نظرات في اداة الحكومة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٠:٥٦، ١٣ مارس ٢٠١٢ بواسطة Attea mostafa (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
نظرات في إصلاح الأداة الحكومية

بقلم:فتحي رضوان

بإشراف الدكتور شكري محمد عياد

توطئة

1 – تبدي الدولة الآن، اهتماما خاصا بإصلاح الأداة الحكومية.

والحق أن إصلاح الأداة الحكومية، وأداة الإدارة عموما جدير بأن يكون موضوع هذه الساعة، بل موضوع كل ساعة، فما من أمل ترتجيه الدولة، أو يطمح إليه المواطنون، إلا ويناط تحقيقه بإحدى الإدارات في الحكومة، أو مما يتفرع عنها ويتصل بها، مما نسميه الآن "بمؤسسات" و "هيئات" وهي لا تخرج عن أن تكون وحدة إدارية من وحدات الدولة.

ولقد اتسع نشاط الدولة وترامت آفاقه، فاختفت من مصر الدولة التقليدية: دولة البوليس والجباية والقضاء، فأصبحت – فيما يشبه القفزة الطويلة – دولة الزراعة والصناعة والثقافة، والمواصلات والتربية والتنمية، أي الدولة التي تبسط نشاطها على رقعة فسيحة تمتد من تربية الدواجن، إلى إنتاج الصواريخ.

وهو عبء ضخم غاية الضخامة، فضلا عن تعقيده وتداخله وتأثره بعالم مرئي وغير مرئي من المشكلات والصعوبات والآمال والمخاوف، والاندفاعات غير المدروسة، والتلكؤات غير المبررة.

ولهذا كان كل جهد وكل دراسة وكل تحضير، في سبيل رفع كفاية الأداة الحكومية أقل مما تقتضيه الأهداف الكبرى الواسعة البعيدة التي أصبحت غاية هذه الأداة، وهدفها.

ومن ثم فقد أصبح من واجب كل من يستطيع أن يقول كلمة في هذا الموضوع العظيم والمثير معا، ألا يتردد في قولها، فقد يكون من ورائها نفع، لا بما تنطوي عليه من حق فقط، بل أحيانا بما تحتويه من خطأ، فرب كلمة غير صائبة، تكشف حقيقة مخبوءة، أو تؤكد حقيقة لم تمتلئ القلوب والعقول إيمانا بصحتها، ووجوب الدفاع عنها.

وبهذه الروح، كتب هذا الكتيب الذي أرجو أن يكون نواة لدراسة شاملة بعد الصقل والإضافة، والتوسع والإحاطة.

وقد رأيت أن أقسم هذه الخواطر والنظرات إلى مقدمة وثلاث أقسام.

يتناول القسم الأول: أصل الداء.

ويتناول القسم الثاني: الإسعاف.

ويتناول القسم الثالث العلاج.

مقدمة في إصلاح الأداة الحكومية

2 – ترجع شكوى الإنسان من الأداة الحكومية إلى آلاف السنين التي سبقت الميلاد، وقد صاحبت هذه الشكوى خطوات الإنسان في طريقه الحضاري.

ولو قرأنا ما تركه لنا الأدب الفرعوني، وما سجلته التوراة، والقرآن، لرأينا أن الحاكم الظالم والموظف المرتشي، والعدل الضائع، والشكوى المهملة، وتأخير صاحب الحق وتقديم من لا حق له، وانشغال الرؤساء بما لا ينفع الناس، هي موضوعات خالدة، ينقلها جيل إلى جيل، قد يزيد فيها، وقل أن ينقص منها، وهي موضوعات أوحت بالشعر والنثر، والقصص والمسرحيات والمقالات، والخطب، وأثارت شعوبا، وأسالت دماء، وأرخصت أرواحا، وأطارت أعناقا، وبقيت في انتظار دراسات وبحوث معاهد الإدارة المتوسطة والعليا، وتقارير الخبراء والباحثين، من أساتذة الجامعات، والمنتدبين والمعارين من الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.

3 – والسبب في ذلك أن مشكلة الأداة الحكومية، هي مشكلة "السلطة"، أي مشكلة "الإنسان".

مشكلة السلطة

وإذا حللنا "السلطة" وجدنا أن لها طرفين، يشبهان طرفي المقص فليس ثمة حاكم بغير محكومين.

فالطرف الأول في السلطة هو "الحاكم" صاحب السلطة الذي يباشرها ويمارسها، ويكابد في سبيلها، ويتمتع في الوقت نفسه بمزاياها من جاه ونفوذ وثراء.

والطرف الثاني في السلطة هو "المحكومون" الذين يخضعون للسلطة وينفذون أوامرها، وقد يجنون خيرها إن صلحت، ويدفعون ثمن أخطائها إن فسدت.

4 - وبتحليل طرفي السلطة أي "الحاكم" و "المحكوم" وجدنا أن كلا منهما يتكون من عنصرين متعارضين: فالحاكم هو "الإله"، ثم ابن "الإله" ثم "مختار الإله" "صاحب الحق الإلهي الذي لا يعارض" ثم ظل الله في الأرض" ثم "ممثل الشعب الذي لا تعلو على كلمته كلمة".

فهو بذاته قوى غيبية، أو تسنده قوة غيبية أو تحركه هذه القوة، والحق أن الحال لم يتحسن كثيرا حينما تغير اسم هذه القوى فأصبح "الشعب" بدلا من (الله).

فالشعب معنى مجرد، ومن هنا كان يمكن أن تحكم الأغلبية باسم "الشعب" وأن تعارض الأقلية باسم "الشعب"، وأن يعمل النظام القائم في دولة على تثبيت قواعده باسم "الشعب"، وأن يثور على هذا النظام ذاته الثوار باسم "الشعب" كذلك، فالحاكم على أي حال يهمه أن يبدو من طبيعة خاصة، تؤهله للحكم، وتسمو بأحكامه عن المعارضة والنقد والتشكيك.

ولكن الحاكم في الماضي مع ميله إلى (الألوهية) أو ما يشبهها، يرى نفسه مضطرا إلى القول بأنه خادم الشعب، وهو يقول هذا المعنى في مختلف القرون والحقب وإن كان قد استعمل في التعبير عنه مئات من الصيغ والعبارات، ولكنها جميعا تلتقي في جوهرها.

فإذا انتقلنا إلى (المحكومين) وجدنا نفس (المعقد) فالمحكومون يطلبون الحاكم ويرفضونه، أي يقيمون السلطة، ويثورون عليها، وفي الوقت نفسه يفعلون أمرين متناقضين، يؤلهون الحاكم، ويرجمونه حين تكمل (ألوهيته).

ويبدو أن الناس وقد وجدوا أنفسهم مضطرين للخضوع إلى سلطة، رأوا مما يخفف عنهم ألم هذا الخضوع أن يكون حاكمهم (إلها).

5 - ولما كانت الأفكار قادرة على الثبات على جوهرها وإن غيرت أثوابها ومظاهرها الخارجية، فقد انتهى الحديث عن الملك الإله، وحل محله الحديث عن الدولة، فوجدت من المفكرين المحدثين (كهيجل) من يؤلهها، ووجدت أحزابا ضخمة تقيم حكمها وفلسفة سياستها على هذا التأليه كالنازية والفاشية.

وفي الطرف الآخر، وجد من يرى في (الدولة) كل شر، فدعا إلى الانتقاض عليها، وتحطيمها أشلاء، وتذريه ترابها في الهواء، وهؤلاء هم الفوضويون في حين بشر كارل ماركس بذبول الدولة ثم زوالها حينما تختفي الطبقات، ويظهر المجتمع الذي يضم طبقة واحدة، لا تحتاج إلى القهر، إذ لا دولة إلا بتعدد الطبقات، وصراعها، فبانقضاء هذا الصراع تستحيل (سيادة الدولة على الأشخاص) إلى (إدارة للأشياء).

ويصبح الحاكم كما يقول "جروشنين" أشبه شيء بالمايسترو – قائد الفرقة الموسيقية – يتبعه العازفون عن طواعية وسرور، لا عن خوف وقسر.

وفي جانب هؤلاء هتف الإنسانيون المسيحيون وعلى رأسهم (تولستوي) بإقامة العلاقات داخل المجتمع على (الحب) ونبذ (العنف)، وادخلوا في وسائل العنف وأداته: القانون، والمحكمة، ورجل البوليس، والسجن وقالوا إن هذه الوسائل كلها، لا تقمع الجريمة، ولا تقيم بناء الأمن، وإنما تسخر الضعفاء والفقراء، لحساب الأقوياء والأغنياء.

وليست هذه الآراء على اختلاف نزعات أصحابها، منقطعة الصلة ببحث إصلاح أداة الحكم، فقد أثبتت التجربة في القديم والحديث، أن أداة الحكم ليست آلة يديرها مديرها على هواه، فهي تستعصي على التوجيه، لأنها لا تتكون من أشياء وأشخاص، بل من اعتقادات وتقاليد وتصورات وأوهام وأحلام.

فأداة الحكم ليست القانون الذي يحدد اختصاصات القائمين عليها، وليست الموظفين والعمال الذين يكونون جهازها البشري، وليست الدواوين والمباني الحكومية التي تضمهم، وليست الأقلام والمحابر، والأضابير والملفات، والأختام والسجلات، فهي هذا كله، وإلى جانب هذا كله نظرة المحكومين إلى الحاكم وما يطلبونه منه، وما يحتملونه من أذاه، وما يدفعونه إليه من خراب الذمة وتلوث اليد، أو ما يلزمونه به من أمانة واستقامة.

وقد يكون من المفيد أن نروي هذه الحادثة الصغيرة التي وقعت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية لأنها تكشف عن اختلاف نظرة الناس إلى العمل القانوني الواحد.

فبعد هزيمة ألمانيا النازية قامت حملة لمقاومة الفكرة النازية في عقل الشعب ........ فدعي الشعب إلى ممارسةالديمقراطية والانتخابات، فذهبت سيدة إلى مقر اللجنة الانتخابية، فوجدت لوحات في كل مكان تبين الطريق إلى مقر اللجنة، فلما وصلت إلى هذا المقر وجدت صندوقين خصص أحدهما لأصوات مرشح والثاني لأصوات منافسه، فسألت السيدة عسكري الشرطة الواقف لحراسة مقر اللجنة: في أي الصندوقين أضع ورقة الانتخاب؟

فقال الشرطي: حيث تريدين يا سيدتي" فصاحت السيدة: ولماذا أوقفوك هنا إذن؟!

6 - فنظرة المواطنين إلى القانون هي القانون وليست نصوصه وأحكامه، ونظرة المواطنين إلى الحكومة هي الحكومة ،وليست قواعدها المكتوبة وأحكامها الموضوعة ونظمها المرسومة.

وقد قال مرشال ديموك:لقد تبينا أن معظم المشكلات الإدارية التي تواجهنا في تركيا حضارية أو متعلقة بالسياسة العامة، فإن مرد هذه المشكلات الداخلية المتصلة بالتنفيذ إلى التقاليد والحضارة التركية وليست الذكاء التركي.

وقال يوجين بوسيك:إن عدم نجاح الخطة الخمسية الأولى في يوغوسلافيا لا يرجع للأسباب الاقتصادية وحدها، ولكن إلى عوامل اجتماعية متعددة، وقال إن تغيير أسلوب الحياة وطريقة النظر للأمور، وأسلوب فهمها ومواجهتها تؤثر كل التأثير في أهداف التخطيط.

'7 - 'وبناء على هذه الملاحظات العديدة يمكن أن نقول إن الحاكم كالطفل، فأنت إن أردت أن تصلح الطفل، وأن تخرجه للحياة قويا قادرا على التغلب على أمراضها وآفاتها، كفء لمواجهة صدماتها وآلامها وجب أن تربيه قبل أن يولد، أي أن تربي أمه وأباه، كذلك إذا أردت أن تصلح (الحاكم)، وجب عليك أن تصلح (المحكوم) فالمحكومون، وإن بدوا في معظم الأحايين مغلوبين على أمرهم يسيرهم الحاكم بعصاه ويستبد بهم، ويقودهم إلى حيث يريد.

إلا أنهم في واقع الأمر هم الذين يكيفون الحاكم ويصعنونه، فإصلاح أداة الحكم لا يجب أن ينصب على إصلاح هذه الأداة مباشرة، وإلا كان جهدا ضائعا، ومحاولة محتومة الخيبة والفشل، إذ لا بد أن يتجه جزء غير قليل من هذا الجهد إلى إصلاح حال الشعب، ورفع مستواه الروحي والثقافي، ثم المادي والاقتصادي.

8 - ولعل هذه الحقيقة هي التفسير المعقول لما نلاحظه من أن القانون أو النظام يتغير في الظاهر، ويبقى على حاله في الواقع،وقد لاحظ "دي فرنجيه" في كتاب دساتير فرنسا أن من دساتير فرنسا ما وضعته الجمهورية) وطبقته (الملكية) ومنها ما وضعته (الملكية) وطبقته (الجمهورية) – بل إنه يرى في دستور فرنسا الديجولية روحا وأفكارا من الدستور الذي وضعته أسرة أورليان الملكية في فرنسا منذ مائة وثلاثين سنة خلت.

فالأحوال السائدة في الوطنهي التي تحدد مصير القوانين جميعا وتكيف أسلوب تطبيقها، ونطاق أحكامها، من ابتداء باللائحة والقرار الوزاري، وانتهاء بالقانون والدستور أبي القوانين جميعا.

وقد كان (رمزي ماكدونالد) رئيس أول وزارة عمالية في بريطانيا، يحسب أنه قادر على أن يحول الحكومة في بلاده من اليمين إلى اليسار، في حين بدا لخصومه أن حزب العمال هو الذي تحول من اليسار إلى اليمين، وأن قدامى الموظفين البورجوازيين استولوا على الحكومة الاشتراكية، ورضوها.

9 - رأيت أن أقدم بين يدي هذه الخواطر بهذه المقدمة، لا لأشعر القارئ بأن إصلاح أداة الحكم محاولة عسيرة، وأنها تعلو على الجهد الإنساني، ولكن لأبين إذا غيرنا القانون والقواعد الضابطة للحكومة، لم نكن فعلنا أكثر من أننا نقشنا نقوشا على ظاهر جدار البناء دون أن نغير البناء نفسه، فلست أدعو إلى اليأس، بل أدعو إلى أن تتسع نظرتنا، فننظر إلى أصول العلل التي انتابت أداة الحكم في بلادنا، وألا نحمل (الحاكم) وحده في الماضي والحاضر وزر ما وصلنا إليه، وأن نعرف أن ما تراكم في رءوسنا ونفوسنا من أوهام لا أصول لها.

وما أصاب تجارتنا وصناعتنا على مر الحقب من كساد وتدهور، وما انحدرت إليه ثقافتنا وحضارتنا من جمود وركود، هو أصل من أصول العلة التي نشكو منها ونحاول علاجها، وأن كل مدرسة تقام، وكل مصنع يشاد، وكل طريق يفتح، وكل كتاب يطبع، وكل صحيفة تظهر، وكل محاضرة تلقى، وكل مريض يعالج، وكل وهم يقهر، وكل أكذوبة تطارد، وكل نصر يتحقق، وكل مليم يدخر، هو جهد يبذل في سبيل إصلاح أداة الحكم، وتطهيرها من العيوب والآفات، وإننا لهذا جديرون بأن يقوى أملنا في هذا الإصلاح، لا أن يضعف.

عرفنا إذن طبيعة مشكلة التي نواجهها، والتي نسميها "إصلاح أداة الحكم" وعرفنا – في سرعة وإيجاز – عناصر هذه المشكلة، وقررنا أن أكبر هذه العناصر، وأكثرها استعصاء على الحل، هي عناصر روحية تكمن في عقول الناس ونفوسهم، ولا تبدو للعين سواء كانت عينا مجردة أو عينا استعانت بالمجهر.

وعلى هدي ما عرفناه لا بد أن نحلل أداة الحكم الموجودة الآن في بلادنا، وأن ندرك بالضبط مما تكونت.

10 -ولكي نقف على الأجزاء المادية والروحية المكونة لأية أداة حكم يتحتم أن نسألة:

أولا:لمن يعمل هذه الأداة الحكومية؟

ثانيا:بمن تعمل هذه الأداة الحكومية؟

ثالثا:كيف تعمل هذه الأداة الحكومية؟

القسم الأول أصل الداء

إذا أردنا أن نوفي هذا البحث حقه، وجب أن نصل في مراجعه الماضي، والتأمل فيه، إلى عهد الفراعنة، فإن (الحكومة المصرية) ولدت في هذا العهد، وبنى أساسها على قاعدة من عقائد وفلسفات أجدادنا، وبقيت هذه القاعدة في أعماق الفكر الحكومي المعاصر، فكما بقيت الساقية والشادوف في حقولنا على ما كانت عليه في عهد الفراعنة، بقيت صورة (شيخ البلد) و (كاتب الديوان) و (محصل الضرائب) في عقولنا.

ولكن دراسة مستفيضة من هذا الطراز قد تخرجنا من نطاق البحث المحدد إلى إطلاقات التاريخ ومحيطه الواسع.

فحسبنا أن نقصر أنفسنا على الحكومة المصرية من عهد محمد علي .

ولكي لا تفلت مرة أخرى الدراسة من أيدينا، ولكي لا يغرينا التاريخ بطرائفه المثيرة، يجب أن نبادر بتقرير هذه الحقيقة التي أصبحت من المسلمات العلمية، وهي أن في كل مجتمع طبقة هي التي تدير الحكومة وتغذيها بالرؤساء والقادة، وتملي عليها الإرادة، وترسم لها السياسة، فتصبح الأداة الحكومية، أداة هذه الطبقة، وقد تتسع هذه الطبقة الحاكمة فيدخل فيها أكثر من درجة من درجات المجتمع الاجتماعية والاقتصادية، وقد تضيق فتكون مجموعة صغيرة من الأقوياء تقف على رأس المجتمع مستأثرة بكل خيراته، بعيدة عن كل متاعبه وضرائبه وخسائره.

فإذا أردت أن تدرس أداة حكومية في بلد من البلاد، وجب أن تسأل عن الطبقة التي تعمل لها هذه الأداة، ويكون هذا السؤال والرد عليه، مفتاح الدراسة كلها، وهو يعينك على تعرف أدواء هذه الأداة وتشخيصها، ثم اقتراح العلاج.

12 –ويمكن للباحث أن يقول أن مصر قبل عهد محمد علي ، بل ابتداء من سنة 1517 التي دخلت فيها مصر في نطاق الدولة العلية، دولة بني عثمان، لم تعرف (للموظف العمومي) أو (الخدمة العامة) معنى، فالموظف الذي يعينه السلطان ليكون في خدمة الناس، لم يدخل في قاموس الإدارة العثمانية، في كل أو أكثر إيالاتها وأقاليمها، فالموظف العثماني كان جابيا للأموال، وحارسا للأمن (العثماني) وعدوا لجميع المحكومين فقد كان في عزلة تامة عن الشعب.

وكانت شئون الزراعة والصناعة والتجارة وشق الترع والطرق وإنشاء المدارس وتعمير المساجد – فضلا عن بنائها – أمورا لا تساور بال الحاكم، ولا تخطر له على ذهن، وإن وجد ولاة عثمانيون يعمرون في مصر أو الشام، أو بلغاريا، أو صربيا، فهم شواذ لا يقاس عليهم، وغالبا ما يكونون ألبانا أو سوريين، ومن أجناس أخرى تجنست بالجنسية العثمانية.

ف الحكومة في العهد العثماني، أو الأداة الحكومية كانت أداة فطرية بدائية قوامها "الكرباج" ودستورها الإرهاب وهدفها جمع المال، ولذلك كانت بسيطة غاية البساطة، خالية من التعقيد، عرف المحكومون في ظلها أن مهمة الحاكم إفقارهم، ومهمتهم الفرار من هذا الحاكم وخداعه، ولعنه في السر، واتقاء شره في العلن.

ولما تضعضعت الدولة (العلية)!، وسقط الحكم في أخريات القرن الثامن عشر في أيدي المماليك زالت فكرة (الحكومة) نهائيا عن النظام القائم آنذاك في مصر فلم يعد هناك (حاكم) ولا (حكومة)، وإنما أصبح الأمر عراكا بدائيا سوقيا بين جماعة من (قطاع الطرق) يسمون (أمراء) أو (مماليك)، لا يحترمهم أحد، حتى ولا أنفسهم، وعلى كثرة ما أرهقوا الشعب وضربوا مقومات تجارته وزراعته وصناعته، وعلى فداحة ما ألحقوه بمقام مصر وثقافتها ومكانتها من هوان فقد كانوا أبعد الناس عن حياة الشعب الداخلية والوجدانية، فاضطلع المصري بأمور حياته، مسقطا من حسابه هذه (الطغمة).

13 – ولما وصل محمد علي إلى سدة الحكم في مصر، كان التطور الروحي في مصر قد بلغ مرحلة من مراحل نضجه، حضرت له دولة (علي بك الكبير) التي ظفرت بنوع من الاستقلال عن تركيا ، وحالة الانهيار التي شملت حكم المماليك وأدت إلى تصفيتهم التي عجلت بها الحملة الفرنسية، وأكملتها مذبحة القلعة عندما استتب الأمر لمحمد علي.

في هذه المرحلة تحركت تقاليد الحكم القديمة في مصر وأصبح للشعب زعماء يطالبون بحقوقه ويدافعون عنه أمام الحاكم سواء أكان البقية الباقية من المماليك أم نابليون بونابرت أم محمد علي نفسه وكان هؤلاء الزعماء من شيوخ الأزهر ونقباء الطرق الصوفية هم المعارضة التي أسلمت الراية لعرابي فتلقفها منه مصطفى كامل و محمد فريد حتى كانت ثورة سنة 1919 فثورة سنة 1952.

هذه المعارضة مع مبادئ الحكم التركي هي التي حددت صورة الحكم في عقل الشعب المصري.

14 – في عهد محمد علي ألقيت بذور (الحكومة) وبدأت هياكلها الأساسية تظهر وبدأ (الموظف العمومي) يوجد واتضحت بجلاء الطبقة التي تدير الأداة الحكومية وترسم سياستها وتعطيها القادة والزعماء وكانت طبقة ضيقة النطاق، محدودة العدد، إذ لم تتجاوز شخص محمد علي وأولاده ومن يستقدمهم من الأجانب سواء أكانوا ألبانا أو أوربيين أكثريتهم الساحقة من الفرنسيين.

وكما كان نظام الحكم في عهد تصفية النفوذ العثماني والمرحلة الأخيرة لسلطان المماليك بسيطا غاية البساطة لأن جوهره هو انعدام الحكومة بمعناها المفهوم فإن نظام الحكم في عهدمحمد علي كان بسيطا كذلك ولكن بصورة أخرى إذ كان يتلخص في أن كل شيء مرده إلى إرادة ( محمد علي) فقد اجتمعت في شخصه كل السلطات فكان المشرع والمنفذ والقاضي، وكان هو المالك والزارع والتاجر والجندي.

ولكن لأنه كان يود أن يؤسس إمبراطورية وكان تأسيس الإمبراطورية يقتضيه إنشاء جيش وأسطول وكان الجيش والأسطول في حاجة إلى مصانع ومخازن ومستشفيات ومدارس وفنيين وكتبة وسجلات فقد نشأت طبقة من الفنيين وعدد غير قليل من الموظفين، وبدأت الحكومة تظهر وتستتب وتتضح ...

ولكن ما يهمنا في هذه الحقبة هو أن نستخلص أن الحكومة كانت تعرف سيدا واحدا هو محمد علي وأولاده وقواده ومعاونوه وكان الجميع يعرفون ذلك، فالحكام يمارسون سلطتهم لهذا الغرض وأفراد الشعب يرون هذه الممارسة ويشهدون مظاهرها وهم يعلمون أنه لا نصيب لهم في الحكم ولا حق لهم فيه ولا رقابة لهم عليه.

15 – وبقي الأمر هكذا حتى جاء عهد إسماعيل فتعقد الأمر نوعا ما وإن بقي على جوهره القديم.

بقي للحكومة سيد واحد، هو الخديو، وبقيت تخدم طبقة واحدة هي هذا الخديو وأولاده وأقاربه ومساعدوه ومعاونوه وبقي الشعب منفيا عن حظيرة الحكم لا نصيب له فيه، ولا حق له في خيراته، ولا في رقابته. ولكن جدت مع ذلك أمور منها:

أولا:أرسل محمد علي من أبناء الفلاحين إلى أوروبا شبانا حصلوا العلم في عواصمها، وعادوا يشغلون بعض الوظائف، ويؤلفون بعض الكتب، وينثرون آراء جديدة.

ثانيا: سمح الخديو محمد سعيد لأبناء الفلاحين بأن يترقوا في سلك الجيش ووصل بعضهم في عهد الخديو إسماعيل إلى رتب البكباشي والقائمقام، وكان من هؤلاء أحمد عرابي وزملاؤه.

ثالثا:ازدادت صلة مصر بأوروبا – وكثرت ديون الخديو، وزاد النفوذ الأجنبي، وأخذت السيادة المطلقة (للخديو) على الحكومة تنحسر، ويدخل له شركاء فيه بطريق غير مباشر من الأجانب.

رابعا:دبت الحياة إلى الحركة الفكرية في مصر، وأصبح الخضوع التام للحكم المطلق، أمرا يناقش بعد أن كان مغلقا، وحرما لا تطؤه الأقدام.

ففي هذه الفترة توالي صدور الصحف فظهرت جريدة (النحلة الحرة) للويس صابونجي و (الكوكب الدمشقي) لسليم حموي سنة 1870 كما صدرت ( الأهرام) لسليم وبشارة تقلا سنة 1875 ثم صدرت مجلة (مصر) الأسبوعية لسليم نقاش وأديب إسحاق في الإسكندرية ثم انتقلت إلى القاهرة ثم ظهرت مجلة (أبو نظارة زرفا) الأسبوعية للصحفي اليهودي يعقوب صنوع سنة 1877 وفي سنة 1879 أصدر سليم منحوري وإبراهيم اللقاني "مرآة الشرق".

16 – ولما ثقلت ديون الخديو، وأحب أصحاب الديون وأكثرهم من كبار بيوت المال والمصارف المملوكة للرأسمالية اليهودية العالمية – أن يتخذوا من هذه الديون سبيلا لبسط نفوذ سياسي على مصر، كمقدمة لاستثمارات مالية ضخمة في الشرق العربي، وكتحضير لإقامة نظام استعماري يرث الدولة العثمانية ...

ولما حدث هذا كله أصبح من أكبر هموم الدولة الغربية وأهدافها أن تروج للفكر الحديث في مصر، وأن تنشر مبادئ (الليبرالية) الغربية، التي تقوم على برلمان منتخب، وصحافة حرة، ولم يكن قصد الغرب – ممثلا في المصارف وأصحاب البيوت المالية اليهودية – إقامة ديمقراطية صحيحة، وإنما إقامة نظام سياسي يمكنهم من العبث في أحشاء السياسة المصرية والخوض فيها بأصابعهم ولذلك لم يكن غريبا أن يظهر (يعقوب صنوع) الإسرائيلي وأن يؤلف المسرحيات والقصص ويصدر الصحف، يملؤها طعنا في الخديو إسماعيل.

ولما أحس إسماعيل بأن أجل سلطانه وافى وأن الغرب سيطبق عليه، وسيضيق عليه الخناق، اضطر اضطرارا إلى أن يسند ظهره للشعب وأن يؤلب العناصر الوطنية على النفوذ الأجنبي المتسلل، وأن يظهر تبرمه من صنائع الغرب أمثال (نوبار) وممثليه الرسميين أمثال (ريفرز ويسلون) و (دوبلنير).

ونجم عن هذا التطور الذي التهبت وقائعه، وتزاحمت فصوله، قبيل خلع الخديو إسماعيل في 26 يونيه سنة 1879، والذي بلغ قمته بقيام الثورة العرابية، أن الدولة والحكومة لم تعد تخدم سيدا واحدا، فلم يعد الخديو هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فيما يعمل وفيما يقال وتنازعت السيادة عناصر عديدة كان منها:

1 –الأسرة الخديوية وأقاربها وأشياعها من العناصر التركية والشركسية والألبانية، وكبار الموظفين ورؤساء المصالح والدواوين الذين يدينون بمناصبهم ونفوذهم وثرواتهم لأسرة محمد علي .

2 –أصحاب المصالح المالية من الأجانب.

3 –الطبقة الجديدة من الوطنيين من أصحاب المزارع وكبار التجار وكبار العسكريين.

17 – ثم وقعت نكبة الاحتلال فأصبح في الحال هو سيد البلاد الحقيقي وأصبحت الحكومة في خدمته، هو الذي يشرع، وهو الذي ينفذ، وهو الذي يمسك بخيوط القضاء الأصلية.

ولكن الدولة أو نظام الحكم فقد بساطته التي كان يتمتع بها عهد المماليك وفي عهد محمد علي ، فلم تعد فكرة الحكم هي الفوضى والصراع الدائب على السلطة كما كان الأمر في عهد المماليك.

ولم تعد الخضوع المطلق ل محمد على أولاده، كما كان الحال حتى 14 سبتمبر سنة 1882، وإنما وجدت دولة حديثة، واتضحت معالم فكرة (الوظيفة) و (الموظف العمومي)، ولكن الاحتلال اضطر أن يدخل في تحالف ثلاثي أو رباعي قوامه:

أولا:الاحتلال على رأس نظام الحكم، يضع السياسة العامة، ويشرف على تطبيقها ويراقبه.

ثانيا:الخديو والأسرة المالكة، يحدد لها نطاقا معينا من النفوذ الذي يكاد يخلو تماما من العنصر السياسي، ويقتصر على الثروة الزراعية، وبسط اليد على الأوقاف، والمعاهد الدينية.

ثالثا:الأجانب عموما، وأصحاب الامتيازات الأجنبية خصوصا، والرأسمال الأجنبي الذي كان يزداد على مر الأيام نموا واتساعا وقوة.

رابعا:الأرستقراطية المصرية الحديثة الممثلة في العائلات التي رحبت بالاحتلال والتي أقطعها الاحتلال اعترافا بجميلها أراضي واسعة من مزارع الخديو المعروفة بالدائرة السنية.

وكان يقف على مقربة من هذه العناصر الرئيسية جاليات شرقية تقوم بالخدمات الصغيرة للاحتلال، وجاليات من أوروبا الشرقية الجنوبية (يونان – بلغار – وصرب) وكانت هذه الجاليات تكتسب الخصائص المصرية في معيشتها، لفقرها في الأغلب – وتنتسب إلى الأجانب الأغنياء في أيام المحن والاضطرابات.

أما الشعب فكان يكافح وسط هذه الغابة المليئة بالذئاب، باحثا عن طريقه إلى السلطة.

18 – كان لمركب السلطة المعقد الذي حللناه بسرعة أثره في البناء الحكومي وفي كفاية الأداة الحكومية.

فمما يعين على كفاية الأداة الحكومية أن تخدم سيدا واحدا ولكن حينما يتنازع توجيه الأداة الحكومية أكثر من سيد حتى ولو تفاوت هؤلاء السادة في النفوذ والقوة فإن هذه الأداة تنهك وتعجز عن أداة رسالتها. ولكن هؤلاء السادة على تعددهم لا تتناقض مصالحهم فيما يتعلق بالأداة الحكومية التي يجب خلقها في العهد الجديد، عهد السيطرة الأجنبية والاحتلال البريطاني. وقد قضت المصالح المشتركة لهؤلاء السادة كالآتي:

1 –فلاح مستريح البال محدود الرزق لكنه يعرف بالضبط الضرائب المطلوبة منه تحميه الحكومة من الكرباج والسخرة، وتبعده ما استطاعت عن التعليم والثقافة وعن الاتصال بالمدينة، فحكومته هي العمدة وشيخ البلد، وخضوعه المباشر لهما ولصاحب الأرض.

2 –موظف مصري يعين في الوظيفة بناء على شهادة يحصل عليها تجعله قادرا على القراءة والكتابة وتحد طموحه إلى ما هو أعلى وتوفر له مرتبا مضمونا ومعاشا مكفولا وتحقق له تفوقا على سائر المواطنين من الفلاحين الأميين الذين لا يقرأون ولا يكتبون.

3 –قلة من الموظفين الفنيين المصريين الذين يكونون صلة الوصل بين الموظف المصري والرؤساء الفنيين الأجانب الذين يتزعمون النظام الحكومي ويجلسون فوق قمة هرمه.

4 –طبقة أرستقراطية مصرية حديثة مدينة بثرائها للاحتلال الأجنبي توزع ولاءها بينه وبين الخديو وتتذبذب بينهما ذبذبة محدودة فهي إن مالت مع الاحتلال لا تعلن الثورة على الخديو وإن مالت مع الخديو لا تعلن الثورة على الاحتلال، وهي في مجموعها تكره انتشار التعليم وتنفر من التطور الوطني.

وغاية هذا النظام كله خلق اقتصاد وطني قائم على الزراعة ومرتبط بالاقتصاد الأجنبي لا يفكر في الصناعة ولا يقترب منها ويترك التجارة للأجانب على اختلاف طبقاتهم فالعمليات الكبرى من نصيب الدول الغربية القوية (إنجلترا – فرنسا – بلجيكا – ألمانيا)، والعمليات الوسطى من نصيب الدول الغربية المتوسطة (إيطاليا – اليونان)، والعمليات الصغيرة من نصيب الجاليات الأجنبية الصغيرة (أرمن – صرب - .. إلخ).

19 – وفي ظل هذا النظام لم يشعر الموظف المصري أنه في خدمة الشعب أو في خدمة الوطن ولا أنه موظف عمومي ذلك لأن المصالح اقتصرت على عدد قليل جدا هم أصحاب الأطيان وهؤلاء لا يتعاملون تقريبا إلا مع مهندس الري ومأمور البوليس، وهم لا يحتاجون لأن يطلبوا فالأداة الحكومية موضوعة أساسا في خدمتهم بالريف لأن مصلحة النظام تقضي عليه أن يكون القائمون على أمر الزراعة هانئي البال لا يساورهم قلق، ولكنا سنرى أن الأمر لن يبقى على هذا المنوال فإن العناصر الوطنية ستتحرك.

وشعور هذه العناصر بأن الأداة الحكومية غريبة عنها سيشتد ولذلك ستبدأ الإدارة الحكومية بالانتقال من دور الركود الهادئ السعيد إلى دور التمزق حينما يحاول جانب من السادة جذبها إليه وإخضاعها لإرادته والتوسل بها إلى غاياته ومصالحه.

20 – وإذا كنا قد قسمنا محاولة التعرف على أصل الداء إلى أقسام ثلاثة، أولها: لمن تعمل الحكومة.

وثانيها: بمن تعمل الحكومة، فقد يحسن أن ننتقل الآن إلى هذا القسم الثاني، ولكن على ألا يفوتنا أن ننبه إلى أن القسمين متداخلان، فإن كنا سنتكلم عن العناصر التي تعمل بها الأداة الحكومة فسنضطر إلى العودة للحديث عن الذين تخدمهم هذه الأداة.

جاء الاحتلال البريطاني، ونمت المصالح الأجنبية، واتصلت مصر بالأفكار الأوربية الحديثة ونشأت الأرستقراطية المصرية التي منحها الاحتلال أراضي زراعية واسعة فوقفت جنبا إلى جنب مع الأرستقراطية التركية التي منحتها عائلة محمد علي المساحات الشاسعة فماذا كان انعكاس هذا كله على الأداة الحكومية؟

كان أثر هذا التعدد في أصحاب السلطة الذين تخدمهم الدولة أن تحولت الأداة الحكومية إلى ما يشبه مرقعة البهلوان، وإليك البيان.

21 – كانت اللغة التركية طوال حكم محمد علي هي اللغة الرسمية للبلاد تكتب بها الأوامر العالية ثم تترجم إلى اللغة العربية كما تجري بها المكاتبات بين المصالح ثم بدأت اللغة العربية تجاورها في استيحاء، فلما حل عهد الاحتلال أصبحت لمصر أكثر من لغة رسمية، فالسراي الخديوية تتكلم باللغة التركية التي تتخاطب بها أيضا قصور الأمراء وأصهارهم وأنسباؤهم والعاملون معهم والمرتزقون منهم، وكانت لهذه القصور تقاليدها الخاصة بها مظهرها الخارجي: الحرملك، السلملك، الأغوات، الكلفوات واليشمك.

وكانت اللغة الفرنسية لغة رجال السياسة والحكم والقانون تصاغ بها القوانين ثم تترجم إلى العربية ويتخاطب بها رؤساء النظار والنظار (الوزراء) وتزاحم التركية في القصور والصالونات، ثم جاءت اللغة الإنجليزية فأصبحت لغة التعليم ولغة مصالح معينة، المتصلة بالمواصلات والصحة والأمن العام والجيش.

وتأتي في الذيل اللغة العربية وكان قد أنهكها وهلهل نسيجها الجهل الذي ران على مصر طوال العهد العثماني والعهد المملوكي، وقد نشأت لغة (دواوينية) تكونت من خليط تركي وأوروبي وعامي. وقد ظهر هذا (التربيع) في كل ناحية من الحياة، فمن آثاره أن القصر الخديوي كان يضم (الديوان التركي) و (الديوان الإفرنجي) و (الديوان العربي).

كما كان في مصر أكثر من تقويم (فالتقويم الهجري) هو التقويم المعتبر رسميا وإلى جانبه (التقويم الميلادي) في التجارة وشئون المال وفي الزراعة والريف يعمل (بالتقويم القبطي).

وقام في مصر أكثر من نظام قانوني وقضائي، وكانت الشريعة الإسلامية أو المذهب الحنفي هو الأساس التشريعي والقانوني للبلاد ثم جاء التشريع الفرنسي (قانون نابليون) ابتداء من سنة 1883، وكان للعربان في الصحراء قانونهم ونشأت على مر الأيام أحكام خاصة ب الجيش سميت قانون الأحكام العسكرية لم تزد عن كونها أوامر سردار الجيش المصري الذي أصبح الحاكم العسكري للسودان.

وكان يملك بهذه الصفة أن يشرع في السودان فامتد تشريعه إلى الجيش المصري، ثم وضعت قوانين خاصة بالأجانب في المسائل المدنية والتجارية وإجراءات التقاضي وكان لأبناء الطوائف الدينية من غير المسلمين قوانينهم الخاصة التي تفصل في منازعات الأحوال الشخصية وقد كثرت هذه المحاكم إلى حد بعيد.

وترتب على هذا أن وجدت المحاكم الشرعية والمحاكم الأهلية والمحاكم المختلطة ومجلس العربان والحدود وعدد لا يحصى من مجالس البطركخانات والحاخامانات ومحاكم الأخطاط في القرى والمجالس الحسبية المختصة بشئون القصر والتركات والقوامة والوصاية والوكالة عن الغائبين كما كان للقنصليات الأجنبية حق محاكمة رعاياها في الجنايات والجنح التي تقع في مصر.

وترتب على هذه الفوضى التشريعية والقضائية أن المنازعة القانونية الواحدة يمكن أن تتصدى للفصل فيها أكثر من محكمة: الأهلية – والشرعية – والمختلطة والمجالس الملية .. وقد يطول النزاع لهذا السبب نصف قرن ثم لا يفصل فيه.

وإذا كانت القضية جنائية اشترك فيها مصريون وأجانب – حاكمت المحاكم المصرية بعضهم والمحاكم القنصلية البعض الثاني والمحاكم الأجنبية البعض الثالث، ولما اتسع النشاط الأجنبي المالي والاقتصادي في بلادنا وجدت أنظمة اقتصادية مختلفة ومتناقضة.

فإلى جانب الوقف والحكر وجدت الشركات المساهمة وشركات التوصية وذات المسئولية المحدودة كما وجدت البنوك وعرف نظام الرهن الحديث مع (الغاروقة) وبقيت الأطيان (العشورية والخراجية).

22 – وبالجملة وجد مجتمع متحلل منفصل بعضه عن بعض تملأ لغة حياته اليومية وعمله ألفاظ لكل منها تاريخ خاص وأصل مستقل: من ذلك (الفرمان) و (الديكريتو) و (الويركو) والأمر العالي والإرادة السنية والمرسوم والخديو والحكمدار والخازندار والباشمهندس والباشكاتب والأمباشي واليوزباشي والبكباشي والقومندان والكمساري ويحدث أن يسمى الشيء الواحد بأسماء متعددة فالمستشفى هي (الأشلا) وهي (الاسبتالية) وهي الشفخانة (الشفخانة بالتركية هي المستشفى وأطلقت في مصر على دور العلاج للحيوان فقط) والقهوة هي البورصة والكلوب والكازينو.

وإلى جانب الكتبخانة والأجزخانة واليمكخانة توجد (الكوبانية) و (الفاوريقه) و (الوابور) وفي المدرسة كنت تسمع (الألفة) و (الخوجه) و (البرنجي) إلى جانب السبورة والمؤشر والناظر.

كما كنا نسمع المكوجي والعربجي والبرمجي والعصبجي إلى جانب الكوماندة والمعلم والأسطى، وهكذا وهكذا خليط يقابلك في كل شيء ولكنه كان أسوأ أثرا في التعليم والثقافة ف الأزهر ومدارس المعلمين الأولية الفرير والجزويت ومدارس الليسيه الفرنسية العلمانية ومدارس البعثات والإرساليات الأمريكية ومدارس الإنجليز ككلية فكتوريا وأشباهها.

فأية أداة حكومية يمكن أن تخرج من تلك الأشلاء المتناقضة والبقايا المتناثرة من أنظمة ومؤسسات حديثة لم تثبت في الأرض ولم تستقر في البيئة، وأي جهاز بشري يمكن أن تستخدمه الأداة الحكومية والمجتمع كله لا يتسق بناؤه بعضه مع بعض، يعيش فريق منه في الماضي السحيق وفريق في أوربا المتطورة، ويتلقى ثقافته وأساليب حياته من أكثر من مصدر ويتبع في تجارته وزراعته وتفكيره وتعليمه وبيته وشارعه ومقهاه طرائق متناثرة.

كان حسبك أن تتعدى ميدان العتبة الخضراء إلى أحياء الدرب الأحمر والجمالية وباب الشعرية حتى تشعر أنك تجاوزت القرن العشرين بكهربائه وعربات الترام والسيارات وميدان الأوبرا إلى القرن السابع عشر والثامن عشر حيث تجد (السقا) يحمل الماء إلى البيوت في قرب وهو يصيح "يا ساتر" وبدلا من أن تجد الطبيب المولد تجد "الداية" والحلاق، وبدل أن تجد الشوارع الممهدة تجد الحواري الملتوية والدروب المسدودة لا ينيرها مصباح ولا يحرسها في المساء عسكري بل خفير بلبدة ونبوت والأطفال تزحف فيها نصف عارية على بطونها وجوههم أسراب الذباب.

23 – مثل هذا المجتمع المفكك الذي لا يلتحم أجزاؤه لا تصلح له أداة حكم واحدة لأنه في الواقع عدة مجتمعات لا مجتمع واحد بل لعله عدة دول منها دولة الأتراك الذين يعيشون وراء أسوار تقاليد متصلبة قوامها الثراء المنتزع بغير جهد مع غطرسة وجهل، ودولة أو دول الأجانب الذين ينظرون إلى البلد كمجال للاستثمار ومزرعة للمواد الأولية التي تلزمهم وإلى أفراد الشعب كأيد عاملة رخيصة، وإلى الوطن كله كماض عظيم وجب عليه أن يخلي طريقه لحضارتهم، ثم دولة كبار الأغنياء المصريين الذين يعتقدون أن أداة الحكم مهمتها توفير المياه لأراضيهم وحماية مزارعهم وأشخاصهم.

ودولة الموظفين الذين يحمدون الله أن نجاهم من الحظوظ المقسومة لأقاربهم وذويهم من الفلاحين الذين لا يجدون إلا الإهانة والإهمال والتنديد بغبائهم وجهلهم ورذائلهم التي يبالغ الجميع في تجسيمها وإبرازها،

أما هؤلاء الفلاحون والعمال فلهم دولة غير قائمة ولكن الجميع يحسون في أعماق وجدانهم بها وبأنها أشد هذه الدول خطرا لو غفلت الدول الأخرى عنها فهي لا بد أن تبقى محاصرة من كل جانب وإلا أطاحت بهذه الدول عن بكرة أبيها، ولما كان قوام الأداة الحاكمة هم الموظفون، ولما كان الموظفون قد تزايد عددهم في ظل النظام الجديد – نظام الاحتلال والامتيازات الأجنبية.

وكانت مرتباتهم تستهلك 35% من الميزانية (بلغت في بعض الأحايين 50%) وكانت نسبتهم إلى القوى العاملة تجاوز الثلث وكانت الطبقات التي تحدد مرتباتهم ومكافآتهم هي الاحتلال والأجانب والمنتمون إلى الخديو والسلطان والوزراء.

فقد أحسوا بانتمائهم إلى هذه الطبقات، وشعروا أن المطلوب منهم أن يرضوا سادتها، فتضاءلت عندهم فكرة الخدمة العامة، وثبت لهم أنهم من الطبقات الممتازة، وأدركت الطبقات الممتازة الأخرى حاجتها إلى هؤلاء الموظفين فأرضتهم ما استطاعت فأصبحوا قوة يحسب لها أكبر حساب.

24 – فإذا أردنا أن نرسم للأداة الحكومية في ذلك العهد صورة إجمالية قبل أن ننتقل إلى الخطوة التالية وجب أن نرسم هذه الصورة منظورا إلى الأداة الحكومية من وجهة نظر السواد الأعظم للشعب، ومن هذا الجانب تبدو لنا خصائص هذه الأداة على الوجه التالي:

1 –هي أداة أجنبية كانت تركية ثم أصبحت محكومة بالإنجليز والأتراك والأجانب ومن يتبعهم.

2 –فهي عدوة لا تنطوي على حب للشعب ولا على احترام للمحكومين.

3 –وهي قاسية لا يرى منها العامة في الريف إلا الصراف الذي يجبي الأموال ويحجز على المحاصيل، أو مهندس الري الذي يحرر مخالفات قطع الترع والجسور، وعسكري النقطة الذي يضرب، ومفتش الصحة، ومفتش الزراعة، وحتى المدرس في المدرسة الجميع متجهمون ويحررون محاضر مخالفات أو يضربون ويسبون ويلعنون.

فليس في موظفي الحكومة واحد فقط يأتي للمواساة والمشاركة أو المنح والإعطاء، ولا يستثني من ذلك خطيب المسجد فهو ينذر بالويل والثبور، ويبشر بعذاب الجحيم.

4 –الأداة الحكومية نهابة أخاذة تستولي دائما وتحدد دائما وتضيق دائما وتكذب كثيرا.

5 – ثم هذه الأداة الحكومية لا تعيش معهم ولا يعرفون مقرها ولا يفهمون خططها وأساليبها لأنها تقيم في مصر وكلما علت شكواهم هز الموظفون الذين ينفذون أوامرها أكتافهم ويقولون (هذه أوامر الحكومة).

6 –الأداة الحكومية لا تتفاهم معهم فهم مأمورون أن يوقعوا على أوراق ونماذج وطلبات وعرضحالات لا يفهمون ما فيها ولا المبرر لكتابتها، فالقانون فوق أفهامهم ولا فائدة من الشرح والإبانة لهم.

ويمكن لأي إنسان أن يستنتج ماذا يمكن أن تكون آثار هذه العلاقة لأي إنسان أن يستنتج ماذا يمكن أن تكون آثار هذه العلاقة بين الأداة الحكومية والناس وكيف أن مثل هذه الأداة لا يتيسر لها أبدا أن تقوم بعمل مثمر، ولا أن تؤدي وظيفتها المطلوبة أصلا.

25 – كان المجتمع المصري، في الوقت الذي حلت فيه بالبلاد كارثة الاحتلال، مجتمعا يشكو من هذا الانفصام الروحي والفكري، الذي ذكرنا بعض صوره.

وقد كان عمق هذا الانفصام أن المجتمع المصري مر في أقل من مائة سنة بتجارب وتطورات سياسية وإدارية وثقافية، سريعة وحادة، ولم يتح لواحدة من هذه التجارب أو (التقلبات) الوقت الكافي، والمناخ المواتي، لتصل إلى أعماق الوجدان المصري، فكانت كلها ألوانا خارجية، ولكنها مع سطحيتها، كانت حائلا دون تكامل المجتمع، وتماسكه.

فقد تدهور المماليك في أخريات القرن الثامن عشر، حتى أصبحوا قطاع طريق، ونجحت "مشاجراتهم" على الحكم في صرف الشعب المصري نهائيا عن تتبع هذه المشاجرات، اكتفاء باتقاء شرها، أو محاولة وضع حد لعدوانها على حقوقهم بالاستعانة بعلماء الأزهر ومشايخ الطرق الصوفية.

2 – ثم جاء نابليون بونابرت وحملته، فكان هذا طورا جديدا في حياة المصريين، ولكنه كان طورا طريفا، ومثيرا فقد كان نابليون وضباطه أول طغاة يعرفهم المصريون منذ عهد الحملة الصليبية في أوائل القرن الحادي عشر من غير المسلمين، وكانت أسلحتهم جديدة وأسلوب حياتهم مخالفا كل المخالفة، للأساليب التي رأوها، وسمعوا عنها، وخبروا الكثير حولها، وفي هذه الفترة كان المصريون يقودون ويتعلمون ويفكرون، وبدأت ملامح جديدة للإدارة تبدو لهم، وتحملهم على توسيع أفق تفكيرهم.

3 – وجاء في أعقاب ذلك،محمد علي، وكانت الثورة على نابليون، قد تدفقت لها في عروق الشعب المصري دماء جديدة، غير تلك الدماء الراكدة التي أسنت في عهد المماليك، وفي هذا الطور، ولدت الدولة المصرية وولد الجيش المصري النظامي، وولدت الحكومة المركزية التي تمسك في يدها بجميع الخيوط: الإدارة والاقتصاد والجيش والسياسة ووجدت هذه التفرقة التي تلازم كل حكم واضح المعالم مستقر: التفرقة بين الحكام والمحكومين.

فابتداء بعهد محمد علي، وجدت طبقة حاكمة مستقرة ثابتة، تبسط يدها على المدن والقرى، على الجيش والمدنيين على الفلاحين والتجار، فاكتمل عند الشعب شعور المحكومين، بعد أن كان الأمر في عهد المماليك، شعور المهددين في أرزاقهم وحياتهم من طغمة ليس لها صفة الحاكم، بقدر ما تحمل من خصائص اللص.

وقد ازداد شعور المصريين بكونهم (محكومين) كلما مرت الأيام، وأحسوا أنهم ممنوعون من الوصول إلى مناصب الحكام.

26 – لكن هذه الصورة الحادة الملامح لم تلبث حتى فقدت وضوحها، فبعوث محمد علي – كما سبق القول – زادت صلات مصر بالغرب، فقد عاد الشبان المصريون من أوربا، واستعين بهم في الوظائف، وألفوا الكتب ولم تعد سلطة الوالي، في القوة التي وصلت إليها سلطة محمد علي، وزاد نفوذ الأجانب، واتجه سعيد إلى الفلاحين وأصدر اللائحة السعيدية التي منحتهم حقوقا أوسع نسبيا مما كان لهم في عهد محمد علي وإبراهيم وعباس.

وسمح لأولاد الفلاحين في الجيش بأن يصلوا إلى رتبة الأميرالاي أو القائمقام، وزادت الوظيفة الحكومية وضوحا، كما زاد ما كان يساور المصريين في عهد محمد علي من التأمل في الحكم ووظائفه، ونقده، الأمر الذي وجدنا إرهاصاته في يوميات عبد الرحمن الجبرتي، وازداد، عندما أصبح في مقدور أحمد عرابي أن يقرأ ترجمة حياة نابليون، في نسخة مهداة من الخديو سعيد نفسه.

فلما حل عهد الخديو إسماعيل، وغازل بعض الأفكار الحديثة، فأصدر في سنة 1866 لائحة مجلس شورى القوانين، وعلى الرغم من أنه كان مجلسا أبعد ما يكون عن أن يكون مشاركة من الشعب في الحكم، فإنه كان بلا شك تطورا عظيما في هذه المرحلة من مراحل التاريخ المصري الحديث، فلما توالت الأحداث، وأحس الخديو إسماعيل أن سلطان تركيا، والإنجليز، والفرنسيين، قد تحالفوا على خلعه، وسع في سلطات الشعب، فأنشأ في سنة 1878 مجلس النظار.

ثم وضع محمد شريف رئيس النظار لائحة لمجلس نيابي جديد، تعتبر بالنسبة لسلطات مجلس شورى القوانين قفزة إلى الأمام، وفي هذا الدور بدأت الصحافة تكتب وتنقد واشتد شعور الطبقة المحكومة، بالحرمان الذي تعانيه، وعقدت العزم، على أن تشارك الحكم، وعلى أن تراقب الحاكم، وأن تجعل الحكومة في خدمة الشعب لا سيدة له مسلطة على أقداره.

27 –فلما وقع الاحتلال في سنة 1882 تكامل وضوح صورة الوظيفة الحكومية، فوجدت وظائف متميزة ذات اختصاصات محددة، فوجد المهندسون والقضاة ورجل النيابة، وعلماء الأزهر ، ومدرسو المدارس الابتدائية والثانوية ومدرسو المدارس العليا وكان أهم تطور في هذا العهد، أن الالتحاق بالوظيفة وشغلها أصبح بمقتضى الحصول على مؤهل دراسي خلافا لما نص عليه الأمر العالي الصادر في 10/ 4/ 1883 والذي توالت تعديلاته في سنة 1885 وفي سنة 1888، 1893، و 1895 ...

حتى انتهت هذه التعديلات بصدور الديكريتو الخاص بلائحة المستخدمين الملكية، في مصالح الحكومة في 24 من يونيو سنة 1901 وبعد أن كانت الأوامر العالية السابقة على هذا الديكريتو تنص على وجوب إجراء امتحان للراغبين في شغل وظائف الحكومة وأن الناجحين في هذا الامتحان هم الذين يحق لهم أن يشغلوا الوظيفة الشاغرة، أصبح لكل وظيفة في الحكومة مؤهل يعتبر جواز مرور إليها.

فرجال النيابة والقضاة يجب أن يتموا التعليم في مدرسة الحقوق الخديوية، والمهندسون في مدرسة المهندسخانة، والمدرسون في مدرسة المعلمين العليا، أو في مدرسة دار العلوم والأطباء في مدرسة الطب، ثم أنشئت مدرسة الزراعة العليا، والطب البيطري، كما أنشئت معاهد فنية كمدرسة الفنون والصنايع، ومدارس الزراعة المتوسطة، ثم أنشئت أخيرا مدرسة التجارة العليا لتخريج الموظفين الإداريين والكتابيين ثم الوظائف المتوسطة والعليا.

28 –وإذا أرادنا أن نحصر الملامح الأساسية للأداة الحكومية في عهد الاحتلال البريطاني لوجدنا أن أهم هذه الملامح:

أولا:صدور قانون عام للوظيفة الحكومية على اختلاف النظارات (الوزارات) والمصالح والدواوين التي تتبعها الوظيفة، فالتعيين والنقل والترقية والتأديب والإحالة إلى المعاش، لها جميعا دستور واحد يخضع له جميع الموظفين سواء أكانوا مدرسين أو أطباء أو مهندسين.

ثانيا: إنشاء نظام واحد لبناء الأداة الحكومية، يشمل الوظائف من أدناها إلى أعلاها، ويقسمها إلى فئات أو درجات أو سلالم، ويحدد مرتبات أصحاب هذه الوظائف في مختلف هذه الدرجات، وسمى هذا النظام بالكادر اقتباسا للفظ الفرنسي، وقد شاع هذا اللفظ وذاع، وأصبح من أشهر الألفاظ وأكثرها تداولا.

ثالثا:تقررت لمجلس النظار الذي سمي بعد ذلك بمجلس الوزراء، سلطة استثنائية في العزل والتعيين، يتحرر بفضلها من قيود القوانين الحاكمة والضابطة للوظيفة الحكومية في التعيين والنقل والترقية والإحالة إلى المعاش.

رابعا:نشأت إلى جانب (الكادرات) العامة، على مر الأيام خاصة لبعض الوظائف، كالقضاة، والسلك السياسي، ورجال الجيش.

29 –لكن سرد هذه الخصائص العامة للأداة الحكومية في عهد الاحتلال لا قيمة له إلا إذا أحطنا علما بالخصائص الروحية الملابسة للأداة الحكومية في هذا الطور من تاريخنا الإداري.

ويمكن أن نطلق على هذه الخصائص الأسماء الآتية:

أولا:عهد الفارس بلا رأس.

ثانيا:دولة الموظفين وأرباب المعاشات.

ثالثا:الحمل الثوري.

رابعا:الإجهاض الدستوري.

عهد الفارس بلا رأس

30 –لما كنا أطفالا شاهدنا سلسلة من سلاسل الإثارة والمغامرات البوليسية اسمها سلسلة (الفارس بلا رأس) كان بطلها فارسا مغوارا، لا يقتله رصاص البنادق، ولا طعنات الخناجر، ولا لهيب النيران، وكان يتجول هيكلا بشريا يحارب ويقاتل، يقفز ويقتحم الأبواب المغلقة، فله ذراعان قويتان، وساقان مجدولتان، ولكنه بلا رأس، وكان الكشف عن هذا السر المعمى، هو قمة الإثارة في نهاية السلسلة، لمن يطول صبرهم حتى تكمل حلقاتها الثلاثون.

وكان في مصر، فارس بلا رأس، ولد عندما ولدت الوظيفة الحكومية بمدلولها الحديث واستمرت حياته طويلا. فالبناء الحكومي، تشكل في قاعدة واسعة من الوظائف الصغيرة، تعلوها طبقة أقصر قطرا من وظائف أكبر شأنا، حتى ينتهي الهرم في الوزارة، برئيس واحد، هو الوزير رأس هذا الهرم.

وكان متقضى هذا البناء، أن يكون هذا الوزير صاحب أكبر سلطة في الوزارة، وأن يكون رأسها المفكر، وعقلها المدبر، وقلبها النابض.

ولكن الملابسات السياسية، وحقائق توزيع السلطة في البلاد منذ عهد محمد علي إلى أن جلا الاحتلال البريطاني عن بلادنا تؤكد أن السلطة الحقيقية كانت دائما في غير يد الوزراء.

وكان محمد علي هو الآمر الناهي، المانح المانع، المذل المعز، وكان الجميع يأتمرون بأمره وينفذون مشيئته، فلم يكن له وزراء، واستمر الحال على هذا المنوال، حتى كان عهد الخديو إسماعيل، وبدأ ميلاد النظارة أو الوزارة، ولم يكن في أيامه من يشاطره السلطة، أو يتلقى منه بعضها ليمارسها باسمه، إلا رجل واحد هو إسماعيل باشا المفتش الذي أسرف في استعمال هذه السلطة، حتى أشفق الخديوي على نفسه من نمو نفوذه، فاغتاله بليل، على صورة تضاربت فيها أقوال المؤرخين.

فلما دنت نهاية الخديو إسماعيل أصبح للوزراء سلطة ضيقة النطاق في أمور نظارتهم التي كانت بسبب حداثة ميلاد هذه الوزارات، قليلة الشأن.

فلما جاء الاحتلال، وتوفي الخديو توفيق، وولي الحكم، الخديو عباس الثاني وأوهمه شبابه، وتأثره بالزعيم "مصطفى كامل" أنه يستطيع أن يخرج على سلطة الاحتلال، أرسل وزير الخارجية البريطانية برقية مشهورة أعلن فيها، أن على الوزراء المصريين، أن يسمعوا ويطيعوا، لمشورة ممثل الاحتلال البريطاني.

فأصبح الوزراء، بلا سلطة، وبدأ الفارس الذي يعمل بلا رأس، حياته بصورة علنية في مصر.

فكان الوزراء موظفين إداريين كبارا، لا يؤذن لهم بإقحام أنفسهم في شئون السياسية العامة للدولة ولا في الشئون العامة للوزارة، فلم يبق أمامهم إلا ميدان واحد يصولون ويجولون فيه، هو تصريف شئون صغار الموظفين، والمتوسطين منهم، بالترقية والنقل.

وأصبح في المواسم المعروفة في بلادنا، ما سمي بحركة تنقلات الموظفين ولما كانت هذه الحركات، هي ما ينفس به الوزراء عن أنفسهم، فقد أسرفوا في هذه الحركات، فإذا نشرت في الصحف، ملأت أنهارا منها، وتخاطف الموظفون أعدادها وقرأوه، ثم شغلوا بها أياما طويلة، حتى يصدر الوزير الجديد، أو الوزير نفسه، حركة أخرى.

31 -@@ ولكي نفهم لماذا خلق (الفارس بغير رأس) يجب أن نذكر أن للاحتلال البريطاني دستورا غير مكتوب منذ جثم في بلادنا، وتقضي أحكام هذا الدستور بالآتي:

1 –السياسة الخارجية من حق سلطات الاحتلال البريطاني العليا وحدها.

2 –السياسة المالية والاقتصادية من حق سلطات الاحتلال البريطاني العليا وحدها.

3 –الشئون الكبرى في الوزارات والدواوين يضعها المستشار البريطاني في الوزارة وينفذها الوزير بلا معارضة ولا مناقشة.

4 –الشئون ذات الأهمية الخاصة يفصل فيها الموظفون البريطانيون في الوزارات المختلفة كمفتش الداخلية والمالية.

5 –منا عدا ذلك يمارسه الوزراء.

6 –للخديو سلطة مطلقة في الأوقاف والمعاهد الدينية.

وقد ترتب على تطبيق هذا الدستور أن الوزراء أسرفوا إسرافا شديدا في تتبع المسائل الصغرى، من تعيين الفراشين والسعاة، ومن الموافقة على شراء مكنسة وأوراق للكتابة.

وأصبحت هذه الظاهرة (عاهة مستديمة) تلازم الأداة الحكومية وقد أعيت نطس الأطباء، فقد حاول هؤلاء الأطباء أن يعالجوها بما سمي باللامركزية وبما سمي بإنشاء مجالس المديريات والمجالس البلدية، والقروية، وبتخفيف الروتين الحكومي أو تبسيطه، أو هز الأداة الحكومية، فأخفقت هذه المحاولات جميعا.

فإن الوزراء الذين روى التاريخ أن أحدهم قال عندما عرضت عليه أوراق ليوقعها أشار بيده إلى خاتمه الموضوع فوق مكتبه: هاك الوزير، فوق المكتب، وقع به ما تشاء هؤلاء الوزراء الذين حرموا من السلطة الحقيقية على هذا الوجه كان من العسير فطامهم عن التشبث بفتات هذه السلطة، المتساقط من مائدة المعتمد البريطاني مثل كرومر وكتشنر، ومائدة المستشارين البريطانيين أمثال دنلوب وسكوت، وكبار الموظفين أضراب كيون بويد ورسل.

كان لا بد لإنقاذ الأداة الحكومية من استئثار الوزراء وكبار الموظفين بالتافه والحقير والتفصيلي من الأمور، أن يدربوا على التفكير في السياسة العامة، وأن يتذوقوا أطايب هذا التفكير، ويتحملوا متاعبه. ولكن الأمور لم تسمح لهم بذلك.

فإن الاحتلال اضطر أن ينزل شيئا فشيئا عن بعض سلطات المعتمد البريطاني أو المندوب السامي، أو السفير البريطاني، وهي أسماء لممثل الاحتلال تغيرت على الزمن، فما كان ينزل عنه، يخطفه في الحال، الخديو أو السلطان أو الملك، ليبقى الوزراء، موظفين إداريين كبارا، لا يعرفون ما هي السياسة العامة ولا يتذوقون طعمها ولا يقوون على أداء تكاليفها.

فبعد تصريح 28 فبراير، أصبح (الملك) أو (السراى) هو صاحب السلطة الحقيقية فيما تخلى عنه الإنجليز، وبات معروفا أن حسن نشأت أو زكي الإبراشي أو أحمد حسنين وأخيرا محمد حسن، وبوللي، وأمثالهم، هم صانعو السياسة العامة وموجهو الوزارات الحقيقيون – وأن أوامرهم تصدر من ناد ليلي، أو عوامة، أو ... أو ...

فإذا انحسرت سلطة الملك لفترة تدوم شهورا، انتقلت السلطة إلى رئيس الوزراء، ولكنها لا تلبث حتى تسترد منه، ويقال ويحل عليه غضب (السراى).

كان هذا التراث الإداري، عقدة العقد في إصلاح أداة الحكم.

فكل من سولت له نفسه في الماضي، أن يهاجم (الأسد) في عرينه، نكص على عقبيه لأن الأسد، يبطش به في التو، فيرديه قتيلا، أو يرده مذعورا والأسد هنا، هو الهيام الشديد بالتنفيذ دون التخطيط، وبالتفاصيل دون العموميات، وبما يعلن عنه، ويشار إليه دون الباقي العميق، في القواعد التي هي بطبيعتها أطول عمرا، وأنفع للناس.

ولا تحسبن أن الثورة لم تعان من هذا البلاء الإداري اللعين، بل إنها اصطلت بناره وشكت منه مر الشكوى، فقد أنشئت مجالس للتخطيط، فغرقت حتى الأذنين في التنفيذ، وأصبح هناك وزارتان وزارة مواصلات مثلا، ووزارة مثلها في المجلس الذي افترض فيه أن يترفع عن التنفيذ وينأى عنه ويحاول أن يكابد التخطيط ويضع السياسة، ويدع لغيره أن ينفذها، ويتابعها، ويمولها ولقد أعانت التقاليد الصحفية في بلادنا على تأصيل هذه العادة، وتثبيتها.

فقد درجت الصحف على تعويد قرائها على متابعة أخبار تافهة مثل استقبال الوزراء لزملائهم أو لمرؤوسيهم أو توقيعهم على قرارات وزارية، أو نقل موظفين أو تفتيش مصلحة، أو تأديب موظف.

وأصبح الوزير الخطير في نظر الرأي العام، هو من يكتب عن مقابلاته، وزياراته وحركة تنقلاته، وأحيانا عن أخباره الخاصة، وهي أمور بطبيعتها لا تهم أحدا، ولا يجب أن تهم أحدا.

ولو نظرت في صحف العالم الكبرى لما وجدت هذا الهذر التافه، في أنهارها، إلا أن تكون أنهارا أعدت للتسلية والترفيه مما يسمى (ثرثرة).

فلو اقتصرت الصحف في الماضي على نشر صور الوزراء، إلى جانب الأعمال الوزارية الهامة ولو ناقشت القوانين والأفكار المتصلة بالسياسة العامة، لأعانت الوزراء على الانشغال بالسياسة دون التنفيذ وبالعموميات والكليات، دون التفاصيل، وبالأفكار دون الأشخاص وبالباقي في الأمور دون العابر الذي يستهلكه مر الأيام القليلة.

32 –وقد انعكس أثر هذه العاهة الإدارية على المجالس التي يوحي اسمها بأنها مجالس السياسة العليا، وعلى رأسها مجلس الوزراء.

فقد مر بنا أن مجلس الوزراء استثنى من الخضوع للقواعد الخاصة بالوظيفة، وأن من حقه أن يفصل من الموظفين كبارا وصغارا من يشاء بلا قيد ولا شرط فأصبح من الأعمال المفضلة لهذه المجالس أن تفصل كبار الموظفين المنتمين إلى خصوم الوزراء.

وتعيين أقاربهم وأصدقائهم وأنصارهم، ولما هبط المستوى الفكري والروحي في هذه المجالس إلى هذا الدرك امتلأ جدول أعمال مجلس الوزراء بمئات من المسائل والأمور الصغيرة التي لا تليق بالمجلس، والتي لا تستأهل دراسة عليا، ولكن لارتباط هذه الشئون بمصالح الوزراء وعائلاتهم، وبما يشغل ذويهم عادة، أصبحت على السطح، واستأثرت بالكثير من الاهتمام، ولقد عملت الحكومة منذ سنة 1952 على تنقية أعمال هذا المجلس من هذه التوافه ليفرغ للكبير من الأعمال، ولوضع السياسة العامة، وتخطيطها.

فعهد (الفارس بلا رأس) هو العهد الذي باضت فيه وأفرخت، عيوب الأداة الحكومية، وكل تفكير في معالجة هذه الأداة، يجب أن يبدأ بالتأمل في آثار هذا العهد، وفي الوقوف في طريقها، ليحد من استفحالها، حتى يقتلعها من جذورها.

دولة الموظفين وأرباب المعاشات

33 –قلت فيما سبق إن سعد زغلول، شكا من الضغط الذي كان يقع عليه، من السراى، ومن الإنجليز، ومن الموظفين.

ولكن لكي نفهم هذا القول يجب أن ننظر في جدول صغير يبين لنا ميزانية الدولة في سنة 1930 مثلا، وما يستولي عليه الموظفون في هذه السنة من تلك الميزانية كأجور – فضلا عن المعاشات وإعانات غلاء المعيشة. كانت الميزانية في وكانت الأجور والمرتبات

1930 29 مليونا 14 مليونا

1940 42 مليونا 15 مليونا

فلما كانت سنة 1952 بلغت 206 مليونا وبلغت الأجور والمرتبات والمعاشات 100 مليون و 654 ألفا ومعنى هذا أن ما يتقاضاه الموظفون من خزانة الدولة كأجور أحيانا وكأجور ومعاشات أحيانا أخرى يبلغ مثل ما تنفقه الدولة على الأعمال والمشروعات والخدمات.

وقد أورد الخبير سنكر الذي استقدمته الحكومة في سنة 1950 ليدرس نظام الوظائف في بلادنا ويقترح الحلول لمعالجة تضخم اعتمادات الوظائف ومشاكل الموظفين، والكادرات الكثيرة، أورد هذا الخبير في تقريره أن نسبة عدد المشتغلين بالوظائف الحكومية إلى عدد سكان البلاد 2.2% في حين أنها في بريطانيا 1.3% وأن الحكومة المصرية تنفق من ميزانيتها على الموظفين 35% في حين تنفق بريطانيا عليهم 9% وليست هذه الحقائق في ذاتها بالشيء الذي يفزع إنما مثار الإشفاق من هذه النسبة ما تدل عليه.

فالاحتلال البريطاني، كان هو واضع السياسة الاقتصادية والمالية للبلاد، ولذلك كان يضع خطط الاقتصاد المصري على أساس جعل الوظيفة الحكومية هي العمل الوحيد المجزي من ناحية والمضمون من ناحية أخرى، ذلك لأن فتح أي مجال آخر من مجالات النشاط الاقتصادي أمام أبناء البلاد، سيقلب خطط الاحتلال الاقتصادية رأسا على عقب.

فاشتغال المصريين بالتجارة أو بالصناعة أو حتى بالزراعة على نطاق واسع، وبالطرق الحديثة، سيؤدي إلى خلق مزاحمة للبيوت التجارية، والمؤسسات الاقتصادية والمصارف المالية، المملوكة للاحتلال وللأجانب.

لذلك وضع الاحتلال خطة محكمة، نفذها بنجاح باهر، تؤدي إلى جعل الوظيفة هي هدف كل مصري يريد أن يزيد من دخله، أو أن يحصل على دخل ثابت، يعقبه معاش مستقر.

ولذلك يحق لنا أن نقول بلا أي مبالغة، إن مصر شهدت تخطيطا محكما طوال عهد الاحتلال تناول كل نواحي النشاط في البلاد، سواء أكانت تعليمية أو اقتصادية أو إدارية.

فالإنجليز لكي يخلقوا هذا الميل الثابت عند المواطنين المصريين، أي الميل إلى الوظيفة، بدأوا بالتعليم، فجعلوا أولا الحصول على الشهادة هو جواز المرور إلى الوظيفة، وجعلوا التعليم المؤدي إلى الشهادة، داعيا إلى كره العمل التجاري والزراعي والصناعي، فملأوا برامج التعليم، وكتب الدراسة بالجانب النظري، وأضعفوا ما استطاعوا الجوانب العملية والتطبيقية، وأنقصوا من قدر النشاط المدرسي، والعناية بخلق الشخصية المستقلة.

ولقد نجحوا نجاحا باهرا في كل ما قصدوا إليه، وطمعوا فيه، فقد أخرجوا أعدادا من المثقفين الذين لا غبار على علمهم العام بلغة بلادهم، وبكفايتهم في الفنون التي تخصصوا فيها ولكن كان جوهر ما حصلوه، يؤهلهم للوظيفة دون غيرها.

ولما كان الحصول على المؤهل العالي، هو السبيل إلى الوظيفة العليا، وكانت الوظيفة العليا هي قمة المجتمع في مصر، فقد تنافس الشبان في الحصول على هذا المؤهل، والتحلي به، وانصرفوا جميعا عما عداه، وأسبغ عليهم النظام القائم من صنوف التكريم والاحترام، ومن المزايا المادية، والأدبية، ما جعل التفكير فيما عدا الوظيفة أبعد الأمور عن خاطرهم ولسنا في حاجة إلى استقراء التاريخ لنبين هذه الخطة، وللوقوف على آثارها، فإن اللورد كرومر أغنانا عن هذا كله، فقال بصريح النص في تقريره السنوي عن سنة 1899.

"كانت الحكومة في السنين الأخيرة ترمي إلى غرض ذي شقين – فأما الشق الأول فهو الرغبة في أن تنشر على أوسع نطاق ممكن بين الذكور والإناث على السواء، لونا بسيطا من التعليم ينحصر في الإلمام بمبادئ اللغة العربية والحساب وأما الشق الثاني فهو الرغبة في إعداد طبقة متعلمة تعليما راقيا تفي بمطالب الخدمة في الحكومة".

ثم عاد فقال في تقريره في سنة 1902.

"إن الغرض الثاني المهم الذي ترمي إليه الحكومة هو إنشاء خدمة ملكية أي إعداد الموظفين ومستخدمين يعتمد عليهم".

ثم قال في كتابه مصر الحديثة ص 877:

"ويجب ألا نفترض أن المصريين أحسوا فجأة بالظمأ إلى المعرفة من أجل المعرفة ذاتها أو أنهم استيقظوا على إحساس جاد بالخجل من جهلهم فالروح الجديدة مبعثها عموما أنه يوجد في القطر جزء كبير من الطبقة العليا والسفلى يعتمدون على الوظيفة الحكومية وقد أدرك الآباء أن أولادهم إن لم يبعثوا إلى المدرسة فإنهم لن يستطيعوا كسب قوتهم".

34 –والعجيب أننا درجنا، بعد أن ارتفعت يد الاحتلال عن الكثير من مرافقنا على الشكوى من تضاعف عدد الموظفين، ومن ارتفاع اعتمادات الوظفية.

وإعانات الغلاء والمعاش، دون أن نفكر في مواجهة أصل هذه العلة، وهي كائنة فيما يتلقاه أولادنا في مدارسهم من مواد تكرههم في الأعمال الحرة، وتبعدهم عن التفكير الصناعي والتجاري، بل حتى في الزراعة نفسها، دون أن نغير في أساس التربية والتعليم في مدارسنا، لقد غيرنا البرامج كثيرا، فأضفنا مواد كثيرة جديدة، وحذفنا مواد كثيرة قديمة، وبذلنا عناية خاصة بتاريخنا القومي القديم والمعاصر، واحتفلنا بالاقتصاد السياسي وبعلم النفس وتوسعنا في المواد الرياضية والطبيعية في القسم العلمي، ولكن بقي التعليم عندنا أكثر احتفالا بالجوانب الذهنية دون الجوانب العملية.

ولا أدل على ذلك من أن عدد المدارس الصناعية والزراعية التي فتحناها أقل بكثير جدا من المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية التي فتحت فصولها لاستقبال أولادنا، ولا يزال التعليم الجامعي هدف كل طالب سواء توافرت له الموهبة والاستعداد أم لم تتوافر وحسبك دليلا على ذلك أن مجانية التعليم العالي للمتفوقين لم تتقرر في الاتحاد السوفيتي إلا بالدستور الصادر في سنة 1936 أي بعد قيام الثورة السوفيتية في سنة 1917 بنحو عشرين عاما بينما بينما تقررت مجانية التعليم الجامعي والعالي في ثورتنا التي تكمل حتى الآن عامها الخامس عشر منذ بضع سنوات.

ولم نسمع عن ابن أحد الوزراء أو رؤساء المؤسسات لم يستطع دخول الجامعة فالتحق بالمدرسة الصناعية أو الزراعية، لننتزع من العقول أن طالب الجامعة وحده، والحاصل على إجازته، هو المستأثر بالاحترام، والمتمتع بالمزايا، وأن المستقبل المضمون هو مستقبل الجامعيين وحدهم، بفضل الوظيفة في الحكومة، أو في ما يشبهها من المؤسسات والشركات.

وقد جاء في آخر الإحصائيات أن كل من 1000 تلميذ يحصلون على شهادة الإعدادية يدخل 669 المدارس الثانوية العامة و 151 الثانوية التجارية و 42 الثانوية الزراعية و 57 معاهد المعلمين كما تذكر آخر الإحصائيات أن من كل 1000 تلميذ يحصلون على شهادة الدراسة الثانوية العامة يدخل 650 الجامعة والمعاهد العليا ويكتفي 350 بشهادة الدراسة الثانوية، كما تبين مما نشر أخيرا أن عدد التلاميذ الذين يتقدمون لامتحان الثانوية العامة هذا العام يبلغ 145 ألفا.

35 –وقد نجم عن أسلوب تربيتنا النظري في القسمين الأدبي والعلمي، أن خرج أولادنا تغلب عليهم عقلية الموظف الذي كانت تخرجه مدارسنا الثانوية والعليا منذ سبعين سنة أو يزيد.

كان الاحتلال يضع خططه ليخرج في المدارس ما تحتاج إليه الوظائف، فلا يتوسع في التعليم، ولا يتوسع في الإنفاق الحكومي، ولا في الخدمات، لذلك لم تكن هناك أزمات بطالة بين المثقفين فكل من يتخرج يجد وظيفة، وكل ما يتعلمه الطالب يؤهله لهذه الوظيفة وحدها، ولا يؤهله لغيرها، فلا يخرج من مدارسنا العليا بحاث ولا مجددون ولا يخرج منها مواطنون يعتمدون على أنفسهم في الحياة الخارجية، ولا يخرج منهم مجازفون أو مبتكرون، بل لا يخرج منها من يفهم الوظيفة باعتبارها خدمة وطنية بل باعتبارها مغنما شخصا من جهة، والتزاما بأوامر الحكومة ورؤسائها، لينال عطفهم وعطفها،

فالموظفون حتى الأكفاء الأمناء منهم، لم يكونوا خداما مخلصين لإخوانهم المواطنين، بل كانوا آلات ذات كفاية ملحوظة، في تفهم القوانين، وإنجاز الأعمال بسرعة، وبلا تلكؤ وبلا إثارة لغضب الأهالي واحتجاجهم، أما الشعب فأمره لا يدخل في الحساب، حتى ولو بصفة عميلا أي زبونا للدولة.

ولذلك كان طابع الوظيفة هو التجهم للمواطنين ولا أدل على ذلك من أن الأغلال والسلاسل هي ما كان يزين حجرة مأمور قسم الشرطة، كأن كل من يدخل إلى هذه الحجرة، مطارد أو مطلوب القبض عليه.

ولما كان الاحتلال حريصا على أمنه وعلى تنفيذ سياسته الاقتصادية، والمالية، والتعليمية، وهي وجوه متكاملة لسياسة واحدة، فقد صاغ الوظيفة صياغة تجعل شاغليها في خدمة هذه السياسة، فحرص على ألا يغضبهم وتنافست (السراى) والحكومات المتتابعة في ممالأتهم، ونتج عن ذلك أن الوظيفة أصبحت في خدمة الموظف.

ولم يعد الموظف في خدمة الوظيفة، وكان من آثار هذه العقلية، أن أصبح مرتب الوظيفة مرتبطا بالمؤهل الذي يحصل عليه الموظف، لا بالعمل الذي يؤديه، مع أن المواطنين لا يهمهم أن يكون سائق السيارة مثلا بلا مؤهل أو كان مهندسا ميكانيكا، كما لا يهم مشتري الصحيفة، أن يكون بائعها حاصلا على الابتدائية أو على الليسانس أو بغير مؤهل علمي، لأن الجريدة التي يشتريها في جميع الأحوال هي هي.

بدأ تسعير الشهادات ثم توالت محاولات ترضي الموظفين التي سميت بالتيسير والإنصاف .. إلخ.

وأصبح شغل الدولة الشاغل حل مشكلات هؤلاء الموظفين، والتخفيف عنهم، ولم يصبح للأداة الحكومية من واجب تؤديه أهم من ابتكار الحلول لهذه المشكلات.

36 –وكانت الحلول التي تتفتق عنها الأفكار، مما كان يندرج تحت عنوان الإصلاح الإداري، أقرب إلى توفير الضمانات للموظفين، دون رفع مستواهم الروحي ودون النظر في التقسيمات الإدارية القديمة، وفي تغيير أسمائها، وتعديل مسمياتها، وفي تغيير طبيعة العلاقات بين الموظفين والمواطنين، فقد كان أهم ما نفذ في مجال الإصلاح الإداري، هو إنشاء مجلس الدولة سنة1946 ، وديوان الموظفين سنة1951 ، وهما هيئتان تحميان، في الأغلب الأعم، الموظف من شهوات الحكومات، وسوء استعمال السلطة والانحراف بها.

ولا يجادل أحد في أن اختيار الموظف وتعيينه وترقيته بعيدا عن الشهوات الحزبية، والأغراض الشخصية وبناء على قواعد عامة، مما يوفر للأداة الحكومية الاستقامة والكفاية، بتعيين الموظف الصالح، وبحمايته في الأوامر المنافية للعدالة والمتحدية للقانون، ولكن لم يبذل إلى جانب إنشاء هذه الهيئات المنطوية على ضمانات وحمايات لحقوق الموظفين، جهد مساو، لإقامة البناء الحكومي على أساس روحي جديد، مع محاولة صرف الشبان عن الوظيفة الحكومية، وزيادة أعداد المؤهلين فنيا وصناعيا للعمل في مجالات جديدة.

الحمل الثوري والإجهاض الوطني

37 –أنشأ الاحتلال الجهاز الحكومي ليحقق أغراض هذا الاحتلال فحقق هذه الأغراض على أحسن وجه، وشعر بعض المصريين ممن كانوا يرون أن سبيل التقدم، هو التعاون مع الاحتلال، وتحسين الأداة الحكومية، وزيادة نصيب المصريين في وظائف هذه الأداة والترقي فيها، أن الاحتلال يسدي لمصر خدمات جليلة وعبر عن هذا الرأي حافظ إبراهيم في بعض قصائده إذ راح يعاتب سلطات الاحتلال لأنها كانت تختار في الماضي من أبنائها للوظائف في مصر، الأكفاء الممتازين، ثم أصبحت ترسل لها من تنقصهم الدربة والتجربة، قال حافظ إبراهيم:

وول أمورنا الأخيار منا

نثب بهمو إلى الشأو البعيد

وأشركنا مع الأخيار منكم

إذا جلسوا لا يقام الحدود

وقال في قصيدته عن دنشواي:

قد كان حولك من رجالك نخبة

ساسوا الأمور فدربوا وتدربوا

أقصيتهم عنا وجئت بفتية

طاش الشباب بهم وطار المنصب

وقال شيئا في هذا المعنى أحمد لطفي السيد في مقالاته بالجريدة.

ولكن إلى جانب هذه المدرسة المعتدلة، كانت مدرسة الحزب الوطني تهاجم الاحتلال وسياسته الاقتصادية والتعليمية وأساليبه في الحكم، فأصبح للأداة الحكومية عند طائفة من المثقفين المصريين وأغلبهم من طلبة المدارس العليا والمحامين والأطباء، والموظفين الشبان، وظيفة غير الوظائف التي رسمها الاحتلال وحددها، فلم يعد بناء السدود والخزانات وتحسين نظام الري والصرف – وحماية الأمة، هي وظائف الحكومة الأساسية، لقد طالب مصطفى كامل بزيادة الخدمات وفتح المدارس وجاء مثلا في تقرير الحزب الوطني الذي عن سنة 1907:

إن خطة دنلوب (مستشار المعارف البريطاني) ترمي دائما إلى جعل التعليم بسيطا لا يرقي المدارك ولا غرض منه إلا تربية مستخدمين للوظائف، مسلوبي الإرادة عديمي الاستقلال الذاتي ثم حرمان الفقير من التعليم حرمانا تاما ومحو التعليم العالي الصحيح محوا مطلقا وجعل اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية للتعليم وأنه يستقدم المعلمين الإنجليز العشرات ويطارد المعلمين ثم يستورد الكتب والأوراق المدرسية من بريطانيا بأثمان باهظة ليبدد ميزانية التعليم فلا يبقى منها ما تفتح به المدارس لذلك لا توجد في الصعيد مدرسة ثانوية واحدة وبالوجه البحري مدرسة واحدة وأن ما ينفق من الميزانية على التعليم 2.5%".

ثم جاء محمد فريد فشن حملات شديدة الوطأة على نظام الاحتلال الذي أسقط الفلاحين من حسابه والذي قضى على الحكم المحلي، وعلى الصناعات الوطنية، والذي لم تمتد يده بالإصلاح إلى نظام الضرائب ومجالس المديريات والبلديات، وبفضل هذه الحملات أصبح من المأمول أن تولد فكرة جديدة للحكومة ووظائفها، وللموظف ورسالته.

وقد استمرت هذه الحملات، وتعددت الدراسات في مؤتمرات الحزب الوطني في الداخل وفي الخارج في هذه النواحي جميعا، حتى لم يعد الشك يساور أحدا في أنه حينما تنبسط يد المصريين على الأداة الحكومية، ستتدفق في عروقها دماء جديدة، وستستهدف أهدافا جديدة، وفي أن الموظفين المصريين سيخلقون خلقا جديدا، ولكن الحمل الثوري الذي استمر من سنة 1900 أو قبل ذلك بقليل أفضى إلى ثورة1919 ، وهذه الثورة أفضت سريعا إلى قيام الحكم الدستوري سنة1923 فلم يكن هذا الحكم ميلادا بل كان إجهاضا وطنيا.

38 –قامت الثورة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، على أساس المطالبة بالاستقلال، ولكنها لم تلبث حتى تركت الاستقلال جانبا، وأصبح الدستور هو محور الصراع بين الأحزاب، والوصول إلى مقاعد البرلمان ثم الحكومة هو غاية هذا الصراع، فلم تعد الأداة الحكومية، وسيلة الثورة إلى هدفها السامي الأول، هدف الاستقلال وتحرير الوطن، بل وسيلة الأحزاب إلى تحقيق مطامعها الدنيا، وفي إرضاء الأنصار، وممالأة المشايعين والأتباع، ومطاردة الخصوم والأعداء ولما كانت الحرب الحزبية، لا تتطلب الأكفاء.

ولا ذوي المواهب الخلقية، فقد ناءت الأداة الحكومية، تحت ضربات هذه الحرب الداخلية، وتداولت المناصب الكبرى، مناصب المحافظين والمديرين ووكلاء الوزارات ومديري المصالح بين أنصار كل حزب، على فترات متعاقبة، فلكل حزب دورة تدور بضعة شهور، ينعم فيها بالسلطة ويتربع أنصاره في دستها، ثم لا يلبث أن يحل الدور على غيرهم، فيتركونها على أمل العودة إليها، وفي هذه الفترات المتعاقبة أتخمت دواوين الحكومة بأعداد هائلة من الأنصار والمؤيدين، لا عمل لهم، ولا نفع فيهم.

وزاد مرض الأداة الحكومية مع الأيام تفاقما، فقد قنعت الأحزاب في بادئ الأمر بتعيين أتباعها، ثم لم يلبث حتى اتجهت إلى القفز بهؤلاء الأنصار من أدنى الدرجات إلى أعلاها ومن أصغر الفئات إلى أكبرها، في أقل وقت بما عرف بعد ذلك بالمحسوبية وبطرق مكافحتها، ثم إعلان اليأس من هذه المكافحة، واعتبارها من الأمراض المتوطنة المستعصية، مما أدى إلى التفكير في إنشاء مجلس الدولة، ثم ديوان الموظفين.

وسنعرف في الفصل التالي من هذا البحث أن مصر، لم تكن حالة فريدة بين الأمم، فيما يتعلق بنفس أداء المحسوبية في الأداة الحكومية، ولكن مما كان يخفف من أثر هذا الداء في الدول الأوربية والأمريكية أنها كانت دولا مستقلة، وغنية معا، فلم يكن العدو الدخيل رابضا في داخل تلك البلاد، ينتفع من هذه الحرب الداخلية، ويزيد من آثارها الوخيمة، فضلا عن أن الوظيفة الحكومة لم تكن تلعب نفس الدور الذي تلعبه هذه الوظيفة في حياة بلادنا فالجزء الأكبر من نشاط الدول الأوربية القومي تقوم به الشركات والأعمال الحرة، في حين انحصر نشاطنا، في العمل الحكومي، وبقي النشاط القومي هامشيا ومعلقا على إرادة السلطة الحكومية.

39 –بيد أن حملات مصطفى كامل و محمد فريد، واندلاع ثورة سنة1919 وأن انتهت بما سميناه "الإجهاض الوطني" كل ذلك حقق في الفترة التالية للثورة، التي بلغت ربع قرن تقريبا، في مجال إصلاح أداة الحكم، أمرا عظيم الأهمية، ذلك هو تأكيد فكرة أن الحاكم هو خادم الشعب وراعي مصالحه، وأنه خاضع لرقابة هذا الشعب، وملزم بالاستماع لتوجيهاته وإرشاداته، ففي هذه الفترة، فترة صحافة الحزب الوطني، ثم صحافة ثورة سنة 1919 وما بعدها كان الوزراء ورؤساؤهم، هدفا لحملات كتاب أقوياء، امتلأت قلوبهم شجاعة.

واتسع نطاق الحملة النقدية فشمل الخديوي ذاته، وتجمعت عناصر الكفاح الوطني ضد الاحتلال سرية وعلنية، فانتهى عهد الحاكم المقدس المعصوم الذي لا يخطئ، وبدأ التنديد بالتكالب على الوظيفة، وبالسخرية من الموظف الذي يسنده في منصبه، ويأخذ بيده في الترقية، شقيقه الوزير، أو أبوه السفير، أو حموه النائب، صحيح أن هذه الحملات سارت جنبا إلى جنب مع اتساع نطاق الفساد الحكومي والتدهور في كفاية الوظيفة والموظفين، إلا أن ذلك لم يحل دون أن تبقى البذور التي بذرتها فترة الحمل الثوري في التربة تنتظر اليوم الذي تعلن عن نفسها فيه.

40 -ولعله من أغرب المتناقضات في فترة الإجهاض الوطني، أن تكون هي بذاتها فترة الحياة النيابية، وكان الطبيعي أن يكون قيام الحياة النيابية، حارسا على الأداة الحكومية ونظافتها، وكفايتها، ولكن الذي حدث هو العكس تماما، فإن الحياة النيابية أولا أغمضت عينها عن الأداة الحكومية، ولم تفكر في إصلاحها، بل لم تناقش هذا الموضوع ولا مرة واحدة، ولو على سبيل إبراء الذمة، ولم تكتف الحياة النيابية بهذا الموقف السلبي، بل أضافت إليه من دواعي التحلل الحكومي، ما أربى على كل ما تراكم على مدى السنين السابقة من عهد محمد علي وعهد الاحتلال البريطاني.

فإن الانتخابات دعت الأحزاب إلى إقحام الإدارة في تزييف نتائجها، وإلى تعديل الدوائر الانتخابية لما تقضي به المصلحة الحزبية، وإلى استغلال نفوذ العمد ثم فصلهم في عهد، وإعادتهم في عهد، فلما قامت الحرب العالمية الثانية، جاء في أعقابها تدهور روحي، شمل كل جوانب الحياة، فخرجت الأداة الحكومية، مثخنة بالجراح فاستحالت إلى أداة في أشد الحاجة إلى تقويمها بل إعادة بنائها، ووضع أسس جديدة، وهو عمل شاق لا نزال نعمل له ونفكر فيه.

فكيف نضطلع به ونؤديه؟

هذا هو السؤال الذي سنحاول الإجابة عليه فيما يلي من هذا البحث.

41 –يجدر بنا بادئ ذي بدء أن نتشاءم، حينما نرى أداة الحكم عندنا، جهازا عتيقا، تأكلت منه بعض أجزائه أو علاها الصدأ، وتورمت أجزاء أخرى أو ملأها الصديد، وتقيحت أعضاء أو اشتدت عفونتها، فإن الشكوى – كما سلف القول – من أداة الحكم، ولدت مع أداة الحكم منذ خطا الإنسان أولى خطواته.

ففي القرآن مثلا لم يرد لفظ (الحكام) إلا مرة واحدة، ومع ذلك اقترن هذا اللفظ بالرشوة.

فقد جاء في الآية الكريمة الثانية والثمانين بعد المائة في سورة "البقرة": "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام". وفي تراثنا العربي، شكاوى من عيوب الحكام منها هذه الأبيات التي أوردها "الفخري" في الصفحة 214 من "الآداب السلطانية" عن عهد تدهور الدولة العباسية:

وزير لا يمل من الرقاعة

يولي ثم يعزل بعد ساعة

ويدني من تعجل منه مال

ويبعد من توسل بالشفاعة

إذا أهل الرشا صاروا إليه

فأحظى القوم أوفرهم بضاعة

وكتاب "الفاشوش في حكم قراقوش" لابن مماتي مستند قائم بذاته في نقد الحاكم، وهو لا يقل أهمية ولا شهرة عن كتاب "هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف".

ولكن قد يكون تقرير حديث يكتبه خبير ينتمي إلى دولة حديثة، أقدر على إدخال العزاء إلى قلوبنا، مما احتواه التراث العربي من شعر ونثر في نقد الحكام والأداة الحكومية، إذ يسهل القول بأن ما كان يقترفه الحكام في الماضي قد طوته الأيام وأقامت على أنقاضه حكومات ذات كفاية رفيعة، خالية من العطب، قائمة على أسس علمية حديثة.

فلننظر ماذا قال الخبير (سنكر)، وهو إنجليزي استقدمته الحكومة المصرية سنة1950 ليشخص داء الأداة الحكومية في مصر ثم يصف علاجا، قال:

"اجتازت إنجلترا فيما مضى مرحلة كان يجري فيها التعيين في خدمة الحكومة لا على أساس الصلاحية للعمل، بل تحت تأثير العوامل السياسية والنفوذ الشخصي، وقد أسفر هذا النظام عن عدة مساوئ، إذ ينكر على كل مواطن مزود بالمؤهلات المطلوبة الحق في أن يتبارى مع غيره على قدم المساواة للتوظف في خدمة الحكومة، وقد فقدت الحكومة ميزة الانتفاع بخدمات نفر من أقدر الرجال.

وذلك لأن غيرهم ممن لم يكن لهم سوى النفوذ السياسي أو الشخصي قد حلوا محلهم، وقد فت ذلك في عزيمة الموظفين الموجودين بالخدمة، وثناهم عن أداء واجبهم لأن سبيل التقدم لم يكن وقفا على جهدهم وكفايتهم في عملهم، بل كان يستند إلى فرص المحاباة السياسية والشخصية.

ولم تستطع الأداة الحكومية تزويد الحكومات المتعاقبة بالخبرة المتواصلة في الأعمال، لأن شاغلي الوظائف الرئيسية يتغيرون بتغير الوزارات، كما زاد عدد الموظفين الحكوميين أكثر مما هو لازم للعمل نتيجة لإيجاد وظائف للمقربين من الوزراء والرؤساء".

ولم يكن الحال في الولايات المتحدة بأحسن منه في بريطانيا، فقد كان نظام المحسوبية السياسية هو الطابع المميز لجميع الشئون المتعلقة بالوظيفة.

وكان مؤدى نظام المحسوبية أن يستأثر الحزب الذي فاز في الانتخابات بغالبية الوظائف، فيقصي عنها شاغليها من أنصار الحزب المنهزم ويحل محلهم أنصاره، واستمر الوضع على هذه الصورة القبيحة، حتى سنة 1801، فزادت قبحا، فقد قرر الرئيس "جفرسون" أن يعتبر الحكومة مغنما يتقاسمه الحزبان الحاكم والمعارض، لكل منهما النصف.

والله وحده يعلم، كيف كان يوزع الحزب الوظائف على أنصاره، ومقابل أي إتاوات، وبقصد تحقيق أي أغراض، وترضيا لأي طراز من الشخصيات.

ولكن بغير خوض في التفاصيل، يمكن أن نقول، ونحن مطمئنون، أن الوظائف في ظل نظام الغنائم، كانت من نصيب أكثر الرجال جرأة، وأشدهم حماسة في مناصرة الحزب، وأعلاهم صوتا، وأبرعهم في المناورة، والابتزاز والتهديد.

وكانت ثالثة الأثافي في هذا الاتجاه قانون أصدره الرئيس "جاكسون" جعل شغل الوظائف مؤقتا، وحدد التأقيت بأربع سنوات، لتتلاءم مع مدة رياسة الجمهورية، ويتيسر للحزب الحاكم، أن يطرد نصف الموظفين، ويعين مكانهم أنصاره.

جملة القول أن أداة الحكم، وجدت في كل عهد، من الظروف السياسية والاجتماعية، ما يعوقها عن أداء رسالتها.

أوهام يجب أن تبدد

42 –ولما كان علاج الأداة، كعلاج أي مرض يحتاج إلى معرفة الحقائق المادية المتصلة بالأداة الحكومية من حيث الظروف الاجتماعية والسياسية التي شكلتها، وخلقت سماتها وصفاتها وخصائصها، ومن حيث الوقوف الكامل على عناصر تكوينها – أي القوانين واللوائح التي خلقتها ووزعت اختصاصاتها، وعدد الموظفين، والظروف المادية والأدبية التي يعيشون فيها، ونظرتهم إلى المواطنين وإلى الرؤساء، وإلى الوظيفة الموكولة إليهم.

كذلك يجب أن نستبعد كل الأوهام التي تحول بيننا وبين أن نعرف الحقائق المطلوبة، وقد أحاط بموضوع الأداة الحكومية في مصر، واختلالها بضعة أوهام سنحاول تبديدها.

الوهم الأول: لوائح العهد العثماني، وعهد الاحتلال

43 –يتردد على ألسنة بعض الذين يتصدون لعلاج الإدارة الحكومية في بلادنا، أن من العلل التي تشكو منها هذه الإدارة، أنها لا تزال تحكم بلوائح وفرمانات ودكريتات صادرة في عهد الحكم العثماني وحكم محمد علي، وعلى أحسن الفروض، في عهد الاحتلال البريطاني، وليس ثمة شيء أبعد عن الحقيقة من هذا الوهم.

فإن جميع قوانيننا الأساسية كالقانون المدني، والإجراءات المدنية، والإجراءات الجنائية، ونظام القضاء، والضرائب، والشهر العقاري، والمخازن والتوريدات، والإدارة المحلية، أو الحكومة المحلية، والنقابات المهنية، والشركات والمؤسسات والهيئات، وما يتفرع عنها من قوانين ثانوية أو لوائح أو قرارات وزارية، كل هذه القوانين الأساسية والفرعية قد صدرت في الحكم المصري قبل الثورة بل صدر معظمها – معدلا أو على أسس جديدة – في عهد الثورة.

فإذا أردنا أن نعلق عيوب الأداة الحكومية على (شماعة) فلتكن هذه (الشماعة) شيئا آخر غير القوانين، أو لنقل إن هذه القوانين هي مصدر العيب في الأداة الحكومية.

ولكن لا لأنها صدرت منذ العهد العثماني، أو عهد الاحتلال، بل لأنها قوانين معيبة في ذاتها.

وسنرى حالا أن القانون وحده ليس قادرا على إصلاح العيوب لا في الأداة الحكومية وحدها، بل في أي نظام سياسي أو اجتماعي ضعيف أو معيب، أو دبت إليه أمراض الطفولة أو الشيخوخة، والأنظمة الاجتماعية والسياسية معرضة لأمراض الفترتين، ولأمراض فترة المراهقة أيضا، مثلها في ذلك مثل الإنسان الفرد، سواء بسواء.

الوهم الثاني: الروتين هو أصل المصائب

44 –ومن الأوهام الشائعة والضارة كذلك، الوهم القائم على أن ما تعانيه أداة الحكم في بلادنا، أو في أي بلد آخر، هو أنها تستند إلى (روتين) أو تقوم عليه. وهو كلام لا معنى له، ولا يصح لباحث مدقق أن يتورط فيه، إذ أن (الروتين) هو النظام، هو (القاعدة العامة) التي تحكم نشاطا ما، أو عملا من الأعمال، و (الروتين) في ذاته هو أعلى مراحل التنظيم، لا يصل إليه العمل القانوني أو النشاط الإنساني، إلا بعد مراحل طويلة من التجربة، وبعد جهود مضنية من السعي الدائب المحفوف من الجانبين بالأخطاء والمخاطر.

والأنظمة الطبيعية يحكمها (روتين) ثابت مستقر فالشمس تشرق كل يوم من المشرق في الصباح، وتغرب كل يوم في المغرب في المساء، وفصول السنة تتعاقب، فالشتاء يأتي في أعقاب الخريف، والصيف في أعقاب الربيع، وجسم الإنسان يحكمه (روتين) يتمثل في عمليات الهضم والتنفس والتناسل، وإذ يختل (الروتين) يكون اختلاله، أزمة للناس، تتمثل أحيانا في عواصف غير متوقعة، أو فيضانات غير مسبوقة، كما تتمثل للإنسان في أزمات الهضم والأرق والحمى .. إلخ.

(فالروتين) غاية مطلوبة في ذاتها، وهي تعين العاملين وسائر المتعاملين في الجهاز الحكومي، أو الجهاز في أية جهة من جهات الإدارة، سواء أكانت حكومية أو حرة، على معرفة القواعد والضوابط والمواعيد والنماذج والتكاليف والمطلوبات المالية والمادية المطلوبة منها.

وسمة (الروتين) الأساسية الثبات، والتبسيط، فإذا كان هناك خلل في القواعد الأساسية الضابطة للأداة الحكومية، فليس مرد هذا الخلل، أن هذه القواعد كونت (روتينا) ثابتا ومستقرا، بل لأن هذه القواعد في ذاتها معيبة فحملتنا لا يجب أن تكون على (الروتين) لأن انعدام (الروتين) لا يؤدي إلا إلى الفوضى، وإلى مضاعفة المتاعب وإلى مزيد من التلكؤ في الأداء، وانفساح فرص التلاعب والغش والرشوة والتمييز بين المتساوين والأنداد.

فليكن شعارنا إذن (روتينا) سليما وبسيطا وواضحا بدلا من حملة شعارها الهجوم على الروتين.

إن كثيرين ممن يعودون من بعض بلاد أوروبا أو أمريكا يلهجون بالثناء على سهولة التعامل مع موظفي الحكومة أو الشركات الخاصة، وحسن استجابتهم، لما يطلب منهم، وفهمهم لواجبهم، ورغبتهم في المساعدة والمشاركة، ومعنى ذلك أن هذه الدول وصلت إلى (روتين) يعين على أداء الخدمات، ويحقق الغرض من الأداة الحكومية، فلنعمل ليقوم في بلادنا (روتين مثله).

الوهم الثالث: إن القانون كفيل بإصلاح أداة الحكم

45 –يسيطر على اعتقاد بعض الذين يهمهم إصلاح أداة الحكم في بلادنا، أن نقطة الابتداء هي إصلاح القانون الحالي ويحسبون أن هذا الإصلاح إن لم يكن كل الحل فهو أكثر من نصفه، وهو للأسف اعتقاد مضلل وضار معا، ولقد جربناه في إصلاح النظام القضائي فبسطنا من إجراءات التقاضي، وألزمنا القاضي بمواعيد ليفصل في الدعوى، وأقمنا العقبات في وجه أسباب التأجيل المنتحلة ولكن لم يحقق هذا كله ما نصبوا إليه من أن تكون دار العدالة على النحو الذي يجب لها نظافة ووقارا، وأن يكون التعامل مع المحاكم، عملا سهلا ميسرا، لا تجربة مؤلمة.

الوهم الرابع: إصلاح الأداة الحكومية دفعة واحدة

46 –يشتد أحيانا شعورنا بعيوب الأداة الحكومية في بلادنا، ويشتد شوقنا إلى قلبها رأسا على عقب، وتحليل أجزائها، وتفكيكها ثم إعادة بنائها في أيام أو أسابيع أو شهور، ونقبل في التعبير عن هذا الشعور أو الأمل، تعبيرات تدل على عمقه، فتقول مثلا: "هو الأداة الحكومية".

وكثيرا ما كان يرتسم على شفتي ابتسامة إشفاق من عبارة (هز الأداة الحكومية) لأن هذه الأداة لو هزت، لانهارت.

على أن مصدر هذا الشعور، هو شعور آخر، أعني الشعور بما تفرضه علينا الخطط الطموحة التي أخذنا أنفسنا بها، لنقيم بناء اقتصاديا قويا، تزيد بفضله وفي ظله أرزاق المواطنين، وتزداد أمامهم فرص التقدم والرخاء.

لم نكن بدعا بين الأمم، فقد حاولت كثير منها أن تنشئ لجنة أو لجانا لإصلاح الأداة الحاكمة، وكان الأمل أن هذه اللجان ستنجح في وضع يدها على مواطن العلة، ثم تصف الدواء فتتجرعه الأداة الحكومية، في شهر أو سنة، فينصلح حالها، وتدب فيها العافية، ولكن ثبت بعد هذا الأمل عن الواقع.

ففي بريطانيا شكلت لجنة في سنة1918 من كبار العلماء ورجال القانون والإدارة سميت لجنة الأداة الحكومية.

كما شكلت لجنة في سنة1918 نفسها عرفت باسم لجنة (جلادستون) رئيس وزراء بريطانيا، ولجنة (هوايتلي) سنة1919 ولجنة (توفلين) سنة 1925.

ولكن تجربة الولايات المتحدة هي التجربة الجديرة بالنظر والاعتبار، ففي سنة1910 شكل الرئيس (تافت) لجنة سميت "لجنة الاقتصاد والكفاءة".

فلما وجدت اللجنة أنها لن تستطيع أن تحقق الغاية من تشكيلها في فترة يمكن التنبؤ بها مقدما، تحولت إلى جهاز دائم وقال الرئيس "تافت" في تبرير هذا التحول ما يجب أن نتأمله طويلا:

"إن الأعمال التي تتولاها الحكومة يتسع نطاقها يوما بعد يوم، وإلى اليوم لم تقم دولة من الدول بتحقيق كامل للوصول إلى الوسائل المؤدية إلى ضمان إنجازها مع الحد الأعلى من السرعة، والاقتصاد والإجادة، وإني لمقتنع بأننا لن نصل إلا إلى نتائج جزئية إذا قمنا في فترات متقطعة متباعدة بعمل تحقيق عن مساوئ هيئات إدارة معينة.

وهذه النتائج مع كونها جزئية فإنها لا بد أن تكون مؤقتة لعدم امتداد البحث إلى ما يرتبط بها من أعمال الهيئات الأخرى، وإن معضلة الحصول على أداة حكومية صالحة ليست من الوسائل التي تعالج دفعة واحدة، بل هي مستمرة الوجود أو دائمة التجدد".

الوهم الخامس: أن المؤسسة العامة أفضل في ذاتها من المصلحة الحكومية

47 –صدر أول قانون منشئ ومنظم للمؤسسات العامة في سنة1957 ، وهو القانون رقم 32 الصادر في 31 من يناير سنة1957 ، والذي نشر في 4 منفبراير من نفس السنة، وبصدور هذا القانون، دخل في مجال الإدارة الحكومية، عنصر جديد، وإذا كان القانون المنشئ لنظام المؤسسات، قد خلا من تعريف ما هي المؤسسة العامة، واكتفى في المادة الثانية منه بالنص على أن القرار المنشئ للمؤسسة يحدد ما يمنح لها من اختصاصات السلطة العامة اللازمة لتحقيق الغرض الذي أنشئت من أجله.

ولكن هذه المادة نفسها، والمادة 14 التي تحتم أن تبدأ السنة المالية للمؤسسة مع السنة المالية للدولة، وتنتهي بانتهائها والمادة 20 التي تنص على أن أموال المؤسسة العامة تعتبر أموالا عامة وتجري عليها القواعد والأحكام المتعلقة بالأموال العامة، والمادة الخامسة التي أقامت لكل مؤسسة عامة جهة إدارية (حكومية) تتبعها، وتمارس في حقها سلطة الرقابة من الناحيتين الإدارية والمالية ..

كل هذه النصوص، كشفت بوضوح عن أن المؤسسة العامة، هي قطعة من الجهاز الحكومي، انتزعت منه، ولكن السلطة العامة بقيت تلاحقها بالرقابة والتوجيه.

فماذا كان إذن الغرض من إنشاء هذه المؤسسات العامة، ثم الهيئات العامة التي خلقها فيما بعد القانون رقم 61 لسنة1963 الذي صدر في 29 منأبريل سنة1963.

كان الغرض من إنشاء هذه الوحدات الإدارية الجديدة، استحداث طراز من الوحدات الحكومية، متحررة من القيود المفروضة على الوحدات الإدارية التقليدية المعروفة عندنا تحت اسم وزارة ومصلحة حكومية.

ولا شك أن هذا الهدف جدير بأن نسعى إليه، كلما كانت الوظيفة التي تؤديها المؤسسة، مغايرة للوظيفة التي تؤديها المصلحة الحكومية، وكلما كان ممكنا أن تظفر المؤسسة بمجال أوسع من المجال المخصص للمصلحة الحكومية، فإن كانت المؤسسة العامة ليست إلا نسخة جديدة من المصلحة الحكومية، وكان حظ الاثنين واحدا من الحرية، وكانت الرقابة عليهما واحدة.

فإن تغيير اسم المصلحة باسم المؤسسة العامة، هو جهد لا نفع منه، وهو أحيانا ضار لأن انتزاع الاختصاص القديم المتوارث من جهاز قديم تقليدي، وإقامته وحده، يتصدع له الجهاز القديم، ويبقى معه الجهاز الجديد فترة طويلة حائرا يريد أن يستكمل أدواته ووحداته الإدارية، وهذا الاستكمال عادة جهد مضن، ويستنفد من الوقت والمال شيئا غير قليل.

وقد أثبتت التجربة (ونحن لا نشك في دور تجارب) أن المصلحة الواحدة تلد مؤسسات كثيرة، ولا بد لكل مؤسسة من مقر ومجلس إدارة ورئيس مجلس وأعضاء، ولا تنال ميزانية الدولة من هذا التفتيت إلا الأعباء، ثم يتضح آخر الأمر أن المؤسسة لا تعدو أن تكون مصلحة حكومية، بكل قيودها وأوضاعها.

وكل التزاماتها وارتباطاتها، مع عيب خاص بها، هي أنها مولود جديد يتحسس طريقه إلى الحياة ويتعثر، وينشئ لنفسه تقاليده الإدارية.

وأنه لتتولاني الدهشة كلما عرفت أن مصلحة وليدة استطاعت أن تلد عددا جما من المؤسسات والهيئات فكانت عندي أشبه شيء بفتاة لم تصل إلى سن البلوغ، ولدت رجالا ذوي شوارب ولحى. شرط لنجاح إصلاح الأداة الحكومية

48 –قد يكون من لغو الكلام، أن أقول إنه لكي تنجح المحاولة المبذولة لإصلاح الأداة الحكومية، يجب أن نكون راغبين في هذا الإصلاح.

وقد يبدو غريبا قولي إنه على كثرة ما قلناه وكتبنا وألفنا من كتب في إصلاح الأداة الحكومية، لم يبلغ بعد هذا الكلام من نفوسنا مبلغ الإيمان، قد يكون الإكثار من القول في هذا المعنى دليل على أن إيماننا به يتكون، ولكنه ليس دليلا على أن هذا الإيمان قد تكون فعلا.

وليست كثرة الكلام بدليل دائما على قوة الإيمان، وقد ضرب الرئيس مثلا نموذجيا، فالذين كانوا يصفقون ويقفزون طربا عندما يسمعون قصيدة شوقي التي وصف فيها الرسول عليه السلام بقوله: "الاشتراكيون أنت إمامهم" هم نفس الأشخاص الذين حينما طبقت عليهم الاشتراكية قالوا إنها كفر يأباه الله والرسول.

فالذين يتحدثون عن الإصلاح الحكومي، هم نفس الأشخاص الذين ينعمون في ظل القواعد السارية بسلطات لا حصر لها، ونقطة الابتداء في الإصلاح الحكومي، هي توزيع الاختصاصات بين الرؤساء والمرءوسين، وإن بقيت للرؤساء دائما سلطات التوجيه والرقابة، والمكافأة والمجازاة، والحق في التخطيط ووضع السياسة العامة.

ولقد قضينا دهرا نتحدث – قبل الثورة – عن اللامركزية، وقضينا العشر السنوات الأول على الأقل من عهد الثورة نتحدث عن هذه (اللامركزية) ذاتها، دون أن نتقدم بالقدر المأمول نحوها، كأن هذه (اللامركزية) غول نخشى أن ندنو منه فيلتهمنا.

القسم الثاني الإسعاف والوصايا العشر لإصلاح أداة الحكم

49 – بعد أن نبدد الأوهام التي كانت تتكاثف حول موضوع أداة الحكم، وبعد أن تصدق إرادتنا على إصلاح هذه الأداة، نقول إن لهذا الإصلاح – على سبيل الإسعاف، والعلاج – سبيلا توضحه وصايا عشر، نذكرها في إجمال فيما يلي:

الوصية الأولى "اخرجوا للناس

50 – تقوم فلسفة الوصايا العشر لإصلاح أداة الحكم على هذا المبدأ المجرد الشامل: ليس هناك قانون جيد، ولا نظام جيد، ولا أداة جيدة، إنما هناك إنسان جيد، وإنسان رديء سيئ، والإنسان الجيد، هو الذي يجعل القانون جيدا، إن كان القانون جيدا في ذاته، ويصلح من سوءاته إن كان سيئا، ويخفف من مضاره إن كان إصلاحه مستحيلا، ويمتنع عن تنفيذه في شجاعة وبطولة إن امتنع عليه ذلك.

ولذلك فإن مهمة الأداة الحكومية الصالحة، أن تتيح الفرصة للإنسان الصالح أن يرقى في سلم الوظائف إن كان موظفا، وأن يستوفي حقه إن كان مواطنا.

وما دام أن الإنسان هو العنصر الأساسي في الأداة الحكومية، لا تصلح إلا به، ولا تفسد إلا عن طريقه، فلا بد أن يكون الاتصال بين الأداة الحاكمة والناس أوثق ما يكون، إذ كلما زادت صلتها قوة، حسنت، وكلما تراخت الصلة فسدت، فلم يفسد حاكم قط أو يتردى في وهدة الظلم أو البطش، أو الخطأ والزلل، أو السرقة والاختلاس، وهو يعلم أن الناس يرونه، ولم يورد التاريخ مثلا واحدا يكذب هذه القاعدة.

لذلك فإننا إذا أردنا أن نصلح أداة الحكم – على وجه الاستعجال – فلا بد أن نطلب من السادة الوزراء أولا أن يخرجوا من مكاتبهم وألا يعتصموا بها ويديروا وزاراتهم منها، ليس يكفي أنهم يحددون موعدا لكل من يطلب موعدا، ولا يكفي أن يقرأوا التقارير ويطلعوا على ما تكتبه الصحف ضد أعمال وقرارات قاموا بها واتخذوها، وليس يكفي أن يجتمع الوزير بوحدات الاتحاد الاشتراكي، واللجان النقابية، والجماعات القيادية، بل لا بد له من أن يطوف بمكاتب الوزارة في ديوانها العام مرة كل شهر بغير موعد فيأتي الوزير من بيته إلى قسم من أقسام الوزارة يحيي الموظفين ويجلس معهم.

ويسأل عن الأعمال المتأخرة ويراها بنفسه، ويعرف على الطبيعة من من الموظفين في مكتبه ومن منهم قد تغيب شرعا أو بغير عذر مشروع، ثم ليرى في أي ظروف يعمل الموظفون، وبأي أقلام، وعلى أي ورق يكتبون، مثل هذه الزيارة يجب أن تقع في مصالح الوزارة المختلفة ومكاتبها خارج الديوان، ثم تجب أن تقع أيضا لفروع الوزارة في المحافظات والمراكز.

والذي لا نريده زيارات لا تكتب عنها الصحف، بل لا تسمع عنها الصحف ولا يصحب فيها الوزير أحد إلا سكرتيره الخاص على الأكثر، زيارة جد لا زيارة دعاية، زيارة ليس الهدف منها وضع اليد على المخطئين متلبسين بالأخطاء، ولا إشاعة الرعب في النفوس، ولا إظهار الوزير في ثوب الحازم الباطش، بل نريد زيارات تفهم ودراسة، يعرف بها الوزير ظروف مرءوسيه، وما يشكون منه من ظروف العمل وما يشكو منه المواطنون في بلادهم، بلا إعداد ولا تهيؤ كاذب، فيفصحون عن مقترحاتهم واعتراضاتهم إلى الوزير وقد لا يعرفون أنهم يتحدثون معه ويشكون منه إليه.

فمثل هذه الزيارات فوق أنها ستكشف للوزير عن جوانب لا تصورها له التقارير ولا المقالات، فإنها ستلهمه بأغنى الأفكار، وأكثرها حياة، وأوفرها صدقا، وهي في آخر الأمر، ستخفف من حرج صدور المواطنين بأمور لا سبيل إلى علاجها أو إصلاحها على وجه سريع.

والمرجو أن يكون الوزراء قدوة الوكلاء ومديري المصالح، فتتوالى زيارات هؤلاء أيضا من غير إعلان سابق عنها، فيجد الموظفون والمواطنون معا، عددا من المسئولين قريبا منهم، يسألونهم، ويتحرون أحوالهم ويفتشون عن العيوب والأخطاء في الوقت نفسه.

وإني كفيل بإصلاح أكثر عيوب الأداة الحكومية، من تلكؤ الأوراق، واستغلال النفوذ، وطمع في الرشوة، وتضليل للرؤساء، وقهر للمواطنين فيما لو اضطردت هذه الزيارات، وأصبحت (روتينا) مستقرا، ولم تقع في حماسة كحماسة الحمى التي تشتعل ثم تنطفئ، فلا نسمع عنها.

الوصية الثانية"اللجان داء وليست دواء

51 –ما أكثر ما يسأل المواطنون عن الوزير والوكيل والمدير، فلا يسمعون إلا هذا الرد التقليدي المسئم "سيادته في لجنة"، وما دام رئيس العمل في لجنة، فالاتصال به متعذر بل ممنوع، وإذا كانت اللجنة منعقدة في ساعات العمل الصباحية، برياسة الوزير فستضم في الأغلب الأعم الوكلاء، ولا نتيجة لهذا كله إلا أن يتوقف العمل في الوزارة، وفي مكاتب الوكلاء، فلا توقع ورقة، ولا يعرض ملف، ولا يصدر قرار، ولا تتم مقابلة، ويبدو أن الرؤساء مشغولون ومنهمكون في الدرس والبحث عن حل للمشكلات.

ولكن القاعدة الذهبية "ليكن الرؤساء في مكاتبهم في مواعيد العمل الرسمية قبل مرءوسيهم" هي أولى بالاتباع، فإذا كانت الساعة الثامنة هي الموعد الرسمي لبدء العمل اليومي، فأولى الناس باحترام هذا الموعد هو الوزير، وإذا حضر الوزير في هذا الموعد، وجد أن الوكلاء سبقوه إلى مكاتبهم، وسيجد هؤلاء، أن المديرين قد سبقوهم إلى مكاتبهم وسيبدأ يوم العمل منذ الدقيقة الأولى فيه، وستدب في الديوان وفي الفروع والمصالح حياة ونشاط كفيلان بأن يسبغا على عمل الوزارات والمصالح بركة.

ولست أعرف أن هناك لجنة أو مجلسا حل مشكلة، أو أتقن دراسة مسألة، فأكثر أعضاء اللجان والمجالس، يحضرون الجلسات دون أن يقرءوا المذكرات التي وزعت عليهم، وفي اللجان ميل إلى (الدردشة) والخروج عن الموضوع والتسابق في رواية الفكاهات، والنوادر والغرائب، وتناول المرطبات، وشرب الشاي والقهوة، عنصر رئيسي لا تنعقد لجنة إلا به.

فإذا كان لا بد من عقد لجنة فليكن موعد انعقادها بعد ساعات العمل، ولنخصص للرؤساء أيا كانت درجتهم دفاتر لإثبات الحضور، وحسبنا أن يحضر الرؤساء مع مرءوسيهم، وأن ينصرفوا آخر النهار معهم، ولسنا في حاجة إلى هذه المظاهرات الفارغة، مظاهرات انصراف الرؤساء من مكاتبهم بعد الثالثة والرابعة، استدرارا لعطف الناس عليهم، بدعوى أنهم مرهقون بالعمل، وهم في واقع الأمر، كسالى مرفهون لا يصلون إلى مكاتبهم إلا حين يحلو لهم.

الوصية الثالثة"استعملوا التليفون ولا تلجأوا إلى البريد

52 – لا تدخل مكتب أحد من الرؤساء إلا وتجد على منضدة خاصة كومة من التليفونات، والمفروض أن هذه الأجهزة لم توضع للزينة، وإنما وضعت لإنجاز الأعمال، والاتصال بفروع العمل داخل المدينة وخارجها، ولكن الثابت أن هذه التليفونات هي وسيلة معطلة، لأن الوسيلة الوحيدة المعترف بها للاتصال في ذلك أن القرار لا يكتسب شرعيته إلا بإمضاء يوقع عليه الرئيس، وللخطابات خطوط ملتوية، تتعرج فيها وتتثنى حتى تخرج من مصدرها، وإلى أن تصل إلى أهدافها، على ما سنرى في الفقرة التالية.

ولكن لا بد من خلق عقلية جديدة تبيح للرئيس أن يتصل مباشرة بمرءوسيه – والعكس – ليفهم الموضوع، وليصدر أمره تليفونيا، على أن يأتي الخطاب بعد ذلك مؤكدا للأمر الشفوي، ويكتفي في الفترة ما بين التفاهم التليفوني، ووصول الكتاب المؤكد له، بتسجيل موجز لأمر الرئيس في دفتر إشارات تليفونية عند طرفي المحادثة.

ولا بد أن يتقرر أن من حق المرءوسين أن يتصلوا تليفونيا برؤسائهم، وأن تلغى هذه القاعدة البالية التي تقضي بأن الرئيس هو وحده الذي يملك أن يوجه الخطاب، وأن المرءوس لا يملك إلا الرد، لا بد أن يوضع دستور جديد للإدارة يبيح للمرءوسين أن يتصلوا مباشرة بالرئيس المباشر وبالرئيس الأعلى تليفونيا، ليعرضوا الموضوع وليتلقوا الأمر، ليسرعوا بالتنفيذ، دون انتظار للكتاب الرسمي المؤكد للأمر.

ولقد شكت مصلحة البريد من كثرة المراسلات المسجلة المتبادلة بين مصالح الحكومة في المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية، ورجت في إلحاح أن يتم تبادل هذه المراسلات عن طريق السعاة الذين يملأون ردهات وممرات الوزارات والمصالح على أن يصحبوا معهم دفاتر المراسلات، وعلى الرغم من أن هذه الطريقة أكثر نجاعة وأقصر وقتا، فإن الوزارات والمصالح لم تستطع أن تنتزع من قلبها غرامها الشديد بالمراسلة البريدية المسجلة التي قد تتأخر عادة أياما طويلة.

الوصية الرابعة "من المرسل إلى المرسل إليه مباشرة

53 -لا تسلك المراسلات الحكومية خطوطا مستقيمة، فهذه المراسلات إما أن تسير في خطوط منحنية، أو خطوط متعرجة أو حلزونية، أو متقطعة.

فالكتاب الحكومي لا يخرج من مكتب الوزير مثلا إلى مكتب مدير المصلحة أو مكتب الوزير الآخر، بل لا بد أن يمر في القيودات، ليسجل في دفتر الصادر، ثم إذا وصل إلى الوزارة أو المصلحة، استقبلته إدارة القيودات، ليسجل في دفتر الوارد، ثم تتناوله أيد كثيرة قبل أن يعرض على الوزير أو الرئيس المختص.

ولذلك لا يكون غريبا أن يصدر الخطاب من المرسل، ثم تنقضي أيام ولا يصل إلى المرسل إليه، فيدور البحث في الجهة المرسل إليها، فلا تعثر عليه، ثم يدور البحث في الجهة المرسل إليها، فإذا هو باق لم يتحرك بعد، لأنه لم يقيد في دفتر الصادر، وبين الصادر والوارد، قد تختفي المراسلة، في حين يكون صاحب الحاجة فيها، قد قطع أميالا بين الجهتين ذهابا وإيابا وصعودا وهبوطا، مع تحمل الإهانة ومذلة السؤال عن رقم الصادر ورقم الوارد، وتاريخ الإرسال وساعته.

ولذلك يجب أن يوضع حد لهذا التعرج والتثني.

وأن يصدر الخطاب من الجهة المرسلة مباشرة إلى الجهة المرسل إليها، ويكون في كل مكتب دفتر صادر خاص به، يصب في آخر النهار في دفتر عام للصادر تقيد فيه مراسلات الديوان أو المصلحة، برقمها الخاص في الدفتر الخاص، ثم برقمها المتسلسل في الدفتر العام.

الوصية الخامسة"إمضاء واحدة على الورقة الواحدة

54 –يجب أن ينتهي عهد الإمضاءات على الورقة الحكومية الواحدة، والتي كان القصد منها قديما التأكد من سلامة الورقة، وإقامة الحوائل في وجه الاختلاس والتزوير وتبديد أموال الدولة، ولكن التاريخ الطويل للإدارة المصرية أثبتت أنه ليس ثمة منافذ أوسع للمزورين والمبددين والمختلسين من كثرة الإمضاءات التي تزدحم على الورقة الواحدة، والتي تلطخ وجهها بأقلام عديد من الموظفين لا يعرفون عن مضمون هذه الورقة شيئا، وإنما يوقعونها لأن اللوائح تطلب ذلك.

فإذا ضبط الاختلاس ضاعت المسئولية بين أصحاب هذه الإمضاءات العديدة، كبيرهم يرد المسئولية بأن دوره التوقيع، وصغيرهم يردها بأنه عبد المأمور، فليبدأ عهد الورقة التي تحمل إمضاء واحدا أو إمضاءين على الأكثر، لتتحدد المسئولية، ثم ليصبح من السهل الميسور إعداد وإصدار الأوراق التي يحتاج إليها المواطنون في إنجاز وتصريف أعمالهم.

ولنجرب، ولو لفترة، نظام الإمضاء الواحدة لنعرف هل ستزيد الاختلاسات أم ستقل، وهل ستشيع الفوضى في جهازنا الإداري أم سيشملها نظام، وستدب فيها حياة؟

الوصية السادسة"إحصاء سريع نشيط موجز كل أسبوع وكل شهر

لندخل نظام الإحصاء الأسبوعي والشهري، هو نظام يفرض على كل موظف بأن يعد في آخر الأسبوع بيانا موجزا بالأوراق التي تسلمها والتي لم يستطع أن يصرفها، ويرفع هذا البيان إلى الرئيس المباشر.

وفي آخر الشهر يرفع إلى الرئيس الأعلى – رئيس الإدارة أو مدير المصلحة – بيان بجمع الملفات والمراسلات المعطلة.

وليست الغاية من إعداد هذه البيانات إبراز تقصير الموظفين المقصرين، بقدر ما هي تبين مواطن النقص في الوحدات الإدارية المختلفة، واستحثاث الرؤساء للتدخل لدفع العجلة، ومد يد المساعدة، واقتراح الحلول، والاستعانة بالرؤساء الأكبر منصبا، والأكثر نفوذا.

ومن واقع البيانات الشهرية وتحليلها، ومقارنتها بعضها ببعض في المصالح التابعة للوزارة الواحدة، ثم في المصالح التابعة للوزارات المختلفة، يمكن وضع اليد على مواطن الضعف المشتركة في جهاز الإدارة، وتبين أسباب العلة، وقد يعين هذا على اقتراح الحل الأمثل.

الوصية السابعة "أنشئوا مجلس (الوزارة) ومجلس (المصلحة)

56 –"أنشئوا مجلس (الوزارة) ومجلس (المصلحة)"

إذا قررنا نظام الإحصاء الأسبوعي ثم الشهري للأعمال والملفات والقرارات المتأخرة، فلا بد أن يكون هناك جهاز يتلقى هذه الإحصاءات ويدرسها، ويصدر في شأنها رأيا أو قرارا.

وليس أليق بالقيام بهذه المهمة من مجلس يعقد برياسة الوزير مرة في الشهر ويضم وكلاء الوزارة ومديري المصالح ووكلائهم، وتعرض عليه هذه الإحصائيات مقرونة بتعليق الإدارة المختصة أما تبريرا لتعطيل الأعمال المعطلة أو كشفا عن خلل أدى إلى التعطيل، إذا كانت معالجة هذا الخلل أو التصدي له مما يخرج عن قدرة المصلحة، وجب أن يبحث مجلس الوزارة عن علاجه، فإن عجز بدوره، وجب رفع الأمر إلى الجهات الأعلى، ولكي يكون عمل مجلس الوزارة مستمرا، يجب أن يعقد قبله في المصلحة مجلس يضم مديرها ووكيلها ورؤساء الفروع فيها، ليبحثوا في مشكلات المصلحة على ضوء التقارير الشهرية وتحليلها والتعليقات المصاحبة لها.

ولسنا نحب أن نخوض في تفصيلات عمل هذه المجالس، ولكن لا بد أن ننبه إلى أنها لن تثمر ثمرتها المرجوة إلا إذا اضطردت واستقرت، ولم تؤخذ كالعادة في أول أمرها، بالحماسة والاهتمام، ثم تقل العناية بها، ثم تنقطع.

ولا بد لهذه المجالس من مضابط لإثبات توصياتها، ولا بد لها من جدول أعمال واضح وبسيط، وليست العبرة في هذه المجالس بطول الجلسات، وكثرة ما يقال فيها من كلام، أو حسب أعضائها ساعة عمل جادة، خير من جلسات طويلة فارغة، تسئم الأعضاء، وتشعرهم بأن حضور هذه الاجتماعات ضريبة ثقيلة مفروضة عليهم.

ولا بد لهذه المجالس من أن تتطور، فتتغير أساليب العمل فيها وتتسع خطتها حسب الحاجة.

ولا شك أن الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، قادر على أن يجعل من هذه المجالس وسائل ناجعة لمد الجهاز الإداري بروافد حيوية وتطويره.

وقد يكون من الطبيعي، بعد إنشاء مجالس المصالح ومجالس الوزارات على ما سيأتي به القول أن يعقد مؤتمر لمشكلات الإدارة، يعقد سنويا برياسة رئيس الوزراء، يضم الوزراء يضم الوزراء والوكلاء ومديري المصالح ورؤساء مجالس إدارات المؤسسات والهيئات والوحدات التابعة لها، تعرض فيه المشكلات التي واجهت الإدارة في العام المنصرم، والحلول التي انتهجتها كل وزارة، والتعديلات المقترحة في القوانين السارية.

كما تلقى فيه بعض البحوث عن الدراسات الإدارية المقارنة، على أن يخصص في جدول أعمال هذا المؤتمر، جانب لمشاهدات ومقترحات العائدين من الخارج من مهمات أو دراسات أو بعثات لينتفع أعضاء المؤتمر بتجارب ومشاهدات المواطنين الذين أتيحت لهم فرص الاتصال والاحتكاك بالأجهزة الإدارية في الخارج.

الوصية الثامنة"مصارف للسلطة تتدفق منها إلى أسفل

57 –لا بد أن نراعي في كل قانون جديد لتنظيم الإدارة، أن ننص صراحة وبوضوح على سلطات المديرين والرؤساء، لا سيما سلطات الجزاء والمكافأة، لكن على أن ينص في الوقت نفسه على طريق لتوزيع هذه السلطات على معاوني ووكلاء ومساعدي المديرين والرؤساء.

ويمكن أن تقسم سلطات هؤلاء الرؤساء والمديرين إلى ثلاثة أقسام:

1 – سلطات للرئيس الأعلى، وتبقى له إذ يجب أن يباشرها بنفسه إلا في حالة الغياب.

2 – سلطات للرئيس الأعلى، ويجوز له أن ينزل عنها كلها أو بعضها لمعاونيه ووكلائه.

3 – سلطات للرئيس الأعلى، ويجب عليه أن يفوض فيها غيره من معاونيه ووكلائه، تحت إشرافه وتوجيهه. الوصية التاسعة

الوصة التاسعة"أحيوا قانون الكسب غير المشروع

58 –إن قانون الكسب غير المشروع هو ضمانة من ضمانات نظام الجهاز الإداري، وهو حماية للموظفين تقيهم الانحراف والشر، وإذا كان المثل العامي يقول إن (المال السايب يعلم السرقة) فليس ثمة مال يبدو أنه لا صاحب له مثل المال العام، ولقد كان قانون الكسب غير المشروع أملا من الآمال القوية، ولكنه ولد ميتا، ولا سبيل في إحيائه إلا بوضع نصوص تحتم عرض إقرارات الكسب غير المشروع سنويا على جهة من جهات التحقيق العام أو الإدارية.

فالوزراء ورؤساء مجالس إدارات المؤسسات الذين في درجتهم يجب أن تعرض إقراراتهم سنويا (خلال شهر ديسمبر من كل سنة مثلا) على النائب العام والمحامين العمومين، ولا بد من فتح محضر إذا كان في الإقرار أي عنصر جديد زاد من ذمة الوزير أو رئيس المؤسسة ولو كانت الزيادة مشروعة أو تافهة. الوصية العاشرة

الوصية العاشرة"الصيانة أهم من الإنشاء

59 –يقول المثل إن الوقاية خير من العلاج، أو أن قيراطا من الوقاية يغني عن قنطار من العلاج، ونقول "إن الصيانة أهم من الإنشاء".

فالإدارة الحكومية وإن كانت في المقام الأول هي جهاز بشري، وليست قوانين ولا ضوابط وقواعد، إلا أن الجهاز البشري لا يعمل بنفسه، بل له وسائط تكاد تكون جزءا منه تكمله، فإن توافرت له، زادت من كفايته، ومن إنتاجه، ورفعت مستوى قدراته، فالمكان الذي يعمل فيه الموظف، والمقعد الذي يجلس عليه، والقلم الذي يكتب به، والملف الذي يطوي فيه أوراقه، أشياء رئيسية تبعث في الموظف الميل إلى العمل أو تصرفه عنه، وتقلل من أخطائه أو تزيد منها، فالمكان السيئ، الذي لا تتوافر فيه راحة الموظف، يعطل الأداة الحكومية، ويفسدها، ويؤذي مصالح الناس.

ولكن الحكومة تبني أحيانا مباني صالحة للعمل وجيدة الموقع، وحسنة التصميم، ثم تترك للإهمال يعبث بها، ويحيلها مع الزمن القصير، إلى خرائب، وتضع في هذه المباني الجيدة أثاثا جيدا ثم تنسى أن هذا الأثاث في حاجة إلى صيانة وتجديد، فيبلى، ويتداعى، ويصبح من سقط المتاع.

الحكومة لا تعرف الصيانة ولا تعترف بأهميتها، ولا ترصد في الميزانية مبالغ واعتمادات كافية للإبقاء على مبانيها وأدواتها من سيارات وآلات كاتبة وآلات حاسبة ومصابيح وأثاثات، ولا أظنني في حاجة لأن أصف لك ما نراه في الدور الحكومية من كراسي مربوطة بالسلك والدوبار، ودواليب المفروض أنها مقفلة على ملفات وأوراق هامة، وهي مفتوحة لأن لمسة من طفل تنتزع أقفالها، والمناضد بلباد كان في يوم من أيام أخضر، فأصبح يحمل ألف لون، ويضم مائة خرق وثقب.

فلا بد إن من أن تولد عقلية الصيانة، وأن يرصد مبلغ ظاهر كبير في الميزانية مستقل باسم اعتماد الصيانة، ثم يوزع بعد ذلك على الوزارات والمصالح، والإدارات، لتبقى الأبنية سليمة، والأجهزة صالحة للعمل، والأدوات جديرة بالاسم الذي يطلق عليها.

هذه الوصايا هي بعض من كل

60 –ليس الإسعاف المرجو للأداة الحكومية معلقا على هذه الوصايا العشر وحدها، وإنما هي خلاصة العلاج العاجل، ويمكن تعزيزها بوصايا فرعية إليك بعضها:

• الغوا القوانين ولا تعدلوها.

• المحفوظات كالمعدة بيت الداء.

• نحن في القرن العشرين فلتكن أدواتنا أدوات القرن العشرين.

• خففوا من العقوبات، عقوبات الرشوة والانحراف وزيدوا من كفاية جهاز الضبط والتحقيق.

فتعديل القانون المرة بعد المرة يجعل الإحاطة بهذه التعديلات أمرا شاقا حتى بالنسبة للمشتغلين بالقانون كالقضاة والمحامين، ومعرفة القانون نقطة الابتداء في العمل الحكومي السليم، فالأسلوب الأفضل الواجب الاتباع عند تعديل القانون إلغاؤه تماما ووضع قانون جديد بدلا منه.

ومحفوظاتنا، في حاجة إلى حملة تنظيم وتبسيط، وفهرسة من جديد، وهي حملة لا تحتمل التأخير.

وأدواتنا الكتابية التي تنتسب إلى القرن الثامن عشر والتاسع عشر يجب أن نلقي بها في البحر، فلا بد من التوسع من استعمال الآلات الكاتبة وأن نخجل من استعمال (البالوظة) في أعمالنا القضائية، وغيرها.

وحياتنا الحكومية، يجب أن يضع تصميماتها معماريون متخصصون، فالمحاكم والمستشفيات والمسارح لكل منها مهندسون يعرفون احتياجاتها، أما المباني التي تبنى اعتباطا فتسبب للجمهور وللموظفين متاعب لا حصر لها.

والعقوبات الشديدة لا تمنع الجريمة وإنما جهاز الضبط والرقابة الكفء النشيط المتزن هو الذي يمنعها، وقد أثبتت الأيام الأخيرة أن تغليظ عقوبة الاتجار بالمدخرات لم تمنع محاولات التهريب كما لم تمنع تغليظ عقوبة الرشوة من فشو الرشوة بل إن شدة العقوبة تجعل كل الأجهزة أكثر ترددا وأميل إلى ترجيح كفة البراءة عند القبض والتحقيق والحكم.

القسم الثالث العلاج

61 –أكدت في وضع سابق من هذا المقال أنه ليس ثمة علاج حاسم لعيوب وأمراض أية أداة حكومية، وقلت إن رئيس الولايات المتحدة (تافت) الذي كان يظن أن لجنة ذات مستوى عال قادرة على تشخيص العلة ثم وصف الدواء بعد عدد من الاجتماعات تبين أن ما ظنه كان أبعد الأشياء عن الحقيقة، فإن الأداة الحكومية جهاز حي، تتجدد مشكلاته وأمراضه، والعلاج الذي ينصح به اليوم، قد لا يصلح غدا.

وأن لجنة إصلاح الأداة الحكومية يجب أن تكون دائمة، تأتي إليها المشكلات أولا بأول، فتجمعها وتبوبها، وتحللها، ثم تستخلص منها قواعد عامة، تعرضها للتطبيق بعد التأمل والدراسة والمشاورة، ثم ترى ما يسفر عنه التطبيق، فتغير في القواعد مع التزام خطة التريث والاتئاد، وأن تبتعد قدر ما استطاعت عن القفز إلى النتائج، والتشبث بأول نتيجة يكشف عنها التطبيق.

لذلك أرى – في ختام هذا البحث أن العلاج الدائم – أو الأطول عمرا، إن أردت الدقة – يقوم على ثلاثة قوائم:

أولا – الخطة.

ثانيا – الجامعة.

وثالثا – الإرشاد.

أولا:

62 – الخطة:ما دمنا قد أخذنا أنفسنا بسياسة التخطيط فقد أصبحت لجنة الخطة، وأجهزتها، المتصلة بها، وعاء ضخما لمعلومات لا حصر لها من كل نوع: اقتصادية، وإدارية، وثقافية، وستأتي مع هذه المعلومات سمات وخصائص الأجهزة الإدارية التي تبعث بهذه المعلومات، أو التي تتناولها هذه المعلومات وعندها سيسهل وضع اليد على صور التضارب والتداخل والفراغ الإداري، وستنكشف حقائق الكفاية الإدارية أو نقصها وانعدامها، وفي ضوء هذا كله، سيتيسر وضع بناء إداري جديد، يتفق مع الخطة، وينهض بأعبائها، ويحتوي على طاقات التطور والنمو والاتساع.

فبناء جهاز إداري جديد سليم، خال من الفروع الزائدة عن الحاجة، تتحدد فيه الاختصاصات على وجه بين، وقابل للرقابة والتوجيه، ومستعد للاستجابة لحاجات الشعب، ولتقديره وإرشاده، هو أساس النجاح في أية خطة، وبغير هذا الجهاز لا يؤمل في نجاح تلك الخطة، كبرت أو صغرت. ثانيا – الجامعة:

62 – الخطة:المعين الأساسي للعنصر البشري في أداة الحكم هو الجامعة، وقد أصبحت الجامعات لدينا، جامعات الأعداد الضخمة، وذلك تبعا لرغبتنا الشديدة في إتاحة كل فرص التقدم المتساوية للمواطنين الذين حرموا طويلا من خدمات التعليم والتثقيف.

ولكن لا بد بعد أن وصلنا إلى مرحلة جامعات الأعداد الضخمة، أن نفكر في كيف نتدارك عيوب هذه المرحلة، فإن لم يتيسر القضاء عليها، فلا أقل من أن نعمل على تخفيف آثارها، وسبيل هذا التخفيف هو ألا تكون الشهادة الجامعية وحدها جواز المرور إلى الوظيفة.

فلا بد من إقامة مراكز تدريب واسعة، في نفس المصالح التي سيعين فيها هؤلاء الخريجون، أو خارجها سواء أكانوا من حملة المؤهلات النظرية أو العملية، ولا بد للجامعة أن تعيد النظر في برامجها على ضوء الخطة، فتنقى من الحشو، ومن الإسراف، ولا بد من العناية بالنشاط الثقافي والاجتماعي للطلاب، ولا بد للجامعة أن تنظم برامج للخروج إلى الشعب بالثقافة العلمية والأدبية، وما تقوم به الجامعات الأوروبية والأمريكية في هذا الصدد لا ينفد الكلام في صدده. ولسنا قادرين على أن نفصل القول فيه هنا.

ثالثا – الإرشاد:

64 –لم نؤمن بعد بالقدر الكافي بالإرشاد، ولا نزال نعتبره من كماليات الإدارة، ولا نزال ننظر إليه، باعتباره أجزاء متناثرة، لا تضمه وحدة، ولا تنتظمه سياسة عامة، فالإرشاد الزراعي، والصحي، والاجتماعي، والديني، والفني والسياسي، والزراعي والسياحي والثقافي، يتبع كل منه وزارة.

ولا توجد وزارة واحدة تضم هذه الأجزاء مع أنها متكاملة، ولا تؤدي أثرها المطلوب، إلا إذا قامت عليها هيئة واحدة، وكل وزارة حريصة على أجهزة الإرشاد التابعة لها، ظانة أنها وحدها القادرة على إدارتها، مع أن الوزارة قادرة على أن تحضر المادة العلمية.

وأن ترسم سياسة إرشادها، ثم تدع التنفيذ لوزارة الإرشاد القومي، على أن يكون الموظفون الفنيون الصحيون والزراعيون وعلماء الدين، ورجال الفن، منتدبين لوزارة الإرشاد القومي، التي تتجمع لديها أجهزة العرض والمطابع، وسيارات القوافل، والدور التي تضم الجماهير والجماعات، وقاعات المحاضرة، والمكتبات، والنشرات والمطبوعات والملصقات.

وقيام جهاز كفء يضم هذه الوحدات كلها، هو نقطة تحول في حياتنا العقلية والسياسية والإدارية، فأداة الحكم، كما سبق أن قلت، لا تنهض وحدها، وإنما تنهض وتتقدم وتزداد كفاءة، بكل تقدم مادي وروحي يظفر به الشعب، والشعب المثقف المستنير العارف لحقوقه، المطالب بها، لا يسكت على الاعوجاج والانحراف، بل يصلحه، وهو يلهم الموظف ويعلمه ويقوده ويرشده، وعند الاقتضاء يردعه ويضعه على طريق الصواب.

فإذا كنا على أبواب خطة تنمية اقتصادية، فإنها تقضي خطة تنمية روحية، وتستلزم خطة تنمية إدارية، فلا سبيل إلى ضمان النجاح لكل هذه الخطط بغير جهاز إرشاد قومي شامل قوي غني ذي كفاية.