*24 الحلقة الرابعة والعشرون : كلية أصول الدين وثورة يوليو

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الحلقة (24) كلية أصول الدين وثورة يوليو


إلى القاهرة والالتحاق بكلية أصول الدين

بعد حصولي على الشهادة الثانوية وتفوقي فيها، اقترح بعض الأصدقاء عليَّ أن أقدم إلى كلية (دار العلوم)، وقد أصبحت إحدى كليات جامعة فؤاد الأول، وهي تأخذ عادة المتفوقين من أبناء الأزهر، وقالوا لي: ستبرز فيها في مجالي تخصصها: مجال الدراسات اللغوية والأدبية، ومجال الدراسات الشرعية، ثم إنها تعين المتفوقين معيدين فيها، والأزهر حتى الآن ليس فيه نظام المعيدين، إلى آخر هذه الإغراءات التي ظل بعض الزملاء يزوقوها في عيني.

ولكني في قرارة نفسي كنت مصممًا على ألا أتخلى عن الأزهر، وأن من حقه علينا أن نبقى فيه وأن نعمل على إصلاحه وتجديده، ولهذا لم أقبل التوجه إلى (دار العلوم).

واقترح أصدقاء آخرون أن أقدم إلى (كلية اللغة العربية) بالأزهر، فأنا معروف بتفوقي في علوم العربية نحوها وصرفها وبلاغتها، كما عُرفت بأني أديب وشاعر، وهذا كله يتلاءم مع كلية اللغة العربية، ويتيح لي فرصة للإبداع والبروز فيها.

ولكني كنت أحس من نفسي أني نهلت من علوم العربية وآدابها، ما يروي ظمئي، وعندي منها ما يمنحني الأهلية للتوسع والمزيد إن أردت، وقد سمّى سلفنا العلوم العربية (العلوم الآلية) يعنون أنها آلة ووسيلة لفهم مصادر الإسلام من القرآن والسنة، وليست مقصودة لذاتها، فكيف أقف عند الوسيلة وأدع المقصود؟

لهذا كانت نيتي متجهة إلى التقديم لكلية أصول الدين، وهو اتجاه قديم عندي، حتى إني كتبت على أحد كتبي وأنا في السنة الثانية الابتدائية – وهو كتاب القدوري في الفقه الحنفي – يوسف القرضاوي الطالب بالسنة النهائية بكلية أصول الدين؛ تفاؤلاً بالمستقبل.

لقد كان يعجبني في كلية أصول الدين أنها كلية الثقافة الإسلامية الواسعة والمتنوعة، تدرِّس العلوم العقلية والنقلية، تدرِّس التفسير والحديث في كل سنواتها، وتدرس العقائد والتوحيد في كل سنواتها، وتدرس الفلسفة في كل سنواتها، وتدرس التاريخ الإسلامي في كل سنواتها، وتدرس المنطق وأصول الفقه وعلم النفس، ونظريات الأخلاق وغيره، فأنا لا أعدل بها بديلاً.

وكان الأزهر في هذه السنة قد أنشأ ما يشبه مكتب التنسيق لتوجيه الطلبة إلى كليتي أصول الدين والشريعة خاصة. فمن كانت درجاته في الفقه أعلى أُلحق بكلية الشريعة، ومن كانت درجاته في التوحيد والمنطق والتفسير والحديث أعلى ألحق بكلية أصول الدين.

وكان المعتاد أن تكون درجاتي في الفقه أعلى، ولكن الظروف التي حدثت في امتحان الفقه، نقصت درجاتي في الفقه كثيرًا، وجعلت درجاتي في العلوم الأخرى أعلى كثيرًا جدًّا، فحوِّل اسمي إلى (كلية أصول الدين) بغير معاناة ولا طلب ولا وساطة، على حين التحق أخي أحمد العسَّال بكلية الشريعة.


البحث عن سكن:

كانت هذه أول مرة آتي فيها إلى القاهرة مقيمًا، وكان أول ما يشغلني هو البحث عن سكن، وكنا نسكن عادة مجموعة من الزملاء، وكانت كلية أصول الدين بجوار جامع الخازندار بشبرا، فلا بد أن يكون سكننا بشبرا، قريبًا من الكلية، حتى نصل إليها بسهولة وعلى أقدامنا، بدون أن نتعنى ركوب المواصلات، بما فيها من تكاليف وضياع وقت.

وكان التطور الجديد في قضية السكن: أنه يكون في (شقة) لا في حجرة، كما كنا في طنطا، وكل حجرة يكون فيها عادة اثنان، والشقة عادة من ثلاث حجرات، فلا بد من ستة يسكنون، ووجود ستة متفاهمين متجانسين قد لا يتيسر دائمًا.

كما أن من التطور أن يكون لكل طالب سريره الخاص، فلم تَعُد تكفي (الفرشة أو المرتبة) على الأرض، ولا الكنبة التي كانت في طنطا، فلا بد إذن من شراء (سرير) لكنه سرير متواضع جدًّا، مصنوع من الحديد يسمونه (سرير سفري) أي يصلح للسفر؛ لأنه يُطوى ويُطبق، فيصبح قطعة واحدة يمكن نقلها من مكان إلى آخر بسهولة.

وكانت المساكن في ذلك الوقت موفورة ميسورة، ولافتة (شقة للإيجار) تجدها في كل مكان، ولكن المهم أن نجد الأنسب والأرخص؛ نظرًا لقلة دخلنا نحن الطلاب.

وقد وجدنا شقة معقولة بشارع الترعة البولاقية، وسكنت فيها مع عدد من الزملاء، ولكن كان عيبها أنها تطل على موقف للأوتوبيس، فهي كثيرة الإزعاج؛ ولذا بقينا فيها سنة دراسية واحدة.

وفي السنة التالية غيرت السكن، وغيرت الرفقاء، ما عدا الأخ الدمرداش رفيقي الدائم، فسكنت مع الأخ الشيخ منَّاع القطان، وهو يسبقني بسنتين في كلية أصول الدين، ومع عدد من القريبين منه، وكان سكننا في شارع راتب باشا، في شقة استمرت سكنانا بها لعدة سنوات، حتى اعتقلنا فيها سنة 1954م.

وقد تغيَّر رفقاء السكن بها، ولا سيما بعد تخرج الشيخ مناع، فكان يسكنها معي: الحسيني أبو فرحة، وفهمي شاهين، ومحمد بسيوني قنديل، وكلهم من الغربية، وإبراهيم إبراهيم بهنساوي سعيد من البحيرة، وزميلنا في معهد طنطا، ومحمود نعمان الأنصاري من أسيوط، وكانت أجرة السكن توزع علينا بالتساوي.

وكان كل واحد يدبِّر طعامه لنفسه، وأحيانًا نشترك في أكلات جماعية، وخصوصًا في الغداء، وكثيرًا ما كنا نأكل في مطعم الكلية وجبة الغداء، نظير اشتراك زهيد يدفعه الطلاب.

وكنا نقتّر على أنفسنا ولا نتوسع في النفقات ما استطعنا؛ لضيق ذات يدنا، وقلة مواردنا، لولا أن الله وسَّع عليَّ بعد عدة أشهر من السنة الدراسية، وذلك حين صرفوا لي مكافأة الأولية في الشهادة الثانوية، وكانت فيما أذكر 16.5 ستة عشر جنيهًا ونصف.

وفي سائر السنوات لم يكن يصرف للمتفوقين شيء، كما يحدث الآن لطلبة الجامعات، وكما كان يصرف لنا مكافأة مقطوعة ونحن طلاب في المرحلتين الابتدائية والثانوية.


بداية الدراسة بالكلية.. والإفراج عن ابن تيمية

بدأت الدراسة بالكلية مع بداية العام الدراسي، وانتظمت صفوف الدراسة من أول يوم، وأقبلت على الدراسة بشغف وحرص وعزم، بعد أن سلمونا عددًا من الكتب، واشترينا عددًا منها، وكانت سُنَّة حميدة من الكلية أن تسلم الطلاب معظم الكتب المقررة، وكتبًا أخرى للمطالعة والاستزادة.

وكان من هذه الكتب الإضافية كتاب (زاد المعاد) للإمام ابن القيم (طبعة صبيح) وهي طبعة غير محققة، ولكنها أفادتني كثيرًا.

وكان هذا من التطور الذي حدث في عهد الإمام المراغي: أن تُقبل كتب ابن تيمية وابن القيم وتوزع على طلاب الأزهر، فقد كان الأزهر قبل ذلك يقاوم فكر هؤلاء، ويحشرهم في زمرة (المجسِّمين).

وكان يدرسنا عدد من الأساتذة بعضهم من خريجي (تخصص المادة) أو حملة (العالمية من درجة أستاذ) وأكثرهم مشايخ الأزهر القدماء.

وكان من الأولين الأستاذ الشيخ محمد بيصار، (الذي عُيِّن شيخًا للأزهر فيما بعد) الذي كان يدرسنا علم التوحيد في كتاب (العقائد النسفية)، وهو كتاب قديم مصوغ صياغة مركَّزة على مذهب الأشاعرة، وقد شرحه علامة عصره سعد الدين التفتازاني، ثم وضعت عليه حاشيتان: حاشية للخيالي، وحاشية أخرى للعصام الإسفراييني، ووضعت على حاشية الخيالي حاشية أيضًا لعبد الحكيم السيالكوني، فكانت هذه الكتب الخمسة: المتن، والشرح، والحواشي الثلاثة كلها في صفحة واحدة، بعضها في الصلب، وبعضها في الحاشية، وبعضها في الهامش، ويفصل بينها بخطوط حاجزة.

ظل الشيخ بيصار عدة أسابيع يشرح لنا الجملة الأولى من العقائد النسفية، وهي: قال أهل الحق: حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقق، خلافًا للسوفسطائية.

ثم سافر الشيخ بيصار - قبل أن نكمل شرح الجملة! - في بعثته إلى إنجلترا؛ ليلحق بزميله العلامة الدكتور حمودة غرابة، الذي بعث من قبل.


صِدَام مع أستاذ التفسير..

ومما وقع لي في السنة الأولى: أني اصطدمت بأستاذي في التفسير، وهو الشيخ محمد مختار بدير، وكان الشيخ بدير رجلاً قارئًا مطلعًا أديبًا شاعرًا، ولكنه ضاق صدره بنقاشي في قضية علمية عرض لها، خالفته فيها وهي: هل كانت دعوة نوح عليه السلام عالمية أم لا؟ وقد رجَّح الشيخ أنها عالمية، بدليل أن الطوفان عم العالم، فلو لم تكن عالمية ما عوقب العالم كله بالطوفان.. وكنت في مناقشتي معتمدًا على النصوص المسلَّمة، فالقرآن يقول: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه) نوح: والحديث المتفق عليه عن جابر في الخصائص المحمدية: "وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس كافة".

ولكن في اليوم التالي لقيني الشيخ بدير هاشًّا باشًّا، وقال: لقد ظلمتك يا قرضاوي، وراجعت المسألة، فوجدت الحق معك، وقد سألت عنك، فعرفت أنك من أهل العلم، كما علمت أنك شاعر مثلي.

وانعقدت بيني وبين الشيخ بدير مودة عميقة، استمرت حتى تخرجت، وكان كثيرًا ما يشيد بي ويثني عليّ عند زملائه من علماء الكلية.


شيوخي في الكلية.. وشيوخي في الإخوان

ومن شيوخي في الكلية غير الشيخ مختار بدير: الشيخ محمد أمين أبو الروس، الذي درسني التفسير، والشيخان: محمد أحمدين، وعبد الحميد الشاذلي، درساني الحديث، والشيوخ: صالح شرف، والعيسوي، ومحمد يوسف الشيخ، والشافعي، والظواهري درسوني التوحيد، والشيوخ: عبد الفتاح شحاته، ومحمود فياض، وأبو زيد شلبي، درسوني التاريخ، والشيخ أبو بكر ذكري درسني النظريات الأخلاقية، والشيخ منصور رجب درسني علم الأخلاق، والدكتور محمد غلاب درسني الفلسفة الشرقية واليونانية، والدكتور عبد الحليم محمود درسني الفلسفة الإسلامية والحديثة، والشيخ الطيب النجار درسني أصول الفقه، والدكتور جمال الدين درسني علم النفس، والشيخ علي الغرابي درسني الفرق الإسلامية، ونسيت اسم من درسني المنطق من كتاب (القطب على الشمسية) لمدة سنتين، كما كان هناك من درسوني اللغة الإنجليزية لمدة أربع سنوات.

وكان لبعضهم طرائف في حياته يحكيها لنا، توثيقًا للصلة بين الشيخ وتلامذته، مثل ما حكاه لنا الشيخ أبو الروس من أنه تزوج مبكرًا، وكان له أبناء يدْرسون، وهو يدرس أيضًا، فكلهم طلبة، يقول الشيخ: فقد تكون النتيجة في بعض الأحيان أن أرسب أنا وينجح الأولاد، وأحيانًا يعرف زملاؤهم ذلك فيقولون معيِّرين لهم: يا أولاد الساقط!.

ومما حكاه لنا أنه كان يكره مادة الفلسفة ولا يطيقها، فرسب فيها وحدها مرة؛ إذ لم يحصل على النهاية الصغرى، ولم يكن هناك دور ثان، وكان الذي يرسب في مادة يعيد السنة كلها من أجلها.


الدكتور عبد الحليم محمود:

وكان من أبرز من درسني: الدكتور عبد الحليم محمود، فقد درسني في السنة الثالثة: "الفلسفة الإسلامية" وقد اختار لنا كتاب الدكتور إبراهيم بيومي مدكور: (الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه)؛ ليكون موضوع دراستنا، كما درس لنا فصلاً من كتاب (الإشارات والتنبيهات) لابن سينا، يتعلق بالتصوف.

كما درسنا في السنة الرابعة: فصولاً في التصوف في ضوء (المنقذ من الضلال) للغزالي، كما أعطانا فكرة عن فلسفة الأندلس، في ضوء (قصة حي بن يقظان لابن طفيل)، بالإضافة إلى نظرات في الفلسفة الحديثة، التي درسنا فصولاً منها في (النظريات الأخلاقية).

كان الدكتور عبد الحليم في تلك الآونة، يلبس الحلة (البذلة) الإفرنجية، كما كان حليق اللحية، ولكنه كان رجلاً متصوفًا: فكرًا، وعاطفة، وعملاً، وكان لا يهتم بالمظاهر لا في نفسه، ولا في بيته.

وقد زرته في بيته بضاحية الزيتون عدة مرات، وحدي أحيانًا، ومع الأخ بعد الودود شلبي أحيانًا، فكان بيته متواضعًا في أثاثه وفراشه، لا يليق برجل تخرج في فرنسا.

وكان كثير الصمت، لا يتكلم إلا قليلاً، وكان معجبًا بشيخه في فرنسا، وهو (رينيه جينو) أو عبد الواحد يحيى، وهذا اسمه بعد أن أسلم، وكان متصوفًا كبيرًا، وكثيرًا ما حدثنا عنه، وكتب عنه رسالة نُشرت.

وقد عُيِّن بعد ذلك عميدًا لكلية أصول الدين، ثم وزيرًا للأوقاف، ثم شيخًا للأزهر، وكان من أبرز شيوخ الأزهر، الذين لهم مواقف تذكر، وإن أخذ بعض الناس عليه - وأنا منهم - في تصوفه ما أخذوا مما قد يُعَدُّ من الغلو يغفر الله له ولنا معه، ومن ذا الذي أجمع عليه الناس؟


شيوخ لم يدرسوني:

وهناك شيوخ لم أحْظَ بتدريسهم لي، ولكن كانت بيني وبينهم صلة قوية بعد. من هؤلاء: الدكتور محمد البهي أستاذ الفلسفة والعقيدة في كلية أصول الدين، وصاحب المؤلفات المعروفة في الفكر الإسلامي، مثل (الجانب الإلهي في التفكير الإسلامي)، و(الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) وغيره: ولكن من حظي أنه ترك كلية أصول الدين، وانتقل إلى كلية اللغة العربية ليدرس فيها الفلسفة، ويرأس قسمها، سنة 1950م، وعملت معه بعد ذلك حين كان مديرًا عامًّا للثقافة الإسلامية.

ومنهم: الدكتور محمد يوسف موسى أستاذ الفلسفة والأخلاق في كلية أصول الدين، والذي ترك الكلية قبل التحاقي بها، وانتقل إلى كلية الحقوق بالجامعة المصرية أستاذًا للشريعة الإسلامية. ولكن كانت بيني وبينه صلة علمية وثيقة، فزرته في بيته عدة مرات واستشرته في قضايا تمس مستقبلي فأشار علي بالرأي الأسدّ.

ومنهم: الشيخ محمد الأودن، الرجل الربَّاني، الذي كان يتدفق إيمانًا وروحانية، ولم يدرسني في الكلية، ولكني زرته في بيته في الزيتون، والتقيت به، واستمعت إليه، وهو يعطي جليسه شحنة روحية قوية؛ لأن كلامه يخرج من قلبه فيلامس القلوب، بخلاف من يخرج كلامهم من أطراف اللسان، فهو لا يتجاوز الآذان.

ومنهم - من خارج الكلية - الشيخ محمود شلتوت الفقيه المجدد الذائع الصيت، الذي كنت أزوره في بيته في حي (الظاهر) قبل أن ينتقل إلى مصر الجديدة. وأستفيد من فقهه ونظراته التجديدية، وكنا تعودنا أن نزوره جماعة: أنا والأخ أحمد العسال، والأخ أحمد حمد، وكنا ثلاثتنا متلازمين في هذه الزيارات للمشايخ الكبار، وقد قال لنا الشيخ شلتوت مرة: أرجو أن تظلوا مترابطين، وأن تظل أخوتكم دائمة، ولا تفرق الأيام بينكم، كما حدث لإخوة قبلكم، وكنا نستغرب هذا الكلام الذي ليس له أية مقدمات.

وكأنما كان الشيخ يقرأ الغيب، فقد فرقت الأيام بيننا بالفعل، فقد انفصل عنا الأخ أحمد حمد، وشنَّ الغارة على إخوانه وأصدقائه واحدًا بعد الآخر، بادئًا بالأخ عبد الودود شلبي، ومثنّيًا بالأخ أحمد العسال، الذي هاجمه هجومًا عنيفًا لا مبرر له، وبأسلوب غير لائق بحال، ثم مثّلثًا بي، مشنّعًا عليًّ في كل مجلس. مع أني سعيت لاستقدامه إلى قطر، ثم ضمه إلى كلية الشريعة، ولم أفكر والله أن أمسه بأذى طول مدة عمادتي كلية الشريعة في قطر (اثني عشر عامًا) مع إيذائه المستمر لي، مراعيًا ما كان بيني وبينه - بل ما كان بيني وبين إخوانه وأسرته عمومًا - من مودة صادقة، وأخوة سابقة، لا أقول إلا: سامحه الله، وسامحني معه، فهو لم يكن سيئ القصد، بل كان سيئ التصور، واستمع إلى بعض الوشاة الكاذبين الذين أوغروا صدره علي، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهب أنني أخطأت في حقه، أو أخطأ العسَّال أو عبد الودود، فهل يقابل ذلك بأن يفقد إخوانه ويقطعهم ويهاجمهم، ويعاملهم على أنهم أعداء، وهل يقطع حبل الإخوة والصداقة الطويلة بهذه السهولة؟! هل نسي ما حفظه وما حفظناه، من قبل من قول بشار:

إذا كنت فـي كـل الأمور معاتبا


صديقك لـم تلـق الذي لا تعاتبه

فعش واحدا، أو صل أخاك، فـإنه


مقـارف ذنب مـرة، ومجـانبه

إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى


ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه؟

من ذا الذي ترجى سجاياه كـلها؟


كفى بالمرء نبلا أن تعـد معايبه!

ومن شيوخي في الإخوان الشيخ محمد الغزالي، فقد كنا نزوره أنا والعسال في بيته في درب سعادة، قبل أن ينتقل إلى شارع الأزهر، ثم إلى الدقي.

ومنهم الشيخ سيد سابق، الذي كنا نزوره في بيته القديم في سوق السلاح، حارة زرع النوى، قبل أن ينتقل إلى (جاردن سيتي).

ومنهم الشيخ البهي الخولي الذي كنا نزوره في بيته بالمطرية، قبل أن ينتقل إلى شارع القصر العيني.

وكلهم أخذت عنهم، واقتبست منهم، فجزى الله كل من علمنا حرفًا خيرًا.

تتبع النشاط الثقافي في القاهرة:

وقد كنا نتتبع النشاط الثقافي ونبحث عنه؛ لنغترف من معينه حيثما وجدناه، لنتعلم من شيوخ العلم، ورواد الفكر، ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً.

وكان من الموارد العذبة التي ازدحم عليها القُصَّاد في تلك الفترة: محاضرات (دار الحكمة) في تفسير القرآن الكريم.

وكان الذي يقوم بهذه المحاضرات أربعة من رجال العلم المشاهير في ذلك الوقت. أولهم: الفقيه المفسِّر الشهير الشيخ محمود شلتوت، الذي ذاع صيته، وانتشرت دعوته إلى التجديد، وغدت له شعبية واسعة بين الناس بأحاديثه الصباحية في إذاعة القاهرة، هو والشيخ محمد المدني، حتى إن السيدة أم كلثوم سئلت مرة عن أحب الأصوات التي تحب أن تسمعها، فقالت: صوت الشيخ محمود شلتوت.

كان الشيخ شلتوت يحضِّر درسه التفسيري تحضيرًا جيدًا، وكان له نظرات ووقفات تأملية في كتاب الله، أودعها بعد ذلك في مقالاته التي نشرها في مجلة (رسالة الإسلام) التي كانت تصدر عن (دار التقريب) بين المذاهب في القاهرة، ثم خرجت بعد ذلك في كتاب في التفسير حول الأجزاء العشرة الأولى. وكنت أنا وأخي أحمد العسَّال، كُلِّفنا بنقلها من المجلة لتأخذ صورة الكتاب، حتى إن الشيخ شلتوت رحمه الله - وقد كان وقتها شيخًا للأزهر - أذن لي بأن أملأ الفجوات التي أراها بقلمي وأسلوبي الخاص، ثقة منه بي.

والمفسِّر الثاني كان الفقيه المعروف الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق، والذي تخرجت على يديه أجيال، وهو صاحب كتاب (أصول الفقه) وغيره من الكتب الشرعية.

والثالث كان الأستاذ عبد الوهاب حمودة أستاذ اللغة العربية بكلية الآداب. ونسيت الرابع.

كما كنا نذهب إلى استماع المحاضرات التي تلقى بجمعية الشبان المسلمين، أو الندوات التي تقام بها نصرة لبعض القضايا الإسلامية.

ومما أذكره الندوة التي أقيمت تحت عنوان (يوم كشمير)، وتحدث فيها عدد من الخطباء والشعراء، ومنهم الشاعر خالد الجرنوسي، الذي ألقى قصيدة رائعة تحية لكشمير، أذكر مطلعها:

يا يوم كشمير تحية مسلم


مطلولة عبرى ترقرق بالدم

ومنها:

في كل محكمة قضية مسلم


يشكـو بليته لـغير الـمسلـم

ومن الرزية أن حزب محمد


قد سادهم في الأرض حزب جهنم

رغم حل الإخوان أنشطتهم الشعبية مستمرة

كان الإخوان في هذه الفترة المحظور فيها نشاطهم رسميًّا، ينتهزون الفرص لإثبات وجودهم، وأنهم لم يغيبوا عن الساحة؛ لهذا احتفلوا بذكرى الهجرة في ميدان السيدة، وتحدث في هذا الحفل الشيخ الغزالي، والشيخ عبد المعز عبد الستار والأستاذ عبد العزيز كامل، والأستاذ عبد الحكيم عابدين، وغيرهم من دعاة الإخوان، وكنت في القرية في ذلك الوقت، فلم يُتَح لي حضور هذا الحفل.

وبعد شهرين أهلَّ شهر ربيع الأول، وقد اعتاد المصريون أن يحتفلوا بذكرى المولد، واعتاد الإخوان منذ عهد الإمام البَنَّا أن يتخذوا من هذه المناسبات وسائل لربط الناس برسالة محمد (عليه الصلاة والسلام)، وتعريفهم بهدي سيرته العاطرة، فأراد الإخوان أن يقيموا حفلاً كبيرًا بميدان السيدة أيضًا، يتحدث فيه خطباؤهم وشعراؤهم، وقد طلبوا مني إنشاء قصيدة بهذه المناسبة.

وفعلاً هيئتها وألقيتها في الحفل، وكان لها صدى واسع وعميق في أنفس الإخوان، واستفادوا كثيرًا من أبياتها، ومطلعها:

هـو الرسول فكن في الشعر حسانا


وصُغ من القلب في ذكراه ألحانا

ذكرى النبي الذي أحيا الهدى وكسا


بالعلم والنور شعبا كـان عريانا

وفيها:

يا سيد الرسل طب نفسًا بطائفـة


باعـوا إلى الله أرواحًا وأبدانا

قادوا السفين فما ضلت ولا اضطربت


وكيف لا؟ وقد اختاروك رُبانا

أعطوا ضريبتهم للدين من دمهم


والناس تزعم نصر الدين مجانا

أعطوا ضريبتهم صبرًا على محن


صاغت بلالاً وعـمارًا وسلمانا

باتوا عـلى الحب أنواهًا وأفئدة


عاشوا على البؤس والنعماء إخوانا

الله يعـرفهـم أنصار دعـوته


والناس تعرفـهم للخير أعـوانا

والليل يعـرفهم قـوام هجعته


والحرب تعرفهم في الروع فرسانا

دستورهم لا فـرنسا قننته ولا


روما، ولكـن قـد اختاروه قرآنا

زعيمهم خير خلق الله، لا بشر


إن يهـد حينا يضل القصد أحيانا

(الله أكبر) ما زالت هتافهـمو


لا يسقطـون ولا يحيون إنسـانا

ومنها:

ربَّاه نصرك، فالطاغوت أشعلها


حربًا على الدين إلحادًا وكفرانا

نشكو إليك حكـومات تكيد لنا


كيدًا، وتفتح للصهيون أحضانا

تتيح لـلهـو حـانات وأندية


تؤوي ذوي العهر شُرَّابًا ومُجَّانا

فما لدور الهدى تبقى مغلَّقة


يمسي فتاها غريب الدار حيرانا؟

هنا هتف الأستاذ سعد الدين الوليلي هتافًا ردده الحاضرون بقوة، وكأنه يبلغ عنان السماء: على العهد وإن طال الأمد، على العهد وإن طال الأمد!

وانتهى الحفل بسلام.


صلاة الجمعة عند الشيخ الشرباصي:

وكان كثير من الإخوان يصلون الجمعة وراء العالم الأديب الشهير أحمد الشرباصي، الذي كان مسجده في المنيرة، وكان يلتقي عنده الجمُّ الغفير من الإخوان يتواعدون اللقاء هناك؛ ليستمتعوا بسماع خطبة الشيخ، وهي قطعة من الأدب الديني، الذي يخاطب العقل والوجدان، ثم يصافح بعضهم بعضًا، ويتبادلون التحيات والأحاديث، ويظلون مدة غير قليلة بعد الصلاة حتى ينصرفوا، وكان الشيخ الشرباصي قد اعتقل فترة مع الإخوان، وأصدر في ذلك كتابه (مذكرات واعظ أسير).


مجلة منبر الشرق:

كما كان الإخوان يلتقون على مجلة (منبر الشرق) لصاحبها الصحفي الشاعر الأستاذ علي الغاياني، وهو من الوطنيين الأحرار، الذين لقوا الأذى والنفي والتشريد، وقاسوا البلاء في سبيل وطنيتهم، وكان شعار صحيفته:

باسم الكنانة واسم شعب ناهض


لا باسم أحزاب ولا زعماء

ظل يزول وينقضي، أما الحِمى


فـوديعـة الآباء للأبناء

وكان كثير من الإخوان يكتبون فيها، وهو ما جعل الجريدة تحيا بعد موات، وتشتهر بعد خمول.


مجلة المباحث القضائية:

ثم استأجر الإخوان مجلة كانت مهجورة، فشهروها، وهي مجلة (المباحث القضائية)، وكان يكتب فيها الأستاذ صالح عشماوي، والأستاذ عبد العزيز كامل، والشيخ الغزالي، وغيرهم.

وظلَّت هذه المجلة لسان حال الإخوان، حتى استصدر الأستاذ صالح عشماوي رخصة بمجلة (الدعوة) التي أصبحت لسانهم الرسمي.