قالوا عن النهضة "حركة الإتجاه الإسلامي"

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ٠٢:١٦، ١٧ مايو ٢٠١١ بواسطة Rod (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
قالوا عن النهضة "حركة الاتجاه الإسلامي"


1- المفكر الإسلامي منير شفيق

لو وضعنا ما أنجزته حركة النهضة حركة الاتجاه الإسلامي من السادس من حزيران (جوان) 1981 حتى الآن على الصعد الفقهية والنظرية والفكرية والثقافية والسياسية والعملية في كفة ميزان مقابل فسحة زمنية من عشرين عاما في الكفة الأخرى، سنجدها سابقت الزمن المذكور وتجاوزته في حجم عطائها وتأثيرها. فمازال ذلك البيان الشهير الذي أعلن تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي في تونس الشاهد الأول على دورها الريادي ليس على مستوى تونس والمغرب العربي فحسب وإنما أيضا على مستوى عربي وإسلامي عام. فقد كانت من السباقين في طرح برنامج سياسي تفصيلي تضمن فيما تضمن الدعوة إلى قبول التعدد والاحتكام إلى خيار الشعب ونبذ العنف وسيلة للوصول إلى السلطة وإعلاء قيم الحرية وحقوق الإنسان وكرامته.

وإذا كانت هذه المعاني قد أصبحت الآن بديهيات ومسلمات بالنسبة إلى الكثير من المفكرين الإسلاميين والحركات الإسلامية إلا أنها كانت يوم طرحتها حركة الاتجاه الإسلامي بمثل ذلك الوضوح والقوة، خروجا عن المألوف وتجديدا في الفكر السياسي الإسلامي. وقد توقف عنده الكثيرون وأيديهم على قلوبهم خوفا من أن يكون الطرح قد ذهب بعيدا حين أقر بحق تشكيل الأحزاب الأخرى بما في ذلك الحزب الشيوعي، ووضع قاعدة الاحتكام لخيار الشعب طريقا لشرعية الوصول إلى الحكم. فقد جاء في البيان التأسيسي "نحن لا نعارض البتة أن يقوم في البلاد أي اتجاه من الاتجاهات، ولا نعارض البتة قيام أي حركة سياسية، وإن اختلفت معنا اختلافا جذريا بما في ذلك الحزب الشيوعي. فنحن حين نقدم أطروحاتنا نقدمها ونحن نؤمن بأن الشعب هو الذي يرفعنا إلى السلطة ليس إلا" ودعت في بيان آخر لاحق إلى "الصمود ضد الاستدراج إلى العنف" والتزمت مبدأ الشورى نهجا للتعامل داخل الجماعة وبين أبناء الوطن الواحد. وقالت بالمشاركة في الانتخابات النيابية والنشاطات النقابية (حقائق حول حركة الاتجاه الإسلامي)، كما أسهمت حركة النهضة-حركة الاتجاه الإسلامي إسهاما رائدا كذلك من خلال كتابات رئيسها الشيخ راشد الغنوشي وأدبياتها المختلفة وممارساتها في المجالات المتعلقة بالقضايا الكبرى التي تشغل الأمة مثل قضية فلسطين والصراع ضد الصهيونية، أو مثل قضايا المرأة، والديمقراطية، وحرية الرأي، وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، والوحدة المغاربية والعربية والإسلامية، أو مثل قضايا الحوار الإسلامي-القومي وما أسفر عنه من تأسيس المؤتمر القومي الإسلامي وقبله المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي أو مثل قضايا الحوار الإسلامي-المسيحي والإسلامي الغربي.

هنا يجب أن نسجل أن دور حركة النهضة وكتابات الشيخ راشد الغنوشي ومواقفه تجاوزا حدود تونس فأثرا تأثيرا إيجابيا بالغا في فكر الحركات الإسلامية والقومية العربية كما في مجمل نهضة الأمة على مستوى عام. ولهذا حظيت حركة النهضة ورئيسها على مكانة خاصة من الاحترام والحب من قبل المثقفين والنخب على مستوى عربي وعالمي. ولم تؤثر الضربات القاسية التي تلقتها داخل تونس في تلك المكانة أو في الدور الريادي، بل أدت تلك الضربات إلى زيادة التقدير لها بسبب ما تقدمه من تضحيات وما اتسمت به من صلابة وصمود دون أن ينجح في استدراجها إلى ممارسة العنف المضاد أو إلى الخنوع والتخاذل.... بكلمة، إنها مسيرة خيرة ومباركة وإن لم تفلت هنا وهناك من نواقص وسلبيات وأخطاء ...إلا أن هذه النواقص والسلبيات والأخطاء ليست الوجه الرئيسي قطعا.

2- الكاتب الصحفي يحي أبوزكريا

الحركة الإسلامية في تونس من الثعالبي إلى الغنوشي

مدخل

خضعت تونس كما الجزائر للهيمنة الإستعمارية الفرنسية , وتعرضّت هويتها العربية إلى كثير من المسخ الأمر الذي جعل الحركة الوطنية تركّز على تحقيق الإستقلال الثقافي والسياسي على حدّ سواء , وقد لعب جامع الزيتونة العريق في تونس دورا كبيرا في صقل الشخصية الوطنية وخاض صراعا مريرا ضدّ الإستعمار الفرنسي , و مثلما لعب الأزهر الشريف في مصر دورا تاريخيا ضدّ الإنجليز فكذلك الأمر بالنسبة لجامع الزيتونة .

وكان العديد من رجال العلم والإصلاح في الجزائر يتوجهّون إلى تونس لإكمال دراساتهم العليا في الدراسات الشرعية والأدبية , كما أنّ تونس تحولّت إلى قاعدة خلفيّة للثورة الجزائرية , حيث كان قادة الثورة الجزائرية يتنقلّون إلى تونس إذا أرادوا التوجّه إلى عاصمة عربية أو غربية , كما أنّ الأسلحة التي كانت تصل إلى الثوّار الجزائريين كانت تعبر الأراضي التونسية ومنه إلى الجبال حيث يقيم الثوّار في الجزائر و لوضع حدّ لتهريب الأسلحة إلى الثورة الجزائرية أقامت السلطات الاستعمارية الفرنسية سياجّا حديديّا شائكا على امتداد الحدود الجزائرية – التونسية , إلاّ أنّه لم يؤد إلى قطع جسور التواصل بين الثورة الجزائرية والحركة الوطنية التونسية .

وكانت الحركة الوطنية التونسية في ذلك الوقت تضمّ عناصر تكونّت في الزيتونة وتشبعّت بالثقافة العربية والإسلامية وتفاعلت مع الحركات الإصلاحية في المشرق العربي , ولم يكن لهذه العناصر أدنى نصيب في دوائر الحكم غداة الاستقلال , وكان الزعيم الوطني الأوحد هو الحبيب بورقيبة أحد الشخصيات التونسية المعروفة .

وقد لعب الحبيب بورقيبة دورا كبيرا في تاريخ تونس المعاصرة لجهة اضطلاعه بصناعة القرار التونسي ولأزيد من ثلاثة عقود من الزمن , وقد أكمل بورقيبة تعليمه في جامعة السوربون في فرنسا والتي تخرجّ منها بشهادة البكالوريوس في الحقوق . وتجدر الإشارة إلى أنّ تونس لم تحصل على استقلالها عبر ثورة شعبية كما هو شأن الجزائر , بل إنّ فرنسا وافقت على منح الإستقلال الذاتي لتونس , وهذا لا يعني أنّ الحركة الوطنية التونسية لم يكن لها دور في محاربة الاستعمار الفرنسي , بل الأمر يعود إلى رغبة فرنسا في تخفيف العبئ الإستعماري عنها والتفرغ لمجابهة الثورة الجزائرية التي أقضّت مضاجعها .

و بعد إستقلال تونس وجد الحبيب بورقيبة نفسه على رأس الدولة التونسية الفتية والتي راح يصيغ ثوبها الفكري والسياسي والإيديولوجي صياغة لا تمت بصلة إلى الموروث العربي والإسلامي لتونس ولذلك كان الحبيب بورقيبة عرضة لكثير من الاتهامات من معارضيه من قبيل أنّه صنيعة فرنسية , وأنّ باريس لعبت دورا كبيرا في تعيينه على رأس الدولة التونسية , وكان لجوءه إلى سنّ مجموعة كبيرة من القوانين العلمانية يزيد في اتساع حجم هذه الاتهامات .

وقبل وصول الحبيب بورقيبة إلى سدّة الحكم في تونس عاشت الحركة الوطنية التونسية سلسلة من الانشقاقات والتصدعات أدّت إلى انسحاب العديد من الشخصيات من الحزب الدستوري الاشتراكي الذي تحولّ إلى حزب حاكم بعد الإستقلال وكان الوحيد في الساحة السياسية , لأنّ التعددية كانت ممنوعة في تونس و تمّت تصفية العديد من معارضي بورقيبة بعد الاستقلال ,وفرّ بعضهم إلى الجزائر والبعض الأخر توجهّ إلى بعض العواصم الأوروبية كباريس وجنيف وغيرهما .

وإذا كان خصوم الحبيب بورقيبة من الوطنيين و الإسلاميين يتهمونّه بجرّ تونس إلى حظيرة العلمانية المتوحشة فانّ بعض الثوّار الجزائريين كانوا يتهمون بورقيبة بأنّه كان يعمل على تطويق الثورة الجزائرية ويسرد عمار قليل وهو من المشاركين في الثورة الجزائرية في كتابه ملحمة الثورة الجزائرية هذه القصة التي مفادها أنّ البيت الأبيض في واشنطن استدعى في أواخر تشرين الثاني – نوفمبر1956 رئيس الحكومة التونسية الحبيب بورقيبة لزيارة واشنطن والذي لبىّ الدعوة حيث قابل في واشنطن الرئيس الأمريكي ايزنهاور , وحول مائدة ايزنهاور دارت مفاوضات ومساومات حول القضيّة الجزائرية , وتمّ الاتفاق في نهايتها على أن تدفع حكومة واشنطن مساعدة اقتصادية لتونس مقابل أن يقوم الحبيب بورقيبة بدور فعّال لإقناع قادة الثورة الجزائرية بالكفّ عن القتال وإعادة الهدوء والحياة الطبيعية إلى الجزائر في ظلّ فرنسا , و قد تعهدّ الحبيب بورقيبة بأن يقوم بوساطته لدى قادة الثورة الجزائرية في محاولة لإقناعهم بوقف القتال , كما فعل في تونس عندما قبل الإستقلال الذاتي , وكان أول تصريح له وهو على أدراج سلّم البيت الأبيض : نحن مع الغرب وسنظّل معه لا بحكم موقعنا الجغرافي فقط بل بحكم ثقافتنا وتقاليدنا , وحين عاد إلى تونس صرحّ قائلا : لقد إتفقت مع الرئيس الأمريكي ايزنهاور على أن نتوسطّ لحلّ القضية الجزائرية , وكان الرئيس التونسي على الدوام إلى جانب المشاريع السياسية المتعلقة بكيفية حلّ الأزمة الجزائرية التي كان يطرحها الجنرال شارل ديغول رئيس فرنسا في ذلك الوقت .

ورد في كتاب الملحمة الجزائرية للأستاذ عمار قليل أنّ بورقيبة عندما عاد من واشنطن إلى تونس بدأ يجري اتصالات مع السياسيين في كل من مراكش والجزائر وليبيا وتونس , وأوضح لهم بورقيبة أنّ هناك مشروعا لإقامة حلف جديد يجمع أقاليم الشمال الإفريقي بالإضافة إلى فرنسا و إسبانيا وايطاليا , وترعاه أمريكا وبريطانيا ويكون مكملاّ للحلف الأطلسي .وقد حاول بورقيبة إقناع المسؤولين في شمال إفريقيا بقبول المساهمة في الحلف الجديد الذي كان يحمل اسم حلف غربي البحر الأبيض المتوسط , وكاد هذا الحلف الجديد أن يتحولّ إلى واقع سياسي لكنّ الثورة الجزائرية نسفت فكرة هذا الحلف من أساسه . لقد أقترح الحبيب بورقيبة على قادة الثورة الجزائرية أن يوقفوا إطلاق النار , ويقبلوا بتشكيل حكومة في نطاق الاتحاد الفرنسي , ومن بعد ذلك تدخل الجزائر في حلف مع فرنسا بالاشتراك مع دول الشمال الإفريقي .

وكان بورقيبة يؤكّد لقادة جبهة التحرير الوطني على ضرورة القبول بهذه الفكرة كما كان ينوّه بمزايا الحلف . و ظلّ بورقيبة على امتداد ثلاثة أسابيع يحاول إقناع قادة الثورة الجزائرية بالفكرة , ولم تجد محاولاته على الإطلاق فتلاشى المشروع الأمريكي كما تلاشت محاولات بورقيبة .

في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات بدأت تتأسّس في تونس النواة الأولى للحركة الإسلامية التونسية , وقد تأثرّ مجموعة من المثقفين في ذلك الوقت بفكر المفكر الجزائري مالك بن نبي صاحب التصانيف الكثيرة من قبيل الصراع الفكري في البلاد المستعمرة , وشروط النهضة , وغيرها من التصانيف .

كما تأثرت هذه النخبة التونسية بفكر سيد قطب أحد أبرز منظرّي تنظيم الإخوان المسلمين في مصر , والمفكر الباكستاني أبو الأعلى المودودي , وأبرز قطب في هذه النخبة راشد الغنوشي وصالح كركر وعبد الفتّاح مورو وغيرهم .

وشكلّ هؤلاء جمعية إسلامية هي أقرب إلى خلية منظمة ومهيكلة والتي أصبحت فيما بعد تعرف باسم حركة الإتجاه الإسلامي , وقد ركزّ الاتجاه الإسلامي عمله في الجامعات والثانويات والمعاهد التربوية والمساجد , وتمكنّ من استقطاب العديد من الأنصار , وكان أهداف هذه الجماعة :

1- إعادة إحياء القيّم والمبادئ ومفردات الثقافة الإسلامية .

2- مقاومة الغزو الفكري وإفرازات التأثر بالعلمانية الغربية , وذلك من خلال وسائل دعوية لا علاقة لها بالعنف إطلاقا .

وكان الإتجاه الإسلامي بزعامة راشد الغنوشي يتحاشى الدخول في صراع مع السلطة القائمة والتي كان يريدها الحبيب بورقيبة علمانية على الطراز الغربي الخالص , إلى درجة أنّ بورقيبة كان يقول : يا ليت تونس تقع جغرافيّا قرب السويد أو الدانمارك لتخرج نهائيا من هذا المحيط العربي والإسلامي . و يعتبر زعيم حركة الاتجاه الإسلامي راشد الغنوشي من الإنتليجانسيا الإسلامية في تونس , درس الفلسفة في جامعة دمشق في سوريا وكان في بداياته الفكرية متأثرا بالفكر القومي العربي وبالخط الناصري ثمّ عدل عن هذا الفكر عندما توالت الانتكاسات على العالم العربي بعد النكسات المتتالية مع الكيان الصهيوني .وعندما شرع في قراءة الكتب الإسلامية أخذ يتأثر بالأدبيات الإسلامية إلى أن تحولّ كلية إلى تبني الفكر الإسلامي و أعتبر أنّ البديل الإسلامي هو الأصلح للعالم العربي والإسلامي .

ولأنّه تحاشى الاصطدام بالسلطة الإسلامية فقد أستطاع أن يبنيّ لتنظيمه الذي كان يعرف بالاتجاه الإسلامي , والذي تحولّ مع مرور الأيام إلى ظاهرة أثارت مخاوف المشرفين على الوضع العام في تونس , كما أثارت مخاوف الحبيب بورقيبة الذي لاحق الأعضاء البارزين في جماعة الاتجاه الإسلامي . وقد تعرضّ راشد الغنوشي للاعتقال وربما هذا الذي أدىّ إلى تكريسه كزعيم إسلامي تونسي , وبدأ رصيده يرتفع كأهمّ خصم لنظام الحبيب بورقيبة العلماني .

ويحظر الدستور التونسي تأسيس أحزاب على أساس ديني إسلامي , و كانت الساحة السياسية في تونس حكرا على حزب السلطة والأحزاب القريبة من دوائر السلطة .

وعندما بدأت الحركة الإسلامية الجزائرية تبرز بقوة في بداية الثمانينيات بدأت حركة الاتجاه الإسلامي تعرض قوتها , فراحت تدعو إلى تظاهرات طلابيّة في الثانويات والجامعات , ودخلت في جدال واسع مع السلطة التونسية خصوصا عندما أقرّت الحكومة التونسية ميثاق الأسرة والذي رأت فيه حركة الاتجاه الإسلامي خروجا صريحا عن الإسلام وتقليدا أعمى للمواثيق والدساتير الغربيّة .

في الثمانينات شهدت تونس مجموعة من التطورات الاجتماعية أفرزت ما يعرف بثورة الخبز في تونس , وكان الشارع التونسي عندها يغلي , وكانت الدوائر التونسية تخشى أن تستغل حركة الإتجاه الإسلامي هذا الوضع المزري وتخلط الأوراق خصوصا في ظلّ تتابع هواجس الثورة الإسلامية الإيرانية .

و كانت حركة الإتجاه الإسلامي تؤكد على حقها في الوجود ضمن الخارطة السياسية التونسية , وكانت تطالب فقط بتقويم الاعوجاج والتخلي عن سياسة التغريب و العملنة .

ولم يكن لحركة الاتجاه الإسلامي مشروع سياسي متكامل بل كانت تحرص على تفعيل المشروع الثقافي والاجتماعي بالدرجة الأولى , فبورقيبة كان حريصا على جعل تونس قطعة من الغرب , وكان يرفض حتى الانتماء العربي والإسلامي لتونس , وحتى جامع الزيتونة الذي لعب أكبر الأدوار في تاريخ تونس حولّه الحبيب بورقيبة إلى مجرّد متحف وأفرغه من دوره الحضاري . ولو أنّ بورقيبة انفتح إلى حدّ ما على القيم الإسلامية لما تمكنّت حركة الاتجاه الإسلامي من تهديد الوضع العام في يوم من الأيّام .

وما كان الحبيب بورقيبة الذي مارس سياسة الاستئصال مع حركة الاتجاه الإسلامي ليستمرّ في الحكم إذ أطاح به أقرب الناس إليه الجنرال زين العابدين بن علي أحد الضبّاط التونسيين الذين أنهوا تكوينهم العسكري في الولايات المتحدة الأمريكية .

ولم يستوعب بعض المراقبين ما جرى في تونس , إذ أنّ الانقلاب الأبيض الذي أطاح بالحبيب بورقيبة تمّ بشكل سريع وكأنّه كان محضرّا له و قد فهم من هذا الانقلاب بأنّه انقلاب أمريكي على فرنسا في تونس , ولطالما كان الحبيب بورقيبة خريج جامعة السوربون صديقا حميما لفرنسا .

وقد اتسمّت بداية عهد زين العابدين بن علي في عام 1987 بالانفتاح على القوى السياسية والتأكيد على مبدأ الديموقراطية والتعددية السياسية , وبدورها حركة الاتجاه الإسلامي وتماشيّا مع المعطيات السياسية الجديدة غيرّت عنوانها لتحمل عنوانا جديدا هو حركة النهضة , لتؤكدّ أنّها لا تقوم على أساس ديني بل هي حزب كبقية الأحزاب التونسيّة . وفي المرحلة الأولى من حكم الرئيس زين العابدين بن علي شاركت حركة النهضة في الانتخابات البلديّة حيث فازت في بعض المناطق التونسيّة .

ويعتبر الرئيس زين العابدين بن علي من أكثر التونسيين معرفة بملّف التيارات الإسلامية في تونس حيث شغل منصب وزير الداخلية , وتولى العديد من المناصب الأمنيّة قبل إطاحته بالرئيس الحبيب بورقيبة .

وغداة استيلائه على السلطة أختار أن يكون خطابه السياسي منفتحا على الجميع , الأمر الذي دعا زعيم حركة النهضة إلى الترحيب بالعهد الجديد في تونس بزعامة زين العابدين بن علي .

لكنّ هذا الودّ المتبادل بين حركة النهضة والنظام الجديد بقيادة زين العابدين بن علي لم يستمر كثيرا , واللغم الذي فجرّ العلاقة بين الطرفين كان إعلان الجهات الرسمية في تونس عن اعتقالها لعناصر قياديّة من حركة النهضة والمتهمة بمحاولة اغتيال الرئيس زين العابدين بن علي بصواريخ ستنغر الأمريكية . وحسب رواية الجهات الرسمية فانّ مجموعة مسلحة قطنت في شقّة على مقربة من قصر قرطاج الرئاسي الذي يقطنه زين العابدين بن علي , وكانت تستعد لإطلاق صاروخ على القصر الرئاسي حيث ستنتهي المسألة باغتيال الرئيس التونسي , وبسبب هذا السيناريو الذي أوردته السلطة التونسية وكأنّه سيناريو فيلم أمريكي , راحت وزارة الداخليّة تعتقل مئات العناصر النهضوية , وفرّت قيادات النهضة إلى الخارج فيما توجّه راشد الغنوشي إلى الجزائر , وكانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في ذلك الوقت في أوج تألقها السياسي .

وعندما أصدرت المحكمة العليا التونسية حكما يقضي بإعدام راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة , أوفدت الحكومة التونسية إلى الجزائر من يطالب برأس الغنوشي بشكل رسمي ,

وقد كشفت مجلة البديل الجزائرية الناطقة بلسان الحركة من أجل الديموقراطية التي كان يترأسها الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة أنّ تونس أوفدت إلى الجزائر فرقة أمنية يطلق عليها اسم فرقة النمور السود وذلك لتنفيذ حكم الإعدام في حقّ راشد الغنوشي لكنّها لم تفلح في هذه المهمة .

وأضطّر الغنوشي عندها إلى مغادرة الجزائر وتوجّه إلى السودان , حيث منحته الخرطوم جواز سفر ديبلوماسي كان يستخدمه الغنوشي في تنقلاته هنا وهناك إلى أن توجّه إلى العاصمة البريطانيّة لندن وهناك طلب اللجوء السياسي .

وكانت الحكومة التونسيّة تتهم الغنوشي بأنّه كان يتلقى أموالا من الحكومة الإيرانيّة , وأنّه يريد تنفيذ مشروع إسلامي في تونس مماثل للمشروع الإيراني .

وفي منفاه البريطاني يواصل راشد الغنوشي الإشراف على حركة النهضة التونسية بعد أن نجحت السلطة التونسية في استئصالها من الواقع السياسي التونسي , ولجأت من أجل تحقيق ذلك إلى أفظع الأساليب الأمنية باعتراف منظمات حقوقيّة دولية .

تونس : نبذة تاريخية

تعدّ تونس من أصغر بلدان المغرب العربي مساحة وهي عبارة عن جيب جغرافي بين الجزائر وليبيا , وتبلغ مساحة تونس 163610 كلم مربع , ومعظم أراضيها منخفضة يحدّها البحر الأبيض المتوسط من الشمال والشرق .

تمتاز تونس بسهولة الوصول إليها برا وبحرا ممّا جعلها عبر تاريخها عرضة لتأثيرات خارجية لعبت دورها في تكوين خصائص مجتمعها , ويبلغ عدد سكان تونس 07 ملايين نسمة يتكلمّون اللغة العربية وللغة الفرنسية انتشار واسع للغاية , والديانة السائدة في تونس هي الإسلام الذي هو دين الغالبية من السكان .

والعاصمة التونسية هي تونس وأهم المدن فيها هي سوسة وصفاقس وبنزرت والقيروان وهي العاصمة العربية القديمة .

يبدأ تاريخ تونس مع إقامة المستعمرات الفينيقية ونشوء أمبراطورية قرطاجة على شواطئها وقد أحرزت قرطاجة التفوّق البحري والتجاري في البحر الأبيض المتوسط في منتصف القرن السادس قبل الميلاد , ومدّت مستعمراتها التجارية حتى جنوب البرتغال وحكمت قسما من جزيرة صقلية وبلغت الأمبراطورية أوجها في القرن الرابع قبل الميلاد إلى أن أصطدمت بالدولة الرومانية الصاعدة بسبب السيطرة على المتوسط و أشتبكت الدولتان في الحروب البونيّة الثلاث التي برز في ثانيها غزو هنيبعل لايطاليا والتي انتهت بتدمير قرطاجة وإلحاقها بأمبراطورية روما .

ظلّت قرطاجة مهجورة طوال قرن ونصف إلى أن أعاد بناءها الأمبراطور أغسطس في بداية القرن الأول الميلادي , وخلال القرنين الأولين بعد الميلاد أصبحت مقاطعة إفريقيا -- وهو الاسم الذي أطلقه الرومان على تونس – مزدهرة جدا وغدت قرطاجة المدينة الثانية بعد روما .

وبعد انحسار الأمبراطورية الرومانية غزاها الوندال عام 439 وبقيت تحت سيطرتهم إلى أن أستعادتها الأمبراطورية البيزنطية بين عامي 533-534 . وطوال القرنين والنصف التاليين شكلّت تونس جزءا من شمال إفريقيا البيزنطية التي امتاز حكامها المحليون بنزوع واضح للاستقلال عن القسطنطينية , كما أمروا باعتناق المذاهب المسيحية غير الأرثوذكسيّة وهو المذهب المسيحي الذي كانت عليه القسطنطينية .

وقد بدأ الفتح العربي الإسلامي لشمال إفريقيا في 647 وأستتبّ عام 698 مع فتح قرطاجة وتأسيس مدينة تونس , وانتشر الإسلام بسرعة بين سكان تونس وخاصة البربر منهم . غير أنّ النزعات الاستقلالية عن مركز الخلافة ظلّت تبرز من وقت لأخر طوال القرن الثامن في شكل مذاهب خارجية – نسبة إلى الخوارج - , وبدأت تونس تتمرّد على السلطة المركزية , وفي أواخر الحكم الأموي وبداية الحكم العبّاسي خرجت تونس من الخلافة الأموية , ولكنّ العباسيين استعادوها ثمّ أخرجوا منها في عام 767 ميلادية إلى أن أخضعوها مجددا في سنة 800 بقيادة إبراهيم بن أغلب والذي عينّه هارون الرشيد حاكما لإفريقيا أي مقاطعة إفريقيا الرومانية سابقا .

أمنّت دولة الأغالبة الاستقرار والازدهار لتونس وشرعت في غزو صقليّة في ايطاليا عام 827 وبنت مساجد كبرى في المدن وشبكة متقنة من السدود والخزّانات لتأمين المياه لعاصمتها القيروان , غير أنّ حكم الأغالبة بدأ بالانهيار في أواخر القرن التاسع رغم استكماله لغزو صقلية عام 878 , وقد أطاحت به ثورة دينية اندلعت في المناطق الواقعة غربي تونس في مطلع القرن العاشر .

وقد خضعت تونس للحكم الفاطمي الشيعي حيث أقام الفاطميّون على الساحل التونسي عاصمتهم التي حملت اسم المهديّة , وقضى الفاطميّون على ثورة " خطرة " التي قام بها البربر بين عامي 943-947 وسيطروا على مصر وسوريا في 969- 970 , وبعد ثلاث سنوات نقلوا عاصمتهم إلى مدينة القاهرة التي شيدوها وتركوا حكم تونس لأمراء البربر المعروفين باسم الزيريين حيث تمتعّت تونس في عهدهم بالازدهار والتقدم .

وأنتعشت في تونس الفنون والعلوم والتجارة والصناعة , وفي عام 1050 ميلادي أعلن الزيريون عن ولائهم للخليفة في بغداد , فردّ الفاطميون على ذلك بإرسال مئات الألوف من البدو العرب الهلاليين الذين قضوا على سلطة الزيريين فيها ومزقّوا وحدة تونس السياسية .

وفي عام 1087 إحتلت قوات إيطالية من مدينتي بيزا وجنوا في ايطاليا العاصمة المهديّة , ثمّ أحتلها النورمانديون في سنة 1148 و طردوا الزيريين منها . و في سنة 1160 أصبحت تونس جزءا من دولة الموحدين في مراكش , ومن تمّ استعادها العباسيون لفترة وجيزة في مطلع القرن الثالث عشر ونصبّوا لإمرتها الحفصيين وهم من أسرة البربر والذين ظلّوا أهمّ قوة فيها إلى بداية السيطرة العثمانية .

وطوال معظم القرن 13 سيطر الحفصيون على شمال إفريقيا من طرابلس إلى وسط الجزائر, وأقاموا علاقات تجارية ودبلوماسية مع دول الساحل الشمالي للمتوسط ومدنه .

وقد اصطدم الحفصيون بمحاولات الدول الأوروبيّة للتوسع وقاموا بعمليات هجومية ضد مالطا إلى أن تورطوا في النزاع بين الملكة الإسبانية والسلطنة العثمانية , هذا النزاع الذي كان حاسما في مستقبل تونس .

الحكم العثماني في تونس

بدأ الحكم العثماني في تونس في 1516 وأستتبّ في 1574 أقام فيها العثمانيون إدارة إقليمية دامت 17 سنة , إلى أن قامت ثورة عسكرية في عام 1591 حدّت من سلطة الباشا العثماني ونقلت السلطة الفعلية إلى الداي وهو لقب كان يحمله حوالي أربعين ضابطا كبيرا في الجيش العثماني , وفي سنة 1600 أصبحت السلطة في تونس حكرا على الدايات الذين أقاموا علاقات ديبلوماسية مع فرنسا دون علم السلطة العثمانية .

كان وضع تونس في النصف الأول من القرن 17 مزدهرا حيث انتعشت التجارة والمبادلات الاقتصادية مع مارسيليا وليفورنو وأقيمت علاقات تجارية مع أنجلترا وهولندا , وبعد عام 1650 انحسرت سلطة الدايات وحلّ محلهم البايات الذين كانوا أدنى منهم رتبة في الأصل , وقد أسسّ الباي حمودة في عام 1659 سلطة المراديين و أستمرت هذه السلطة تحكم تونس كلها إلى عام 1702 وبعد عام 1705 حكمت تونس سلالة جديدة من البايات عرفت البلاد عندها استقرارا نسبيّا رغم توتر العلاقات مع الجزائر وبداية ظهور الأساطيل الأوروبية في البحر الأبيض المتوسط .

وبعد الحروب النابوليونية أحسّت تونس بوطأة أوروبا الاستعمارية عليها بشكل حاسم , ففي مؤتمري فيينا وأيكن 18151817 فرضت الدول الأوروبية على الباي محمود وضع حدّ لنشاطات القراصنة الذين كانوا يؤمنّون لتونس قسطا من مداخيل الدولة , وفي عام 1830 احتلّ الفرنسيون الجزائر , وقد شهدت الخمسون سنة التالية بعد هذا التاريخ محاولات تونسية لتجنّب نفسها المصير نفسه . وفي سنة 1881 حسمت فرنسا موضوع احتلالها لتونس بحجة وقوع حوادث على الحدود مع الجزائر وفرضت معاهدة قصر سعيد والتي صار الباي التونسي بموجبها حاكما اسميا لتونس .

وفي عام 1883 أجبر الباي علي الرابع على التوقيع على اتفاقية مرسى التي كرسّت الحماية الفرنسية لتونس , ونقلت السلطة إلى المقيم العام الفرنسي , وقد شجعّ الفرنسيون مجيئ مستوطنين أوروبين إلى تونس حيث منحتهم السلطات الاستعمارية في تونس الأراضي الخصبة بعد أن سرقتها وأغتصبتها من الفلاحين التونسيين الذين لم يكونوا يملكون غيرها لإعالة أنفسهم ووسط هذا المناخ الاستعماري الغاشم بدأت الحركة الوطنية التونسية تتشكّل وتتأسس مستلهمة الموروث الحضاري لتونس , وسوف تلعب بعد حين أكبر الأدوار في تاريخ تونس المعاصرة .

في شهر أيّار – مايو 1881 احتلّت الجيوش الفرنسية تونس ودخلتها عن طريق البر والبحر وقد أحتلّ الفرنسيون مدينة بنزرت وتوجهوا إلى تونس العاصمة لمقابلة الباي وقدموا له نسختين من معاهدة فرنسية معدّة سلفا , وقد أرغم الباي على التوقيع على المعاهدة الفرنسية التي عرفت باسم معاهدة باردو والتي أخضعت تونس رسميا للسيطرة الفرنسية .

ونصّت هذه المعاهدة على أنّ الاحتلال مؤقت وأنّ القوات الفرنسية سوف تحتل فقط جهات على الحدود والشواطئ تراها لازمة لتوطيد الأمن , وأنّ هذه القوات سترحل عندما تكون الإدارة التونسية قادرة على حفظ الاستقرار والأمن والنظام وأنّ فرنسا ملتزمة حماية الباي وأسرته وأنّه لا يحق له بأن يعقد أي عقد مع أي أجنبي بغير علم فرنسا والتفاهم معها مسبقا , وأنّه سينوب عن فرنسا وزير فرنسي مقيم يراقب تنفيذ ما تضمنته المعاهدة , وأنّ على حكومة الباي أن تتعهدّ بمنع إدخال الأسلحة إلى البلاد وفي فترة احتلالها لتونس سيطرت فرنسا على التعليم فأخضعته لنظم فرنسيّة حتى أصبح الطالب التونسي يتقن اللغة الفرنسية ويفقه أسرارها ويتذوق أدبها , ونفس المشروع التغريبي الذي نفذته فرنسا في الجزائر قامت باستنساخه في تونس , حيث قضت على المعاهد الأصلية التي كانت تخرّج علماء اللغة والشريعة وأبقت على الجزء اليسير منها , وفي محاولة لإخضاع تونس للثقافة الفرانكفونية الاستعمارية قامت فرنسا بمحاربة كل مظاهر التديّن لدى الشعب التونسي وعملت على القضاء على اللغة العربيّة وشيدّت مدارس ومعاهد فرنسية . وباعتبار أنّ مساحة تونس صغيرة جدا إذا ما قورنت بمساحة الجزائر أو المغرب فقد تمكنّت السلطات الفرنسية من بسط نفوذها بسرعة على كل الأراضي التونسية وهو ما شكلّ خرقا صريحا للمعاهدة الفرنسية التي أجبر الباي على توقيعها .

وتجدر الإشارة إلى أن يهود تونس لعبوا دورا كبيرا في التمكين للغازي الفرنسي , حيث كان اليهود التونسيون والذين يكثر وجودهم في معظم المناطق التونسية وتحديدا في منطقة جزيرة جربة حيث مقام الغريبة اليهودية التي يحج إليها اليهود سنويا وبعشرات الآلاف , وقد كافأتهم السلطات التونسية بمنحهم الجنسيّة الفرنسية .

وقد نجحت السلطة الاستعمارية الفرنسية في تكريس مشروعها الثقافي كما السياسي في تونس , ومازالت الآثار الثقافية الفرنسية قائمة إلى يومنا هذا , وبالإضافة إلى هذا فقد نجحت السلطات الفرنسية في شقّ الحركة الوطنية التونسية التي كان فيها جناحان , جناح يؤمن بالثورة على الطريقة الجزائرية لدحر المستعمر الفرنسي , وجناح لا يعترض على الوجود الاستعماري الفرنسي لكن يطالب بإصلاحات سياسية وتكريس حقوق الإنسان التونسي .

والحبيب بورقيبة الذي كان على رأس الحركة الوطنية التونسية تخرجّ من جامعة السوربون في فرنسا , ومعروف أن فرنسا كانت حريصة على تعليم بعض الشخصيات التونسية اللامعة في جامعاتها تمهيدا لاستيعابها ومن تمّ توظيفها , كما حدث مع العديد من الزعماء المغاربة والأفارقة الذين درسوا في المعاهد الفرنسية وعادوا رؤساء إلى بلادهم .

وبالتوازي مع بسط مشروعها الثقافي عملت السلطات الفرنسية على إقامة سيّاج أمني على امتداد الحدود الجزائرية –التونسية , وكان هذا الخط الفاصل بين الجزائر وتونس مكهربا ويحمل اسم خط موريس , وهذا الخط الحديدي المكهرب لم يحل دون تهريب الأسلحة إلى الثورة الجزائرية .

ومع مرور الوقت تأكدّ للسلطات الفرنسية أنّها لا يمكن أن تتفرغّ للثورة الجزائرية دون أن ترفع يدها عن تونس والمغرب , فجاء الاستقلال التونسي على شكل صفقة سياسية بين أطراف في الحركة الوطنية التونسية وعلى رأسها الحبيب بورقيبة و السلطات الإستعمارية الفرنسية .

الحركة الوطنية التونسيّة في عهد الاستعمار الفرنسي

تفجرّت المقاومة الشعبية في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي , وتنادى الناس إلى الجهاد ودارت معارك المقاومة الشعبية ضدّ عدوين اثنين في أن واحد , ضدّ الباي وجنوده وضدّ المحتل الفرنسي , وفي كل مكان من البلاد هبّ الشعب التونسي يدافع ويقاوم وبرز زعماء شعبيون في كل منطقة , ولم يؤد إستسلام الباي التونسي الكامل للسلطات الفرنسية إلى تركيع الشعب التونسي الذي تبنىّ النضال الوطني ضد المستعمر الفرنسي .

وبرز اتجاهان في الحركة الوطنيّة , الاتجاه الأول كان يدعو إلى المفاوضات والتصالح مع الإستعمار الفرنسي , وكان على رأس هذا الاتجاه المثقفون التونسيون الذين غلبت عليهم الثقافة الفرانكفونية , وكانت كل مطالبهم محصورة في تحسين حالة التونسيين ورفع الضيم عنهم وإلغاء الفوارق بينهم وبين الفرنسيين , ومثلّ هذا الاتجاه الحزب الدستوري الجديد .

و أول من بادر إلى مقاومة السلطات الفرنسية في تونس هو الشيخ محمد السنوسي الذي قاد الحركة الوطنية وشكلّ وفودا شعبية ذهبت تطالب الباي بوقف الفرنسيين عند حدهّم,

فما كان من السلطات الفرنسية إلاّ أن نفت الشيخ محمد السنوسي خارج تونس , وتولىّ قيادة الحركة الوطنية بعده الشيخ المكي بن عزوز أحد شيوخ جامع الزيتونة الثوريين , وكونّ مجموعة من الشباب التونسيين الثوريين وعبأّهم ضدّ القوات الاستعمارية الفرنسية , وتمّ نفي الشيخ مكي بن عزوز خارج تونس حيث أدركته المنيّة في المشرق العربي .

وقد حمل أفكاره الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي كان الى جانبه الشيخ علي كاهية والشيخ زروق والهادي السبعي .

ولم تنتظم الحركة الوطنيّة في تنظيم ذي محتوى سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي إلاّ بعد تجارب مريرة في خضمّ النضال الوطني ضدّ الاستعمار الفرنسي . وفي سنة 1907 تأسسّت أول حركة وطنية سياسية ومنظمة بقيادة علي باش حانبه والشيخ عبد العزيز الثعالبي , وكان عنوان هذه المنظمة هو تونس الفتاة حيث تأثرّ مؤسسوها بحزب تركيا الفتاة التركي الذي كان وراء العديد من المتغيرات التي حصلت في تركيا في بداية القرن العشرين . وفي سنة 1911 وعندما غزت ايطاليا ليبيا , تحركت منظمة تونس الفتاة من منطلق دعم النضال الليبي , وأخذت تمدّ المجاهدين الليبيين بالأموال والمتطوعين , والى جانب هذا أصدرت الحركة الوطنيّة جريدة تحمل اسم : الاتحاد الإسلامي وأسندت رئاسة تحريرها إلى الشيخ عبد العزيز الثعالبي . والى جانب مشاركة القبائل التونسيّة في الجهاد وحمل السلاح ضدّ الفرنسيين , فقد اندلعت معارك طاحنة بين التونسيين والإيطاليين , وكانت أخر معركة بين الطرفين عرفت باسم معركة الجلاّز , وتحركت السلطات الفرنسية عندما رأت أن زمام الأمور ستفلت من يدها بعد المعارك التي نشبت عقب معركة الجلاّز , فصبّت فرنسا جام غضبها على الحركة الوطنية التي حملتها فرنسا مسؤولية الانتفاضات وتمّ اعتقال الشيخ علي باش حانبه و عبد العزيز الثعالبي والشاذلي درغوت ومحمد العروي ومحمد نعمان والمختار كاهية وقد هاجر علي باش حانبه إلى تركيا فيما هاجر عبد العزيز الثعالبي إلى الجزائر ومنها إلى مصر .

وكانت السلطات الفرنسية تتوقع أن تنتهي المقاومة الشعبية بعد نفي زعماء الحركة الوطنية الى الخارج , الاّ أنّ ثورة مسلحة اندلعت سنة 1915 وأستمرّت الى سنة 1918 بقيادة الحاج سعيد بن عبد اللطيف , وفي عام 1919 وأثناء انعقاد مؤتمر الصلح بباريس اتصلّ الشيخ عبد العزيز الثعالبي بالمؤتمر وقدمّ إليه مذكرة تتعلق باستقلال تونس وطالب بتطبيق مبادئ ويلسون الأربعة عشر ونشر في باريس كتابا بعنوان : تونس الشهيدة , فضح فيه دسائس الاستعمار الفرنسي وجرائمه في حق شعب تونس , وقد تلقفّ المثقفون في المغرب العربي هذا الكتاب , وبسبب هذا الكتاب ألقت فرنسا القبض على عبد العزيز الثعالبي وأرجعته إلى تونس وألقته في أحد سجونها , والثعالبي الذي ساهم إلى أبعد الحدود في النهوض بالوعي السياسي للتونسيين لم يذهب جهده سدى , إذ أنّ الشعب التونسي لجأ إلى التظاهرات والإضرابات وطالب بضرورة إخلاء سبيل الشيخ عبد العزيز الثعالبي وأجبر فرنسا على ضرورة إطلاق سراحه , وبعد خروجه من السجن تمّ تعيينه رئيسا للحزب الحر الدستوري التونسي , كما جرى تعيين المحامي أحمد الصافي أمينا عاما للحزب . وشرع هذا الحزب في فتح الفروع والمكاتب في مختلف البلاد التونسية ووضع برنامجا ثقافيا وفكريا يقضي بغرس الوطنية في نفوس التونسيين تمهيدا لإشراكهم في الكفاح المسلح ضدّ الاستعمار الفرنسي .

وقد قام الحزب الدستوري التونسي سنة 1920 على مبادئ تطالب بنظام دستوري لتونس وتأليف حكومة وطنية مسؤولة أمام الشعب باعتبار أنّ تونس أول بلد عربي أعلن دستورا في سنة 1865 يمنح نواب الشعب حق المشاركة في الحكم وحتى حق خلع الباي.

من هو عبد العزيز الثعالبي ؟

يعتبر عبد العزيز الثعالبي أحد روّاد الإصلاح في تونس ويشبه إلى حدّ كبير في تفكيره رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ عبد الحميد بن باديس , فالثعالبي كان يرى أنّ مصدر التشريع في البلاد العربية والإسلامية يجب أن يكون الثقافة الإسلامية , ورغم كونه أحد أعلام جامع الزيتونة إلاّ أنّه كان ضالعا في القضايا السياسيّة ولم يكن يرى فرقا بين الدين والسياسة , وكان يرى أنّ الدين جاء لإصلاح شؤون الناس وإدارة حياتهم , ولم يكن الثعالبي مجرد زعيم سياسي بل كان مصلحا اجتماعيّا ودينيّا , وكان متأثرا بفكر محمد عبده و رشيد رضا وقد تسنىّ له الإطلاع على فكرهما عندما أقام في مصر غداة نفيه من قبل السلطات الفرنسية من تونس .

وتمكن من ملامسة الهمّ العربي والإسلامي من خلال تنقله بين مصر وبغداد وفلسطين , وقد أكسبه هذا التجوال المزيد من التجارب خصوصا فيما يتعلق بزعماء الإصلاح وروّاد التنوير في المشرق العربي .

وقد أثار الجمود الذي أصاب الحزب الدستوري التونسي بعد نفي زعيمه الثعالبي نفرا من الشبّان التونسيين المنضوين تحت لواء الحزب الدستوري فقاموا بتأسيس جريدة صوت التونسي في سنة 1928 وتولى إدارتها الشاذلي خير الله , وفي سنة 1929 أصبحت هذه الجريدة تحمل اسم العمل التونسي وكلتاهما كانتا تصدران باللغة الفرنسية , لأنّ الصحف العربية كانت ممنوعة .

وفي سنة 1932 عقد الحزب الحر الدستوري التونسي مؤتمرا استثنائيّا وأنتخب أسرة تحرير العمل التونسي في اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري وهم الدكتور محمود الماطري , والمحامي الطاهر صفر والمحامي البحري قيقة والمحامي محمد بورقيبة و شقيقه الأصغر الحبيب بورقيبة .

ويتجلى من خلال التطورات التي حصلت داخل الحزب الدستوري التونسي أنّ قيادته الأولى كانت من علماء الدين وخريجي جامع الزيتونة العريق في تونس , وكان الرعيل الأول مشبعا بالثقافة الإسلامية والعربية , وبعد نفي الشيخ الثعالبي تولى قيادة هذا الحزب مجموعة من الشباب التونسي المتأثر بالثقافة الفرانكفونية وكثير من شخصيات الرعيل الثاني أتمّت تعليمها في الجامعات والمعاهد الفرنسية .

ويمكن القول أنّ النضال التونسي الذي بدأه علماء جامع الزيتونة قد صودر بوصول نخبة مثقفة بالثقافة الفرنسية وعلمانية إلى مواقع التأثير في أهم حزب في تونس .

وإذا كان عبد العزيز الثعالبي قد بنى الحزب الدستوري التونسي على أسس فكرية تمتد جذورها الى الفكر السلفي الإصلاحي الذي بلوره جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده , وربط الحركة النضالية التونسية بحركات التحرر في المغرب والمشرق العربيين . فان الذين جاؤوا بعده لم يكونوا على منواله .

وفي الضفة الأخرى يقف الشباب الذين أنشقوا في وقت لاحق عن الحزب الدستوري الأم وأسسوا الحزب الدستوري الجديد وكانوا قد درسوا في أوروبا وتربّوا على الفكر التنظيمي الغربي , والخلاف بين الثقافتين أدّى إلى اختلاف في منهج العمل وأسلوب التحرك السياسي .وقد تمكنّ التيار السياسي الجديد وهو الحزب الدستوري الجديد من فرض نفسه في الساحة السياسية التونسية , ودعا هذا الحزب إلى سلسلة من الإضرابات والتظاهرات ثمّ دعا إلى العصيان المدني وبسبب هذا العصيان وقعت صدامات دموية بين المواطنين التونسيين والجيش الفرنسي .

وفي عام 1954 عرضت حكومة منديس فرانس الفرنسية على التونسيين مشروع منح تونس الحكم الذاتي مع احتفاظ فرنسا بمسؤوليّة الدفاع والشؤون الخارجية , ولقيت هذه المقترحات القبول من جانب الحبيب بورقيبة , وبموجبه تشكلّت حكومة فرنسية برئاسة طاهر بن عمّار وضمّت هذه الحكومة عناصر معتدلة و ثلاثة أعضاء من الحزب الدستوري الجديد , وبدأت المفاوضات مع الفرنسيين لتسفر عن اتفاق نهائي في 02 حزيران – جوان سنة 1955 .

وكانت بعض الشخصيات الوطنية تعتبر هذا الحكم الذاتي استمرارا للاستعمار وتنازلا صريحا عن تونس ومنحها على طبق من ذهب للفرنسيين . وقد تزعمّ معارضة ها الاتفاق صالح بن يوسف الذي تمكنّ من تحريك مئات التونسيين الذين دخلوا في مواجهات مع الجيش الفرنسي والقوات الحكومية التونسية والتي ألقت القبض على كل مؤيدي صالح بن يوسف الذي تمكنّ من الفرار إلى طرابلس .

وفي تلك الظروف التي كانت تشبه ظروف الحرب الأهلية توجهّ وفد تونسي برئاسة الحبيب بورقيبة إلى باريس لإجراء مفاوضات جديدة مع الفرنسيين , وفي 20 آذار – مارس 1956 وقعّ الطرفان بروتوكولا أقرّت فيه فرنسا رسميا باستقلال تونس وحقها في تولّي الشؤون الخارجية والدفاع والأمن الداخلي وتشكيل جيش وطني وتضمنّ الاتفاق أن القوات الفرنسية تبقى في فرنسا في فترة انتقالية تنسحب بعدها من تونس .

وقد أدّت الانتخابات العامة التي وقعت في تونس بعد الاتفاق مع فرنسا إلى فوز الحزب الدستوري الحاكم , وأصبح الحبيب بورقيبة رئيسا للدولة التونسية , وأصبح الحزب الدستوري بقيادة بورقيبة حزبا حاكما , وتمّ إبعاد كل أنصار صالح بن يوسف أو اليوسفيين من الحكم وخصوصا بعد ن قاطعوا الإنتخابات العامة .

التطورات السياسية في تونس

في 01 حزيران – جوان 1959 تمّ وضع دستور جديد في تونس كرسّ بشكل مطلق النظام الرئاسي حيث بات الرئيس الحبيب بورقيبة يتمتع بصلاحيات واسعة بدون منازع , ونصّ الدستور الجديد على انتخاب الرئيس كل خمس سنوات مع إمكانية انتخابه ثلاث مرات متتالية , ونصّ الدستور التونسي الأول الذي وضع في حزيران –جوان في سنة 1959 على أنّ الرئيس التونسي له كل الصلاحيات في رسم سياسة الدولة الداخليّة والخارجية واختيار أعضاء الحكومة وتولّي القيادة العليا للجيش والقيام بالتعيينات لجميع المراكز المدنيّة والعسكرية , كما نصّ الدستور على انتخاب جمعية وطنية – برلمان – مرة كل خمس سنوات .

وفي 08 تشرين الثاني –نوفمبر 1959 أعيد انتخاب الحبيب بورقيبة رئيسا للدولة بدون منافسة وفي هذه الأثناء شهدت العلاقات التونسية –الفرنسية تحسنا كبيرا , ووقعّ البلدان على إتقاقيّات في مجال التجارة والتعرفة الجمركيّة . وفي سنة 1961 قام الحبيب بورقيبة بزيارة إلى العاصمة الفرنسية باريس , والتقى آنذاك بالرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول. وبعد استقلال الجزائر في 05 تموز 1962 تدهورت العلاقات الجزائرية –التونسية بسبب خلاف الإيديولوجيات , حيث كان الحبيب بورقيبة مغرقا في إعجابه بالعلمانية الغربية , فيما كان أحمد بن بلة الرئيس الجزائري يميل إلى الخط الناصري الثوري , وكان أحمد بن بلة دائم الخلاف مع الحبيب بورقيبة , وكان بن بلة يعتقد أن بورقيبة لطالما تحركّ ضدّ الثورة الجزائرية , وكانت الجزائر في ذلك الوقت تدعم صالح بن يوسف أحد أبرز خصوم الحبيب بورقيبة . وفي كانون الثاني – يناير 1963 استدعت تونس سفيرها في الجزائر بحجة تواطؤ الجزائر مع عناصر عسكرية تابعة لبن يوسف حاولت اغتيال الحبيب بورقيبة في تونس .

وفي أيّار – مايو 1968 وبعد اتهام بورقيبة بمعارضة الكفاح الفلسطيني من أجل فلسطين طلبت تونس من القائم بأعمال سوريا في تونس مغادرة تونس بعد أن أتهمته بتحريض المواطنين التونسيين للقيام بأعمال تخريبية ضد الحكومة التونسية .

وفي أيلول – سبتمبر سنة 1968 رفضت الجامعة العربية الاستماع لوجهة نظر تونس التي تضمنّت انتقاد المواقف العربية والمصرية تجاه فلسطين , وردّت تونس بإعلان مقاطعتها لاجتماعات الجامعة العربية , وأكدّت في الوقت نفسه تأييدها لحركة المقاومة الفلسطينية .

وعادت العلاقات الجزائرية – التونسية إلى التدهور مجددا بسبب موقف تونس من الصراع العربي – الإسرائيلي . وقد منحت تونس بسبب هذه السياسة الجزائرية المناوئة لها حق اللجوء السياسي للعقيد الطاهر الزبيري رئيس هيئة الأركان في الجيش الجزائري والذي قاد محاولة انقلاب ضدّ حكم الرئيس هواري بومدين الذي كان قد أطاح بدوره بنظام أحمد بن بلة في حزيران –جوان 1965 .

ويتضح من خلال ما ذكر أنّ علاقات تونس بمحيطها العربي كانت مضطربة بسبب تسرّع الحبيب بورقيبة في الميل نحو رغبات المعسكر الغربي الذي كان يكّن له كل الإعجاب .

وعلى صعيد داخل تونس فانّ الحبيب بورقيبة لم يكرّس مبدأ التداول على السلطة , ولم يفسح المجال للأحزاب السياسية التونسية بالعمل السياسي وعمل على تدجين الصحافة , كما كان يلاحق كل من كان يشمّ فيه رائحة عدم الولاء . فأحمد بن صالح وزير المالية والتخطيط والذي كان أحد أبرز أعضاء الحزب الدستوري , وأحد المرشحين لخلافة الحبيب بورقيبة نقل سنة 1969 إلى وزارة التربية ثمّ جرّد من كل مناصبه , وبعدها تمّ اعتقاله وحوكم بتهم متعددة , وفي 10 أيّار – مايو 1970 حكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات مع الأشغال الشاقة , غير أنّه فرّ من السجن في سنة 1973 ولجأ إلى أوروبا وقاد هناك المعارضة ضدّ نظام الحبيب بورقيبة .

وقد كان أحمد بن صالح الأول بين عدة وزراء أقيلوا بصورة مفاجئة , ففي سنة 1969 أقيل الباهي الأدغم من رئاسة الحكومة بعد أن رشحته التوقعات لخلافة بورقيبة وخصوصا بعد أن تولّى الحكم الفعلي لمدة ست أشهر أثناء غياب بورقيبة لأسباب صحية , إلى جانب رئاسة الباهي الأدغم للجنة اتفاقية القاهرة المعقودة بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية والتي أكسبته شهرة واسعة في الوطن العربي .

وفي تشرين الأول –أكتوبر سنة 1970 عينّ الهادي نويرة رئيسا للحكومة , وأعلن الرئيس بورقيبة أنّ الهادي نويرة سيكون خليفته في الحكم , وكان باهي الأدغم قد استقال من جميع مناصبه السياسية وتبعه أحمد المستيري الذي كان وزيرا للداخلية بين 19701971 .

وفي أيلول – سبتمبر 1974 انتخب المؤتمر التاسع للحزب الدستوري الحبيب بورقيبة رئيسا للحزب مدى الحياة , وعين الهادي نويرة كأمين عام للحزب , وعينّ الحبيب بورقيبة مكتبا سياسيا من عشرين عضوا وفي تشرين الثاني – نوفمبر 1974 أعيد انتخاب الحبيب بورقيبة رئيسا للدولة التونسية بدون منافس , وبعد ذلك بسنة واحدة أقرت إصلاحات دستورية واسعة عززّت ديكتاتورية الحبيب بورقيبة .

أماّ المعارضة التونسية فقد عاشت أسوأ أيّامها في هذه المرحلة من تاريخ تونس , ففي 1974 صدرت أحكام بالسجن ضد 175 شخصا أغلبهم طلاّب بعثيون وماركسيون وإسلاميون لإنتمائهم إلى فصائل سياسية غير معترف بها .

و في مطلع كانون الأول –ديسمبر 1975 وقع إضراب عام في الجامعة التونسية ووقعت أثناءها إشتباكات عنيفة بين قوات الأمن والطلاب التونسيين , وتجددّت الإشتباكات العنيفة بين قوات الأمن والطلاب سنة 1977 , وقادت النقابات العمالية المعارضة ضدّ نظام الحبيب بورقيبة , وشهدت سنة 1976 إضرابات مالية مكثفة في تونس , وبين 19771978 تمّ اعتقال 28 شخصا بتهمة الانتماء إلى حركة الوحدة الشعبية المرتبطة بأحمد بن صالح .

و في سنة 1977 انتعشت المعارضة الليبيرالية التي تعتبر أحمد المستيري أبرز أعضائها وفي نفس السنة وفي شهر نيسان – أبريل شكلّ الليبيراليون لجنة الدفاع عن حقوق الانسان .

و أبرز حدث داخلي شهدته تونس منذ استقلالها كان الانفجار السياسي الذي شاركت فيه النقابات العمالية حول قضايا سياسية واجتماعية متعددة , وقد بلغ هذا الانفجار ذروته يوم الخميس الأسود في 26 كانون الثاني – يناير 1978 حينما خرج الجيش التونسي من ثكناته الى الشوارع وأدت المواجهات بينه وبين المتظاهرين الى مقتل العشرات .

وتمّ اعتقال قادة الحركة النقابية ومحاكمتهم وعلى رأسهم الحبيب عاشور , وقد سبقت هذه المواجهات والإضرابات سلسلة استقالات في صفوف الوزراء والذين عبروا عن تفسخ النظام من الداخل .

وفي 12 كانون الثاني – يناير 1974 وقع تطور مفاجئ في تونس كاد يغيّر الأوضاع السياسية رأسا على عقب , وتمثلّ هذا التطور أنّه في أعقاب اجتماع بين الحبيب بورقيبة والعقيد الليبي معمّر القذافي رئيس ليبيا أعلن عن وحدة سياسية بين تونس وليبيا , على أن يكون بورقيبة رئيسا للدولة الموحدة و القذافي نائبا له .

ولم يبصر هذا المشروع النور بسبب معارضة بورقيبة الدائم له , والواقع أنّ الذي كان متحمسا للمشروع هو وزير خارجية تونس محمد المصمودي الذي عمل منذ تعيينه على رأس الخارجية التونسية سنة 1970 على ترميم العلاقات العربية – التونسية , وقد نجح في مهمته إلى أبعد الحدود , وتمكن بحنكته من بعث الروح في العلاقات التونسية مع كل من مصر وسوريا ودول المحور الاشتراكي في ذلك الوقت .

الصراع بين الأصالة والتغريب في تونس

لجأت النخبة الحاكمة في تونس بعد الاستقلال الى تطبيق الأنماط الغربية في تسيير شؤون الدولة والمجتمع , وكان الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة يتفاخر بالعلمانية الغربية التي كان يطبقّها في تونس , وكان بورقيبة يتمنى لو كان موقع تونس الجغرافي على مقربة من الدول الإسكندينافية .

وفي حديثه لصحيفة الأمان اللبنانية قال زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي أنّ الحركة الإسلامية في تونس واجهت المصاب الجلل بآلاف المساجين والتعذيب الرهيب والذي أفضى إلى استشهاد العشرات من الأخوة وتجويع العائلات ومنع كل عون عنهم من أجل إضعاف صمود المساجين ودفع الزوجة إلى طلب الطلاق وما إلى ذلك من الأساليب الهمجية ( 1 ) .

فالحبيب بورقيبة الذي كان مشبعا بالثقافة الفرنسية و أحد أبرز المعجبين بالطرح العلماني حاول بناء دولة تونسية علمانية على غرار ما فعله مصطفى كمال أتاتورك في تركيا , ولجأ في بداية حكمه إلى تجميد دور جامع الزيتونة الذي لعب أكبر الأدوار في تاريخ تونس المعاصر وأحتضن روّاد حركات التحرير من كل دول المغرب العربي , حيث كان دعاة الثورة على فرنسا من أقطار المغرب العربي يزاولون تعليمهم في جامع الزيتونة .

و لم يقم بورقيبة بأي خطوة في سبيل استرجاع الاستقلال الثقافي بل ظلّت تونس خاضعة ثقافيّا للغرب , والأكثر من ذلك فقد أقصى الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة كل المحسوبين على التيار الوطني والعروبي ووضع الكثير منهم في المعتقلات ( 2 ) .

(1) حوار أجرته صحيفة الأمان البيروتية مع زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في العدد 229 بتاريخ 01 تشرين الثاني – نوفمبر 1991 .

(2) راجع كتاب يحدث في تونس للصحفي قصي صالح الدرويش .

و كان الحبيب بورقيبة يوصف بأنّه الصديق الحميم لفرنسا ووطدّ علاقات تونس بالمحور الغربي وهو ما جلب له السخط من قبل بعض جيرانه ومن قبل العديد من الدول العربية .

ولم يكتف الرئيس الحبيب بورقيبة بتكريس العلمانية بشكلها الغربي والمتوحش بل ألغى كل قوانين الأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية , كقانون تعدد الزوجات والإرث والطلاق وحتى فريضة الصوم أراد إلغاءها بحجّة أنّ الصوم يضعف الإنتاج .

وفي عهد الحبيب بورقيبة ازدهر دور الجاليّة اليهودية في تونس وخصوصا بعد أن أصبح بعض اليهود التونسيين وزراء في أول حكومة تونسية ومنهم ألبير بسيسي وتجدر الإشارة إلى أن أندري باروش مؤسس الحزب الشيوعي التونسي هو من اليهود التونسيين .

وهذا الاتجاه السياسي الذي تبنّاه الحبيب بورقيبة ساهم إلى أبعد الحدود في انبلاج التيار الإسلامي الذي حمل على عاتقه لواء المحافظة على الهويّة المصادرة و القيّم الضائعة وقاوم بكل ما أوتيّ من إمكانات الغزو الفكري والمسخ الثقافي لتونس .

وفي سنة 1970 وفي جامع سيدي يوسف بالعاصمة التونسية التقى راشد الغنوشي وعبد الفتّاح مورو لتقديم مفاهيم عن البديل الإسلامي في مواجهة البديل التغريبي (1).

ويذهب بعض الباحثين ومنهم الدكتور إبراهيم حيدر علي إلى القول بأنّ التغريب في تونس ليس وليد البورقيبية , بل أنّ احتكاك تونس بالحضارة الغربية تمّ في مرحلة متقدمة من العهد البورقيبي , وتعتبر تونس ومصر من أقدم الدول العربية في احتكاكها بالحضارة الغربية ومحاولة تبنيّ عناصرها العملية والمفيدة فيما يخص المؤسسات والوسائل المادية (2) .

والصراع بين القديم والجديد , وبين الأصالة والمعاصرة , وبين الأسلمة والتغريب ظاهرة لا تقتصر على تونس وحدها بل هي ظاهرة عمّت البلاد العربية والإسلامية نظرا للغزو الاستعماري الغربي لهذه البلدان .

(1) أنظر كتاب الإسلام الاحتجاجي في تونس لمحمد عبد الباقي الهرماسي .

(2) أنظر كتاب التيارات الإسلامية وقضية الديموقراطية لإبراهيم حيدر علي .

وكانت الجيوش الاستعمارية تحمل معها قبل الذخائر الحربية المشروع الثقافي والفكري والإيديولوجي الذي كانت تعدّه سلفا وزارات الخارجية والاستعمارية الغربية في ضوء ما لديها من معلومات عن الخصوصيات العربية والإسلامية والتي أستطاعت أن تحيط بها من خلال حركة الجواسيس والبعثات الاستكشافية الغربية المكثفّة إلى بلادنا .

وكان استراتيجيو الحركات الاستعمارية يتصورون أنّه عندما يسود الفكر الذي يحملونه معهم إلى البلاد المحتلة فانّ هذا من شأنه أن يسهلّ عملية الغزو ويجعل الناس ترضخ للإرادة الاستعمارية .

وفي المغرب العربي فانّ السلطات الاستعمارية الفرنسية كانت تقوم بتشييد المعاهد التعليمية لا حبّا في تثقيف الناس والقضاء على الأمية , بل إنّ هذه المعاهد كانت تضطلع في تكوين النخب المثقفة التي تؤمن بفكر المستعمر .{ وفي تونس على وجه التحديد كان هناك تنافس كبير بين المدرسة الصادقيّة التي أنشئت عام 1875 وجامع الزيتونة , وهو صراع بين رمز المشروع التحديثي كما جسدته المدرسة الصادقيّة والتي كانت تنتج كوادر الدولة المتخصصة لإدارة الدولة والمجتمع في مواجهة جامع الزيتونة الذي يحاول الإبقاء على الأمر الواقع أو العودة إلى الماضي الذهبي } (1) .

وهذا الصراع انعكس سلبا على الحركة الوطنية التونسيّة التي أنقسمت على نفسها بين شخصيات تؤمن بالثقافة العربية والإسلامية وجدواها في الحياة السياسية وتسيير شؤون الدولة وحملة الثقافة الفرنسية الذين أبدوا انبهارهم بالمشروع الثقافي الغربي ومع هؤلاء تفاوضت الحكومة الفرنسية عندما أرادت أن ترفع يدها عن تونس لتتفرغّ للثورة الجزائرية.

وعن هذه المرحلة يقول الهاشمي الحامدي : أنّ الانشقاق الذي حدث في الحركة الوطنية أدّى الى قيام الحزب الحر الدستوري الجديد الذي أصبح الحبيب بورقيبة سكرتيره العام في آذار – مارس 1934 , وضم الحزب القديم خريجي الزيتونة والشخصيات ذات الميول العربية والإسلامية , بينما جمع الحزب الجديد المثقفين الجدد من المدرسة الصادقية والمعاهد الثانوية الخاصة وجامعات باريس . (2)

(1) الدولة والمسألة الثقافية في تونس للمنصف ونّاس . (2) أنظر أشواق الحرية : قصة الحركة الإسلامية في تونس للهاشمي الحامدي .


وبعد إستقلال تونس ووصول بورقيبة إلى الحكم أو بالأحرى تسهيل وصوله إلى الحكم من قبل الفرنسيين انتقلت المعركة إلى أرض الواقع وذلك عندما شرع الحبيب بورقيبة ومعه عناصر النخبة الحاكمة ذات الميول الفرانكفونية في تنفيذ المشروع التغريبي في بناء الدولة الوطنية الحديثة { ولذلك أصدرت السلطة الجديدة سلسلة من القوانين والإجراءات الجديدة مثل إلغاء دور المجالس الشرعية والمحاكم الدينية , وإعلان مجلة الأحوال الشخصية التي أثارت جدلا بسبب تناقض بعض بنودها مع أحكام الشريعة الإسلامية وإلغاء مؤسسة الأوقاف وحلّ الحبوس و ألحقت معاهد الزيتونة بوزارة التربية وأصبحت الجامعة التونسية البديل القومي للجامعة الزيتونية للتعليم العالي }. (1)

وعلى الرغم من أنّ النخبة الحاكمة في تونس كانت متحمسّة لمشروع التغريب والتحديث ونفذتّه بالحرف , وفرضت هذا المشروع على المجتمع التونسي فرضا إلاّ أنّ هذا المشروع أخفق ولم يؤت ثماره المرجوة , وسرعان ما تعرضّ حكم الحبيب بورقيبة إلى هزات وأصابه الفشل الذريع في ميادين الاقتصاد والمجالات السياسية والثقافية .

وقد ساهمت هزيمة حزيران – يونيو 1967 في بداية بروز المعارضة التونسية التي كانت تحمل مشروعا مغايرا لمشروع الحبيب بورقيبة التغريبي , فكانت الحركة الإسلامية التونسية والتي كانت وليدة الأزمة التي وصل إليها نظام بورقيبة . وكانت هذه الحركة الصاعدة هي المشروع المغاير لمشروع بورقيبة كما قال المنصف وناس في بحثه عن الدين والدولة في تونس بين 19561987 تحمل فكرا مغايرا . وقبل الحركة الإسلامية كانت هناك الحركة اليوسفية التي كانت تعارض نظام الحبيب بورقيبة , وبرزت إلى الوجود قبل الاستقلال بقليل عندما عارض صالح بن يوسف التنازلات الخطيرة التي قدمها الحبيب بورقيبة للسلطات الفرنسية , غير أنّ نظام بورقيبة تمكنّ من القضاء بقوة على اليوسفيين. وخطأ بورقيبة كما يقول خصومه السياسيون أنّه أراد أن يفرض علمانية متوحشة على مجتمع مسلم متمسّك بالعادات والتقاليد ولم يتحرر من معتقداته بتاتا .

(1) أنظر الدولة والمسألة الثقافية للمنصف ونّاس و الإسلام الاحتجاجي في تونس لمحمد عبد الباقي الهرماسي .


{ ولذلك جاءت حداثة بورقيبة منقوصة وعلمانية فوقية وتنمية تابعة وغير عادلة فدخلت تونس في مأزق الاقتصاد ومأزق التغريب } (1) .

وكانت نتيجة علمانية بورقيبة أن أنتهت تونس إلى أزمة اقتصادية خانقة أدّت إلى إضرابات عماليّة واسعة وثورة الخبز والعديد من الإضطرابات , وأزداد الاقتصاد التونسي تبعيّة للشركات الغربية التي راحت تستبيح تونس باسم حرية الاستثمار , وفي المسألة الثقافية كانت الجامعات التونسية عرضة للصراعات الحادة بين المحسوبين على الثقافة العربية و الثقافة الفرنسية وعاشت الجامعات إضطرابات موسعة كانت تستدعي دخول رجال الشرطة والجيش إلى الحرم الجامعي .

و في هذه الظروف بدأت حركة النهضة التونسية تطرح مشروعها الذي تمثلّ في :

- بعث الشخصية الإسلامية لتونس حتى تستعيد مهمتها كقاعدة كبرى للحضارة الإسلامية في إفريقيا ووضع حدّ لحالة التبعية والتغريب والضلال .

- تجديد الفكر الإسلامي على ضوء أصول الإسلام الثابتة ومقتضيات الحياة المتطورة وتنقيته من رواسب عصور الانحطاط وأثار التغريب .

- أن تستعيد الجماهير حقها المشروع في تقرير مصيرها بعيدا عن كل وصاية داخلية أو هيمنة خارجية .

- إعادة بناء الحياة الاقتصادية على أسس إنسانية وتوزيع الثروة في البلاد توزيعا عادلا في ضوء المبادئ الإسلامية .

- المساهمة في بعث الكيان السياسي والحضاري للإسلام على المستوى المحلي و المغاربي والعربي والعالمي حتى يتم إنقاذ شعوبنا والبشرية جمعاء مما تردّت فيه من ضياع نفسي وحيف اجتماعي وتسلطّ دولي . (1)

1) أنظر الحريات العامة في الدولة الإسلامية لراشد الغنوشي .


و إذا كان نظام بورقيبة قد مثلّ ذروة التيار العلماني فانّ حركة النهضة كانت تمثل التيار الإسلامي البديل الذي ساهمت عوامل تاريخية وفكرية وسياسية في بروزه .

وإذا كان الحبيب بورقيبة قد التحق بالرفيق الأعلى فانّ خطّه السياسي مازال قائما حتى في مرحلة العهد الجديد التي قادها زين العابدين بن علي

الحركة الحزبيّة والسياسية في تونس

ينصّ الدستور التونسي على أنّ تونس جمهورية حرة مستقلة و ذات سيادة , وتناط السلطة التشريعية فيها بالجمعية الوطنية التي تنتخب بالاقتراع المباشر مرة كل خمس سنوات , ورئيس الدولة هو رأس السلطة التنفيذية وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة ويتولى جميع التعيينات العسكرية والمدنية , وتستطيع الجمعية الوطنية حجب الثقة عن الحكومة ممّا يحتم استقالة الحكومة أو إجراء انتخابات جديدة , وفضلا عن ذلك فانّ الدستور الجديد ينصّ على صلاحيات مجلس الدولة والمجلس الاقتصادي والمجلس الاجتماعي .

وعلى صعيد أخر يؤكد الدستور على أنّ الحزب الدستوري وهو الحزب الحاكم هو الحزب الشرعي الوحيد , ورغم هذا الإقرار الدستوري إلاّ أنّ الخارطة السياسية التونسية ثريّة بالحركات السياسية المختلفة في مشاربها الفكرية . ومن هذه التيارات الجبهة الوطنية التقدميّة وتضمّ مجموعة الأحزاب والتي على رأسها الاتحاد الاشتراكي العربي التونسي

- الناصريون – وحزب البعث العربي الاشتراكي واليوسوفيون أصحاب صالح بن يوسف.

وحركة الوحدة الشعبية وكان يقودها المعارض التونسي أحمد بن صالح من الخارج , والحزب الديموقراطي الاجتماعي الذي كان يقوده أحمد المستيري والذي كان يطالب بالتعددية السياسية والحزبية وبالليبيرالية في مجال الاقتصاد , و هناك العديد من التنظيمات السياسية اليسارية والشيوعية والتي كان لها نفوذ كبير في النقابات العمالية .

وكانت الحركات اليسارية من أنشط الحركات في تونس في فترة السبعينيات , وقد شكلّت الحركة النقابية مصدر خطر على السلطة التونسية , ويصف أحد الإسلاميين تلك الفترة من تاريخ تونس بأنّها فترة تحديّات اليسار { في سنة 1977 تحديدا , ثمّ انتفاضة كانون الثاني – يناير 1978 أظهرت خطر استيلاء اليسار على السلطة في تونس , وهو خطر وقوع الدولة في أيدي اليسار , وكنّا نعتقد أن الإسلام في تونس في خطر وأنّ اليسار سيستولي على السلطة , لم نكن نعارض الحكومة لذاتها , كنّا نعارضها فيما يخص بعض النقاط , ولكننّا كنا نعتقد أنّ اليسار يمثّل خطرا أكبر من خطر الحكومة .} (1)

وكانت الأحزاب اليسارية تشنّ الإضرابات وتدعو إلى التظاهر ضدّ الحكومة لتنفيذ مطالب العمّال وصيانة حقوقهم , وفي الواقع كانت الحركة الشيوعية تختفي وراء النقابات العمالية والمطالب العمالية المحقة . و مثلما كانت الخارطة السياسية التونسية تضم مختلف التيارات الحزبية والسياسية من أقصى اليمين والى أقصى اليسار , فقد عرفت الخارطة السياسية تنوعا أيضا في الحركات الإسلامية التونسية ومن هذه الحركات حركة النهضة التي تأسست عام 1970 وذلك عندما أسسّ راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو ما عرف في تونس بالجماعة الإسلامية والتي كانت عبارة عن حركة تربوية واجتماعية (2) .

وقد مرّت هذه الحركة بثلاث مراحل سياسية , مرحلة التأسيس , ومرحلة التبليغ ومرحلة المنفى والمواجهة .ومن رحم هذه الحركة تأسسّ ما يعرف بالإسلاميين التقدميين الذين أنشقّوا عن حركة النهضة الإسلامية وهم أحميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي و زيّاد كريشان وأسسّوا تيارا ثقافيّا وعقلانيّا , كما أسسوا مجلة ( 15 – 21 ) نسبة إلى القرن الخامس عشر الهجري والواحد والعشرين الميلادي .ويقدمّ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية تقييما لتيار الإسلاميين التقدميين ويوضّح أهم أفكارهم وما طرأ على هذه الأفكار من تطوّر وتغيير أو إلغاء أحيانا من خلال تفاعلها مع واقع متغيّر وفكر أخر , ويرى الغنوشي أنّ هذا التيار الذي وصفه بالتدين العقلاني قد بدأ يحدّ من غلوائه ويخفف من تطرفه وهذا التيار { لم يعد يطرح قضية التخلي عن الحدود ,أتخذ تناوله لرجال الحركة الإسلامية وأقطاب السلفية المعاصرين والقدامى طابعا أكثر جديّة كما تخلى عن مقولة اليسار الإسلامي وأستعاض عنها باسم أقلّ إثارة للحساسة السلفية . لكنّ تنظيم الإسلاميين التقدميين ظلّ يحتفظ برؤية صياغة جديدة , العلاقة الجدلية بين النص والعقل} (3)

(1) أنظر الإسلام السياسي : صوت الجنوب لأحميدة النيفر.(2) أنظر دراسات في الإسلام السياسي لفايزة سارة . (3) أنظر تحليل العناصر الكونة للظاهرة الإسلامية في تونس – حركة الاتجاه الإسلامي –لراشد الغنوشي .


وبالإضافة إلى الإسلاميين التقدميين , برز حزب التحرير الإسلامي نتيجة نشاط العديد من الحلقات الدينية المنتشرة في البلاد , وكان حزب التحرير الإسلامي المتأثر بحزب التحرير الذي عرف في نطاق واسع في المشرق العربي يهدف إلى قلب نظام الحكم في تونس عن طريق القوة وإقامة الدولة الإسلامية ثمّ إعادة تأسيس الخلافة الإسلامية .

وقد اتهمت السلطات التونسية هذا الحزب عدة مرات بمحاولة القيام بانقلابات عسكربة فاشلة , ومن أهمها ما حدث بين 19731976 .

ومن التنظيمات الإسلامية العسكرية طلائع الفداء وهي مجموعة إسلامية مسلحة كان يتزعمها محمد الحبيب الأسود , وقد جربّ الكشف عنها في العام 1987 عندما أتهمتها السلطات التونسية بالتخطيط لقلب نظام الحكم وإقامة دولة إسلامية .

ورغم هذا التنوّع الذي كان سائدا في الساحة السياسية التونسية فانّ الأحزاب في مجملها لم تتمكن من خلط الأوراق والوصول إلى الحكم , والسبب كما يراه الناشطون السياسيون في تونس يعود إلى السلطة التونسية بدءا بالحبيب بورقيبة ووصولا إلى زين العابدين بن علي التي كانت تقمع كل معارضة وتزجّ بكل أركانها وأتباعها في السجون , ولم تفرّق السلطة التونسية بين المعارضة الإسلامية واليسارية حيث كان مصير كل معارض في السجن أو المنفى .(1)

ورغم القمع السلطوي فانّ المعارضة التونسية لم تتحالف فيما بينها للقضاء على خصمها الحبيب بورقيبة والذي جاء بعده أو أقلا الحد من حالة الأحادية السياسية , ويذهب بعض الباحثين إلى القول أنّ السلطة التونسية تسامحت في فترة من الفترات مع الإسلاميين لضرب الشيوعيين , تماما كما تساهل الرئيس المصري أنور السادات في بداية عهده مع الإخوان المسلمين لضرب الناصريين , أو كما تساهل الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد مع الإسلاميين لضرب البومدينيين .

(1) موضوع هكذا كانت البدايات لمحمد الحداد في الحياة اللندنية بتاريخ 13-07- 1992


ويذهب بعض الباحثين ومنهم مصطفى التواني الى نفي ذلك جملة وتفصيلا معتبرا أنّ التيار العلماني بشكل عام كان يحظى ببعض الدعم المباشر وغير المباشر .(1)

ويمكن القول أنّ الخارطة السياسية والحزبية في تونس كانت مصنفة في ثلاث خانات :

- خانة التيار اليساري والشيوعي .

- خانة التيار الإسلامي بكل تشعباته .

- خانة التيار الليبيرالي .

وهذه التيارات الثلاث الكبرى كانت لها مواقفها ومشاريعها وبرامجها , ولم يتمكن أيّ منها من الوصول إلى دوائر القرار , وقد نجحت السلطة التونسية في استقطاب شخصيات من هذه التيارات , وخصوصا مع التيار الإسلامي حيث نجحت السلطة التونسية في استمالة العديد من الشخصيات الإسلامية التي كانت محسوبة على حركة النهضة التونسية.

وكل التنظيمات التي كانت تنضوى تحت مظلة الخانات التي جئنا على ذكرها كانت تغيّر طروحاتها أو تعدّل بعضا من فكرها تكيفّا مع الأوضاع الجديدة في تونس .

وحتى التنظيمات الإسلامية لم تحد عن هذه القاعدة , فالحركة الإسلامية التونسية خرجت عن الإطار التقليدي لأفكار المؤسسين والقادة الأوائل وطبقا لما أشار إليه زعيم حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي كان المطلوب إعادة قراءة أولئك المفكرين وبينهم سيد قطب و الذي شكلّت كتبه بداية تشكل الحركات الإسلامية في أكثر من إقليم عربي وإسلامي وكانت كتبه الأساس الذي قامت وتقوم عليه الدعوات لممارسة العنف .(2)

ويطالب راشد الغنوشي بإعادة قراءة سيد قطب قراءة جديدة تبرز أهم مناحي فكره بغية التوصل إلى ما في ذلك الفكر من أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية .

وحتى في الجوانب التنظيمية وقعت تغيّرات كثيرة للغاية , حيث اختفت شخصيات كانت في يوم من الأيام تسطع في سماء السياسة التونسية , وبرزت شخصيات جديدة .

(1) أنظر الحركة الإسلامية في تونس – قضايا فكرية عدد – أكتوبر 1989 صفحة 203 لمصطفى التواني . (2) الحركات الإسلامية في المغرب العربي . لفايز سارة .


وقد حاولت التيارات اليسارية أيضا التكيّف مع الوضع الجديد وخصوصا بعد انهيار الإتحاد السوفياتي السابق .

وحتى الحزب الدستوري الحاكم عرف تغيّرات على صعيد تغيير عنوانه من الحزب الدستوري الاشتراكي الذي تحولّ مع مرور الوقت إلى الحزب الدستوري الديموقراطي .

وحركة النهضة الإسلامية كانت ترى أنّ الديموقراطية مجرّد منهج سياسي وحركتنا لا تؤمن بالديموقراطية كما قال عبد الفتّاح مورو الذي كان يعتبر الرجل الثاني بعد راشد الغنوشي .

لكنّ الغنوشي أصبح يعتبر الديموقراطية خيارا استراتيجيا وخصوصا بعد التحولات الكبرى التي عرفها العالم , هذه التحولات التي غيرّت معها الطروحات والمسلكيات والقناعات والرؤى .

انّه نوع من البيرسترويكا والنزوع إلى الجديد والتجديد باستمرار , تجديد المنهج والديناميكية, والإشكال الوارد هاهنا أنّ التيارات الحزبية في تونس ورغم تجديدها لنفسها مازالت تراوح مكانها , ومازال صوت السلطة عاليّا لا يعلو عليه صوت !!!

عهد الجنرال زين العابدين بن علي

وصل الجنرال زين العابدين بن علي الى الحكم في تونس في خضمّ ظروف محليّة وإقليمية ودولية اتسمّت بكثير من الإضطراب والتعقيدات , وجاء استيلاء زين العابدين بن علي على الحكم في تونس كردّة فعل على الإفلاس الذي منيّت به سياسة الحبيب بورقيبة والذي أوصل تونس إلى ذروة السقوط السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي .

فالتبعيّة للشركات الغربية ازداد حدّة في العهد البورقيبي , ومافتئ الحبيب بورقيبة يعلن عن ولائه المطلق للغرب . وفي عهده اندلعت التظاهرات والمواجهات والإضرابات العامة في كافة المرافق الاقتصادية , وفي عهده جرى اعتقال المئات من الناشطين السياسيين من مختلف الانتماءات الحزبية والسياسية وزجّ بهم في غياهب السجن .

وكانت قوات الجيش والأمن تمارس أبشع عمليات القمع , وحتى ثورات الرغيف والخبز تمّ قمعها وكأنّه لا يحق للناس التعبير عن جوعها إطلاقا .

وكان بورقيبة ومعه النخبة الحاكمة يتصوّر أنّ العلمانية التغريبية ستجلب لتونس الكثير من الرخاء والتقدم والازدهار والرقيّ , والذي حدث أنّ هذا المنهج البورقيبي قاد تونس إلى الهاويّة .

وقد تبع الانهيار الاقتصادي انهيارات أخرى على الصعيد الثقافي والاجتماعي والسياسي حتى باتت السلطة محل انتقاد من كل التيارات السياسية التونسية بمختلف مشاربها وانتماءاتها الإيديولوجية . وكان التغيير من خارج السلطة أشبه بالمستحيل بسبب قوة النظام الأمنية من جهة وتشتّت المعارضة من جهة أخرى .

وعندما كان نجم الحبيب بورقيبة آخذا في الأفول , كان نجم أخر يسطع في سماء السياسة التونسية وهو نجم زين العابدين بن علي .

والجنرال زين العابدين بن علي الذي لم يكن معروفا سوى في الكواليس الأمنية التونسية تمكنّ من التدرّج وبشكل سريع في المنظومة الأمنية التونسية حتى أصبح أحد أقرب المقربين إلى الحبيب بورقيبة الذي عينّه في أكثر المناصب حساسة وخطورة .

والنقلة الكبيرة التي حققّها زين العابدين بن علي كانت غداة عودته من الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان يواصل تكوينه الأمني وتخرجّ كضابط من إحدى الكليات الأمنية والإستخباراتية الأمريكية , وفور رجوعه إلى تونس تمّ تعيينه وزيرا للداخلية وأوكلت إليه معظم الملفات الثقيلة ومن جملتها ملف حركة النهضة الإسلامية في تونس التي كان يتزعمها راشد الغنوشي .

وتولّى الجنرال زين العابدين بن علي مناصب أخرى خولّته الإطلاع بدقة على تفاصيل الحكم في تونس , وكان بين الحين والأخر يبادر إلى اتخاذ القرارات وخصوصا عندما أشتدّ مرض الحبيب بورقيبة , الذي بدأت يداه ترتعشان , وبدأ يقدم على تصرفات مخلة بالحياء أحيانا و كانت زوجته وسيلة بن عمّار تحاول أن تلعب دور المتنفذ الأول وحسب بعض المعلومات الدقيقة فإنّها لعبت دورا ما في إقصاء محمد مزالي من رئاسة الحكومة التونسية , وقد أعترف هو بالدور الخطير الذي كانت تضطلع به وسيلة بن عمّار زوجة الرجل الأول في تونس .

وبسبب مرض الحبيب بورقيبة دخلت تونس في مهبّ العاصفة حيث بدأت تفقد شيئا فشيئا مركزية القرار الذي توزعّ بين مجموعة أجنحة لا يجمعها إلاّ المصالح والمنافع الكثيرة.

وهذا الضعف الذي ألمّ بالسلطة التونسية وبداية بروز مراكز القوة ساهم في تسهيل مهمة زين العابدين بن علي في الإمساك بزمام الأمور والاستحواذ على الحكم .

وكان واضحا منذ بداية بروز زين العابدين بن علي على الساحة السياسية الرسمية أنّ هذا الرجل سيلعب دورا مهما في تاريخ تونس المعاصر .

ولد الرئيس زين العابدين بن علي في 13 أيلول – سبتمبر 1936 في بلدة حمام سوسة التي لا تبعد عن مدينة المونستير مسقط رأس بورقيبة سوى 24 كلم , وقد تلقى تعليمه الابتدائي والمتوسط في مدارس البلدة وتابع دراسته الثانوية في معهد سوسة التقني , وبعد المرحلة الثانوية درس بن علي في الجامعة الهندسية الالكترونية ثمّ التحق بالكلية العسكرية في تونس , وقد تابع دورات متخصصة في مدرسة سان سيير العسكرية , وفي مدرسة المدفعية في شالون سيرمان وكلا المدرستين تقع في فرنسا .

وقد انضمّ إلى المدرسة العليا للمخابرات والأمن في الولايات المتحدة الأمريكية وتخرجّ منها بامتياز .

وقد تسلمّ زين العابدين بن علي الأمن العسكري في تونس من سنة 1958والى سنة 1974 , وعينّ ملحقا عسكريا في السفارة التونسية في المغرب من عام 1974 والى سنة 1978 , وفي سنة 1978 أستدعيّ من موقعه كملحق عسكري ليتولىّ موقع مدير عام الأمن الوطني في تونس إلى غاية سنة 1980 .

و في هذه الفترة كان عمليا يقوم بمهمات وزير الداخلية , لأنّ ضاوي حنّا بلية الذي كان يشغل هذا المنصب لم يكن قادرا في الواقع على حمل أعباء هذه الوزارة .

وقد جرى تعيين زين العابدين بن علي سفيرا لتونس في بولندا من سنة 1980 والى سنة 1984 ورافق عن كثب أحداث وارسو التي كان وراءها النقابيون وعلى رأسهم ليش فاليسا . وعلى اثر ثورة الخبز في تونس سنة 1984 أستدعيّ بن علي من وارسو ليشغل ثانية منصب مدير عام الأمن الوطني وفي نفس السنة بتاريخ 29 تشرين الأول – أكتوبر

تمّ تعيين زين العابدين بن علي كاتب دولة وكيل وزارة للأمن الوطني .

و سنة 1985 جرى تعيينه وزير دولة للأمن في مكتب رئيس الوزراء محمد مزالي , وفي سنة 1986 عيّن وزيرا للداخلية وظلّ في منصبه هذا حتى تولىّ رئاسة الوزارة في مطلع تشرين الأول – أكتوبر 1986 فجمع بين منصب الوزير الأول ووزير الحكومة فضلا عن تولّيه الأمانة العامة للحزب الاشتراكي الدستوري الحزب الحاكم .

وفي 07 تشرين الثاني – نوفمبر 1987 استولى زين العابدين بن علي على الحكم في تونس وأصبح يعرف برجل النظام القوي الذي أطاح بالمجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة .

وزين العابدين بن علي رجل عسكري محترف اصطفاه بورقيبة منذ سنوات ليكون قبضته الحديدية في مواجهة خصومه والأزمات التي حلّت بنظام الحبيب بورقيبة , وكانت النتيجة أن أزيح بورقيبة نفسه عن الحكم .

و قد وصفته صحيفة فرنسية بقولها :

أنيق المظهر , حليق الذقن دائما , في الواحد والخمسين من عمره عندما أستولى على الحكم , يجلس برصانة ويتحدث الإنجليزية والفرنسية إضافة إلى العربية ومحسوب على الغرب قلبا وقالبا .

وقال أحد الوزراء التونسيين عن زين العابدين بن علي أنّ هذا الأخير سيضع حدّا لتنافر الألوان و الأصوات لا يتكلم إلاّ عندما يكون لديه شيئ يقوله , انّه يعي إيجاد حلول لها , استتباب الاستقرار والأمن العام وأمن المواطنين وحماية أرزاقهم ومقدراتهم و انّه يعي دروس الحياة ولديه طموح ويعرف ما يجب عمله , وإذا ما ساء الحظ وغاب الرئيس فليس هناك خوف من المستقبل . (1)

وغداة توليّه الرئاسة قال زين العابدين أنّ برنامجه يكمن في بناء مجتمع مزدهر ومنفتح ومتسامح ويسوده السلام .

وقد أدهش هذا الانقلاب الأبيض العديد من العواصم الغربية والعربية إلى درجة أنّ بعض العواصم المعنية بتونس اعتبرت أنّ ما حدث هو انقلاب لصالح المخابرات الأمريكية في المغرب العربي خصوصا وأنّ بن علي أكمل تكوينه الأمني والمخابراتي في الولايات المتحدة الأمريكية وعاد بعدها الى تونس ليتولىّ فيها مناصب حساسة وخطيرة .

والهدف من هذا الانقلاب كما فهمته بعض العواصم المعنية بالملف التونسي هو القضاء على الوجود الفرنسي في المغرب العربي . وقد أثبت زين العابدين بن علي انضباطا كبيرا في خدمة النظام التونسي وتميزّ بطول الباع في المرحلة البورقيبية , وفي بيانه الأول وعد بأن ينقذ تونس من الانهيار الاقتصادي والسياسي ووعد بوضع برنامج متماسك يسمح لتونس بأن تصبح دولة ديموقراطية حقا دولة , الحريات الأساسية والنقابية وحرية التعبير والرأي والصحافة . (2)

(1) مجلة جون أفريك التي تصدر في باريس بتاريخ تشرين الأول – أكتوبر 1987 .

(2) جريدة السفير البيروتية في 08تشرين الثاني – نوفمبر 1987 .


وقد لاقى هذا الطرح ترحيبا من قبل المعارضة بشكل عام , وحتى المعارضة الإسلامية بزعامة راشد الغنوشي أبدت ترحيبها بالتغيير المبارك في تونس . وبالفعل بدأ زين العابدين بن علي حكمه بكثير من الانفتاح على المعارضة وأطلق سراح العديد من سجناء الرأي والسجناء السياسيين من مختلف التنظيمات والانتماءات الإيديولوجية .

وحتى الإسلاميون الذين حملوا السلاح ضدّ نظام الحبيب بورقيبة من عناصر طلائع الفداء الإسلامي أطلق سراحهم وصدرت في حقهم قرارات العفو , وتمّ العفو عن عناصر حزب التحرير وغيرهم .

لكنّ هذا الانفتاح لم يدم طويلا وشهر العسل لم يستمر طويلا مع المعارضة اذ سرعان ما تبينّ أن العهد الجديد مناور وليس صاحب ثوابت وهو الأمر الذي جعل الطبقة السياسية في تونس والمعارضة منها على وجه التحديد ترى أنّ الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي هما في الواقع وجهان لعملة واحدة , فالتغيير الحاصل لم يطاول النهج السياسي بل طاول الأشخاص والوجوه لا أكثر ولا أقلّ , والديموقراطية التي وعد بها زين العابدين بن علي كانت حكرا على الحزب الدستوري الحاكم ومن يدور في فلكه .

وإزاحة الحبيب بورقيبة عن الحكم وكما وصفها بعض الخبراء التونسيين كانت تندرج في سياق الخطوات الضرورية للحفاظ على النظام , فتمّت التضحية بشخص أنهكه المرض ليبقى النظام سليما بعيدا عن مخاطر الانهيار . وبناءا عليه فالتغيير الذي حصل هو تغيير شكلي وليس مركزيّا و لأجل ذلك بقيت الأزمة السياسية تراوح مكانها في تونس وحتى في العهد العابديني الجديد ..

الحركة الاسلامية في تونس – البدايات

يذهب بعض الباحثين والكتّاب إلى القول بأنّ الحركة الإسلامية التونسية عريقة عراقة جامع الزيتونة في تونس , ومعروف أنّ هذا الجامع لعب دورا كبيرا في تاريخ تونس كما ساهم في الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية لتونس ووقف سدّا منيعا في وجه الاستعمار الفرنسي الذي كان يعمل على فرنسة تونس وجرّها إلى دائرة التغريب والفرنسة .

وقد خرجّ جامع الزيتونة عشرات الشخصيّات المغاربية التي قادت العمل الوطني والنضالي في أقطار المغرب العربي , وكان مناهضو الاستعمار يلجأون إلى الزيتونة لإكمال دراستهم والتزوّد من معين الوطنية والإسلام , وعلى سبيل المثال لا الحصر فانّ رئيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس قد درس في جامع الزيتونة , والرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين درس في جامع الزيتونة هو الأخر ,كذلك شيخ الحركة الإصلاحية في تونس الشيخ الثعالبي وغيرهم .

ويرتبط ظهور الحركات الإسلامية في تونس بتحركات بدأت في جامع الزيتونة في أواخر الستينيات حيث شرعت شخصيّات إسلامية منها الشيخ عبد القادر سلامة ومحمد صالح النيفر والشيخ بن ميلاد في إلقاء محاضرات ومواعظ ودروس دينية وبعض هذه المحاضرات كانت تنتقد الحالة السياسية والثقافية والاقتصادية في تونس .

وكان من بين الذين درسوا في الزيتونة في هذه الفترة بالذات عبد الفتّاح مورو أحد أهمّ المشاركين في تأسيس الحركة الإسلامية المعاصرة في تونس , وبدأ مهمته تلك في عقد صلات وثيقة بشخصيات وأوساط تونسية

ويقول الدكتور حيدر إبراهيم علي صاحب كتاب التيارات الإسلامية وقضية الديموقراطية أن تاريخ الحركة الإسلامية التونسية هو التاريخ الموازي والمضاد للبورقيبية وفي إطار أوسع للغرب , فقد كان الحبيب بورقيبة من أكثر الزعماء صراحة في إعجابه بالثقافة الغربية , وكان أحيانا يعبّر عن استيائه للثقافة العربية التي تشتمل ضمنا بعض العقائد الإسلامية والدينية ..

ويقول الباحث هشام جعيّط عن الحبيب بورقيبة : بقيّ بورقيبة بالفعل مبهورا بأوروبا ولا سيمّا بفرنسا , وهو يشمئزّ في قرارة نفسه من الفكرة العربية والمشرق ويعتبره عالما مغايرا تماما لعالمه وله الشعور أنّ العروبة صيغة رجعية مغرقة في التقاليد واللاعقلانيّة وأنّ القومية العربية فكرة ديماغوجيّة . لقد شكلّت علمانية بورقيبة خطرا على الأمن الثقافي التونسي حيث أصبحت الهويّة العربية والاسلامية مهددّة في تونس , كما أصبحت القيّم الإسلامية مطموسة بسبب المناهج التعليمية والخطط الإعلامية المستوحاة من توجيهات بورقيبة العلمانية , وهذا ما جعل الحركة الإسلامية التونسية تركّز على الجانب الفكري والتربوي والثقافي والتأكيد على أنّ الإسلام حضاريّ في بعده , وأنّ الحضارة الغربية بإفرازاتها المادية خطرة على المجتمع التونسي وهي تهددّ الكيّان التونسي بالانهيار الكامل .

وفي بداية السبعينيات التقى عبد الفتّاح مورو براشد الغنوشي الذي كان في وقت سابق معجبا بالفكر القومي الناصري ثمّ تبنىّ الفكر الإسلامي , ونشأت صداقة بينهما انعكست على نشاطهما السياسي فيما بعد .

ولد راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة في حامة قابس ودرس المرحلة الابتدائية في بلدته حامة قابس , والمرحلة الثانوية في المدرسة الثانوية التابعة لجامعة الزيتونة ثمّ انتقل إلى بلدة مثيلبة حيث نال الشهادة الأهلية – المتوسطة – ومن تمّ درس في المدرسة الخلدونية في العاصمة التونسية وبعد ثلاث سنوات حصل على الثانوية العامة .عمل في بداية حياته العملية معلماّ في مدينة قفصة حتى سنة 1964 , وبعدها سافر إلى دمشق ليدرس الفلسفة حيث حصل على إجازة في الفلسفة سنة 1968 .وفي دمشق تسنىّ له أن يقرأ النتاجات الفكرية للإخوان المسلمين وتحديدا ما كتبه سيد قطب وأبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان . وبعد إتمام دراسته في دمشق عاد راشد الغنوشي إلى تونس سنة 1969 , وباشر التدريس في ثانويات تونس العاصمة و حمّام الأنف والقيروان . وفي سنة 1979 ترك التدريس وتفرغّ لاستكمال دراساته العليا في الشريعة الإسلامية .(1)

(1) مستقبل الأصولية في العالم العربي إصدار المركز العربي للمعلومات في بيروت .


وفي سنة 1970 قررّ مع عبد الفتّاح مورو الشروع في إعطاء دروس وإقامة حلقات دينية تعليمية في المساجد , وكانت جلّ هذه الدروس تتمحور حول حضارية الإسلام وخطورة الثقافة الغربية المادية .(1)

وأنضما كلاهما إلى جمعية المحافظة على القرآن الكريم سنة 1971 وأخذا يمارسان نشاطهما. ومن جامع سيدي يوسف في العاصمة التونسية بدأت الفكرة الإسلامية تسطع وبدأت الفكرة الإسلامية تخرج من دائرة المسجد إلى دائرة الجامعة .

وقد عمل راشد الغنوشي وعبد الفتّاح مورو على إقناع أكبر عدد ممكن من النخب المثقفة في المساجد والمعاهد التعليمية بأنّ الإسلام هو البديل الحضاري الحيّ , وشرع راشد الغنوشي في كتابة مقالات في جريدة الصباح اليومية والتي أتاحت له نقل أفكاره إلى أكبر شريحة ممكنة من المثقفين , كما كان يكتب في مجلة جوهر الإسلام لصاحبها الشيخ المستاوي . ومع بروز مجلة المعرفة التي كانت المنبر الفعلي للحركة الإسلامية في تونس كثفّ راشد الغنوشي من كتابة المقالات التي تتناول الحضارة الغربية وإفرازاتها الماديّة وانعكاساتها الخطيرة على مجمل الأوضاع في البلاد الإسلامية , وكان راشد الغنوشي في هذه المرحلة معجبا بفكر سيد قطب ومالك بن نبي وأبو الأعلى المودودي و محمد الغزالي.

وكانت مجلة المعرفة والتي كان راشد الغنوشي أحد كتّابها تركّز على مواجهة الفكر اليساري والعلماني وموضوع المرأة في الإسلام .وأثناءها تأسسّت مجلة المجتمع حيث بدأ معها الخطاب الإسلامي يتبلور شيئا فشيئا

ولم تكن هذه التحركات لراشد الغنوشي وعبد الفتّاح مورو بمنأى عن رصد السلطة التونسية التي كانت تراقب عن كثب هذه التطورات وخصوصا بعد أن أصبحت الظاهرة الإسلامية بارزة في الجامعات والثانويات والمعاهد التعليمية والمساجد .

وبعد سنوات من النشاط المتواصل انعقد اجتماع سرّي عام 1979 بضاحية منوبة في تونس قررّ إثرها راشد الغنوشي وعبد الفتّاح مورو تأسيس تنظيم إسلامي على غرار تنظيم الإخوان المسلمين , أطلقوا عليه اسم : الجماعة الإسلامية .

(1) الإسلام الاحتجاجي في تونس لعبد الباقي هرماسي .


وكان بعض الحضور يرفض فكرة التنظيم وطالب بإبقاء الحركة الإسلامية في تونس بعيدة عن متاهات التحزّب و السياسة , والاسترسال في العمل الثقافي والتعليمي والتربوي والاجتماعي . ومن الذين عارضوا فكرة التنظيم أحميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي وزيّاد كريشان الذين فضلّوا تأسيس جماعة أطلقوا عليها اسم الإسلاميون التقدميون , وكانوا يتحركون في الخطّ الثقافي العام .

واثر إعلان الحزب الدستوري الحاكم في تونس عن مشروع التعددية السياسية سنة 1981 , بادر أعضاء الجماعة الإسلامية التي كان يتزعمها راشد الغنوشي إلى عقد مؤتمر عام أعلنوا في ختامه عن حلّ الجماعة الإسلامية وتأسيس حركة جديدة باسم حركة الاتجاه الإسلامي , وأنتخب راشد الغنوشي رئيسا لها وعبد الفتّاح مورو أمينا عاما لحركة الاتجاه الإسلامي , وتمّ الإعلان رسميا عن هذه الحركة في 06-06-1981 , وتقدمّت هذه الحركة الجديدة بطلب إلى وزارة الداخلية للحصول على اعتماد رسمي , ولم تتلق هذه الحركة أيّ جواب من وزارة الداخليّة .

وفي تموز – يوليو 1981 ألقيّ القبض على راشد وأحيل إلى المحاكمة في تشرين الأول سنة 1981 مع مجموعة من قيادة حركة الاتجاه الإسلامي بتهمة الانتماء إلى جمعية غير مشروعة وحكم عليه بالسجن لمدّة 10 سنوات وبعد ثلاثة سنوات من الاعتقال جرى إطلاق سراحه في 02-08-1984 بعفو رئاسي بعد وساطة من رئيس الحكومة آنذاك محمّد المزالي .

وعندما كان راشد الغنوشي معتقلا تولىّ قيادة حركة الاتجاه الإسلامي كل من الفاضل البلدي وحمّادي الجبالي . وفي شهر كانون الأول – ديسمبر 1984 عقدت حركة الاتجاه الإسلامي مؤتمرا سريّا انتهى إلى تثبيت راشد الغنوشي وعبد الفتّاح مورو على رأس الحركة .

وفي 06- 06 – 1985 عقدت حركة الاتجاه الإسلامي مؤتمرا صحفيّا كشفت فيه علانيّة في الذكرى الرابعة لتأسيها عن وثائق مؤتمرها السرّي وأسماء أعضاء المكتب السياسي والذين كان من بينهم راشد الغنوشي وعبد الفتّاح مورو وصالح كركر وصادق شورو وحمّادي الجبالي وعلي العريض وفاضل البلدي , وكان هؤلاء يتولون مسؤوليّات مركزية في حركة الاتجاه الإسلامي .

و أعيد اعتقال راشد الغنوشي في شهر آب – أغسطس 1987 وحوكم مع مجموعة من رفاقه بتهمة قيّام عناصر من حركة الاتجاه الإسلامي بتفجير أربعة فنادق سياحية في تونس العاصمة في شهر آب – أغسطس 1987 . وقد أنكر راشد الغنوشي هذه التهمة ونددّ بأعمال العنف التي شهدتها تونس غير أنّ محكمة أمن الدولة حكمت عليه بالسجن المؤبّد بتهمة تهديد أمن الدولة والاتصال بدولة أجنبيّة هي إيران , كما حكم بالإعدام على سبعة من رفاقه و نفذّ الحكم في اثنين منهما.

وبعد ذلك أصدر الرئيس زين العابدين بن علي عفوا عن راشد الغنوشي بمناسبة عيد الفطر في 15 – 05 – 1988 حيث غادر بعدها تونس .

(1) أنظر الحركة الإسلامية في تونس لمصطفى التواني , وتحليل العناصر المكونة للحركة الإسلامية في تونس لراشد الغنوشي .

الجماعة الاسلاميّة التونسيّة بين 1971- 1981

بين سنتي 1971 و 1981 أي فترة عشر سنوات كانت الجماعة الإسلامية التي تزعمها راشد الغنوشي تقصر عملها على النشاط الثقافي والتربوي والفكري , وكانت الحلقات الداخليّة التي تعقد بين كوادر الجماعة الإسلامية تساهم في بلورة العديد من الطروحات والأفكار بين أعضاء الجماعة الإسلامية .

ويقول بعض الكتّاب (1) أنّ الحركة الإسلامية التونسية استفادت من تسامح السلطة مع انحسار التأييد لها نتيجة تفاقم المشكلة الاقتصادية بالإضافة إلى محاولة السلطة لتحسين علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية خلافا لموقفها الصدامي السابق .

ويتوافق كثير من الباحثين على أنّ البورقيبية كنهج فكري وسياسي ساهمت إلى أبعد الحدود في إفراز التيار الإسلامي , ذلك أنّ التطرفّ في تبنيّ الطروحات الغربية أدىّ إلى ردة فعل للنخب التي لا تؤمن بالبديل الغربي في تونس .

ولاشكّ في أنّ مؤسسي الجماعة الإسلامية قد تأثروا الى أبعد حدّ بكتابات المفكرين الإسلاميين من أمثال سيد قطب وأبو الأعلى المودودي ومالك بن نبي وحسن البنا وغيرهم. وقد ركزّ هؤلاء المفكرون في كثير مما كتبوه على إبراز الجوانب الحضارية للإسلام وضرورة أن يصبح الإسلام هو البديل الحقيقي لأزمة الحضارة الإنسانيّة .

وعندما تأسست الجماعة الإسلامية التونسية كانت مجرّد جماعة ثقافية وفكرية تتحرك من منطلق بعث الشخصية الإسلامية ووضع حدّ للإنسلاب الثقافي والتبعية للغرب وتجديد الفكر الإسلامي , وكانت المنطلقات الثقافية والفكرية تحول دون دعوة هذه الجماعة إلى العنف لأنّها كانت تعتبر معركتها ثقافية بالدرجة الأولى في صراعها مع التيارات العلمانية التي كانت تجرّ تونس إلى دائرة التغريب .

(1) الحامدي في أشواق الحرية : قصة الحركة الإسلامية في تونس . وعبد اللطيف الهرماسي في كتابه الحركة الإسلامية في تونس وغيرهما .


وقد أنعكس تاريخ تونس الخاص على فكر الحركة الإسلامية في تونس من قبيل رفض العنف كأداة للتغيير وتركيز الصراع على أسس شوروية تكون هي أسلوب الحسم في مجالات الفكر والثقافة والسياسة .(1)

وفي مكان أخر يقول الهاشمي الحامدي : ربمّا على العكس ما كان يشتهي البعض لم يدخل الإسلام السياسي الساحة مطالبا بتطبيق الشريعة الإسلامية وتنفيذ الحدود وتعديل قانون الأحوال الشخصية حتى تنهال عليه سهام الدعاية العلمانية التقليدية الممجوجة وإنّما حددّ قادة الحركة الإسلامية ( في تونس ) معركتهم منذ البداية , إنّها معركة الحرية . (2)

ويعترف راشد الغنوشي أنّ الظاهرة الإسلامية في تونس وغداة انطلاقها كانت تخضع لتجاذبات عناصر قد تكون متناقضة وهي التي أدّت إلى توزّع الفكرة الإسلامية على ثلاثة أجنحة . فالعنصر الأول ويتمثل في التديّن التقليدي التونسي ويتكوّن من التقليد المذهبي المالكي والعقائد الأشعرية والتربية الصوفية أو كما صاغها ابن عاشر في عقد الأشعري وفي فقه مالك وفي طريقة جنيد السالك .

والعنصر الثاني ويتمثل في التديّن السلفي الإخواني الوارد من المشرق والذي يتكوّن بدوره من المنهجية السلفية أو الأصولية أي العودة إلى الكتاب والسنة المطهرة أو الرجوع إلى سلطة النص الديني بالاضافة الى الفكر السياسي والاجتماعي و الاخواني القائم على شمولية الإسلام ومبدأ حاكميّة الله وتكفير الأنظمة القائمة ثمّ منهج تربوي ومنهج فكري يميّز كل الأمور بحسب العقيدة وينتهي إلى تصنيف الناس إلى كفّار ومؤمنين حتى في الصراع السياسي . والعنصر الثالث يتمثل في التديّن العقلاني ويتألف من التراث العقلاني الإسلامي وذلك من خلال ردّ الاعتبار إلى المنهج الاعتزالي والمعارضة السياسية في التاريخ الإسلامي كالخوارج والشيعة والزنج والتيارات المناوئة للسلفية وأهل السنة عموما , والنقد الجذري للإخوان المسلمين وإعادة الاعتبار للمدرسة الإصلاحية التي مثلّها محمد عبده و الكواكبي والأفغاني والطهطاوي وقاسم أمين وخير الدين التونسي والطاهر حدّاد .

(1) الحريات العامة في الدولة الإسلامية لراشد الغنوشي.

(2) أشواق الحرية الإسلامية : قصة الحركة الإسلامية في تونس للهاشمي الحامدي


ويرى هذا التيار اعتماد الفهم المقاصدي للإسلام بدل الفهم النصي , كما يرى هذا التيار وجوب ردّ الاعتبار إلى الغرب والاستفادة من اليسار في تنظيماته وثقافته وعلومه الإنسانية وفي مقابل اعتماد التديّن الإخواني المقياس العقيدي في تقسيم الناس إلى كافر ومسلم أعتبر التدينّ العقلاني ذلك تهميشا للصراع الحقيقي , إذ ينبغي أن يقوم التقسيم على أسس سياسية واجتماعية , وطني وخائن, ثوري ورجعي .

وهذه الأجنحة الثلاث التي جاء على ذكرها راشد الغنوشي كانت موجودة داخل الجماعة الإسلامية التي عرفت كل هذه الأفكار والطروحات . فالجماعة الإسلامية التونسية كانت تضمّ عناصر من مختلف المشارب الإسلامية ومختلف الرؤى السائدة في الدائرة الإسلامية .

وكانت الجماعة الإسلامية التونسيّة تركّز على :

-الدروس الوعظية والحلقات الدراسية في المساجد .

- تكثيف المحاضرات في المعاهد الثانوية والجامعات .

- إقامة معارض للكتاب الإسلامي وما يتخلل ذلك من عقد ندوات وحلقات دراسية .

- المشاركة في مؤتمرات إسلامية داخلية وخارجية كملتقى الفكر الإسلامي الذي كان يعقد سنويّا في الجزائر .

- إقامة صلات ومدّ جسور مع شخصيات إسلامية خارج تونس على قاعدة التواصل الثقافي والفكري .

- تركيز الدعوة في أوساط النساء لإقناعهنّ بارتداء الحجاب وتبنّي الفكر الإسلامي على أساس أنّ المرأة نصف المجتمع وعلى أساس أنّ النظام التونسي عمل المستحيل من أجل تغريب المرأة التونسية .

- نشر المقالات الهادفة والواعية في جرائد الصباح , المعرفة والجيب والفجر في وقت لاحق .

ومن خلال هذه المنابر الإعلامية كانت الجماعة الإسلامية وبعدها حركة الاتجاه الإسلامي تعبّر عن طروحاتها وتفاعلها مع القضايا العامة وموقف الإسلام منها .

وكانت الأدبيات الخاصة بالجماعة الإسلامية في هذه المرحلة ثقافية وفكرية بعيدة عن السجال السياسي .

وكانت تحدث إسقاطات على الواقع المعيش , فالغنوشي مثلا وعندما كان يلقي محاضرات عن العلمانية وضررها على المجتمعات الإسلامية كان البعض وخصوصا في دوائر السلطة يفهمون ضمنا أنّه يقصد الحالة التونسية و النظام تحديدا لكنّ الغنوشي لم يكن يسمّي الأشياء بمسمياتها .

وكانت الحلقات الداخلية للجماعة الإسلامية التونسية تركّز على أساليب تفعيل الدعوة الإسلامية وتكثيف التبليغ الإسلامي في مؤسسات التربية والتعليم وإيصال التبليغ الإسلامي إلى القرى والأرياف .

وكان الغنوشي باستمرار يعلن أنّه ضدّ العنف والعنف المضاد وهذا ما جعل السلطة التونسية تغضّ الطرف عن تحركاته , لكنهّا كانت تحصي كل أنفاسه لمعرفة وجهة الغنوشي والى أين يريد أن يصل هذا الرجل .

ولم تكن للجماعة الإسلامية فروع في القرى والأرياف بل كانت هناك شخصيات تونسية إسلامية متعاطفة مع هذه الجماعة وكانت تستقبل الغنوشي بين الفينة والأخرى في بعض الأقاليم التونسية .وأستطاعت الجماعة الإسلامية أن تخرج من تونس العاصمة إلى العديد من المناطق التونسية. و كانت حلقات التشاور والبحث في مستقبل الدعوة الإسلامية في تونس وكيفية تفعيلها تتمّ في البيوت و بعض المساجد , ولأنّها لم تكن تنظيما كباقي التنظيمات فقد كانت الجماعة الإسلامية تعتمد على تبرعات من عناصرها وخصوصا عندما تقام معارض الكتاب الإسلامي , وكان أغلب المنتمين إلى هذه الجماعة يعملون في حقل التربية و التعليم .

وكانت الجماعة الإسلامية على علاقة ببعض الشخصيات والتيارات الإسلامية خارج تونس , وكانت بعض الحلقات الداخلية في هذه الجماعة تعالج التجارب الإسلامية في خط طنجة – جاكرتا . وتمكنّت الجماعة الإسلامية من استقطاب العديد من المثقفين والجامعيين والمعلمين حتى عرفت هذه الجماعة بجماعة النخبة , وربما هذا ما أدّى الى عدم تحوّل الجماعة الإسلامية إلى مدّ جماهيري كما هو شأن الجبهة الإسلامية للإنقاذ وبقية التيارات الإسلامية في الجزائر .

وعن حركة الإسلامية التونسية يقول أحد مؤسسيها راشد الغنوشي أنّ الحركة الإسلامية التونسية لم تظهر في مجتمع بدوي تسوده علاقات الفطرة بل ظهرت في مجتمع أرهقته الحضارة الغربية وفتّ عضده ونخر كيانه تقليد الغرب والجري وراء المظاهر الزائفة من حضارته , لقد خيّل لزعماء البلاد وكلهم إعجاب بالغرب أننّا لن ننضمّ إلى ركب المتحضرين الغربيين حتى نسير سيرتهم في مظاهر حياتهم . (1)

وعلى الرغم من حدّة التغريب والتبعية المفرطة للغرب في تونس ثقافيا واقتصاديا وسياسيا, فقد تمكنت الجماعة الإسلامية من إعادة بعث الشخصية الإسلامية في تونس , وتمكنت هذه الجماعة من تجنيب نفسها معارك جانبية مع السلطة ومع القوى العلمانية الموجودة في الخارطة السياسية التونسية . ونجحت في تكريس القيم الإسلامية في وقت كان فيه لبورقيبة إجتهادات غريبة من قبيل إباحة الإفطار في شهر رمضان على اعتبار أنّ الإفطار يعززّ قوة الإنتاج الاقتصادي والصوم يضعف الإنتاج الاقتصادي , ومن قبيل أنّ الحج يشكّل استنزافا للعملة الصعبة وتونس في حاجة ماسة إلى هذه العملة الصعبة , ولنشر هذه المفاهيم الخاطئة عن الإسلام كانت السلطة التونسية تعيّن مباشرة أئمة المساجد وكانت خطب الجمعة تصاغ في وزارة الشؤون الدينية .

وكانت الجماعة الإسلامية تقوم بعمل موازي حيث كانت تقدم ما أصطلحت على تسميته بالصورة الناصعة للإسلام الحضاري وذلك عبر أسلوب ثقافي وتربوي لا يستفّز السلطة لكن يجعلها في حذر دائم ..

(1) المرأة المسلمة في تونس لراشد الغنوشي . عن دار التعلم في الكويت

حركة الاتجاه الاسلامي التونسية ( 19811989 )

اثر إعلان الحزب الدستوري الحاكم في تونس عن مشروع التعددية السياسية في سنة 1981 بادر أعضاء الجماعة الإسلامية إلى عقد مؤتمر أعلنوا في ختامه عن حلّ الجماعة الإسلامية وتأسيس حركة جديدة باسم حركة الاتجاه الإسلامي ,أنتخب راشد الغنوشي رئيسا للحركة والشيخ عبد الفتّاح مورو أمينا عاما للحركة , وتمّ الإعلان عن الحركة بشكل رسمي في 06-06-1981 وتقدمّت في اليوم نفسه بطلب إلى السلطات للحصول على اعتماد رسمي ولم تتلق الحركة أيّ ردّ من الجهات المعنية .

وفي شهر تموز – يوليو 1981 تمّ إلقاء القبض على راشد الغنوشي و أحيل إلى المحاكمة في العام نفسه مع مجموعة من قيادات حركة الاتجاه الإسلامي بتهمة الانتماء إلى جمعية غير شرعية وحكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات أمضى ثلاث سنوات منها في السجن , وأفرج عنه في 02-08-1984 بعفو رئاسي بعد وساطة من رئيس الحكومة في ذلك الوقت محمد مزالي , وأثناء اعتقاله خلف الغنوشي في قيادة الحركة الفاضل البلدي ثمّ حمادي الجبالي .

وقد عقدت حركة الاتجاه الإسلامي مؤتمرا سريّا في كانون الأول – ديسمبر 1984جرى فيه تثبيت زعامة الغنوشي وعبد الفتّاح مورو . وفي 06- 06 – 1985 عقدت الحركة مؤتمرا صحفيا كشفت فيه علانية في الذكرى الرابعة لتأسيسها عن كل أوراقها وأسماء أعضاء المكتب السياسي المنتخب .

وعندما اندلعت أعمال العنف في تونس ووضعت عدة عبوات ناسفة في فنادق سياحية أعيد اعتقال راشد الغنوشي في أغسطس – آب 1987 بتهمة أنّ له صلة بأحداث العنف والتفجيرات التي عرفتها تونس في ذلك الوقت . و حكمت عليه محكمة أمن الدولة بالسجن المؤبّد وذلك بتهمة تهديد أمن الدولة والتواطؤ مع دولة أجنبية هي إيران .

وفي 15- 05- 1988 أصدر الرئيس زين العابدين بن علي عفوا خاصا عن الغنوشي وذلك بعد وصوله إلى السلطة وانقلابه على الحبيب بورقيبة

و فكرة تأسيس حركة الإتجاه الإسلامي ذات الطابع السياسي لم تكن محل إجماع بين كل عناصر الجماعة الإسلامية , و حول مستقبل الإتجاه الإسلامي برز اتجاهان الأول يمثله راشد الغنوشي و عبد الفتاح مورو وكان يريان ضرورة المضيّ بالحركة نحو بلورة تنظيم على غرار تنظيم الإخوان المسلمين , والاتجاه الثاني ومن رموزه صلاح الدين الجورشي وأحميدة النيفر وزيّاد كريشان الذين رفضوا النموذج الإخواني و أقترحوا إبقاء الحركة في بوتقتها الفكرية والثقافية , ومن رحم الاتجّاه الثاني تأسسّ ما عرف بالإسلاميين التقدميين.

وكانت هناك مبررات عديدة جعلت الجماعة الإسلامية تخرج من الدائرة الفكرية والى الدائرة السياسية , ومن هذه المبررات :

- نضج الخطاب الإسلامي وبداية اقتناع كوادر الفكرة الإسلامية بضرورة لعب دور في الواقع السياسي التونسي .

- إغراق السلطة التونسية في حالة التبعية وضرورة التصدّي لها من خلال المساهمة في التغيير السياسي .

- تحديّات التيارات والقوى العلمانية والتغريبية.

- التحديات التي عاشها العالم العربي والإسلامي مثل أحداث أفغانستان ولبنان وفلسطين وغيرها .

- انتصار الثورة الإسلامية في إيران .

وكل هذه العوامل الداخلية والخارجية أملت على راشد الغنوشي ورفاقه ضرورة تكوين حزب سياسي . وفي حزيران – يونيو 1981 أعلن راشد الغنوشي عن تحويل الجماعة الإسلامية إلى حزب سياسي تحت اسم الاتجاه الإسلامي برئاسة راشد الغنوشي , و عضوية عبد الفتاح مورو الذي أصبح أمينا عاما لحركة الإتجاه الإسلامي , وبن عيسى الدمني مسؤولا عن الاتصالات وحبيب المكني مكلفا عن بالإعلام .

وقد رفضت وزارة الداخلية التونسية جملة وتفصيلا الترخيص لحركة الاتجاه الإسلامي وللحؤول دون أن تكبر في الواقع السياسي التونسي بادرت إلى اعتقال كل قيادات حركة الاتجاه الإسلامي .

وفي بيانها التأسيسي ركزّت حركة الاتجاه الإسلامي على ضرورة تحصين الشخصية التونسية من الذوبان في إفرازات التغريب ووضع حدّ لحالة التبعية المطلقة للغرب , وإعادة بعث الإسلام الحضاري ليلعب دوره الكامل في الواقع التونسي المتجذّر في عمق الحضارة الإسلامية , والمساهمة في تأسيس كيان تونسي منسجم كل الانسجام مع حضاريّة الإسلام وإعادة توزيع الثروات توزيعا عادلا .

وكانت السلطات التونسية تنظر إلى هذا التنظيم السياسي الجديد بكثير من القلق والحذر خوفا من تكرر التجربة الإيرانية في تونس والتي كان راشد الغنوشي ورفاقه يمدحونها كثيرا ويبدون إعجابهم بها , وكانوا يعلنون جهارا تأييدهم لها , وخوفا أيضا من تكرار التجربة الجزائرية حيث خرجت التنظيمات الإسلامية في الجزائر من قمقمها إلى العمل العلني , وبروز الحركة الإسلامية المسلحة في الجزائر بقيادة مصطفى بويعلي .(1)

وما زاد في قلق السلطات التونسية هو وقوع إنفجارات في بعض الفنادق التونسية , ومعروف أنّ تونس تعتمد بالدرجة الأولى على صناعة السياحة , ولأجل كل ذلك قامت السلطة التونسية باعتقال راشد الغنوشي حيث حدث عندها أول صدام سياسي بين السلطة التونسية وحركة الاتجاه الإسلامي و خصوصا عندما تورطّ بعض الإسلاميين في أعمال عنف اتخذتها الحكومة التونسية ذريعة للقمع والعنف الرسمي , ويورد بورجا صاحب كتاب الإسلام السياسي , صوت الجنوب مشاهد عديدة لبدايات الصدام بين السلطة والإسلاميين في تونس منها ما حدث في الحرم الجامعي في شباط – فبراير 1981 حيث تمّ سجن عميد كلية جامعية وتهديده بالقتل عندما تدخلت الشرطة في الحرم الجامعي و أشتبكت مع الإسلاميين , وكذلك حاول الإسلاميون منع المفطرين في شهر رمضان وتصادموا مع الشرطة في حزيران – يونيو 1981 بعد حريق الباخرة الروسية

(1) أنظر كتاب الحركة الإسلامية المسلحة في الجزائر ليحي أبو زكريا , الصادر عن دار التعارف في بيروت .


التي كان يجري تصليحها في الميناء , وكان المتظاهرون يرفعون شعارات إسلامية , كما وقع تخريب لنوادي القمار في تونس ووقع تصادم بين الإسلاميين والشرطة التونسية في 17 تموز – يوليو 1981 و في اليوم التالي من هذا التاريخ جرى اعتقال راشد الغنوشي زعيم حركة الاتجاه الإسلامي وأمين الحركة العام عبد الفتّاح مورو وعدد من أعضاء المكتب السياسي باستثناء الحبيب المكني وعدد كبير من المتعاطفين مع حركة الاتجاه الإسلامي , وقد صدرت ضدّهم مجموعة من الأحكام تراوحت بين عامين إلى اثني عشر عاما .

وقد تمّ تعيين حمادي الجبالي مسؤولا للمكتب التنفيذي الجديد . وذهب الإسلاميون التقدميون إلى القول بأنّ الجماعة الإسلامية أو حركة الإتجاه الإسلامي لو بقيت على ما كانت عليه وأنصرفت إلى الدعوة الإسلامية بشكل هادئ ومتزن لما تعرضّت الحركة الإسلامية التونسية إلى هذه المحنة , وكانت عناصر من جماعة الإسلاميين التقدميين ترى أنّ المجتمع التونسي لم ينضج بعد لاستيعاب مفاهيم الإسلام السياسي خصوصا وأنّ نهج الحكم العلماني والتغريبي قد خلفّ في تونس أثارا لها أولّ وليس لها أخر على المجتمع التونسي أفضت إلى تشويه الشخصية التونسية .

والجدل الواسع بين الثقافي والسياسي داخل الحركة الإسلامية التونسية وعلى رأسها حركة الاتجاه الإسلامي استمرّ متواصلا إلى وقت لاحق حتى عندما أصبحت حركة الاتجاه الإسلامي تحمل عنوانا جديدا هو حزب النهضة .

وإذا كانت السلطة التونسية قد اتهمّت حركة الاتجاه الإسلامي بالوقوف وراء أعمال العنف , فانّ الحركة الإسلامية التونسية وعلى رأسها حركة الاتجاه الإسلامي كانت تدفع عنها تهمة العنف , ويته راشد الغنوشي السلطة التونسية بأنها هي صانعة العنف ومهندسته الأسّاسية وفي هذا السيّاق يقول :

أبرز ما يسم علاقة الدولة التابعة بمجتمعها هو علاقة العنف , انّ التغريب في حدّ ذاته هو أبرز و أفدح ألوان العنف الذي تمارسه الدولة , انّه عملية سلخ مجتمع عن أصوله وضميره من أجل ما يسمى بالحداثة وهي في الحقيقة ديكتاتورية الغرب على شعوبنا من خلال وساطة جماعة التحديث والتغريب على النمط الغربي نقيضا كاملا للديموقراطية من كل وجه. (1)

ويكمل الغنوشي الصورة بقوله : فإذا أضفنا إلى هذا القمع الاجتماعي والسياسي الرسمي ما تمارسه بعض فصائل المعارضة بدافع الغيرة والحسد والخوف من تنامي الإتجاه الإسلامي وما تمارسه من دسّ و إيغار للصدور بل من عنف ضدّ كل منافسيها السياسيين الذين أستطاعت بأساليبها الإرهابية أن تصفيّهم تقريبا وتخرجهم من حلبة الصراع حتى إذا جربّت ذلك مع الإتجاه الإسلامي تصدّى لها دفاعا عن الحرية العامة .

ويجزم الغنوشي أنّ حركة الاتجاه الإسلامي كانت ترفض العنف وهذا ما يفسّر وقوف قواعد الاتجاه الاسلامي ضدّ أعمال التخريب التي كان يغذيها شعور الفتيان في المعاهد التعليمية بالحيرة والقلق وغموض المستقبل وديكتاتورية الإدارة كما تغذيها أطراف سياسية داخل النظام وخارجه تتبنىّ العنف منهاجا , وعلى رغم ما أجتهد بعض الحاقدين ممن لا خلاق لهم في إلباس الاتجاه الإسلامي لبوس العنف في الأحداث المدرسية الأخيرة فإنني أؤكد وسيكشف التاريخ ذلك أنّه لولا تصدّي الاتجاه الإسلامي في المدارس لأعمال التخريب لما بقيّ شيئ قابل للكسر أو الحرق لم يكسر ولم يحرق .

ويقول الباحثون الذين تتبعوا مسار الحركة الإسلامية التونسية أنّ الغنوشي كان يرفع شعار الديموقراطية وحقوق الإنسان ونبذ العنف في مرحلة كان يعمل فيها على تكريس حزبه الاتجاه الإسلامي في الواقع السياسي التونسي , ذلك أنّ قواعد اللعبة السياسية كانت تقتضي أن يناور الغنوشي إلى حدّ ما , لكن بعدما تبينّ له أنّ السلطة التونسية لا يمكن على الإطلاق أن تستوعب وجود حركة إسلامية سياسية تتبنىّ المشروع الإسلامي وتحارب التغريب .

وبعد انقلاب السلطة الجزائرية على مشروع الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر , بدأ الغنوشي يطلق تصريحات ومواقف تدين كافة الأنظمة , وأخذ يدعو إلى الجهاد على المنظومات السياسية القائمة وفي تصريحه لصحيفة الإنقاذ الوطني السودانية قال الغنوشي : والجهاد ضدّ أنظمة الكفر والاستبداد والعشائرية والتجزئة والولاء للأجنبي - وتكاد أنظمة العالم الإسلامي لا تخرج من هذه الأوصاف – فانّ للأمة الإسلامية أن تنهض بمهام الصراع الحضاري والشهادة للمشروع الحضاري الإسلامي , فلا مناص من تركيز الجهد الجماهيري على مجاهدة هذه الأنظمة الخائنة لتعريتها وتوهينها و إرضاخها لسلطة الشعب والإطاحة بها .(1)

وهذا الكلام الذي كررّه راشد الغنوشي في أكثر من مكان وأدلى به لأكثر من منبر إعلامي أخذ يطلقه بعد مغادرته تونس حيث حكم عليه بالسجن المؤبّد .

ويمكن القول أنّ الغنوشي بات مقتنعا أنّ الديموقراطية هي حكر على طبقة سياسية معينة , وفي حال حققّ التيار الإسلامي لأيّ نجاح وعبر القواعد المعترف بها فانّ مصير هذا التيار وعاقبته ستكون على وتيرة ما حدث في الجزائر عندما ألغت الدبابة المشروع الديموقراطي,وعندما أسقطت الدبابة اختيار الشعب الجزائري .

المنطلقات الفكرية لحركة الاتجاه الاسلامي

تعتبر حركة الاتجاه الإسلامي جزء لا يتجزأ من الواقع السياسي التونسي وهي وان لم تتمكّن من التحول إلى الرقم الصعب في المعادلة السياسية التونسية , إلاّ أنّها أستطاعت أن تهزّ الواقع السياسي والذي كانت ترسم مساراته ومنحنياته القوى العلمانية والتغريبية .

وعندما تأسست حركة الاتجاه الإسلامي كان المناخ السائد في تونس مناخا تغريبيا تتجلى فيه الأنماط الغربية بكل صورها , وكان مشروع حركة الاتجاه الإسلامي مناقضا لمشروع الحكم والقوى السياسية التي كانت تسبح في فلك السلطة .

وكانت حركة الاتجاه الإسلامي ضدّ العلمانية مع الإسلام الحضاري , ضدّ الظلم مع الدولة العادلة ودولة الإنسان والعدالة , ضدّ الأحادية السياسية مع التعددية السياسية والإعلامية , ضدّ إغراق تونس في التبعية للغرب ومع عودة تونس إلى أصالتها وشخصيتها في نطاق المنطلقات الإسلامية , ضدّ مشروع بورقيبة الذي أغرق تونس في كمّ هائل ولا حدود له من المعضلات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والمعيشية , مع مشروع مغاير هو مشروع دولة الإسلام .

صحيح أنّ الغنوشي لم يكن يطرح هذا الطرح بشكل مباشر إلاّ أنّه وفي خطابات حركة الاتجاه الإسلامي كان يركّز على ضرورة المشروع الإسلامي وجاهزيته لقيادة الأمة .

وفي كتابه الحريات العامة في الدولة الإسلامية يقول راشد الغنوشي : أنّ السلطة وظيفة اجتماعية لحراسة الدين والدنيا والقيمّون على الدولة ليسوا إلاّ موظفين وخدّاما عند الأمة, والسلطة هي مدنيّة على كل وجه لا تختلف عن الديموقراطيات المعاصرة إلاّ من حيث علوية سيادة الشريعة الإسلامية أو التقنين الإلهي على كل سيادة أخرى في هذا النظام , أمّا ما تبقى فهو وسائل يؤخذ بها على قدر مساهمتها في تحسين أداء تلك الوظيفة ألا وهي في دحض الظلم وإقامة العدل على مقتضى الشرع الإلهي أي بحسب ما نصّ عليه أو تضمنّه أو بحسب ما لا يخالفه .

و يتضح من خلال هذا الكلام أنّ راشد الغنوشي كان يملك تصورا لما يجب أن تكون عليه الدولة أو السلطة , وهذا النموذج الذي كان يتحدث عنه مغاير كل المغايرة لما كان سائدا في المنظومة السياسية التونسية , وقد فهمت السلطة التونسية أنّ الغنوشي ومن خلال هذا الطرح إنمّا يعمل على قيادة انقلاب شامل على البورقيبية في أبعادها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية , وأنّه يعمل وحركة الاتجاه الإسلامي من منطلق نسف المنطلقات الإيديولوجية الذي قام عليها نظام الحبيب بورقيبة في تونس , وكانت دوائر القرار في تونس تتخوّف أن يتحوّل هذا الجنين إلى غول خطير يأكل اليابس والأخضر في المستقبل القريب , ومثلما كان لحركة الاتجاه الإسلامي مشروعها في التعاطي مع النظام القائم والمجتمع , كان النظام القائم يملك استراتيجية تعتمد في الراهن على الاستئصال , وفي المستقبل على المجابهة الشاملة …

الأداء السياسي لحركة الاتجاه الاسلامي في تونس

خلال عشر سنوات عملت الجماعة الإسلامية التونسية التي كان يتزعمّها راشد الغنوشي على إعادة بعث الشخصية التونسية على قاعدة الإسلام الحضاري والردّ على المشروع التغريبي العلماني الذي فرضه الحبيب بورقيبة فرضا على المجتمع التونسي , ولم يتطاول بورقيبة على المساجد التي أغلق الكثير منها , وعلى جامع الزيتونة العريق الذي جردّه من كل صلاحياته فحسب , بل تطاول على رسول الإسلام (ص) بقوله : محمد بدوي وأنا " أفوكا " أي أنّ محمدا رسول الله كان بدويّا جاهلا وبورقيبة يحمل شهادة في المحاماة .(1)

وكان الحبيب بورقيبة يلقي خطابات سياسية في شهر رمضان المعظّم ويتعمّد شرب الماء , وكانت المقاهي والمطاعم تعمل بصورة طبيعية في شهر رمضان , وكانت المطاعم التي تغلق أبوابها تتعرّض للملاحقة القضائيّة ,وكان أعضاء في الحزب الدستوري الحاكم بما فيهم الرئيس بورقيبة يقولون : إذا أقفلت المطاعم والمقاهي في شهر رمضان فأين يذهب السيّاح . وحتى مقابر المسلمين لم تسلم من عجرفات بورقيبة حيث أمر بهدم مقابر المسلمين التونسيين في العاصمة التونسية التي أصبحت في نظره تزاحم مدينة تونس السياحية , وأقام على المقابر حدائق واسعة . ويعترف بورقيبة أنّه كان متأثرا إلى أبعد الحدود بمصطفى كمال أتاتورك مؤسس الكمالية في تركيا .

وقد كان بورقيبة غريبا عن واقعه التونسي وكأنّه جاء لتوّه إلى تونس من باريس أو لندن ليتولىّ الرئاسة , وحتى العالم العربي والإسلامي لم يكن بورقيبة يعرفه , وكان يتقززّ من شيئ اسمه العالم العربي والإسلامي .

وكان يفترض بالحبيب بورقيبة أن يتعلمّ من الأيّام وأن يعتدل في طرحه العلماني إلاّ أنّه أستمرّ وبلا هوادة في محاربة المقدسات الإسلامية والعناوين الكبرى للعقيدة الإسلامية .

وقد أثبتت السنوات العشر التي قضّاها الغنوشي مع رفاقه في الجماعة الإسلامية أنّ التغيير يجب أن يتمّ بطريقة أخرى وبديناميكيّة مغايرة مع الإبقاء على حيويّة العامل الثقافي لأنّ الصراع في وجهه الأخر في تونس هو صراع بين العلمانية والإسلام , بين المشروع التغريبي والمشروع الإسلامي , بين أبناء الاستعمار الفرنسي وأبناء تونس العربية والمسلمة .

وفي حلقات التشاور التي كانت تتّم بين الغنوشي ورفاقه كان يجري الحديث عن جدوى الدعوة الإسلامية التي رفعت لواءها الجماعة الإسلامية التونسية , فهذه الأخيرة كلما أقامت لبنة في صرح مشروعها الإسلامي هدمته السلطة من خلال وسائلها الكثيرة والمتنوعة . ومن خلال حلقات التقييم كان الغنوشي ورفاقه يرون أنّ الفكرة الإسلامية وجدت طريقها بشكل ايجابي إلى الجامعات والثانويات والمعاهد التعليمية , وبناء عليه لابدّ من تأطير المؤمنين بالفكر الإسلامي في إطار تنظيم إسلامي سياسي يشرع في تغيير النظام القائم بالطرق السياسية المشروعة , ومن هنا كانت فكرة تنظيم الاتجاه الإسلامي .

وكان الغنوشي يريد أن يتخذ من المرحلية سبيلا لأجل تغيير الوضع القائم , ولذلك وأثناء الإعلان عن تشكيل حزب الاتجاه الإسلامي أخذ يبعث برسائل تطمينية إلى النظام التنوسي من قبيل أنّ حركة الاتجاه الإسلامي ضدّ العنف , و سوف تعمل على إثراء الساحة السياسية والثقافية أيضا من خلال مشروعها السياسي المنفتح على القوى السياسية بمختلف توجهاتها .

ولم يكن همّ حركة الاتجاه الإسلامي في البداية هماّ سياسيا بل كان همّا ثقافيّا , وحتى الشخصيات القيادية في حركة الاتجاه الإسلامي كانت شخصيات ثقافية تزاول التعليم والتدريس . ويصعب الحديث عن الأداء السياسي لحركة الاتجاه الإسلامي لأنّه وبمجرّد الإعلان عن تأسيس الحركة اندلعت أعمال عنف قد تكون مفتعلة والغرض منها التمهيد لقصّ جناح حركة الاتجاه الإسلامي , وهو ما جرى بالفعل حيث تمّ اعتقال الغنوشي ورفاقه .

وقبل تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي انعقدت العديد من الاجتماعات بين قيادييها تمّ وضع هيكلية للتنظيم حيث تقررّ أن يكون هناك مكتب سياسي له صلاحية اتخاذ القرار بالشورى على قاعدة " وأمرهم شورى بينهم " , وتقررّ أن يتمّ تشكيل فروع في كافة المناطق التونسية , وإجراء انتخابات داخلية لانتخاب الرئيس والأمين العام ورؤساء المكاتب التنفيذية في مختلف المناطق التونسية . والأمر الذي أخاف السلطة التونسية إلى أبعد الحدود هو إشادة الغنوشي بزعيم الثورة الإسلامية في إيران الإمام الخميني رحمه الله , حيث كثرت الإجتهادات السلطويّة حول وجود علاقة بين حركة الاتجاه الإسلامي والثورة الإسلامية في إيران خصوصا بعدما ترددّ أنّ بعض قادة الاتجاه الإسلامي التقوا بالإمام الخميني في منفاه الباريسي في ضاحية نوفيل لوشاتو الفرنسية .

وكانت محكمة أمن الدولة التونسية قد وجهّت اتهاما الى قادة حركة الاتجاه الإسلامي وهو تواطؤهم مع إيران . وبسبب اعتقال قادة هذه الحركة عاشت فراغا كبيرا , وصحيح أنّها لم تتمكن من الحصول على ترخيص رسمي والعمل بشكل علني إلاّ أنّها واصلت في السرّ تنظيم الخلايا وتشكيل مكاتب للشورى في المحافظات التونسية .

و قد حاول الفاضل الجبالي أن يصون حركة الاتجاه الإسلامي من الانحراف عن خطّها السياسي بعدما تولى قيادتها خلفا للغنوشي ورفاقه المعتقلين , ويشبه دوره كثيرا الدور الذي قام به المهندس عبد القادر حشاني رئيس المكتب التنفيذي المؤقت للجبهة الإسلامية للإنقاذ عقب اعتقال زعيم الجبهة الدكتور عباسي مدني . وقد تمكنّ الجبالي من صيانة هذا التنظيم من خروقات السلطة الى درجة أنّه وعندما تحولّت حركة الاتجاه الإسلامي إلى حزب النهضة في سنة 1988 كانت عملية الانتقال سهلة ووجد الغنوشي غداة خروجه من السجن البناء كما هو .

ويذهب بعض الباحثين الى القول أنّ تمحور الحركة الإسلامية التونسية حول شخصية راشد الغنوشي حال دون تقدمها ودون تحولها إلى حركة مؤسسات قوية , وهذا ما يفسّر السقوط السريع لكثير من الحركات الإسلامية المغاربية التي نشأت حول شخصيات محورية , على غرار تنظيم الإخوان المسلمين في مصر الذي كان محورهم حسن البنا , وفي نفس السيّاق راشد الغنوشي في حركة النهضة وعباسي مدني في الجبهة الإسلامية للإنقاذ وعبد السلام ياسين في جمعية العدل والإحسان , لكن وجهة النظر هذه صدرت من باحثين لا يفقهون كثيرا معنى أن يسخرّ الإنسان نفسه لخدمة المشروع الحضاري للأمة .

وفي الهيكلية التنظيمية كانت حركة الاتجاه الإسلامي متأثرة بصفة عامة بالهيكلية الإخوانية وأقامت بناها التنظيمية على وتيرة المسلكية التنظيمية للإخوان , وحتى التسميات من قبيل المكتب التنفيذي أو الوطني ومجلس الشورى والمكتب الولائي كلها كانت تسميات إخوانية خالصة .

" وارتباط التجارب الأولى للجماعات الإسلامية المغاربية بالإخوان المسلمين وتجربتهم في المشرق العربي كانت تتعدى التأثر الواضح بأفكار القادة الأساسيين للإخوان وخصوصا حسن البنا وسيد قطب وحسن الهضيبي لتمتد إلى التجربة التنظيمية وأساليب العمل وكذلك المظهر العام الذي أخذ يكرّس شكلا معروفا للمنتمين إلى الجماعات الإسلامية وكل ذلك كرسّ أقوالا ونصوصا وممارسات تحفظها الحركة الإسلامية المغاربية " . (1)

وعلى نمط عمل حسن البنا زعيم تنظيم الإخوان المسلمين انطلق راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو في نشاطهما وأخذ على عاتقهما وهي بعث الشخصية التونسية وتجديد الفكر الإسلامي في ضوء أصول الإسلام الثابتة ومقتضيات الحياة المتطورة وتنقيته من الرواسب والانحطاط وأثار التغريب وإعادة بناء الحياة الاقتصادية على أسس إنسانيّة والمساهمة في بعث الكيان السياسي والحضاري للإسلام على المستوى المحلي والمغاربي والعربي والعالمي .

والسبب المركزي في تحوّل حركة الاتجاه الإسلامي من النشاط الفكري والى النشاط السياسي أي من الجماعة الإسلامية ذات الطابع الثقافي والى الاتجاه الإسلامي ذات الطابع السياسي هو انتصار الثورة الإيرانية . ويعترف راشد الغنوشي أنّ الثورة الإسلامية في إيران قد أملت عليه أن يجري مراجعات جذرية في طريقة تفعيل عمله السياسي , بل إنّ الثورة الإسلامية جعلته يراجع بشكل واسع منطلقاته الفكرية وخططه وعن هذه الفترة قال راشد الغنوشي :

قامت الحركة الإسلامية في تونس بمراجعات في الفكر والمنهج أفضت إلى جملة من التوجهات تقوم على تأصيل الحرية والديموقراطية كمدخل لإصلاح المجتمع , مدخل يرسي أساس المواطنة في الدولة كأساس للقبول بهذا الأساس الديموقراطي , ومشروع الحركة السياسية هو مشروع مجتمع مدني يقوم على التعددية السياسية والثقافية والانتصار للفئات الضعيفة والمحرومة .

والحركة الإسلامية التونسية التي انطلقت بعنوان الجماعة الإسلامية فحركة الاتجاه الإسلامي فحركة النهضة قد مرّت بالعديد من التحولات الفكرية والتنظيمية .

فعلى صعيد الفكر حدثت قراءة لمجمل أفكار سيّد قطب وحسن البنا وأبو الأعلى المودودي ومالك بن نبي , ووقع انفتاح على كتابات منظرّي الثورة الإيرانية مرتضى مطهري وعلي شريعتي والمفكر و العالم العراقي محمد باقر الصدر .

كما أعاد راشد الغنوشي قراءته للمشروع الديموقراطي والعنف السائد في البلاد العربية والإسلامية .

ومن وحي هذه القراءات تأسسّت حركة النهضة الجديدة التي باتت تعترف بالأخر وتقرّ بالتعددية السياسية والإعلاميّة وتقبل قواعد اللعبة الديموقراطية .وهذه التحولات الواضحة للحركة الاسلامية التونسية تحمل بصمات راشد الغنوشي الذي أمعن فيما مضى في قراءات متشعبة للفكر اليساري والناصري والقومي والبعثي قبل أن ينفتح على الفكر الإسلامي في كل أبعاده .

حركة الإتجاه الاسلامي والعنف

لم يكن في نيّة مؤسس حركة الاتجاه الإسلامي راشد الغنوشي أن تكون حركته حركة ثورية تغيّر الواقع العلماني في تونس عن طريق الحتميّة الثورية , وإعجاب الغنوشي بمشروع الثورة الإيرانية هو إعجاب بمشروع الثورة بشكل عام , وإذا الظروف سنحت لهذه الثورة أن تنتصر في أرض فارس , فقد لا تسنح الظروف لأن تنتصر ثورة مماثلة في حقول جغرافية أخرى .

وعندما أسسّ الغنوشي ورفاقه حركة الاتجاه الإسلامي كانوا حريصين على أن تطرح الحركة مشروعها برويّة وحنكة وذكاء خصوصا في خضمّ واقع سياسي وثقافي معقّد كالواقع التونسي .

وأعمال العنف التي واكبت تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي قام بها أفراد متعاطفون مع التيّار الإسلامي ولم تصدر إليهم أوامر من قيادة الاتجاه الإسلامي بالتحرك لتغيير الواقع بقوة .

والذين كتبوا عن حركة الاتجاه الإسلامي ومنهم الهاشمي الحامدي في كتابه أشواق الحرية : قصة الحركة الإسلامية في تونس يقول أنّ حركة الاتجاه الإسلامي تجاهلت طرح حتى الثوابت التي تؤمن بها من قبيل تطبيق الشريعة الإسلامية وتنفيذ الحدود وتعديل قانون الأحوال الشخصية , بل انطلقت في عملها السياسي بشكل هادئ ومتزّن . وبما أنّ الواقع الثقافي التونسي كان مشوهّا تابعا فانّ حركة الاتجاه الإسلامي قامت لتغيير هذا الواقع بالدرجة الأولى وتصحيح المفاهيم حول الإسلام الحضاري .

وفي نظر بعض الباحثين فانّ السلطة التونسية حاولت استدراج حركة الاتجاه الإسلامي إلى حلبة العنف لتتمكنّ من إعداد كافة الذرائع والتبريرات للشروع في استئصالها .

فالسلطة التونسية بعدم منحها الترخيص القانوني لحركة الاتجاه الإسلامي كانت تعمل على استفزازها علما أنّ السلطة هي التي أقرّت مشروع التعددية الحزبية .

وكانت كتابات راشد الغنوشي في مجلات حركته هادئة تناقش الواقع السياسي بكثير من الحكمة دون تصعيد للموقف , وحتى الإشادة بالثورة الإيرانية كانت موضوعية لا انفعال فيها ولا حماس . وكثيرا ما كان الغنوشي في كتاباته يسعي للتوفيق بين الإلهي والإنساني .

" ونستطيع أن نجازف بالقول أنّ الكتابات الإسلامية التونسية تبحث عن إنسانية إسلامية إن جاز القول بإمكانية بروز الإنسانية بالمعنى المتداول داخل أيّ نسق أو بناء ديني يقوم على مقولة مثل الحاكمية لله , وهذه هي المحاولة الأولى للتوفيق بيت الإلهي والإنساني , ويظهر التأثير المعتزلي في فهم الإرادة الإنسانية أو دور الإنسان ووظيفته في الوجود ونظرته إلى الكون ووسائله في الإدراك والمعرفة وهذا ما أنطلقت منه رسالة الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي التي أجازتها الحركة الإسلامية التونسية في مؤتمر عام .

وتكشف المنطلقات العقائدية التي انطلقت منها حركة الاتجاه الإسلامي أنّ هذه الحركة لا تؤمن بالعنف , لا على سبيل الحكم الواقعي ولا على سبيل الحكم الثانوي , فالتغيير عندها يجب أن يتمّ وفق أسس كونية واجتماعية تضمنتها سنن التاريخ وحركته , وهذا لا يعني أن فريضة الجهاد ساقطة , لا بل لها مصاديقها ومناخاتها وضروراتها أيضا .

والانفتاح على الأخر كانت من سمة حركة الاتجاه الإسلامي إلى درجة أنّ أدبيّات الحركة كانت غنيّة بموضوعات الديموقراطية والمرأة والعلاقة مع الغرب والتركيز على هذه المضامين كان الأبرز بالمقارنة مع مضامين من قبيل تطبيق الشريعة الإسلامية والقوانين الإسلامية وإسلامية المجتمع أو جاهليته . وفي هذه السياق قال راشد الغنوشي : لقد كانت قضية الحريات العامة في الدولة الإسلامية الهمّ الأعظم الذي أستبدّ بي منذ بدايات الحركة الإسلامية في تونس من مرحلة الدعوة لمبادئ الإسلام في مواجهة الثقافة الوافدة المهيمنة إلى مرحلة التفاعل الواسع مع هموم المجتمع التونسي والعربي عامة أي منذ أكثر من عشر سنوات , وكان أهمها قضية الحرية ولا تزال , فقد كان تقديم إجابات واضحة عن التحديّات المطروحة على الفكر الإسلامي في بلد مثل تونس قد ضرب بسهم وافر في التغريب والثقافة ضرورة معرفية لا بديل عنها للحركة الإسلامية فيها .

وعندما تأسسّت حركة الاتجاه الإسلامي أعلن راشد الغنوشي أنّه يقبل بقواعد اللعبة الديموقراطية وهو يعتبر سلطة الشيوعيين شرعية إذا وصلوا إلى الحكم بالوسائل الديموقراطية و الشرعية , وحتى الكتّاب الغربيين ومنهم صاحب كتاب الإسلام السياسي الباحث الفرنس بورجا إعترف أنّ راشد الغنوشي هو أوّل مناضل أصولي يعترف بقبول اللعبة الديموقراطية حتى لو أدّت إلى فوز أشرس خصوم الغنوشي أي الشيوعيين ويعتبر الغنوشي أنّ الديموقراطية لها سند في النصوص الشرعية وهي الشورى بآليّة أخرى إلاّ أنّ الغنوشي لا يعطي مفهوما واضحا عن الشورى وهل هي عينها الديموقراطية الغربية.

والإقرار بقواعد اللعبة الديموقراطية لا تعني أنّ الغنوشي كان قد تخلّى عن مبدأ إقامة الدولة الإسلامية في تونس بل يعتبر ذلك فرضا على كل مسلم , والشرعية في النظام الإسلامي كما يقول الغنوشي هي في الالتزام الكامل بالحكم بما أنزل الله أو القبول الكامل بالاحتكام إلى شرع الله ..

وعلى رغم اهتمام الغنوشي بالمفاهيم والتعريفات على خلفيّة تكوينه الأكاديمي , إلاّ أنّه لم يقدم مفهوما واضحا عن الديموقراطية التي يقول عنها أنّها مفهوم إجمالي يتسّع لأشدّ الأنظمة تناقضا .

وبناءا عليه اتهمّت بعض القوى العلمانية والتغريبية في تونس راشد الغنوشي بأنّه مجرّد مناور ومداهن يريد استخدام الوسائل الديموقراطية لإقامة نظام أصولي على الطراز الإيراني , وأنّ الغنوشي برز بهذا الطرح الديموقراطي واحترام قواعد اللعبة ليتسنى له ممارسة العمل السياسي وإعداد العدّة للانقضاض على الحكم ,وهذا ما عملت محكمة أمن الدولة على تأكيده رغم أنّها لم تكن تملك أيّ أدلة ضدّ راشد الغنوشي ورفاقه الذين كان ذنبهم الوحيد هو تأسيس حركة تدعو إلى إسلامية وعروبة تونس . وهو ما أعتبرته دوائر تونسية بأنّه خروج عن القانون كما أعتبرت مؤسسي حركة الاتجاه الإسلامي هم مجرّد خارجين عن القانون وينتمون إلى جمعية ذات طابع سياسي غير قانونية, وكأنّ الديموقراطية خلقت فقط للعلمانيين والتغريبيين .

ولم تكن هذه مسلكيّة نظام بورقيبة مع حركة الاتجاه الإسلامي ومؤسسيها فحسب بل انّ لعنة النظام لاحقت الغنوشي ورفاقه حتى بعد الإطاحة الهادئة بحكم الرئيس الحبيب بورقيبة, وعلى الرغم من أنّ راشد الغنوشي بارك حكم الرئيس زين العابدين بن علي وأعتبر نظامه تجديديّا وضروريا لنهضة تونس وبناء الديموقراطية إلاّ أنّه جرى اعتقاله مجددا في عهد زين العابدين بن علي , ورغم أنّ الغنوشي ولدى حلّه لحركة الاتجاه الإسلامي وتأسيسه لحركة النهضة فضلّ أن لا يكون الإسلام عنوانا لاسم حركته الجديدة إلاّ أنّ الدوائر التونسية أستمرّت تعتبره ذلك الرجعي الظلامي التوليتاري الخطر على الحداثة والتنوير والتغريب .

ورغم أن حركة النهضة التي تأسسّت سنة 1988 قامت بتكييف نفسها مع الواقع السياسي الجديد إلاّ أنّها لم تحصل على الترخيص أبدا , وأستمرّ الصدام بينها وبين السلطة. وقد أصدرت حركة النهضة في هذه المرحلة جريدة الفجر وحاولت أن تدحض عن نفسها كل الشبهات والاتهامات إلاّ أنّ السلطة التونسية كانت تصّر على أن حزب النهضة غير شرعي ويعمل على قلب نظام الحكم .

ولم يتحمّل قياديون في حركة النهضة هذه المحنة فغادر حركة النهضة عبد الفتّاح مورو عقب خلاف كبير مع راشد الغنوشي كما إستقال من الحركة كوادر قياديون منهم الهاشمي الحامدي و أستطاعت السلطة بوسائلها وإغراءاتها أن تستميل عناصر قيادية من حركة النهضة إليها , وفي أواخر الثمانينيات بدأت حركة النهضة تتعرض لهزات تنظيمية وسياسية وكان للسلطة يد طولى في ذلك , وبدأت هذه الحركة من جهتها تستعدّ للاستقرار في المنفى و تحاول إعادة بناء نفسها ..

حركة النهضة والحركات الاسلامية الأخرى

عندما غادر راشد الغنوشي السجن بعفو من الرئيس التونسي زين العابدين بن علي أشرف على إحداث تغيير جذري على حركة الاتجاه الإسلامي وتمثلّ هذا التغيير في تحويل هذه الحركة إلى حزب النهضة , وصدرت التعليمات إلى مختلف الولايات والمحافظات بأنّ حزب النهضة الجديد هو حزب سياسي يملك استراتيجية جديدة وتكتيكا مختلفا عما كانت عليه حركة الاتجاه الإسلامي , وأصدرت حركة النهضة جريدة الفجر لتكون الناطق الإعلامي والسياسي باسم حركة النهضة .

وفي سنة 1989 بعد سنة واحدة من إطلاق سراح راشد الغنوشي عصفت الخلافات الداخليّة بحركة النهضة و أضطرّ العديد من قيادييها إلى تقديم استقالتهم , وقد نجحت السلطة التونسية في استقطاب العديد من القياديين في حركة النهضة تماما كما نجحت السلطة الجزائرية في استقطاب عناصر قيادية في الجبهة الإسلامية للإنقاذ والذين أصبح بعضهم وزراء مثل سعيد قشي و أحمد مراني حيث أصبح سعيد قشي وزيرا للتشغيل وأحمد مراني وزيرا للشؤون الدينية في وقت كان فيه عباسي مدني وعلي بلحاج في سجن البليدة العسكري .

وبين 19891992 اندلعت في تونس أعمال عنف جرى إثرها اعتقال العديد من القياديين في حركة النهضة ومنهم حمّادي الجبالي رئيس تحرير جريدة الفجر الإسلامية وحكمت عليه المحكمة بالسجن لمدّة 15 سنة وكان الجبالي بالإضافة الى تولّيه رئاسة تحرير جريدة الفجر عضوا في المكتب السياسي لحركة النهضة . أمّا راشد الغنوشي فقد حكمت عليه محكمة أمن الدولة بالسجن المؤبّد في 28 –08-1992 .

وبعد إطلاق سراحه بعفو رئاسي خاص غادر تونس وتوجّه إلى الجزائر حيث واكب تطورات الساحة السياسية في الجزائر منذ تأسيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ في أيلول – سبتمبر 1989 , وكانت الحكومة التونسية تطالب برأسه وأوفدت لهذا الغرض مسؤولين تونسيين رفيعي المستوى لاسترداده من الجزائر بحجّة أنّ هناك حكما قضائيّا صدر بحقّه في تونس ولم ينجح هؤلاء المسؤولون في إقناع نظرائهم الجزائريين بضرورة استرداده .

وعندما تمّ اعتقال قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في 30 حزيران – يونيو 1991 طلبت السلطات الجزائرية من راشد الغنوشي أن يغادر الجزائر فتوجّه إلى السودان ومنها إلى بريطانيا حيث حصل على اللجوء السياسي وبات يقيم في العاصمة البريطانية لندن .

وفي منفاه الجديد حاول أن يعيد ترتيب البيت النهضوي فنجح إلى حدّ ما في الحفاظ على الإطار السياسي للحركة الإسلامية التونسية – النهضة – وأخذ يصدر البيانات تباعا تعليقا على مستجدات الأحداث والتطورات السياسية في تونس .

و أستمرّت جريدة الفجر التابعة لحركة النهضة في الصدور من العاصمة القبرصيّة نيقوسيا ثمّ توقفّت لأسباب مادية فيما يبدو .

وفي بريطانيا عكف الغنوشي على إيصال صدى الحركة الإسلامية التونسية إلى مختلف المعنيين بهذا الشأن الإسلامي وشارك في العديد من المؤتمرات والندوات التي تعقد في بعض المناطق العربية والإسلامية . وبسبب انتقال حركة النهضة إلى المنفى فقد فقدت الكثير من فعّاليتها السياسية وبات عملها يقتصر على إصدار البيانات , وحتى هذه البيانات الورقية راحت تقلق السلطات التونسية التي طالبت مرارا و بشكل رسمي من السلطات البريطانية وضع حدّ لنشاطات الغنوشي , وكان ردّ الحكومة البريطانيّة أنّ الغنوشي لم يخرق القوانين المعمول بها في بريطانيا .

ومن رحم حركة النهضة انبثقت تيارات إسلامية برؤى أخرى , كما أنّ خارطة الحركة الإسلامية التونسية كانت متعددة التوجهات , وأهم هذه الحركات هي :

الإسلاميون التقدميون :

الإسلاميون التقدميون تيار إسلامي عقلاني الاتجاه , إشتغل في أوساط الجماعة الإسلامية منذ بداية السبعينيات في المساجد والجامعات والمعاهد التربوية , وعندما قررّ راشد الغنوشي وعبد الفتّاح مورو تحويل الجماعة الإسلامية إلى حركة الاتجاه الإسلامي في بداية الثمانينيات , عارض الإسلاميون التقدميون وعلى رأسهم أحميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي وزيّاد كريشان وأصرّوا على الاستمرار في خطهم الإسلامي ضمن رؤيتهم الثقافية والفكرية والعقلانية .

وكان هذا التيار يحمل في بدايته على ما يسمى بمذهب السلف الصالح وأقطاب السلفية القدامى والمعاصرين وأعتمد على مقولة اليسار الإسلامي , وكان هذا التيار يركّز على العقل أكثر من تركيزه على النص , وحمل الإسلاميون التقدميون على عاتقهم فكرة تجديد الإسلام وطرح كل الأشواب التي علقت به الفقهية والعقائدية والأصولية وغيرها , وذهبت هذه الجماعة إلى حدّ القول بجواز تعطيل الثوابت عندما تكون هناك ضرورة إلى ذلك .

وفي كتاب المقدمات النظرية للإسلاميين التقدميين : لماذا الإسلام , وكيف نفهمه ؟ نجد ما يلي : تبدو مجموعة الإسلاميين التقدميين أقرب إلى ما يسمى داخل الحركات الإسلامية عموما بالاتجاه التربوي أي القائلين بأسبقية تربية أفراد المجتمع الإسلامي على تجنيدهم وتجييشهم سياسيا , لهذا السبب ولخصوصيّة المسألة الثقافية في تونس كان طرح الإسلاميين التقدميين .

وكان الجورشي وهو من رموز هذا التيّار يطالب بثورة ثقافية لأنّها تمثّل عنصرا جوهريّا في إعادة بناء وعي المجتمع و أن تتمّ بعد ذلك عملية إعادة هيكلة المجتمع .

ويتساءل الجورشي عن أيّهما حدث في بداية الأمر : الدولة أو المجتمع ؟

وقد أتجّه الإسلاميون التقدميون نحو ثورتهم الثقافية من خلال فهم جديد للدين , وفي نظر أحد أقطاب هذا التيار أحميدة النيفر فانّ المسألة السياسية مسألة هامة ولكنّها لم تعد لها الأولويّة أصبحت مشكلة إعادة قراءة الفكر الديني هي التي تحتّل المركز الأول . ويحددّ الإسلاميون التقدميون منهجهم في التجديد الثقافي والإسلامي باعتماد العقل وسيلة في فهم النصوص المقدسّة من كتاب وسنّة دون الوقوع في الحرفيّة أو النصيّة , ويعتمدون على الاجتهاد كمنهج نحو تحقيق التجديد المنشود . وكان الإسلاميون التقدميّون يتحركون في الوسط الجامعي ,كانوا يركزّون بالدرجة الأولى على النخبة لأنّ هذه النخبة بيدها تغيير مناحي الحياة .

حزب التحرير الاسلامي التونسي

ظهر حزب التحرير الإسلامي في تونس نتيجة نشاط العديد من المؤمنين بفكرة حزب التحرير المشرقي المولد والذين كانوا على مدار سنوات منخرطين في حزب التحرير الإسلامي , وقد عقد الاجتماع التأسيسي للحزب في كانون الثاني – يناير 1983 , وكان هذا الحزب يخططّ للاستيلاء على السلطة ومن تمّ إعادة تأسيس الخلافة الإسلامية وذلك من خلال وسائل وطرق تبنّاها الحزب في دستوره العام .

و قد تمّ اعتقال وملاحقة معظم قياديي حزب التحرير وبينهم عدد من العسكريين في النصف الثاني سنة 1983 بتهمة تشكيل جمعية سياسي والانتساب إليها وحضور اجتماعاتها وتحريض عسكريين على الانتساب إلى هذه الجمعية وأصدرت المحكمة العسكرية أحكاما بالسجن على عدد من قادة الحزب وكادراته وبينهم محمد جربي زعيم حزب التحرير في تونس . وفي آذار – مارس 1990 تمّ تقديم مجموعة جديدة من أعضاء الحزب إلى المحاكمة بتهمة توزيع منشورات في المساجد .

وتولّت قيادة الحزب مجموعة مدنيّة – عسكرية بالتوافق فيما بينها ومن رموزها الطاهر العيادي ومحمد فاضل شطارة ومحمد جربي , وكان حزب التحرير الإسلامي يصدر نشرة سريّة بعنوان : الخلافة .

وقد ربطت السلطات التونسية عدة مرات بين نشاطات الحزب ومحاولات انقلابيّة فاشلة لإسقاط السلطة في تونس وأهمها ما حدث عام 1983 وعام 1986 , وكانت السلطات التونسية تتوجّس خيفة من تغلغل هذا الحزب داخل المؤسسة العسكرية , وكانت استراتيجية حزب التحرير تنصّ على غرس أكبر قدر ممكن من العناصر داخل الجيش التونسي , لتتمكنّ في نهاية المطاف مجموعة من الضبّاط الإسلاميين من الانقضاض على السلطة من الداخل , وقد نجح الحزب في استقطاب عشرات العسكريين الذين كانوا يمدّون الحزب بالدخائر الحربية والأسلحة الخفيفة , وتمّت تصفية هذا الحزب في وقت مبكر من تاريخ الحركة الإسلامية التونسية .

طلائع الفداء

طلائع الفداء مجموعة إسلامية مسلحة يتزعمها محمد حبيب الأسود وقد جرى الكشف عنها في عام 1987 عندما اتهمّتها السلطات التونسية بالتخطيط لقلب نظام الحكم وإقامة دولة إسلامية , وبعد توليّ زين العابدين رئاسة الدولة التونسية صدرت قرارات بالعفو عن معتقلي المجموعة وتمّ إطلاق سراحهم .

مستقبل الحركات الاسلامية في المغرب العربي

هل للحركات الإسلامية مستقبل سياسي في المغرب العربي ؟ وهل ستتمكن هذه الحركات من تحقيق هدفها المركزي المتمثل في إقامة الدولة الإسلامية ؟

وهل ستستفيد من التجارب السياسية الراهنة والسابقة وتنخرط في اللعبة السياسية شأنها شأن كل القوى السياسية الأخرى ؟ وهل ستظل محظورة لا يسمح لها بالعمل السياسي لأنّ الدساتير المغاربية تحظر قيام أحزاب على أساس ديني ؟

هذه الأسئلة وغيرها تتردد في العديد من مراكز الدراسات الاستراتيجية ودوائر القرار .

وقبل معرفة تفاصيل الأجوبة لابدّ من الإشارة إلى أنّ كل حركة إسلامية في المغرب العربي لها خصائصها ومناخاتها السياسية .

فالحركة الإسلامية الليبية تختلف عن الحركة الإسلامية الجزائرية وهذه الحركة تختلف عن الحركة الإسلامية التونسية وهكذا دواليك . فلكل حركة إسلاميّة في كل أقليم مغاربي ظروفها الخاصة وخصائصها ومميزاتها الفكرية والإيديولوجية وحتى الخصائص المكانيّة تلعب دورا كبيرا في رسم مسار هذه الحركة وتلك .

صحيح أنّه يجمع بين الحركات الإسلامية المغاربية قاسم مشترك واحد وهو العمل على إقامة الدولة الإسلامية إلاّ أنّ الاختلاف ضارب أطنابه فيما بينها من الناحية المسلكية السياسية والطرق المتبّعة لتحقيق هذا الهدف , فبعض الحركات الإسلامية في المغرب العربي ترى وجوب تحقيق هذا الهدف راهنا وليس مستقبلا , فيما ترى أخرى ضرورة نهج المرحلية لتحقيق هذا الهدف . ولمزيد من التفاصيل لابدّ من تسليط الضوء على مسار كل حركة إسلامية على حدا وقد يساهم معرفة خطها السياسي في إستكناه مستقبلها !

فالجزائر على سبيل المثال تمكنّت الحركة الإسلامية فيها من تحقيق إنجازين مهمين في الانتخابات البلدية في 12 حزيران – يونيو 1990 , وفي الانتخابات الإشتراعية في 26 كانون الأول – 1991 وحققت هذين الإنجازين بدون عنف بل كانت منخرطة في اللعبة السياسية واستجابت لقواعد اللعبة , غير أنّ نصرها السياسي هذا سرعان ما صادرته المؤسسة العسكرية الجزائرية بدباباتها وألغى خيار الدبابة خيار الشعب .

وبعد إلغاء الانتخابات الإشتراعيّة تشكلّت فصائل مسلحة وأخذت تخوض حربا على السلطة الجزائرية ورفعت شعار الكفاح المسلّح حتى إسقاط النظام وإقامة الدولة الإسلامية.

ويمكن القول أنّ الأحداث الدموية الجزائرية أفرزت تيارين إسلاميين :

التيار الأول يؤمن بالإسلام السياسي والمشروع الإسلامي والدولة الإسلامية لكن يعمل على تحقيق هذه الأهداف من خلال المنافسة السياسية ومن خلال اللعبة الديموقراطية ودون إقصاء أيّ طرف .

والتيار الثاني يؤمن بالعمل المسلّح لإقامة الدولة الإسلامية ويرى هذا التيار أنّ السلطة الجزائرية هي التي بدأت بالعنف وصادرت النصر السياسي الذي حققّته الجبهة الإسلامية للإنقاذ .

والدولة الجزائرية في تعاملها مع هذين التيارين تقبل بالأول لاعتداله وتسمح له بالعمل السياسي في نطاق ضيّق , وتجابه التيّار الثاني باعتبار أنّه يعمل على تقويض الدولة الجزائرية ولم يتمكن التيّار المسلح من تحقيق ما كان يصبو إليه , كما أنّ السلطة الجزائرية لم تتمكن من استئصاله بالكامل .

ووصول التيار الإسلامي المسلح إلى طريق مسدود وعدم تمكنّه من قلب نظام الحكم لا يعني أنّ التيّار الإسلامي لا يتمتّع بالقوة السياسية في الشارع الجزائري , بل إنّ الإسلام السياسي المعتدل ما زال حاضرا بقوة في كل مجالات الحياة الجزائرية .

وسوف لن يكون في وسع هذا التيار تغيير الوضع رأسا على عقب في الجزائر ,لأنّ القوانين التي وضعتها السلطة الجزائرية والاستراتيجية الموضوعة ستجعل الإسلاميين الذين ينطلقون في عملهم السياسي من القوانين المصاغة لن يحققوا الأغلبية على الإطلاق .

أمّا في تونس فمنذ وصول الرئيس زين العابدين بن علي إلى السلطة وهو يتبّع سياسة الاستئصال مع الحركة الإسلامية التونسية ولم يسمح لها بالتنفّس , ولاحق عناصرها وراء كل حجر ومدر وسخرّ كل وسائل الإعلام للتهجّم على هذه الحركة .

والقانون التونسي صريح في حظره قيّام أحزاب على أساس ديني , والمحن التي لحقت بحركة النهضة جعلتها مهيضة الجناح وخصوصا عندما بدأ أقرب الناس إليها يتخلون عنها.

ولن يكون بوسع التيار الإسلامي التونسي أن يعاود نشاطه السياسي في الواقع التونسي , وخصوصا في ظل التوافق الأمني والإستخباراتي بين الدول المغاربية حول ضرورة توحيد الجهود لمواجهة التيارات الإسلامية

والتياّر الإسلامي التونسي الذي انتهى في الداخل بفعل القمع والتعذيب قد يعاود النهوض اذا أعاد رسم استراتيجية جديدة , وفي حال حققت التيارات الإسلامية أي انتصار في بقية الأقطار المغاربية . أمّا نشاطات الحركة الإسلامية في الخارج فهي محدودة وتقتصر على إصدار البيانات والكرّاسات المضادة للنظام التونسي .

والمفارقة بين الحركة الإسلامية الجزائرية والحركة الإسلامية التونسية أنّ الأولى تملك قاعدة جماهيرية وامتدادا شعبيّا فيما الثانية لا تملك نفس هذه القاعدة .

أمّا في المغرب فالحركة الإسلامية المغربية تملك هامشا للمناورة وبإمكانها تكييف نفسها مع أجواء التعددية السياسية السائدة في المغرب . وإذا تجنبّت هذه الحركة الخطاب الثوري وانفتحت على التيارات السياسية الأخرى فبإمكانها أن تجد مكانها الطبيعي في الخارطة السياسية المغربية ولجوء جمعية العدل والإحسان بقيادة عبد السلام ياسين إلى العمل الفكري والثقافي والحضاري وتجنبّها الدخول في صراعات جانبيّة مع القوى الأخرى قد يتيح لها تكريس نفسها في الواقع السياسي المغربي .

أمّا في ليبيا فانّ التيار الإسلامي غير مسموح له بالعمل السياسي ولذلك لجأ رأسا إلى العمل العسكري في ظلّ أحاديّة الكتاب الأخضر , وتحاول الجماعة الإسلامية الليبية هيكلة نفسها ودخلت في مواجهات مع القوات الليبية . وفي موريتانيا فانّ الحركة الإسلامية الموريتانية تتحرّك في السرّ أكثر منه في العلن وسوف يكون من الصعب عليها إحداث خرق في الجدار السياسي الرسمي ذلك أنّ المؤسسة العسكرية في موريتانيا تمسك بكل مفاصل الدولة ويملك التيار الإسلامي الموريتاني تربة مناسبة لتفعيل مشروعه السياسي.

والحركات الإسلامية في المغرب العربي ليست مجرّد ظاهرة عابرة بل هي ظاهرة جذرية وهي في أحايين كثيرة كانت تشكل امتدادا للحركات الوطنية والإصلاحية التي ساهمت في تحرير المغرب العربي وساهمت في تحصين الهوية واللغة والانتماء للعالم العربي والإسلامي.

ولا شكّ أنّ الكثير من الحركات الإسلامية في المغرب العربي عندما إنطلقت في عملها السياسي كانت مراهقة وبدون خبرة حيث قفزت على الظروف المحلية والإقليمية والدوليّة, والأحداث التي شهدتها الأقطار المغاربيّة ساهمت في صقل وعي هذه الحركات وأقنعتها الأحداث أنّها ليست وحدها في المغرب العربي ولا في العالم.

ويجمع سكان المغرب العربي على أنّ الإسلام لعب دورا كبيرا في تاريخ المغرب العربي , وتحاول التيارات الإسلامية المغاربية أن تجددّ دوره وهي مازالت تدقّ جرس الإنذار بأنّ المغرب العربي يتعرّض لغزو جديد واستعمار جديد وهو الغزو الثقافي والسياسي والاقتصادي وهو أخطر من الاستعمار الفائت الذي تعرضت له منطقة المغرب العربي لقرون خلت !!!!

3- الاستاذ توفيق المديني

حركة الإتجاه الإسلامي وتطورها

لقد ساعد الحركة الإسلامية في وثبتها هذه على نطاق انتشارها التنظيمي واتساع دائرة استقطابها الجماهيري وانتقالها إلى الهجوم على جبهة الصراع السياسي عوامل ثلاثة :‏

1 - تراجع القوى الوطنية والديمقراطية في تونس، على أثر الهجوم الذي شنته أجهزة النظام ضد الحركة الشعبية والنقابية. فقد ترافقت مع انتفاضة 26 كنون الثاني يناير 1978، حملات القمع التي طالت القيادات الوطنية والديمقراطية في الأوساط السياسية والنقابية. ومهد هذا الوضع الطريق لكي تركب الحركة الإسلامية الموجة الجماهيرية المعارضة، طارحة بذلك بعض الشعارات المعادية للسلطة وممارساتها في ظل غياب القيادات السياسية والنقابية التي يقبع معظمها في السجون والمعتقلات وكان بعضها الآخر مطارداً أو منفياً خارج البلاد.‏

2 - انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وأثر ذلك في انتشار الحركات الأصولية الإسلامية في عموم المنطقة العربية.‏

3 - حدة الهجوم الإمبريالي الأميركي في الوطن العربي، إذ استفادت السياسية الخارجية الأميركية من الحركات الأصولية الإسلامية، ومعظم القوى الطائفية على تنوعها واختلافها بصفتها مخزوناً إيديولوجياً لمحاربة القوى الشيوعية والقومية والديمقراطية في العالم العربي والعالم الإسلامي. ففي تقرير نشر عام 1978، أي قبل عام واحد من قيام الثورة الإيرانية، كتبه عدد من الخبراء الأميركيين ونشر حينها في سلسلة " دراسات استراتيجية " جاء فيها : " إن التيارات الدينية الإسلامية أو غيرها من الممكن توظيفها في رفع مستوى الوعي الديني على حساب تقدم الإيديولوجية الشيوعية في البلدان الإسلامية". " إن هذا قد يخدم مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية" .‏

وكان الاختلاف الذي تطور إلى حد التناقض بين الحركة الأصولية الإسلامية والنظام، يتمثل في تصور الحركة الإسلامية بتنظيم المجتمع على أسس دينية .‏

إضافة إلى ذلك، تعد الحركة الإسلامية القوة السياسية الوحيدة التي وسعت من دائرة استقطابها الاجتماعي و السياسي داخل شرائح البرجوازية التجارية وكبار الملاكين العقاريين والطبقة الوسطى، أي تلك الفئات الاجتماعية التي يرتكز عليها النظام. إن حقيقة هذا الوضع يراها النظام خطراً عليه، إذ إنه أصبح و الحركة الإسلامية ينشطان ويعبئان الجماهير على الأرضية الاجتماعية عينها، التي تمثل أساس الوحدة بينهما حتى وإن كانت تحتوي على فوارق من حيث تصور الوعي الديني في تطبيقاته الاجتماعية و السياسية .‏

وفضلاً عن ذلك، فقد خصصت الحركة الإسلامية في تونس، قفزة نوعية في بنيتها التنظيمية، حيث أن غالبية كوادرها القيادية ومحازبيها تتشكل من مثقفين شبان، تلقوا إعدادهم وتأهيلهم في الجامعة التونسية ذات البرامج العلمانية، وهم يتحدرون، في الغالب، من فئات الطبقات الوسطى، الحديثة العهد بالتمدن. وهكذا، فإن الحركة الإسلامية التونسية استطاعت أن تسقطب إلى صفوفها القطاعات الحديثة في المجتمع، لجهة قدرتها على توطيد تواجدها التنظيمي والسياسي في أوساط حديثة بالمعنى السوسيولوجي، والحال هذه، فهي ليست رد فعل ضد النزعة العلمانية والتمدينية التي قادها الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، بقدر ما هي نتاج هذه النزعة التحديثية. وعندما أقر الرئيس السابق الحبيب بورقيبة في المؤتمر الحادي عشر للحزب الاشتراكي الدستوري في نيسان 1981 سياسية التفتح والديمقراطية، والانفتاح السياسي، خطت الحركة الإسلامية خطواتها الكبيرة نحو " الشرعية " عندما عقد كل من راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو مؤتمراً صحافياً في 6 حزيران 1981، شرحا فيه أهم الأسس التي تقوم عليها " حركة الاتجاه الإسلامي "، بعد عقد مؤتمرها التنظيمي وأبرزها :‏

- الرفض المبدئي للعلمانية‏

- ارتباط الحركة بقضية المسلمين في العالم أجمع.‏

- عدم إقرار قضية القومية العربية .‏

- اعتبار قضية فلسطين " ثمرة انحراف حضاري، وتحرير فلسطين يمر عبر تحرير الإنسان العربي من الاستلاب، وإفراز أنظمة تعبر عن مصالح الجماهير" .‏

وعلى أثر المؤتمر الصحافي الذي عقده زعيما حركة الاتجاه الإسلامي في حزيران 1981، تقدمت الحركة بطلب الحصول على ترخيص للسلطات التونسية تضمن أسماء (25) شخصاً من مؤسسي الحركة بينهم ثلاث نساء، ويقود الحركة مكتب تنفيذي تضمن خمسة عناصر قيادية أبرزهم:‏

هذا الهيكل الظاهري يوازيه المكتب التنفيذي السرّي بفروعه الآتية :‏

- مكتب الدراسات .‏

- مكتب المالية .‏

- مكتب العمل الاجتماعي والدعوة - مكتب التربية والتكوين‏

كما تضمن الطلب أهداف الحركة وأهمها :‏

  • إعادة الحياة للمسجد كمركز للتعبد والتعبئة الجماهيرية‏
  • تنشيط الحركة الفكرية والثقافية .‏
  • دعم التعريب والانفتاح على اللغات الأجنبية .‏
  • رفض العنف كأداة للتغيير .‏
  • رفض مبدأ الانفراد بالسلطة، وإقرار الحق في ممارسة حرية التعبير والتجمع .‏
  • بلورة مفاهيم الإسلام الاجتماعية في صيغ معاصرة .

  • تحرير الضمير الإسلامي من الانهزام الحضاري إزاء الغرب .‏

وتركزت الوثيقة السياسية التأسيسية لحركة الاتجاه الإسلامي على المرتكزات الإيديولوجية و السياسية التالية :

أولاً - " إن استمرار أسباب تخلف الوضع السياسي و الاقتصادي والثقافي في مجتمعنا يرسخ لدى الإسلاميين شعورهم المشروع بمسؤوليتهم الربانية والوطنية والإنسانية في ضرورة مواصلة مساعيهم وتطويرها من أجل تحرير البلاد الفعلي وتقدمها على أسس الإسلام العادلة وفي ظل نهجه القويم " .‏

ثانياً - " وقد يذهب البعض إلى أن هذا العمل هو من باب إقحام الدين في دنيا السياسة وانه مدخل إلى احتكار الصفة الإسلامية ونفيها بالتالي عن الآخرين. إن هذا الفهم فضلاً عن كونه يعبر عن تصور كنسي دخيل على ثقافتنا الأصلية يكرس استمرارية حديثة لواقع الضياع التاريخي الذي عاشته أمتنا " .‏

ثالثاً - " على أن " حركة الاتجاه الإسلامي " لا تقدم نفسها ناطقاً رسمياً باسم الإسلام في تونس ولا تطمع يوماً في أن ينسب هذا اللقب إليها فهي مع إقرارها حق جميع التونسيين في التعامل الصادق المسؤول مع الدين. ترى من حقها تبني تصور للإسلام يكون من الشمول بحيث يشكل الأرضية العقائدية التي منها تنبثق مختلف الرؤى الفكرية والاختيارات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية التي تحدد هوية هذه الحركة وتضبط توجهاتها الاستراتيجية ومواقفها الظرفية. وبهذا المعنى تكون " حركة الاتجاه الإسلامي " واضحة الحدود محددة المسؤولية غير ملزمة بكل صنوف التحركات والمواقف التي قد تبرز هنا وهناك - الإيديولوجية ما يقع تبنيه منها بصورة رسمية - مهما أضفى أصحاب هذه التحركات على أنفسهم من براقع التدين ورفعوا رايات الإسلام " .‏

رابعاً - " وتأكيداً لهذا الوضع من ناحية. وتكافؤاً مع جسامة المهمة ومقتضيات المرحلة من ناحية أخرى، فإنه يتعين على الإسلاميين دخول طور جديد من العمل والتنظيم يسمح لهم بتجميع الطاقات وتوعيتها وتربيتها وتوظيفها في خدمة قضايا شعبنا وأمتنا ولا بد لهذا العمل أن يكون ضمن حركة متبلورة الأهداف مضبوطة الوسائل ذات هياكل واضحة وقيادة ممثلة ".‏

وهكذا وانطلاقاً من المقدمات السابقة، فقد حددت " حركة الاتجاه الإسلامي " المهام التي أخذتها على عاتقها كما يلي :‏

أ - بعث الشخصية الإسلامية لتونس حتى تستعيد مهمتها كقاعدة كبرى للحضارة الإسلامية في أفريقيا ووضع حد لحالة التبعية والاغتراب والضلال .‏

ب - تجديد الفكر الإسلامي في ضوء أصول الإسلام الثابتة ومقتضيات الحياة المتطورة وتنقيته من رواسب عصور الانحطاط وآثار التغريب .‏

ج _ أن تستعيد الجماهير حقها المشروع في تقرير مصيرها بعيداً عن كل وصاية داخلية أو هيمنة خارجية .‏

د - إعادة بناء الحياة الاقتصادية على أسس إنسانية وتوزيع الثروة في البلاد توزيعاً عادلاً في ضوء المبدأ الإسلامي " الرجل وبلاؤه " " الرجل وحاجته " أي من حق كل فرد أن يتمتع بثمار جهده في حدود مصلحة الجماعة وأن يحصل على حاجته في كل الأحوال) حتى تتمكن الجماهير من حقها الشرعي المسلوب في العيش الكريم بعيداً عن كل ضروب الاستغلال والدوران في فلك القوى الاقتصادية الدولية .‏

هـ - الإسهام في بعث الكيان السياسي والحضاري للإسلام على المستوى المحلي المغربي والعربي والعالمي حتى يتم إنقاذ شعوبنا والبشرية جمعاء مما تردت فيه من ضياع نفسي وحيف اجتماعي وتسلط دولي .." .‏

ولتحقيق هذه المهام تعتمد الحركة الوسائل التالية :‏

- " إعادة الحياة إلى المسجد كمركز للتعبد والتعبئة الجماهيرية الشاملة أسوة بالمسجد في العهد النبوي وامتداداً لما كان يقوم به الجامع الأعظم جامع الزيتونة من صيانة للشخصية الإسلامية ودعم لمكانة بلادنا كمركز عالمي للإشعاع الحضاري " .‏

- " تنشيط الحركة الفكرية والثقافية، من خلال: إقامة الندوات، تشجيع حركة التأليف والنشر، تجذير وبلورة المفاهيم والقيم الإسلامية في مجالات الأدب والثقافة عامة وتشجيع البحث العلمي ودعم الإعلام الملتزم حتى يكون بديلاً عن إعلام الميوعة والنفاق " .‏

- " دعم التعريب في مجال التعريب والإدارة مع التفتح على اللغات الأجنبية..".‏

- " رفض العنف كأداة للتغيير، وتركيز الصراع على أسس شورية تكون هي أسلوب الحسم في مجالات الفكر والثقافة والسياسة " .‏

- " رفض مبدأ الانفراد بالسلطة " الأحادية " لما يتضمنه من إعدام لإرادة الإنسان وتعطيل لطاقات الشعب ودفع البلاد في طريق العنف، وفي المقابل إقرار حق كل القوى الشعبية في ممارسة حرية التعبير والتجمع وسائر الحقوق الشرعية والتعاون في ذلك مع كل القوى الوطنية " .‏

- " بلورة مفاهيم الإسلام الاجتماعية في صيغ معاصرة وتحليل الواقع الاقتصادي التونسي حتى يتم تحديد مظاهر الحيف وأسبابه والوصول إلى بلورة الحلول البديلة " .‏

- الانحياز لصفوف المستضعفين من العمال والفلاحين وسائر المحرومين في صراعهم مع المستكبرين والمترفين " .‏

- " دعم العمل النقابي بما يضمن استقلاله وقدرته على تحقيق التحرر الوطني بجميع أبعاده الاجتماعية و السياسية والثقافية " .‏

- " اعتماد التصور الشمولي للإسلام، والتزام العمل السياسي بعيداً عن اللائكيةالعلمانية) والانتهازية ".‏

- " تحرير الضمير المسلم من الانهزام الحضاري إزاء الغرب " .‏

- " بلورة وتجسيم الصورة المعاصرة لنظام الحكم الإسلامي بما يضمن طرح القضايا الوطنية في إطارها التاريخي والعقائدي والموضوعي مغربياً وإسلامياً وضمن عالم المستضعفين عامة " .‏

- " توثيق علاقات الأخوة والتعاون مع المسلمين كافة: في تونس وعلى صعيد المغرب والعالم الإسلامي كله " .‏

- دعم ومناصرة حركات التحرر في العالم " .‏

ولما أرادت حركة الاتجاه الإسلامي عقب احتفالها بالذكرى الرابعة لتأسيسها في أوائل حزيران 1981، تطبيق نهجها السياسي ووضعه على المحك العملي عبر الانتقال من تناول قضايا الدين المجردة نحو التوجه لمعالجة قضايا المجتمع الراهنة، بما في ذلك خوض غمار اللعبة الديمقراطية والمطالبة باستفتاء شعبي حول مجلة الأحوال الشخصية للمرأة، قامت السلطات التونسية بحملة اعتقالات واسعة شملت قيادات وكوادر وأعضاء حركة الاتجاه الإسلامي وتقديمهم للمحاكمات، وذلك في 31 تموز العام1981.‏

واشتملت لائحة الاتهامات المقدمة ضد الحركة على ما يلي :‏

- الانتماء إلى جمعية غير مرخص بها‏

- النيل من كرامة رئيس الجمهورية‏

- نشر أنباء كاذبة‏

- توزيع منشورات معادية‏

وتبع ذلك إعلان صدر عن وزير الداخلية إدريس قيقة مفاده أن السلطات التونسية الأمنية قد وضعت يدها على وثيقة تفضح ارتباط حركة الاتجاه الإسلامي بجهة أجنبية، واتهم الحركة بتشكيل تنظيم سري ذي هيكليات عدة للقيام بأعمال تخريبية .

وأمام محكمة الاستجواب رفض الشيخ راشد الغنوشي زعيم الحركة التهم الموجهة إلى الحركة قائلاً : إن الجمعية المنسوب إليه تكوينها هي جمعية دينية، ولا تحتاج إلى تراخيص... وأشار إلى أن مجلس الشورى قد تقرر حله في اجتماع الزهراء، ودخل جميع أعضائه في تأملات شخصية على ضوء الوضع السائد في البلاد، وأن هذه التأملات قد انتهت إلى التفكير في بعث حركة سياسية اسمها " حركة الاتجاه الإسلامي "

لقد كانت الحملات القمعية على حركة الاتجاه الإسلامية قوية، وأصابت الحركة في قوتها السياسية والتنظيمية، ووضعت قوى المعارضة السياسية العلمانية أمام اختبار موقفها إزاء السلطة، وشعار الانفتاح الديمقراطي الذي أعلن عنه محمد مزالي. وتميز الخطاب الرسمي بنبرة إعلامية حادة في تبرير إجراءات السلطة القمعية. وفيما يلي أهم المحاور التي ركز عليها الخطاب الرسمي :‏

- إظهار عناصر الحركة في صورة من يبحثون عن " بلوغ أهداف سياسية أو شخصية عن طريق التستر بالدين واستعماله " وجعل المساجد" منابر لبث السموم واستغلال المشاعر الدينية لأهداف سياسية " .‏

- اتهام الحركة بممارسة العنف وربط ذلك ما يجري على الساحة الإيرانية للإشارة إلى ما ينتظر التونسيين من قيام نظام إسلامي.‏

- إظهار الإسلاميين بمظهر المفترين على الدين الإسلامي والمحرفين لتعاليمه والبعيدين عن أهدافه السامية .‏

- اتهامهم بالسعي " لإقحام الأمة في دوامة الصراعات والتناحر " و " المس بالوحدة القومية وتفريق الصفوف " .‏

- التنديد بالحركة الإسلامية كحركة " رجعية ومتعصبة ومتخلفة ومتزمتة ومنغلقة " .‏

- تقديمها كـ " تيار شيوعي شعاراته مأخوذة من الماركسية، وما "ظهوره بمظهر الدين سوى خدعة" وهذه خاصية من خصائص حملة أواخر 1979 .‏

- اعتبار العقيدة الإسلامية قاسماً مشتركاً بين التونسيين كلهم ومن ثم فلا حق للإسلاميين في ادعاء نظرتها أكثر من غيرهم.‏

- إبراز غرابة وجود مثل هذه الحركة في تونس التي ينص دستورها على أن الإسلام هو دين الدولة‏

- إبراز دور الحزب الحاكم وقائده في " الدفاع عن الإسلام ودعمه " سواء في فترة الاستعمار مواقفه من التجنيس ومن المؤتمر الأفخارسيني ومسألة الحجاب ) أو في عهد الاستقلال بما "حققه من مكاسب لفائدة الدين وتدعيم أركانه وما بذله لصيانة مكارم الأخلاق".‏

- إنكار احتكار الإسلام أو الوصاية عليه أو التكلم باسمه على‏ الحركة الإسلامية .‏

- مؤاخذة الإسلاميين على " العمل ضد النظام وتحميلهم إياه مسؤولية الكفر والإلحاد السائدين في البلاد " .‏

وبالمقابل رأت حركة الاتجاه الإسلامي في هذه الحملة القمعية " صليبية جديدة تتمثل في قوم من أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا لبسوا خوذات الصليبيين وانتصبوا لمقاومة كل حركة تنبعث من أعماق هذا المجتمع وأصوله وتاريخه " واتجاه " حماة التغريب والمستفيدين منه إلى القيام بدور قاطع الطريق أمام مسيرة الإسلام المظفرة" .‏

وعلى الرغم من أن حركة الاتجاه الإسلامي تقدمت بطلب رسمي للحصول على الشرعية القانونية لممارسة نشاطها السياسي العلني في تونس، أي لإعطائها ترخيصاً كحزب سياسي، إلا أن الحركة لم تحصل على الترخيص المطلوب. وقد قوم أحد قادة الحركة مسعاها هذا بقوله " إن الاعتراف المبدئي بالتعددية السياسية ليس هو العامل الذي ينشئ الأحزاب فهو لن يوجدها، لأنها موجودة، ومهمة القانون، أن يعترف بما هو موجود. فحركة الاتجاه الإسلامي مثلا لا ينكر أحد وجودها على الساحة. إن إعلان وجودنا كحركة سياسية، والحرص على إضفاء الطابع القانوني على حركتنا لإثبات شرعيتنا، وتوفير شيء من الحرية للعمل السياسي، لأن النظام يعرقلنا، ونحن نريد رفع الكابوس الذي تنشره السلطة من أننا مجهولو الهوية ولا نريد العمل في إطار قانوني. ولذلك نحن نحرص من وراء تقديم الملف - الترخيص - إلى وزارة الداخلية على إثبات قانونيتنا" .‏

1 - البورقيبية و الحركة الإسلامية : أصول الاتفاق والصراع‏

إذا كان هناك توافق أيديولوجي بين الحركة الإسلامية والنظام في معاداة الحركة اليسارية ومحاربة الأفكار الشيوعية، إلا أن التباينات فيما بينهما، برزت عند ظهور حركة الاتجاه الإسلامي بقوة في أوساط الحركة الطلابية، كماً وكيفاً، إثر "تمرد" اليسار الطفولي على النظام، الذي استتبع الصراعات الإيديولوجية و السياسية للمجموعات اليسارية خلال فترتها البطولية التي حاربت فيها النظام، على الرغم من التفاوت العميق القائم بين الأطروحات اليسارية وإمكانية وجود تنظيم نقابي مستقل .‏

على نقيض دخول اليسار في أزمته البنيوية واشتداد حالة التشرذم والتفتت في صفوفه وبداية انهيار تأثيره في الجامعة، أصبحت حركة الاتجاه الإسلامي تبحث عن نقاط ارتكاز داخل الأطر النقابية للحركة الطلابية. وعلى الرغم من أن حركة الاتجاه الإسلامي تلقت ضربة موجعة في صيف 1981، إلا أن النصف الأول من عقد الثمانينات ستشهد فيه الحركة حالة من الاستقطاب قوية جداً بفضل جهاز التنظيم السري، إذ ستوظف الحركة كل عناصر الاستمالة من رياضة وكشافة وفن وثقافة، وهي كلها أدوات اجتذاب وزرع في أرض أصبحت أكثر خصوبة بمفعول الثورة الإيرانية وبروز قيادات الحركة إلى العلن. وكان من الطبيعي أن يمتد النشاط الإسلامي نفسه إلى النواة التي بدأت تتكون منذ 1975، وهي النواة " العسكرية الأمنية " التي ستركز نشاطها واستقطابها التنظيمي من داخل الأكاديمية العسكرية، واختراقها للمؤسسة الأمنية التونسية .‏

فمجالات الاختراق التي ركزت عليها حركة الاتجاه الإسلامي طيلة عقدي السبعينات والثمانينات هي مجالات التعليم والإعلام والجيش والشرطة، وحققت فيها نجاحات مهمة ومتفاوتة. لكن تنامي قوة التنظيم الإسلامي، واتساع نطاق استقطابه الاجتماعي و السياسي لم تمكن حركة الاتجاه الإسلامي من الحصول على الترخيص لها باعتبارها حزباً سياسياً في البلاد، ولم يُرخص لها بإصدار مجلة ناطقة باسم الحركة .‏

شهدت سنة 1983 بداية الانفراج بين حركة الاتجاه الإسلامي وحكومة مزالي، وكان أحد أسباب الانفراج يكمن في الوساطة التي قام بها د. حمودة بن سلامة أمين عام الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وأحد الشخصيات السياسية المهمة، وصلاح الدين الجورشي أحد الذين شاركوا بنشاط الحركة ثم تخلى عنها، وذلك بين الحكومة التونسية والحركة، ولاسيما أمينها العام عبد الفتاح مورو، وقد نقل الجورشي شروط حكومة مزالي إلى الاتجاه الإسلامي ممثلة بثلاثة بنود .‏

- تخلي الحركة عن اعتبار نفسها حزباً سياسياً‏

- التوقف عن سياسة تسييس المساجد‏

- احترام القانون وشجب كل ممارسات العنف‏

وقد بدأت استجابة كبيرة في أواسط حركة الاتجاه الإسلامي لشروط الحكومة ووساطة الجورشي. وهكذا أصدرت الحركة بياناً في السادس من حزيران 1983 بمناسبة مرور عامين على تأسيس الحركة، تضمن نقطتين اعتبرتا بمثابة تحول مقبول في موقفها إزاء السلطة، فقد أكد البيان

- عدم لجوء الحركة إلى العنف، ونبذه كوسيلة في العمل السياسي .‏

- عدم اعتبار " حركة الاتجاه الإسلامي " ممثلة للإسلام كتيار، والاعتراف بأنها جزء من تيارات إسلامية، والتنديد بأي احتكار للدين من قبل أي حركة سياسية إسلامية .‏

واعتبر هذا " التحول " من قبل الحركة حافزاً للسلطة التونسية على اتباع سياسة جديدة إزاء الاتجاه الإسلامي بهدف تشجيع الاتجاهات المعتدلة داخل الحركة، وخاصة أن الحملات المتتالية على الحركة، وقد أخفقت في تصفيتها باعتبارها ظاهرة في الحياة السياسية ولا سيما أن الحركة، بدأت تحظى بتعاطف جماهيري واسع، بات يخيف السلطة من أن تتحول معه إلى جماعات سرية ذات طابع ... إرهابي .

وهكذا أوجدت السلطة فرصتها في البدء بسياستها الجديدة. فكانت الأحكام المخففة في تموز 1983 ضد معتقلي الاتجاه الإسلامي ثم بدأ التمهيد لإطلاق سراح أمين عام الحركة عبد الفتاح مورو، الذي كان قد حكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات عام 1981 .‏

وقد جاءت خطوة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة بإطلاق مساجين حركة الاتجاه الإسلامي بمن فيهم زعيم الحركة الشيخ راشد الغنوشي، والتي اتخذها في آب 1984 بمناسبة عيد ميلاده الحادي والثمانين، جاءت مؤشرا مهما على تغييرات في موقف السلطة التونسية من الحركة وإمكانية حصولها على حق ممارسة نشاطها التنظيمي والدعاوي بصورة علنية .‏

وقد رحبت أحزاب المعارضة التونسية بقرار العفو الرئاسي هذا، وأصدر كل من رابطة حقوق الإنسان التونسية، وحزب الوحدة الشعبية الذي يتزعمه محمد بلحاج عمر، والحزب الشيوعي التونسي، وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين التي يتزعمها أحمد المستيري، بيانات بهذا الاتجاه(11) ، فيما أضافت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان إلى ذلك مطالبتها باتخاذ خطوات أخرى على طريق تدعيم المسار الديمقراطي وضمان احترام حقوق الإنسان وحرياته الفردية والعامة، كما طالبت بتحقيق :‏

- اتخاذ مبادرات عدلية وحكومية بقصد تهدئة الخواطر، وفي اتجاه طي صفحة حوادث ثورة الخبز ونتائجها .‏

- إعلان العفو التشريعي العام في البلاد.‏

- عودة جميع المنفيين السياسيين إلى الوطن.‏

- ضمان الحق في الشغل، والحقوق المدنية و السياسية للمساجين السياسيين السابقين.‏

- إطلاق سراح جميع من حوكموا من اجل آرائهم، أو من أجل انتمائهم السياسي .‏

- تنظيم الإيقاف التحفظي، وتقديم الضمانات لمنع التعذيب خلال الاستنطاق .‏- ضمان حق التنظيم بدون عراقيل، وإقامة تعددية سياسية حقيقية في البلاد .‏

وعبر الشيخ راشد الغنوشي زعيم الحركة عن ارتياحه لقرار الحبيب بورقيبة بإطلاق سراح مساجين حركة الاتجاه الإسلامي، وقال : " أن تحقيق هذه الخطوة، لم تكن مصادفة، بل كانت نتيجة مسيرة نضالات وجهود القوى الديمقراطية والمنظمات السياسية والإعلام المستقل. وأساساً جهود الشعب المسلم، بل جهود كل المنظمات العالمية والإنسانية "، وقد أعرب الغنوشي عن أمله في أن يتم رفع الحصار والسجن عن بقية القوى السياسية وتمكينها من حقها في التواجد القانوني، وحق التعبير، ورفع القيود عن الصحافة (13) .‏

2 - من الخروج من السجن إلى مرحلة الصدام مع السلطة:‏

حين غادرت القيادات الإسلامية السجن في صيف 1984 بدأت حركة الاتجاه الإسلامي تقوم بمراجعة نقدية للخيار السياسي في الفترة السابقة التي حققت فيها الحركة الإسلامية نقلة نوعية من مستوى حركة ثقافية اجتماعية معتدلة إلى حركة سياسية راديكالية ثورية، تتحدى السلطة في موقع قوتها، باعتبارها حركة تحمل مشروعاً إسلامياً مقابل الإفلاس الذي انتهى إليه المشروع البورقيبي التغريبي الذي تحول إلى عصا وإلى مجموعة مافيا في عهد الجنرال بن علي.‏

وفي سياق هذه المراجعة برزت تيارات مختلفة داخل حركة الاتجاه الإسلامي .وكانت قضايا الخلاف داخل الحركة تتبدى في ثلاث قضايا أساسية هي : قضية العمل السياسي في رؤية الحركة، وقضايا الخلاف النظري، وموضوع قيادة الحركة .‏

حول موضوع العمل السياسي :‏

التيار الأول ويدعو إلى التفاعل مع الأطراف المتعاطفة مع الحركة داخل الحكم وفتح جسور الاتصال معها. وكان المقصود بهذه " الأطراف " رئيس الوزراء آنذاك محمد مزالي الذي لعب الدور الرئيس في قرار الإفراج عن قيادة الاتجاه الإسلامي المعتقلة. وكان عبد الفتاح مورو أمين عام حركة الاتجاه الإسلامي الذي أفرج عنه قبل زملائه لأسباب صحية هو مهندس هذا التقارب، إذ التقى مزالي أكثر من مرة في بيته وسلمه في إحدى المرات رسالة موجهة إلى الرئيس بورقيبة تتضمن التزام الحركة العمل في إطار الدستور وشرعية القانون، وكانت هذه الرسالة الورقة الحاسمة في إقناع بورقيبة باتخاذ قرار العفو. ويدعو مورو إلى انتهاج المسار السياسي المقونن والحصول على تأشيرة حزب سياسي والإسهام في الحملات الانتخابية سواء كانت برلمانية أو بلدية إلى جانب أحزاب المعارضة الأخرى، بغية تعزيز نفوذ الحركة كحزب سياسي، بما يعزز وجود الحركة كاتجاه في البلاد، الأمر الذي يعني ازدواجية سياسية - دينية، بحيث يكون للحركة زعامة سياسية وزعامة دينية. ويؤيد هذا التيار التعددية والعلاقة مع الأحزاب الأخرى كخط تكتيكي، وبهذا المعنى فإن دعوات " الديمقراطية " عند هذا التيار، ترفع شعاراً في الظرف الحالي كما هي حال المطالبة بالعفو التشريعي العام لأن شعارات كهذه، تعتبر شعارات علمانية تتعارض مع الاتجاهات المبدئية للحركة .‏

التيار الثاني كان يمثله الشيخ راشد الغنوشي وهو يلتقي مع التيار الأول في العديد من النقاط، إذ كان يؤكد أن شعارات التعددية والعفو العام والصحافة ينبغي أن تستخدم للاستفادة منها لخدمة حركة الاتجاه الإسلامي حتى يتصلب عودها وتستطيع إبدال شعار "الديمقراطية " باعتباره شعاراً علمانياً بشعار" الشورى المشروطة" وفضلاً عن ذلك إن ممثلي هذا التيار وأنصاره يرون ضرورة الدمج بين الزعامة الدينية و السياسية في تعبير واحد، مع التأكيد أن الدور السياسي هو مجرد دور عرضي مقارنة بالدور الديني .‏

التيار الثالث والذي تعبر عنه الأوساط الطلابية في حركة الاتجاه الإسلامي، ويعبر هذا التيار عن نفسه في رفضه لقوانين العمل السياسي والحصول على التأشيرة، لان ذلك في نظرهم تحالف مع السلطة الرجعية واعتراف بشرعيتها الدستورية. وعليه فإن العمل السياسي ينبغي أن يحسم مسألة العلاقة مع السلطة - وحزبها - والمعارضة العلنية الرسمية وعلى الحركة أن تعد نفسها لتسلم السلطة عبر الدعاية السياسية السرية، ومقاطعة الأجهزة الرسمية، وتأهيل قاعدة إسلامية مع قيام تنسيق مع حركة الوحدة الشعبية التي يتزعمها السيد أحمد بن صالح في الخارج، وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين، ثم مع الحزب الشيوعي التونسي مع ضرورة الابتعاد عما يمكن أن يشير إلى وجود تحالف مع هذه القوى، حتى لا يستغل في إبعاد " تهمة الإلحاد " عنها، كما يؤكد هذا التيار المراهنة على الاتحاد العام التونسي للشغل للأهمية التي يمثلها، والتحالف مع الشق العاشوري نسبة إلى الزعيم النقابي الحبيب عاشور ) وهو يخوض الصراع مع اليسار النقابي.‏

وشكل التياران الثاني والثالث الأكثرية داخل حركة الاتجاه الإسلامي، ووقفا موقف الرفض بدرجات متفاوتة لأراء وأطروحات عبد الفتاح مورو. وفي المؤتمر السرّي الذي عقدته الحركة في كانون الأول ديسمبر ) 1984، حمل رموز التيارين الثاني والثالث على ممثلي تيار مورو وعلى بعض الكوادر أمثال عبد العزيز التيميمي وكمال بن يونس مراسل إذاعة لندن بتونس) وعضو المكتب السياسي بن عيسى الدمني الذين كانوا ينتقدون عدداً من المقولات السلفية مثل مقولة " جاهلية المجتمع" وسيطرة الفكر الإخواني على الحركة بشكل عام. وأكدت الأكثرية في المؤتمر رفضها لمضمون الرسالة التي وجهها مورو إلى الرئيس بورقيبة عن طريق محمد مزالي .‏

الخلاف النظري‏

أما التناقض النظري أو الفقهي داخل حركة الاتجاه الإسلامي، فهو تناقض منهجي في رؤية الدين والواقع و"اختلاف عقيدي واجتماعي و سياسي يمس جوهر القضايا المطروحة ومنهج التعامل معها" وقد اتخذ هذا التناقض شكلاً حاداً في قضيتين أساسيتين .‏

الأولى: علاقة العقل بالنقل، الأمر الذي يشير إليه التفاوت التفسيري للنصوص القرآنية، ومن ثم تحديد جوهر المفاهيم الأساسية من طراز: ماهية الإسلام، وماهية التوحيد، وعلاقة الدين بالسياسة ومسألة الديمقراطية. ويعبر الخط التقليدي - قيادة الحركة - عن موقفه بتقديم مركز -النقل- النص الديني على العقل، بقراءة النصوص الدينية قراءة أصولية لا تاريخية، فيما يحاول الاتجاه الآخر تقديم تفسيرات أكثر عصرية للنصوص الدينية .‏

الثانية : الموقف من السلفية، التي يرتبط بها الموقف من العلاقة بين العقل والنقل في فهم النصوص الدينية، إذ ينتقد المجددون داخل حركة الاتجاه الإسلامي الشيخ راشد الغنوشي بصفته "ممثلا للخط السلفي الرجعي داخل حركة الاتجاه الإسلامي "، انطلاقاً من تقديمه النقل على العقل، وربطه ذلك بالسلفية الأصولية .‏

الخلاف في موضوع قيادة الحركة‏

تبادل قطبا حركة الاتجاه الإسلامي زعامة الحركة والجسم الطلابي فيها الاتهامات بسبب الخلافات الناتجة أصلاً عن تفاوت المواقف واختلافها إزاء السلطة والإجراءات الساخنة التي شهدتها تونس في النصف الأول من عقد الثمانينات .‏

إذ كانت حركة الاتجاه الإسلامي تتمتع بشرعية تاريخية في مستوى نشاطها وقيادتها، ولم تكن تسمح من قبل ببروز قيادات الجيل الثاني الذي تربى في حلقات التنظيم، فإن الزج بهذه القيادة التاريخية في السجن في صائفة 1981 سيفسح في المجال لبروز قيادات الصف الثاني وأبرزهم حمادي الجبالي مهندس ينتمي إلى القيادات التكنوقراطية، وهو سيصرف كل ما تحقق له من ملكات وتكوين ليحول التنظيم الإسلامي من ظاهرة ارتبطت بالمساجد إلى ظاهرة تحقق انتصاراً جماهيرياً في الشوارع. حمادي الجبالي كان معاضداً بمكتب تنفيذي يضم كل من علي العريض والأزهر نعمان ومحمد القلوي وعلي بوراوي وعلي الزروي ومحمد العكروت. كل واحد من هؤلاء كان يحمل اسما واحدا أو اسمين حركيين. حمادي الجبالي عرف باسم وحيد ثم عبد الواحد وعلي العريض باسم جلال ثم فيصل أما الزروي فعرف باسم فارس ثم تغير إلى حامد في حين عرف العكروت باسم عياد ثم الحاج وحمل الأزهر نعمان اسم صلاح وعرف بوراوي باسم محفوظ .‏

هذه القيادة هي التي ستتولى تسيير الحركة من صائفة 1981 إلى مؤتمر سليمان في سنة 1984، إنها ستجتمع سراً مرتين كل أسبوع برئاسة حمادي الجبالي. من محاور النقاش في هذه الاجتماعات نشاط خلايا التنظيم في المناطق والاستماع إلى عرض أسبوعي عن مسار العمل الدعوي في الجهات وحالات الاستقطاب وما يتبعها من إنشاء خلايا جديدة خاصة في المعاهد التلمذية وفي الجامعة .‏

المهندس حمادي الجبالي وأستاذ الرياضيات محمد شمام شكلا الدينامو المحرك للتنظيم على صعيد النشاط والتعبئة واختراق المؤسسة العسكرية والأمنية، في حين كانت القيادة في السجن تسعى لمد الجسور نحو محمد مزالي للاستفادة منه بهدف إطلاق سراحها. وتحقق ذلك بعد سبعة اشهر من أحداث ثورة الخبز عام 1984، حيث خرجت القيادة التاريخية لحركة الاتجاه الإسلامي. وبهذا الخروج تكشفت بعض الحزازات والخلافات .‏

وكان الإفراج عن الشيخ راشد الغنوشي ورفاقه قد أفضى إلى وجود قيادتين في التنظيم: قيادة الجيل الأول التي مثلها راشد الغنوشي وصالح كركر ومن معهما، وقيادة الجيل الثاني التي قادها حمادي الجبالي، الأولى تعتبر نفسها هي الشرعية وهي الممثلة لقرارات مؤتمر 1981، والثانية تعتبر أنها اكتسبت شرعية ميدانية، وان القاعدة التنظيمية الموزعة في أنحاء البلاد آنست العمل معها، وأصبح تماسك الحركة مهدداً بوجود الفريقين جنباً إلى جنب من دون حسم الأمر والخروج بموقف واضح .‏

وكانت القيادة التاريخية تشكو في حد ذاتها شروخا بين أعضائها، ذلك أن خلافات حادة حصلت في السجن بين الشيخ راشد الغنوشي وصالح كركر، نتيجة للمساعي التي بذلت لدى محمد مزالي للحصول على الإفراج ولرسالة الاستعطاف التي تم توجيهها إلى الرئيس السابق الحبيب بورقيبة لطلب العفو عن المسجونين. والرسالة حّررها عبد الفتاح مورو، إلا انه لم ينجز ذلك بصورة إفرادية بل كانت نتيجة تشاور ونقاش بين العناصر القيادية الموجودة خارج السجن و الشيخ راشد الغنوشي الذي تمتع طيلة بقائه في السجن بإمكانية التخاطب مع القيادة الجديدة .‏

وقد أسهمت عملية دخول قيادة الحركة إلى السجون في سقوط هالة التقديس التي أحيطت بها القيادة التاريخية، وفي تقديم القطاعات الطلابية والشبابية التي انضمت إلى الحركة بعد الثورة الإيرانية، وأظهرت تأييداً لعملية قفصة سنة 1980، وتوجهت نحو التوسع في العمل السياسي من خلال الإضرابات الطلابية سنة 1981، رموزا لبعض المراكز القيادية في أثناء وجود القيادة في السجون، وفي تصعيد الخلافات بصدد موقع كل من القيادة التاريخية وقيادة الجيل الثاني في حركة الاتجاه الإسلامي، التي أظهرت في تجربتها أربع قواعد في حل الخلافات وهي :‏

1- محاولة احتواء معارضي القيادة بإعطائهم مراكز قيادية في الحركة.‏

2- وفي حال إخفاق المحاولة فإنه يتم اللجوء إلى تهميش الخلاف وتحويله إلى خلاف شخصي .‏

3- اللجوء إلى الحسم التنظيمي باتخاذ قرارات تنظيمية تتعلق بموضوع الخلاف ورموزه.‏

4- تبني نقاط الخلاف لتمييع التناقض مع المعارضين والاستمرار في إدانتهم ووصفهم بصفات تقلل من حجمهم وقوتهم .‏

وهكذا، فإنه عدا عن التناقضات النظرية، فإن الخلافات السياسية قد اتسعت داخل حركة الاتجاه الإسلامي، وتم تبادل الاتهامات، بحيث بدت القيادة الطلابية مسؤولة عن دخول قيادة الحركة وكوادرها في السجن بسبب المواقف المتطرفة، فيما بدت القيادة التقليدية للحركة متهمة لهذا السبب او ذاك بالتواطؤ مع النظام ومحاولة إضفاء الشرعية عليه بخاصة في موضوع الحصول على تأشيرة لممارسة النشاط السياسي في إطار النظام والاعتراف بالشرعية الدستورية .‏

هذه التناقضات هي التي فرضت مؤتمر كانون أول 1984، الذي انعقد بمدينة سليمان، وترأسه آنذاك علي العريض. هذا المؤتمر أعاد التنظيم إلى قبضة الشيخ راشد الغنوشي. إذ سمح له استيفاء الشروط التي تهيئ له الإمامة بمفهومها الديني للتنظيم. فأخذ الشيخ راشد الغنوشي الإمارة وهو أمر طبيعي، إضافة إلى رئاسته المكتب التنفيذي وهو أمر مغاير تماماً لتقاليد الحركة التي كانت تحرص من قبل على الفصل بين خطة الإمارة والمكتب التنفيذي كجهاز سري للتسيير والإدارة، وأخذ أيضاً قيادة المكتب السياسي العلني الذي يقود حركة الاتجاه الإسلامي أمام الرأي العام. كما اتخذ المؤتمر قرارات عدة سيكون لها بعد ذلك أهمية كبرى خاصة قرار إحداث مركز شرعي في صلب الحركة للنظر في مدى تطابق قراراتها مع الشرعية الإسلامية .‏

ومنذ تلك الفترة اختارت الحركة طريق إعادة بناء خلاياها وإنشاء لجان متخصصة يتولى رئاستها أعضاء " المكتب التنفيذي " الذي تم تعيينه في مؤتمر 1984 ومن هذه اللجان لجنة القطاع النقابي ولجنة القطاعين السياسي والإعلامي ولجنة الإدارة والتنظيم ولجنة المالية، كما تم تعيين المهندس حمادي الجبالي رئيساً للمكتب التنفيذي السري. وإلى جانب المكتب التنفيذي اختارت الحركة في تلك الفترة أيضاً أعضاء " مجلس الشورى " وهو أعلى هيئة في الحركة بعد المؤتمر، إلا أن الصورة العلنية للاتجاه الإسلامي" كانت تختلف عن هذا البناء الذي أنشئ على صيغة التنظيمات السرية الحديدية بما في ذلك استخدام الأسماء المستعارة. ففي يونيو 1985 أي في الذكرى الرابعة للإعلان عن تأسيس الحركة، عقد خمسة من قياديي الحركة مؤتمراً صحفياً ليعلنوا أنهم هم أعضاء المكتب السياسي الجديد. وكان على رأسهم راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو، إلا أن ثلاثة من مكتب 1981 كانوا قد غادروا الحركة وهم: بنعيسى الدمني مسؤول النشاط الإيديولوجي وزاهر المحجوب المسؤول المالي وحبيب المكني مسؤول الإعلام، وعوضهم ثلاثة قياديين جدد هم حبيب اللوز وحمادي الجبالي وحبيب السويسي، لكن الواضح أن هذه القيادة العلنية لم تكن تعكس الجسم التنظيمي الحقيقي الذي كان عماده 20 شخصا هم (6) أعضاء المكتب التنفيذي و(14) أعضاء مجلس الشورى، وأسهمت القيادة العلنية في إقامة علاقات مع أحزاب المعارضة الأخرى ومع الصحافة وحتى مع الحكم. ففي أعقاب الغارة الصهيونية على ضاحية حمام الشط في أكتوبر1985 نظمت أحزاب المعارضة اجتماعاً شعبياً في العاصمة لإدانة الموقف الأميركي. وشارك الغنوشي باسم"الاتجاه الإسلامي " في هذا الاجتماع. ثم استقبل المزالي بعد أيام رؤساء الأحزاب الثلاث المعترف بها، واستقبل بعدهم وفدا يمثل " حركة الاتجاه الإسلامي " ويتألف من الغنوشي ومورو والجبالي .‏ وطبعا أذيع الخبر في كل وسائل الإعلام الرسمية، كانت تلك المناسبة المرة الأولى التي يلتقي فيها مسؤول كبير في الحكومة قياديين من " الاتجاه الإسلامي " بشكل رسمي وعلني .‏

على صعيد العمل السياسي والفكري كثفت الحركة نشاطها وسعت إلى انتداب عناصر جديدة خصوصاً في الكليات والمعاهد، واتخذت من المساجد مجدداً منطلقاً لنشر الدعوة، وساعدها في ذلك أن عدداً كبيراً من الكوادر الهاربة في الخارج تمكنت من تسوية أوضاعها القانونية وعادت إلى تونس مثل فاضل بلدي الذي تولى رئاسة الحركة مدة قصيرة قبل خروج الغنوشي من السجن. وكانت الجامعة تمثل منطقة بمفردها في بنية الحركة التنظيمية ترتبط مباشرة بالقيادة ويقودها مجلس الجامعة، وكانت المساجد داخل المبيتات والأحياء الجامعية هي مراكز الإشعاع والعمل، حيث عقد الاتجاه الإسلامي " المؤتمر التأسيسي " للاتحاد العام التونسي للطلبة عام 1985. وبهذه الخطوة جسّد الطلبة الإسلاميون مشروع الانشقاق النقابي في الجامعة مكرسين بذلك التعددية النقابية في الحركة الطلابية، باعتبارها تلتقي موضوعياً مع برنامج النظام التصفوي الذي يهدف إلى تكوين نقابة خاصة للطلبة الدستوريين، الذين ظللوا هامشيين في الجامعة، ونقابة للطلبة الأصوليين الإسلاميين،‏

ونقابة لليسار. علماً بأن الطلبة الإسلاميين يعتبرون الطلبة اليساريين دعاة المؤتمر الخارق للعادة هم المجسدون الحقيقيون للانشقاق، وذلك برفض النشاط النقابي و السياسي للتيار الإسلامي على صعيد الاتحاد .‏

أما العمل التنظيمي داخل المحافظات الداخلية فقد تميز بما يلي:‏

كان يشرف على كل محافظة عامل تنسيق مباشرة مع القيادة ويساعده مكتب تنفيذي محلي، وكانت العاصمة مقسمة إلى أربع مناطق. كما يوجد في كل منطقة مجلس استشاري محلي يرتبط بالمجلس الاستشاري المركزي ومهمته النظر في القضايا المطروحة على الحركة وانتداب الأعضاء الجدد وتكوينهم سياسياً وعقائدياً ضمن خلايا يبلغ معدل عدد أعضائها (5) أعضاء وتجمع كل منطقة إسهامات مالية من الأعضاء تنفق في نشاط الحركة ويحول جزء منها إلى القيادة، إلا أن اللافت للانتباه أن التحقيقات كشفت عن عدد كبير من التجار الذين كانوا يساعدون الحركة بالأموال من باب "إخراج الزكاة " وهو تطور مهم بالمقارنة بمرحلة ما قبل 1981 .‏

أما على الصعيد الخارجي فكان للحركة فروع في باريس والجزائر والمغرب، كما أقامت الحركة صلات وثيقة مع الحركات المماثلة في الجزائر والسوان، إذ زار وفد من قيادة "الجبهة القومية الإسلامية" تونس وأجرى سلسلة من الاجتماعات مع قيادة الحركة في تونس وانتقل عدد من كوادر " حركة الاتجاه الإسلامي" إلى السودان للاستفادة من خبرة "الجبهة" وتجاربها .‏

وكان طبيعياً في مناخ التحولات التي عرفتها الحركة في منتصف الثمانينات وتعاظم حجمها وانتشار بنيتها التنظيمية أن يتوقف القياديون لمراجعة المرحلة الماضية وتحديد خطوط المرحلة الآتية، لذلك دعت القيادة إلى مؤتمر عام سري بالمنزه في ديسمبر 1986 استمرت أعماله لمدة يومين وكان برئاسة حمادي الجبالي وحضره نواب عن كل المحافظات وتمت خلاله مناقشة تقريرين سياسي ومالي وبحث آفاق تطور الحركة في المستقبل. واتخذ المؤتمر قرارين: الأول تصديق وثيقة " الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الاتجاه الإسلامي ". الثاني : انتهى الحضور إلى الاتفاق على وثيقة توجيهية تسمى " الاستراتيجيا " وتقسم خطة عمل الحركة إلى ثلاث مراحل أساسية وهي مرحلة البلاغ والتعريف بالنفس ومرحلة إعداد البديل من برامج وكوادر وفقا " للنمط الإسلامي " ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي " مرحلة التمكين ". وأعاد المؤتمر انتخاب راشد الغنوشي رئيسا للحركة وعين أعضاء مجلس الشورى والمكتب التنفيذي الذي وضع كلاً من حمادي الجبالي وصالح كركر وعلي العريض، والفاضل البلدي ومحمد شمام وعلي الزروي، ولم يمر شهر على هذا المؤتمر حتى عثرت قوات الأمن على مركز وثائق الحركة في بيت بأحد الأحياء الشعبية، وتمكنت بذلك من معرفة بنية الحركة وخلاياها وفروعها، ففرضت نوعاً من الإقامة الجبرية على الغنوشي في بيته خلال شهر تشرين أول أكتوبر) من سنة 1986. واعتقلت عددا من العناصر القاعدية وإحالتهم على المحاكم. وبدأت المواجهة تتصاعد يوما بعد يوم، خصوصا بين طلاب حركة الاتجاه الإسلامي، وقوات الأمن في الجامعة، إلى أن تقرر الهجوم الشامل في 9 آذار مارس) سنة 1987، فاعتقل الغنوشي وتبعه عدد كبير من القياديين والكوادر .‏

لقد بلغت الأزمة التي تفاعلت بين النظام وحركة الاتجاه الإسلامي ذروتها، بإعلان الحكومة هجومها الصاعق على قيادات وكوادر الحركة الأصولية الإسلامية، إثر الاضطرابات والاشتباكات الطلابية العنيفة مع قوات الأمن في حرم الجامعة، وفي شوارع العاصمة التونسية، في شهري نيسان أبريل) وأيار الذي وافق شهر رمضان من سنة 1987.‏

وكانت الحكومة التونسية، قد درجت على وصف ما يجري، بأنه مجرد أعمال تخريبية تقوم بها جماعات متطرفة تتلقى تعليمات وأوامر من الخارج " وقد اتهمت السلطات التونسية قيادات وأعضاء حركة الاتجاه الإسلامي، بالتورط وبالتخطيط مع النظام الإيراني، لمؤامرة تصدير الثورة إلى تونس، والإطاحة بالنظام التونسي، في أعقاب الإضرابات والاضطرابات الطلابية في الجامعة، وإلقاء السلطات الفرنسية القبض على عدد من التونسيين في باريس على علاقة مع إيران، الأمر الذي جعل تونس تقطع علاقاتها مع طهران. وأعلن مدير الحزب الدستوري السابق عبد العزيز بن ضياء، إن تونس تواجه " فراغا إيديولوجيا " ودعا كوادر الحزب الحاكم إلى " العمل لسد هذا الفراغ من أجل التصدي في الحال لخطر التشدد الديني، ولكفالة الاستقرار والبقاء للحزب " .‏

وفيما أظهرت التطورات ازديادا حادا في المواجهة مع حركة الاتجاه الإسلامي، وخوفا حقيقيا من مصير النظام التونسي، أظهرته طريقة التغطية الإعلامية الحكومية الحزبية للمعركة، اظهر التيار الإسلامي بالمقابل قدرة على المبادرة، إلى انتهاج أسلوب العصيان المدني في التغيير

إن النظام بدأ يستشعر خطر وقوة حركة الاتجاه الإسلامي عندما تنامى تأثيرها في الجامعة والمعاهد الثانوية وغزت المؤسسات التعليمية، وسيطرت على الجمعيات الدينية، مستغلة المنابر العلنية، كالمساجد والأطر الأخرى، لا سيما حين أخذت على عاتقها الدفاع عن مصالح المنتجين الصغار، وبعض الشرائح من البرجوازية التجارية وكبار الملاكين العقاريين، أي تلك الفئات الاجتماعية المحافظة. ‏ منذ انتصار " الثورة الإسلامية " في إيران وتأسيس الجمهورية الإسلامية، أعطى خطاب " الاتجاه الإسلامي " وبخاصة الصحفي منه، دعاية كبيرة لهذه الثورة ولزعيمها الخميني. وقد استغلت " حركة الاتجاه الإسلامي " تعاطف قطاعات عريضة من الشعب مع ثورة الشعوب الايرانية، لتبث وتنشر أفكار الخميني ونداءاته، ولكي تبلور أطروحته المتمثلة في أن الدور الريادي، من الآن فصاعداً هو للحركة الإسلامية، ولرجال الدين في تحقيق التغير الاجتماعي و السياسي في تونس، عن طريق حلول عهد " الطريق الثالث الإسلامي"، واعتبار " الثورة الإيرانية "، مثالاً نموذجياً يحتذى به في هذا المجال. وقد كتب الشيخ راشد الغنوشي في مجلة المعرفة الناطقة باسم الحركة الإسلامية في تونس، تحت عنوان الثورة الإيرانية ثورة إسلامية ) " إن الحركة الإسلامية في إيران، وإن كانت قاعدتها شيعية، فإنها تصب في التيار العالمي للبعث الإسلامي، مستهدفة إيقاظ الأمة الإسلامية بكاملها ووضعها في القيادة الحضارية للعالم ". ويضيف قائلاً : " وحيث تنتصر الحركة الإسلامية في إيران، فإنها تسجل بادرة عظيمة من الصراع المحتد اليوم في العالم بين قوى الطاغوت وقوى التحرر، وبين الأنظمة الجبارة وبين الشعوب المحرومة المستضعفة، ولذلك فسوف تكون نموذجاً يهتدي به كل الأحرار في العالمين الإسلامي والنامي، وتصبح إيران قلعة للحرية ومركز الإشعاع الرسالي في العالم ". " إن ثورة إيران هي ثورة الإسلام ضد الاستبداد والقهر والتبعية والاستغلال، إنها ثورة المستضعفين ضد الطغيان السياسي والاستغلال الاقتصادي " (18) .‏

ثم إن هناك عدة عوامل أخرى ذات شأن مهم أسهمت إلى حد كبير، في احتدام التناقضات بين " حركة الاتجاه الإسلامي " والنظام. فهناك تعمق أزمة الرأسمالية الطرفية والتابعة، وما أفرزته من أزمة بنيوية عميقة في المجتمع، ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية وأيديولوجية وثقافية وأخلاقية، وتفاقم أزمة القيم في المجتمع، وتفكك بنية التشكيلة الاقتصادية التابعة بين اتجاه رأسمالي تبعي مرتبط بنيوياً بمركز الرأسمالية العالمية، وقطاع اقتصادي تقليدي تتعايش فيه أنماط الإنتاج القديمة والمتغلغلة، يزيد في تعميق التبعية، وتوسع هوة الفوارق بين الطبقات، بين قطبين متناقضين عدائيا، واحتداد الصراع الطبقي. وقد أدى كل هذا، إلى بروز قوى طبقية جديدة على صعيد المسرح السياسي التونسي، تطالب بالديمقراطية، وبتحقيق الحرية السياسية للشعب. وهو ما قاد بدوره إلى " تخلي " النظام تكتيكياً، عن سياسة التصلب والفاشية، التي اتبعها في السبعينات، وانتهج سياسة " التفتح والديمقراطية " مع مجيء حكومة محمد مزالي، إثر مؤتمر الحزب الحادي عشر في نيسان 1981. وهناك مجيء " الثورة الإسلامية " في إيران، وظهور مد إسلامي في عموم الوطن العربي، وانتعاش أطروحات الحركات الدينية والطائفية بوجه خاص. وهناك من جهة ثالثة تضخم صفوف " حركة الاتجاه الإسلامي "، وشعورها بأنها أصبحت تشكل قوة سياسية منظمة في البلاد. وعلاوة على هذه العوامل الثلاثة، هناك الانقسامات والصراعات داخل الحركة الإسلامية التونسية بوجه عام، التي انقسمت إلى عدة فصائل وتيارات، منها، انفصال " الجماعة الإسلامية " عن " حركة التبليغ "، وتحول " الجماعة الإسلامية " إلى حركة " حركة الاتجاه الإسلامي - التي تحولت إلى حزب سياسي يحمل هذا الاسم، في يونيو 1981، عندما تم الإعلان عن أسماء قيادته، وكان من ضمنها رئيس الحركة راشد الغنوشي، وأمينها العام عبد الفتاح مورو، وخروج " الإسلاميين التقدميين "، الذين كان يتزعمهم رئيس تحرير مجلة " المعرفة " حميدة النيفر مع استمرار الصراعات داخل الاتجاه، وظهور " الإسلاميين التقدميين ". وقد برزت حركات سلفية اكثر تطرفاً، ولجأت إلى العنف والعمل السري المنظم، وشكلت استمراراً بصيغ مختلفة للتيار الأصولي الإسلامي، أو تعميقاً له، ومنها " جماعة المسلمين "، و" حزب التحرير الإسلامي "، و" الجهاد الإسلامي ". إن هذه العوامل مجتمعة فرضت على " حركة الاتجاه الإسلامي" تحولات حقيقية في مضمون خطابها الإيديولوجي و السياسي، بحيث أصبحت تطبع نشاطها العلني والسري بطابع سياسي مباشر وهجومي، وتطالب بإيجاد أطر للعمل السياسي العلني، من خلال اعتراف السلطة البرجوازية التونسية بها كحزب سياسي، له الحق أن يمنح شرعية النشاط السياسي العلني، في البلاد. ومن هنا جاء رفض النظام التونسي الاعتراف " بحركة الاتجاه الإسلامي " كحزب سياسي، وبالنشاط القانوني للحركة، مادام هذا الحزب السياسي الديني، يعتمد الإسلام كأيديولوجية سياسية، حيث كرر النظام قوله : بان " تونس بلد إسلامي دستورا وواقعا وممارسة. وعندما يقوم حزب إسلامي في تونس المسلمة فنحن نتساءل هل أن من لم يدخل هذا الحزب هو كافر؟" .‏

إن التحول الخطير في الحركة الأصولية السلفية في تونس، يتمثل في عنصر التجديد الأساسي في حركة الاتجاه الإسلامي، وهو بناء التنظيم السري وربطه بقضية السلطة الإسلامية البديلة، باعتباره أداة سياسية من أجل تأسيس الدولة الإسلامية. ثم أن حركة الاتجاه الإسلامي، أصبحت تقوم بتوعية سياسية وتعبئة كاملة في صفوف أعضائها، وعلى صعيد الشارع، للربط بين الإسلام والكفاح ضد " الاستبداد السياسي "، وبالتالي العمل على خلاص تونس من حكم العمالة والخيانة والنهب، باسم الإسلام وتحت رايته، بوصف الإسلام " الدرع الواقي للشعب. ." وهو "الحماية لمكاسبه والمحافظة على هويته والدعاء لمطالبه، والبوتقة لعواطفه الوطنية ". وعلى الرغم من أن حركة الاتجاه الإسلامي قد تظاهرت في بداية الثمانينات بقبول "اللعبة الديمقراطية" و "بالتعددية السياسية " وبحق الشعب في اختيار من يمثله للوصول إلى السلطة عن طريق " انتخابات عامة "، إلا أن مثل هذه السلوكيات السياسية التي تعكس قدراً كبيراً من مرونة التكيف مع سياسة " التفتح والديمقراطية " لا يمكن فهمها إلا في سياق " مبدأ الدعوة " للإسلاميين، كما جاء في وثيقة " رؤية في الخطة المرحلية للعمل السياسي" .‏

ومع اعتقال قيادات " حركة الاتجاه الإسلامي " في ربيع 1987، جسد النظام التونسي النهاية العملية والعلنية لسياسية " التعددية السياسية "، مع العلم أن النشاط السياسي للحركة الإسلامية كان مسموحاً به بحدود في عهد المزالي. ويعتبر إحدى العلامات البارزة في سياسة " التفتح والديمقراطية " التي انتهجها، ولكن حركة الاتجاه الإسلامي التي حاولت بصورة تكتيكية أن تكون " ديمقراطية "، في ظل نظام عريق في الاستبداد والديكتاتورية بشخص رئيسه الحبيب بورقيبة، استخدمت " سياسة التعددية "، وسيلة لتجنيد عناصرها وبناء قوتها العسكرية الضاربة، واستغلت الأزمة الاقتصادية، والمعيشية، والبطالة، لاستقطاب الكثير من المعلمين والطلبة، والشباب العاطل عن العمل. وانتقلت إلى تجميع القوة اللازمة من بعض الفئات الاجتماعية البرجوازية الصغيرة، والتجار، وكبار الملاكين العقاريين، لتحطيم سلطان النظام التونسي القائم، عن طريق " الثورة الشعبية " تمثلاً للأسلوب الإيراني، بغية إقامة دولة إسلامية، تُحكم قبضتها على المجتمع.‏

ولكن محاكمة وسجن قيادات وكوادر " حركة الاتجاه الإسلامي " في تموز 1981، واستمرار نشاط الحركة على الواجهتين السياسية و الدينية، وقبولها سياسة التعددية السياسية، رغم أن التعددية بوصفها إحدى مقومات الديمقراطية والعلمانية تتناقض مع رؤية الإسلاميين لأنها تقود إلى فصل الدين عن الدولة.

وشجبها العنف كوسيلة للصراع السياسي، وقبولها الشرعية الدستورية، وعدم الارتباط بعلاقة تبعية إزاء قوى أجنبية، وهو الأمر الذي قاد إلى إفراج النظام عن قيادات وكوادر" حركة الاتجاه الإسلامي " في عام 1984، رغم ذلك كله لم يغير في كل شيء من طبيعة حركة الاتجاه الإسلامي في تونس. ولأن الحركة ظلت متمسكة بإقامة نظام سياسي ديني، يجسد وحدانية العقيدة الإيديولوجية، والفكر الإسلامي، والسيطرة الكلية للدولة الإسلامية، على نطاق المجتمع كله، وعدم الفصل بين الدين و السياسية، والدين والدولة .‏ وجاءت تلك المحاكمة في ظل احتدام حرب الخلافة المتحركة والقائمة على قدم وساق، حتى بين الخلفاء، وبعد التعديلات الوزارية والحزبية، التي وضعت زين العابدين ومحمد الصياح في خط المجابهة الأولى مع الحركة الإسلامية. يقيناً أن عودة سياسة التصلب والفاشية، قد أتعبت عملياً سياسة " التفتح والديمقراطية "، وأضاعت الحد الفاصل بين عقلية الحزب الأوحد وانعدام الأحزاب.‏

في تلك المحاكمة، أظهر النظام التونسي القمعي"حركة الاتجاه الإسلامي" في صورة حركة مرتبطة بالخارج، أو هي امتداد لحركات إسلامية خارجية، تعرِّض أمن البلاد للخطر، وتتواطأ مع إيران، أولها ارتباطات مشبوهة بالنظام الإيراني، لقلب نظام الحكم في تونس، واتهمها بممارسة الإرهاب. وربط ذلك بما يجري على الساحة الإيرانية، للإشارة إلى ما ينتظره التونسيين من قيام نظام إسلامي، وبدأ يندد بالحركة الإسلامية كحركة " رجعية ومتعصبة ومتخلفة ومتزمتة ومنغلقة " الخ .‏

وقد صدرت الأحكام في تونس في خريف 1987، وقضت بإنزال عقوبة الإعدام في حق سبعة أشخاص منهم خمسة حكموا غيابياً ممن قاموا بالتفجيرات في أحد فنادق مدينة المنستير في صيف 1987. وقضت محكمة أمن الدولة كذلك بالسجن المؤبد مدى الحياة مع الأشغال الشاقة لكل من راشد الغنوشي، وفاضل بلدي، وأفرجت عن 14 آخرين .‏

وإذا كانت البورقيبية تعيش مرحلة الاحتضار السياسي والتاريخي، بوصفها نظاماً قمعياً، يمثل مصالح الطبقات المالكة للثروة في تونس، وخاصة البرجوازية الكمبرادورية وكبار الملاكين العقاريين، وعمل - وما زال - على سحق عملية التوحيد الحر والمستقل للطبقات الشعبية الكادحة، التي لها مصلحة في الثورة السياسية والاجتماعية، فإن بورقيبة بإرساله الشخصين الأصوليين اللذين صدر عليهما حكم الإعدام إلى حبل المشنقة، قد وضع الزيت على نار بركان الأزمات في تونس، منهياً بذلك فصلاً من فصول الصراع بين حركة الاتجاه الإسلامي والنظام. والشخصان اللذان أعدما في إطار قضية 1987 الكبرى، في 8 تشرين أول أكتوبر هما محرز بودقة وديخيل بولبابة، ينتميان إلى مجموعة صغيرة أطلقت على نفسها اسم " الجهاد الإسلامي ". وكانت هذه المجموعة قد شنت هجوماً على نطاق ضيق على مكتب بريد ومخفر شرطة ) وتم إلقاء القبض على كيلاني الشواشي الملازم بالجيش التونسي ) وحبيب الضاوي واعظ معروف في منطقة صفاقس ) والأزرق مناضل قومي قديم وعضو سابق في حركة الاتجاه الإسلامي ) في صيف سنة 1986، وحكم عليهم بالإعدام في نهاية شهر آب من سنة 1986. وأعلنت المجموعة نفسها مسؤوليتها عن أخطر عملية عنف حدثت في تاريخ تونس، تمثلت بوضع أربع قنابل يدوية في 2آب 1987 تاريخ ميلاد بورقيبة ) في أربعة فنادق في سوسة والمنستير مسقط رأس بورقيبة أيضاً ). وقد استخدم النظام في حينه هذا الحادث كتبرير لتكثيف القمع ضد حركة الاتجاه الإسلامي. وقد أصدرت أحزاب المعارضة الأربعة: حركة الديمقراطيين الاشتراكيين والحزب الشيوعي، والتجمع الاشتراكي التقدمي، وحزب الوحدة الشعبية، بياناً طالبوا فيه بوقف تدهور الأوضاع ووجهوا نداء إلى " كافة القوى السياسية والنقابية والإنسانية " إلى توحيد جهودها و" الوقوف بحزم ضد هذا التدهور الخطير الذي تمر به البلاد، والعمل على خلق الظروف الملائمة لفتح حوار وطني جدي وصريح بين مختلف القوى الحية في البلاد من أجل حل ديمقراطي تقدمي لهذه الأزمة"‏

4- قصي صالح درويش

لقد عطل القمع الذي تعرضت له حركة النهضة في تونس الحوار بين التيار الإسلامي والتيارات العلمانية، بعدما كان قد قطع شوطا طويلا في وضع إطار مشترك للتعايش والاحترام المتبادل. بل أكثر من ذلك إن قمع حركة النهضة، وتغييب صوتها عن الساحة السياسية في تونس، أدى إلى سيطرة العقلية الأمنية في حالتها الجامدة والساذجة، وغيب بالتالي كل القوى السياسية والاجتماعية الأخرى، فأصبحت الحياة السياسية هشة على الرغم من رصيد تونس الهائل من المثقفين ومن الوعي السياسي والتطور الاجتماعي - الحضاري الذي يميزها عن أغلب الدول العربية. وتحول شعار الانفتاح الديمقراطي الذي رفعه النظام إلى شبح لا يستطيع أن يتحمل أي درجة من درجات الاختلاف، لا في حزب حركة الديمقراطيين الاشتراكيين المعتدل منذ أسسه أحمد المستيري، ولا حتى الرابطة التونسية لحقوق الإنسان المعروفة بمصداقيتها ونزاهتها المعتدلة التي تراعي كل صيغ التوازن، ولا في الاتحاد العام التونسي للشغل أعرق المنظمات النقابية في العالم الثالث.

إن الخيار الأمني- القمعي لا يغيب الديمقراطية فقط، بل إنه كذلك يحد من إمكانيات الخطاب الأصولي المرن والمنفتح في التأثير وفي مواجهة الخطاب المتطرف (...)

5- فرنسوا بورقا

كيف فهمت حركة النهضة؟

النهضة تعتبر نتاجا لمسار طبيعي لبروز جيل جديد من النخب السياسية الباحثة عن مدخل للمنتظم المؤسسي القائم. وباعتبارها تيارا ضمن المعارضة الإسلامية يمكن النظر إليها على أنها تعبير عن استجابة سياسية مقابل خيار العلمنة "المضاد للإسلام" الذي لازم الحضور الاستعماري الفرنسي كما لازم من بعد سياسات التحديث التسلطية التي عمل الجيل الأول من النخب الاستقلالية التونسية على تكريسها. وتعكس السيرة الشخصية لراشد الغنوشي رئيس الحركة خصوصية الحالة التونسية كما تعكس في الوقت نفسه ثبات المحددات المشتركة في بقية الخصوصيات القطرية للتيارات الإسلامية.

ففي البداية الأولى كانت الصدمة التي ولدتها عملية العلمنة والفرنسة اللغوية التي فرضها بورقيبة بشكل مسقط غداة الاستقلال الوطني. ففي تونس كما في غيرها، كانت هذه السياسات ترى في مختلف التعبيرات المؤسسية للثقافة الإسلامية مجرد "عوائق أمام التحديث" وهي لذلك تأسست في قطيعة بائنة مع الرموز الثقافية واللغوية للغالبية الشعبية من ضمنها النخب.

وفي تونس كان البعد اللغوي لهذا العنف "التحديثي" وخاصة حصر مجال الاستعمال للغة العربية غداة الاستقلال- أبلغ أثرا منه في المشرق. إن هذا العنف الذي ظل منذ الاستقلال يغذي جيش" بورقيبة من المهزومين" هو الذي يحرك اليوم راشد الغنوشي كحساسية فكرية مارست عمليات التعبئة الأولى لحركته.

إذا كان القمع الذي تعرضت له الحركة قد نجح في تشويش الرؤية داخليا وفي تفكيك بنية القيادة فإنه، وبضرب من المفارقة، بواسطة هجرة عدد كبير من أطرها ومناضليها قد فتح الحركة على العالم.

فالنهضة اليوم ممثلة في عشرات البلدان من مختلف القارات. كما أن الخط السياسي والأيديولوجي السائد داخل هذا التيار المتطابق أساسا مع كتابات رئيسه راشد الغنوشي ومن بينها على سبيل الخصوص كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" يجعل منه اليوم أحد اتجاهات الحركة الإسلامية الواسعة والأكثر حركية على طريق تجديد الفكر الإسلامي الحديث ملاءمة لما يمكن أن تدعيه "الحداثة الغربية" بحق من أبعاد كونية. وقد أدى صمود النهضة أمام استدراجها لرد فعل عنيف وإرهابي بأغلب الملاحظين المحايدين إلى الاعتراف بأن النظام الذي يواجهه الإسلاميون التونسيين إلى جانب زملائهم من المعارضة "العلمانية" (الذين يتعرضون اليوم لنفس المعاملات) هو في الحقيقة المصدر الرئيسي لهذا العنف الذي غالبا ما ينسبه الإعلام الدولي إلى المعارضات الإسلامية وحدها.

للمزيد عن الإخوان في تونس

روابط داخلية

كتب متعلقة

ملفات متعلقة

.

مقالات متعلقة

.

تابع مقالات متعلقة

أخبار متعلقة

أهم أعلام الإخوان في تونس

وصلات فيديو

.

تابع وصلات فيديو