مواقف إيمانية على طريق الدعوة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مواقف إيمانية على طريق الدعوة

بقلم:أحمد عيد

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

الإيمان هو القضية – الإيمان هو الحياة – الإيمان هو كل شئ للإنسان به يعلو ويسمو, وتنفجر فيه طاقات الخير , إذا به فى المواقف المختلفة يتصرف من منطلق إيمانه تصرفات يستغربها منه الكثير من الناس وكأنها أمور خارقة لا تصدر عن بشر . ولا لم ؟ فإن الإيمان يرتفع بصاحبه من جواذب الأرض وعوالقها وصوار فها فيتحرك بانطلاق وحرية دون قيود أرضية أو مادية.

ولا ننسي أن المؤمن يعمل ويتحرك ويتصرف بنور الإيمان وتسديد الله له وتوفيقه إياه لهذا نجد مواقفه ربانية سامية .

وفى السيرة النبوية العطرة وتاريخ الخلفاء الراشدين مواقف إيمانية للرسول صلى الله عليه وسلم ولكثير من الصحابة رضوان الله عليهم كلما قرأها المسلم زادته إيمانا واقتداء ورأي نموذجا عمليا فى حياة البشر.

بالإضافة إلى أن ذكر هذه المواقف الإيمانية وسردها كما حدثت بالأسلوب القصصي يدفع الكثير إلى قراءتها دون ملل وفى طلب للاستزادة , وبكثير من التأثر والاستفادة والأخذ به فى نظام الحياة , وأمنوا أنه لا خلاص لهذه الأمة من حيرتها إلا أن تسلك هذا الطريق .

والإيمان فى حياة البشر يصنع الأعاجيب ويجعلهم ينطلقون على أمر الله ويسيرون فى طريقه المستقيم وصراطه الذي مهده لهم مستقيما وأمرهم أن يتبعوه .

ومضت الدعوة وامتدت فى الناس والتاريخ وصنعت كثيرا من المواقف وأظهر رجالها كثيرا من الأساليب التي دلت على الإيمان الصادق , وعلى صلتهم القوية بالله سبحانه وبأخلاق القرآن والتأسي برسول الله لى الله عليه وسلم والاقتداء بصحابته الأبرار.

ونحن اليوم إذ نقدم إلى القراء بعد هذه النماذج تحت عنوان : ( مواقف إيمانية على طريق الدعوة ) ليس لنا من هدف إلا أن يتأسي بها الجيل الحاضر والأجيال القادمة وأملنا أن يتدارسوا هذه الواقف جيدا ويكونوا معها الجنود التي تحمل الرسالة , وتمضي بالأمانة حتي يتحقق وعد الحق تبارك وتعالي فى نصره للمؤمنين.

وقد بدأت الفكرة فى تجميع هذه المواقف فى ذهن الأخ المجاهد الأستاذ ( مصطفى مشهور) ففي لقاء معه أطلعني على قصاصة بها أرقام لصفحات من _ مذكرات الدعوة والداعية) وطلب مني الرجوع إليها , ودراستها لإبراز تلك المواقف وحين , وحين عدت إليها كان ذلك فاتحة الخير الذي نضعه الآن أمام القراء ونجمعه لهم من هنا وهناك , مما كتب عن تاريخ الجماعة فى كثير من الكتب وذكر لنضالها المشرق المجيد الذي رسمه ( حسن البنا) وأسسه بنيانا قويا يؤتي ثماره إن شاء الله .

وليعلم جيلنا الحاضر أن الإمام الشهيد ( حسن البنا ) الذي آتاه الله من العلم والحكمة ما بهر به فى زمانه عقول الكبار من العلماء حتي طلبوا منه أن يؤلف كتبا يودعها هذه المعارك النادرة والإسلام الحي ,وتاريخه المشرق , وتطبيقاته التي كان يحدث بها الناس فيندهشون لها فكان رده عليهم :

إنني لا أؤلف كتبا يكون مصيرها تزيين الرفوف وأحشاء المكتبات وإنما مهمتي أن أؤلف رجالا , يقيمون فى نفوسهم الإسلام , وأقذف بالرجل منهم فى بلد , فيحييه, ويكون الرجل منهم كتابا حيا ينتقل إلى الناس , ويقتحم عليهم عقولهم , وقلوبهم ويبثهم كل ما في قلبه , ونفسه وعقله , ويؤلف منهم رجالا كما ألف هو من قبل .

هذا الرجل الذي ربي الشباب الغض , على اسمي المعاني الإنسانية وأجلها من إيمان وإيثار وتضحيات .

لم تكن تربية عقيمة يقف بها عند حدود تطهير النفس وتزكية الروح ثم الاعتزال عن المجتمع والتفاني فى العبادة بل كان يربيهم هذه التربية ثم يلقي بهم فى خضم المجتمعات باعتبار أ،هم كنوز يستثمرها المجتمع فى إصلاح ما فسد منه وإعادة ما انهار من بنيانه .

ولقد كان الأستاذ الإمام الشهيد هو نفسه أقدر الناس على استثمار هذه الكنوز وأبرعهم فى الإفادة منها وأبصرهم بمكان اللالئ والدرر فيها , ,أكثرهم خبرة وتمكنا من يد كل ثغرة من ثغرات العالم الإسلامي بما يناسبها فى ذلك الحين من هذه اللآلئ وتلك الدرر.

وأما أمر جهاد الإخوان المسلمين وقتالهم على أرض فلسطين واستشهاد المئات منهم والبراعة فى تلك الحرب وفى إنقاذ الجيش المصري وغيره من الجيوش العربي التي أخذت تتراجع أمام عصابات الصهيونية والبغي وثبت متطوعو الإخوان المسلمين وحدهم فى الميادين التي كانت تدور فيها هذه الحرب عام 1948 حتي كان جزاؤهم الزج بهم فى المعتقلات التي صنعوها لهم بين يوم وليلة من الأسلاك الشائكة وسط هذه الميادين ثم تل هذا الأمر مالم يعد خافيا على أحد من مصادرة الجماعة , والوقوف فى طريقها وقتل رائدها , حتي لا تمضي تربية الأجيال فى هذا الطريق ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

واليوم نضع بين يدي القراء الكتاب الأول من هذه المواقف ونعدهم إن شاء الله إن كان فى العمر بقية : أن تتري هذه الكتيبات فيجدون فيها ما سطر فى الكتب وما جمع من أفواه الذين عاصروا تلك الأحداث إن شاء الله والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .

تحريرا فى شوال 1407هـ

أحمد عيد

مثل طيب

,اذكر أنه كان من عادتنا أن نخرج فى ذكري مولد الرسول صلى الله عليه وسلم بالموكب بعد " الحضرة" كل ليلة من أول ربيع الأول إلى الثاني عشر منه من منزل أحد الإخوان وتصادف أننا فى إحدي الليالي كان الدور على أخينا الشيخ ( شلبي الرجال) فذهبنا إلى العادة بعد العشاء فوجدنا البيت نيرا نظيفا مجهزا , ووزع الشربات والقهوة والقرفة على مجري العادة.

وخرجنا بالموكب ونحن ننشد القصائد المعتادة فى سرور كامل وفرح تام وبعد العودة جلسنا مع الشيخ ( شلبي ) قليلا وأردنا الانصراف فإذا هو يقول فى ابتسامة رقيقة لطيفة إن شاء الله غدا تزوروني مبكرين لندفن( روحية) وروحية هذه وحيدته وقد رزقه الله إياها بعد إحدي عشرة سنة من زواجه تقريبا , وكان بها شغفا مولعا, وما كان يفارقها حتي فى عمله , وقد شبت وترعرعت واسماها ( روحية) لأنها كانت تحمل من نفسه منزلة الروح فاستغربنا وسألناه: ومتي توفيت ؟ فقال : اليوم قبيل المغرب , فقلنا : ولماذا لم تخبرنا فنخرج من منزل آخر بالموكب ؟ فقال : وما الذي حدث ؟ لقد خفف عنا الحزن وانقلب المأتم فرحا , فهل تريدون نعمة من الله أكثر من هذه النعمة ؟ وانقلب الحديث إلى درس تصوف يلقيه الشيخ ( شلبي الرجال) ويعلل وفاة كريمته بغيرة الله على قلبه , فإن الله يغار على قلوب عباده الصالحين أن تتعلق بغيره أو تنصرف إلى سواه واستشهد بإبراهيم عليه السلام وقد تعلق قلبه بإسماعيل فأمره الله بذبحه ويعقوب عليه السلام إذ تعلق قلبه بيوسف فأشاعه الله منه عدة سنوات .

ولهذا يجب أن لا تتعلق قلب العبد بغير الله تبارك وتعالي وإلا كان كذابا فى دعوي المحبة .

وساق قصة الفضيل بن عياض , وقد أمسك بيد ابنته الصغري فقبلها .

فقالت له : يا أبتاه أتحبني ؟

فقال : نعم يا بنية.

فقالت : والله ما كنت أظنك كذابا قبل اليوم .

فقال وكيف ذلك ؟ وكم كذبت؟

فقالت : لقد ظننت أنك بحالك هذه مع الله , لا تحب معه أحدا , فبكي الرجل وقال : يا مولاي حتي الصغار قد اكتشفوا رياء عبدك الفضيل!!

وهكذا من الأحاديث التي كان الشيخ ( شلبي ) يحاول أن يسري بها عنا , ويصرف مالحقنا من ألم لمصابه وخجل لقضاء هذه الليلة عنده وانصرفنا وعدنا فى الصباح حيث دفنا ( روحية) ولم نسمع صوت نائحة ولم ترتفع حنجرة بكلمة نابية ,ولم نر إلا مظاهر الصبر والتسليم لله العلي الكبير .

ولقد توفيت إحدي كريمات أستاذنا الشيخ ( محمد زهران) رحمه الله فلم يكن منه إلا أن انتهز من المأتم فرصة للوعظ والتدريس طول لياليه الثلاث وللقدوة الحسنة الصالحة فى محاربة منكرات المآتم والقضاء على ما يقوم به الناس فيها من بدع وعادات لا أصل لها .

فى هذا الجو الكريم كنا نعيش .

مدرسة التهذيب

وولدت أول تشكيلة للإخوان المسلمين من هؤلاء الستة حول هذه الفكرة على هذه الصورة وبهذه التسمية.

ثم تشاورنا فى مكان الاجتماع وما نعمل فيه واتفقنا أخيرا على أن نستأجر حجرة متواضعة فى شارع ( فاروق) فى مكتب الشيخ ( علي الشريف) بمبلغ 60 قرشا فى الشهر نضع فيها أدواتنا الخاصة , ونجتمع فيها اجتماعاتنا الخاصة , على أن يكون لنا حق الانتفاع بأدوات المكتب بعد انصراف التلاميذ ابتداء من العصر إلى الليل, ويسمي هذا المكان ( مدرسة التهذيب للإخوان المسلمين) ويكون لنا فيها أوقات للدراسة , ومنهاج الدراسة إسلامية , قوامها تصحيح تلاوة القرآن , بحيث يتلوه الأخ المنتسب إلى هذه المدرسة , وبالتالي إلى الدعوة وفق أحكام التجويد , ثم محاولة حفظ آيات وسور ثم شرح هذه الآيات والسور وتفسيرها تفسيرا مناسبا ثم حفظ بعض الأحاديث وشرحها كذلك , وتصحيح العقائد والعبادات , وتعرف أسرار التشريع , وآداب الإسلام العامة , ودراسة التاريخ الإسلامي وسيرة السلف الصالح والسيرة النبوية بصورة مبسطة تهدف إلى النواحي العملية والروحية وتدريب القادرين على الخطابة والدعوة تدريبا علميا بحفظ ما يستطاع من النظم والنثر ومادة الدعوة وعمليا بتطليفهم التدريس والمحاضرة فى هذا المحيط أولا ثم فى أوسع منه بعد ذلك .

وحول هذا المنهاج ترتب المجموعة الأولي من الإخوان المسلمين الذين بلغوا فى نهاية العام المدرسي 19271928 سبعين أو أكثر قليلا ولم يكن هذا المنهاج التعليمي هو كل شئ .

فقد كانت معاني التربية العملية التي تتفاعل فى أنفسهم بالمخالطة , والتصرفات الواقعية والود والمحبة فيما بينهم , والتعاون الكامل فى شئون حياتهم وتهيؤ نفوسهم لما في ذلك من خير أقوي العوامل فى تكوين هذه الجماعة .

وأذكر أنني دخلت على الأخ ( السيد أبو السعود) رحمه الله تاجر الخردوات فرأيت الأخ( مصطفي يوسف) يشتري منه ( زجاجة عطر) والمشتري يريد أن يدفع 10 قروش ,والبائع يأبي أن يأخذ أكثر من 8 قروش وكلاهما لا يريد أن يتزحزح عن موقفه .

كان لهذا المنظر أعمق الأثر فى نفسي وتدخلت فى الأمر فطلبت فاتورة الشراء فوجدت أن الثمن الأساسي الي اشتري به الأخ ( أبو السعود) رحمه الله الذي يريد أن يبيع به لأخيه ( الدستة 96 قرشا).

فقلت له : يا أخي إذا كنت لا تكسب من صديقك , ولا يشتري منك عدوك فمن أين تعيش ؟

فقال : لا فارق بيني وبين أخي ,ويسرني أن يتقبل مني هذا العمل .

فقلت للأخ ( مصطفي): لماذا لا تقبل رفد لأخيك ؟

فقال : إذا كنت أشتريها من الخارج بهذه العشرة فأخي أولي بهذه الزيادة ولو عرفت أنه يقبل أكثر منها لزدت وبالتدخل انتهيان إلى 9 قروش.

ليس الشأن شأن قرش أو قرشين , ولكنه شأن هذا المعني النفسي الذي لو انتشر بين الناس واستشعروه , واستولي عل أنفسهم لا نحلت المشكلة الفردية والاجتماعية والعالمية ولعاش الناس سعداء آمنين.

علم هؤلاء الإخوان أن أحد إخوانهم متعطل عن العمل فجاء أكثر من عشر منهم كل واحد يهمس فى أذنه على انفراد يعرض كل ما ادخر من مال , ليكون رأسمال يعمل فيه أخوه المتعطل واكتفيت ببعضهم وشكرت الآخرين فانصرفوا وهم آسفون لما فاتهم من المساعدة .

نماذج من تصرفات الرعيل الأول

كان هؤلاء الأخوة مثلا رائعا , ونماذج طيبة من التمسك بأحكام الإسلام الحنيف فى كل تصرفاتهم والتأثر بأخلاقه ومشاعره فيما يصدر عنهم من قول أو عمل سواء أكان ذلك مع أنفسهم أو مع غيرهم من الناس .

استدعي المسيو ( سولنت) باشمهندس القنال , ورئيس قسم ( السكسيون) الأخ ( حافظ) ليصلح له بعض أدوات النجارة فى منزله , وسأله ما يطلب من أجر ؟

فقال : 130 قرشا فقال المسيو ( سولنت) بالعربي: أنت حرامي ! فتمالك الأخ نفسه له بكل هدوء: ولماذا ؟

فقال : لأنك تأخذ أكثر من حقك! فقال له لن آخذ منك شيئا , ومع ذلك فإنك تستطيع أن تسأل أحد المهندسين من مرءوسيك , فإن رأي أنني طلبت أكثر من القدر المناسب فإن عقوبتي أن اقوم بالعمل مجانا , وإن رأي أنني طلبت ما يصح أن أطلب فأسمحك فى الزيادة , واستدعي الرجل فعلا مهندسا وسأله , فقدر أن العمل يستوجب 200 قرش , فعرفه المسيو ( سولنت) وأمر الأخ ( حافظ) أن يبتدئ العمل فقال له : سأفعل , ولكنك أهنتني,فعليك أن تعتذر وأن تسحب كلمتك , فاستشاط الرجل غضبا وغلبه الطابع الفرنسي الحاد ,وأخذته العزة بالإثم وقال : تريد أن أعتذر لك !! ومن أنت ؟ لو كان الملك فؤاد نفسه ما اعتذرت له , فقال له ( حافظ) فى هدوء أيضا : وهذه غلطة أخري يا مسيو ( سولنت) فأنت فى بلد الملك فؤاد نفسه , وكان أدب الضيافة يقتضيك ويفرض عليك أن لا تقول مثل هذا الكلام !! وأنا لا أسمح لك أن تذكر اسمه إلا بكل أدب واحترام , فتركه وأخذ يتمشي فى البهو الفسيح , ويداه فى جيب بنطلونه , ووضع ( حافظ) عدته وجلس على كرسي واتكأ على منضدة وسادت فترة سكوت لا يتخللها إلا وقع أقدام المسيو الثائر الحائر , وبعد قليل تقدم من ( حافظ) وقال له افرض أنني لم أعتذر لك فماذا تفعل ؟ فقال الأمر هين سأكتب تقريرا إلى قنصلكم هنا وإلى سفارتكم أولا ثم إلى مجلس إدارة قناة السويس بباريس , ثم الجرائد الفرنسية المحلية والأجنبية , ثم أترقب كل قادم من أعضاء هذا المجلس, فأشكوك إليه فإذا لم أصل إلى حقي بعد ذلك , استطعت أن أهنيك فى الشارع , وعلى ملأ من الناس , وأكون بذلك قد وصلت إلى ما أريد ولا تنتظر أن أشكوك إلى الحكومة المصرية , التي قيدتموها بسلاسل الامتيازات الأجنبية الظالمة ولكنني لن أهدأ حتي أصل إلى حقي بأي طريق فقال الرجل : يظهر أنني أتكلم مع ( أفكاتو) لا نجار , ألا تعلم أنني كبير المهندسين فى قناة السويس , فكيف تتصور أن أعتذر لك ؟

فقال ( حافظ) وألا تعلم أن قناة السويس فى وطني ل في وطنك؟ وأن مدة استيلائكم عليها مؤقتة وستنتهي ثم تعود إلينا فتكون أنت وأمثالك موظفين عندنا فكيف تتصور أن أدع حقي لك ؟ وانصرف الرجل إلى مشيته الأولي .

وبعد فترة عاد مرة ثانية , وعلى وجهه أمارات التأثر , وطرق كلمتي فقام الأخ ( حافظ) بكل هدوء وقال :

متشكر يا مسيو ( سولنت) وزاول عمله وأتمه.

وبعد الانتهاء أعطاه المسيو (150) قرشا فأخذ منها 130 قرشا ورد له العشرين فقال له : خذها بقشيشا فقال : لا لا حتى لا أخذ أكثر من حقي فأكون ( حرامي) فدهش الرجل , وقال : أنا مستغرب لماذا لا يكون كل صناع أولاد العرب مثلك؟ أنت ( فاميلي محمد) ؟ فقال ( حافظ) يا مسيو ) كل المسلمين ( فاميلي محمد) ولكن الكثير منهم عاشروا الخواجات وقلدوهم ففسدت أخلاقهم فلم يرد الرجل بأكثر من أن مد يده مصافحا قائلا: متشكر كتر خيرك وفيها الإذن بالانصراف .

وكان الأخ ( حسن موسي) يعمل عند الخواجة ( مانيو) ويخرج نموذجا ممتازا من صناديق الراديو , وكان الصندوق حينذاك يتكلف جنيها تقريبا و فجاء أحد الخواجات من أصدقاء ( مانيو) وساوم الأخ ( حسن) على أن يصنع له بعض الصناديق بنصف القيمة , على أن لا يخبر بذلك الخواجة ( مانيو) فيستفيد حق النصف الذي يأخذه , ويستفيد هذا الخواجة النصف الباقي , ,كان ( مانيو) يثق فى الأخ ثقة تامة , وقد أسلم إليه كل ما في الدكان من خامات وأدوات , وأراد صديق ( مانيو) أن يستغل هذه الثقة ولكن الأخ ( حسن) ألقي عليه درسا قاسيا فى الأخلاق وقال له : إن الإسلام وكل دين فى الوجود يحرم الخيانة فكيف بمن وثق فّ هذه الثقة ؟ وإني لأعجب أ، ـ:,، صديقه ومن جنسه ودينه ومع ذلك تفكر فى خيانته وتحاول أن تحملني على مثل ذلك, يا هذا يجب ان تندم على هذا التفكير الخاطئ وثق بأنني سوف لا أخبر الخواجه ( مانيو) بذلك حتي لا أفسد صداقتكما , ولكن بشرط أن تعدني وعدا صادقا بأن لا تعود إلى مثل ذلك.

ولكن هذا الخواجه كان سخيفا فقال له : إذا سأخبر اخواجه ( مانيو) بأنك أنت الذي عرضت على هذا العرض وهو سيصدقني ولا شك أنه يثق فى كلامي كل الثقة , وسيترتب على ذلك إخراجك من العمل ,فقدانك لهذه الثقة والمنزلة التى تتمتع بها عنده , وخير لك أن تتفق معي وتنفذ ما أريد , فغضب الأخ وقال له : أفعل ما تشاء !! وسيكون جزاؤك الخزي إن شاء الله .

ونفذ الرجل وعيده وجاء ( مانيو) يحقق فى الأمر فاكتسحت أضواء الحق ظلمات الباطل , وأخبره الأخ ( حسن) بالأمر ولم يشك الرجل أبدأ فى صدقه , وطرد هذا الصديق الخائن وقطع صلته به وزاد فى راتب الأخ جزاء أمانته .

وهذا الأخ ( عبد العزيز غلام النبي ) الهندي الذي يعمل ترزيا فى المعسكر الإنجليزي تدعوه زوجة أحد كبار الضباط لبعض الأعمال الخارجية بمهنته لتنفرد به فى المنزل وتغريه بكل أنواع المغريات فيعظها وينصح لها ثم يخوفها ويزجرها فتهدد بعكس القضية تاره, وبتصويب المسدس إلى صدره تارة أخري , وهو مع ذلك لا يتزحزح عن موقفه قائلا : إنني أخاف الله رب العالمين , وكم كان جميلا ومضحكا فى وقت واحد أن توهمه فى إصرار أنها قررت قتله وستعتذر عن ذلك بأنه هاجمها فى منزلها وهم بها , وتصويب المسدس إليه , فيغمض الأخ عينيه ويصرخ فى يقين ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) فتفاجئها الصيحة ويسقط المسدس على الأرض ويسقط فى يدها , فلا تري إلا أن تدفعه بكلتا يديها إلى الخارج , حيث ظل يعدو إلى دار الإخوان المسلمين .

وهكذا كان أولئك الإخوان وحوادثهم فى هذه المعاني كثيرة ومن أجل ذلك بارك الله الدعوة التي استنارت بها مثل هذه القلوب وصدق الله العظيم ( ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها , ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون)

دار الإخوان ومسجدهم بالإسماعيلية

وفى إحدي جلسات الإخوان الخاصة دار الحديث حول وجوب تركيز الدعوة فى هذا البلد الأمين وخصوصا والذين يقومون بها من الموظفين وهم عرضة للنقل فى البلاد فاقترح أحد الإخوان بناء دار خاصة بالجماعة وعدل آخر هذا الاقتراح بأن يكون مع الدار مسجد لقلة المساجد فى البلد من جهة ولنضمن مساعدة الجمهور لنا ماديا فى البناء من جهة أخري.

وكان المجتمعون لا يزيدون على العشرين تقريبا وتحمس جميعهم للفكرة وأنا ساكت فقالوا : ماذا تري فى هذا الشأن ؟ فقلت : أما المبدأ فجميل ولكن التنفيذ يحتاج إلى شروط.

أولها إخلاص النية لله , ثم توطيد النفس على المشقة والصبر والمثابرة ثم الكتمان ودوام النشاط وأن نبدأ بأنفسنا فى البذل والتضحية فإذا كنتم صادقين فيما تتحمسون له الآن , فعلامة ذلك أن تكتتبوا أنتم فيما بينكم أولا بخمسين جنيها توزعونها فى هذه الجلسة على أنفسكم ويدفع كل منكم ما يخصه إلى الأخ ( سيد أفندي أبو السعود) فى ظرف أسبوع من هذا التاريخ , ولا تذكروا ذلك لأحد , ولا تتحدثوا عنه حديثا خاصا أو عاما , ثم نجتمع بعد هذا الأسبوع فى مثل هذه الليلة فإذا كنتم قد أكملتم هذا الاكتتاب وحافظتم على الكتمان فثقوا بأن مشروعكم سيتم إن شاء الله . وفى الليلة المحددة اجتمعنا فسلمنا الخ ( سيد أفندي أبو السعود ) رحمه الله خمسين جنيها كاملة , وكان فألا حسنا فى جدية العمل .

نموذج

لاحظت أن الأخ الأسطي ( علي أبو العلا) قد صار يتأخر نحوا من نصف ساعة عن موعد اجتماعنا الليلي المحدد فسألته عن السبب فاعتذر ببعض الأعذار التي لا تستوجب ذلك , وبالبحث علمت وعلم الإخوان أنه قد خصه من الاكتتاب السابق 150 قرشا , ولما لم يكن عنده هذا المبلغ فإنه قد اضطر أن يبيع عجلته ويعود من عمله فى نمرة 6 التي بعد عن البلد 6 كيلو مترات ماشيا ودفع ثمنها مساهمة منه فى اكتتاب دار الإخوان .

وقد كبر الإخوان فى أخيهم هذا الصنيع فاكتتبوا له فى شراء عجلة جديدة قدموها هدية إليه تقديرا لبذله الكريم , وشعوره النبيل.

زيارة شبراخيت وافتتاح شعبتها

عمل الأستاذ الشيخ ( حامد) رحمه الله جاهدا فى ( شبراخيت) فلم تمض على نقله عدة شهور حتي تأسست شعبة ( شبراخيت) وانتهزنا فرصة شهر الله المحرم وحفل الهجرة من هذا العام , فقررنا افتتاح هذه الشعبة وجهزنا نحن إخوان الإسماعيلية سيارة يقودها الأخ العزيز ( حسن أفندي مصطفي ) وشددنا الرحال متوكلين على الله العلي الكبير إلى المحمودية حيث قضينا ليلة مع إخوانها وأصبحنا إلى ( شبراخيت) جميعا وإخوان المحمودية معنا فى سيارة أخري حيث حضرنا حفل افتتاح الشعبة , وعدنا إلى ( الإسماعيلية) فقطعنا المسافة فى نحو عشر ساعات ذهابا ومثلها إيابا بالسير الحثيث.

رعاية الله

وأذكر أننا فى الطريق , وقد وصلنا إلى ( زفتي) حوالي الثانية صباحا , وجدنا أن الكوبري مغلق , فلم يكن بد من أن نمر على قناطر _ دهتورة) فى طريق كثير التعاريج والالتواءات لا يعرفها السائق وليس بها خبيرا وكنا فى العاشر من الشهر العربي والقمر يلقي أضواءه على الماء فيبدو كأنه أرض مستوية وجاوزنا القناطر , أو خيل لنا ذلك , واندفع السائق فى سيره ولم يرعنا إلا وقوفه فجأة وتأملنا نحن على لسان من الأرض ممتد فى الماء يزيد عرضه على عرض عجلات السيارة , ومعني ذلك أننا إذا حاولنا النزول ففي الماء وإذا حاولنا الحركة فقد تنحرف يد السائق شمالا أو يمينا , ولا شئ إلا الماء أيضا , والعجيب أنن مقدم السيارة لم يكن بينه وبين اللسان إلا نصف متر تقريبا .

واضطرب بعض الإخوان وحاول التحرك من موضعه فكان الأمر حازما حازما جازما بعدم الحركة , حتي تهدأ السيارة والأعصاب, ونفكر فيما سيكون وضحكن وقلت لأمين الطعام : أين الشاي المحفوظ عندك ؟ فقال :

ولماذا ؟ فقلت نشرب شايا فقال :

أو تمزح فى هذه الساعة ؟ وكان هذا الأخ (محمد أفندي الجعفري) وكان خفيف الروح عذب الحديث وامتثل الأمر و وأخرج ( الترمس) من جانبه وصب شايا , وأخذنا نشرب ونحن على حافة الموت فعلا , ولكنها رعاية الله وبعد أن هدأنا وهدأ السائق والسيارة, أخذ الأخ ( حسن يوسف) وهو قائدنا وسائقنا وسائقنا الماهر , يتحرك إلى الخلف فى سرعة لا تزيد على بطء السلحفاة , وكله حذر وأعصاب ومضت نصف ساعة تقريبا ونحن على هذه الحال , حتي انتهينا إلى عرض مناسب فى الطريق , واندفعنا إلى الصراط المستقيم , وأنجانا الله من هول هذه اللحظات وكان عجيبا أن تصل إلى ( الإسماعيلية) حوالي السادسة صباحا تقريبا فنري أن السيارة نفد كل ما فيها من زيت ولا ندري بم كانت تسير وهي المصادفة الموفقة أن يوافق نفاد الزيت نهاية الشوط والحمد له على منه وكرمه , وجميل لطفه ( إن ربي لطيف لما يشاء).

زيارة صدقي باشا لسيناء

وصادف فى هذه الأثناء أن اعتزم صدقي باشا وهو رئيس الحكومة حينذاك . زيارة سيناء , وكان طبيعيا أن يمر بالإسماعيلية واهتزت الإدارة لهذا النبأ وأخذت فى الاستعداد لاستقبال رئيس الحكومة وحشد الناس له بالمحطة ليقابلوه , وحضر المحافظ مرة وحضر مأمور الضبط بعد ذلك , وأخذوا يفكرون فيمن يخطب فى هذا الاستقبال ولست أدري أى خبيث دلهم عليّ فقالوا: إن فلانا وهو موظف من موظفي الدولة يخطب له , ودعيت إلى القسم وفاتحني فى هذا مأمور الضبط وهو ( صابر بك طنطاوي) مدير البحيرة الآن مأمور القسم , وآخرون من رجال الإدارة فغضبت لذلك غضبا شديدا وقلت لهم : إنني أكتب لكم استقالتي الآن !

إذا كنتم تظنون أن الموظف أداة تتحرك بإرادة الناس فأنا الذي أقدر قيمة نفسي لا وزارة المعارف , ولا يمكن أبدأ أن أضع نفسي فى هذا الموضع وأنا أعلم تماما أن التعاقد الذي بيني وبين وزارة المعارف لا يلزمني بأكثر من أن أحسن عملي فى التربية والتعليم , وليس فيه نص على الخطابة لرؤساء الحكومات وكلام طويل من هذا القبيل وأمام هذا الإصرار لم يجدوا بدا من انتداب أحد الأعيان للقيام بهذه المهمة .

فى بور سعيد

وفى الإسماعيلية كان الأخ ( أحمد المصري) شابا فى الثامنة عشرة من عمره أو فى السابعة عشرة , وهو من أهل (بور سعيد) وقد أقام بالإسماعيلية مؤقتا لبعض أعماله وظل بها فترة طويلة , وكان خلالها يتردد على دار الإخوان يستمع إلى ما يلقي فيها من دروس وتوجيهات , وما لبث أن بايع وأصبح أخا من أخلص الإخوان وأفقههم فى الدعوة وانتهت مأموريته فى الإسماعيلية وعاد إلى بلده الأصلية ( بور سعيد) فحمل معه دعوته.

ومثل الدعوة كمثل البذرة الطيبة الحي الكريمة الحياة , أينما غرست أثمرت وصدق الله العظيم ( ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ).

واجتمع على الأخ ( أحمد المصري) نفر من أصدقائه الطيبيين من شباب ( بور سعيد) الأطهار , وتأثروا بالدعوة تأثرا قويا , وكانت شخصية الأخ( أحمد) القوية وإيمانه العميق وكريم بذله وتضحياته فى سبيل الدعوة العامل الأول فى التفاف أصدقائه من الذين آمنوا بالدعوة من حوله فتألفت شعبة من الإخوان و أخذت تتجمع فى إحدي الزوايا أو الخلاوي المنتشرة فى ([[بور سعيد]]) حينذاك عقب صلاة المغرب أو العشاء فتقوي بينهم ويتذاكرون شئون دعوتهم الجديدة وطلب الأخ ( حسن افندي) أن أزورهم فسررت بهذه الدعوة وزرتهم فعلا , وفى هذه الزاوية المتواضعة أخذت البيعة على الرعيل الأول من شباب ([[بور سعيد]]) على الجهاد فى سبيل هذه الدعوة حتي يظهرها الله أو نهلك دونها.

وبدأ للإخوان بعد ذلك أن يتخذوا مكانا خاصا وفعلا نفذوا فكرتهم وأجروا شعبة متواضعة فى شارع ( المينا) كانت هي الدار للإخوان فى ( بور سعيد) .

ولما كانت الاشتراكات التي تجمع من هذا النفر لا تفي بنفقات دار خاصة , وكانت القاعدة المعتمدة المقررة عند الإخوان أن لا يطلبوا من الناس مالا حتي يؤمنوا بالدعوة أولا ويدركون فضل البذل فى سبيلها من تلقاء أنفسهم فهم طلاب قلوب , لا جباة جيوب فإن الإسماعيلية أم الدعوة بالمساهمة فى النفقات وسداد ما لا تفي به اشتراكات إخوان ( بور سعيد) الفضلاء.

وبعد ما استقر بالإخوان المقام , أرادوا أن يظهروا الناس على دعوتهم ويتقدموا بها للجمهور البور سعيدي فانتهزوا فرصة غرة المحرم سنة 1349 فيما أظن , وأعلنوا عن حفل جامع فى سرادق أقاموه أما دارهم الجديدة , خطب فيه رجال الإخوان من الإسماعيلية وبور سعيد , احتفالا بالهجرة المباركة وفى [[بور سعيد]] حب للعلم والعلماء ومبادرة إلى كل دعوة تتصل بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته وذكرياته الكريمة .

ولهذا بادر الناس برغم جهلهم التام بالدعوة والداعين إلى الحضور فكان الحفل رائعا , والحشد عظيما رغم أنها أول حفلات الإخوان .

وحدت يوم الحفل أن اشتدت بي فجأة حالة احتقان فى اللوزتين لم أستطع معها السفر من الإسماعيلية إلى بور سعيد إلا مضجعا من الإعياء وقال لى الدكتور ( محمود بك صادق) رحمه الله وقد كان طبيب المدرسة ورأي هذه الحالة : إذا سافرت اليوم وخطبت الليلة فإنك تكون الجاني على نفسك , ونزلت من القطار إلى دار الإخوان وصليت المغرب فيها من قعود للإعياء وانتابتني بعد الصلاة حالة نفسية عجيبة فقد تصورت سرور الإخوان ال[[بور سعيد]]يين بحفلهم وآمالهم المعلقة عليه ونقودهم التي أنفقوها من قوتهم من أجله , ودعوتهم التي بذلوا كل الجهد فى توجيهها ثم تكون النتيجة اعتذار الخطيب.

تصورت هذه فبكيت بحرارة , وأخذت أناجي الله تبارك وتعالي فى تأثر عميق واستغراق عجيب إلى وقت صلاة العشاء فشعرت بالنشاط ,وصليت العشاء من قيام , وجاء وقت الحفل , وافتتح بالقرآن الكريم , ووقفت للخطابة وبدأت وأنا لا أكاد أسمع نفسي وسرعان ما شعرت بقوة عجيبة وشفاء تام , وصفاء فى الصوت غريب وارتفاع فيه كان يسمعه ممن فى داخله وخارجه , ولم يكن استخدام الميكرفون قد ذاع حينذاك , حتى كدت أحسد نفسي بل حسدتها فعلا, وانتهي الحفل على خير ما يرام , وأظن أن هذه الخطبة قد استغرقت أكثر من ساعتين ومن فضل الله وجميل كرمه أن هذا الاحتقان كان يعود لى كل عام تقريبا ومنذ تلك الليلة وأنا لا أجده والحمد لله رب العالمين إلا أن يكون نتيجة برد شديد أو مجهود عنيف , وكانت تلك فيما أعتقد بركة صدق إخوان ( بور سعيد) فى دعوتهم وكفاءتهم وتفانيهم فى إبلاغها للناس.

ومازالت ([[بور سعيد]]) تتخطي بالدعوة من تقدم إلى تقدم ومن نصر إلى نصر حتي صار للإخوان بها أربع شعب قوية وملعب رياضي وضمت الدعوة من خيرة شباب هذا الثغر العدد العظيم من المؤمنين الصادقين والمجاهدين العاملين .

الدعوة فى جباسات البلاح

اتصل بعض عملاء الجباسات الفضلاء بالإخوان فى ( الإسماعيلية) فنقلوا عنهم الفكرة إلى إخوانهم ودعيت إلى زيارة الجباسات وهناك بايعت الإخوان على الدعوة فكانت هذه البيعة نواة الفكرة فى هذا المكان النائي وبعد قليل طلب العمال إلى الشركة أن تبني لهم مسجدا , إذ كان عددهم أكثر من ثلاثمائة عامل وفعلا استجابت الشركة لمطلبهم , وبني المسجد , وطلبت الشركة من الجماعة بالإسماعيلية انتداب أخ من العلماء يقوم بالإمامة والتدريس فانتدب لهذه المهمة فضيلة الأخ المفضال الأستاذ الشيخ ( محمد فرغلي) المدرس بمعهد حراء حينذاك .

وصل الأستاذ ( فرغلي ) إلى البلاح, وتسلم المسجد وأعد له سكن خاص بجواره ووصل روحه القوى المؤثر بأرواح هؤلاء العمال الطيبين فلم تمض عدة أسابيع وجيزة , حتى ارتفع مستواهم الفكري والنفسي والاجتماعي ارتفاعا عجيبا , وعرفوا سمو وظيفتهم فى الحياة , وقد رأوا فضل إنسانيتهم , فنزع من قلوبهم الخوف والذل والضعف والوهن واعتزوا بالإيمان بالله وبادراك وظيفتهم الإنسانية فى هذه الحياة – خفة الله فى أرضه – فجدوا فى عملهم اقتداء بقول الرسول صلى الله عليه وسلم :" إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه".

ثم عفوا عما ليس لهم فلم تأسرهم المطامع التافهة , ولم تقيدهم الشهوات الحقيرة , وصار احدهم يقف أمام رئيسه عالي الرأس فى أدب شامخ الأنف فى وقار يحدثه فى حجة ومنطق لا يقول ولا يقبل منه كلمة نابية , أو لفظه جافية أو مظهرا من مظاهر التحقير والاستصغار كما كان شأنهم من قبل وتجمعوا على الإخوة واتحدوا على الحب والجد والأمانة .

ويظهر أن هذه السياسة لم تعجب الرؤساء وقرروا أنه إذا استمر الحال على ذلك ستكون السلطة كلها لهذا الشيخ , ولأن يستطيع احد بعد ذلك أن يكبح جماحه وجماح العمال .

ظن الرؤساء هذا فى الشركة , وفكروا فى إقصاء هذا الشيخ القوي الشكيمة عن العمل , وأرسل إليه الرئيس المباشر فلما توجه إليه قال له : إن المدير أخبرني بأ، الشركة قد استغنت عن خدماتك وأنها تفكر فى انتداب أ؛د العمال للقيام بعملكم فى المسجد وهذا حسابكم إلى اليوم حسب أمر المدير.

فكان جواب الشيخ له بكل هدوء : ما كنت أظن يا مسيو ( فرانسوا) أنني موظف بشركة جباسات البلاح , ولو كنت أ‘لم هذا ما قبلت العمل معها , ولكنني أ‘لم أنني موظف من قبل الإخوان المسلمين بالإسماعيلية وأتقاضي مرتبي منهم محولا عليكم وأنا متقاعد معهم لا معكم على هذا الوضع وأنا لا أقبل منك مرتبا ولا حسابا ولا أترك عملي فى المسجد ولا بالقوة إلا إذا أمرني بذلك رئيس الجمعية التى انتدبتني هنا , وهو أمامكم فى الإسماعيلية فاتفقوا معه كما تريدون واستأذن وانصرف وسقط فى يد إدارة الشركة وصبرت أياما لعل الشيخ يطلب منها مرتبه , ولكنه كان قد اتصل بى فى الإسماعيلية فأوصيته بالتمسك بموقفه , وأن لا يدع مكانه بحال وحجته معقولة ولا شئ لهم عنده .

لجأت الشركة إلى الإدارة , واتصل مديرها المسيو ( مانيو) بمحافظ القناة الذي اتصل بدوره بالمأمور بالإسماعيلية , وأوصاه ان يقوم على رأس قوة لعلاج الموقف وحضر المأمور بقوته وجلس فى مكتب المدير , وأرسل فى طلب الشيخ الذي اعتصم بالمسجد وأجاب : لا حاجة لى عند المأمور , ولا عند المدير وعملي بالمسجد فإذا كان لأحدهما حاجة فليحضر إلى , وعلي هذا فقد حضر المأمور إلى الشيخ وأخذ يطلب منه أن يستجيب لمطالب المدير , ويترك العمل ويعود إلى الإسماعيلية فأجاب بمثل ما تقدم وقال له : تستطيع أن تأتيني من الإسماعيلية بكلمة واحدة فى خطاب فأنصرف ولكنك إذا أردت استخدام القوة فلك أن تفعل ما تشاء, ولكني لن أخرج من هنا إلا جثة لا حراك بها ووصل النبأ إلى العمال و فتركوا العمل فى لحظة واحدة , وأقبلوا متجمهرين صاخبين وخشي المأمور العاقبة فترك الموقف وعاد إلى الإسماعيلية , واتصل بى للتفاهم على الحل ولكنني اعتذرت له بأنني مضطر إلى التفكير فى الأمر , وعقد مجلس إدارة الجمعية للنظر ثم أجيبه بعد ذلك. وفى هذه الأثناء ويؤسفني أن أقول أنني حضرت إلى القاهرة لمقابلة العضو المصري الوحيد فى مجلس إدارة الشركة فوجدت منه كل أ‘رضا عن مصالح العمال وكل انحياز إلى آراء الشركة ومديرها وكل تجرد من أية عاطفة فيها معني الغيرة الوطنية .

قابلت بعد ذلك مدير الشركة وسألته عما ينقمه من فضيلة الشيخ , فلم أجد عنده إلا أنهم يريدون شخصا يستسلم لمطالبهم وكان من كلامه كلمة لا أزال أذكرها إنني صديق للكثير من زعماء المسلمين ولقد قضيت فى الجزائر عشرين سنة , ولكنني لم أجد منهم أحدا كهذا الشيخ الذي ينفذ علينا هنا أحكاما عسكرية كأنه جنرال تماما .

فناقشته فى هذا الكلام وأفهمته أنه مخطئ وأن الشركات هي التي تقسوا على العمال وتنقص من حقوقهم وتستصغر إنسانيتهم , وتبخل عليهم وتقتر فى أجورهم , فى الوقت الذى يتضاعف ربحها ويتكدس إن من الواجب علاج هذه الحال بعلاج نظم الشركات ووجوب قناعتها باليسير من الربح واتفقنا أخيرا على أن يبقي الأستاذ الشيخ ( فرغلي) شهرين حيث هو وأن تقوم الشركة بتكريمه عند انتهاء هذه المدة وأن تطلب رسميا إلى الإخوان من يحل محله من المشايخ ون، تضاعف للشيخ الجديد راتبه وتعني بمسكنه ومطالبه.

وفى نهاية المدة عاد فضيلة الأستاذ الشيخ ( فرغلي) وتسلم مكانه فضيلة الأستاذ الشيخ ( شافعي أحمد) واستمرت الدعوة تشق طريقها فى هذه الصحراء ( باسم الله مجريها ومرساها).

مجلة الإخوان الإسبوعية

وقد رأي الإخوان أن رسائل المرشد العام لا تفي بنشر الدعوة وتضمن أخبارها على الوجه الذي يجب أن تصل به إلى الناس عامة فقرروا إصدار مجلة أسبوعية تسمي (جريدة الإخوان المسلمين ) تفاؤلا بأنها ستكون جريدة يومية , وعند محاولة إنقاذ هذا القرار, لم يكن فى خزينة الإخوان بالقاهرة رصيد ما !- ولكنه قرار ولابد أن ينفذ فماذا يصنعون ؟.

هذا هو الأخ الشيخ ( رضوان محمد رضوان) وفى جيبه جنيهان كاملان , وإذا فلنرصدهما وليكونا هما رأس مال هذه المجلة وقد كان . وحملت الجنيهين وذهبت بكل بساطة وإيمان إلى المكتبة السلفية وقد كانت بباب الحقل, خلف محكمة الاستئناف.

هناك تفاهمت مع السيد ( محب الدين الخطيب ) جزاه الله خيرا على كل شئ أن يكون مديرا للمجلة ولكي تطبع بالسلفية , وأن يكون الجنيهان دفعة أولي , وما بقي بعد ذلك فعلي الله , وابتسم الرجل المؤمن المجاهد المحبوب ووافق على ذلك هو الآخر بكل بساطة وإيمان فصدر التصريح , وبدأ الطبع فظهرت جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية العدد الأول بتاريخ الخميس 28 من صفر 1352 وذلك يوافق أواخر شهر مايو 1933 إذ كان التاريخ فى صدر أعدادها قاصرا على الهجري فقط .

واستعد الإخوان بحارة نافح للتغليف والتوزيع والنشر وكانوا يحملونها بأنفسهم يوم صدورها وصبيحته ليوزعوها على المساجد والناس بأيديهم وبرأس المال هذا (جنيهان سلفة ) أنشأت مجلة جوهري ) رحمه الله , ومديرها السيد ( محب أسعد الحكيم) سكرتير الإخوان حينذاك والأستاذ ( عبد الرحمن الساعاتي) نائبها , والأستاذ ( حلمي نور الدين ) وغيرهم.

من ألوان التنظيم المالي للإخوان سهم الدعوة

لا زالت موارد الإخوان وتنظيمهم المالي ومصادر نفقاتهم لغزا أمام كثير من الذين لم يتصلوا بهم ولم يحاول ن يتعرفوا الأمور على وجهها.

وكثير من الناس حين يري هذا النشاط الدائب , والعمل المتواصل والمشروعات الكثيرة والمطبوعات المتوالية والحفلات الضخمة و والإجتماعات الحاشدة , يسأل نفسه من أين للإخوان كل هذا ؟ وكيف يحصلون على المال؟ زمن أى جهة يجلبونه وهم قوم معظمهم إنما يجد ما يكفيه فقط , وليس فيهم كثير من الأغنياء أو الأثرياء وخصوصا إذا كان المتسائل من رجال الأحزاب أو الجماعات التي تنفق الكثير , فى مثل هذا النشاط ولا تجد القليل من البذل فى الأعضاء والأنصار و وقد يذهب الكثير من هؤلاء المتسائلين فى الظن إلى درجة الاتهام بالباطل فيقول : يأخذون من الدول الفلانية أو الهيئة العلانية أو تنفق عليهم هذه الجهة العالية , أو تلك الناحية الخفية , وكل ذلك وهم باطل , وظن فاسد واتهام جرئ, وقول مفتري لن يقوم عليه دليل ولا شبه دليل , والأمر أهون من كل ما يتصور هؤلاء فإن الإيمان إذا سكن القلب ,وملأ الفؤاد وانطوت عليه الجوانج دفع صاحبه دفعا إلى أن يبذل ماله , وكل دمه وكل نفسه فى سبيل عقيدته التي آمن بها , وعاش من أجلها .

وتاريخ العقائد والرسالات والدعوات حافل بهذه الشواهد التي تعتبر من البديهات والإخوان المسلمون ليسوا إلا أبناء دعوة آمنوا بها وأخلصوا لها وتربوا فى أحضانها فهان عليهم أن يبذلوا من قوت أولادهم ومن ضروريات حياتهم فى سبيل دعوتهم وميادين جهادهم .

ولقد وضع القائمون بها نصب أعينهم من أول الأمر حقيقيتين ثابتين التزموها فاستفادوا من تطبيقهما كل الاستفادة .

الأول عدم النظر أو التفكير أو الاعتماد ومحترفي السياسة وتلاميذه المستعمرين وسماسرة الشركات الأجنبية إذ كان فى حساب الدعوة من أول يوم ان هؤلاء جميعا سيكونون من أول المناوئين لها إذ هي فى طريق وهم فى طريق آخر .

ولقد حدث أن احتاجت الدعوة إلى المال فى هذه الثناء بعد أن اتسع نشاطها بعض الشئ فى القاهرة سنة 1357 التى توافق 1938 فتقدم الأستاذ ( عبد الحكيم عابدين) باقتراح فرض سهم الدعوة وعزز اقتراحه بتقرير مطول يصور أدق تصوير واجب الإخوان وروحهم فى البذل وإدراكهم لمطالب دعوتهم .

وقد أقرت اللجنة العامة الاقتراح وخلاصته أن ينزل كل منهم عن خمس إيراده أو عشرة على الأقل للدعوة وتسابق الإخوان إلى التنفيذ مشكورين وحفلت قائمة الرعيل الأول بالكثير من أسماء هؤلاء المتسابقين جزاهم الله خيرا.

نماذج من معسكرات الإخوان المسلمين

معسكر واسطة أسيوط

وفى صيف هذا العام 1358 الموافق 1939 أقام الإخوان معسكرا كشفيا بواسطة أسيوط , على شاطئ البحر كان على نمط معسكر الدخيلة بالإسكندرية الذي سبقت الإشارة إليه من حيث النظام الرياضي والروحي والثقافي , ولكن الذي أريد أن أسجله هو موقف الأخ الصالح الوالد التقي ( الحاج سليمان صالح الحبارون ) شيخ الإخوان (ببني مجد) التابعة لمركز منفلوط ذلك الرجل الذى جاوز السبعين من عمره وأشرف على الثمانين ثم يأبي إلا أن يشترك مع الإخوان فى معسكرهم هذا , ويريد قائد المعسكر أن يميزه بمكان مريح وعمل , فيأتي هذا إلا أن يطلب المساواة التامة بينه وبين كل المشتركين فى هذا المعسكر من الشباب فيؤدي التدريبات كاملة ويقوم بأعمال الدوري تامة من حيث النظافة , والمطبخ , والماء إلى آخره , ويساهم فى دورات الحراسة فى الليل وفى النهار .

ولقد حدثني – رحمه الله – بنفسه أنه فى إحدي دوريات الحراسة قبل ليلة من الليالي , مر يتفقد الخيام وكانت مسماه بأسماء أبطال الصحابة فهذه خيمة ( ابي بكر) وخيمة ( ابي عبيدة) وهذه خيمة ( خالد) وأخري لسعد بن أبي وقاص ) وهكذا فخيل إليه أنه يري أصحاب هذه الخيام داخل خيامهم فأخذته نشوة من الحماسة جعلته يلوح بسيفه فى الهواء ( ولهذا السيف قصة تأتي) ويهتف بكل قوته بصوت غير مسموع حتى لا يوقظ النائمين " الله أكبر ولله الحمد"؟

قال : فما راعني إ أن رأيت نورا موصلا بين سماء المعسكر وأرضه , يجلله ويتغشاه , ذكرني بخيط من النور رأيته مغرب يوم عرفه ممتدا من السماء غلى الصخرات الكبار بجبل الرحمة سنة 1324 هجرية حين أديت فريضة الحج فشغلت لمشاهدته عن الهتاف واستمر لحظات قصار , ثم عاد كل شئ كما كان , وزاولت مهمتي فى إيقاظ الإخوان , للاستعداد لصلاة الفجر ولم أحدث بهذا أحد غيرك لتطمئن على المعسكر ولتعلم أننا والحمد لله على نور من ربنا.

أما قصة السيف فهي أن الحاج ( سليمان) رحمه الله حين قبل بالمعسكر ونودي اسمه بين الجنود فيه قال : اشتهيت أن أ:ون من سكان خيمة ( ابي بكر) ولكن لم أطلب هذا الطلب , حتي لا يقال جندي متمرد يختار لنفسه , ويخالف النظام ولكن سرعان ما فوجئت بالأخ ( يوسف ) قو مندان المعسكر يقول ( الحاج سليمان خيمة أبي بكر) فقلت فى نفسي : هذا أول التوفيق وحمدت الله , وفى توزيع دور الحراسة انتدبني الحكمدار ليخطرني بدوريتي فأخذت أخرج معه , وقلت له : هل يكون حارس بغير سلاح ؟ أين السيف الذي أجاهد به ؟ فابتسم وقال : إنه حاضر وسآمر ل كبه وسرعان ما أمر , فأحضر سيف أثري كان بعض الإخوان قد تبرع به للمعسكر وقدمه إلى ضاحكا فتناولته فرحا مسرورا وتقلدته لساعتي واعتقدت أنه توفيق آخر , وأن عملنا فى هذا المعسكر , سلسلة من التوفيق والحمد لله .

وبهذه الروح كان الإخوان يقيمون معسكراتهم ويزاولون فيها نواحي نشاطهم فرحم الله ( الحاج سليمان) وأفسح له فى جنته آمين.

بركة التوكل على الله

حين حصلت على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية عام 1939 توجهت إلى القاهرة لأبحث عن عمل والتقين بفضيلة المرشد العام فضيلته سألني عن سبب حضوري للقاهرة قلت : لأبحث عن عمل قال : ألم تفكر فى التطوع لمدرسة الصناعات الميكانيكية الحربية ؟ قلت: إن خريجي المدارس الصناعية معفون من خدمة الجيش قال : لكن رسالتنا توجب علينا الخدمة فى هذا الميدان قلت لا مانع ولكن سوف لا أنجح فى الكشف الطبي حيث إن إحدي عيني عليها سحابة مزمنة .

قال : توكل على الله وأنت تنجح

قلت : كيف أنجح فى الكشف الطبي وعيني على هذه الصورة ؟

قال : من أجل هذا قلت لك توكل على الله لأنه لو كانت عينك سليمة كنت رايح تتوكل على عينك.

فهزني هذا المعني هزا عنيفا , وتذوقت له طعما إيمانيا جديدا وتوجهت إلى مدرسة الصناعات الحربية بالعباسية , متوكلا على الله واصطحبنا احد الضباط مع بعض الزملاء إلى المستشفي العسكري وكل أمل وثقة فى النجاح وبعد الكشف الطبي الكامل كنت ضمن من نجح فى الكشف الطبي والتحقت بالمدرسة وأخذت حياتي مسارا جديد لم يكن فى الحسبان .

ولا أنسي أنه حين قامت الحرب العالمية الثانية استعجلت وزارة الحربية تخرجنا لنذهب إلى الميدان فى الصحراء الغربية وكان ( ضرب النار) من مواد الامتحان وذهبت مع زملائي البالغ عددهم حوالي المائة طالب غلى ساحة ضرب النار , وأنا شديد الأسي والأم حيث أخشي أن أرسب فى هذا الامتحان بالنسبة لضعف عيني اليمني ولكن سرعان ما تذكرت كلمة الإمام " توكل على الله وأنت تنجح" وفعلا أشربت روحي هذه العقيدة واستيقنتها وتوجهت إلى تبة ( ضرب النار) بكل ثقة واطمئنان واستعملت عيني الأخري وفى النهاية وقف الصاغ ( حسين أحمد) قائد التبة ليعلن أن الفائز الأول هو ( عباس السيسي ) وكانت مفاجأة للذين يعرفون الحقيقة ولكنها كانت من حقائق صدق التوكل على الله تعالى.

وظلت ( توكل على الله ) حقيقة مشفوعة بهذه الأحداث فى حياتي عقيدة ثابتة تلازمني فى كل المواقف الصعبة التي مرت بي أتذكرها بعمق وثقة وتعطيني الأمل والصبر والثبات.

الكلمة دعوة

كان من أدب الإخوان بالقاهرة إذا أراد أحدهم أن يسافر إلى بلدته استأذن فى ذلك من الأستاذ المرشد – رحمه الله – فضلا عن أنه إذا كانت هناك رسالة أو مهمة تقتضي السرعة كلف بها .

وذات يوم توجه الأخ الحاج( عبد الرازق هويدي ) ليستأذن فى السفر إلى بلدته فلما استفسر منه فضيلة المرشد عن سبب سفره المفاجئ أخبره أن جده مريض ويريد عيادته فدعا له , وأبلغه تمنياته له بالشفاء وتوجه ( الحاج عبد الرازق) إلى بلدته وفى اليوم التالي فوجئت عائلة ( هويدي) بالأستاذ المرشد يحضر لزيارة جدهم الكبير , وكانت مفاجأة أثارت اهتمام العائلة جميعا فأسرعت ترحب بمقدمه وشباب عائلة ( هويدي) له ميول سياسية متباينة فمنهم الوفدي ومنهم السعدي , وحول سرير الجد الكبير درات بعض الأحاديث الخفيفة وقال الجد كلمات ترحيب وشكر الأستاذ, ونوه بفضل الإخوان فى أنهم جعلوا من ( الحاج عبد الرازق) شخصية إسلامية مؤمنة .

فرد الأستاذ المرشد فقال : إنه لا فضل للإخوان فى ذلك فالإخوان والحمد لله يرزقون من كل عائلة كريمة من يمثلهم فى جماعة الإخوان المسلمين ونزلت هذه الكلمات الرقيقة الداعية على قلوب الجميع بردا وسلاما وتذوقوا منها وبها قيمة الدعوة والداعية.

حسن البنا غني بالدعوة

حين ضاقت دار المركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة بالقاهرة , بشتي ألوان النشاط فكر الإخوان فى شراء دار أخري فسيحة تساعد على استيعاب النشاط العام للجماعة وأثناء ذلك لفت أنظار الإخوان " فيلا" كبيرة تقابل دار مركزهم العام ويحيط بها فناء فسيح فى نفس الميدان فعرضوا أمر شرائها على فضيلة المرشد , فأوفدهم ليتفاهموا مع أصحابها فوافق أصحاب ( الفيلا) على بيعها فى حدود عشرة آلاف جنيه .

ولم يكن فى صندوق الإخوان سوي خمسمائة جنيه فقط فكتب الأستاذ المرشد العقد الابتدائي بهذا المبلغ وأشفق مكتب الإرشاد أن لا يستطيع الإخوان سداد باقي المبلغ فطلبوا من فضيلة الأستاذ المرشد عقد اجتماع لمناقشة هذا الموضوع , وفى الاجتماع طمأنهم فضيلته قائلا:

إنني سوف أعلن فى مجلة الإخوان عن شراء دار للجماعة , مع صورة لها على الصفحة الأولي وأطلب من الإخوان التبرع وأتعشم أن يسددوا هذا المبلغ فى الشهر الأول أو الشهر الثاني أو الثالث , فإذا لم يغطوا قيمة المبلغ كله فإني أحفظ من أسماء أكثر الإخوان من عشرين ألفا وسوف أكتب لكل واحد منهم خطابا بالبريد وأطالبه أن يساهم فى شراء الدار بمبلغ جنيه واحد فصمت أعضاء المكتب ولم يعترضوا وكلهم أمل فى أن يوفق الله الإخوان فى هذا المشروع.


ولم تمض الشهور الثلاثة حتي سدد الإخوان المبلغ مع تكاليف التأثيث فضلا عن أن الأخوات المسلمات أرسلن لفضيلة المرشد بعض حليهن وبعض متاعهن كما وصلت للمركز العام تبرعات كثيرة من أنحاء العالم الإسلامي .

وبقيت الأشياء العينية مثل الحلي وخلافه وديعة فى خزينة المركز العام , فلم يقبل الأستاذ المرشد أن يتصرف فيها كرمز على وفاء الإخوان وبذلهم فى سبيل دعوتهم . وفى حديث لمجلة ( مسامرات الجيب) مع فضيلة المرشد سأل مندوب المجلة فضيلته فقال : هل أنت غني ؟ وكان جوابه – رضي الله عنه - نعم أنا غني بهذه القلوب المؤمنة التى تحابت معي فى الله فقال مندوب المجلة , أقصد الناحية المادية ؟ فقال فضيلته : نعم غني والحمد لله فكل أموال الإخوان التي فى جيوبهم ملك للدعوة. قصة البحث

فعلي أرض الواحات فى مطلع الستينات وفى بطن الصحراء البعيدة وبصيفها اللهيب وليل شتائها الزمهرير ومن خلال العذاب المنصب علينا ليلا ونهارا بكل أشكاله الثورية من تجويع وبرد وظلام وتفتيشات لا تنقطع وحرمان من رؤية الأهل سنوات عدة ومعاملة سيئة لا تتوقف من قلوب أقسي من الحجارة.

وفى ظل ما تعيشه أمتنا من صراعات مذهبية وسياسية , كانت تفاعلاتها وراء نفينا إلى هذا المكان السحيق .

فى ظل ذلك كله كانت يد الله الحناية تحيل الظلام نورا , والجوع شبعا وريا والعمل الشاق عبادة وقوة والنار بردا وسلاما والفجر الكاذب فجر صادقا حتي أصبح سجننا باطنه فيه الرحمة وإن كان فى ظاهره العذاب وفى إطلالة لنا على هذا الظاهر الملتهب كنا نري المشاهد المفزعة تضحكنا وتسري عنا .

فهذا ضابط العنبر لا يكاد يلمح منظر الحملة العسكرية التي جردت لتأديبنا وهي تدخل علينا الزنازين بالسلاح , بعد أن أحاطت الأسوار بالمدافع وهو لا يكاد يسمع النداءات وأصوات البروجي تتوالي من كل جانب حتي تصطك أسنانه وترتعد فرائصه وكنا نحن الذين نهون عليه الموقف ولكن بلا جدوي حتي أطلقنا عليه أحمد مرعيش ( من الرعشة) وهذا الحارس الذي دهمته الحملة فوجد نفسه وجها لوجه أمام قائدها مسرعا ليجأر بالنداء فلم تخرج الكلمات من فمه من شدة الرعب وبح صوته وكان المسكين فى حالة يرثي لها وهو يستميت فى المحاولة.

وهذا واعظ السجن الوقور الذي أحضروه خصيصا لإقناعنا نراه من وراء النوافذ مسجي على الأيدي بعد أن أغمي عليه ولم يتحمل رؤية الهول من حوله .

مشاهد لم تتوقف على مدار سنوات خمس كانت هى مادة ضحكنا وسمرنا

شيوعي يسأل

كان ليوم الجمعة فى السجن وضعه المتميز فهو يوم الراحة الأسبوعية من لعمل وفيه يسمح بإخراج ( النظام) أى البطاطين والأبراش لتنظيفها فى الفناء الواقع بين عنبرنا وعنبر الشيوعيين وبجوار عملية التنظيف نظفر بطابور شمس نقضيه فى السير أو في الألعاب الخفيفة حتي تحين صلاة الظهر فتدوي صفارة الدخول إلى الزنازين مباشرة لأنه لا يسمح لنا بصلاة الجمعة باعتبارها مظهرا جماعيا يلزم تفتيشه فى نفوسنا .

وكان هذا الطابور الأسبوعي هو فرصتنا لاسترجاع أحداث الأسبوع والتندر بما جري بيننا وبين رجال الإدارة ,وما قد يكون فيه من جديد فى ندوتنا مع الشيوعيين وهو كثير دائما .

فكان يوم الجمعة موعد تنظيف عام وتنسيق لكل شئ ابتداء من البطاطين والأبراش حتي المواضيع والأفكار.

وكان ليوم الجمعة أيضا سحره الخاص فى حياتنا فهو المحطة الأسبوعية المضيئة التي تقف عندها قطار الزمن الذي يسير بنا وسط الأهوال إلى غاية واضحة فى نفوسنا إحدي الحسنيين النصر أو الشهادة , وكل يوم يمر علينا وسط هذا الجو الاستفزازي المشحون بالتوتر والإرهاب كنا نحمد الله على مروره بسلام, وكانت أسعد لحظاتنا هى ساعة ( التأمين) أى قفل الأبواب أبواب الزنازين فى المساء .

حتي إذا كان يوم الجمعة تضاعفت فرحتنا بمحطة النصر الكبيرة على أحداث أسبوع حافل بالطغيان وبعد لقاءاتنا مع الشيوعيين تضخمت قيمة هذه المحطة المضيئة إذ صارت محطة نصر فكري وعقائدى أيضا .

وكنا ونحن فى بطن عربات قطار الزمن فى أحسن الأحوال النفسية حتي أن الليل كان يحمل على أجنحته ضحكنا وسمرنا إلى فيافي الصحراء المحيطة بنا .

ولم نكن نتكلف هذا الحال, بل كنا على العكس , نوالي التوصيات بالتخفيف من المرح, لما يجلبه علينا فى الصباح من مضاعفات , لأن هدف التكديرات المستمرة, هو جعلنا فى جو نفسي كئيب يشيع اليأس فى نفوسنا , والسخط على مبادئنا , والتنصل من أخوتنا مما ييسر مهمة مساومتنا على حريتنا ويضمن عدم انبعاث مثل حركتنا مستقبلا .

وينفلت الزميل ( فوزي) من طابور عنبر الشيوعيين وينبث فى طابور عنبرنا وفى نفسه سؤال حائر , سأله لأكثر من واحد من الأخوة حتي جاء دوري فيه. ي أخي كسف استطعتم الاحتفاظ بروحكم العالية هذه السنوات الخمس, حتي إننا لنعجب للضحكات المنبعثة من عنبركم بالليل وكأنكم فى حفلة ساهرة , فى الوقت الذى يخيم الصمت على عنبرنا فلا تكاد تغلق أبواب الزنازين حتي يعيش كل منا فى واديه , ولا نجد ما يكون مادة لحديث مشترك طويل صدقني إذا قلت لك : إن صبر كثير منا قد نفد , على مدار هذين العامين اللذان مرا علينا .

لقد أنشدنا فى بدايتهما كل الأناشيد الحماسية حتي مللناها ثم عقدنا الندوات السياسية حتي سئمناها والآن كرهنا حتي الكلام العادي , والأيام تضغط علينا ككابوس ثقيل وأصبحت أخشي على نفسي من الجنون لولا بقية علاقة معكم لفقدت صوابي وأرجو أن تجيبني على سؤالي.

أنت تحيرني يا زميل بسؤالك هذا , لأني كنت أظن إجابته بديهية عندكم ولو لم توافقونا عليها فأنتم معذورون فيما وصل إليه حالكم ونحن طبيعيون فى حياتنا , ومفتاح الإجابة هو قضية الربح والخسارة من يربح يفرح , ومن يخسر يحزن فكل يوم يمر علينا تقتضيه مسئولية الجهاد نعتبره غنما يضاف إلى رصيد حسناتنا أمام الذي سيتولي حسابنا فى دار أخري بعد هذه الدار ويعزينا فى هذا المقام إيماننا بالله واليوم الآخر حتي ينتهي هذا العمر القليل , حيث نعوض عن كل نصب فيه .ويعزينا قول لرسولنا الكريم " مل نعيم دون الجنة حقير وكل بلاء دون النار عافية " وليس معني هذا أننا لا نتألم فنحن بشر ولكن الرجاء فى الله يخفف الألم فلا نصل إلى الصورة التي تمرون بها فهل تراني بهذا قد أجبتك ؟

الزميل : المهم أنكم متصالحون مع أنفسكم .

الجنة تناديني

شهد معسكر الهاكستيب فى أول تكوينه معارك عنيفة بين عواطف الأبوة الحنون وعناء الشباب المؤمن المتشبث بمبادئه ومثله العيلا.

فهذا شاب من الإسكندرية هو الأخ المجاهد ( عبد المنعم سيد) يجزفه هذا التيار العاتي , ويصمم على خوض غمار الحرب , دفاعا عن الإسلام وكرامته فيتفق مع نفر من إخوانه ويغادرون الإسكندرية خفية ويبذلون محاولات متعددة حتي تسجل أسماؤهم فى كشوف المتطوعين ويقبلون على التدريب فى شغف ولذة ويبحث أهلوهم عنهم طويلا ويبعثون فى طلبهم .

ويشهد معسكر الهاكستيب حوارا عجيبا بين بطلنا الصغير ( عبد المنعم) وعمه الذي جاء فى طلبه فعمه يحاول إقناعه بالعودة ويذكره بمستقبله , وحاجة أهله إلى سعيه وكده والفتي يجيب بحدة وتبرم : لا أريد العودة دعوني أؤدي بعض ما علي من دين للإسلام ويتدخل قائد المعسكر فى الأمر ويحاول إقناع الفتي بإتباع نصائح عمه ويحتد الفتي مرة أخري , ثم يصبح : لا...لا ... لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق ..

أجل.. أجل... هكذا فهم الإخوان حقيقة دورهم فى فلسطين جهاد خالص فى سبيل الله , لا سعيا وراء الشهرة , ولا طلبا للمغنم التافه ولكن سعيا وراء عزة الإسلام فإما نالوها وإما سقطوا شهداء دونها .

يئس العم من ابن أخيه , ,أشفق القائد على نفس الفتي المؤمن فلم يرغمه على الخروج , وظل بطلنا ينعم فى معسكره ويمني نفسه باليوم السعيد , حين يقف أما أعداء الله وجها لوجه , ومضي العم مشدوها بما رأي مقتنعا أن شيئا جديدا قد طرأ على شباب اليوم وأن هذا الجيل قد بدأ يتجه اتجاها لا عهد للناس به وليس أعجب من هذا إلا أخ من إخوان القاهرة هو المجاهد ( محمد العيسوي) وقد نجح أبوه بماله من نفوذ فى إبعاده عن المعسكر بعد أن أخذ من القائد وعدا بعدم قبوله من جديد , وعز عليه أن تنهار آماله وتتحطم عل صخور هذه التقاليد البالية فكر وقدر ثم هداه تفكيره إلى وسيلة ناجحة فأخذ يهرب من أهله كل يوم , ويأتي إلى المعسكر حيث يظل الساعات الطوال خارج الأسلاك يراقب حركات التدريب ويحاول تقليدها حتي إذا انتهي اليوم أخذ من زملائه ما يكتبونه من محاضرات عسكرية ورجع إلى بيته يستذكرها بشغف وعناية.

وحين تحركت الكتيبة الأولي للعريش بعد نهاية تدريبها ركب نفس القطار الذي سافرت به بعد أن اشتري على حسابه بعض الملابس العسكرية.

وفؤجئ أفراد الكتيبة وقائدها حين رأوه ينزل إلى المحطة وظل أهله يوالون السعي لإرجاعه, ولكن قائد الكتيبة أصر على بقائه , ورفض كل المساعي التي بذلت لاعادته بعد ما رآه من ثبات إيمانه وصدق عزيمته .

واستمطر معي سحائب الرحمة على المجاهد لكيم ( فتحي الخولي) الذي أخذه أهله من المعسكر قوة واقتدارا , وحبسوه فى غرفة منعزلة فهددهم بالانتحار إن وقفوا فى طريقه ومنعوه من الجهاد وكان دائما يقول لإخوانه :

( إن الجنة تناديني ).

لقد أجاب ( فتحي ) نداء الجنة ’ إذ كان أول شهيد تقدمه الكتيبة ولما يمضي على وصوله إلى فلسطين سوي يومين اثنين .

أمثلة كثيرة لا يحيط بها الحصر ولكن ما ذكرناه يصلح دليلا واضحا على مدي ما وصل إليه الإخوان من نجاح رائع وهم يحشدون هذا الشباب ويربونه فى مدرسة الإسلام الخالدة

بطولات خارقة

لم يكن الإخوان يعلمون عن المستعمرات اليهودية وتحصيناتها أكثر مما عرفته إدارة المخابرات فى الجيوش العربية النظامية فلقد هونت هذه المخابرات من شأن التحصينات اليهودية وقللت من أهميتها حتي لقد قدرت أحداها مدة أقصاها 72 ساعة ليفرغ جيشها من احتلال فلسطين كلها .

حتي سمعنا أحد المسئولين العسكريين فى جيش عربي كبير يقول للوحدات العسكرية الزاحفة : إنها ذاهبة فى نزهة عسكرية إلى ( تل أبيب ) لا أكثر .

ولو وقف الأمر عند حد هذه التصريحات الكلامية لقلنا إنها من باب التشجيع , ورفع الروح لدي الحاربين ولكن الخطط العسكرية والطرق التي نفذت بها والتدابير والأسلحة التى حاربنا بها العدو كلها تدل دلالة واضحة على استهتار بالغ بالعدو وجهل مطبق بخططه وقوته.

كان الإخوان فى الفترة الأولي من الحرب يجهلون المستعمرات اليهودية وطرق تحصينها فظنوا أن فى مقدورهم مهاجمتها واحتلالها رغم ما كانوا يعانون من نقص فى الأسلحة والمعدات ولقد تمت المحاولة ألأولي فى الساعة الثانية من صباح 14 من أبريل سنة 1948 وكان الغرض منها احتلال مستعمرات ( كفار ديروم) المحصنة وهذه المستعمرة وإن كانت صغيرة الحجم إلا أنها كانت مقامة فى وضع بالغ الأهمية لقربها من الحدود المصرية , ولوقوعها على الطريق المواصلات الرئيسي , الذي يربط بين مصر وفلسطين , وكان باستطاعة حراسها أن يراقبوا الداخل والخارج وأن يقطعوا هذا الطريق فى أى وقت يشاءون وهم يختفون خلف أبراجهم المسلحة دون أن يتعرضوا لشئ من الأذي , لذلك كله اهتمت القيادة اليهودية بهذه المستعمرة وبالغت فى تحصينها وإقامة الأبراج الشاهقة حولها ثم زودتها بعدد كبير من نخبة رجال ( الهجاناه) وفرقة ( البالماخ) الفدائية.

هذا وصف موجز لهذا الجيب اليهودي الخطر الذي حاول الإخوان تطهيره واحتلاله ثم تلقوا على يديه درسا قاسيا وكانت هذه المعركة هي نقطة التحول التي غيرت خططهم وصرفتهم عن معاودة الهجوم على المستعمرات دون أن يملكوا المعدات اللازمة لهذا النوع من القتال . هاجم الإخوان المستعمرة فى وقت مبكر من صبيحة اليوم ونجحوا فى المرور خلال حقول الألغام , عبر ممرات أعدوها طوال الأسبوع الذي سبق المعركة واجتازوا عوائق الأسلاك الشائكة كل هذا تم بدقة وسرعة دون أن ينتبه حراس المستعمرة لما يجري حولهم ولم يفيقوا إلا على صوت انفجار هائل أطاح بأحد مراكز الحراسة ثم بدأت المعركة , داخل الخنادق وعلى أبواب الأبراج والدشم وأبدي الإخوان فى هذه المرحلة من ضروب البطولة والفدائية مالا يمكن حصره وتصويره واستطاعه اليهود أن يسدوا الثغرات التي أحدثها المجاهدون فى دفاعات المستعمرة ثم حاصروا القوة الصغيرة التى نجحت فى التسلل إلى أوكارهم ومضوا يحصدونها ببنادقهم ورشاشاتهم وجرحاهم وكان عددهم يربو على العشرين , وانتهت المعركة على هذه الصورة المؤسفة ولكنها ظلت مثلا فريدا للبطولة والتضحية وظل الإخوان طوال فترة الحرب يتذاكرون المثل العليا التي سجلها المجاهدون فيها والتي أعادت للأذهان صورا حية من جهاد الصدر الأول.

فهذا أحدهم وهو المجاهد ( محمد سلطان) من مجاهدي الشرقية يزحف على بطنه حاملا لغما هائلا وهدفه أحد مراكز الحراسة فى المستعمرة ينتبه إليه الحراس وهو على قيد خطوات من هدفه فيطلقون عليه رصاصات تصيبه فى ذراعه وتعجزه عن المضي في زحفه ولكنه يتحامل على نفسه ويزحف بصعوبة والدماء تنزف من جراحه والرصاص يتناثر من حوله , ويظل يجاهد بعناد حتي يقترب من هدفه فيشعل اللغم فينفجر ويدمر مركز الحراسة ويقضي على البطل الفذ ويلاقي ربه شهيدا .

وهذا المجاهد ( عبد الرحمن عبد الخالق) يقود إحدي جماعات الاقتحام فى المعركة ويستمر فى قتاله , الرائع , رغم أوامر الانسحاب التي صدرت إليه فيقول : كيف ننسحب وإخواننا داخل المستعمرة؟

ثم يذكر من معه قول الله تعالي ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ) ويظل يقاتل بشدة حتي تصيبه رصاصة قاتلة فى رأسه لتضع اسمه فى عداد الشهداء الخالدين .

وهذا مجاهد آخر هو ( عمر عبد الرءوف) تصيبه رصاصة فى صدره فتبدو على وجهه ابتسامة مشرقة ويهتف بمن حوله : أترون ما أري؟ ثم يأخذ نفسا طويلا ويقول: هذه هي الجنة إنني أراها وأشم ريحها , ثم يلفظ أنفاسه الطاهرة ليمضي إلى جنة ربه الموعودة .

ولكل شهيد من شهداء هذه المعركة قصة فى البطولة , لا زال إخوانهم الأحياء يرددونها بمزيد من الإعجاب والتقدير.

الاستفادة من الدرس قلنا إن الدرس الذي استخلصه الإخوان من معركة ( ديروم) الأولي أن يشرعوا فى تنظيم حرب عصابات تشمل صحراء النقب كلها . ولقد باشروا تنفيذ هذه الخطة ومضوا يخرجون فى عصابات قوية تدمر شبكات المياه وتنصب الكمائن على طريق المواصلات حتي استطاعوا تدمير عدد كبير من المصفحات والسيارات.

ولق حدث مرة أن قامت قوة منهم بقيادة المجاهد ( حسن عبد الغني ) بتدمير شبكات المياه بين مستعمرتي ( بيري وأتكوما) وأباحت أنابيب المياه لأعراب المنطقة ينتزعونها من الأرض تحت حراستهم حتي نزعت الأنابيب مساحات شاسعة , ثم رابطت فى المنطقة لتمنع العدو من إصلاحها , وصبر اليهود يومين عسي أن تنصرف لشأنها ولكن القوة العنيدة ظلت تواصل تدمير الأنابيب ونزعها والتعرض للمصفحات والقوافل التي تحاول إصلاحها فلم تجد القيادة الإسرائيلية بدا من الدخول فى معركة مباشرة فجمعت عددا كبيرا من المصفحات من جميع المستعمرات وأحاطت القوة الصغيرة من جميع الجهات . وأخذت تقترب منها على أمل أن تظفر بها وثبت الإخوان ثباتا عجيبا , وأوقعوا من اليهود عددا من القتلي قبل أن يبعثوا فى طلب النجدات من معسكراتهم .

وجاءت مصفحات الإخوان وأقامت نطاقا حول مصفحات العدو الذي أسقط فى يده حين رأي نفسه محصورا بين نارين فاضطرا إلى طلب نجدات أخري من المستعمرات القريبة , وامتلأ ميدان المعركة بقوات كبيرة من الجانبين واشتد القتال بين الفريقين شدة لم يسبق لها مثيل حتي يئس العدو من زحزحة الإخوان عن موقفهم فأخذ يطلق سحبا من الدخان ليستر انسحابه , وما كانت أطباق الدخان تنجاب عن ميدان المعركة , حتي سارع الإخوان يجمعون غنائمهم من السلاح ويعودون لتدمير الأنابيب من جديد .

وأيقن اليهود أنه لا قبل لهم بمواجهة هذه القوة المتفانية فى حرب شريفة , فلجأوا إلى أسلحة الغدر والخيانة وحاولوا تسميم آبار يستعملها الإخوان فى منطقة خزاعة حيث كان المجاهد (نجيب جويفل) يرابط فيها بسريته ولكن عين الله المبصرة ويقظة الإخوان مكنتهم من اكتشاف الجريمة قبل وقوعها .

وذلك أنهم لمحوا رجلين يرتديان الملابس العربية , ويتظاهران باستجلاب المياه وكان منظرهما يدعو إلى الريبة , فاقترب منهما الجندي الحارس ومرهما بالوقوف فلاذا بالفرار , فتعقبهما الجندي الحارس وعدد من إخوانه حتي أدركوهما بالتسليم مهددين إياهما بإطلاق النار فرفعا أيديهما بالتسليم وحين اقترب الإخوان منهما انبطحا على الأرض فى سرعة , وقذفا على المهاجمين عددا من القنابل اليدوية وأسرع الإخوان بملاصقة الأرض ثم أطلقوا عليهما النار فأردوهما قتيلين , وبلغت النقمة من الخوان من هذا الغدر أن حملوا الجثتين إلى مستعمرة ( نيريم) وهناك على مقربة من العدو نضحوا الجثتين بالبترول , وأشعلوا فيهما النار على مرأي جيد من المستعمرة , وجن الجنود اليهود وأخذوا يلوحون بأيديهم فى غضب وانفعال و وحين جن الليل , هاجموا مواقع الإخوان فى خزاعة انتقاما لهذا الحادث , ولم يتمكنوا من زحزحة الإخوان أو إبادتهم وإن كانوا قد نجحوا فى قتل أحد المجاهدين الأبرار وذلكم هو المجاهد ( عيسي إسماعيل عيسي ) من إخوان الشرقية الكرام.

وهكذا نجحت الخط الجديدة ولم يعد الإخوان فى حاجة إلى معاودة الهجوم على المستعمرات المحصنة والتعرض لنيرانها وحصونها وذلك لأن اليهود , قد اضطروا إزاء هجمات الإخوان الموفقة على قوافلهم وطرق مواصلاتهم إلى تعيين دوريات ميكانيكية وقوات كثيرة من المشاة لحراسة تلك الطرق والمنشئات وحمايتها أمام تلك الهجمات ولم يكن الإخوان ليضيعوا الفرصة الثمينة فأخذوا يغيرون على هذه القوات المبعثرة فى الصحراء ويرغمونها على القتال إرغاما حتى تحولت تلك المنطقة إلى ساحة حرب قوية , ولم يكن يمر يوم فى تلك الفترة دون أن تنشب معركة عنيفة تنتهي حتما بقتل عدد من جنود الأعداء وتدمير عدد آخر من مركباتهم ومدرعا تهم.

تبة الإخوان المسلمين

فى منتصف شهر أكتوبر كانت الجبهة المصرية مسرحا لعمليات واسعة النطاق , وكانت منطقة ( الفالوجا) فى ذلك الوقت تهاجم بعنف وشدة والمجدل عرضة لغارات جوية مروعة , وفى ذلك الوقت أيضا كانت القيادة الإسرائيلية فى القدس, تحاول تصفية حسابها مع قوات المتطوعين فى ( بيت لحم) وبدأت أ‘مالها بهجوم حاد على ( صور باهر) غير أن هجماتها المتكررة تكسرت تحت تحصينات الإخوان القوية .

فأخذت تدور حول خطوط الدفاع تلتمس أضعف النقط فيها , حتي نجحت يوم 19 من أكتوبر فى اقتحام مرتفع شاهق يعرف ( تبة اليمن) ولمي ضيع اليهود الفرص فأخذوا يحشدون قوات كبيرة ويعدون أنفسهم لوثوب على المرتفعات المجاورة والسيطرة على ( بيت لحم) مما اضطر قيادة ( صور باهر) إلى إرسال قوة كبيرة لتقوم بهجوم مضاد وتستعيد به هذا المرتفع النظر ويدعو إلى الإعجاب هو براعة اليهود وسرعتهم الفائقة فى أعمال التحصين .

فلا تكاد قوتهم تستقر فى موقع من المواقع إلا وتسارع بتحويله إلى قلعة محصنة .

وكان ذلك مما يساعدهم دائما على الاحتفاظ بالمواقع التي تسقط فى أيديهم ويبدو أن هذه الظاهرة ناتجة عما عرف عن المقاتل اليهودي من جبن وضعف فهو يستعيض عن الشجاعة الأصيلة بتحصينات مصطنعة ولا يقوي على مواجهة خصمه فى الدفاع , إلا إذا كان مختفيا خلف أطباق كثيفة من الدشم , والأسلاك الشائكة نجح الإخوان فى الهجوم الذي شنوه وتراجع اليهود بعد مقاومة شديدة وخسائر من الطرفين وكان ضاعف من هذا النجاح أهمية الموقع وخطورته الشديدة لو بقي فى يد اليهود. وها أنذا أنقل نص إشارة رسمية بعثتها قيادة ( بيت لحم) إلى الجهات العسكرية المسئولة بتاريخ 20 من أكتوبر 1949.

"قام العدو بهجوم عنيف على جميع مواقعنا الدفاعية , تحت ستار غلالة شديدة من نيران الأسلحة الأوتوماتيكية , والهاونات وقاذفات الألغام , والمدفعية الثقيلة صدت قواتنا الهجوم تمكن العدو من الاستيلاء على مواقعنا بجبل اليمن.

قامت مجموعة من الإخوان المسلمين بقيادة الملازم ( خالد فوزي) بهجوم مضاد فطردت العدو بعد أن كبدته خسائر فادحة . خسائر ضعيفة وقد أبلغنا مراقبي الهدنة ".

وقد علقت أغلب الجرائد العربية واليهودية على المعركة , وذكرت جهود الإخوان فيها بالإكبار والإعجاب وكتبت جريدة ( الناس) العراقية فى عددها الصادر يوم 7/11 مقالا تحت عنوان ( بسالة متطوعة الإخوان المسلمين ) جاء فيه:

(... وإن اليومين الماضيين امتازا ببسالة منقطعة النظير من متطوعة الإخوان المسلمين فقد استولي اليهود شمال غربي ( بيت لحم) بعد محاولات عديدة على جبل مرتفع يسمي (تبة اليمن) ويشرف على قري ( الولجة) ,( وعين كارم) ,(المالحة) وما جاورها, وأصبحوا يهددون كل المناطق المحيطة بها .

ورأت قيادة الجيش المصري ضرورة تطهيرها فندبت لذلك عددا من متطوعة الإخوان المسلمين فى ( صور باهر) فتقدمت سرية منهم , ولم تمر ساعة , حتي كانت هذه الفرقة قد أجهزة على القوة اليهودية وغنمت ذخيرتها ومتاعها وحررت قرية ( الولجة) وأصبحت تسيطر على منطقة واسعة , وقد أصدرت قيادة الجيش المصري أمرا بتسمية الجبل ( تبة الإخوان المسلمين ) .

وقد استشهد من الإخوان كل من ( مكاوى سليم) من الزقازيق و( السيد محمد قارون) من المنصورة و( إبراهيم عبد الجواد ) من الفيوم , رحمهم الله رحمة واسعة.

جهاد جديد

جمعت الإخوان فى ساحة التدريب بالمعسكر , وقلت لهم : إن الله قد فتح لكم بابا جديدا من الجهاد , وإن الظروف قد ألقت على كواهلهم عبء المحافظة على الجيش وكرامته , وأنه لولا ثقتي فى قوة إيمانهم ورغبتهم فى الكفاح , ما قلت أداء هذه المهمة الشاقة التي أعلم فداحتها وخطرها, ولن أستطيع أن أصور شعور الإخوان وهم يستمعون لهذه الأنباء , كانوا يقبلون فى ابتهاج واضح وكأنهم يدعون إلى حفلة عرس. أو نزهة خلوية لا إلى ميدان قتال فيه من المشقة والخطر ما فيه .

ولقد خرج الإخوان المسئولون فى استكشاف حول المستعمرات , وعاينوا المواقع التي رأوا احتلالها, ثم عاد كل واحد منهم يعد فصيلته يحتل بها مواقعه وكانت مشكلة المشاكل , إقناع أفراد من الإخوان بالتخلف عن فصائلهم والبقاء فى المعسكر .

ولست أسي ما كان من أمر المجاهد الشاب ( عبد الحميد بسيوني خطاب) نجل العالم الجليل الشيخ (بسيوني خطاب) لقد كان هذا الشاب يبكي بكاءا مرا , حين أمره قائد فصيلته بالبقاء ف المعسكر ومازال يبكي ويبعث بالوساطات حتي أشفقت عليه فسمحت له بالخروج وخرج من المعسكر وهو أشد ما يكون فرحا وابتهاجا , ولقد خلص النية للجهاد فاجتباه ربه وأرمه واتخذه شهيدا فى إحدي المعارك المشهورة التي جاءت بعد ذلك.

وأقيمت المواقع الجديد حول المستعمرات , ولم تكن سيارة يهودية تجرؤ على التنقل بين مستعمرة وأخري إذ أقام الإخوان الكمائن على الطرق وملأوا الأرض بالألغام وأخذت دورياتهم المصفحة تجوب الصحراء الواسعة , وتصل فى طوافها حتي مدينة ( بئر السبع) نفسها ولكي أصور أهمية هذه الحركة وأثرها , يمكن أن أقول : إن خمسة عشر سيارة مصفحة ودبابة قد دمرت خلال أسبوع واحد , من بدء العمل عدا أنابيب المياه التي كانت تدمير كل يوم مما اضطر اليهود إلى ملاقاة الإخوان وجها لوجه فنشبت معارك رهيبة سقط فيها بعض الإخوان ولكنها جاءت بأحسن النتائج وأبرك الثمرات .

ولقد ضج اليهود بالشكوي وأبلغوا مراقبي الهدنة احتجاجهم أثر من مرة وعلقت محطة إسرائيل على هذه الحركات وهددت باستئناف القتال ضد الجيش إذا لم تكف عصابات الإخوان عن نشاطها فى هذه المنطقة .

ولقد فكر بعض كبار الضباط فى زيارة تلك المواقع البعيدة الواقعة حول ( وادي الشلالة ) و(تل جمة) و( الرابية) و( الشعوت) وكان يرافقهم أحد الإخوان , يدلهم على الطريق , فلما رأوا أنفسهم يتوغلون فى الصحراء مبتعدين عن خطوط الجيش لأكثر من خمسة عشر كيلوا متر إلى الشرق , وهالهم أن رأوا المستعمرات اليهودية خلفهم داخلهم شئ من الشك والريبة ومال أحدهم على الجند المرافق لهم يسأله : أتراك ضللت الطريق ؟

فلما أخبره أنهم يسيرون فى الطريق الصحيح , قال له : أعتقد أنكم متفقون مع اليهود , وإلا لما جرؤتم على التوغل فى مناطقهم بهذه الصورة الجنونية !

وضحك الأخ المرافق وضحك الضباط جميعا وحين رجعوا إلى معسكراتهم أخذوا يشيدون بما رأوا من بسالة الإخوان وشدة بأسهم .

أحداث قادمة

أما سحب الإخوان من مواقعهم المنيعة والحد من نشاطهم العسكري فكان صدي للإجراءات التمهيدية الشاذة التى اتخذتها الحكومة السعدية قبيل حل جماعة الإخوان فى مصر . وكانت الحكومة كما أبلغت مؤخرا تخشي أن يقوم الإخوان فى فلسطين بحركات انتقاية وهكذا صور لهم الوهم أن هؤلاء الشباب المؤمنون سينقضون على جيشهم وقت ا، كانوا يقذفون بأنفسهم فى لهب المعارك دفاعا عن جيش بلادهم وكرامة أمتهم .

ولقد مر بك أن اللواء ( المواوي) طالب بإرسال عدد كبير من شباب الإخوان , وإرسالهم فورا إلى الميدان , وسافر لهذه الغاية الأستاذ ( محمد فرغلي) رئيس الإخوان المسلمين فى فلسطين , ولقد حدثني الصاغ( محمود لبيب ) وكيل الإخوان, أن ( عبد الرحمن عزام) أمين الجامعة قد استدعاه فى ذلك التاريخ ورجاه أن يعمل على تجنيد هذا العدد لأن خطورة الموقف العسكري تتطلب إرسالهم على وجه السرعة , ومضي الصاغ ( لبيب) فاتصل بشعب الإخوان فى القطر وأمر كل شعبة بتجهيز فرد واحد من أعضائها وإبقائها مستعدا للسفر فى مدة معينة .

ولكن ما أن تناهي النبا إلى مسامع ( النقراشي) حتي هاج وماج , ورفض قبول الفكرة من أساسها ولم يستطع الإخوان تعليل ذلك الرفض حتي جاءت الحوادث القريبة من ذلك لتعلن الحقيقة المرة .

ذلك أن ( النقراشي) كان مشغولا فى ذلك الحين بتنظيم خطة القضاء على جماعة الإخوان ومحوها من الوجود وأعود بالذاكرة قليلا لى الوراء , فأذكر الوقت الذي كان فيه المرشد العام عليه رحمة الله ورضوانه يعد قوة ضخمة للدفاع عن القدس , حيث كان اليهود يشنون هجمات عنيفة على مراكز الجيش الأردني بها مما خشي معه أن يستولي اليهود على المدينة المقدسة وأذكر أن حديثا تليفونيا جري بيني وبين فضيلته وكان يقول لى : إنه يجهز قوات كثيفة ليدخل بها فلسطين وإنه سيعلن الجهاد الديني والتعبئة والشعبية بعد أن فشلت الحكومات وجامعتها .

وكان يسوق لى هذه الأنباء مرددا هذه العبارة :" ما فيش فايدة .. الناس دول مش عاوزين يحاربوا".

وكان فضيلته يرمي من وراء ذلك إلى إثارة الشعور الديني فى العالم الإسلامي ودفع الشعوب الإسلامية والحكومات الإسلامية لعمل شئ ما .

على أن الحركة العسكرية التي أرادها المرشد العام , لم يقدر لها النجاح إذ وقف عناد ( النقراشي ) - الزعيم النزيه – حجر عثرة فى سبيلها استجابة لرغبات الانجليز وتمشيا مع سياستهم التي كان يفزعهم اسم الإخوان وأنباء قتالهم الرائع فى فلسطين.

ولقد سمع ضباط الجيش وجنوده بأنباء هذه الحركات الشعبية التى أرادها المرشد العام وارتاحوا لها وعلقوا عليه كثيرا من الآمال الكبار وكان لجميع يعلمون أن مجيئه كفيل ببعث الروح المعنوية التي سحقتها الهزائم وشد أزر المحاربين الذين فقدوا الثقة فى قادتهم وزعمائهم.

ولم يكن يدور فى خاطر أحد أن هذا الوقت العصيب هو الوقت الذي حدده ( النقراشي) ليركب رأس ويرتكب فيه أبشع حماقة عرفها تاريخ مصر الحديث.

ولم تلبث الأنباء أن جاءت بعد ذلك , بقيام المذبحة الهائلة فسيق زعماء الإخوان إلى المنافي والمعتقلات وكان من بينهم الأستاذ ( محمد فرغلي) الذي ذهب ليستحضر جنودا إلى الميدان !!

حتي ذلك التاريخ لم يكن الإخوان المحاربون يعلمون شيئا عن حقيقة ما يجري فى مصر وعن سر هذه الإجراءات المريبة التي تتبع إزاءهم فى الميدان ولقد أدهشتهم كثيرا إصرار المسئولين العسكريين عل جمعهم فى معسكر والحد من نشاطهم حتي كانت ليلة 7 ن ديسمبر سنة 1948 , حين جاءني اللواء ( البردينى) وكان يشغل منصب قائد ثان للقوات المصرية فى فلسطين وقد حضر غلى المعسكر فى ساعة متأخرة من الليل يصحبه عدد كبير من ضباط أركان الحرب وجنود البوليس الحربي واقتحم حجرتي الخاصة أحد ضباط البوليس الحربي وقال لى:

إن كان وكيل القائد العام موجود بالمعسكر , ويريد أن يراك لأمر هام . فارتديت ملابسي على عجل , وتبعته إلى الخارج فأدهشتني السيارات العسكرية التي ملأت ساحة المعسكر , وأخذت أسائل نفسي عن سر هذه المظاهر دون جدوي , ,أقدمت عليه مسلما ومحييا فانبري( البرديني)) قائلا: أنه يريد التحدث معي على انفراد, فصحبته إلى حجرة المكتب , وجلسنا ومعنا بعض كبار الضباط , وافتتح كلامه قائلا ك طبعا يا فلان كلنا إخوان , وكلنا مسلمون فضلا عن أننا نحارب عدوا مشتركا , ولغاية ولحدة ولا يمكن أن يضرب بعضنا وجوه بعض مهما كانت الدوافع والأسباب ثم أخذ يردد هذه المعاني ويصوغها فى جمل مختلفة وشاركه ضباطه فى تأكيدها .

وكنت فى حيرة شديدة , ولا أفهم معني لهذا الكلام ! فقلت له ألا أرحتني من عناء التفكير وبينت لى الموضوع دون حاجة لهذه المقدمات فلست اشك أننا جميعا إخوان نحارب عدوا مشتركا ولغاية واحدة ,وإلا لما رأيتني هنا فى هذا الميدان .

قال : اسمع يا فلان , أنت رجل عاقل وحيكم وتستطيع أن تزن الأمور بميزانها الصحيح , ولقد أبلغنا أن قرارا سيصدر غدا بحل جمعية الإخوان المسلمين بمصر . والقائد العام بناء على طلب الحكومة يريد منك أن تسلمه جميع الأسلحة خشية أن يركب بعض الإخوان رؤسهم ويقوموا بحركات انتقامية يكون فيها أبلغ الضرر فى هذه المرحلة الخطيرة التي يجتازها الجيش ونرجوا ألا تمانع فى تسليم الأسلحة والمعدات لأمد محدود رغم أننا نثق فى حكمة الإخوان وإيمانهم ونؤمن أيضا أنهم لن يقدموا على عمل ينجم عنه الضرر مهما كانت الأسباب فقلت: إن مسألة حل جمعية الإخوان مسألة نتوقعها بين يوم وآخر ,ولسنا نعجب لوقوعها مادام الانجليز وصنائعهم يحكمون هذه البلاد , ثم إننا نؤمن أن هذه الدعوة ليست قابلة لحل , لأنها دعوة الله ودورنا فيها لا يتعدي الإخلاص لها والعمل لتحقيقها كل جهد استطاعته , فإن فعلنا ذلك فقد أدركنا بغيتنا وأدينا واجبنا وحل الإخوان عندنا لا يتعدي نزع اللافتات وإغلاق الأبواب , أما الدعوة فموضعها قلوب الصفوة المؤمنة وهي قلاع منيعة لا يمكن قهرها ولا اقتحامها ولو نصبت الحكومة المشانق فى الطرقات وراجعت سجلات الإخوان المسلمين لتشنق كل صاحب اسم أدرج فيها بلا استثناء فلن تصل إلى ما تريد لأن دعوة الإسلام ستجد حتما من يعمل لها ولو بعد أجيال كثيرة وليست هذه أول مرة يتعرض فيها دعاة الإسلام للمحن والنوازل , فصحائف التاريخ مفعمة بأنباء الطغاة والجبارة الذين وقفوا فى وجوههم وحاربوهم بكل سلاح وكانت النتيجة فى كل مرة أن يمحي لطغاة و وتعفو آثارهم ثم يخرج الإسلام من محنة مرفوع الهامة موفور الكرامة .

هذا كل ما عندي بشأن حل جمعية الإخوان أما خشية الحكومة السعدية من قيام حركات انتقامية فى الميدان فتلك خشية لا موضوع لها فإن إيمان الإخوان ووطنيتهم الصحيحة يمنعانهم من التفكير فى مثل هذه الأعمال ,وأن هؤلاء الشباب الذين باعوا أنفسهم وأهليهم وهجروا الدنيا بمن فيها لن يختموا جهادهم بضرب وجوه المؤمنين من إخوانهم وزملائهم.

ثم إننا لو فكرنا فى الانتقام من مرتكبي هذا الجرم ومقترفيه لما فكرنا فى الجيش مطلقا لأننا نعلم أن الجرم كله يتركز فى قلة تافهة من الحكام والكبراء , وهم وحدهم سيتحملون التبعة أمام الله وأمام الناس وسيأتي ينزلون فيها من عليائهم ليحاسبوا على كل صغيرة وكبيرة .

أما دعوتنا فستظل كما هي كالطود الراسخ لا تزيدها المحن إلا قوة وصلابة , وعلى هذا فتسليم الأسلحة والمعدات يعتبر أمرا لا لزوم له ومن واجب القائد العام ألا يفكر فيه إطلاقا , وعليه أن يبلغ المسئولين رأيه الصريح , وأن يتحمل التبعة , وهو رجل شجاع وجريء لا تهمه المسئوليات والتبعات , وأرجو أن يعلم أن هذه الأسلحة ليست ملكا للحكومة ولا للجيش , ولكنها ملك لأفراد هذا المعسكر الذين اشتروها بمالهم الخاص , ومنهم من باع ملابسه وحلي زوجته لشرائها ولن يستطيع إنسان كائن من كان أن يقنعه بتسليمها والوقوف بدونها.

كنت أقول هذا الكلام , وقد بلغ مني الغضب منتهاه , وأخذ الرجل يحاول إقناعي دون جدوي , وأخيرا اتفقنا على كتمان هذا الأمر , حتي أقابل القائد العام فى الصباح بمركز رئاسته فى (رفح) ومضي ( البرديني) وصحبه وبقيت وحدي فترة من الزمن ثم غادرت المكتب , وقد عولت على كتمان هذا الأمر حتي يمكن معالجته بحكمة ولباقة وهناك على باب الحجرة , وجدت جمعا كثيرا من الإخوان ينتظرني وقد دهشوا لهذه المظاهرة العسكرية التى اقتحمت المعسكر بسياراتها , وبوليسها , وكان كل واحد منهم يبدي سببا من السباب , وتكهن بالأحداث الجسام التي لابد أن تكون قد وقعت او علي وشك الوقوع ودلفت غلى الغرفة بعد أن طمأنتهم بكلمات مختلفة وبينت لهم أسباب وهمية عن معارك وشيكة الوقوع وأن هؤلاء الضباط جاءوا ليبينوا لى دور الإخوان فيها.

فانصرف الإخوان كل إلى موضعه ولم يبق إلا عدد قليل دخلوا معي إلى حجرة وأذكر أنني قمت لأصلي العشاء ووجدت نفسي بلا إرادة أقرأ سورة البروج فلما وصلت إلى قوله تعالي : ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) إلى آخر الآية لم أتمالك نفسي فبكيت.

وكان الإخوان المحيطون بي قد فهموا كل شئ فما كدت انتهي من الصلاة حتي كانوا جميعا يبكون , وبادرني أحدهم , وهو الأخ (سيد عيد يوسف) بقوله : هل حلت الإخوان فى مصر ؟ فقلت له : نعم وطلبت ن يكتموا هذا الأمر , حتي نتبين عواقبه , وخرج الإخوان , وبقيت وحدي فى غرفتي ولم يغمض لى جفن طوال تلك الليلة.

كان مفروضا أن أذهب فى الصباح الباكر لمقابلة القائد العام حيث ثبت له أمر الإخوان عقب هذه الحوادث فصليت الصبح ثم ركبت سيارة المعسكر ,وتوجهت إلى قرية ( رفح) حيث القيادة العامة , وكنت أفكر طوال الطريق فيما عسي أن يحدث لو أصر ([[فؤاد صادق]]) على رأيه فى تجريد الإخوان من سلاحهم وكنت أعلم سلفا أن الإخوان لن يقبلوا تنفيذ هذا الأمر بسهولة ولن يلقوا أسلحتهم بهذه الصورة المزرية .

وظللت أقلب المر على وجوهه كلها فلم أجد إلا وسيلة واحدة تريحنا من هذا العناء هي أن يقتنع القائد العام بما أقوله, ويدع الأمور تجري فى مجراها الطبيعي حتي دخلت رفح , وكان الضباط يقبلون على مرحبين وكانوا جميعا ناقمين على هذه الأوضاع ولم يخف احد منهم استنكاره لهذا الإجراء الظالم الذي استهدفت له أكبر هيئة شعبية فى مصر على أنهم كانوا مجمعين على أن جماعة جماعة الإخوان لم تحل , ولكن الأحزاب الحاكمة هي التي حلت نفسها بنفسها حين أقدمت على هذه الخطوة الطائشة.

ثم التقيت بكبار المسئولين فى الرئاسة وقال لى القائمقام (إبراهيم سيف الدين) وكان أركان حرب القائد العام ومساعده الأيمن ومن خيرة الضباط الذين عرفناهم فى الميدان قال لى : إن القائد العام قد فكر كثيرا فى الأمر , وتحدث مع المسئولين فى القاهرة وأغلب الظن أنهم قد تركوا له معالجة الأمر بالصورة التي يراها.

وبعد لحظات دعيت لمقابلة القائد العام , فقابلني الرجل بوجه باسم ورحب بي ثم عرج على حوادث القاهرة فقال إنه يرجو أن لا يتأثر الإخوان بما يجري هناك وأن يركزوا جهدهم فى المهمة العظمي التي يقومون بها فى سبيل الله والوطن , واستطرد يقول : إنه قد فكر كثيرا فى الأمر , فأستقر رأيه على معالجته بالحكمة والحسني, وإنه سيترك للإخوان الخيرة فى أمرهم ووعليهم اختيار الأوضاع التي يرتاحون إليها , فإن رأوا – كلهم أو بعضهم – مغادرة الميدان والذهاب إلى بلادهم لشاركوا إخوانهم فى محنتهم فسوف يسهل لهم أمر العودة , وإن رأوا أن يستمروا مع زملائهم حتي تستقر الحالة العسكرية على وضع من الأوضاع فيسظلون فى أماكنهم دون أدني تغيير فى أوضاعه ونظمهم.

على أنه يرجو أن يتدبر الإخوان الأمر وأن يعلموا أن الجيش فى حاجة ماسة إلى مجهودهم ولا يليق بهم التخلي عنه وهو على هذه الحالة ثم طلب إلىّ أن أجمعهم فى موعد معين , حتي يذهب إليهم ويتحدث معهم كعادته فوعدته خيرا , وخرجت وقد زال عن صدري هم ثقيل واختفي من أمام ناظري شبح أزمة مخيفة كنت احسب لها ألف حساب ولما عدت إلى المعسكر وجدت أنباء القرار المشئوم قد سبقتني إليه عن طريق الصحف , وأجهزة ( الراديو) ورأيت الإخوان يتجمعون فى حلقات كثيرة ويتناقشون فى أمر هذا القرار , وقد علت وجوههم علامات الغيظ والخنق , فطلبت منهم الانصراف إلى أعمالهم ثم عقدت اجتماعا عاما , حضره قواد السرايا وضباط الفصائل , وشرحت لهم ما دار بيني وبين قيادة الجيش وطلبت منهم بحث الموقف ,واتخاذ قرارات بشأنه .

فتداولوا الرأي بينهم ثم قرروا مفاتحة الإخوان فى الأمر وعقد اجتماع عام حتي يمكن معرفة رأيهم جميعا واتخاذ قرار موحد على أساس من الرغبة والاختيار .

جمعنا الإخوان فى مسجد المعسكر وتحدثت إليهم طويلا فى هذا القرار الأحمق وبينت لهم حقيقة ما دار بشأن تسليم الأسلحة والمعدات وما تم التفاهم عليه ثم خيرتهم بين الاستمرار فى القتال أو الانسحاب إلى مصر وطلبت منهم الإدلاء بآرائهم الصريحة دون ضغط أو إكراه , ثم أعقبني الأخ المجاهد( حسن دوح) من قواد المعسكر فحدثهم عن المحن كمرحلة ضرورية فى الدعوات وأنهي كلمته بمطالبتهم باتخاذ قرار موحد نلتزمه جميعا ونتعاون على تنفيذه واستأذن أخ آخر فى الكلام وقال : إن عنده وصفا لهذه المحنة من كلام المرشد العام نفسه وأخذ يقرأ كلمات من سرالة كتبها ألإمام الكريم , قبل ذلك التاريخ بسنوات , وتنبأ فيها بمحن قاسية تعترض الإخوان فيعتقلون , وينقلون , ويشردون , وتصادر حرياتهم وأرزاقهم وتلصق بهم التهم الباطلة ظلما وعدوانا ويتعاون عليهم أ‘داء الإسلام من مستعمرين وحزبيين ولكن الله وعدهم بعد ذلك كله مثوبة العاملين ونصرة المجاهدين وذكر الأخ المتكلم أن الأستاذ الإمام كان يتعجل الحنة ويتعجب من تأخرها ويعتبر وقوعها علامة النصر وبداية الطريق إلى الفور المبين .

وبعد أن انتهي المتكلمون طلبت إلى الإخوان الإدلاء بآرائهم فوجدت إجماعا تاما على ضرورة البقاء ,ومواصلة القتال حتي ينتهي الجيش من مهمته وتعود فلسطين كما كانت دائما أرضا عربية مسلمة.

وفى اليوم التالي حضر اللواء ( فؤاد صادق ) يرافقه جمع كبير من ضباطه وأبدي رغبته فى الجلوس إلى الإخوان والتحدث إليهم بنفسه ولما دخل عليهم حيوه بهتافات الإخوان المعروفة ثم قام الأخ ( حسن دوح) فتحدث نيابة عن الإخوان وبين للقائد إجماع الإخوان على البقاء ومواصلة الجهاد حتى تنتهي الحرب دون أن يتعرض الجيش مطلقا لنظم قيادتهم وتشكيلاتهم وتحدث القائد إلى الإخوان وشكرهم على هذه الروح السمحة الطيبة وابدي استعداده لإجابة مطالبهم كلها .

وهكذا أنحصر تفكير الإخوان فى الجهاد عن فلسطين ووضع مصلحة الجيش والأمة فوق كل اعتبار .

فهل كان هذا الموقف يتنافي مع رأي قيادة الإخوان فى مصر؟ المفروض أن قيادة الإرهاب العليا لن تحارب فى فلسطين ومصر معا!! وتوزع قواتها بين جبهتين !!

والوضع الطبيعي أن تبادر القيادة العليا المذكورة فتسحب قواتها من فلسطين لتواجه بهم هجمات البوليس المصري وتنفذ مؤامراتها الكبري لقلب نظام الحكم فى الدولة وتحقيق المسرحية المثيرة التى ألفها ( عمار ) وأخرجها ( النقراشي وخليفته.

كان هذا هو المفروض فى مثل هذا الموقف , ولكن يظهر أن قيادة الإرهاب لم تكن لها حكمة ( عمار ) ولا ذكاء ( إبراهيم عبد الهادي) فكان ان أرسل المرشد العام خطابا مع احد الإخوان يقول فيه:" إنه لا شأن للمتطوعين بالحوادث التي تجري فى مصر , وما دام فى فلسطين يهودي واحد يقاتل فإن مهمتهم لم تنته ثم يختم الرسالة بوصية طويلة للإخوان بالتزام الهدوء , وحفظ العلاقات الطيبة مع إخوانهم وزملائهم من ضباط الجيش وجنوده .

التدريب على الأسلحة وفنون القتال

لم يؤثر قرار الحل فى سياسة الإخوان فى فلسطين , وظلوا يؤدون واجبهم المقدس فى مجاهدة أعداء الله والإسلام , رغم ما كانت تصلهم من أنباء مثيرة من الإرهاب الحكومي فى أرض الوطن ومما يجدر الإشارة إليه أن اللواء ( فؤاد صادق ) كان قد افتتح بعض المدارس العسكرية فى رفح للتدريب على الأسلحة الصغيرة وفنون القتال وطلب انتساب نفر من الإخوان إليها ليعاد تدريبهم فبعثنا عددا كبيرا من الإخوان ووزعناهم على الفرق المختلفة ولقد كان إقبالهم على الدرس والتدريب ورغبتهم الشديدة فى تعلم أساليب الحرب الحديثة مثار إعجاب الضباط الذين زاملوهم فى الدرس أو اتنصلوا بهم .

ولما انتهت فترة التدريب اقترح القائد العام أن يظل الإخوان فى معسكراتهم ليكونوا قوة ضاربة تكون مستعدة دائما للدخول فى أيه معركة .

ولم يطل الانتظار طويلا إذ نقض اليهود الهدنة فى 23 من ديسمبر , وهاجموا مرتفعا حاكما جنوبي دير البلح يعرف باسم ( التبة 86) وكان نجاحهم فى احتلال هذا الموقع يعني عزل حامية غزة وتمثيل مأساة الفالوجا مرة ثانية .

ولقد تحدث إلى الأميرالاي ( محمود رأفت) قائد قطاع دير البلح بالتليفون فى ساعة متأخرة من ليلة 23 من ديسمبر وأخبرني أن العدو قد نجح فى اختراق خطوطنا الأمامية فى ( دير البلح) وانتزع الموقع من أيدي جنودنا الذين أذهلتهم المفاجأة .

وقواته تتجمع الآن ,وتحاول الوصول إلى طريق المواصلات الرئيس ولكن قوات الجيش تحاول حصره فوق المرتفع حتي الصباح حيث يمكننا أن نقوم بهجمات مضادة , لاسترداده وتطهيره ثم صارحني بأن الموقف جد خطير وأن هذه المعركة سوف يكون لها أثر بالغ فى النتيجة العامة للحرب , وختم حديثه طالبا أن يستعد الإخوان ليكونوا آخر ورقة نقذف بها فى وجه اليهود.

فألقيت السماعة وخرجت من المكتب وكانت أصوات الانفجارات العنيفة تسمع عن بعد فى جبهة القتال , وطلقات الرصاص المضيئ تمزق حجب الليل المظلم وترسم على صفحة السماء خطوطا حمراء متشابكة فأمرت بصفارات الإنذار فأطلقت , ولم تمر دقائق على إطلاقها حتي كان حراس المعسكر قد أخذوا مواضعهم الدفاعية وتجمعت القوات الاحتياطية فى أرض التدريب وكل فصيلة أمامها قائدها ومعها أسلحتها ومعداتها وتحركت مصفحات المعسكر , وسيارته المدرعة وانتظمت فى تشكيلات الاستعداد وأخذ قوادها يمدونها بحاجتها من البترول والماء ثم دعوت الإخوان المسئولين وشرحت لهم الموقف فى إيجاز وطلبت تجهيز سرية للاشتراك فى هذه المعركة , وكانت المشكلة أمامي وأمام الإخوان المسئولين , إقناع بعض الأفراد بالبقاء فكل فصيلة تريد أن يكون لها شرف العمل دون غيرها فلما وقع الاختيار على الفصائل الثلاث هلل أفرادها وكبروا وأخذوا يهتفون من أعماق قلوبهم : " هبي ريح الجنة هبي" ومضوا يعدون أسلحتهم ويستعدون لمنازلة العدو.

وبعد ساعة تحركت السيارات بمن فيها لترابط قريبا من أرض المعركة .

كانت نسمات الفجر تحمل إلى أنوف المحاربين رائحة البارود المحترق مختلطة بأنفاس الشهداء الأبرار , وكانت أشعة الفجر الأولي تتسلل إلى الميدان فتكشف معالمه شيئا فشيئا والغيوم تتكائف وتلقي حمولتها من الماء فوق رءوس المحاربين وكان اليهود فى ذلك الحين لا يزالون فوق المرتفع الذي احتلوه ولا تزال مدافعهم تسيطر لى مساحات شاسعة من الأرض المنبسطة حوله.

ولم تكد الشمس ترسل أول أشعتها حتي صدرت الأوامر لجنود الجيش بالتقدم فانسابوا فى أفواج متلاحقة تريد أن تصل إلى القمة وتطرد العدو الرابض فيها ولكن ارتفاع الموقع وسيطرة أسلحة اليهود على الأرض المحيطة بها كانا يمنعان الجنود من الاقتراب وظلت الحالة هكذا موجات إثر موجات وجرحي كثيرون وشهداء يسقطون دون الهدف وكيف يمكن للحوم آدمية أن تقاوم القنابل والرصاص ؟ والعدو الماكر يربض خلف خنادقه التي أعدها بعناية ويصوب نيرانه منها على لحوم آدمية متراصة؟!!

وبدا جليا للعيان , أن لا أمل مطلقا فى كسب المعركة إلا فى حضور عدد من الدبابات فأرسلوا فى طلبها على عجل وجاءت الدبابات ودفعت إلى المعركة واحدة تلو الأخري فتعطلت منها اثنتان على سفح التل ولم يستطع احد الاقتراب من مواقع العدو .

كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد الظهر والريح لا تزال تدوي بشدة وتسوق أمامها قطعانا من السحب الكثيفة وعواصف المطر الباردة ووقف الضباط يتطعلون إلى السماء يلتمسون العون من الله العلي الكبير , بعد أن جربت كل الأسلحة ووضح جليا أن هذه المعركة قد ماعت وضعف الأمل فى حسمها قبل الليل.

وكان لابد من إلقاء الورقة الأخيرة فطلب الأمير الاي( محمود رأفت) إحضار الإخوان على عجل وما إن سمع الجنود والضباط اسم الإخوان حتي سرت فى نفوسهم روح جديدة من الأمل والثقة وطلب القائد ( على مقلد) قائد الفرسان أن يوفر دباباته ليدفع بها أمام الإخوان وبعد لحظات وصلت جنودنا إلى ميدان المعركة وترجلوا عند مكان أمين لتنظيمهم وإعدادهم , وكانت الخطة تقضي بتقسيم الإخوان إلى ثلاث مجموعات تهاجم اثنتان منها الموقع من الأمام ومن جهة الشمال بينما تدور القوة الثالثة حول الموقع وتهاجم مؤخرته وتمنع تدفق الامدادت عليه وتجذب اهتمام المدافعين إليها وتشغلهم عن القوتين الآخرتين وكان المفروض أن تتقدم الدبابات متجمعة أمام قوة الإخوان تحت ستار نيران المدفعية والأسلحة الرشاشة وتحت غلالة من قنابل الدخان التي كانت تطلقها مدافع الهاون التابعة للإخوان المسلمين وبدأت المعركة على هذا الأساس وانطلق الإخوان إلى أهدافهم وقد علت وجوههم إشراقة الإيمان القوي وكانوا ينشدون فى حماسة نشيدهم المعروف .

هو الحق يحشد أجناده
ويعتد للموقف الفاصل
فصفوا الكتائب آساده
ودكوا به دولة الباطل

وأمسك الضباط والجنود أنفاسهم وهم ينظرون إلى هذا الشباب المؤمن يتواثب فى ثبات وقوة , ولا يثنيه الرصاص والقنابل عن التقدم لملاقاة أعدائه لقد آمن الضباط والجنود أن هناك نتيجتين لا ثالث لهما أن ينتصر هؤلاء الشباب أو يموتوا جميعا لأن الانسحاب والتراجع لا يدخل فى برامجهم إطلاقا وخاصة فى مثل هذا الموقف الحرج الخطير.

وظلت مدافع الإخوان تقذف بقنابل الدخان فترة طويلة حتي أحالت القمة إلى سحابة قاتمة لا تري خلالها غير ألسنة من اللهب الناتج عن انفجارات القنابل وسكتت المدافع وانساب المجاهدون إلى أهدافهم وبدأت معركة الخنادق وروع اليهود حين رأوا الإخوان يلقون بأنفسهم فوقهم فى الخنادق والدشم ويعاركونهم بالقنابل والحراب والأيدي ورغم كثرة الضحايا من الإخوان فإن القوة قد تمنت من احتلال خنادق العدو وأخذت تطهرها جزءا جزءا ولم يجد اليهود بدا من إخلاء الموقع فصمتت مدفعيتهم وأسلحتهم وشوهدت مصافحاتهم تتحرك إلى الخلف حاملة الجرحي والهلكي , وكان هذا المنظر حافزا للجنود اللآخرين ملهبا لحماسهم فأخذوا يتكاثرون على الموقع يوتمون تطهيره حتي جاءت أخيرا الجمالات ( قاذفات اللهب) تطارد فلول العدو المنهزمة وانتهت المعركة بنصر خسائر فادحة دون أن يحصل على نتيجة تذكر ووجد ضمن القتلي عدد من كبار الضباط الإسرائيليي وبينهم قائد المعركة وهو كولونيل روسي يحتل مركزا هاما فى الجيش الإسرائيلي ووجدت فى جيبه تفاصيل الخطة التي اتبعت في ( دير البلح) والخطط المقبلة التى كان يراد منها القاء الجيش المصري فى أعماق البحر.

كانت الشمس قد مالت للمغيب حين انتهت المعركة وأخذ الجنود يحتلون الموقع بعد فرار اليهود منه.

أما جنود الإخوان فقد انسحبوا فى سكون وهدوء بعد أن أخذوا منهم كميات وفيرة من الأسلحة الألمانية والروسية وأكداسا من القنابل والذخائر وكان كبار الضباط يعانقونهم عند خروجهم ويهنئونهم بهذا النصر الحاسم , ويشيدون بجهودهم وفضلهم.

ولقد سقط من الإخوان فى هذه المعركة عدد كبير من الجرحي والشهداء وكان أول الشهداء قائد الفصيلة المرحوم (السيد محمد منصور ) من إخوان الشرقية ومما يروي عن هذا الشهيد المبرور أنه حين أصيب بالضربة القاتلة التف حوله نفر من إخوانه وشغلوا به عن الهجوم, فنهرهم بشدة , وحينما حملوه إلى الخطوط الخلفية أفاق من غيبوبته وسألهم عن سير المعركة فأجابوه بما طمأن نفسه فابتسم وتمتم: الحمد لله ولم يقف لسانه عن الدعاء لحظة : اللهم انصر دعوتنا , وحقق غايتنا حتي لفظ آخر أنفاسه الطاهرة ومضي إلى جنة ربه واسعة ليحمل البشري إلى سكانها :

أن شجرة الإسلام الخالدة قد بدأت تورق من جديد.

أما الشهيد ( حسن العزازي) من إخوان العريش فقد أصيب بجرح فى كتفه وكان فى وسعه أن يعود ولكنه ظل يكافح بصعوبة حتي احتمي بنتوء بارز فى مواجهة العدو , وأخذ يلهب خنادقه برصاص مدفعه الرشاش حتي اسقط منهم عددا كبيرا ما اضطرهم إلى تركيز نيرانهم عليه فأصابته عدة طلقات فى مواضع مختلفة من جسمه فسكت مدفعه وصعدت روحه الطاهرة بعد أ ثأر لنفسه ومتع نظره برؤية الدم الصهيوني المراق.

وقد كان عدد الجرحي كبيرا ومنهم من مات متأثرا بجراحه بعد وصوله للمستشفي ومنهم من عاد فى إرساليات مرضية إلى مصر ثم أكمل علاجه فى معتقلات ( الطور) و( هاكستيب) ولا تظنني أمزح أيها القارئ الكريم فإنني لا أسجل إلا الحق والصدق فإن اثنين من جرحي هذه المعركة وهما الإخوان المجاهدان (عويس عبد الوهاب) و(سيد عيد يوسف) قد نقلا بعد المعركة غلى مستشفيات مصر لمعالجة جراحهما الخطيرة ولكن البوليس السياسي , أشار بنقلهما إلى ( الطور) ولعله خشي انضمامهما إلى الجيش الإرهابي السري فنزعا من المستشفيات وجراحهم لا تزال تنزف دما وألقيا فى أحد العنابر الرطبة دون غذاء أو علاج ولا يزال أحدهما يعاني ألما مرا من رصاصة مستقرة فى بدنه.

جزاء سنمار

فى يوم 14 من فبراير 1949 حضر من الضباط من يخرنا أنه قد تقرر نقلنا إلى مصر حيث نسرح فيها كل واحد إلى بلده ثم وجه إلى الكلام قائلا:

إن على أن أعد المعسكر لتسليمه إلى مندوبي الجيش قبل هذا المساء .

ولم يكد يفرغ من حديثه حتي حضر للمعسكر كثير من ضباط الجيش من مختلف الأسلحة ليباشروا عملية التسليم وأخذوا يحصرون أسلحة الإخوان الخاصة وسياراتهم التى أحضروها معهم أو التي غنموها من العدو خلال فترة الحرب وحين انتهت عملية التسليم جاءت السيارات لنقل الأفراد إلى ( رفح) ولقد قيل لنا :

إننا سنبيت فيها هذه الليلة لنركب القطار فى الصباح.

نزلنا ( رفح) فوجدنا جمعا من الضباط ينتظرنا , وقد أعدو لنا عنبرا كبيرا لنبيت فيه جميعا وفى الصباح قمنا لنصلي الصبح فوجدنا العنبر محاطا بالأسلاك الشائكة وقوات كبيرة من الجيش تحيط به من كل جانب وقد صوبت الأسلحة الرشاشة ومدافع الفيكرز إلى العنبر , وجاء بعض كبار الضباط ليقولوا لنا :

إنه تقرر اعتقالنا فى هذا العنبر حتي تصدر التعليمات الأخري من القاهرة .

فوجئنا بهذا القرار الذي لم يكن أحد يتوقعه ولكننا تحملنا الصدمة بصبر وجلد ولقد أسفت كثيرا حين لاحظت أن الجنود والحراس يبدو عليهم التحفز والحذر الشديد ويجهدون أنفسهم بدوام المراقبة الدقيقة فاقتربت من أحدهم أسأله أنت خايف كده ليه يا بني؟ فقال  :

يا فندم إحنا منعرفش إيه الحكاية هم خوفونا قالوا:

خذوا بالكم منهم قوي لحسن دول كانوا بيخشوا مستعمرات اليهود زي الشياطين و فبعثت فى طلب قائد الحراسة , وقلت له :

أرجوا أن تريح أعصاب هؤلاء الجنود المساكين وأرجو أن تثق أننا نستطيع أن نخرج لو أردنا الخروج , ولكن ثق أننا لن نحاول هذا إطلاقا ونحن نقدر موقفكم ولا ننوي إحراجكم أبدا وأخذ الرجل يعتذر ويوضح موقفه المحرج ولم أكن فى حاجة الى توضيح موقفه فقد كنت أعلم أن أبغض ألأمور إلى نفوس الضباط الجيش هي أن يرونا فى هذا الموقف المؤلم .

وجاء اللواء ( فؤاد صادق) ليزور الإخوان بعد يومين وكان يحاول إخفاء عواطفه المهتاجة وراء ستار من الصرامة غير أن عيناه كانتا تدمعان حين أخذ يجيل بصره فى وجوه أبطال الأمس , ومساجين اليوم وحاول أن يبرر موقفه فقال :

إن الحكومة السعدية طالبته مرارا باعتقالنا وكان يراوغ فى ذلك وإنه كان مضطرا للاحتفاظ بنا فى هذا المعسكر حتي لا نكون عرضة للتشريد إلى أقصي المعتقلات لو أننا نزلنا مصر وقال :

إن فى نيته أن يبذل أقصي ما فى وسعه من جهد لتخفيف شدة الاعتقال , وكان يأمر ضباطه أمامنا بتلبية مطالب الإخوان , واعتبار ذلك موافقة منه على كل ما يطلبون ثم قال فى ختام حديثه: إن الجيش لن يستطيع أن يفي الإخوان حقهم من الاكرام والتمجيد وليس فى وسعه إلا أن يواسيهم فى محنتهم كما وقفوا منه واستبسلوا فى معاونته فى محنته .

مضت حياة المعتقل رتيبة هادئة قطعها الإخوان فى العبادة والدراسة وجعلوا من المعتقل مدرسة يتعلمون فيها ما خفي عنهم من شئون الدين والدنيا , ويعقدون فيه مناظرات يتعرضون فيها لمشكلات العالم الإسلامي ومحاضرات يوضحون فيها الدروس العسكرية المستفادة من أخطاء حملة فلسطين , وكان المعتقل فرصة طيبة لتعرفهم وزيادة الروابط فيما بينهم .

وهكذا شأن المؤمن يحيل المحنة إلى منحة والعذاب إلى سعادة , ولذة والمعتقلات إلى مدارس وجنات ( والمؤمن بخير على كل حال , وإن روحه لتنزع من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل ).

وفى أوائل مايو 1949 وكنا لا نزال فى معتقل رفح العسكري تجمعت قوات يهودية حول غزة, وتوقعت قيادة الجيش أن يشن اليهود هجوما مفاجئا عليها, واختلف المسئولون فى تحديد وضع الإخوان المعتقلين , ولو نشبت المعارك فعلا, ورأوا أن يستطلعوا رأي الإخوان أنفسهم فيما لو طلب إليهم الاشتراك فى الأعمال الدفاعية وتحدث معي كل من البكباشي (عبد الجواد طبالة) قائد القوة الخفيفة والصاغ (جمال الدين خليفة) وكان يقود قوة الحراسة على المعتقل, قالوا لى: إن القيادة تريد أن تعرف رأي الإخوان لو قام اليهود بأعمال عدوانية , وهل فى نيتكم التعاون معنا فى صد هذا الهجوم إن وقع ؟

قلت لهم : قولوا للقائد العام إن الإخوان المسلمين يسعدهم دائما أن يقفوا فى صف الجيش فى محنته , ذلك لأننا نؤمن, أن هذا الجيش ملك الأمة , فلذة كبدها , ونحن أحرص الناس على كرامة هذه الأمة وسمعتها .

فسروا كثيرا بما سمعوا ومضي الصاغ ( خليفة) يكتب تقريره للمسئولين غير أن التجمعات اليهودية لم تلبث أن تلاشت وعادت الحالة كما كانت عليه , ولم تلبث حالة التوتر أن عادت ثانية حين ضرب اليهود خراعة بمدفعيتهم فرأي الجيش إخلاء رفح من المعتقلين ونقلهم إلى مدينة العريش , بعيدا عن الخطوط الأمامية وتم النقل فعلا فى 18 من يونيه وفى العريش نظم الإخوان أنفسهم على أساس إقامة طويلة المدي , وعادوا إلى تنظيم دروسهم ومحاضراتهم حتي كان يوم عيد الفطر حين دوت فى الأرجاء رنة الفرح بوال حكم الإرهاب وقيام وزارة مؤتلفة جعلت مهمتها تصفية المعتقلات .

ولكن هذه الوزارة لم ترفع الظلم بالسرعة التي ترقبها الناس بل أخذت تماطل وتراوغ وتفرج عن المعتقلين آحادا متفرقة رغم الظلم الواضح الذي وقع عليهم دون وجه حق مما جعل الناس يعتقدون أنها لم تقم إلا لدور معين فى مؤامرة القضاء على فكرة الإخوان وإنها لم تكن فى الواقع إلا صمام الأمان الذي استعمل فى وقت بلغ فيه الكبت إلى أقصي مرحلة ولم يبق إلا أن يقع الانفجار فيحطم ويدمر.

أفرج عن المعتقلين وسافر المجاهدون إلى أوطانهم آحادا متفرقة , ولم تنس الحكومة القائمة أن تستقبلهم أسوأ استقبال و فتلقي بهم فى سجون الأقسام , قبل أن تبعث بهم إلى أوطانهم تحت الحراسة الشديدة كما تفعل بالمجرمين وقطاع الطرق وكان هذا هو الجزاء الذي أعدته الحكومة المصرية لاستقبال أول مجاهدين , عرفتهم مصر فى هذا الجيل وواضح أن الحكومة لم تخرج فى كل هذا عن الخطة التي وضعها المستعمر وربائبه لقتل روح التضحية فى الشعب وصرفه عن ميدان الكفاح الجدي , إلى السير فى مواكب الزعامات الخاوية هذا جزاء الحكومة الذي أعدته للمجاهدين .

أما الجزاء الذي أعده الله لهم فهو مسطور عنده ( وعد الله لا يخلف الله وعده ) ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).

النظام الخاص

حين بدأ الإخوان المسلمون حملتهم على الاستعمار البريطاني وجه المرشد الشهيد ( حسن البنا ) جهده لإنشاء تشكيلات سرية من الفدائيين وإعدادها للقيام بأعمال العنف ضد القوات البريطانية وأطلق عليها اسم ( النظام الخاص) وكان يسبق تدريب هؤلاء الرجال وتنظيمهم إعداد روحي كبير يجعلهم دائما على استعداد لبذل أرواحهم متي اقتضت ذلك مصلحة الوطن والدين .

وقد كان جو الكبت المخيم على مصر فى ظل السيطرة البريطانية يفرض على هذه التشكيلات أن تنشط فى الخفاء وتلوذ بالسرية المطلقة وكان الأفراد لا يعرفون بعضهم بعضا إلا فى الحدود كما كان تنظيمهم يجري على أساس ( خلايا) صغيرة لا تعرف إحداها شيئا عن الأخري .

لقد كان معظم الشباب الذين انخرطوا فى معركة قناة السويس التي تؤرخ لها من جنود هذا النظام الخاص الذي تعب حسن البنا فى إنشائه, والسهر عليه , وهو النظام الذي عرفته دعاية الحكومة العسكرية بعد أربع سنوات من هذه الأحداث باسم ( الجهاز السري) وأسرفت فى اتهامه وتشويه مقاصده وكان من الضروري لحركة كحركتنا أن يكون لديها تشكيلات فدائية تتوفر فيها الشروط التي توفرت فى النظام الخاص من دقة التنظيم وروح الفدائية والطاعة التي تجعل صاحبها على استعداد لتنفيذ أى أمر يصدر إليه والتضحية بكل شئ فى سبيل الفكرة السامية التي يعمل من أجلها.

لقد كنا فى غني عن إنشاء هذا التنظيم لأنه كان قائما فعلا كما رأيت قبل ذلك بسنوات وكان صاحب الفكرة فيه هو المرشد الأول ( حسن البنا) ولم يكن من ورائه إلى محاربه الحكومات وقلب أنظمة الحكم , واغتيال الزعماء كما حاولت الدعاية المغرضة أن تصوره وإنما كان هدف الرجل الكبير أولا وأخرا هو إعداد قوة فدائية معدة لقتال الانجليز إذا سنحت فرصة مناسبة ولقد مات ( حسن البنا) قبل معركة القناة ولم يقدر له أن يشهد الدور الذي لعبه تلامذته وهكذا المؤمن العظيم يموت وتبقي آثاره تتفاعل وتختلط مع الناس والأيام نفسها على الحوادث فرضا.

معسكر التدريب

كان هناك المئات من هؤلاء الشباب يقيمون فى مدن الشرقية والقناة وكان هناك غيرهم ينتظمهم الجهاز الخاص ولكن ينقصهم التدريب ولذلك اتجه تفكيرنا من البداية إلى إقامة مراكز لتدريب فى منطقة الشرقية وفى بعض المناطق الداخلية الأخري وكان ل الهدف من هذه المراكز هو إعادة تدريب جميع رجالنا الذين سبق لهم الاشتراك فى حرب فلسطين.

ثم الانتقال بعد ذلك إلى تدريب الشباب الجدد الذين ينضمون إلى قوي الحركة وقد قامت على الأثر عدة مراكز للتدريب كان أهمها فى إقليم الشرقية وقد ساعد وجود بعض الإخوان من ملاك الأراضي الشاسعة على إقامة معسكرات نموذجية , كالمعسكر الذي أقمناه فى مزرعة الحاج (إبراهيم نجم) على مقربة من فاقوس وجلبنا إليه كميات متنوعة من الأسلحة والذخائر وكان المشرفون على تدريب الشباب نخبة من الضباط المتطوعين الذين برزوا خلال حملة فلسطين واكتسبوا خبرة فى التدريب أمثال (محمد علي سليم) و(عبد العزيز علي ) وغيرهم.

وحين اتسع نطاق العمل بعد ذلك أقمنا معسكرات مماثلة فى المناطق القريبة , ولا شك أن موقف الحكومة ساعد كثيرا على نجاح حركة التدريب , ولو أرادت أن تمنع هذه الحركة لفعلت فقد , فقد كان من الأمور المألوفة أن يسمع الفلاحون أصوات القذائف النارية ودوي الانفجاريات تنبعث كل يوم , من أرض التدريب وأن يشاهدوا مئات الشباب يتسلقون الحواجز ويثبون فوق المصارف ولقد كان يحدث أن يشكو بعض الفلاحين إلى مراكز البوليس القريبة وقد علمت ن ضباط البوليس كانوا يبلغون هذه الشكاوي إلى وزارة الداخلية ولكن الوزارة لم تحقق فى أى واحدة منها .

لقد هيأ لنا وجهاء الشرقية وملاك الأراضي فيها فرصة لا تقدر حين منحونا مزارعهم وبيوتهم الريفية لنستغلها للتدريب كما بذلوا لنا وللوطن صنعا كريما حين سمحوا لرجالنا بأخذ الجزء الأكبر مما كانت تدره أراضيهم من البقول والخضروات لتموين هذه المجموعات الكبيرة فوفروا علينا بهذا جهدا كبيرا وأموالا طائلة وهو جهد يجب أن يذكر لهؤلاء المواطنين بالشكر والتقدير ولولا هذه المعونة القيمة, لما استطاعت هذه المراكز التدريبية أن تحقق رسالتها ولما تمكنت من تطعيم الحركة بألوف الشباب الذين مروا خلالها . مؤتمر الإسماعيلية.

لم يكن الغرض من مؤتمر الإسماعيلية الذي توافد إليه مندوبون من كافة الأنحاء كما حضره مندوبون من القيادة المركزية فى القاهرة هو البحث عما إذا كنا سنبدأ القتال ضد الانجليز أملا؟

فإن فكرة القتال ضد الانجليز كانت مقررة قبل ذلك بوقت طويل وال1ذين تابعوا حركة الإخوان المسلمين فى نضالها ضد الانجليز يذكرون ولا شك , أنها بدأت تحاربهم على نطاق ضيق قبل ذلك التاريخ بست سنوات وطالما اغتال إتباعها الجنود البريطانيين فى القاهرة والإسكندرية قبل جلائهم عن مدن القطر وكذلك فى منطقة القناة حين انتقلت الجيوش إليها بمقتضي المعاهدة الملغاة وكان الإخوان يقاتلون الانجليز يعرضون شبابهم للإعدام والسجن حين كانت الحكومات المصرية تجعل من نفسها حامية لأفراد الجيش المحتل.

فكيف إذا ساقت الظروف حكومة مصر القائمة فى ذلك الحين فى صف واحد مع الشعب , إنها لفرصة نادرة لا يضيعها الإخوان المسلمون , وإن عليهم الآن أن يضربوا الانجليز فى أوكارهم وأن يحرجوا الحكومة المترددة أيضا ويدفعوا بها إلى ساحة الحرب راضية أو كارهة.

وإذا فقد كان أعضاء المؤتمر يعلمون ذلك, ولم يكن أمامهم فى الحقيقة إلا أن يقرروا متي يحاربون ؟ وكيف يحاربون؟

لقد دارت أبحاث كثيرة خلال الجلسات التي استغرقت ثلاثة أيام والقي كل مندوب تقريرا وافيا على أرقام دقيقة عن الرجال المدربين فى منطقته أو الذين يمكن حشدهم وتدريبهم , وعن كميات الأسلحة والذخائر والتموين الموجودة فى حوزتهم أو التي يمكن توفيرها بعد ذلك وغير ذلك من الأمور الفنية والإدارية المتعلقة بالحركة الجديدة.

لقد كان من الخطأ أن نعتبر أن عدونا الأوحد هو هذه القوات المرابطة فى قناة السويس بحيث نضع جميع تقديراتنا السياسية والعسكرية على هذا الأساس.

ذلك أن عدونا فى الواقع هو بريطانيا العظمي بجيوشها وأساطيلها الهائلة التي تعتبر قوات القناة جزءا صغيرا من أجزائها .

وعدوتنا هى السياسة الاستعمارية الامبراطورية التي تملك وسائل الدعاية والسيطرة ما تستطيع أن تكيد لنا به فى كثير من المجالات الداخلية والخارجية .

ولقد كنا على حق تقديراتنا فلم ينقض إلا شهران على بدء القتال حتي أخذت القيادة البريطانية فى القتال تستنجد بوزارة الحرب التي أخذت ترسل لها نجدات عاجلة من الرجال والعتاد ونشطت حركة النقل الجوي فى أواخر شهر نوفمبر نشاطا ملحوظا حينما أخذت الطائرات تنقل وحدات من جنود المظلات بينما كانت البواخر الحربية ترسو فى البحيرات المرة أو فى [[بور سعيد]] , حيث كانت كتائب جديدة وكميات كبري من العتاد , وقد ارتفع عدد القوات البريطانية فى أقل من شهرين ارتفاعا كبيرا حتي وصل إلى ثمانين ألف جندي , وفى بداية عام 1952 وصل الرقم إلى مائة ألف , وكانت الغرفة الأولي والثالثة من المشاة قد وصلتا بكامل قواتها كما عززت القوة المدرعة بثلاثة ألوية أخري وزادت القوة الجوية زيادة كبيرة .

ولم يكن ذلك بالأمر الذى يزعجنا بل اعتبرناه نصرا عظيما للثورة فإن تحريك كتل كبيرة من الجيش البريطاني بما يلزم هذا التحريك من خطوط ووسائل نقل وتكاليف مالية باهظة يعتبر فوق ما فيه من إرهاق عظيم للعدو وسيلة عملية لتأكيد نظريتنا القائلة : إن قاعدة القناة لم تعد قاعدة صالحة لبريطانيا وهي تعيش فى محيط يضمر لها العداء .

وإذا كان هذا شأ،ها مع جيرانها المصريين خلال أيام السلم فكيف سيكون حالها حين تندلع حرب عالمية وتف الليالي السود الحالكات؟.

نماذج تطبيقية

أود من القارئ الكريم أن يذكر حين يقرأ هذا الفصل , أننا أوردنا فيه بعض الحوادث التي اعتبرناها عناوين لعشرات الحوادث المماثلة التي وقعت وكانت متشابهة بحيث يصبح ذكرها جميعا تكرارا يؤدي إلى الملل وقد راعينا أيضا فى ذكر هذه الحوادث أن تكون نماذج لشتي العمليات المتشابهة مما يدفعنا أن نذكر حوادث قد تبدو عديمة القيمة من الناحية العملية ولكننا أردنا بذكرها أن يصاحب القارئ تلك المعركة من بدايتها وأن يعيش فى تطوراتها المختلفة وهي تتقلب بين درجات الضعف والقوة وبين العمل البدائي المرتجل والعمل المنظم الواسع وبيم حالة يكون العدو فيها فى درجة من التنبه لا نملك معها أن نقطع أنبوبا من الماء أو سلك تليفون وبين حالة نستطيع فيها أن نصطدم بكتيبة كاملة من المشاة تساندها الدبابات.

قلوب أقوي من الدروع

فى تلك الأيام المبكرة للحركة , حين لم نكن نملك من السلاح والعتاد إلا بنادق صدئة قليلة العدد, وذخائر مضي على تخزينها فى الأراضي الرطبة سنون طويلة , كان رجالنا يخرجون لملاقاة العدو وربما يسيرون أميالا كثيرة قبل أن يصلوا إلى نقطة تطل على خطوط مواصلاته وهناك يبحثون عن حفرة فى الأرض يختبئون فيها , أو شجرة مرتفعة يصعدون عليها فى انتظار مرور الدبابات التي تصاحبه ولا يستطيع أن يتصور معني هذا العمل والمتاعب التي تصاحبه إلا أولئك الذين مارسوه فعلا , على أن اشد ما في هذه المرحلة وأكثر جوانبها مدعاة للأسف والمرارة أن تلقي ما في يدك من القنابل على الدبابة بعد هذه الرحلة الشاقة أو تقفز فوق ظهر المصفحة وتطلق مدفعك الرشاش على من فيها ثم يتبين لك أن قنابلك ليست صالحة وأن مدفعك الرشاش لا يطلق إلا طلقات معدودة ثم يتوقف عن العمل , لأن ذخيرته تالفة بفعل التخزين الطويل .

لقد حدث مثل ذلك فى حالات قليلة فى ذلك الوقت المبكر وإليكم هذه العملية نموذجا لها:

اصدر ( فوزي فارس) قائدنا فى القنطرة أوامره إلى جماعة صغيرة كان من رجالها (عصام الشربيني) و(فتحي البوز) - والأول هو الذي كتب القصة فى تقرير بعث به إلينا – لتهاجم دورية مصفحة دأب العدو على إخراجها فى منطقة جنوبي القنطرة.

وقد تسلل هؤلاء الرجال فى جنح الظلام وداروا دورة طويلة وكان عليهم أن يسبحوا فى ترعة عميقة تعترض طريقهم قبل أن يصلوا إلى النقطة التي اختاروها لعمليتهم .

ولم يكن فى تلك المنطقة إلا أشجارا عالية قليلة مغروسة فى صف واحد من جانب الطريق فلم يجدوا خيرا من تسلق الأشجار والاختباء بين أغصانها وهكذا تفرقت الجماعة بين شجرتين متجاورتين ولعلهم استمروا فى مقامهم ذاك أربع ساعات قبل أن يروا سيارتين مصفحتين تقبلان فى بطء وتتقدمان نحوهما وحين حاذت سيارات العدو الكمين قذف (عصام الشربيني) قنبلة يدوية سقطت فى داخل السيارة ولكنها لن تنفجر فصوب رشاشه على من فيها فلم ينطلق إلا طلقات قليلة ثم توقف الرشاش فى يده , وكانت السيارات فى تلك اللحظة الحرجة , قد تجاوزت موقعه قليلا وأصبحت أمام الشجرة الثانية ومن حسن الحظ أن القنبلة التي ألقاها (فتحي البوز) كانت صالحة فانفجرت فى داخل السيارة وأصابت جميع من فيها ولم يطلق مدفعه الرشاش هو الآخر إلا طلقات قليلة قبل أن يتوقف تماما ولكنها كافية ليقفزوا من فوق الأشجار فى خفة القرود ويولوا هاربين ويعبروا الترعة من جديد عائدين إلى منطقتهم وفى الصباح تبين أن المصفحة التي بقيت سليمة أخذت تضرب رؤوس الأشجار بنيران كاسحة حتي بدت أغصانها عارية من الورق وكأنها فى الخريف.

إلقاء القنابل والزجاجات الحارقة على السيارات

مئات الحوادث تلك التى ألقيت فيها القنابل والزجاجات الحارقة على السيارات ناقلات الجنود والشاحنات وفى الفترة الأولي من الحركة حين كانت طرق العدو تخترق المدن وتسير بمحاذاة المباني كان إلقاء القنابل من وراء النوافذ أو زوايا الشوارع أو البساتين أمرا سهلا يكبد العدو خسائر دون أن يكون هناك إلا احتمالات قليلة لإصابة رجالنا .

وفى ( الإسماعيلية ) خصص (يوسف طلعت ) مجموعة من رجاله برعت فى هذا النوع من الأعمال براعة فائقة وكان يساعدهم فى النجاح أن سيارات البريطانيين كانت مضطرة إلى اختراق شوارع المدينة فى تحركها بين المعسكر الكبير والمعسكرات الأخري وكان من الأمور المألوفة أن تنصت المدينة كلها غلى صوت انفجارات شديدة تنبعث من هذه الناحية او تلك ثم يتبينون أن قاذفي القنابل قد شغلوا فى الليل برمي السيارات .

العمل ضد مخازن الذخيرة

كان من بين الأهداف الهامة فى نظرنا نسف مخازن الذخيرة البريطانية فى ( أبو سلطان) بجوار الإسماعيلية وحين طلبنا من (يوسف طلعت ) أن يحضر لهذه العملية ذكر أن الانجليز يتوقعون مهاجمتها ولذلك أسرفوا فى حراستها بصورة غير مألوفة من قبل , وبينما كانوا فى الماضي يحرسونها حراسة عادية ويكتفون بالأسلاك الشائكة ن حولها وبعض الحراس قاموا أخيرا بتنظيم دوريات من السيارات المصفحة تجوب المنطقة وخاصة فى الليل ومع ذلك قال (يوسف طلعت) إنه سيبذل جهده وكان واضحا أن العملية تحتاج إلى نوع غير عادي من الشباب المجاهدين وقد وقع الاختيار على مجموعة من الإخوان بقيادة أحد الضباط المتطوعين السابقين .

كما اتضح أيضا القيمة الكبري التي يمكن ا، تعطيها المناطق المجاورة إذا سبق الاتصال بها وكسب أهلها, ذلك أن ( أبا سلطان) كانت تبعد عن الإسماعيلية مسافة طويلة تتخللها معسكرات كثيرة للعدو وكان بجوار المنطقة مساحة واسعة من الأرض المزروعة يملك أحد الإخوان بعضا منها ولعل بعض الفلاحين البسطاء قد حسدوا صاحب المزرعة المجاورة لهم , حين رأوا صبيحة أحد الأيام وجوها غريبة قال صاحب المزرعة نهم : إنهم عمال جدد جلبهم خصيصا لمعاونته فى مزرعته.

وكان هؤلاء العمال عند حسن الظن بهم فقد كانوا يخرجون فى الصبح الباكر للعمل , ولا يعودون إلا متأخرين غير أنه لوحظ أنهم يقتربون أكثر من اللازم من أسلاك المعسكرات قليل من الفلاحين الذين تساءلوا عن السبب , أما الباقون فقد ظنوا أن جارهم الفلاح ربما ينوي تعمير بعض الأراضي البور , فى تلك المنطقة وكان ( يوسف طلعت) قد استطاع أن يسرب الأسلحة والمفرقعات اللازمة للعملية , عن طريق القطارات البريطانية التي تعمل فى المنطقة لأن أحد رجاله المخلصين يعمل وقادا فى أحد القطارات ولقد استطاع ( خطاب) قائد المجموعة بعد أن رصد حركة الدوريات عدو أيام بلياليها أن يعرف مواعيدها بالضبط وأن يعرف أيضا نقط الحراسة وأوقات تبديل الجنود وقد انتظر أياما أخري حتي غاب القمر وأصبحت الأمسيات حالكة الظلام وفى الليلة المقررة للعملية كان هناك سبعة رجال يلبسون الملابس الكاكي وفى وسط كل واحد منهم خنجر مرهف وعلى كتفه مدفع رشاش وعلى ظهر أربعة منهم لفافات كبيرة يتحركون ببطء تحت ثقلها الكبير.

وفى حفرة يستعملها الانجليز لإلقاء الفضلات ولا يفصلها عن الأسلاك إلا أمتار قليلة ألقوا أحمالهم وانبطحوا على الأرض , وبعد قليل أقبلت سيارتان غمرتا المنطقة بالضوء المنبعث من مصابيحها الكشافة , وتوقفتا قليلا عند الحفرة كأنهما استرابتا فى شئ ثم عاودتا السير من جديد وكانت هذه الدورية السيارة .

وبعد أن عاد الظلام من جديد همس ( خطاب) فى أذن اثنين من زملائه: هيا بنا فلن تعود السيارات قبل نصف ساعة أخري وتقدم اثنان إلى الأمام ومعهما مقص الأسلاك الشائكة ثم أخذا أماكنهما فى الحفرة من جديد وبعد أقل من عشر دقائق ظهرت السيارتان مرة أخري وركز الرجال عيونهم على الأسلاك الشائكة أمامهم واستطاعوا أن يروا الثغرة جيدا حين انعكس عليها ضوء السيارات البريطانية وأمسكوا بأنفاسهم وقلوبهم معا , ولكن الضوء لم يتوقف واستمر فى انسيابه ولم يفطن جنود العدو للثغرة ومضت السيارات فى دورتها المعتادة وقبل أن تتواري أضواؤها تماما كان ( خطاب) وزملاؤه يحملون ألغامهم ويسرعون فى التسلل عبر الأسلاك وحين اقتربوا ن المخازن جلسوا مرة أخري وأنصتوا فى انتباه شديد وكن الجندي الانجليزي المكلف بنوبة الحراسة يغدو ويروح حول أكوام ضخمة من الصناديق المغطاة بالمشمع وخطواته الغليظة المنتظمة تسمع بوضوح فى سكون الليل وكانت خطوات حارس آخر تسمع من بعد من الناحية الأخري.

وعندما تجاوزهم الحارس فى دورته الرتيبة قاموا من أماكنهم فى خفة وانطلق كل اثنين من ناحية يضعون ألغامهم بين الصناديق ويشعلونها وقبل أن يتجمعوا من جديد رآهم أحد الجنود فصاح بهم يأمرهم بالوقوف ولكنهم استمروا فى تراجعهم السريع فأطلق عليهم نار بندقيته وكان ذلك كافيا ليخرج الجنود الانجليز من مخابئهم وخيامهم ويطلقون النار فى جميع الاتجاهات .

وأخذ رجالنا من ناحيتهم يصوبون رشاشاتهم فى اتجاه الخيام والحراس ولم يكن أمامهم إلا وقت ضيق جدا للانسحاب فأخذوا يطلقون النار ثم يتراجعوان وبعد جهد استطاعوا الوصول إل الثغرة التى فتحوها وسلكوا منها إلى خارج المعسكرات بينما كان سيل من النيران يدوي فوق رؤسهم ويتجاوزهم مسافات إلى الأمام واستمروا فى طريقهم والنار تلاحقهم وحين ابتعدوا مسافة كافية ارتموا على الأرض وراء الحفر وأخذوا ينظرون إلى الليل المحيط بالمعسكر تمزقه خيوط متشابكة من اللهب ينبعث من رشاشات الجنود الذين مضوا يطلقون النار بجنون .

وبعد لحظات أخري أنشق الليل عن ثلاثة براكين صفراء أعقبها انفجارات هائلة ثم توالت الانفجارات واستطاع الرجال فى تقهقرهم أن يروا وراءهم ألسنة اللهب تضيئ صفحة الليل والانفجارات تتوالي فى ضوئه ولم يناموا تلك الليلة بل ألقوا أسلحتهم فى مخزن معد بعناية فى صفحة الترعة وداروا دورة طويلة فى الصحراء قبل أ، يصلوا إلى منطقة بعيدة فيها مزرعة أخري ورجال أمناء ينتظرون وصولهم بلهفة .

وفى اليوم التالي عادوا إلى الإسماعيلية وقت أن كانت سيارات الجيش البريطاني تحاصر المناطق المجاورة ( لأبي سلطان) وتجهد فى تفتيشها ثم تعود خائبة دون جدوي .

وقد اعترف بلاغ بريطاني صدر بعد ذلك أن كمية كبري من القنابل والذخائر الصغيرة قد انفجرت ولم يعترف إلا بقتل خمسة جنود , ولكن عمال المطابخ فى تلك المعسكرات أكدوا أن القتلي تجاوزوا العشرين قتيلا.

تدمير الأنابيب وأسلاك التليفون

إن مضخات المياه والأنابيب وأعمدة التليفون والأسلاك تعتبر أشياء حيوية بالنسبة لجيش العدو , ولا يستطيع الاستغناء عنها وإذا حدث أن انقطع الماء عن معسكر به مئات الجنود أو تعطلا أجهزة التليفون فإن ذلك يسبب مضايقة لاحد لها.

ويجب أن نعرف أن الجيش لن يصبر طويلا على انقطاع الماء أو التيلفون بل سيبادر إلى تسيير دوريات على طول الخطوط ليعرف مكان العطل ثم يبعث بالمهندسين والعمال لإصلاحه .

فى المساء خرج أربعة من رجالنا من القنطرة الغريبة وتوجه اثنان منهم إلى أنابيب المياه فقطعوها بالفئوس ونزعوها إلى مسافة طويلة ثم قذفوا بها فى الترعة وتركوا المياه الغزيرة تنساب إلى الترعة أيضا ويلاحظ أنهم لم يستخدموا المفرقعات لأن المفرقعات تحدث دويا ينبه الانجليز إلى النسف ويحدد لهم مكانه فيسارعون إلى الإصلاح بحيث تكون المضايقة أقل.

وتوجه اثنان آخران إلى أسلاك التليفون الأرضية ( الكابلات) ورغم أنها مدفونة إلى عمق كبير فقد أخذوا يحفرون عليها ثم قطعوها أيضا بالفئوس وقد اختاروا منطقة تقع على مقربة من بعض الترع والمصارف ثم عادوا إلى أماكنهم .

وفى الصباح كان ثلاثة من رجالنا القناصة يحومون على مقربة من المكان وهم يلبسون ملابس الفلاحين فى المنطقة بينما كانت سيارة جيب عسكرية تسير على خطوط التليفونات حتي صادفت مكان القطع فتوقف عنده ونزل ثلاثة جنود بريطانيين للعمل فى الاصلاح , وحينذاك تسلل القناصة الثلاثة غلى حافة المصارف وتناولوا ينادقهم التي كانوا قد خبأوها فى الأعشاب وصوبوا جيدا ثم أطلقوا الرصاص ووقع جندي بريطاني وجرح الثاني بينما أخذ الثالث يطلق عليهم النار من بندقيته حتي أدركوا سيارتهم وانطلقوا وفى السيارة رأوا دماء تنضح على سروال أحدهم فشقوا السروال وتبين أن رفيقهم ( حسن الجمل) مصاب برصاصة فى فخذه.

وفى السويس تكررت أمثال هذه العملية ضد أنابيب المياه أما فى الإسماعيلية فقد كان (يوسف طلعت ) يعد الشراك الخداعية وهي شراك لم تكن تتكرر على صورة واحد مرتين فأحيانا لغم ضغط وأحيانا قنبلة يدوية مدفونة فى الأرض وأحيانا كمية مفرقعات معبأة بعناية فى طرف الجزء الفارغ من أنبوب الماء المنسوف ومتصلة بأسلاك كهربائية مدفونة فى الأرض إلى مسافة كافية وهناك فى حقل من الحقول يوجد شاب يجلس إلى الجهاز المفجر, فإذا جاء جنود العدو ضغط على الجهاز فينفجر اللغم ويقتل الجميع ثم يولي هاربا وهكذا.

نسف القطارات

كانت الخطوط الحديدية بجوار القنطرة تمر بين طريقين للسيارات هما : طريق المعاهدة وطريق القناة وكان الانجليز زيادة فى الحيطة يسيرون دوريات مصفحة تسير بمحاذاة القطار لحراسته بعد ا، تكررت عمليات النسف وكان على جماعتنا فى القنطرة أن تقوم بنسف قطار بريطاني , بعد أن أبلغهم مندوبوهم فى ميناء ( بور سعيد) أن هذا القطار يتحرك غدا فى اتجاه الإسماعيلية وعليه حمولة من الدبابات والبترول كما أن عربتين للركاب الحقنا به , لنقل سرية من الجنود عدا عربة أخري فى المؤخرة تحمل عشرة جنود مسلحين لحراسة القطار وأمام هذه المعلومات والاحتياطات تقرر القيام بعملية انتحارية وطلب قائد المجموعة أن يتطوع أحد الإخوان لهذه العملية فرغبوا جميعا فى القيام بها حتي وصل الأمر إلى مشادة حادة بينهم وحينذاك اقترح عليهم إجراء قرعة , وقد وقعت القرعة على أكثرهما حماسا للمشروع وهو ( عبد الرحمن البنا) .

وأحب الآن أن أنقل جزءا من رسالة بعث بها أحد هؤلاء الأبطال بعد نجاح العملية :

" فى المساء انطلقنا مجموعة صغيرة من الإخوان إلى المكان الذي تخيرناه للعملية وأخذ بعضنا يدفن الألغام , تحت القضبان بينما انصرف البعض الآخر إلى مد الأسلاك الكهربائية من السكة الحديد إلى المكان الذي سيختبئ فيه زميلنا ( عبد الرحمن) عند القيام بالعملية وكنا تخيرنا له هذا المكان نهارا وهو ليس أكثر من حفرة أرضية صغيرة , لا تكفي إلا لستر جسده حين يرقد فيها وقد تحميه من شظايا الانفجار ,وكانت لا تبعد عن الخط أكثر من مائتي متر والواقع أننا كنا نعتبر ( عبد الرحمن) فقودا فى هذه العملية ,وننظر إليه كما ننظر إلى شهيد سيفارقنا بعد ساعات , وكان هو أيضا يعرف ذلك , وقد قضي ليلته يقرأ القرآن , ويصلي بصوت يسيل رقة وعذوبة.

والعجيب أن صاحبنا هذا تمرد على المكان الذي اخترناه له ووصفه بأنه بعيد واختار لنفسه حفرة أخري لا تبعد أكثر من خمسين مترا من ذى قبل أنه سيقتل دون شك فإذا كان يستطيع النجاة من أثر الانفجار فكيف سينجو من حرس القطار ؟ وكيف سينجو م بعد ذلك من السيارات التي ستعبر الطريق فى تلك اللحظة ؟ إنه ليس بين نارين كما يقول المثل ولكن بين عدة نيران مسلطة عليه من كل مكان بعدا إلا أنه أصر على فكرته وكان يقول لنا :

إنه ما دام ستيعرض للخطر فليتصرف إذا على أساس أنه ميت فعلا , ويقوم بالعمل الذي يؤدي لنجاح العملية دون أدني اعتبار لسلامته .

وفى الصباح التالي ذهب ( عبد الرحمن) يتسكع قريبا من مكان العملية وهو يلبس ملابس عمال السكك الحديدية وقبيل الظهر بدأ القطار يظهر قادما من جهة بور سعيد ) وهو يسير ببطء شديد وكانت حراسته كما وصفها إخوان بور سعيد ) تماما عربتان وراء القاطرة مباشرة وقد وضعت فيها أكياس الرمل والجنود يجلسون وراء مدافعهم الرشاشة وعربة ثالثة فى المؤخرة على نفس الصورة بينما تفرق جنود آخرون على العربات الأخري .

وعندما ظهر القطار كان( عبد الرحمن) ينطلق إلى المكان المختار ويصل الأسلاك بجهاز التفجير, وحين كانت القاطرة تمر فوق الألغام بحيث أصبحت عربات الحراسة فوقها مباشرة ضغط صاحبنا على جهاز التفجير فانفجرت الألغام الثلاثة وخرجت القاطرة وسبع عربات عن الخطوط , بينما تقطعت الحبال الغليظة التى تشد الدبابات بعربات القطار فانقلبت إلى الأرض وسقط الجنود الذين كانوا بالعربات المكشوفة أما عربات الحراسة فقد نالتها الضربة المباشرة وتناثرت قطعها الخشبية مع أشلاء الجنود. ولقد كنا نشاهد العملية من مكان مرتفع حين انفجرت الألغام وأخذ يهنئ بعضا بعضا بهذا النجاح إلا أن الحزن أخذ يعصر قلوبنا حين تذكرنا أننا فقدنا أخا شجاعا وعدنا إلى منطقتنا ونحن أشد ما نكون حزنا .

إلا أنه فى صباح اليوم التالي , رأينا ( عبد الرحمن) يدخل علينا فى منطقتنا وعليه آثار التعب , ولم نصدق أعيينا حتى أخذ يحدثنا وسرت فى المنطقة موجة من الفرح حين تأكدنا أنه لم يصب بأذي وقد علمنا منه بعد ذلك أنه حين انفجرت الألغام خرج مسرعا فى اتجاه الحقول ولم يره الجنود الذين أصيبوا بالذهول إلا بعد فترة فأخذوا يسلطون عليه النيران من كل صوب , ولكنه استطاع أن يصل إلى أرض يغطيها نبات الفول فألقي بنفسه فيها ورقد على الأرض بينما استمر اطلاق النار ولم يتمكن من القيام من مكانه مخافة أن يراه جنود العدو فاستمر راقدا خمس ساعات لا يتحرك وحين جاءت الدوريات وأخذت تفتيش المنطقة قال عبد الرحمن إنه سمع حديث الجنود الانجليز لا يفصلهم عن مخبئه إلا أمتار قليلة حتي خشي أن يمروا فوقه ولكن الله صرف أبصارهم عنه فلم يروه , وحين دخل الليل خرج وسار فى اتجاه مضارب البدو أصدقائنا حيث استبدل ملابسه عندهم وقضي ليلة مريحة .

ولقد استمرت سيارات الإسعاف الانجليزية فترة طويلة هي تنقل جثث الانجليز من تحت حطام العربات كما تعطل هذا الطريق بعد ذلك خمسة عشر يوما ولم نخسر نحن أية خسائر تذكر اللهم إلا صيادا عجوزا وابنه قتلهما الرصاص الطائش الذي أطلقه جنود العدو.

وحين أتم الانجليز إصلاح الخط نسفته جماعة أخري من رجالنا بعد هذا المكان بعشرة كيلو مترات , وكانت هذه الجماعة من قوة ( بور سعيد) بقيادة) يوسف على يوسف).

ولقد نسفت القطارات على هذه الصورة مرات عديدة فى السويس وخاصة بين المدينة وميناء الأدبية وهكذا فى اقل من شهرين تعطلت شبكة المواصلات الحديدية البريطانية تعطيلا تاما بفضل جهاد هؤلاء الشباب الذين استهانوا بالموت فكتبت لهم الحياة والنصر معا.

إحراق مخازن البترول لم تكن جماعتنا فى السويس تجهل أهمية مخازن البترول وأثرها بالنسبة للعدو فقررت إحراقها ورأت أن تستفيد من وجود العمال المصريين الذين يعملون فيها ولم يكونوا جميعا قد تركوا أ‘مالهم بعد وكلفت أحد رجالها من هؤلاء العمال بهذه العملية .

وفى اليوم المقرر لتنفيذ العملية , استأذن هذا العامل رئيسه الانجليزي فى ترك العمل قبل الموعد المحدد بساعتين لأنه يشعر بألم حاد فى معدته, فسمح له , وبدلا من أن يخرج من الباب تسلل إلى كومة من الصناديق الفارغة واختبأ فى داخلها حتي انتهي وقت العمل وخرج من جميع العمال عائدين إلى بيوتهم ثم خرج الإنجليز بعدهم ولم يبق إلا حراس المخازن, الذين أخذوا يطوفون حول الأسلاك الشائكة وانتظر صاحبنا ساعات أخري حتي انتصف الليل وبدأ الحراس أيضا يغالبون النعاس فانسل من مكانه بخفة ومضي إلى مكان قريب حيث أخذ لوحين من الخشب ونقلهما إلى جانب الأسلاك الشائكة ثم تركها وعاد إلى المخازن وأخذ يجمع بعض قطع الخيش ويصنع منها حبلا طويلا ثم يبلله بالبترول والزيت ويلقي بطرفه بجانب الصفائح , التي تكدست فى صفوف طويلة كما نقل بعض هذه الصفائح وأحدث بها ثقوبا وترك محتوياتها تتدفق بجانب الخزانات الضخمة ولما اطمأن إلى عمله أشعل أعوادا من الثقاب وألقاها على الحبل المفتول ورأي النار تسري بسرعة فى الحبل فمضي مسرعا وتناول لوحي الخشب وألقى بهما على الأسلاك الشائكة واستمر , ثم تراجع إلى الوراء وتسلق عليهما بكل ما أوتي من قوة , ثم قذف بنفسه بعيدا فوقع خارج الأسلاك الشائكة واستمر يعدو , ثم توقف بعد أن ابتعد مسافة كافية فسمع الحراس يلغطون بعد أن سمعوا حركته وسلط نور كشاف ينبعث من أحد أبراج الحراسة وأخذ يبحث حوله كأنه عين وحش خرافي تبحث عن فريستها حتي سقط عليه فلم يتحرك , واستمر الضوء مسلطا عليه ثم ساد الظلام من جديد ونظر فإذا الأنوار الكاشفة مسلطة على مكان فى المخازن تندلع منه ألسنة اللهب ثم دوت انفجارات خافتة متقطعة وعرف أن صفائح البترول بدأت تنفجر وكان اللهب يتضاعف بعد كل انفجار وحين قام من مكانه وواصل سيره نظر خلفه فإذا صفحة الأفق تبدو وراءه مشتعلة وكتل من اللهب تتصاعد مع كل انفجار جديد ولقد استمرت الانفجارات يومين كاملين وعبثا حاول الانجليز السيطرة على النيران حتي أكلت لمخازن جميعها وأتلفت مخازن البضائع ولقد استطاع العدو أن يعيد بناء هذه المخازن بعد شهرين من الزمن وأن يعاود تفريغ البترول فيها ولكن خسارته كانت عظيمة على كل حال , ولم يستطع رجالنا بعد ذلك أن يقتربوا من هذه المخازن بعد أحتاط العدو فى حراستها احتياطا قويا فأخذوا يتسللون إلى المخازن الفرعية ويحرقونها كما أخذوا يضعون الألغام الزمنية فى مضخات البترول التي أقامها العدو فى مناطق كثيرة لتزويد قوافله العسكرية بين المعسكرات.

نسف الجنود بحيل مبتكرة

فى ( الإسماعيلية) نظم رجال المقاومة هناك بعض عمليات كانت تعتمد على الحيلة والابتكار , فحين كان الانجليز يحاصرون الأحياء العربي ولا يسمحون لأحد كائنا من كان بالاقتراب منهم إلا أطلقوا عليه النيران , وضح لرجالنا أن الوصول إليهم شئ مستحيل وأن إطلاق النار من النوافذ القريبة يعرض المدنيين لأشد الأخطار وكان أن لجأوا إلى حيلة طريفة. وكان الجنود الانجليز يقفون وراء بوابة الجمرك فى الإسماعيلية وبجانبهم سياراتهم وكانوا منهمكين فى حديث ضاحك حين رأوا عربة صغيرة محملة بثمار البرتقال يدفعها شاب ذو ثياب رثة تدل على فقر شديد وهو ينادي على برتقاله الجيد , وحين اقترب منهم وأخذ كل واحد منهم ينتقي لنفسه بعض الثمار ثم ناولوه النقود فاعتذر بأنه ليس لديه نقد صغير و ورجاهم أن ينتظروا قليلا حتي يحضر لهم الباقي تاركا لهم عربته راجيا منهم أن يحافظوا عليها .

ولما كانت كمية البرتقال كثيرو بحيث يستحيل أن يهرب بالمال الباقي معه ولعلهم أرادوا أن يظفروا بثمار زائدة عن حقهم فى غيبة صاحبها فقد تركوه وأخذوا يأكلون برتقالاتهم ويواصلون سمرهم وحين تأخر صاحبنا عن العودة بدأوا ينظرون فى ساعاتهم فى ملل ظاهر وفجأة دوي انفجار هائل مزق الجماعة من الجنود شر ممزق وهز أركان المدينة وحين جاء البوليس الحربي على الأثر استطاع أن يعرف السبب حين رأوا العربي وحمولتها من البرتقال تتناثر مع أشلاء الجنود.

بطولة وخطأ

شهدت الأيام الأولي من شهر يناير عام 1952 عملية واسعة بدأت عادية ثم تطورت تطورا لم يكن فى الحسبان .

فقد وصلت قبل ذلك الوقت بقليل إلى ( التل الكبير) قوة من طلابنا الجامعيين بقيادة ( حسن عبد الغني) لتعزيز مجموعتنا التي كانت موجودة هناك .

وكان هؤلاء الشباب الجدد على درجة عظيمة من الحماس والاندفاع وفى ظهر ذلك اليوم كان هناك بعض الشباب يلبسون الملابس الزرقاء كتلك التي يلبسها عمال السكك الحديدية ويضيعون على رؤوسهم قبعات ضخمة يتقون بها أشعة الشمس ويحملون على أكتافهم مقاطف من الخوص معلقة على أطراف رافعات حديدية من التي يستخدمها العمال لاصلاح قضبان السكك الحديدية.

ولو كان هناك من يراقبهم لرآهم يتوقفون عند نقطة على الحدود ويسمع أيضا صوت اصطدام الرافعات بالقضبان والعمال يصلحون القضيب وينتزعون من تحته لوحا خشبيا رأوه متآكلا وبعد نصف ساعة تقريبا تفرقوا عائدين إلى البلدة إلا أن أحدهم توقف على مقربة من المزارع واختار نقطة كثرة الحفر وجلس فيها , بينما استمر الباقون فى سيرهم .

وبعد أكثر من ساعتين قضاها صاحبنا يقرأ فى كتاب معه ظهر خيط من الدخان فى الأفق ثم ظهر قطار يتهادي على مهل , وحين أصبح محاذيا للمنطقة التي يجلس فيها صاحبنا حرك هذا يده بقوة ضاغطا على جهاز تفجير الألغام فدوي انفجار هائل طغي على صوت القطار وأخذت العربات تلطم بعضها بعضا بعنف قبل أن تترنح وتسقط على جانبي الطريق . وفى خفة القطاة و كان الشاب الشجاع يسرع عائدا فى طريق البلدة ودوت طلقات نارية فى جميع الاتجاهات كان مصدرها حراس القطار , ولم يكترث الفلاحون المنتشرون فى المنطقة , فقد تعودوا سماع هذه الانفجارات على السكك الحديدة حتي أصبحت مألوفة لديهم .

وفى اليوم التالي شوهدت عربة صغيرة تجري على القضبان الحديدية ثم توقفن عند مكان الانفجار ونزل منها بعض الجنود البريطانيين ثم أسرعوا فى نزع القضبان الملتوية واستبدالها بقضبان أخري ولو نظر أحدهم عن شماله لرأي الزورع الخضراء تتحرك بشدة وتنفرج صفحتها فى خمس مواضع عن فوهات البنادق ثم انطلق الرصاص عدة مرات وسقط ثلاثة من الجنود وبينما اختبأ الآخرين وراء حافة القضبان وأخذوا يطلقون الرصاص .

ولم ينسحب رجالنا كما كانت العادة مكتفين بما حدث وكأنه سرهم أن يروا جنود العدو الشجعان يخفون رؤسهم وراء الرمال فأخذوا يصوبون عليهم نيران بنادقهم واستمر تبادل إطلاق النيران فترة أطول وسمع رجالنا الآخرون فى البلدة القريبة ما يقوله الفلاحون :

من أن إخوانهم محصورون فخفوا إلى نجدتهم مهرولين وانتشروا على خط محاذ تجاه مجري الترعة واستمروا فى إطلاق النار , وتصادف بعد ذلك مرور سيارة عسكرية بريطانية تحمل بعض الجنود من البوليس الحربي على الطريق فترجل جنودها وأخذوا مواقع قريبة ثم أخذوا هم أيضا يطلقون النيران وفى ذلك الحين كان بعض الشبان المسلحين من سكان القري المجاورة وبعض الخفراء قد حضروا شاهرين بنادقهم ويطلقون منها النيران على السيارة الانجليزية التى أصابتها مئات الطلقات فانفجر خزانها واشتعلت فيها النيران .

ولم يفطن رجالنا وهم منهمكون فى إطلاق الرصاص إلى أن السيارات البريطانية كانت تخرج من المعسكر القريب وتندفع إلى ساحة المعركة وتقف غير بعيد ثم تيرجل منها الجنود ويستعدون لعملية تطويق واسعة بينما كانت قافلة أخري من السيارات تتحرك ن معسكر آخر وتأتي من الناحية الأخرى .

وكان قائد جماعتنا فى ( التل الكبير) غير موجود فى تلك اللحظة إذ كان يحضر اجتماعا مع زميله قائد المنطقة المجاورة فى بلده ( أبي حماد) القريبة وحين بلغه النبأ ركب السيارة وعاد إلى منطقته فوجد الحالة كما ذكرت , ولم يكن من السهل أن يسيطر على هذا الموقف أو يصدر أوامره بالتقهقر فقد كان رجاله مبعثرين فى خط طوله ميلان , وكان الفلاحون يطلقون نيرانهم من كل مكان بينما كان الانجليز يطلقون مدافع الهاون ومدافع الميدان فتتناثر شظاياها هنا وهناك والأمر الذي جعل من المستحيل عليه أن يفعل شيئا فأخذ يرقب المعركة وقد أسلم أمره إلى الله .

كان على القوة البريطانية لكي تكمل حلقه التطويق أن تعبر جسرا على الترعة التي تشكل مانعا أمام لمصريين , من ثم اندفعت نحو الجسر , ولكن حراس الجسر من البوليس المصري أطلقوا عليهم النيران فرد الجنود الانجليو عليهم , وهكذا دخلت قوات البوليس فى المعركة , ورغم أنهم قد بذلوا جهدا عظيما لمنع العدو من عبور الجسر إلا أن ضغط القوات الانجليزية ازداد عليهم واجتاحهم بعد أن سقطك منهم بعض الجرحس وفى ذلك الحين كانت القوة البريطانية قد وصلت إلى كتيبة كاملة تؤازرها خمس دبابات وعدد من السيارات المصفحة , وكان قائد الكتيبة الانجليزي يدير عمليته الناجحة من سيارة كبيرة وكانت الدلائل تشير غلى أن المواقف أصبح ميئوسا منه إذ تمكن الانجليز بعد ست ساعات من اجتياح قوتنا ومحاصرة البلدة والمزارع المجاورة ورغم أ، الحصار قد ضاق على شبابنا واتضح أن لا نجاة لهم إلا بالتسليم إلا أنهم استمروا فى اطلاق النار واصطياد جنود العدو حتي نفدت ذخيرتهم تماما فحاولوا التسرب من خلال الطوق ولكن الرصاص انهمر عليهم فاستشهد منهم من مات , واستسلم الباقون للأسر , وفى هذه المعركة مات رجلان من خيرة رجالنا هما (عمر شاهين ) , (أحمد المنيسي) كما مات معهم إخوان من الفلاحين والخفراء النظاميين أما الباقون فقد ذاقوا ألوانا من العذاب فى معسكرات السر , ظهرت آثارها بادية على أجسادهم بعد أن أفرج عنهم الانجليز عند نهاية الحوادث.

وفى صباح اليوم التالي كانت الصحف المصرية تحمل أنباء معركة ( التل الكبير) فى صفحاتها الأولي مشيدة بالبطولة الرائعة التى أبداها هؤلاء الشباب واعتبرته عملا رائعا أن يصبر عشرات من الشباب المسلحين بالبنادق الخفيفة ساعات طويلة أمام مجموعة لواء من المشاة البريطانيين تؤازرهم الدبابات والمدفعية والحق أن بطولة رجالا فى ( التل الكبير9 كانت فائقة حقا غير أنها لم تمنعنا من اعتبارها عملية خاطئة وأن نحاسب المسئولين عنها على هذا الأساس.

أما القيادة البريطانية فقد اعتبرتها ناجحة من وجهة نظرها وظهر بلاغ بريطاني فى اليوم التالي يقول :

" إن هذه المعركة دلت على أن الإرهابيين بدأوا يظهرون أما منا فى معارك مكشوفة الأمر الذي يضاعف من أملنا فى إبادتهم بسرعة ".

شهيد

لا أدري لماذا تري أحد الوجوه أحيانا , فيظل عالقا فى ذهنك بشكل بارز كأنه عنوان لقصة مثيرة , لم تكمل بعد فصولها , وقد تري هذا الوجه , وسط مجموعة كبيرة من الناس و لا يتميز عنها بشي ربما كان فيهم أنت يزيد عنه بالصيت أو الدرجة العلمية أو الماضي الطويل ,ومع ذلك لا يبقي فى ذاكرتك إلا هذا الوجه وحده دون الناس جميعا وتظل تنتظر القصة تحت هاذ العنوان البارز.

لقد مرت بى هذه التجربة مرات عديدة خلال حملة فلسطين وكانت هذه الوجوه دائما عناوين لقصص من سير البطولة والاستشهاد حتي تكرر مني أكثر من مرة أن أشير على بعض أصحاب هذه الوجوه , وأقول مازحا : هذا شهيد وتصدق الأيام ظني بعد قليل.

إلا أن أوصافا معينة يلتقي فيها أصحاب هذه الوجوه التي مرت بي إشراق واضح لا تخطئه وصفاء روحي تحس به وعكوف على العبادة كأن صاحبها مقبل على لقاء قريب وحركات سريعة نشطة كأن قوة داخلية تحركه تريد أن تشده إلى أعلي وتنطلق به بعيدا .

لقد رأيت هذه الشارات كلها فى (عمر شاهين) يوم زرت مجموعة الإخوان الجامعيين لأحي أفرادها عندما وصلت إلى أحد معسكرات التدريب فى الشرقية وكانت المجموعة تستعد لتناول طعام الغداء ولفت نظري شاب حديث السن وسيم الخلقة يقفز من مكان إلى مكان وفى فمه صفارة يصدر أوامره ثم يطوف على إخوانه ليستمع غلى مطالبهم ثم يمزح مع هذا ويربت على كتف ذاك سألت أحد الإخوان ولعله ( حسن دوح) عن اسمه فقال : (عمر شاهين) فقلت له هامسا : ما أظن صاحبك هذا إلا شهيدا , وكانت هذه المرة الأولي والأخيرة التي رأيت فيها هذا الشهيد الكريم قبل أن يقع صريعا فى معركة ( التل الكبير) .

كمين ناجح

كنت قد علمت من (فوزي فارس ) أن البريطانيين يسيرون دوريات ليلية على طريق المواصلات الرئيسي وهي غالبا ما تكون مكونة من دبابة ومعها سيارة مصفحة أو سيارتان ,ولقد تذكرت الأرض المعقدة التي رأيتها أول مرة مع ( سليم) فأعطيت الأوامر بالتوجه إلى الطاحونة المهجورة الواقعة فى ظهر الجبل , ورأيتني مرة أخري أسير مع عشرة رجال , ثلاثة من البدو وسبعة من الحضر وفى الطريق التي سرت فيها مع ( سليم ) ,( عبد المحسن الهواري) وفى المساء تزودنا بالمدافع الرشاشة والبنادق والذخائر اللازمة الكهربائية فى ناحيتين من الطريق وكان الغرض من الألغام الكهربائية فى ناحتين من الطريق , وكان الغرض من الألغام ليس مركبات الدورية وإنما لعرقلة النجدات التي يمكن أن تصل خلال العمل.

ثم وزعنا أنفسنا إلى ثلاث مجموعات صغيرة إحداها مع (يحيي عبد الحليم ) والثانية مع (أبو الفتوح عفيفي) والثالثة مع (عصام الشربيني) وكان مفروضا أن تختص كل مجموعة بإحدي السيارات: وقال (إسماعيل عبد الله ) من أخوان الشرقية : إنه يفترض أن تكون الدبابة فى المقدمة فإذا أطلقنا عليا النار فإنها ستكون نارا غير مؤثرة عليها ولن تكون لها قيمة ولا من نتيجة سوي أن تكشف موقعنا وتمنح الدبابة فرصة القضاء علينا .

وقد اقترح( إسماعيل ) كعلاج لهذا الاحتمال أن يتقدم وحده إلى الدبابة وأن يقذف بدخلها قنبلة يدوية مستفيدا من المفاجأة ,وبدأ الاقتراح الجرئ معقولا على ما فيه من المخاطر.

مرت الساعات بطيئة متثاقلة ولم يظهر أثر لسيارات العدو وكنت قد اتخذت لنفسي مكانا فى أحد المصارف الموحلة القريبة حتي اقترب الفجر وفجأة لمع ضوء قوي فى تجاه ( بور سعيد).

وبدأ صوت هدير المحركات يمزق سكون الليل ثم ظهر طابور من السيارات العسكرية يتقدم فى اتجاهنا وحين غمرنا قدماي فى الوحل إلى الركبتين وحين حاذتنا القافلة استطعت أن أتبين على ضوء السيارات مصفحات صغيرة مكشوفة كانت موزعة بين سيارات الشحن , وقد جلس فيها الجنود البريطانيون وراء المدافع الرشاشة من طراز ( برن) المثبتة على حوامل اسطوانية وهم يحركونها فى دوائر وقد ظهر عليهم التحفز الشديد.

كانت قافلة من تلك القوافل المحروسة ولم تكن هي الصيد الذي أردناه وحين ابتعدت القافلة وانسدلت وراءها أستاذ الليل الحالكة , وعاد السكون ثقيلا كما كان جاء (أبو الفتوح عفيفي) يخبرني أنه لا فائدة ترجي هذه الليلة وأن علينا أ، نعود قبل أن تطلع الشمس وكدت أوافقه على رأيه حين سمعنا فرقعة مبهمة على طريق السيارات ثم أعقبها سكون واستطاعت أذناي أن تلتقط غمغمة غير واضحة وبعد أقل من عشر دقائق عادت الغمغمة من جديد وكان واضحا أنها كتلك التي تنبعث من جنازير الدبابات إلا أنها اختفت مرة أخري وأعقبها سكون مريب وجاء ( أبو الفتوح) مرة أخري يزحف على يديه وركبتيه ويهمس فى أذني : إنها دورية العدو وهذه عادتهم يسيرون قليلا ثم يتوقفون ويتلصصون وقد طال كافية لفضح الكمين ويبدو أن بعضهم نزلوا من الدبابات وأخذوا يسيرون على الأقدام ذلك أنني بدأت أسمع صوتهم بوضوح بل خيل إلى أنني تبينت أشباحهم أيضا وراء التل المجاور .

وبعد دقائق خلتها ساعات طويلة بدأ صوت المحركات يعلو من جديد واستطعت أن أتبين فى الظلام دبابة ومصفحة من ذوات نصف الجنزير تتقدمان ببطء وبدون أى ضوء حتي لكأنهما قطعتان من الظلام المتحرك غير أنهما أشد حلكة من الظلام المحيط بهما وكان واضحا أن الدبابة فى المقدمة وكان برجها مفتوحا وقد أطل من فوهته رأس جندي انجليزي يتطلع ويتفحص فى الظلام وفجأة جوي انفجار مكتوم فى وسط الدبابة ثم أعقبه صوت نيران سريعة مكتومة أيضا .

لقد ألقي ( إسماعيل) قنبلته حسب الخطة المقررة وحين انفجرت صعد على سطح الدبابة ووجه مدفعه الرشاش طراز ( استن) وأخذ يطلق النيران على من بداخلها واستمرت الدبابة فى سيرها ولكنها لم تلبث أ، انحرفت ودارت حول نفسها دورتين ثم سقطت فى المصرف القريب .

وكان الأمر يختلف بالنسبة للسيارة المصفحة المكشوفة فإن رجالها لم يلبثوا أن استردوا شجاعتهم بعد المفاجأة ومضوا يغطون الأرض التي كنافيها بسيل من النيران ,وسمعت صوت جندي اللاسلكي يتحدث : ألو... ألو .. ولكنه لم يكمل حديثه إذ كانت قنبلة يدوية أخري قد انفجرت فى السيارة فدمرت الجهاز واستمر اطلاق النيران بصورة متقطعة دقائق أخري .


ولكن رجالنا استطاعوا إسكات نيران العدو بنيران مماثلة , ثم قذفوا قنبلة أخري انهوا بها مقاومة العدو واستولوا بعد ذلك على الأسلحة ثم أضرموا النيران فى السيارة وبعد دقائق معدودة كنا جميعا عند نقطة اللقاء المتفق عليها وأخذ (يحيى عبد الحليم ) ينادي أسماء رجاله واحدا واحدا ياللروعة !! جميعا هنا ولم يصب أحد منهم بأذي .

كانت المدة التي حددناها لنهاية العملية هي ثلث الساعة مع أ،ها تمت فى وقت أقل مما توقعناه إلا أننا لم نكد نخطو فى طريق الانسحاب حتي لمعت أضواء قوية من اتجاه ( الإسماعيلية ) واتجاه ( بور سعيد) وكانت هذه هي النجدات الخفيفة التي أشرنا إليها وحين كنا نلج المزارع القريبة كانت الطريق وراءنا تعج بالسيارات واستطعنا أن نسمع بوضوح الجنود البريطانيين وهم يتهيأون للمطاردة ورغم ذلك فقد كنا مطمئنين إن التحضير الجيد للعملية لا يضمن لك النجاح فحسب ولكن يحميك من المطاردة أرضا .

لقد قدرنا أن العدو لا يستطيع أن يبدأ المطاردة قبل ساعة على الأقل وهي مدة تكفي لكي نصل إلى المنطقة الآمنة وقبل طلوع الشمس كنا قد لبسنا ملابس البدو والعمال الزراعيين وانطلقنا نعمل بهمة ونشاط فى تحويل مجاري المياه وسقي نبات الفول وبعد أربع ساعات جاءت نحونا سيارة بريطانية من عشرات السيارات التي كانت تجوب المنطقة واقتربت من المكان الذي كنت أعمل فيه وحول بعض البدو وكان من الجائز أن يستريب فى الجنود الانجليز لو أنهم ألقوا نظرة على وجهي الذي يختلف عن وجوه البدو ولكن يبدو أنه لم يصلوا منطقتنا إلا بعد أن يترجلوا وذهب أحد البدو إليهم وسمعتهم يسألونه عما إذا كان رأي أحد من الإرهابيين فهز رأسه دون أن يفهم منهم شيئا أو أن يجيبهم بشئ وكنت لا أزال أضرب الأرض بالفأس حين اندفع الانجليز بسياراتهم لتفتيش المناطق المجاورة ولقد مكثنا حصورين فى هذه المنطقة يوما وليلة كان البدو خلالها يقدمون لنا الطعام ويهيئون لنا وسائل الراحة حتي جلت القوة البريطانية خائبة وعدنا إلى قاعدتنا فى القنطرة .

ولقد علق رجالنا تعليقات ساخرة حين تناولوا الصحيفة البريطانية التى كانت تصدر فى قاعدة القناة فى صباح اليوم التالي وقرأت قى صفحتها الأولي أخبار الكمني الناجح وبلاغا لقيادة العدو تقول فيه إن نجاح هذه العملية الليلية يؤكد الأخبار التي سبق أن ذكرناها عن و جود عناصر أجنبية من الألمان واليوغسلاف بين صفوف الإرهابيين.