة..

إنّ وحدتنا، بل إنّ حياتَنا لنتوحّدَ، يجب أن تقوم على أساسٍ من الإيمان، والخلقِ المتين، والحكمِ الشوريّ الصحيح، والعدالةِ الاجتماعيّة الشاملة، والتميّز عن الشرق والغرب، والقوّةِ التي تُحرّر وتدفعُ العدوان.. وكلُّ خطوة في هذا السبيلِ خطوةٌ إلى الوحدة، وترسيخٌ لها.

ونحن بعد ذلك كلّه نعلن أنّنا أبداً:

مع الحقِّ وضِدّ الباطل

مع الخير وضِدّ الشرّ

مع الوحدةِ وضِدّ الفُرقة

مع العدل وضِدّ الْجَوْر

مع الحريّة وضِدّ الاستبداد

مع المبادئ التي ندينُ بها وضِدّ كلّ من يتنكّرُ لها، لا نفرّقُ في ذلك بينَ عهدٍ وعهد، ولا بينَ شخصٍ وشخص».


هذا ما كتبتُه بالحرْف الواحد في ذلك الوقت، وهو ما يعبّرُ عن رأينا الآن.

إنّنا نؤمنُ بالوحدةِ ولا نقبلُ أن تُتَّخَذَ التجربةُ الماضيةُ ذريعةً لضربِ فكرةِ الوحدة، والسيرِ في طريق الانفصال، ولكنّنا نريدُ في ذات الوقت أن نستفيدَ من التجربة، وأن نتجنّب في كلّ خطوةٍ مقبلة ما سلف من أخطاء، وأن نحميَ الوحدة المأمولةَ من النكسة، ونوفِّر لها الشروطَ التي تَضمن للبلاد في نطاقها التقدمَ والازدهار، وتمنعُ الانحراف..

إنّ أيّةَ وحدةٍ بيننا وبين أيِّ قطر عربيّ يجب أن يُراعى فيها ما يأتي:

1- أن تقومَ على أُسُسٍ واضحةٍ، وأن تتوفّر فيه شروطٌ منها:

أ- الحياةُ الدستوريّةُ التي تمكّن الشعبَ من تَوَلِّي أمرِه، واختيارِ طريقِه، وحمايةِ أهدافه، ومراقبةِ حاكميه ومحاسبتهم.

ب- التحرّرُ من الاستعمارِ ومخطّطاتِه، ومن كلّ سلطانٍ أجنبيّ.


2- أن يُسْلَكَ إليها السبيلُ المشروع، فلا يجوزُ لمصلحةِ الوحدةِ نفسِها أن يسلَك إليها سبيلُ القسرِ أو الدّم، أو يُدْلَج إليها في الظلام..

يجب أن تَتِمَّ بشكلٍ طبيعيّ راسخ، وبقناعةٍ واطمئنان، لتدومَ ولا تنتكس، وليتحقّق للبلاد والمواطنين في إطارها المحبّة والتعاون والتقدّم والخير..


3- أن تُدْرَسَ ويحدَّدَ شكلُها ووسائلُها وخطواتُها من قِبَلِ مجلسٍ نيابيٍّ منتخب، وفي ظلّ حياةٍ دستوريّةٍ سليمة، فلا يجوزُ أن يُترك مثلُ هذا الأمرِ الخطيرِ لحكومةٍ انتقاليّة، أو أيّةِ سُلطةٍ مهما كانت؛ بل يجب أن يتولاّه الشعب بواسطة مُمَثِّليه.


س- تُنٍسب إليك آراءٌ كثيرة في الوحدة وغيرها، ويُحْمَلُ عليك بعضُ ما يقولُه أو ينشره ناسٌ قريبون منك، أو صُحُف مؤيّدة لك، فإلى أيّ حدٍّ يمكنُ أن يُقبل ذلك، وأن يكونَ مُعَبّراً عن وجهةِ نظرك؟

ج- إنّ رأيي وإنّ الكلامَ الذي يعبّر عن وجهة نظري هو الذي يَصْدُرُ عنّي مباشرة دونَ غيرِه، وأنا حريصٌ على أن يُفهم ذلك، لأنّ ما أقولُه يعني بالنسبة إليّ وإلى إخواني، واقعَنا الذي نعيشُه، ودربَنا الذي نلتزمُه، ورأيَنا الذي نؤمن به، ونُكافِحُ من أجله.

الإسلام دين وليس مجرّد تراث

النظرُ إلى الإسلام باعتباره مجرّدَ تراثٍ قوميّ أو حضاريّ إنسانيّ -كما يريد ذلك بعض القوميّين العلمانيّين- وليس كدينٍ منَزَلٍ من السماء كما أراده الله عزَّ وجلَّ.. هو طعنةٌ تُوَجّه إلى الإسلام باسم الحرص أحياناً على الإسلام، وإخراجٌ له عن حقيقته الأصليّة، ومفهومه الأساسيّ الصحيح، ومحاولةٌ لإزاحته من الضمائر والحياة، والقضاءِ عليه من خلال الزمن.

ويَضحك علينا بعضُ أعداء الدين الإسلاميّ من القوميّين العلمانيّين بالإشادة أحياناً بالإسلام كتراث، وبلفظةِ الإسلام يوردونها في كلامهم مفرغةً من محتواها الصحيح، مشحونةً بمفهومٍ آخرَ يقطع الصلةَ بين الإسلامِ ومصدرِه الإلهيّ، ويحوّلُه إلى مجرّدِ تراثٍ بشريّ.

الإسلامُ عندهم مجرّدُ تُراث.. والفلسفةُ اليونانيّة تراث، والتشريعُ الرومانيُّ تراث، والآثار المصريّة تراث، والشعر الجاهليّ تراث، وكليلة ودمنة تراث، وألف ليلة وليلة تراث.. وكلُّ ما أبدعتْه الأُممُ والشعوبُ في تاريخها الطويل تراث: تراثٌ لأصحابِه، وللإنسانيّةِ أيضاً، على اختلافٍ في النوع، والقيمة، والمقدار.

والتراثُ يكونُ فيه الحقُّ والباطل، والخير والشرّ، والصواب والخطأ، والقبح والجمال، والفضيلة والفجور، وما يَحْسُنُ أن يؤخَذَ منه، وما يَجْدُرُ أن يُعْرَض عنه.

والتراثُ هو ماضٍ يُعين -إذا تمّ استيعابُه ونقده- على بناء المستقبل، ولكنْ ليس له أن يَحْكُم المستقبل، وتستفيدُ منه الشعوب، ولكنْ لا تتقيّدُ به الشعوب، وتنطلقُ منه الأمم -إذا انطلقت منه الأمم- لِتتجاوزَه إلى ما هو أفضلُ وأكمل.

ونحن لا نلتزم بالإسلام، ولا ندعو إليه، ونطالب به، ونعملُ لإقامة حياته وحكمه، لأنه تراثٌ ورثناهُ عن الآباء والأجداد؛ ولكنْ لأنّه الحقّ الذي أنزله الله عزَّ وجلَّ، لقيادة خُطى البشريّةِ في ماضيها وحاضرِها ومستقبلِها، إلى ما فيه خيرُها في دنياها وآخرتِها على كلّ صعيد.

هذا هو بعضُ الفَرْقِ بين النظرِ إلى الإسلام باعتبارهِ ديناً، والنظرِ إلى الإسلام باعتبارِه مجرّدَ تراث.. وشَتّانَ شَتّانَ بينَ النَظَرَيْن مِنْ حيثُ مطابقةُ الجوهر، ومن حيثُ ما يترتَّب عليهما من النتائج.

وإذا كان الإسلام بمعنى من المعاني تراثاً، وكان هنالك أيضاً تراثٌ إسلاميّ يعتزّ به المسلمون، وتفتقر إليه الدنيا.. فالإسلام من حيثُ الأساس دينٌ منَزلٌ من الله، وليس مجرّد تراثٍ كما يريدُ أن يصوّره القوميّون العلمانيّون.. وباعتبارِ الإسلامِ ديناً منَزلاً آمنّا به، وحملنا رسالته، وجاهدنا، وسنجاهد على الدوام، لإقامةِ مجتمعه وحكمه في الأرض.

ألا فلنرفع الجباه بالإسلام

المستعمرون الذين احتلّوا بلادنا وتحكّموا فيها، عملوا غاية ما استطاعوا من أجل فصل الشعب عن الإسلام، ليعزلوه بذلك عن منبع قوّته، وسرِّ مقاومته، ومصدرِ نهضته، وجَهدوا في إقصاء الإسلامِ عن معاهد العلم، وميادينِ التشريع، ومجالاتِ النشاط السياسيّ والاجتماعيّ والفكريّ، وربطوا في نظر الشبابِ الناشئ بينه وبين كلِّ ما في المجتمع من تأخّرٍ وظلمٍ وخُرافة، واستخدموا في ذلك من استخدموا من المغرضين، ومن العملاء المحلِّيّين المستأجَرين، وحاربوه وراءَ كلِّ سِتار، وحاربوا كلَّ من يدعو إليه بما في أيديهم، وبما وضعوه في أيدي أجرائهم وأتباعهم، من متعدّد الوسائل.. حتّى لقد غدا المسلمُ إذا أراد أن يَذكر الإسلام في مجالٍ عام، لم يستطع أن يذكره باسمه الصريح، واستعاض عنه بمثل قوله: «قيمنا الروحيّة» أو «تراثنا الماضي».

إنّنا نريدُ أن تَنطوي هذه الصفحة، وإنّنا لنشعرُ نحن الذين عرفنا الإسلام على حقيقته الصافية، وآمنّا به إيماناً أصيلاً راسخاً، وعرفنا عملَ المستعمرين وأجرائهم في تشويهه وفَصْلِنا عنه.. إنّنا لنشعرُ أعمقَ الشعورِ وأقواه بمسؤوليّتنا الدينيّة والتاريخيّةِ والوطنيّةِ والإنسانيّة، عن إزاحة الْحُجُبِ الكثيفةِ عن الحقيقة، وعن كشف الأيدي الاستعماريّةِ الجانية، وعن فضح الأتباع الذين يحاربون الإسلام وراءَ أستارٍ برّاقة، وهم ليسوا في حقيقتهم أكثرَ من عبيدٍ يتحرّكون بوعيٍ أو دون وعي، بإرادةِ الاستعمارِ و الصهيونيّة والتبشير.. كما نشعر بمسؤوليّتنا أيضاً، عن أولئك الأبرياء المخدوعينَ عن حقيقة الإسلام، الْمُنْجرفين بالتيّار الغادرِ الآثم..

إنّ الإسلام العظيم هو شريعةُ اللهِ الخالدةُ ودينه الذي ارتضاه، وإنّ الإسلامَ العظيم لَهُو سبيلُنا جميعاً إلى الحريّةِ والكرامة، وإلى العدالةِ ورفعِ الظلم، وإلى الوحدة والتقدّم.. يعتقدُه المسلمُ وحياً مُنَزلاً، ويعتزُّ به -أو يجب أن يعتزّ به- العربيُّ غيرُ المسلمِ تراثاً باقياً، ويتحققّ به الخيرُ للجميع. ألاَ فلْنرفعِ الجباهَ بالإسلام، ولْنتقدَّمْ فقد وضحَ الطريق.

الذين يحاربون الإسلام

أنا أفهم أن يكون من العرب من لا يؤمن بالإسلامِ ديناً، ولكن لا أفهمُ أن يكونَ منهم من يَنْتَقِصُ الإسلام ويحاربُه، لأنّ الإسلام للعربيّ أن يكونَ الدينَ الحقَّ الذي أنزله الله، وإمّا أن يكونَ أساسَ كِيانِه، وذِرْوَةَ تُراثِه، ومَصْدَرَ مفاخِره.

نحن لم نَدْخُلِ التاريخَ بأبي جَهْلٍ وأبي لَهَب، ولكن دخلْناه بمحمّدٍ وأبي بكر..

ولم نفتحِ الفُتوحَ بالبَسوسِ وداحِسٍ والْغَبْراء، ولكنْ فتحناها بِبَدْرٍ والقادِسيّةِ والْيَرْموك..

ولم نحكمِ الدنيا بالمعلَّقاتِ السبع، ولكنْ حكمناها بالقرآنِ المجيد..

ولم نحملْ إلى الناس رسالةَ اللاّتِ والعُزّى، ولكنْ حملنا إليهم رسالةَ الله الواحدِ القهّار..

وإذَنْ فهؤلاء الذينَ يُحاربونَ الإسلام، إنّما يُهَدِّمُون أمّتَهم وتاريخَهم وأمجادَهم.

هؤلاءِ الذينَ يحاربون الإسلام يتحرّكون بدوافعَ قد تتّصِلُ بالشرق أو بالغرب، وقد تتّصلُ بالشمال أو بالجنوب، ولكنْ لا يمكنُ أبداً أن تكون مُتّصلةً بأرضِ العرب، أو مصلحةِ العرب.

هؤلاءِ الذينَ يحاربونَ الإسلام أعداءٌ للعُروبةِ و الإسلامِ جميعاً، مهما اختلفتِ العناوينُ التي يحملونَها، أو الأستارُ التي يتوارَوْنَ وراءَها.

هؤلاءِ يعملون في الداخل ما يريدُ المستعمرون في الخارج، فهم طابورٌ خامس في أرضنا، وأذنابٌ سامّةٌ لأعدائنا.

لقد كان المستعمرون في بلادنا يعملون بأيديهم وأيدي جنودهم وأتباعهم على قتلِ الإسلامِ في نفوسِ الناس، وإزالةِ مَعالِمِه من المجتمع، ليبقى بذلك استعمارُهم البغيض.. وإنّ طوائفَ في بلادنا، تزعم أنّها منّا -وما هي منّا-، تعملُ على قتلِ الإسلام ِ في نفوسِ الناس، وإزالةِ معالِمه من المجتمع.. لتزولَ مناعتُنا على الاستعمارِ العَقيديِّ والفكريِّ والاجتماعيِّ والاقتصاديِّ والسياسيِّ، وليتمكَّن عدوُّنا منّا..

فلماذا نُسَمّي أولئكَ أعداءً وهؤلاء أصدقاء؟!

لماذا نُسَمّي أولئك مُجرمين وهؤلاءِ مخلصين؟!

لماذا نُسَمّي أولئك رَجعيّين وهؤلاء تقدّمِيّين؟

لماذا نُسَمّي أولئك أنذالاً وهؤلاء أبطالاً؟!

وكانَ حالُهُما في الْحُكْمِ واحِدَةً

لَوِ احْتَكَمْنا مِنَ الدُّنيا إلى حَكَـمِ

التقدّم المادّي والصناعيّ

ما من مسلمٍ قرأ كتاب الله عزَّ وجلَّ إلاّ ورأى فيه دعوةً إلى النظر والتفكّر والبحث، وإلى استخدام الحواسّ والعقل وسائر ما وهب الله من ملكات وإمكانات في الوصول إلى الحقائق، وفي التعرّف إلى سنن الله في الكون والحياة والمجتمعات.

وما من مسلمٍ قرأ كتاب الله إلاّ وفهم أن الله تعالى قد استخلف الإنسان في الأرض دون سائر المخلوقات، وسخّر له ما في السماوات والأرض جميعاً منه، وأعطاه ما يؤهّله للخلافة، من المعرفة، والقدرة على الإبداع والإنشاء والتعمير والتقدّم، والاستفادة ممّا سخّر له من هذا الكون الكبير.

وما من مسلمٍ ألمَّ بشيءٍ يسيرٍ من أحكام إسلامه إلاّ وعرف بأنَّ من التقدّم الماديّ والصناعيّ، ومن العلوم التي أنشأته، ما هو فرض كفاية، إن نهض به البعض سقط عن الكلّ، وإن تركه الجميع أَثِمَ الجميع..

وما من مسلمٍ اتّصل بتاريخه الماضي إلاّ وأبصر فيه أمثلةً نادرةً للعلماء في مختلف المجالات، ونماذج رائعةً للأبحاث والدراسات، وصوراً بارعةً لازدهار المعارف والعلوم والفنون، وشواهد بيّنةً على التقدّم الماديّ والصناعيّ، في ظلّ الإسلام العظيم، وبأمره أو بتوجيهه ورعايته، ممّا يعترف به المؤرّخون المنصفون، ولا ينكره إلاّ جاهل، أو لئيمٌ حاقد، لا يُقام له اعتبار ولا وزن..

ولكنّ التقدّم الماديّ والصناعيّ -مع ذلك- يثير مشكلات خطيرة تحتاج إلى التفكير والعلاج الجادّ المسؤول، ويضع البشر على حافّة الهاوية أو أبواب مستقبل عظيم.

إنّ هذا التقدّم لم يلازمه -مع الأسف- تقدّمٌ روحيّ وفكريّ وخلقيّ مماثل، يضبطه، ويوجّهه دائماً للخير لا للشرّ، ولمصلحة البشر لا للإضرار بهم، ولم يواكبه تقدّمٌ في التنظيم، يكفل وضع الأمور في مواضعها، ويمنع طغيان دولة على دولة، أو طبقة على طبقة، أو أفراد على مجتمع، أو مجتمع على أفراد.. ويتحقّق لكلٍّ الحريّة والكرامة والعدالة والخير.

هذا التقدّم الماديّ والصناعيّ الذي لم تحكمه قِيَمٌ عليا، ولم ينطلق ضمن منهج إنسانيّ شاملٍ قويمٍ، قد كان أحياناً كثيرةً أداةً في أيدي الأهواء والشهوات، ومطامع الدول والطبقات والأفراد، وقد نشأ عنه كثيرٌ من الشرور والمآسي والأخطار، وارتبط بألوانٍ من الاستعمار والاستغلال والفتك الوحشي، تولّدت عنه، أو نمت به، أو أعان عليها بما لم يكن قبلُ من وسائل..

ولقد استُخدم في الحروب، كما أدّى هو نفسه أيضاً إلى الحروب، فكان أداةَ دمارٍ رهيبةً بدل أن يكون أداة بناء، وامتدت به رقعة الحرب حتى شملت العالم مرّتين، واتّسع به ما يصيب العالم من الويلات والخراب..

وازداد التقدّم الماديّ والصناعيّ ازدياداً هائلاً، ولم يزدد التقدّم المعنوي، ولم تجد البشريّة طريقها القويم..

واختُرعت القنبلةُ الذريّة، والقنبلةُ الهيدروجينيّة، والصواريخُ العابرة للقارات، ومراكبُ الفضاء تدور حول الأرض..

وبقي القِيادُ بأيدي الشهوات، والأنانيّات، والعصبيّات، والمطامع الفرديّة والجماعيّة، والمذاهب النفعيّة والماديّة على اختلاف الصور والألوان.

وها هو ذا العالم يموج اليوم بالفتن والحروب والمظالم والفظائع والمآسي، ويقف على شفا الدمار، أمام احتمال حربٍ عالميّة ثالثة، لا تبقي ولا تذر، ولا يمسكه عنها إلاّ «توازنُ الرعب» الذريّ الرهيب، لا الإيمانُ بالقيم العليا، والحرصُ المجرّد على السلام والخير المشترك لبني الإنسان. هل معنى ذلك أنّ علينا أن نلغي التقدّم الماديّ والصناعيّ، وأن نقضي على المعارف التي أنشأت هذا التقدم؟

كلاّ، فالمعرفة لا بدّ منها، والتقدّم الماديّ والصناعيّ لا غنى عنه لتقدّم الإنسان، وخيره، وتحقيقِ أهدافه السامية، والنهوض بمتطلّبات الخلافة في الأرض، وإنّ الجوانب الإيجابيّة من هذا التقدّم لَجديرةٌ بكلّ ما يُبذلُ فيها ويُحتمل من أجلها..

التقدّم الماديّ والصناعيّ ضروريّ للحياة على هذه الأرض، ومكسبٌ كبيرٌ للبشر..

ولكنّنا نحتاج معه إلى التقدّم الروحيّ والفكريّ، وإلى القيم العليا التي تحكمه وتوجّهه..

لقد جعل التقدّمُ الماديّ قدرةَ الخير والشرّ أكبرَ كثيراً ممّا هي عليه، وأعطى للإنسان من وسائل الحياة والموت، وأسباب العمار والدّمار، ما يكن يفكّر فيه أو يخطر له ببال، وغدا في كوكبنا الذي نعيش فيه قوّةً هائلة، إمّا أن يحكمها الحقّ والعقل والخلق والضمير فتكون أداةَ خيرٍ عميمٍ عظيم، وإمّا أن يحكُمها الطاغوت فتكونَ أداة شرٍّ ما بعده شرّ.

وليس السؤالُ في قضية التقدّم العلميّ والماديّ والصناعيّ ومستقبل البشر معه، أن يكون هذا التقدّم أو لا يكون، فهو كائنٌ على كلّ حال، ولكنّ السؤال المطروح هو هل يكون هذا التقدّم لخير البشر وبقائهم، أم يكون لهلاكهم وفنائهم؟

إن كنّا نريده لخير البشر وبقائهم فعلينا ألاّ نتركه كالمارد المجنون، أو أداةً بأيدي أعداء الإنسان، من أصحاب الضمائر الخربة، والغرائز المسعورة، والجشع الذي لا يشبع، تسخّره كما تريد للفساد، وتدفع العالم به للدّمار.

لا بدّ لنا -إن أردنا السلامة لأنفسنا وعالمنا- من قِيَمِ عليا تهيمن على تقدّمنا الماديّ والصناعيّ. ولا بدّ لنا من منهجٍ عميق شامل عادل ينمو في ظلّه هذا التقدّم ويزداد، ويتحقّق للبشر ضمن حدوده ما يتطلّعون إليه..

ونحن نؤمن أرسخ الإيمان بأنّ الإسلام هو الذي يستطيع أن يقدّم للبشر هذه القيم وهذا المنهج.

إنّنا في عالمنا هذه الأيام على الخصوص، وفي سائر الأيام، بأمسّ الحاجة إلى الإسلام، عقيدةً في الله عزَّ وجلَّ ترفع الإنسان إلى فوق، وتجعل له هدفاً أسمى من الأهواء والشهوات، ونزوات النفس، ومطالب الحسّ، التي يتطاحن عليها الناس.

وبحاجةٍ إلى الإسلام منهجاً رسمه خالق الإنسان، وخالق الكون والحياة، ليعيش به الإنسان في سلامٍ مع نفسه، ومع مجتمعه، ومع الكون كلّه.. منهجاً عالميّاً عميقاً شاملاً، لا يحابي أحداً على أحد، ولا يجسّم مصلحةً ضدّ مصلحة، ولا يلبّي حاجةً دون حاجة، ولا ينظر إلى جانبٍ في الحياة دون جانب، ولا يُعنى بالحاضر ويهمل المستقبل.. منهجاً يزيد في تقدّم الإنسان الماديّ والصناعيّ، ولكنّه يضبط هذا التقدّم، ويجعله في خدمة أهدافه العليا، ويؤلّف بينه وبين ضروب نشاطه ومصالحه الأخرى.. وبذلك يكون هذا التقدّم كلّه للإنسان لا على الإنسان؛ لِسعادته لا بشقائه، ولإنصافه لا لظلمه، ولحريّته لا لعبوديّته، ولكرامته لا لهوانه، ولمساعدته لا لاستغلاله، ولارتقائه لا للهبوط به، ولدنياه ولآخرته على السواء.. ويكون هذا التقدّم -بالإسلام- في حياة البشر كلّها، للعمار لا للدمار، وللصلاح لا للفساد، وللحياة لا للموت.

أجوبة على أسئلة اقتصاديّة واجتماعيّة

س- في سورية الآن يسار ويمين فمع أيّ الفريقين تقفون؟

ج- إنّنا نقف مع الإسلام ولا نؤثر شيئاً على نظامه الخالد، وهو دينٌ وسطٌ متميّزٌ لا يندرج تحت واحدٍ من هذه العناوين وهو الذي يستطيع في المجال الاجتماعيّ والاقتصاديّ أن يحقّق لبلادنا العدالة والتقدّم، ويحوّل الصدام إلى تعاونٍ مثمر..

إنّ الإسلام -كما يظهر ذلك لأدنى تأمّل- يمحو من حياة الإنسان والمجتمع التناقض الموهوم، ويزيل الصراع المصطنع، ويزاوج بين الروح والمادّة، والعقيدة والعقل، والضمير والسلوك، ويلائم بين المبادئ الثابتة والتطوّر السليم، وبين نشاط الفرد ومصلحة الجماعة، ويسمو بالناس إلى أن يجمعهم على الحقّ، وعلى الخير المشترك، وعلى المحبّة والتعاون، لا ينظر في ذلك إلى طبقة دون طبقة، ولا يتحيّز لفئة دون فئة، ولا يجمح إلى يسار أو يمين، بل يرتفع على الجميع ليحقّق الخير للجميع.


س- هل يمكن أن تبيّن لي مكان الناحية الاقتصاديّة في الإسلام؟

ج- أودّ أن أقرّر أوّلاً أنّ الإسلام دينٌ يحدّد علاقة الإنسان بالكون والحياة، ويبيّن غايته من الوجود.. وأنّه لا يأخذ الأشياء أجزاء منفصلاً بعضُها عن بعض، وإنّما يأخذها كُلاًّ شاملاً مترابطا.. فليست الناحيةُ الاقتصاديّة فيه منفصلةً عن الناحية الاجتماعيّة والسياسيّة، ولا عن الأخلاق والعقيدة.. وهو لا يعالِجُها كشيءٍ مستقلّ، وإنّما يعالجها كجزءٍ من كُلّ، ويرسم معالمها في حدود مقاصده وقواعده ونظرته الشاملة إلى الكون والحياة والإنسان..

الإسلام إذن يضع الناحية الاقتصاديّة في إطارها الاجتماعيّ والإنسانيّ الواسع، وفي مكانها الطبيعيّ المناسب لها، ويحفظ التوازن والانسجام بينها وبين غيرها، ويضع لها من القواعد ما يضمن التقدّم الاقتصاديّ والازدهار، ويحقّق في الوقت ذاته العدالة الاجتماعيّة، والأهداف الإنسانيّة والخلقيّة النبيلة.


س- هل يفسح الإسلام في نظامه الاقتصاديّ المجال لنشاط الفرد وإلى أيّ حدّ؟ أم أنّه يرى أن تكون السيطرة للدولة؟ أم يترك مجالاً للدولة والأفراد؟..

ج- إنّ الإسلام لا يجعل تعارضاً بين مصلحة الفرد المشروعة ومصلحة المجتمع، ولا بين حريّته ونشاطه وخير الآخرين، فكلّما انطلق الأفراد وأنشؤوا عملاً جديداً، أو فتحوا أفقاً مغلَقاً، أمكن أن يتوفّر العمل لمن يحتاجه أو يطلبه، وكلّما زاد الدخل زادت الأجور، وتيسّرت الخدمات، وانتفعت البلاد..

والإسلام يريد أن يستفيد من الحوافز الشخصيّة، والإمكانات والمواهب الفرديّة، وأن يلائم في الوقت ذاته بين المصلحة الخاصّة والمصلحة العامّة، وأن يحقّق الفائدة للفرد والجماعة.. فهو يطلق الحريّة في العمل، ويشجّع الجهد الفرديّ؛ ولكنّه يضع لذلك قيوداً تمنع الجموح والضرر، وتكفل مصلحة المجموع. ويمكنني أن أحدّد بعض هذه القيود بالنسبة لوضعنا الحاضر بما يأتي:

1- أن تتناسقَ جهودُ الأفرادِ مع حاجات البلاد وأبنائها.

2- أن تُسلَكَ الطرقُ المشروعة في العمل والكسب، وألاّ يُطْلبَ الربح بإلحاق الضرر بالآخرين.

3- أن تُتَداوَلَ الثروةُ، وألاّ تتركّزَ وتُحبسَ في أيدٍ قليلة.

4- أن يُراقَبَ العمل، ويُمنعَ الاحتكارُ والاستغلال، ويُحمى المستهلكون، وتُضمن حقوقُ العمّال.

5- أن يؤَدَّى ما أوجبه الله من حقٍّ في الأموال كالزكاة والنفقات.


سيطرة الدولة

أمّا أن تكون السيطرة للدولة، وأن تتولّى هي بنفسها العمل، وتهيمن على سائر وسائل الإنتاج، فهو أمرٌ غيرُ مقبول، ولا يؤدّي إلى مزيدٍ من التقدّم والربح، إنّ لم يرجع بالعجلات إلى الوراء.. ونحن الذين نؤمنُ بالإسلام، لا نأخذ الحياة تفاريق مختلفةً متناقضة، ولا نستطيع أن نعيش في نطاق الجزئيّات، وأن نفصل الناحية الاقتصاديّة عن الناحية الاجتماعيّة والسياسيّة، وعن القيم الخلقيّة، وعن العقيدة.. لأنّ الحياة عندنا كلُّ مترابطٌ متكامل، ولذا فإنّنا ننظر أيضاً من زاويةٍ أخرى غير الزاوية الاقتصاديّة إلى هذا الأمر..

إذا تملّكت الدولة سائرَ وسائل الإنتاج، لم يعد هنالك إلاّ أناسٌ يخضعون للدولة ولنفوذ الدولة، ويرتبطون بمعايشهم وبمستقبلهم ومستقبل أولادهم بإرادة الحاكم.. وهكذا يتحوّل الناس إلى عبيد بدل أن يكونوا أحراراً، وإذا تحوّل المواطنون إلى عبيدٍ فقد ضاع كيان الأمّة، وانتصر أعداؤها في الداخل والخارج..

إنّنا نؤمن بحرّية الفرد المشروعة، ونؤمن بقيمته وكرامته ومسؤوليّته، وبأنّه ليس مجرّد سنٍّ في آلة، أو أداةٍ في يدّ، ونؤمن أيضاً بدور الحرّية والإبداع الفردّي في تطوير المجتمع على الصعيد الفكريّ والاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، والصعود به إلى ما هو أفضل.

القطاع العام والقطاع الخاص

والذي نراه أنّ البلاد بحاجة إلى جهد الدولة وإلى جهد الأفراد..

إنّ ثمّة أشياء يجب أن تتولاّها الدولة وجوباً، وأشياء يحسن أن تكون بيدها، فلا بدّ إذن من قطاع عامّ ومن قطاع خاصّ..

ويمكن أن يندرج في القطاع العامّ المرافقُ العامّة، ومشروعات الخدمات الأساسيّة في حياة الشعب، والمشروعات التي لا يجوز أن تتوخّى الربح، والمشروعات التي تتجاوز الإمكانات المحدودة، أو لا تجد من ينهض بها.. ويبقى غيرُ ذلك للقطاع الخاصّ وجهود الأفراد، وبذلك تتكامل القوى، ويستفاد من كلّ طاقة ومال.

التأميم

ونحنُ نقرّ مبدأ التأميم في المرافق العامّة، وفي الأشياء التي تدخل في القطاع العامّ وتقضي المصلحة بأن تتولاّها الدولة، على أن يكون ذلك في حدود الضرورة والمصلحة البيّنة، وعلى أن يُعوَّض عنها بتعويضٍ عادل. والقاعدة الشرعيّة في ذلك «يُتَحمَّلُ الضررُ الخاصّ لدفع ضررٍ عام». تدخّل الدولة خارج نطاق القطاع العام

ونحن نقرّ أيضاً تدخّل الدولة خارج نطاق القطاع العامّ، وحقَّها في المراقبة والتوجيه والتنظيم، لجلب المصالح ودَرْءِ المفاسد، والمساعدة على التقدّم، والحيلولة دون الاستغلال والاحتكار، ولحماية حقّ العامل والمستهلك.


س- إنّكم تنادون بالعدالة الاجتماعيّة فماذا تريدون أن تصنعوا لتحقيقها؟

ج- لقد كنّا تقدّمنا باقتراح بقانون في أواخر عهد المجلس النيابي( ) يتضمّن بعض ما نراه حدّاً أدنى لهذه العدالة، وما يمثّل جانباً ممّا نهدف إليه في هذا المجال.. وهذا هو بعض ما جاء فيه:

مادة 1- يجب على الدولة توفيرُ العمل لكلّ مواطنٍ ليتمكّن من الكسب الشريف.

مادة 2- آ- يجب على الدولة أن تضمن لكلّ مواطن لا يتوفرّ له العملُ حدّاً أدنى من المعاش إن لم يكن له مورد.

ب- وكذلك يجب على الدولة كفالةُ كلِّ مواطنٍ لا يستطيع العمل لمرضٍ أو عجزٍ أو شيخوخةٍ أو نحو ذلك إن لم يكن له ما يفي بضرورات حياته.

مادة 3- على الدولة أن تساعد كلّ مواطنٍ يَقِلّ دخلُه عن حاجته المشروعة..»وقد ذكرنا في الأسباب الموجبة لما قدّمناه ما يأتي:

«إنّ ما قامت به الدولة من أجل العمّال والفلاّحين لا يكفي لحلّ مشكلة الحرمان والشقاء في بلادنا، لأنّ الدولة قد تعطي العامل الأجر المكافئ، والنصيب المقرّر من الأرباح ولا يكفيه ذلك إن كان صاحب أسرة كبيرة، ولا يهيّئ له أسباب العيش الكريم.. وكذلك يقال في المستخدمين وصغار الموظّفين وأشباهم من الناس.

وثمّة مواطنون آخرون هم أسوأ حالاً ممّن ذكر.. مواطنون يعيشون معنا على أرضنا هذه، ونلقاهم كلّ يوم في مدننا وقرانا وطرقاتنا، مواطنون لا يجدون الطعام الذي يأكلون، ولا الثياب التي يلبسون، ولا يجدون المأوى ولا العلاج، ولا يملكون أن يهيّئوا لأبنائهم سبيل العلم والحياة المنتجة. وإنّ من الكفر بديننا الذي نؤمن به، ومن العار على مجتمعنا الذي نعيش فيه، ومن الدّمار لمستقبلنا الذي نتطلّع إليه، أن تستمرّ هذه الحال.

إنّ في بلادنا الآن ظلماً يجب أن يزول، وأن يحلّ محلّه ما أوجبه الله علينا من العدل والتعاون والتراحم..

وليس يسوغُ في شريعة الله، أن تنفق الدولة الأموال في الكماليّات، وفيما يسخط الله أحياناً كثيرة، وأن تنسى أبناء الشعب، وتتركهم فريسةً للجوع والعُرْي والمرض والتشرّد.

لقد جعل الله تعالى في أموال القادرين من الناس حقاً للمحرومين والمحتاجين.. فلْتأخذِ الدولة من أموال هؤلاء، ولْتقتطع من أصحاب المصانع والمزارع، ومن الأثرياء والتّجار، ومن الرؤساء والوزراء والنوّاب، ومن سائر أصحاب الدخل الكبير هذا الحقّ، وما يدفع الحاجة الماسّة عن إخوانهم من أبناء الشعب، ولْتهيّئ من الموارد الأخرى ما يلزم لهذا الأمر، لِيَسْلَمَ لنا مجتمعنا، وتشتدّ روابطنا، وتتوفّر لنا أسباب النموّ والقوّة والتقدم»

ولقد أدليت عقب تقديم هذا المشروع بتصريحٍ قلت فيه: «إنّنا مصمّمون كلّ التصميم على أن نجعل من القانون المتقدّم حقيقةً واقعةً لا مجرّد أملٍ أو كلامٍ على الورق. وقلت: إنّ الإسلام الذي نؤمن به عقيدةً ومنهجاً في الحياة عدلٌ مطلق، وهو لا يقبل الظلم الاجتماعيّ بحالٍ من الأحوال. وقلت: إنّنا سنحارب الإسراف والتبذير، ونعارض الإنفاق في الكماليّات، حتّى يشبع كلّ فردٍ من أفراد الشعب، ويجد السبيل إلى الكساء والمسكن والعلم والعيش الكريم، وحتّى تتوفّر لبلادنا كلُّ أسباب الْمَنَعة والقدرة على مجابهة الأعداء، واسترداد الحقّ المغصوب».

هذا هو الحدُّ الأدنى لما ننشده للشعب، والمرحلةُ الأولى التي لا يُقبَل فيها أيُّ تهاونٍ وتباطؤ، والتي نتطلّع عبرها إلى ما وراءها.. إلى التقدّم الحقيقيّ..

إنّنا لا نرضى للشعب بمجرّد العيش والاستمرار في الحياة، ولكنّنا نطلب له العيش الكريم الذي يتيح له أن يشعر بنفسه، وبغاية وجوده، وأن يحقّق إنسانيّته، ويؤدّي رسالته، ويستفيد من ثمار الحضارة الخيّرة الماديّة والمعنويّة على السواء.


س- ما هي الوسائل التي ترونها لتحقيق هذه الأهداف؟

ج- إنّ من أهمّ الوسائل في نظرنا:

1- أن يكون هنالك مخطّط للتنمية مدروس، ينظر إلى الأهداف الاجتماعيّة نَظَرَه إلى الأهداف الاقتصاديّة، ويؤدّي إلى الاستخدام الكامل وزيادة الدخل..

2- أن يعاد النظر في توزيع الدخل على أساسٍ عادل تقلّ معه الفوارق، ويرتفع الحدّ الأدنى لما يحصل عليه الفرد، وأن يُعترَف للعمل والعامل بقيمتهما الأساسيّة التي قرّرها الله.

3- أن تُنَظَّم جبايةُ الزكاة ومصارفُها حسبما قرّر ذلك الشرع، وأن يُستفاد ممّا جعله الإسلام من مَوارد للتكافل الاجتماعيّ -ضِمْنَ حدوده التي رسمها -وهي موارد متعدّدة، تعطينا أروع صورةٍ للتكافل والتعاون، وتجعل المجتمع الذي يحكمه الإسلام كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

4- أن يُوَظَّفَ (يُفْرَض) في أموال القادرين من الناس على حسب ثرواتهم ما يسدّ النقص فيما تقدّم، وما يقوم بالحاجات الضروريّة للدولة والمجتمع.

5- أن تُعفى الدخول الصغيرة من الضريبة، وأن تُخفّف أو تُلغى -إن أمكن- بعض الضرائبِ غيرِ المباشرة التي يحمل أعباءها الفقير والمتوسّط الحال لضرورات حياته الأساسيّة، وأن يُؤخذ بمبدأ الضريبة التصاعديّة.

6- أن يوضع مخطّطٌ واضحٌ لمشروعات الخدمات، وأن يُعمل على إنجازها بأقصى ما يمكن من الجدّ والسرعة، حتى تتهيّأ لأبناء الشعب جميعاً أسبابُ الصحّة والعلم، ويتوفّر لهم -مهما نأت أمكنتُهم- الماء، والكهرباء، والسكنُ المناسب، والطرقاتُ الصالحة، ووسائل النقل.. وأن يكون البدءُ بالأرياف والقرى البعيدة، وأن تعطى الأولويّةُ للفلاّحين والعمّال والفقراء العاجزين عن الوصول بإمكاناتهم الخاصّة إلى ما يحتاجون إليه.

وثمّة وسائل أخرى لا أحبّ أن أطيل بتعدادها الآن، ولكنّني أودّ أن أشير في معرض الحديث عن العدالة التي يحقّقها الإسلام إلى أمور:

1- إذا كانت التشريعات الحديثة قد أعطت العمّال والفلاحين ما أعطتهم من الحقوق تحت وطأة الضغط والتكتّل، وإذا كان من الناس من يشايع مطالب العمّال والفلاّحين تزلّفاً لهم، وطمعاً في تأييدهم، وينسى غيرهم من المستضعفين المتفرّقين، الذين لا يُخشى بأسُهم، ولا يرجى نفعهم، فإنّ عدالة الإسلام إنّما تنبع من روحه، وتتجسّد في تعاليمه، وترتبط بوجوده، وتنصف الضعفاء قبل الأقوياء، وتفتح لهم أبواب الحياة والكرامة والخير، وتبسط ظلّها الوارف على الجميع، ولا تختلف باختلاف الزمان ولا الظروف.

2- يعتمد الإسلام في تحقيق العدالة على إيمان المؤمنين وضمائرهم وتربيتهم الخلقيّة، كما يعتمد على التشريع.. فليست عدالةُ الإسلام مجرّد نظامٍ خارجيّ يُقبل أو يُرفض، ويُمْتثَلُ له أو يُتَهَرَّب منه، ويقال فيه: حقّ أو باطل، ولكنّها دينٌ يستقرّ في القلوب، ويتكَيّف به السلوك، ويواكبه القانون، ويراه الفرد المؤمن طريقاً إلى الجنّة أو النّار إن التزمه أو حاد عنه.. وإنّ الفرد المؤمن ليؤدّي للمجتمع حقّ الله وهو يشعر شعور العابد في المحراب.. وهيهات هيهات أن يلحق الإسلام في ذلك نظام!

3- ليست العدالة الاجتماعيّة في الإسلام مجرّد عدالة مادّية تهيّئ للفرد مجرّد العيش المادّيّ، ولكنّها أيضاً عدالةٌ معنويّةٌ، تصون له حريّته، وتحفظ له حقّه وكرامته، وتعطيه مكانه اللائق في المجتمع، وتحميه أن تطغى أيّةُ قوّة عليه..

إنّ أصغر عامل أو فلاح في أبسط معمل أو حقل، له في نظر الإسلام حرمةُ أكبرِ رئيسٍ في أضخم قصر.. وعند الله عزَّ وجلَّ، لا يتفاوت الناس بثرواتهم وعصبيّاتهم ومناصبهم، ولكن يتفاوتون بما قلوبهم من الإيمان، وبما يكون في أعمالهم من الإخلاص والاستقامة والخير.

4- العدالة الاجتماعيّة في الإسلام أمرٌ مطلوبٌ لذاته، وهو أيضاً وسيلةٌ لتحرير الإنسان، وإطلاقه من إسار الحاجات الماديّة، ليأخذَ مكانه في الحياة كإنسان مسؤول، ويؤدّيَ دوره على مسرح الوجود، ويبلُغَ بطاقاته غاية المدى، ويحقّقَ الغاية التي أوجده من أجلها الله عزَّ وجلَّ.. وهذا فرق ما بين الإسلام وبين بعض المذاهب الماديّة، التي لا تنظر إلى ما وراء المادة، ولا تطلب للإنسان في أبعد ما تطلبه، أكثرَ ممّا يمكن أن يناله الحيوان المدلّل.

نحن مع الحريّة..

نحن مع الحريّة باستمرار.. فالعبوديةُ لغير الله عزَّ وجلَّ أمرٌ لا يليق بالإنسان، ولا يقبله الإسلام بحالٍ من الأحوال.

و الإسلام لا يقبل تحكُّمَ بَشَرٍ في بشر تحكّماً مطلقاً بما يملكه من أسباب القوّة المادّية.. فضلاً عن أن يُقِرَّه على ذلك ويساعده عليه

ولقد حرّر الإسلام منذ نزوله الناسَ بالإيمان بالله، وحرّرهم بتعاليمه الإلهيّة الخالدة.

حرّرهم فكريّاً ووجدانيّاً وخلقيّاً، وحرّرهم اجتماعيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً، وحمّلهم تبعاتِ الحريّة وتكاليفَها، وجعلهم مسؤولينَ في الدنيا والآخرة بما أعطاهم الله من العقل والوجدان والهداية والإرادة.. مسؤولينَ عن اختيارهم وأعمالهم والقيام بما أوجبه الله عليهم في مختلف المجالات.

فالمسلمُ لا ينْزل عن حرّيته وشريعة ربّه التي آمن بها لشيء من الأشياء، أو لأحدٍ مهما كان.

والحكمُ الدكتاتوريّ لم يقم في بلادنا مرّةً واحدة لحماية الإسلام أو لخدمة الإسلام، ولكنّه قام مرّاتٍ كثيرة لمحاربة الإسلام وخدمة المصالح الشخصيّة والأجنبيّة.

وعندما تَكُونُ الحريّةُ يستفيدُ منها المسلمون بمقدار إيمانهم وجدارتهم وعملهم وتضحيتهم، كما يستفيد منها أعداؤهم بهذا المقدار

وإنّ لنا من الإيمان بقوّة الإسلام، ومن الثقة بأنفسنا، ما يجعلنا نستفيد لدعوة الحقّ التي نحملها، ولمصلحة أمّتنا وبلادنا، من كلّ حريّة متاحة -ولو ملك مثلَها سوانا-، وما يمكّننا من النصر على أعداء الله، وأعداء الإنسان بعون الله.

أمّا الذين يخافون الحريّة من المسلمين، ويقبلون أن تُحْجَبَ عنهم لِتُحجب عن غيرهم.. فهم منهزمون سلفا.

هؤلاء لا ثقةَ لهم بدعوتهم، ولا ثقةَ لهم بأنفسهم، ولا استعدادَ عندهم للتضحية ودفع تكاليف العقيدة والجهاد.. هؤلاء لا يمكن أن ينتصر بهم الإسلام، أو ينتصر بهم الإنسان.

الحريّة تبعاتٌ وتكاليف وتضحيات

والإيمان تبعاتٌ وتكاليف وتضحيات

وما أحوجنا على الدوام، وما أحوجنا في هذا الوقت بالذات، إلى المؤمنين الأحرار

رأي الإسلام في التحالف مع الغرب

يختلف الناس في أمر المحالفات التي تَمّت مع الغرب، والمحالفات المشابهة التي ما تزال الدعوة إليها قائمة.. هل هي في مصلحتنا، أم في غير هذه المصلحة؟ وهل نقبلها أو نرفضها؟..

ويُكثِر الناسُ القولَ في هذا الموضوع، فيَقبلُ فكرةَ التحالف من يقبل، ويرفضُها من يرفض، وتختلفُ الأسُسُ التي بنى عليها كلٌّ من الطرفين أو تتّفق، وتتباينُ المقاييسُ أو تلتقي..

وأكثرُ من تكلّم في هذا الموضوع دعاةُ القوميّة والوطنيّة، ورجالُ الأحزاب السياسيّة.. وبقي أن يقول الإسلام كلمتَه يعلنُها المسلمون ويتمسّكون بها، ولا يمكّنون غيرَهم من أن يقبض على زمامهم، ويتحكّمَ في مصيرهم.. فما هو رأي الإسلام( )؟..

قبل أن نحاول الكشف عن هذا الرأي، نحبّ أن نقدّم بديهة غَفَل عنها أكثرُ المسلمين: هي أنّ مقياسَنا الذي نقيس به، ومصدَرَ الحكم عندنا في كلّ أمر، هو الإسلام نفسه، فبالإسلام نقبل، وبالإسلام نرفض، وبالإسلام نَزِن، لا بأيّ شيءٍ غيره أبدا.. وعلى هذا الأساس نحاول تَجْلِيَةَ رأي الإسلام في التحالف مع الرأسماليّة الغربيّة (أي في الانضواء الرسميّ تحت رايتها).

إنّ الإسلام دينٌ كامل، عقيدةٌ شاملة في الوجود، ونظامٌ خالد للحياة، فهو بهذا كلِّه مستقلٌ عن الرأسماليّةِ الغربيّةِ استقلالَه عن الشيوعيّة الشرقيّة، له مُثُلُه المخالفةُ مُثُلَهما، ونُظُمُه المباينةُ نُظُمَهما، وإرادتُه المناهضة إرادتَهما، فلا يمكن أن يلتقي مع واحدة منهما التقاءً أصيلاً، فضلاً عن الفناء فيها، لتحقيق مُثُلِها، أو الدفاعِ عن مصالحها، أو خدمةِ منافعها.. وإذن فهو (بطبيعته) يأبى على المسلمين أن يفنوا في الغرب أو الشرق، وأن يسيروا تحت راية الرأسماليّة أو الشيوعيّة، ويرفضُ ما يُعْرَضُ عليهم من التحالف مع الرأسماليّة الغربيّة رفضاً أصيلاً، ينبعُ من طبيعته ذاتِها، فليس فيه مجال لتبدّل الآراء، وتقلّبِ الأهواء..

ثمّ إنّ المعسكرَ الغربيّ ينطوي من بغض الإسلام على مثل ما ينطوي عليه المعسكرُ الشرقيّ، وقد شنّا على الإسلام حرباً فكريّة واجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة وعسكريّة، وعملا على استئصاله وما يزالان، الشيوعيّون في بلادهم وحيث تبلغُ دعايتُهم، والغربيّون في أوطانهم وحيث تصلُ أيديهم وما يزال المسلمون تَدْمى جراحهم من طعنات من يطلبون محالفتهم، وتئنُّ قلوبهم من ظلمهم، ويلبسون على أيديهم أرديةَ الموت والذلِّ والعار، فكيف يقبلون أن يكونوا معهم على أنفسهم، وعلى حريّتهم وكرامتهم، وعلى عقيدتهم وحياتهم أيضا؟!

هنا يبرزُ قولُ من يقول: إنّنا لا نرفض الانضمام إلى المعسكر الغربيّ، إلاّ لأنّ الغرب عادانا وآذانا واستعبدنا، وأعان علينا الصهيونيّين في فلسطين وغير فلسطين.. ولو أنّه غيّر موقفَه هذا، وأصلح الأمور معنا، لكنّا نقاتِلُ في صفّه، ونسيرُ تحتَ رايتِه.. ويُؤَمِّنُ على هذا القول كثيرون!..

ونحن مع اعتقادنا بأنّ الاستسلامَ لفكرة إمكانِ تغييرِ الغربِ موقفَه منّا، وإصلاحِه ما أفسده معنا، هو -في الوقت الحاضر على الأقلّ- وَهْمٌ يجبُ ألاّ نخدعَ به أنفسَنا ونغشّ غيرَنا، وباطلٌ يجب أن يمحوه من أذهاننا واقعُ الغربِ الفكريّ والعمليّ على السواء.. نحن مع هذا الاعتقاد نقول: إنّ إصلاحَ الغربِ ما أفسد معنا، لا يكفي لنكون معه، يستخدمُنا في مآربه، وفي التمكين لباطله.. لأنّنا لا نقيس بالمقياس القوميّ أو الوطنيّ الضيّق، بل نقيس بالمقياس الإسلاميّ الذي يستعلي على الحدود والقيود، ويأبى للمسلم أن يكون عَوْناً على باطل، أو دِرْعاً لظالم، أو سَنَداً لاتّجاه لا يرضاه..

هل معنى ذلك -كما يظنّ بعضهم- أن نرفض الانضمام إلى المعسكر الغربيّ لنبقى هكذا على ضعفنا وتأخّرها.. حتى إذا وقعت الحرب استولى هذا المعسكر على بلادنا واستخدمنا -رغماً عنّا- ولم نظفر بشيء؟!..

كلاّ، لأنّ الإسلام دينٌ إيجابيّ لا يكتفي بالموقف السلبيّ ممّا لا يتلاءم معه، بل يستلزم العملَ على توطيد كيانِه الخاصّ، وحياطتِه، والجهادِ لسيادة رسالته، فهو يرفضُ الخضوعَ للرأسماليّة و الشيوعيّة، ليجمعَ المسلمين على أهدافهم المتميّزة، وطريقِهم المستقلّ.

لا بدّ لنا إذن من أن نوحّد صفوفَنا، وندعم كياننا، لِنُحبط المؤامراتِ المختلفةَ علينا ونقطعَ الشباكَ المحيطةَ بنا، ونردَّ طمع الطامعين عنّا..

ولكنَّ أعداءنا الذين يكرهون أن نتوحّد يقولون: كيف يمكن أن تكون هذه الوحدةُ سبباً من أسباب الوقاية والحريّة، وها هي ذي الدولُ الإسلاميّةُ قد ارتبط بعضُها مع الغرب، حتى لقد غدا اتّحادُنا قيداً لنا، وارتباطاً مع أعدائنا..

في الجواب على هذا القول تلوح لنا حقيقة مفجعة هي أنّ ثمّة تبايناً في البلاد الإسلاميّة بين الإسلامِ والحكم.. فليس الإسلام هو الذي يحكم في سوريةَ و العراقِ و مصر و باكستان وغيرِها، وليس هذا بالتالي الذي ارتبط في بعض هذه البلادِ بالغرب، بل الذي ارتبط هو هذه الحكوماتُ التي لا تمثّل الإسلام، ولا تحكمُ به، ولا تعبِّرُ عن إرادة المسلمين.. ولو كان الإسلام هو الذي يحكم، لَما كان ارتباطٌ بعجلة الغرب..

هذه حقيقةٌ تفرض علينا أن نَقْرِنَ السعيَ إلى الوحدة بالجهاد المتواصل في كلّ بلدٍ إسلاميّ للوصول بالإسلام إلى الحكم، فإذا هو حَكَمَ التقتِ البلادُ المتفرّقةُ، والدّوَلُ المختلفة، في دولةٍ واحدة، وافرةِ القوّة، مستقلّةِ الاتّجاه، هي (دولةُ الإسلام)، التي يجب أن نقيمَها من جديد.

حُلُمٌ جميل!.. هذا ما يُقال لنا!..

إلاّ أنّنا لا نراه حلُماً، بل نراه من وراءِ الحاضرِ واقعاً مُجَسَّماً..

إنّه إرادةُ الإسلام لا بدَّ أن نحقّقَها، ولو اعترضت دونَها مطامعُ الاستعمار، ومآربُ التبشير، وضلالاتُ الدعوات، ومنافعُ الزعامات..

ولكنّهم لا يُبْصِرون إلاّ الحاضرَ وحدَه، فلا يرون (دولَة الإسلام)، ولا يشاهدون إلاّ البناءَ القائمَ الآن.. إنّهم يُسَجِّلونَ التاريخ، ولا يصنعونَ التاريخ.

أمّا نحن فلا نُسَجِّلُ بلْ نصنع، لا نخضعُ للحاضر بل نتمرّد عليه، لنبلغَ المستقبل.. المستقبلَ الذي لا يراه غيرُنا لأنّه كامِنٌ في أنفسِنا، قد يسمّونَه حُلُماً، ولكنّنا سنحوّل بالإيمانِ والجهادِ الحلُم إلى واقع، وسيرَوْنَه شاخصاً أمامَهم إن شاء الله..


حركة الزمن

عندما ندعو إلى التميّزِ عن المعسكرِ الشيوعيّ والمعسكر الرأسماليّ والسيْرِ إلى الدولةِ الإسلاميّة كعملَيْن مُتكاملَين يجبُ النهوضُ بهما، ويمكنُ النجاحُ فيهما، يتّهمُنا بعضُهم بالخياليّة والبعدِ عن الواقع!

إنّنا ندعو هؤلاءِ إلى الرجوع إلى الماضي، وإلى الإحساس بحركة الزمن، ومتابعة سيْرِ التاريخ، ليستشرفوا من المستقبلِ ما نَسْتَشْرِف..

أمّا إذا حبسوا أنفسهم في الحاضر وحده، فإنّهم لن يَرَوْا إلاّ تفكّكَ العالمِ الإسلاميّ، واضطراره إلى الخضوعِ لما يُملى عليه.. ولن يقدِروا على رؤيةِ الدولة الإسلاميّةِ من وراء جُدُرِ الحاضر التي أقاموها بأنفسهم في وجوههم، إذ الزمنُ لا يعرف الحواجز، ولا يقبلُ ثباتَ الأشياء على حالٍ واحدة.. ليرجعوا إلى مَنْشَأِ الدولةِ الإسلاميّةِ ذاتِها قبلَ أربعةَ عشر قرنا..

لقد بدأ الإسلام رجلاً واحداً هو محمدٌ صلى الله عليه وسلّم، تسدُّ عليه طريقَه قريشٌ التي تحدّى عقائدَها وعاداتِها ومصالِحَها، ومن وراءِ قريشٍ العربُ، ومن وراءِ العربِ الدنيا..

وتحرّكَ الزمنُ أقلَّ من نصفِ قرن، فإذا الدينُ الجديدُ يغلِبُ على قريشٍ وعلى العرب، ويدفعُ الإمبراطوريّةَ الفارسيّةَ بيدٍ والرومانيّةَ بأخرى، ليقيمَ دولتَه على الأرض أين البدايةُ من النهاية؟

ولكنَّ بُذور النهايةِ كانت موجودةً في البداية، وإنّما أتاحَ لها الزمنُ فرصةَ النموِّ والإثمار.. أمريكا، زعيمةُ المعسكرِ الغربيّ.. ماذا كانت قبلَ أقلَّ من قَرْنَين؟..

مستعمرة (إنكليزيّة)، لا سلطانَ لها على نفسها، فضلاً عن غيرِها.. والآن.. هي إحدى دولتينِ تتقاسمانِ النفوذَ في الدنيا، وتتحكّمانِ في مستقبلِ البشرِ على الأرض..

و الشيوعيّة.. ماذا كانت الشيوعيّة؟..

لقد مات مؤسّسُها «كارل ماركس» شريداً في إنكلترا سنة (1883)م، وهي الآن كما يرون.. لِيرجعوا إذن إلى الماضي، ولْيحاولوا الإحساسَ بحركةِ الزمن، ومراقبةَ سيْرِ التاريخ، ليروا كيفَ يخدمُ الزمنُ بحركتِه الذينَ يُؤمنون بهدفهم، ويَتَبَيّنون طريقَهم، ويجاهدون، ويقدّمون التضحيات.. وكيفَ يحتضنُ الدعوات، ويُزيل العقبات، ويصنعُ المعجزات..

أما نحن.. فسنمضي في الدعوةِ إلى التميّزِ عن المعسكرين، والسيرِ إلى الدولة الإسلاميّة، يَعْمُرُ قلوبَنا اليقين، ويُضيءُ دربنا الفكر، ويُذَلِّلُ مصاعبَنا الجهاد، ويُمِدُّنا الماضي بالثقةِ في المستقبل، ثمّ.. ثمّ إنّ هذا أمرٌ يمليه الإسلام، وتفرضه مصلحة المسلمين والإنسان، فلا مفرَّ منه بصرف النظر عن النتائج..

بعض واجبات الطليعة المؤمنة

من واجبات الطليعةِ المؤمنةِ في كلّ بلدٍ إسلاميّ:

  • أن تُسارعَ في نِطاقِ البلدِ الموجودةِ فيه إلى التعارفِ والتعاونِ على استبانةِ الطريق والوصولِ إلى الهدف.
  • أن تُمَيِّزَ الإسلام عن غيره من الدعوات، ليتبيّنَ أبناؤه أنّه شيءٌ آخر غيرُ الرأسماليّة والاشتراكيّة والدعوات العصبيّة.. فلا يكونُ ولاؤهم إلاّ له، والتفافُهم إلاّ حولَه، وعملهم إلاّ من أجله..
  • أن تتعارفَ في سائرِ أنحاءِ العالم الإسلاميّ، وتتواصل وتتلاقى بالصُوَرِ المناسبة، لتبادلِ المعارفِ والآراء والخبرات، وتصحيحِ وتطويرِ وتوحيدِ التصوّراتِ والتوجّهات، والتماسِ القواسم المشتركة، ومجالاتِ التعاون الواجب أو الممكن، في الحاضر والمستقبل، محليّاً وعالميّاً، على كلّ صعيد.
  • أن تعمل -ما وسعها العمل- على نشر العربيّة لأمرين:

أوّلُهما: أن يتّصلَ كلُّ مسلمٍ مباشرةً بمنبع دينه -كتاب الله وسنّة رسوله- وبما استخرج منهما الأئمّة الأعلام، وبذلك يتخلّص من الضلالاتِ التي أُلصِقت بالإسلام وما هيَ بإسلام، ويتقارب المسلمون، ويتوحّد فهمُهم ورأيهم، بالاتصال بمصدر دينهم، والرجوع إليه فيما يَأخذون ويَتركون. ثانيهما: أن تتجاوبَ حياتُهم، ويمتزجَ شعورُهم، وتتفاعلَ أفكارُهم، ولا يَكْمُلُ ذلك إلاّ في حدود لغةٍ واحدة.

  • ثمّ يجبُ أن نعملَ ليكونَ الإسلام محرّكَ الشعبِ وأملَ الشعب.. لا ندعوه إلاّ به، ولا نسير به إلاّ على نهجه، ولا نجعلُه يحلم إلاّ بإقامة شريعته ودولته.

لماذا تصدر «الرائد»؟

إنّنا لا نريد بإصدارها أن نضيف رقماً جديداً إلى أرقام المجلاّت، ولا أن نقدّم فيها ما يُغني عنه أو يَفْضُلُ عليه كتابٌ من الكتب

إنّما نريد بها أن تكون رائداً حقيقيّاً لا يكذِبُ أهلَه على طريق العمل الإسلاميّ الصحيح، والجهادِ لتحرير الوطن الإسلاميّ من كلّ سلطانٍ أجنبيٍّ ماديٍّ أو معنويّ، وإقامةِ الحياةِ الإسلاميّةِ والحكمِ الإسلاميّ الذي يفرضُه الله عزَّ وجلَّ، والذي يحقّق للمسلمين كلّ ما يحتاجونه ويتطلّعون إليه من الحريّة والعدالة والكرامة والتقدّم.


والرائدُ الصادق الذي لا يكذب أهلَه هو من أحوج ما يحتاجُه المسلمون في هذه الأيام، فالمسلمون يعيشون في ضَياع، وصورةُ الإسلام الحقيقيّةُ انطمست معالِمُها، وأصابها تشويهٌ رهيب بأيدي أعداء الإسلام ومن يستغلّونه على حَدٍّ سواء، وغدا الإسلامُ مقترناً في الأذهان ببعض أوضاعٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ متخلّفةٍ وظالمةٍ تحملُ عنوانَ الإسلام وليس لها حقيقةُ الإسلام، فترى كثيراً من الجيل الجديد يرفضُ الإسلام من خلال رفضِ هذه الأوضاع.. و الإسلام منه بَراء


ومهمّةُ الرائدِ الصادق صعبةٌ كلَّ الصعوبة، خَطِرةٌ كلَّ الخطورة، فنحنُ نعيش في مرحلةٍ يَسْهُلُ فيها استغلالُ الإسلام وتَصْعُب خدمتُه.. فما أيسرَ أن يُوضَع الإسلام في خدمة هذه الجهة أو تلك، وهذه الدولة أو تلك، ويُقْبَضَ الثمنُ من عَرَضِ الدنيا الزائل، على حساب الإسلام والمسلمين، كما نشاهد في كثيرٍ من الأحيان والبلدان.

وما أعسرَ الخدمةَ الحقيقيَّة للإسلام المتميّز كما أنزله الله، الإسلامِ الذي يُناهض الشيوعيَّة كما يناهض في الوقت ذاته الظلمَ الاجتماعيّ والاستغلالَ والفساد والتخلّف والاستعمار الأجنبيّ القديم والجديد في كلّ مجال، الإسلامِ الذي يفترق عن الماركسيّة والرأسماليّة، ولا يقبلُ التبعيّة للشرق أو الغرب في الداخل أو الخارج.

إنّ الذي يَخدُم الإسلام، ويلتزمُ خطّه المتميّز، ويدعو الناس إليه، ويكشف لهم الحقائق، ويبيّن لهم الأمور، ويأخذ بأيديهم بأمانةٍ وصدق، يجتمعُ على محاربته والكيدِ له أعداءُ الإسلام ومستغلّوه معاً، وإنِ افترقتْ بهم السبل في المجالات الأخرى، واشتدّ بينهم الصدام.. لأنّ أعداء الإسلام يدركون أنّ الإسلام الحقيقيّ كما أنزله الله، هو وحدَه الذي يستطيع أن يسدَّ عليهم الطريق، ويوقع بهم الهزيمة، لا إسلام الشعارات والعناوين.. ولأنّ مستغليّ الإسلام يدركون أنّ انكشافَ الإسلام على حقيقته للناس، واستبانةَ خطّة المتميّز المستقيم، وإمساكَ رجاله الصادقين بزمام التوجيه، سيقطع عليهم طريقَ استغلالِ الإسلام والمسلمين، واستخدامِهم مباشرةً أو غيرَ مباشرة، كما سيكشف انحرافَهم، وزيف ما يرفعونه من شعارات وعناوين


لقد كان ضروريّاً وواجباً أن تصدر «الرائد» فأصدرناها، أصدرناها ونحن ندرك الحاجات والتبعات، ونعي المصاعبَ والمخاطر.. وسنمضي على طريقِ الإسلامِ المتميّز الذي سلكناه والتزمناه قولاً وفعلاً، وسنقول في «الرائد» كلمةَ الحقّ كما كنّا نقول، وكما سنقول على الدوام


إنّنا نريد أن نخدمَ الإسلام لا أن نستخدمَ الإسلام، وأن نحرّر به أمّتنا وبلادنا وعالمنا، وأن نفتح به طريق الحريّة والعدالة والتقدّم الحقيقيّ.. وسنفعل ذلك -إن شاء الله تعالى- وسنربطُ به حياتَنا وإمكاناتِنا كلَّها في الحاضر والمستقبل.


وستصدرُ «الرائد» هكذا بسيطةً كلَّ البساطة، لأننا نريد أن نعتمد على إمكانات المؤمنينَ الصادقين وحدهم في الصدور والاستمرار، لتكون حُرَّةً من كلِّ قيد من القيود الظاهرة والخفيّة «وما أكثرَ القيودَ التي تكبِّلُ الْخُطى هذه الأيام»، لا تنطلق إلاّ من الإسلام، ولا تعيش إلاّ للإسلام، ولا تقيس إلاّ بالإسلام.. ولا تخضعُ لأحدٍ في الوجود إلاّ لربّ هذا الوجود، ولا تطلبُ إلاّ رضاه عزَّ وجلَّ ولو سخط الناس.

اللّهمّ إنّا نسألك العون والهدى والسداد.. ونسألك أن تكون لنا الأسوةُ أبداً في الرائدِ الأوّلِ صلى الله عليه وسلّم.. والحمد لله ربّ العالمين

يا طلائع الإسلام العظيم

نحن مصمّمون على أن نمضيَ في طريقنا الإسلاميّ المستقلّ المتميّز إلى نهاية الشوط، مهما وُضِع في طريقنا من العقبات ووقع علينا من الضغوط، وتكالب علينا من القوى، وتعرّضنا له من المصاعب والمخاطر والتضحيات.

نحن مصمّمون على رفض التبعيّة لسلطان الحكومات، وسلطان التمويل، وسلطان المغريات والشدائد.. وعلى تحريرِ العمل الإسلاميّ من هذا السلطان الباطل الفتّاك، وعن كلّ عبوديّةٍ لغير الله عزَّ وجلَّ، ومن كلّ خضوعٍ لغير الإسلام، ومنهج الإسلام، ومنطق الإسلام.

نحن مصمّمون على أن ندخل في «السِّلْمِ كافَّة» فنكون مسلمين في كلّ جوانب حياتنا، لا في جانبٍ منها دون جانب، وعلى أن نأخذ بالإسلام كلّهِ: لا نؤمن ببعض الكتابِ ونكفر ببعضه، ولا نكتفي من الإسلام ببعض أجزائه وفروعه التي يقبل بها الطاغوت، والتي نستطيع أن نعيش بها بأمن في ظلّ حكم جاهليّ.

...أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إلاّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ  أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة:85-86]

وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ  أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:49-50]

ونحن مصمّمون على الجهاد المتواصل للقضاء على الدكتاتوريّة والظلم والفساد في بلادنا الإسلاميّة، وعلى تحريرها من كلّ سلطانٍ أجنبيٍّ مادّيٍّ أو معنويّ، وعلى إقامة الحياة الإسلاميّة والحكم الإسلاميّ، وعلى تحقيق أهدافنا الإسلاميّة كلّها بإذن الله.

ونحن مصمّمون على أن نكون مع المسلمين المجاهدين في كلّ مكان، وكلّ ميدان، وفي مواجهة كلّ طاغوت داخليٍّ أو خارجيّ، شرقيٍّ أو غربيّ.. بكلّ ما نستطيع.

إنّنا نعلن ذلك كلّه جِهاراً نهاراً للأعداء والأصدقاء، والناسِ أجمعين.. نعلنُه ونحملُ تبعتَه كاملةً، لا نتهرّب منها، ولا نختفي وراء الأستار.

يا طلائع الإسلام العظيم!

إنّ علينا أن نحطّمَ قيودَ العبوديّةِ والتبعيّةِ والخوف والتردّد التي تكبّل المسلمين.

إنّ علينا أن نرفع لواءَ الحقّ المستقلّ المتميّز، وأن نقود خطى المؤمنين الصادقينَ إلى النصر إن شاء الله. إنّ علينا أن نربح معركةَ الإسلامِ أو أن نموت.


يا شباب الطلائع الإسلاميّة


لا تخافوا من انفرادكم بالحقّ، ومن عُزْلتكم عن المبطلين والمنحرفين والانتهازيّين.. فهذا الانفرادُ والتميُّزُ شرطٌ أساسيٌّ من شروطِ البناء السليم والانطلاق الصحيح، والفوزِ الكبير في المستقبل -إن شاء الله-

أمّا إذا بقي الباطل والانحراف والانتهازيّة.. أمّا إذا بقيت هذه الأشياء تعيش بين صفوفكم وأظهركم، وتتحكّم في أهدافكم ومناهجكم.. فهيهات أن يوجد الأساسُ السليم للبناء، والمنهجُ الصحيح للغاية والأهداف، والنصرُ الذي وعد الله به جندَه الذين يستأهلونه بصدقهم واستقامتهم، وما يتّخذونه إليه -مع التوكّل على الله- من الوسائل والأسباب

ولا تخافوا الأسماء الكبيرة، والعناوين الضخمة، والمظاهر الدنيويّة الفارغة

إنّ القيمة الحقيقيّة الكبرى للفرد عندنا في هذه الأيام، لا تكمن في لقبه، ولا في شهرته، ولا في سلطته، ولا فيما قد يكون بيده من حطام الدنيا.. ولكنّها تكمن في مدى ارتباطه بإسلامه، وتجسيمه له، وتميُّزهِ به في مختلف المجالات، واستعداده للبذل في سبيله في مختلف الظروف

إنّ هؤلاء الأفراد الذين يرتبطون ارتباطاً عقيديّاً مصريّاً واعياً بالإسلام، وتبرز من خلالها شخصيّتُه المستقلّة، وأهدافُه ومواقفه المتميّزة، هم الذين يعبِّرون عنه التعبيرَ الصادق، وهم الذين يشقّون طريقَه، ويربحون معركته، ويبنون مستقبله

أمّا الأسماءُ الكبيرةُ ذاتُ المسمَّيات الصغيرة، وأمّا العناوينُ الضخمةُ الفارغة من المضمون، أو المشوبةُ المضمون، وأمّا المظاهرُ الخادعة الخاوية من الحقائق، أو المتناقضة مع الحقائق.. أمّا هذه الأشياءُ كلُّها فرديّةً كانت أو جماعيّة، رسميّةً كانت أو شعبيّة.. فليست هي المؤهّلة للبعث الإسلاميّ المأمول، وإقامة الحياة الإسلاميّة والحكم الإسلاميّ

نرفض التبعية الداخليّة والخارجيّة وندعو إلى التميّز بالإسلام

نحن لا نقبل أن نخوض المعركة مع المستبدِّين ضدَّ المستعبَدين، ومع المستغلِّين ضدَّ المحرومين.. ولا مع الأمريكان ضدَّ الروس، ولا مع الروس ضدَّ الأمريكان..

معركتنا الوحيدة هي المعركة التي نخوضها مع الإسلام، نرفع به الظلم في بلادنا -وفي عالمنا إن قدرنا- عن سائر النّاس، ونحقّق به العدل لسائر النّاس

ومن هنا كان لا بدَّ لدعاة الإسلام والمؤمنين به، أن يتميَّزوا باتجاههم ومواقفهم على الصعيد المحلّيّ، وأن يتميّزوا باتجاههم ومواقفهم على الصعيد الدوليّ، فلا يكونون في بلادهم تَبَعاً ولا أداةً لهذه الحكومة أو تلك من الحكومات التي لا تحكم بالإسلام، ولهذه الطبقة أو تلك من الطبقات التي تتنكّر للإسلام، ولهذا النظام أو ذاك من الأنظمة المحاربة أو المغايرة للإسلام.. ولا يكونون في عالمهم تبعاً ولا أداةً لهذه الكتلة أو تلك، ولهذه المصالح الاحتكاريّة والسياسيّة أو تلك، ممّا يتحكَّم أبشعَ التحكُّم في عالمنا اليوم..

وكم يؤلمنا أنّ البلاد العربيّة والإسلاميّة التي قصّرت في الدفاع عن أرضها ومقدّساتها، واستسلمت صاغرةً لما يريده منها أعداؤها.. كم يؤلمنا أنّ بعض هذه البلاد ما يزال يندفع في خدمة الولايات المتّحدة أو الاتحاد السوفييتيّ، والمعسكر الغربيّ أو المعسكر الشرقيّ، ويخوض معهم، أو يخوض عنهم، معاركَهم الظالمة، وهو لا يلقى منهم في قضاياه العادلة، إلاّ الكفرانَ والحرمانَ والهوان.

إنّنا ندين كلّ تدخّل عربيّ وإسلاميّ في أيّ مكانٍ من الأمكنة خدمةً للمعسكر الغربيّ أو الشرقيّ.. ولو أن هذه الدول العربيّة والإسلاميّة المبعثرةَ الولاء، التي تتقاتل فيما بينَها من أجلِ الأعداء.. لو أنّ هذه الدول قد اجتمعت كلمتُها، وتوحّدت وجهتها وطاقاتها، لما حلَّ بها ما حلَّ من هزائم، ولا أصابها ما أصابها من الخسار والعار هنا وهناك، ولكان لها في العالم دورُها الأصيل الكبير، ولم يضطرَّ بعضُها إلى الارتماءِ -ضعفاً أو خوفاً من بعضها الآخر في الغالب!- في أحضانِ هذه القوّةِ الدولِيّة أو تلك، والوقوفِ منها ومعها موقفَ التابع الذليل.

هل أصبح دورُ البلادِ العربيّةِ والإسلاميّةِ، دورَ «المرتزقة» في خدمة الغرب أو الشرق، بَدَلَ تحرير العالم من العبوديّةِ للغرب والشرق، وكلِّ ما سوى الله عزَّ وجلَّ؟!

هل أصبح دورُ المسلم الآنَ أن يموتَ في سبيل الإمبرياليّة الأمريكيّة، أو السوفييتيّة، أو الاستعمار الفرنسيّ الجديد، بَدَلَ أن يموت في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، وإقامة شريعته، وهداية الناس برسالته، وقيادتهم بها إلى خيريِ الدنيا والآخرة؟!

إنّ الطلائع الإسلاميّة في كلِّ مكان، ترفضُ هذا الواقعَ المهينَ الذي يأباه الإسلام.

إنّنا نرفضُ التبعيّةَ على الصعيد الداخليّ في بلادنا، وأن نكونَ أداةً للمستبدّين والمستغلّين والمنحرفين.

ونرفضُ التبعيَّةَ على الصعيد الخارجيّ في عالمنا، وأن نكونَ أداةً مِنْ أدواتِ الطاغوت مهما كان اسمه أو نوعه أو شكله.

وإنّنا لندعو المؤمنين الصادقين، إلى التميّز بالإسلام داخليّاً في بلادهم، وخارجيّاً في عالمهم، وإلى خوض معركته العتيدة: معركةِ الحقّ والعدالة، والحريّة والكرامة، معركةِ أمّتنا وبلادِنا، ومعركةِ الإنسانيّةِ أيضاً والإنسانِ، حيثما كان.

التبعيّة للشرق أو الغرب خيانة للإسلام والأمة والبلاد

هل هنالك أوضح من المؤامرة الصهيونيّة الصليبيّة التي تكتمل حلقاتُها الآنَ في لبنان، إذا لم نُشر إلى غير لبنان؟

هل هنالك أوضح من المؤامرة الماركسيّة السوفييتيّة في أوغادين، وإرتريا، و اليمن الجنوبيّ، و أفغانستان؟

هل هنالك أوضح من الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة الأمريكيّة، مباشرةً أو غير مباشرة، في ضرب الإسلام والمسلمين، والكيدِ لهم، والسيطرةِ عليهم، واستغلالهم وتسخيرهم، لخدمة مصالحها في بلادهم وفي كلّ مكان؟

هل هنالك أوضح من الدور الغربيّ والشرقيّ على وجه العموم، في هذا المضمار؟

لا والله، ليس هنالك ما هو أوضح للعالِم والجاهل؛ لِمن يرى الأمور في حدودِ بلدِه، ولمن يراها في حدودِ العالمِ الإسلاميّ، ولمن يراها في حدودِ كلّه، ففي كلّ بلدٍ من بلاد المسلمين، وفي كلّ مكانٍ من العالم، أثرٌ ظاهر، ودليلٌ بيّن على ما تقدّم.. ليس هنالك ما هو أوضح من ذلك في الماضي إذا نظرنا إلى الماضي، وفي الحاضر إذا نظرنا إلى الحاضر، وفي المستقبل إذا نظرنا إلى المستقبل في ضوء الماضي والحاضر، وضوء العلم والفكر.

ومع ذلك كلّه فأكثرُ حكّامِنا وحكوماتِنا ينقادُ للولايات المتّحدة أو الاتحاد السوفييتيّ، ويسير في ركب الغرب أو الشرق.

لقد قَسَّمتْنا الوَلاءات الشرقيّةُ والغربيّة، والمصالحُ والمطامعُ والأهواء ُ الشخصيّة على بعضنا بعضاً، فانقسمْنا شرَّ انقسام، وخاصم بعضُنا بعضاً أشدَّ خِصام.. ونسينا في حَمْأةِ التبعيّةِ والمصالحِ الشخصيّةِ دينَنا وأمّتَنا وبلادَنا، ومكنَّا بفرقتنا وتطاحننا للصهيونيّة والصليبيّة والرأسماليّة و الشيوعيّة في بلادنا أخطرَ تمكين، ووضعْنا العالَم الإسلاميّ كلَّه على شفا الانهيار والانحلال والهلاك..

إنّنا نرفضُ رفضاً قاطعاً هذا الواقع الفاسد المريع.

إنّنا نعتبرُ الانقيادَ للشرق أو للغرب، والتمكينَ أو التسليمَ للصهيونيّة أو الصليبيّة أو الرأسماليّة أو الماركسيّة.. خيانةً للإسلام، وخيانةً للأمّة والبلاد.

وإنّنا لندعو حكّامَنا جميعاً، إن كان عندهم بقيّةٌ من دين، أو بقيّةٌ من إخلاص، أو بقيّةٌ من كرامة، أو بقيّةٌ من شعورٍ بالمسؤوليّة.. إلى أن ينتبهوا لواقعهم، ويستفيقوا من غفلتهم، ويراجعوا أنفسَهم، ويرجعوا إلى ربّهم، وما تقتضيه مصلحةُ أمّتِهم وبلادهم.. ندعوهم إلى أن يحطّموا قيود العبودّية والتبعيّة التي تربطهم بهذا المعسكرِ أو ذاك، وتفصل بينهم لمصلحةِ هذا المعسكرِ أو ذاك، وتضرب بعضَهم ببعضٍ خدمةً لهذا المعسكر أو ذاك.. ثم يكونون كلُّهم في النهاية فريسةً سهلةً للمعسكرين؛ لِمن حاربوهم أو لِمن خدموهم، كم أثبتت ذلك -وما تزال تثبتُه- الأحداث.

إنّنا ندعو حكّامنا جميعاً إلى التلاقي على الإسلامِ كما أنزله الله عزَّ وجلَّ , وتوحيدِ صفوفهم عليه، وتنسيقِ جهودهم في مواجهة أعدائه، كلّ أعدائه، وبناءِ حياتهم ومستقبلهم على أساسه الراسخ المتين.

إنّ هذا التلاقيَ الصادق بينَ المسلمين، وهذا التوحيدَ الشامل للجهود، هو الذي ينقذُهم جميعاً، وينقلّهم من الضعفِ إلى القوّة، ومن الذّلِ إلى العزّة، ومن الهزيمةِ إلى النصر.. وهو الذي يَضمن لهم الغَلَبَةَ على الصهيونيّة والصلبييّة والرأسماليّة و الشيوعيّة والاستعمارِ القديم والجديد، فالمسلمون عندما يلتقون لِقاءً صادقاً واعياً على منهجِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وتتكاملُ إمكاناتُهم وجهودُهم في مختلفِ المجالات والميادين يشكلّون قوّةً كبيرةً صامدةً، لا تُقْتَحَمُ ولا تُقْهَر.

وليس في هذا الذي نقولُ دعوةٌ إلى العُزلةِ والانغلاقِ على النفس.. كلاّ، ولكنّها دعوةٌ إلى الصلةِ بالعالمِ من حولنا، مِنْ مركزِ القوّةِ والحريّة، لا من مركز الضعفِ والتبعيّةِ كما هو حاصلٌ الآن، وإلى أن تُحَدَّد علاقاتُنا ومواقفُنا بمقياس الإسلام الواضح العادل، ومصلحةِ أمّتِنا وبلادنا، ومصلحة الإنسانيّة كلّها، في الحاضر والمستقبل.. ولَسَوْفَ نرى إنْ توحّدت قلوبُنا، وتنسّقت جهودُنا، واتّضحت لنا غايتُنا وأهدافُنا ووسائلُنا، أنّ موقفَ العالمِ مِنّا سيتغيّر، وأنّه سيتعلّمُ كيف يحترمنا، ويحسبُ حسابَنا في مختلف الأمور.. بعدَ أن طال ازدراؤه لنا، واستخفافُه بنا، وعدوانُه علينا هذا الزمنَ الطويل.

يا طلائع الإسلام العظيم

إنّ عليكم أن تُعْلِنوا رفضَكم للعبوديّةِ والتبعيّةِ الأجنبيّة: الفكريّةِ والاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ والسياسيّةِ والعسكريّة.. وأن تُحاربوها في كلّ مجال، وكلِّ ميدان، بكلّ وسيلةٍ مشروعة.. وأن تحاربوا الحكّامَ الذين يجعلون أنفسَهم أداةَ هذه العبوديّةِ والتبعيّة للغرب أو الشرق، وأن تَكشفوا للشعوبِ والتاريخِ جريمتَهم المنكرة التي يقترفونَها، وخيانتَهم الفاحشة للإسلام والمسلمين. إنّ عليكم -يا طلائعَ الإسلامِ العظيم- أن تكونوا قوّةَ الإسلام الناميةَ الواعيةَ المصمِّمَةَ القادرةَ على إنقاذِ الإسلامِ والمسلمين، وتغييرِ هذا الواقع المفزع المدمِّر، وقيادةِ أمّتنا وبلادنا في كلّ مكان، وكلّ مجال، إلى الحياةِ الإسلاميّةِ، والْحُكمِ الإسلاميّ.

نظرتان وموقفان

بعضُ الناس في البلاد العربيّة والإسلاميّة يحاربون أو يعارضون الوجودَ الأمريكيَّ والغربيَّ في مصر والخليج وأقطارٍ عربيّةٍ وإسلاميّة أخرى، ويُغْمِضون أعينَهم عن الوجودِ السوفييتيِّ والشرقيِّ في أفغانستان وعدن و سورية وغيرِها من الأقطار العربيّة والإسلاميّة.. فيكونون بذلك -شاعرينَ أو غيرَ شاعرين- أداةً من أدواتِ الاتحاد السوفييتيّ والشرق، وجُزءاً من مخطّطه في المنطقة.

وبعضُ الناس في البلاد العربيّة والإسلاميّة يُحاربون أو يُعارضون الوجودَ السوفييتيّ والشرقيّ في أفغانستان وعدن و سورية وأقطارٍ عربيّةٍ وإسلاميّة أخرى، ويُغْمِضون أعينَهم عن الوجود الأمريكيّ والغربيّ القويّ المتزايدِ في مصر والخليج وغيرِها من الأقطار العربيّة والإسلاميّة.. فيكونون بذلك -مُريدين أو غيرَ مريدين- أداةً من أدواتِ الولايات المتحدة الأمريكيّة والغرب، وجزءاً من مخطّطها في المنطقة إنّ الطلائعَ الإسلاميّةَ ترفض بكلّ وضوح الوجود الأمريكيّ والسوفييتيّ في الوطن العربيّ والإسلاميّ، والتبعيّةَ للغرب أو للشرق على السواء، وتُناهض أيضاً بكلّ وضوح سائر الأنظمةِ والحكوماتِ المرتبطةِ بهذه الجهة الخارجيّة أو تلك، وترفض لِمَنْ يحملون شعار العمل الإسلاميّ أن يكونوا -شاعرينَ أو غيرَ شاعرين، مُريدين أو غيرَ مريدين- أداةً في يد الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتيّ، أو الأنظمةِ والحكوماتِ المرتبطةِ بهما، أو بغيرهما، من قوى الباطل والهيمنة والاستغلال.

إنّنا نرد أن نحرّر الوطن العربيّ والإسلاميّ كلَّه، مِنْ كلّ وجودٍ أو سلطانٍ أجنبيّ، وأن نفتحَ له أبوابَ الحياةِ الإسلاميّة الحقيقيّة على سائر المستويات.. حياةٍ الحريّةِ والكرامة والعدالة والتقدّم. إنّ الطلائعَ الإسلاميّةَ تنظر إلى الواقع العربيّ والإسلاميّ نظرةً شاملةً نافذةً عميقةً واعيةً ضمنَ إطار العالم والعصر، وتقف مواقفَها الإسلاميّة الشاملة المتكاملة على هدىً من هذه النظرة، ومن هذه الرؤيةِ المنهجيّة المتطوّرة الواضحة، وهي ترفض كلَّ الرفضِ النظرةَ والمواقفَ الجزئيّة والسطحيّة، التي لا يَنْتَظِمُها تصوّرٌ شاملٌ، وعملٌ متكاملٌ بعضُه مع بعض.

إنّ المواقفَ الجزئيّة المنفصلَ بعضُها عن بعض، التي تُتَّخَذ هنا وهناك باسم الإسلام، قد تكون صحيحةً في ذاتها، وضمنَ إطارِها الجزئيّ أو المحلّيّ، ولكنّها قد لا تكون كذلك، إذا خرجنا بها من هذا الإطار.

إنّ مقاومةَ التبعيّةِ للاتحاد السوفييتيّ، وللأنظمة التابعة للاتحاد السوفييتيّ في وطننا العربيّ والإسلاميّ، أمرٌ صحيحٌ وواجبٌ في ذاته، ولكنْ إذا اقترن ذلك بإغماض العيونِ وبالسكوت -عند القادرين الواعين- عن التبعيّةِ للولايات المتّحدة الأمريكيّة، وللأنظمةِ التابعة للولايات المتحدة تحوّل ذلك -بوعي أصحابه أو دون وعيهم- إذا استمرّ على الزمن، وعلى كثرة الدواعي إلى خدمة للولايات المتحدة، ومخطّطاتها الخبيثة في المنطقة.. وقل مثل ذلك إن كانت المقاومةُ للولاياتِ المتحدة، وكان الإغضاءُ عن الاتحاد السوفييتيّ.

ولذلك فقد رفضتِ الطلائعُ الإسلاميّة -نظريّاً وعمليّاً- رفضاً قاطعاً شاملاً كلَّ ضربٍ من ضروب التبعيّة للولايات المتحدة والاتحاد السوفييتيّ، وللأنظمة والحكومات المرتبطة بالولايات المتحدة والاتحاد السوفييتيّ، ورفضت تجزئةَ معركةِ التحرّرِ الإسلاميّ، وخوضَ معركةِ الغربِ ضدّ الشرق، أو الشرقِ ضدّ الغرب، بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة، تحت شعاراتٍ أو مُبَرّراتٍ إسلاميّةِ المظهر

إنّ الطلائعَ الإسلاميّةَ ثورةٌ عميقةٌ صادقةٌ واعيةٌ على واقع المسلمين الفاسد الخانع المتخلّف.. وعلى ما في هذا الواقع العفن من عبوديةٍ سافرةٍ أو مُبَرْقَعةٍ للشرق والغرب، أو للأنظمةِ التابعة أو العميلة للشرق أو الغرب.

إنّ الطلائعَ الإسلاميّةَ ثورة.. ثورةُ هدمٍ وبناءٍ في وقت واحد.

وإنّنا لنمدّ أيديَنا المؤمنة الصادقة إلى كلّ أخٍ حرٍّ كريمٍ يضع يده بيدنا لتحريرِ وطننا الإسلاميّ كلّه تحريراً حقيقيّاً على كلّ صعيد، ولتغييرِ واقعنا الفاسدِ تغييراً عميقاً من الجذور، وإقامةِ الحياةِ الإسلاميّة والحكمِ الإسلاميّ كما أنزله الله عزَّ وجلَّ.

الطريق الإسلاميّ المستقلّ المتميّز

لقد تذكّرت وأنا أستمعُ إلى هذا السؤال قولَ أبي الطيّب المتنبّي:

وكيفَ يَصِحُّ في الأفهام شيءٌ

إذا احتاجَ النهـارُ إلى دليـلِ

ولا أدري كيف يكون المسلمون مسلمين عن علمٍ وفهمٍ واقتناعٍ، قادرينَ على ممارسة الإسلام، والقيام بفروض العين وفروض الكفاية، إذا كانوا لا يعرفون الإسلام معرفةً واضحة بحقائقه وخصائصه وما يناسبه أو يناقضه ويُبايِنُه، وكانوا لا يستطيعون أن يتبيّنوا الحدود الفاصلة بينه وبين سواه في العقيدة والعبادة والأخلاق وسائر مناهج الحياة، وأن يميّزوا بينه وبين غيره من الأديان والمذاهب الفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وأن يفرّقوا بين لوازمه ومقتضياته، ولوازم هذه العقائد والمذاهب ومقتضياتها، في كلّ مجالٍ وعلى كلّ صعيد.


والسؤال المطروح: هل الإسلام دينُ الله ورسالته الأخيرة إلى الناس، أكمله الله عقيدةً وشريعةً، وأتمّ به نعمته على المؤمنين، ورضيه لهم ديناً باقياً إلى أن يرث الأرض وما عليها.. دينٌ له أسُسُهُ ومقاصده وأصوله وقواعده، وقيمه وأحكامه وتوجيهاته، وطابعه الخاصّ، وشخصيّته المستقلّة؛ أم الإسلام -كما يصوّره بعض أعدائه في هذا المجال أو ذاك- دينٌ ملَفَّق منقول ممّا سبقه من ديانات، ومن أساطيرَ وعادات وتشريعات، ليس له استقلاليّتهُ، ولا شخصِيَّتُهُ، ولا طابعهُ المتميّز الأصيل؟

هل الإسلام شريعةٌ شاملة كاملة دقيقة محكمة؛ أم هو شيءٌ جزئيّ ناقص مفكّك مبهم عائم سائب، ليس له حدود تفصل فيه بين الأشياء والأحكام والقيم، وتميّزه عن غيره في مختلف الميادين والمجالات.

أنا أقول: ليس هنالك مسلمٌ يعرف حقيقة إسلامه، ويقول بصدق: لا إله إلاّ الله، ولا يبيع آخرته بدنياه ولا يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً.. يماري في استقلاليّة الإسلام وتميّزه وامتيازه على سواه.

وليس هنالك مسلمٌ تقيّ جادّ يعلم ما يقول، ويشعر بمسؤوليّته عمّا يقول، يسخر ب «الطريق الإسلاميّ المستقلّ المتميّز» أو بمن يسلكونه ويدعون إليه، فهذه السخرية سخريةٌ بالحقيقة، وسخريةٌ بالإسلام، وسخريةٌ بعقول الناس، وخداعٌ عن الحقّ، ببواعث أو أهداف لا يرضى عنها الله عزَّ وجلَّ.

وأقول أيضا: ليس هنالك عالمٌ ناضج ناقد، ولا باحثٌ مستوعب متجرّد، يدرس الإسلام ويدرس سواه من العقائد والمذاهب، لا ينتهي بعلمه وفكره وإنصافه، إلى مثل ما انتهى إليه سلفنا الصالح وانتهينا إليه في هذا الأمر -ولو لم يكن من المسلمين-


وإذا كان الإسلام في عقيدته وفي شريعته وفي قيمه وآدابه وموازينه وتوجيهاته مستقلاًّ متميّزاً -كما قرّرْنا- عمّا عداه، فلا بدّ للمسلم الذي يفهم الإسلام ويؤمن به ويلتزمه ويجسّده.. أن يكون مستقلاً ومتميّزاً بالإسلام في عقيدته وتفكيره ومنهجه وأحكامه ومواقفه وأخلاقه وسائر جوانب حياته وعلاقاته.. ولا ينعدم الاستقلال والتميّز الذي نتحدّث عنه في حياة فرد أو جماعة إسلامية، إلاّ إذا كان الإسلام عندهم مجرّد عنوان دون مضمون، وقول دون عمل


والطريقُ الإسلاميّ إذا قصدنا به ما بيّنه الله تعالى من سُبُل الهداية والخير اعتقاداً وقولاً وعملاً في مختلف جوانب الحياة، ومراحل النشاط، فهو طريق مستقلّ متميّز.

وإذا قصدنا به الوسيلة التي نتَّخذها، والمنهج الذي نسلكه، والدرب الذي نمشي عليه، لتبليغ دعوة الله، وإقامة دينه وحكمه، وتحقيق أهدافه ومقاصده، في زماننا وأمكنتنا وظروفنا، فهو طريق مستقلّ متميّز، ينبثق من الإسلام، ومن إدراك ِ واقع أمّتنا وبلادنا وعالمنا وعصرنا، ويكون على الدوام محكوماً بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم، وما يستفاد منهما من الأصول والكليّات والقواعد والتوجيهات؛ فالإسلام لا يبرّر الوسيلة بالغاية، ولا يمكن أن يُسْلَكَ فيه وفي العمل له أيُّ طريق من الطّرق كائناً ما كان.

وإذا قصدنا به تجوُّزاً طريقَ المسلمين؛ فلا بدّ أن يكونوا، ليوصف طريقهم بأنّه إسلاميّ، مرتبطين فيه على الدوام كلَّ أنواع الارتباط بالله وبالإسلامِ، مستقلّين فيه عن كلّ ولاءٍ لغيره، وتبعيّةٍ لأعدائه وعن كلّ ضربٍ من ضروب العبوديّة للدنيا؛ فعبوديّة الإنسان للدنيا ومكاسبها ومناصبها ومفاتنها وجاهها ومالها، هي التي تنحرف به، وتزيّن له انحرافه وتبرّره، وتضعه في خدمة الطاغوت، وتجعله مباشرةً أو غير مباشرة، واعياً أو غير واعٍ، مريداً أو غير مريدٍ، حُجَّةً على الإسلام، أو حرباً عليه، أو مضلِّلاً لأبنائه تحت عنوانه وشعاراته.. وما أبشع أن يتحوّل الإسلام إلى أداةٍ لاصطياد الدنيا، واستغلال الناس، وخدمة المفسدين في الأرض، مهما اختلف ذلك في درجاته وصفاته باختلاف الناس والمواقع والظروف.


طريق الإسلام مستقلّ متميّز

وطريق العمل للإسلام مستقلٌ متميّزٌ استقلال الإسلام وتميّزَه على كلّ صعيد.

والمسلم الصادق الواعي العالم بالإسلام، العامل بالإسلام وللإسلام، مستقلٌ -كما قدّمنا- عن التبعيّة لما سواه من العقائد والمذاهب والطاغوت، متميّزٌ به -بمقدار صدقه ووعيه والتزامه وتطبيقه- في مختلف شؤونه وشؤون مجتمعه، وقضايا أمّته وبلاده وعالمه وعصره.

هل هذا الاستقلال والتميّز يعني عندنا -كما يُفْترى علينا- أن ننغلق على أنفسنا، ونهدم الجسور بيننا وبين غيرنا؟!

كلاّ بالطبع، فنحن بأفكارنا وواقعنا من أكثر الناس انفتاحاً على غيرنا وعلى عالمنا وعصرنا، نأخذ ونعطي، ونستفيد ونفيد، ونفتّشُ عن القواسم المشتركة، ونحبّذ التّعاون على البرّ والتّقوى، إذا غلبتْ في ذلك المصلحة على المفسَدَة، ولم يكن هنالك محاذير أخرى يهدي إليها التفكير العميق الشامل، الذي لا يقف عند الفروع والجزئيّات، والذي يتجاوز الظواهر إلى ما وراءها من خلفيّات وعلاقات ودلائل ومقاصد، ونرى ذلك كلّه ضرورة من ضرورات حياتنا وجهادنا وأداء رسالتنا التي نحملها لأمّتنا وبلادنا، وللعالم كلّ العالم؛ ولكنّنا نريد أن يكون هذا الانفتاح -قبل ذلك كلّه، وبعد ذلك كلّه- في كلّ وقت، وفي كلّ ظرف، وفي كلّ مكان، من موقع الحريّة والاستقلال، وبمقياس الإسلام ومصلحة الإسلام والمسلمين، ومصلحة الإنسانيّة والإنسان في كلّ مكان.

ولقد سبق أن تحدّثنا عن الاستقلال والتميّز ألوانَ الحديث، وتناولنا هذا الموضوع من مختلف زواياه بمختلف الوسائل والأساليب، وفصّلناه وبيّنّاه وشرحناه من خلال كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم، وحاجاتِ الإسلام والمسلمين على توالي العصور، فلا نجد لزوماً للإطالة في هذا الجواب السريع.

ولكن لماذا نؤكّد على طريق الإسلام المستقلّ المتميّز هذا التأكيد الذي يزعج من لا يريدون لطريق الإسلام أن يتّضح ويتعمّق ويستقلّ ويتميّز، من مستغلّي الإسلام، ومن يسير في ركاب هؤلاء المستغلِّين؟ لا بأس -أيّها الإخوة- في أن أعيد أمامكم هنا بغاية الإيجازِ والتجريدِ ذكر سببٍ واحدٍ من أسبابنا المتعدّدة لهذا الموقف الذي نشأ عندنا ونما ورسخ من وراء دراساتنا الإسلاميّة والتاريخيّة، وتجاربنا ورؤيتنا المباشرة خلال عشرات السنين.

لقد رأينا بأعيننا خلال عشرات السنين من عملنا وتجاربنا على مختلف المستويات، كيف يُوضع الإسلام ورصيدُه العقيديُّ والعاطفيُّ في النفوس، في خدمة عقائدَ ومذاهب أخرى، وخدمة عناصرَ وأحزاب وتجمّعات وقوىً محليّة ودوليّة تخالف الإسلام أو تحاربه، مِنْ قِبَلِ عناصرَ لها عنوانُ الإسلام، ولكنّها جهلت دينها، أو آثرت دنياها، فانحرفت عن طريق الإسلام المستقلّ المتميّز، وباعت ما استطاعت من رصيده الغالي لأعدائه ومستغلّيه، بما طمعتْ فيه أو نالته من عرض الدنيا الزائل.

وكم رأينا على امتداد هذه السنين من ناسٍ وضعوا أنفسهم في خدمة رجال المال والأعمال باسم الإسلام، وخدمة الإقطاعيّين الظالمين المستغلّين باسم الإسلام، وخدمة سياسيّين علمانيّين انتهازيّين باسم الإسلام، وخدمة أنظمةٍ فاسدة، ودكتاتوريّاتٍ طاغية، وسياساتٍ منحرفة، وخدمةِ شرقٍ أو غربٍ، وحكوماتٍ مرتبطةٍ بالشرقِ والغربِ، باسم الإسلام!

وباسم الإسلام ووراء قناعه وستاره يعمل بعض أعدائه الماكرين للعلمانيّة، أو يُرَوّجون للّيبراليّة أو الماركسيّة، أو يُفْرِغُونَه من مُحْتواهُ الحقيقيِّ ليُلْبِسوه بعد ذلك لِمَا يشاؤونَ من مَضْمون.

ولقد ضلَّلَ هؤلاءِ وأمثالُهم -على تبايُن بواعثِهم وأغراضِهم ووسائِلهم ومجالاتِهم- كثيراً من المسلمين، وساقوهم على غير طريقهم، إلى غير أهدافهم ومصالحهم الحقيقيّة، بل ساقوهم -وما يزالون يسوقونهم- إلى الخسار والضياع والهلاك.


يا شباب الإسلام

يجب ألاّ تستمر بنا هذه الحال.

يجب أن يُوضع حدٌّ لهذا البلاء والوباء.

يجب أن يتحرّر المسلمون من الجهل والغفلة والمطامع والأهواء التي تسمح باستغلالهم وخداعهم وتضليلهم والانحراف بهم عن سواء السبيل، ودفعِهم في سُبُل الشتات والعبوديّة والموت بأبشع الأشكال والألوان، وأن ينتهي في حياة المسلمينَ وبلادِهم هذا الاستغلالُ والخداعُ والتضليل، وكلُّ ما ينتجُ عنه من النتائجِ الخطيرة والكوارثِ الأليمة في الحاضر والمستقبل.

لم يعد يجوز ولم يكن يجوز -يا شبابَ الإسلام- أن يَسْلُكَ ناسٌ -مهما كانوا- باسم الإسلامِ وخدمتِه مسالكَ يأباها بطبيعتِه وشريعتِه وموازينِه، وتخدمُ أعداءَه ومستغلّيه، وتوقعُ به وبالمسلمينَ أفدحَ الأضرار.

إنّ الإسلام الواضحَ المستقلَّ المتميّز، له طريقٌ واضحٌ مستقلٌّ متميّز، ولخدمتِه طريقٌ واضحٌ مستقلٌّ متميّز.. نَعَمْ، طريقٌ مستقلٌّ متميّزٌ -يا شباب-

طريقٌ يصلُ بنا إلى النّصرِ وتحقيقِ أهدافِ الإسلام -إن شاء الله- وإلى الجنّةِ ومرضاةِ الله عزَّ وجلَّ.

طريق يكون فيه خيرُ الدنيا والآخرة لمن يختارونَه ويَسلكونه من المؤمنين الصادقين، ومصلحةُ أمّتِنا وبلادنا وسائر النّاس.

طريقٌ نؤمنُ به وندعو إليه ونثبتُ عليه، ونستمرُّ فيه، مهما أَرْجَفَ المرْجِفون، وسَخِرَ الساخرون، ونقم الأعداءُ والمستغلّون، وتألَّبتْ علينا فيه قوى الطاغوت. والله أكبر والعاقبة للمتقين

نعارض محاولات احتواء العمل الإسلاميّ ونعارض قبول الاحتواء

نعم إنّنا نعارض محاولات الحكومات والمؤسّسات الحكوميّة الرسميّة احتواء المؤسّسات والنشاطات الإسلاميّة المختلفة في العالم وإمساكَها بزمامها وتسخيرَها لها مباشرة أو غير مباشرة بما تملك من وسائل المال والسلطان والترغيب والترهيب، وبما تُجنِّد لذلك من عناصر معروفة وغير معروفة تكونُ أداتَها لتحقيق أغراضها والقضاء على من يقف في طريقها..

ونعارض قبولَ المؤسّسات والنشاطات الإسلاميّة لهذا الاحتواء، وإسلامها الزمام للحكومات والمؤسّسات التابعة لها، وتسخيرَها نفسها مباشرة أو غير مباشرة فيما يُرضي الله ويُسخط الله، وتحوُّلَ بعض عناصرها إلى أدوات لتسخير المسلمين من حيث يشعرون، أو لا يشعرون، ووضعِهم -أحياناً- في خدمة مخطّطات محليّة ودوليّة.. يدركون أبعادها أو لا يدركون.

إنّنا نعارض محاولات الاحتواء، كما نعارض قبول الاحتواء.. ولا يعني ذلك عندنا أبداً الانغلاق وإقامة الأسوار المسدودة بيننا وبين الحكومات والمنظّّمات الحكوميّة -إسلاميّة أو غير إسلاميّة- ولا بيننا وبين أحدٍ من الناس -مسؤولاً كان أو غير مسؤول- وإنّما نريد أن يكون انفتاحنا وحوارنا من مركز الاستقلال والحريّة الحقيقيّة، وأن يكون تلاقينا وتعاوننا في أيِّ أمر من الأمور بمقياس الإسلام ومصلحة الإسلام والمسلمين لا على حساب الإسلام ومصلحة الإسلام والمسلمين، وأن يكون بإمكاننا أن نتّفق في أمر ونختلف في أمر، وأن نتعاون في مجال ونتعارض في مجال.. وأن يكون بإمكاننا أيضاً أن نفصل بين ما يجوز التعاون فيه أصلاً وما لا يجوز، وأن نتابع مستقلّين طريقنا الخاصّ المستقلّ إلى غايتنا وأهدافنا الأبعد من هذه الفروع والجزئيّات التي قد نتلاقى فيها حاليَّاً أو نتعارض مع الحكومات والمؤسّسات الحكوميّة القائمة -إسلاميّةً كانت أو غير إسلامية-

نرفض الاشتراكيّات القائمة في بعض بلادنا

إنّ بعض الدعواتِ الاشتراكيّة في بلادنا بدأت باشتراكيّة إسلاميّة، أو اشتراكيّة عربيّة، ثمّ انتهتْ بالماركسيّة، أو أخذت طريقَها إليها، على درجاتٍ متفاوتةٍ من النظَرِ، والتطبيق، والاعتراف.

إنّنا نرفضُ هذه الاشتراكيّات القائمة في بعض بلادنا.

إنّ هذه الاشتراكيّات -بواقعها الفعليّ على الأقلّ- تُهدِرُ الإسلامَ وقِيَمَ الإسلام ومنهجَ الإسلام، وتؤدّي بشكلٍ غيرِ مباشر إلى اقتلاعه من الجذور ورفضُنا لهذه الاشتراكيّاتِ لا يَعني مطلقاً قبولَنا للأنظمة السابقةِ لها، أو القائمةِ بجوارها، في بلادٍ إسلاميّةٍ أخرى.

إنّنا نرفض هذه الاشتراكيّات، ونرفضُ معها أيضاً تلك الأنظمةَ الليبراليّة غير الإسلاميّة، وتلك الأنظمةَ التي تحمل عنوانَ الإسلام كستار، وتُعطيه في نفسِ الوقتِ مضموناً سياسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً يُناقض الإسلام.

إنّ الإسلام عندنا هو الإسلام كما أنزله الله عزَّ وجلَّ.. وبالإسلام وحدَه، وبجهادِنا المستمرِّ لأجله، نحقّقُ لأمتنا وبلادِنا نظريّاً وعمليّاً النظامَ الأمثَل؛ الذي يقدِّمُ لها العقيدةَ ومعها التقدّم، والحريّة ومعها العدالة الاجتماعيّة على أفضل وجه.

دعوة إلى التحرر من سيطرة الأنظمة والحكّام

إنّنا لا نستطيعُ، ولا نَقبلُ، أن نواجه المدَّ الشيوعيَّ في العالم الإسلاميّ من وراء الأنظمةِ اليمينيَّةِ البالية، والحكّامِ الفاسدين.

إنّ هذا الموقفَ يضعُنا في مَوضع التبعيّة لهذه الأنظمةِ، ولهؤلاء الحكّام، ويجعلُنا في مواجهةِ الشيوعيّةِ في خدمتهم، وخدمةِ الغرب والولايات المتحدة الأمريكيّة، التي ربطوا مصيرَهم بها، ووضعوا أنفسَهم تحتَ سيطرتها.. لا في خدمةِ الإسلام.

وإنّ مواجهةَ الشيوعيّةِ من وراءِ الأنظمةِ القائمةِ، والحكّامِ الحاليّين تُعطي الإسلام مضموناً سياسيّاً واجتماعيّاً وأخلاقيّاً غيرَ مضمونِه الحقيقيّ، وتشوِّه صورتَه في نفوس المحرومين، والمظلومين، والأحرارِ المؤمنين، والأجيالِ الجديدةِ الصاعدة، التي تأخذُ الإسلام من خلالِ مواقفِ المسلمين.

وإنّ مواجهةَ الشيوعيّةِ من وراءِ الأنظمةِ القائمةِ، والحكّامِ الحاليّين، تَربط مصيرَ الإسلامِ في بلادنا بهذه الأنظمة، وبهؤلاءِ الحكّام، الذين لا يمكن أن يُكتب لهم، ولا لأنظمتهم -ما لم يغيِّروا ما بأنفسهم- البقاء، والذين لا بدّ أن يأخذوا طريقَهم عاجلاً أو آجلاً إلى الزوال.

ولذلك فإنّنا ندعو العاملين للإسلام إلى التحرّر من سيطرة الأنظمةِ والحكّامِ المباشرةِ وغيرِ المباشرةِ، وإلى الانطلاق من مركز الحريّةِ الكاملةِ والاستقلالِ، لبناءِ المستقبلِ الإسلاميّ المنشود.. وإلى هؤلاء الأحرارِ الذين ينطلقون من الإسلام، ويسلكون طريقَ الإسلام، لتحقيقِ أهدافِ الإسلام.. مهما اعترضَهم من العقبات، وكلّفَهم ذلك من المشقّات والتضحيات.. إلى هؤلاء الأحرارِ جميعاً، وحيثما كانوا من الأرض، نمدُّ أيديَنا للتعاون الخالص، والجهادِ المشتركِ في سبيل الله عزَّ وجلَّ.

دعوة إلى العاملين للإسلام

إنّني أدعو العاملين للإسلام في كلّ مكان إلى أن يتقدّموا الصفوف ويقودوا الشعوب المقهورة المظلومة إلى الحريّة والعدالة الاجتماعيّة والتقدّم الحقّ.

يجب أن نربط ربطاً وثيقاً بين الإسلام وبين حاجات الشعوب الحقيقيّة وآمالها المشروعة في الحاضر والمستقبل.

إنّنا بهذا الربط الواقعيّ الحيّ نجعل الشعوب الإسلاميّة تعي وتشعر أعمق الوعي والشعور بأنّ نضالها من أجل الإسلام هو في نفس الوقت نضالٌ من أجلِ حياتِها وحاجاتِها وآمالِها في حاضرها ومستقبلها ودنياها وآخرتها، وأنّ نضالها من أجل حياتها وحاجاتها وآمالها -حسب تعاليم الإسلام- إنّما هو نضالٌ من أجل الإسلام.

إنّ فهمَ هذه الحقيقة وتعميقَها في الفكر والشعور من خلال المواقف الحيّة والممارسات اليوميّة العمليّة يربط هذه الشعوب ربطاً عضويّاً مصيريّاً بالإسلام في سائر الشؤون والمجالات، ويجعله ويجعل الجهاد به ومن أجله هو حياتها كلّها في كلّ وقت.

أمّا إذا فصلنا الإسلام عن حياة الشعوب وآلام الشعوب وآمال الشعوب الماديّة والمعنويّة المشروعة، وأبقينا مجرّد معرفة نظريّة أو ذكريات تاريخيّة لا ترتبط بزماننا ومكاننا وظروفنا، ولا تتّصل بحاجاتنا وآلامنا وآمالنا.. فإنّنا نكون قد خنّا الإسلام وعزلناه عن الحياة، وخنّا الشعوب التي لا خلاص لها إلاّ بالإسلام، ونكون نحن المسؤولين عن ضياع شعوبنا وانقيادها لغير الإسلام من المذاهب المختلفة، ولغير حركاتنا ورجالنا من الانتهازيّين والمنحرفين والعملاء المستخدَمين من الشرق أو الغرب.. وهذا ما لا يقبله مؤمنٌ صادق الإيمان يستشعر مسؤوليّته الكبيرة أمام الله ثمّ أمام التاريخ.

على طريق الإسلام المستقلّ المتميّز

نعم -يا إخوتنا المشفقين علينا!- على طريق الإسلام المستقلّ المتميّز سنمضي ونستمرّ في المسير.. نمضي على الطريق المستقلّ المتميّز ونحن نرى كلّ ما فيه من عقبات، وكلّ ما يَكْتَنِفُه من أخطار، وكلّ ما يُبَيَّت لسالكيه من مكائد ويُوَجّه إليهم من ضربات..

على الطريق المستقل المتميّز نمضي.. نمضي ونحن ندرك الظروف والأوضاع المحليّة والدوليّة المحاربة لنا، لا لأنّنا لا ندرك هذه الظروف والأوضاع.

نمضي ونحن نعلم تمامَ العلم أنّ المال والسلطان والدنيا التي عبدها الناس من دون الله عزَّ وجلَّ، تقف الآن على غير الطريق الذي نسلكه، على غير طريق الإسلام الحقيقيّ، ولكنّنا سنمضي رغم ذلك على طريق الإسلام الحقّ كما أنزله الله عزَّ وجلَّ..

إنّ حَرَكَتَنا هي حركةُ عقيدةٍ، لا حركةُ رغبةٍ أو رهبةٍ أو مصلحةٍ من مصالح الدنيا.

إنّ حركتنا هي حركةُ تغييرٍ للواقع، لا حركةُ استغلالٍ للواقعِ واستثمارٍ له.

إنّ حركتنا هي حركةُ بناءٍ للمستقبل العظيم، لا حركةُ حمايةٍ وخدمةٍ للحاضر الحقير.

إنّ حركتنا هي حركةُ تضحيةٍ متجدّدةٍ مستمرّةٍ من أجل الإسلام، لا حركةُ كسبٍ شخصيٍّ رخيصٍ باسم الإسلام.

إنّ حركتنا هي حركةُ الإسلامِ كما هو، لا كما يريدُه أعداؤه أو مستغلّوه أو المنتفعون به والمتاجرون بتعاليمه هنا وهناك.

ولا تُشْفِقوا علينا أيّها الإخوةُ الطيّبون من سلوك هذا الطريق الطويل العسير.. فلقد سلكه من قَبْلُ محمّدٌ صلى الله عليه وسلّم.

ولا تُشْفِقوا على قِلَّتِنا فيه، فقد سلكه صلى الله عليه وسلّم في قِلَّةٍ من أصحابه تَتَربّص بهم وتُناهضهم مكّةُ والجزيرةُ والدنيا.

ولا تشفقوا على غربتنا فيه، فقد كان صلى الله عليه وسلّم هو وأصحابُه فيه من الغرباء.. وكيف لا نكون غُرباء في واقعٍ يناقضُ الإسلام، ويحارب الإسلام، ويتنكّر لما جاء به الإسلام من المبادئِ والأخلاقِ والمقاييس.

ولا تشفقوا على دمائنا التي تنْزِفُ من جراحاتِنا فيه، بسهامِ الأعداءِ في الصدور، وخَناجرِ «الأصدقاءِ!» في الظهور.. فهذه الدماءُ السخيّةُ النقيّةُ هي وحدَها التي يمكن أن ترسم للمجاهدين المخلصين معالم الطريق.

وطريقُنا الذي نسلكه هو طريقُ مرضاةِ الله عزَّ وجلَّ، وفي سبيل الله يرخُصُ كلُّ بَذلٍ، وكلّ عناءٍ، وكلّ تضحيةٍ من التضحيات..

وهو أيضاً طريقُ النصرِ الحقيقيُّ، لا النصر الوهميّ الرخيص.. فلا يكون النصرُ الحقيقيُّ الكبيرُ إلاّ من وراء العرق والدموع والدماء والصبر الطويل، والتضحياتِ المتواليةِ التي لا تعرفُ الحدود.

وعلى هذا الطريق المتميّز المستقلّ يكون اللقاءُ الحقيقيّ بين المؤمنين العاملين، والمجاهدين الواعين الصادقين، لا في مجالسِ السَّمَرِ والشاي، وصالوناتِ الاستقبالات، وقاعات الاحتفالات، وظِلِّ أربابِ السلطان والمالِ من الحكّام وغير الحكّام.

وعلى هذا الطريق أيضاً، ومن خلال الجهادِ والتضحياتِ والتجارب، تنكشفُ الحقائقُ والاستعدادات، ويأخذُ كلُّ عاملٍ مكانَه الحقيقيَّ، ودرجتَه الحقيقيّة، وتولدُ الطلائعُ المرجّوةُ وتنمو، وتبرزُ القيادات الأصيلةُ الجديرة بأن يكون في يدها القياد، في مرحلةٍ من أدقِّ المراحلِ في تاريخ الإسلام، وفي ظروفٍ من أخطرِ وأصعبِ الظروف.

وعلى هذا الطريق نفتحُ قلوبَنا وصفوفَنا لكلّ مسلمٍ صادقٍ آمَن بالله، وآثره على من سواه، واختار آخرتَه على دنياهُ فكان أكبرَ من دنياه، وصمّم على المضيِّ قُدُماً في سبيل الله..

ومن هذا الطريقِ نهتفُ بالمسلمين النائمين والحائرين والمضلَّلِين والحائدين ذاتَ الشمالِ أو اليمين.. نهتفُ بالذين قَصَّرتْ بهم خطاهُم، أو عوّقتْهم دنياهم أو أخمدَ حماستَهم بُعْدُ الغايةِ ومشقَّةُ المسير.. نهتفُ بهم جميعاً، أنْ يَلحقوا بنا، وينضمُّوا إلينا، ويكونوا معنا، بقلوبهم، وبما يملكونه من جهد، ولو قَلَّ الجهد، ومن نُصْرَة، ولو شَحَّتِ النصرة، ونمدّ إليهم أيديَ المحبّةِ والأخوّةِ والعونِ، لنكونَ معاً على طريق الجنّةِ والنصر، إنّ شاء الله.

نتحمّل مسؤولية الإسلام والعمل الإسلاميّ

في هذه الأيّامِ التي يَغلِبُ فيها اليأسُ على كثيرٍ من العاملين، ويحسّ كثيرٌ منهم بالحيْرة والضياع، ويُؤْثر كثيرٌ منهم الخروجَ من ميدان العمل، أو الاكتفاءَ ببعض الأعمالِ الإسلاميّةِ الجزئيّةِ أو الهامشيّة التي لا تُغني في تحقيق أهدافِ الإسلام، ولا تُعَرِّضُ أصحابَها للمتاعب أو المخاطر أو التضحيات، إن لم تحقّق لهم بعضَ المكاسب.

في هذه الأيّامِ التي كادت تَنطوي فيها رايةُ الإسلامِ المتميّزة، ويَختفي فيها منهجُه المستقلُّ الأصيل، ويَنضوي أكثرُ المحسوبينَ عليه تحتَ هذه الرايةِ أو تلكَ من رايات الحكوماتِ المختلفةِ القائمة، ويستسلمون للواقع الفاسد، ويندمجون فيه عمليّاً، أو عمليّاً ونظريّاً، اندماجاً كاملاً أو بِنِسَبٍ متفاوتة. في هذه الأيّامِ التي غدا فيها المسلمونَ أداةً طيِّعَةً لكلِّ مستغِلٍّ، وفريسةً سهلةً لكلّ عدوّ، ومجالاً رحباً لكلّ مضلّل، وغنيمةً باردةً لكلّ طامع، وحِمىً مباحاً للقُوى المختلفةِ المحاربةِ للإسلام في الداخل والخارج.

في هذه الأيّامِ الحرجةِ التي لا يكادُ يجدُ الإسلام فيها رجالَه الذين يُؤمنون به إيماناً كاملاً، ويلتزمونه كلَّه التزاماً شاملاً دائماً، ويربطون به مصيرَهم ربطاً نهائيّاً محكماً، ويحملون مسؤوليّتَه ومسؤوليَّةَ الدعوةِ إليه سرّاً وعلناً، على سائر المستويات، وفي مختلف المجالات والأوقات، مهما كانتِ النتائجُ والظروف، ومهما غَلا الثمن.

في هذه الأيّام الدقيقةِ الحاسمة، نُجَدِّدُ باسم الطلائع الإسلاميّة، على سمع المسلمين أجمعين، وعلى سمع الأصدقاءِ والأعداءِ الداخليّين والخارجيّين، وعلى سمع الدنيا كلّها:

إيمانَنا الكاملَ بالإسلام، وارتباطَنا المصيريَّ به، والتزامَنا المطلقَ بكلِّ ما يَقتضيه.

ونعلنُ إعلاناً بيّناً واضحاً لا غموض فيه، تَحَمُّلَنا الكاملَ لمسؤوليّةِ الإسلام، ومسؤوليّةِ الدعوةِ إليه، ومسؤوليّة الجهادِ المستمرِّ لإقامة الحياة الإسلاميّة والحكمِ الإسلاميّ.

نتحمّلُ هذه المسؤوليّةَ سِرّاً وعَلَناً، وقولاً وفعلاً، في سائرِ الأوقاتِ والظروف.

نتحمّلُها في الرخاءِ ونتحمّلُها في الشدّة

نتحمّلُها في الأمنِ ونتحمّلُها في الخطر

نتحمّلُها في الصحّةِ ونتحمّلُها في المرض

نتحمّلُها أمامَ المسلمين، وأمامَ الناسِ أجمعين، وأمام الطغاة المارقينَ المستكبرين، فنحنُ بإيمانِنا وحقِّنا، وثقتِنا بربّنا، وبعونِه عزَّ وجلَّ لنا.. أقوى من الباطلِ وجندهِ، ومن كلِّ طاغيةٍ وطُغيانٍ في هذه الأرض.

ونتحمّلُ هذه المسؤوليّةَ من قَبْلُ ومن بَعْدُ أمامَ اللهِ عزَّ وجلَّ، ضارعينَ إليه تعالى، ألاّ يَكِلَنا إلى أنفسنا، ولا إلى عملنا، طرفةَ عينٍ ولا أدنى من ذلك، وأن يكونَ معنا بالهُدَى والسداد، والعونِ والتوفيق.

وإنّنا لندعو كلَّ مسلمٍ مخلصٍ جادٍّ إلى الانضمام إلينا، أو التعاون معنا، كما ندعو سائرَ المسلمينَ، على مختلفِ درجاتٍ التزامهم، وارتباطِهم بإسلامهم، إلى أن يكونوا -كلٌّ منهم بما يستطيع- دِرْعاً وعَوْناً للطلائع الإسلاميّة، التي تشقُّ لهم الطريقَ الصعب، إلى الغايةِ والأهداف، وتفتحُ لهم بجهدِها وصبرِها وتضحيتِها المستمرّةِ الخالصةِ طريقَ الأملِ والمستقبل، طريقَ الحريّة والكرامةِ والنصر، طريقَ الجنّةِ ومرضاةِ الله عزَّ وجلَّ.

إنّنا، ونحن ماضونَ في طريقِنا المتميّزِ الواضحِ لا نتوقَّفُ ولا نتردَّد، لَنمدُّ أيْدِيَ الأخوّةِ والمحبّةِ والتعاونِ، إلى سائر العاملين للإسلام، جماعاتٍ وأفرادا.. فعلى طريقِ الإسلامِ العظيم، طريقِ الجهادِ في سبيل الله عزَّ وجلَّ، تتلاقى الجهودُ المخلصةُ الواعية، وتتناسقُ وتتكاملُ، ليكونَ النصرُ الموعودُ إن شاء الله.