"الهضيبي" رجل المواقف الحاسمة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الهضيبي" رجل المواقف الحاسمة
18-01-2004

عاصرت- حتى الآن- أربعة مرشدين لجماعة (الإخوان المسلمين)، هم: المرحوم الأستاذ "عمر التلمساني" المحامي، والسيد "محمد حامد أبو النصر" من الأعيان، والأستاذ "مصطفى مشهور" خبير الأرصاد الجوية، والمستشار "محمد المأمون الهضيبي" القاضي السابق، والذي رحل عن دنيانا ليلة الجمعة 9/1/2004م، وذلك منذ منتصف السبعينيات وحتى اليوم.

كان لكلٍّ منهم بصمةٌ واضحة على مسيرة الإخوان، أكبر جماعة وهيئة إسلامية، وأقوى قوة سياسية الآن في مصر والعالم العربي، وشارك كلهم في قيادة جموع الإخوان.

لقد تحقق في مسيرة هؤلاء المرشدين من إنجاز ساهم فيه الجميع، وانتقلت الإخوان من مرحلة إلى مرحلة بسلاسة وهدوء، وما زال ينتظر الإخوان الكثير؛ حتى يحققوا أمل العرب والمسلمين في بناء دولة إسلامية مدنية عصرية، تحقق العدل، وتنفذ القانون والمساواة، وتطلق الحريات، وتطبق الشريعة الإسلامية تطبيقًا سليمًا، بعيدًا عن الغلو والإفراط، أو التجزئة والتقسيم، أو التفريط والتساهل.

خرج الإخوان من السجون وقد حسموا قضايا هامة، مثل: الموقف من التكفير، وهذه فتنة حدثت داخل السجون بسبب التعذيب الرهيب، وكان كتاب (دعاة لا قضاة) هو الكلمة الفصل، وكان للـ"هضيبي" الأب (المستشار "حسن"، والابن المستشار "المأمون") دور كبير في إعداد البحوث، وإخراج الكتاب، وإقناع الإخوان بضرورة الالتزام بما قرره الإمام "البنا"- المؤسس- من قواعد فقهية، وعدم الجري وراء تأويلات خاطئة لكلام الشهيد "سيد قطب"، قام بها بعض الشباب، وأهمية أن يجري تفسير وتأويل كلام "قطب" في ضوء التزامه بجماعة الإخوان طوال حياته، وفصل الإخوان على ذلك مجموعة من الشباب، أصروا على تأويلاتهم ومواقفهم، وعرفوا فيما بعد باسم (القطبيين)، بينما التزم الإخوان الاعتدال.

  • الموقف من العنف تمَّ حسْمُه بوضوح، وهذا ما سمعته من المرحوم "التلمساني"، وما أوضحه "أبو النصر"، والتزم به "مشهور"، وأعلنه بجلاء "المأمون الهضيبي"، حتى قال عن جرائم العنف في مصر وغيرها: "إنها لا تقرها شريعة ولا خلق، ولا إنسانية ولا عقل"، وبذلك عُرفت جماعة الإخوان بأنها جماعة سلمية؛ تسلك الطرق الشرعية، وتلتزم القانون.

الإصرار على إبقاء الجماعة وتنظيمها ورصِّ صفوفها، وضم شباب جديد إليها، يكون بمثابة دماء تتدفق في شرايينها كان همُّ الإخوان الأول، وهذا ما نشأ بسبب فتنة التأييد داخل السجون، وهي فتنة تسبب فيها الإيذاء الشديد والضغوط الرهيبة على السجناء، وعلى أسرهم وعوائلهم؛ وهو ما دفع البعض إلى تأييد نظام "عبد الناصر"، والوصول أحيانًا إلى التجسس على إخوانهم، وحرص "عبد الناصر" على استقطاب رموز من كبار الإخوان واستوزرهم، وانطلق البعض من المؤيدين بعد الإفراج عنهم إلى النشاط في إطار جمعيات خيرية، أو أخرى إسلامية، يفرغون فيها طاقاتهم، بينما انسحب غالبية المؤيدين إلى شئونهم الخاصة، وأغلقوا عليهم دورهم، وذابوا في المجتمع؛ وهو ما هدد كيان الجماعة.

  • حقق الإخوان خلال الثلاثين عامًا الماضية كثيرًا من الإنجازات على مستوى التنظيم، وعلى مستوى الجهد الشعبي، وعلى مستوى النشاط السياسي والفكري، وعلى مستوى الوجود الدولي، وما زال أمامهم إكمال المسيرة؛ لتحقيق بقية أهدافهم على مستوى الحكم والدولة؛ لأن مهمتهم أكبر بكثير من أن يحققها جيل واحد من أجيال هذه الدعوة.

وقد نجح الإخوان في إعادة تنظيم الجماعة في مصر، وبناء تنظيم دولي مناسب، ونجح الإخوان في صياغة لوائح مناسبة لتنظيم سير العمل وتجديدها مع الوقت؛ لتناسب اتساع العمل وحجم النشاط.

ونجح الإخوان في إزالة ما ألصقه بهم النظام "الناصري" من تهم باطلة، وقدموا الجماعة على أنها جماعة سلمية معتدلة، تقبل بالحوار، وتتعاون مع الآخرين، وتقدم إسلاما يستند إلى القواعد الشرعية القطعية، وفي الوقت نفسه قادرة على التعاطي مع مستجدات العصر.

واستطاع الإخوان جذب آلاف من الشباب إلى صفوف الجماعة، رغم بريق الشهرة الذي كان يحيط بالكثير منهم، وهؤلاء رضوا أن يكونوا جنودًا في جماعة قديرة وكبيرة وعريقة، بدلاً من أن يكونوا زعماء وقادة في جماعات جديدة ينشئونها هم، وكان ذلك قرارًا صائبًا، أثبتت الأحداث صوابه.

واجتهد الإخوان في إشاعة المفاهيم السليمة والصحيحة عن الإسلام، وإعادة الاعتبار إلى هوية الأمَّة، وانتشر مفهوم "الصحوة الإسلامية" والنهضة الإسلامية على المستوى الشعبي، واستقرت في أذهان غالبية الشعوب حقيقة أن الإسلام نظام للحياة، ودين ودولة، وأن الشريعة الإسلامية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، وأنَّ السياسة جزءٌ من الإسلام لابد أن تنضبط بضوابطه.

حقق الإخوان الكثير على المستوى السياسي، فأصبحت أرصدتهم في الشارع السياسي أكبر من أرصدة معظم القوى السياسية الأخرى مجتمعةً، ولولا تزوير الانتخابات لكان هناك اختيار آخرللإخوان على المستوى الحكومي والإداري؛ لأنهم قادرون على المشاركة في حكومات ائتلافية في أكثر من بلد، أو تشكيل حكومة في بلاد أخرى.. لقد ساهمت جموع الإخوان وقادتها ومفكروها ومرشدوها في تحقيق كل تلك الإنجازات، وكان لكل مرشد دوره (1928م- 2004م).

ورغم أن المستشار "الهضيبي" خرج من السجون عام 1971م، ثم انتقل للعمل في السعودية، حتى عاد قبيل وفاة المرحوم "التلمساني" عام 1984م؛ أي أن دوره كان من عام 1984م حتى 2004م، فإنَّ بصمته لم تختلف رغم أنه لم يتولَّ الدور الأول إلا أربعة عشر شهرًا، وكان المتحدث الرسميللإخوان طوال عهد "أبو النصر"، ثمَّ نائبًا للمرشد في فترة "مشهور"، حتى أصبح مُرشدًا عامًّا في نوفمبر (رمضان) 2002م، وشغل موقع الناطق باسم كتلة الإخوان في البرلمان المصري (1987م1990م)؛ أي أنَّ تأثيره امتد من عام 1987م إلى 2004م.

  • لم تتح الفرصة للـ"مأمون الهضيبي" أن يعايش جموع الإخوان في فترة السبعينيات، تلكم الفترة الخصيبة التي التفت فيها جموع الشباب حول الذين خرجوا من السجون حديثًا، وتلقوا على أيديهم قواعد وأصول ومنهج الدعوة في عملية التوريث، ثمَّ كانت عودته إلى مصر بطلب مباشر من المرحوم "التلمساني"، وعندما استأذنت الأستاذ "عمر التلمساني" في استضافة "الهضيبي" في لقاءات الشباب قال لي: "إن له مهمة أخرى"، وكان يريده بجواره كمستشار يعينه في الشأن العام، الذي لم يكن يحسنه الكثير من قيادات الإخوان، الذين انصرفوا لعملية بناء الجماعة، وتمتين التنظيم، وتوريث المنهج.. وقتها كان "التلمساني" أقنع- بصعوبة- كبار القيادات للدخول في المعترك الانتخابي في تحالف سياسي مع حزب (الوفد) بعد معاناة ومناقشات مطولة، حضرت جانًبا منها، وكان بحاجة إلى رجل يصلح لهذه المواقف، وعاد "الهضيبي" ولكنه لم يدرك ترشيحات 1984م للبرلمان، وعقب عودته توفي "التلمساني "، وتركه في مواجهة المواقف العسيرة، وكان رجل المواقف الحاسمة.

وانشغل "الهضيبي" في إعادة ترتيب وجود الجماعة السياسي، ومحاولة الخروج من القيود القانونية والمتابعات الأمنية إلى الفضاء العام، واجتهد في إقناع قيادة الجماعة بقبول عرض من رئيس حزب الأحرار المرحوم "مصطفى كامل مراد"، حمله الشيخ "صلاح أبو إسماعيل"- رحمه الله- بأن يتولى الإخوان شئون الحزب كلها، وإعادة تشكيل قواعده وهياكله، فقط يحتفظ رئيس الحزب بموقعه، ويكون له نائبان، أحدهما من الإخوان، ثمَّ إن هناك فراغًا ضخمًا وهياكل ورقية يمكنللإخوان ملؤها جميعًا، ولهم الحق في إعادة صياغة برنامج الحزب وخطابه السياسي بما يتناسب مع أفكار برامج الإخوان، وبعد مناقشات مستفيضة شابها بعض الحدة إلى الدرجة التي قال فيها البعض له: "لقد جاهد والدك للحفاظ على الجماعة والإبقاء عليها، وأنت تريد اليوم أن تعمل على هدمها وإذابتها"، وانتهت المناقشات إلى عدة قرارات هامة، ما زالت تؤثر في مسيرة الإخوان، منها:

- رفض ذوبان الجماعة في أي حزب أو كيان آخر، حتى ولو كان الحزب الحاكم، وقد سبق أن عرض "السادات" على المستشار المرحوم "صالح أبو رقيق" انضمام الإخوان إلى حزب (مصر العربي الاشتراكي)، الذي أسسه "ممدوح سالم"- رحمه الله- رئيس الوزراء الأسبق، ورفض الإخوان ذلك.

- تحالف القوى السياسية التي تتفق مع الإخوان في البرامج والقواعد الأساسية، وهذا ما تم مع حزبي العمل والأحرار، مع التنسيق مع القوى والتيارات السياسية في قضايا الحريات العامة.

- العمل على تشكيل حزب خاص لـ(الإخوان) يضمن لهم المَظَلَّة القانونية، ويتيح لهم المشاركة السياسية في إطار القانون والدستور.

وقد تمَّ إعداد عدة برامج، واتخاذ كثير من الإجراءات منذ منتصف الثمانينيات، شارك فيها المرحوم "صلاح شادي"، وكثير من خارج الإخوان، وانتهت بمشروع حزب (الوسط) وأزمته الشهيرة.

وقد أعلن "الهضيبي" منذ عام 1995م- بل قبل ذلك- أن الإخوان مستعدون للتحول إلى حزب سياسي، وأن كلَّ الاستعدادت قائمة، وأن ذلك يمكن أن يتمَّ خلال 24 ساعة، وكان ردُّ الحكومة الدائم هو التحذير الشديد من اتخاذ خطوات جادة في هذا الصدد، إلى درجة محاكمة وكيل حزب (الوسط) و13من كبار الإخوان أمام محكمة عسكرية، ثمَّ رفض الحزب، وتم الحكم على 7 من الإخوان بـ 3 سنوات أشغال شاقة، وحتى عندما اختلف المهندس "أبو العلا ماضي"- وكيل المؤسسين- مع الإخوان وقيادتهم خلافًا حقيقيًّا حول السير في إجراءات التأسيس، والمضي قدمًا، سارع إلى إعادة التقدم بطلب حزب جديد (الوسط المصري)، تم رفضه أيضًا، ولم يتم السماح له إلا بجمعية ثقافية ينشط من خلالها؛ وهو ما يعني أن ذلك خطًّا أحمر، وهو في الحقيقة ليس قاصرًا على الإخوان، بل هو خط أحمر لكل المجتمع المصري؛ حيث يحتكر الحزب الحاكم صلاحية السماح لأي حزب معارض، وهذا خلل رهيب في بنية النظام السياسي المصري؛ حيث يتحول الخصم إلى حكم يسمح بالوجود القانوني، ثم يراقب، ثم يحظر أو يحل الأحزاب المعارضة.

  • واكب الاستعداد لدخول المعترك السياسي، والخروج إلى الفضاء العام، أهمية أن يكون للإخوان طرح فكري وسياسي في قضايا عديدة، وقد كان إسهام المرحوم "الهضيبي" في هذا المجال متميزًا.. لقد جمع بين الثقافة القانونية- لدراسته وممارسته القانون والقضاء، ولنشأته في بيت قانون وقضاء- وبين الثقافة الإسلامية؛ لأن والده كان فقيهًا ملمًّا بالشريعة الإسلامية، ثمَّ مرشدًا للإخوان المسلمين، أكبر جماعة إسلامية، وعاش أزمة التأييد والتكفير والعنف داخل السجن، الذي قضى فيه قرابة ست سنوات، وتحت إشراف والده، وبمشاركة من عدد من كبار فقهاء الإخوان.. ومع استحضار مراجع عديدة، تمَّ تصحيح المفاهيم حول هذه القضية في كتاب (دعاة لا قضاة)، وشكَّل ذلك خلفيةً أخرى ساهمت في ثقافته، ثمَّ كان في المملكة السعوية متفرغًا ومراقبًا للشأن العام، كل ذلك ساهم في ثقافته وتكوينه.

وعندما شرعنا في رصد أكثر من ثلاثة عشر موضوعًا تستحق الدراسة والإعداد، وإعداد أوراق خلفية لعرضها على مؤسسات الجماعة؛ لاتخاذ قرارات بشأنها، إمّا لجهة حسم خيار فقهي، أو طرح بدائل عديدة، أو تركها حرة لاختيارات الأقطار أو الأفراد، كما يقتضي مرونة منهج (الإخوان المسلمين)، كان "الهضيبي"- رحمه الله- عليه حاضرًا بذهنه المتوقد ومناقشاته المطولة في جلسات الإعداد، ثمَّ جلسات الحسم والقرار.

وقد ساعد ذلك في الردِّ على كثير من الشبهات التي تثار حول المسائل، وإثراء المناقاشات، ثمَّ إعداد الصياغات وحسم القرار في النهاية؛ لأنه كان إذا اقتنع بقضية أو مسألة، يعيش فيها بكيانه كله، ويأخذنا إلى حلول وسط في صياغة مرنة تتيح فرصًا متكافئة.

  • أخرج الإخوان 3 أوراق معتمدة من هذه المسائل، كانت بصمة "المأمون الهضيبي" واضحة، وهي: "الشورى وتعدد الأحزاب في المجتمع المسلم"، و"المرأة المسلمة في المجتمع المسلم"، وصدرتا في مارس 1994م، و" المشاركة في الحكومات الائتلافية".

وكان أهم ما تضمنته هذه الأوراق من ثبات أو تجديد:

- إقرار التعددية الحزبية في المجتمع المسلم وفي ظل حكومة إسلامية.

- القبول بتداول السلطة بين الأحزاب في الدولة الإسلامية.

- استمرار القبول بنظام الحكم الدستوري النيابي كأفضل نظم الحكم.

- التأكيد على المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والحريات، والواجبات العامة في التعليم والعمل، والتصويت والترشيح للمجالس النيابة، وتولي الوظائف العامة في إطار الشريعة الإسلامية.

- القبول بالمشاركة في حكومات ائتلافية في حال الضرورة أو حال تحقق مصلحة مؤكدة.

ولقد شاهدت مناقشات حادة حول النقطة الأخيرة؛ حيث كان رأي "الهضييبي" الشخصي مخالفًا لها، ويرى عدم جواز هذه المشاركة إلا في حال الضرورة فقط؛ وهي حال- حسب توصيفه- شبه مستحيلة إلا عندما يدهم عدو أجنبي البلاد، ولكنه كان يقول دائمًا بعد التعب في المناقشات: "إنَّ هذا رأيي الشخصي، ولا ألزم به أحدًا"، ويقبل أخيرًا بقرارات بعض الأقطار للمشاركة في حكومات يرى هو شخصيًّا أن المشاركة فيها أضرت بالحركة والجماعة.

كان يتعبنا في النقاش، ويعود مرة بعد مرة إلى إثارة نفس المسائل والقضايا؛ رغبة منه في الوضوح ومزيد من الحسم، ولكنه كان واسع الصدر، وكانت آخر مناقشاتي- وما أطولها وأشقها عليَّ- معه حول قضيتي الديمقرطية والمواطنة، وكيف يمكن ضبط الحديث حولها في إطار الضوابط الإسلامية، ووصلنا إلى القول بالديمقرطية الإسلامية التي تستند إلى الثقافة والأصول الإسلامية كخلفية فكرية وعقائدية، وتعتمد كل الآليات الغربية في الانتخابات والحريات العامة وتداول السلطة والبرلمان... إلخ، كما وصلنا إلى القول بالمواطنة الدستورية التي تعني المساواة التامة في الحقوق والواجبات أمام القانون، وبما يعني إقامة دولة الحق والقانون التي تكفل تكافؤ الفرص أمام جميع مواطينها.

تعطلت بقية بنود البرنامج بسبب المحاكمات العسكرية، والمطارادات الأمنية، وإغلاق مراكز البحوث والدراسات التي كانت تقوم بدور كبير في إعداد وإدارة جلسات المناقشات التي يشارك فيها جمع غفير من المفكرين المستقلين من التيار الإسلامي، كما نلجأ إلى حوارات أخرى جانبية مع مفكرين مستقلين من تيارات أخرى؛ للاستئناس بفكرهم ورؤيتهم، ولعلنا تعودنا على جو التضييق الشديد؛ وهو ما يعني استئناف العمل، ولو كان ذلك في غياب ركن ركين من أركان الجماعة، وفكر ثاقب، وحسم واضح من شخص في وزن "الهضيبي"- رحمه الله.

  • لقد كان دوره رئيسًا في إقناع شيوخ الجماعة بما نصل إليه نتيجة الحوارات، ولولا دوره- كما أظنُّ- لصعب إخراج مثل تلك الأوراق التي أصبحت الآن أفكارًا ثانية يتداولها الإخوان وغير الإخوان، بل تحولت إلى سياسات واضحة يمارسها الإخوان في أكثر من بلد، وقد ترشحت أكثر من أخت، ونجحت إحداهن، واكتسبت عضوية البرلمان، ولولا جهد "الهضييبي" ما تحقق مثل ذلك التطور في عمل الإخوان، ولقد رأيت كيف أصر على أن يكون للأخوات كلمة في حفلات الإخوان للإفطار رغم تململ البعض، ورفض الآخرين.

كان "الهضيبي" واسع الثقافة، قوي الحجة، عنيدًا في مواقفه، صلبًا في الحق، لا يقبل أنصاف الحلول، معتزًّا بنفسه، شديدًا في المواجهة، وذلك لم يجعل له صداقات كثيرة في الوسط السياسي أو الفكري، بل جعل له عداوات مع بعض الشباب، الذين لم يقبلوا منه حسمه وتمسكه بسلامة الإجراءات في قضية "الوسط"، وشنوا عليه حملةً شعواء كانت تؤذيه نفسيًّا؛ لأنه كان يعتبرهم جميعًا أبناءه، ويرى أن له عليهم حقوقًا، وأنه لم يختلف معهم خلافًا شخصيًّا.

كان "الهضيبي" يؤمن بأهمية التطوير والتجديد الفكري، لكن ببطء، ودون تعجل، لم يكن من المقتنعين بسياسة الصدمات أو الفرقعات؛ لذلك لم يكن يقبل التصريحات الإعلامية التي تحدث دويًّا أو ضجيجًا، يراه مفتعلاً، واختلف مع بعض الإخوان في ذلك، لكنه في النهاية كان يقبل الحوار، ويحاول أن يصل إلى الإقناع، ويحرص على وحدة الصف، ولا يقبل الضغوط.

كان له موقف واضح في حرب الخليج الثانية والثالثة، في أزمة الكويت حاول الكثير إثناء الجماعة عن مواقفها الواضحة في رفض غزو الكويت، وإدانة التدخل الأمريكي، ولكنه نافح عن موقف الجماعة الذي اتخذته بعد مشاورات مطولة على الساحة العالمية، وفشلت الضغوط جميعًا في زحزحة الجماعة عن مواقفها.

كما كان موقفه شديد الحسم في أزمة الحرب على العراق- وكان هو مرشد الجماعة وقتها- حيث رفض القبول بالتدخل الأمريكي وغزو العراق رغم إدانة نظام "صدام" وديكتاتوريته.

كان اعتزازه بشخصيته، وفخره بانتسابه وقيادته للجماعة، سمة قوية في سلوكه، خاصة مع السياسيين.

حاول مدَّ الجسور مع الدولة بطرق عديدة، وحرص على علاقة متوازنة مع كل القوى السياسية، ونجح في ترك بصمته على أفكار وآراء ومواقف الإخوان.. رحمه الله رحمة واسعة، وعوضنا فيه خيرًا.

عاصر "الهضيبي"- رحمة الله عليه- مواقف صعبة في مسيرة الإخوان، واستطاع أن يحقق التوازن في مواقف الجماعة، والوضوح والحسم عند الحاجة إليه.

في فتنة التكفير كان حاسمًا وقاطعًا، ولم يقبل أنصاف الحلول- وهذا دأبه إلى آخر دقيقة من عمره وقيادته- عندما بلغه أن بعض الإخوان في إحدى المحافظات أوصَوْا الإخوان بمدارسة أحد الفصول من كتاب إسلامي، اشتم فيه أحد الإخوة شبهة تكفيرية بين السطور، فسارع إلى استدعاء الأخ المسئول، وحاوره طويلاً حتى أقنعه الأخ أن هذه الشبهات لا أساس لها، وقد حضرت جزءًا من النقاش.

وعندما أبلغني بعض كبار الإخوان- ممن فاصلوا الجماعة عند خروجهم من السجون في منتصف السبعينات- برغبتهم في إيجاد صلة بالجماعة، كان رده حاسمًا: "ليتخلوا عن منهج التوقف أو التكفير، وعندئذ هم إخوان لنا".

وفي قضية العنف كان حاسمًا وواضحًا، لا يقبل إطلاقًا أي مبررات لعمليات العنف، وفور أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وبعد ساعات، أصدرت الجماعة بيانًا قاطعًا، أدانت فيه الأحداث رغم عدم وضوح الرؤية وقتها، وكان حاسمًا في قوله: "إن هذه العمليات لا يقرها شرع ولا خلق ولا عقل". وعند احترام اللوائح- التي كان له فضل كبير في إعادة العمل بها وتفعيلها- كان حاسمًا؛ ولذلك كان موقفه من قضية حزب (الوسط)، الذي أغضب منه بعض الشباب، ولكن رؤيته- رغم الحدة في التعامل- أثبتت الأحداث صوابها، فلم يكن هناك فرصة لإقامة حزب، وكان هدف النظام هو إحداث فتنة داخل الإخوان، وللأسف ساهم بعض المخلصين في إذكاء الخلاف الذي كان يمكن أن يتم احتواؤه بسرعة.

في قضية المرأة ودورها كان واضحًا جدًّا، منحازًا للخيار الفقهي الذي أقرته الجماعة، مرحبًا بأي أخت ترغب في تفعيل دورها، رغم أن البعض لم يستطع قبول هذا التفعيل والحضور النسائي.

في الموقف من الديكتاتورية والاستبداد كان قاطعًا، يرى أنه سبب كل بلاء، مدافعًا عن الحريات، مرحبًا بالحوار والمصالحة التي تقوم على إطلاق الحريات، راغبًا في مد الجسور، ولكنه في نفس الوقت يرى ويتيقن أن المفسدين والمستبدين إنما يدافعون عن وجودهم وحياتهم ومغانمهم، فلم يكن يؤمل في استجابتهم كثيرًا.

كان همه الكبير الحرص على وحدة الجماعة وكيانها، وسلامة صفها، ووضوح منهجها، وقد رأى البعض في ذلك تشددًا، لكنه كان مخلصًا في ذلك، لا يريد إلا الخير، وعندما اختلف مع بعض الأفراد كان محاورًا لهم إلى آخر المدى، راغبًا في بقائهم في الصف، واستمرارهم في العمل.

رأى الزعماء السياسيون فيه خصمًا قويًّا، عنيدًا، معتزًّا برأيه؛ وهو ما جعل العلاقات بينه وبينهم في السنوات الأخيرة فاترة، وكان السبب في ذلك صلابته في الحق، واعتزازه بالجماعة، وإصراره على منهج الجماعة، وتمسكه بأن تكون الشريعة هي المنطلق في التفاهم مع الآخرين، وأن يقروا بذلك، ولكن السبب الأقوى كان استمالة النظام لبعض هؤلاء، وإرهاب النظام للبعض الآخر.

كان حريصًا على علانية العمل، ووضوح المواقف، وعدم استفزاز النظام..

عايشته سنوات البرلمان الثلاث، ولم يمنعني من مبادراتي الجريئة، وتقبل مني كثيرًا من النشاط، وعلمني الكثير في المجال الدستوري والقانوني، ورافقته طويلاً في سفريات عديدة، فكان نعم الصاحب في السفر والأب الحنون، لم يشعرني بأبوته بقدر ما أشعرني بأخوته، تقبل بصدر رحب مخالفتي له في كثير من المواقف والأداء، وكان الحوار بيننا متصلاً إلى آخر أيام حياته..

رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح الجنَّات، وأعان الله أستاذنا المرشد الجديد "محمد مهدي عاكف" على التبعات والمهمات. آمين.


  • من قيادات الإخوان وأمين عام مساعد نقابة الأطباء

المصدر