"أشواك" سيد قطب.. يا لها من أشواك!

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ٠٧:٣١، ١٣ أبريل ٢٠١٦ بواسطة Sherifmounir (نقاش | مساهمات) (حمى ""أشواك" سيد قطب.. يا لها من أشواك!" ([edit=sysop] (غير محدد) [move=sysop] (غير محدد)))
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
"أشواك" سيد قطب.. يا لها من أشواك!


بقلم: د. إبراهيم عوض

بالمصادفة وقعت منذ يومين وأنا أبحث في المشباك عن شيء من الدراسات النقدية يتعلق برواية "أشواك" لسيد قطب.. على كلمة كتبها صعلوك من صعاليك المشباك الذين يتكاثرون كالديدان والصراصير؛ يتهم فيها سيد قطب بأنه زعيم الإرهابيين الذي لم يستطع أن يجد لنفسه موطئ قدم في دنيا الأدب والنقد فتحوَّل إلى الكتابة في الدين ليضمن لنفسه ولمؤلفاته الرواج طبعًا، والدليل على صحة ما يَصِرّ به هذا الصُّرْصُور أن سيد قطب كان رجلاً.. نعم، رجلاً بكل معاني الكلمة، في مواجهة ما رآه طغيانًا واستبدادًا، ولم يَلِنْ ولم يتزلف أو يتراجع عن آرائه أو مواقفه، وآثر أن يجود بروحه فوق أعواد المشانق على أن ينال العفو والسماح من يد من كان يؤمن أنهم سببَ ما البلاد فيه من فساد واتجاه إلى الانهيار.

والجود بالروح أقصى غاية الجود كما يعرف ذلك كل قاصٍ ودانٍ، اللهم إلا الديدان والصراصير.

طبعًا، والدليل على صدق ما تقيَّأته هذه الدُّودة أن سيد قطب قبل هجره ميدان الأدب والنقد كان هو بوابة السعد التي يمر منها المحظوظون من الأدباء والكتاب ممن لم يكن المجتمع الأدبي قد اعترف بهم بعد، فإذا كتب هو- رحمه الله- عن أحد منهم وأشاد به كانت كتابته عنه هي خاتم النسر، أو قل: خاتم سليمان، الذي تنفتح له بوساطته كل أبواب السعد والشهرة، ولا أدل على ذلك من نجيب محفوظ الذي تحوَّل من حالٍ إلى حالٍ بعدما كتب عنه سيد قطب مقالين يجدهما القارئ في كتابه المسمَّى: "كتب وشخصيات"؛ أثنى فيهما عليه وعلى فنه القصصي خير ثناء، فـ"انتشله بذلك من طيات الظلام" (elevating Egyptian novelist Naguib Mahfouz from obscurity) بتعبير كاتب مادة "سيد قطب" في النسخة الإنجليزية من الموسوعة المشباكية الحرة (The Free Encyclopedia) المسماة بــ"الويكيبيديا: Wikipedia".

وكانت تلك هي البداية لنجيب محفوظ الذي تكرر حديثه عنها في بعض حواراته، وإن كان قد استدار من ناحية أخرى فقدَّم سيد قطب- مع شديد الأسى والأسف- في كتابه: "المرايا" باسم "عبد الوهاب إسماعيل"، في صورة المتعصب المنفر الشكل والسمت، وهي لفتة من محفوظ تكشف عن أشياء في الأعماق.

طبعًا، والدليل على استقامة الحكم الذي أصدره هذا الفَدْم البليد الذي يتهم سيد قطب- رحمة الله عليه- بأنه زعيم الإرهابيين وأنه ترك الأدب والنقد إلى الكتابات الإسلامية كي يشتهر..

أن ما كتبه سيد قطب من أدب ونقد قبل أن ينتقل إلى التأليف الإسلامي هو من أقوى وأصفى وأعمق وأدق ما كُتِب في هذا الميدان: شعرًا كان أو قصصًا أو نقدًا أدبيًّا؛ فأما في الرواية فيكفيه "أشواك" وحدها على ما سوف أوضح في هذه الكلمة التي بين يدي القارئ، ودعونا من روايته الأخرى: "المدينة المسحورة"، وأما شعره فها هو ذا ديوانه تحت بصر القراء؛ يستطيعون أن يرجعوا إليه ليرَوْا بأم أعينهم مدى رقيّ ذلك الشعر، وبخاصة إذا وضعوا إزاءه هذه الهلوسات والتشنجات الحاليّة المنتشرة كالجرب والتي يسميها بعض المهاويس من أحلاس النقد والوالغين فيه على غير استعداد ولا موهبة ولا ثقافة: "شعرًا"، وما هي من الشعر في قُلٍّ أو كُثْرٍ.

وكيف يُتَّهَم سيد قطب بالإرهاب وهو الذي يقول: "من الصعب عليَّ أن أتصوَّر كيف يمكن أن نصل إلى غاية نبيلة باستخدام وسيلة خسيسة؟! إن الغاية النبيلة لا تحيا إلا في قلب نبيل، فكيف يمكن لذلك القلب أن يطيق استخدام وسيلة خسيسة؟! بل كيف نهتدي إلى استخدام هذه الوسيلة حين نخوض إلى الشط الممرع بركة من الوحل؟! لا بد أن نصل إلى شط الملوثين.

إن أوحال الطريق ستترك آثارها على أقدامنا وعلى مواضع هذه الأقدام، وكذلك الحال حين نستخدم وسيلة خسيسة.

إن الدنس سيعلق بأرواحنا، وسيترك آثاره في هذه الأرواح، وفي الغاية التي وصلنا إليها! إن الوسيلة في حساب الروح جزء من الغاية؛ ففي عالم الروح لا توجد هذه الفوارق والتقسيمات! الشعور الإنساني وحده إذا أحسَّ غايةً نبيلةً فلن يطيق استخدام وسيلة خسيسة، بل لن يهتديَ إلى استخدامها بطبيعته! "الغاية تبرر الوسيلة"، تلك هي حكمة الغرب الكبرى؛ لأن الغرب يحيا بذهنه، وفي الذهن يمكن أن توجد التقسيمات والفوارق بين الوسائل والغايات".

"ما يخدع الطغاة شيء كما تخدعهم غفلة الجماهير وذلتها وطاعتها وانقيادها، وما الطاغية إلا فرد لا يملك في الحقيقة قوة ولا سلطانًا، وإنما هي الجماهير الغافلة الذلول، تمطي له ظهرها فيركب، وتمد له أعناقها فيَجُرّ، وتحني لها رءوسها فيستعلي، وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى! والجماهير تفعل هذا مخدوعةً من جهة، وخائفةً من جهة أخرى.

وهذا الخوف لا ينبعث إلا من الوهم؛ فالطاغية- وهو فرد- لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف والملايين لو أنها شعرت بإنسانيتها وكرامتها وعزتها وحريتها".

"إن إقامة النظام الإسلامي تستدعي جهودًا طويلةً في التربية والإعداد، وإنها لا تجيء عن طريق إحداث انقلاب".

وهذه النقول مأخوذة من مادة "سيد قطب" في النسخة العربية من "الويكبيديا: Wikipedia". وأحب أن أقول إنني منذ فترة طويلة أركز في نقدي الاجتماعي والسياسي على الشعوب العربية والإسلامية، مع علمي أن حكومات العرب والمسلمين هي أسوأ وأتفه حكومات الأرض جميعًا، إلا أنني أدرك جيدًا أنه لولا صمت الشعوب وجبنها وفزعها من خيالها وتبلدها وخور عزيمتها وكراهيتها لبذل أي مجهود يستعيد لها كرامتها وحقها في الحياة والعزة، ما جرؤ أي جاهلٍ فَدْمٍ حقيرٍ على أن يصنع بها ما يصنع فتزداد له تأليهًا وانكبابًا على حذائه تلحسه وتملِّس عليه بخدودها التماسًا للبركة.

كما أن حكام العرب والمسلمين إنما يعكسون في عيوبهم عيوب شعوبهم؛ ففي كل شخص من تلك الشعوب في الغالب مشروعُ حاكمٍ تافهٍ مستبدّ، ولا يغرنكم، أيها المصلحون، ما تسمعونه من شعارات وهتافات وانتقادات للأوضاع الفاسدة؛ فالعبرة بالمواقف لا بالكلام، وإلا فكلنا يحسن الكلام الكبير المنمق، إلا أننا عند الجِدّ سرعان ما نلحسه دون أدنى شعور بالخجل، وكأن شيئًا لم يكن.

ثم تَعَاَلْوا نجب على هذا السؤال: من يا ترى يساعد أولئك الحكام على فسادهم واستبدادهم وانحرافهم وتنفيذ سياستهم المنحازة في كثير من جوانبها إلى أعداء الأمة؟! أليسوا هم أفراد تلك الشعوب؟! أم هم كائنات أتت من الفضاء الخارجي؟! نعم، من أين يأتي القضاة والوزراء والصحفيون والمديرون وسائر الموظفين ومن يسمَّوْن بــ"نواب الشعب" الذين ينفذون سياسة الحكومات؟! أليسوا من بين صفوفنا؟! ولماذا نذهب بعيدًا؟!

وها هو ذا مقياس دقيق في أيدينا يمكننا استخدامه للحكم على شخصيات تلك الشعوب، ألا وهو مقياس السلوك اليومي المعتاد، ترى بالله عليك، أيها القارئ، ما نسبة الأشخاص الذين يُطْمَأَنّ إلى سلوكهم ووعودهم إلى جموع الشعب التي لا ترعى واجبًا ولا تفي بوعد ولا تَصْدُق في كلمة ولا تريد أن تعمل أو تتعلم ولا تحب نظافةً ولا نظامًا ولا تبالي بعزة أو كرامة ولا يُعْتَمَد عليها في إنجاز شيء؟!

وهذا هو سيد قطب قد سبقَنا جميعًا إلى هذا المعنى، ولقد فكرت مرارًا أن أكتب مقالاً صارخًا أهيب فيه بالمصلحين أن "يفضّوها سيرة" ويتركوا الشعوب لمصيرها الأسود ما دامت تستعذب هذا الهوان، ولْينصرفوا إلى مصالحهم وراحة بالهم بدلاً من التعرض للضرب والتعرية "بلابيص" في الصحراء والمرض ومصادرة المال والسجن والقتل في غير طائل.

فما رأيكم يا أيها المصلحون من مفكرين وأدباء وصحفيين وخطباء ودعاة؟! حرام ما تفعلونه بأنفسكم دون جدوى! ألا تَرَوْن أن هذه دعوة حكيمة ينبغي على الأقل أن تفكروا فيها، إن لم تتبنَّوْها قلبًا وقالبًا فتريحوا وتستريحوا.

إن هذه شعوب تعيش خارج التاريخ بعد أن انتهت فترة صلاحيتها الحضارية، وتنتظر الآن كلمة القضاء والقدر فيها بزلزال شامل يجتثها من جذورها ويخلص الدنيا من عارها وقبحها وتبلدها وخنوعها، أما أنتم يا حكامنا فهنيئًا لكم تلك الشعوب التي لا يوجد لها مثيل في الرضا بالقهر والإذلال والهوان والاستزادة منه والهتاف باسم أصحابه، ولا تصدقوا كلام المصلحين عن احتقان الناس وقرب انفجارهم، فهذا كلام فارغ، وإلا فها أنتم أولاء تنكِّلون برعاياكم منذ عقود وعقود وعقود، وتصنعون بهم كل ما يخطر وما لا يخطر على البال من عسف وترويع وسرقة وقتل ونهب، فهل رأيتم أو سمعتم أحدًا منهم قد تحرك؟!

أما أنتِ أيتها الشعوب الجبانة فمِنْك لله! لقد خذلتِ نفسك في كل الفرص التي أتاحها القدر لك فخذلكِ الله.

هذا عن الرواية عند سيد قطب، وأما بالنسبة للنقد فَلْنَكْتَفِ فقط بكتابيه المشهورين: "النقد الأدبي.. أصوله ومناهجه" و"كتب وشخصيات"، ولا أظن أنه كان في دنيا النقد في تلك الأيام ما يزيد على هذين الكتابين في شيء، سواء من ناحية الأسلوب أو السلاسة أو التحليل أو الإحاطة أو الفهم والتذوق، بل قلما نجد حتى الآن كتبًا تضارعهما.

ولأكن صريحًا فأقول إنه لو وُضِع ما كتبه أيٌّ ممن اشتهروا بكتابة النقد القصصي في العصر الحديث لقاء ما كتبه سيد قطب لرجحت كفة قطب بكل يقين واقتدار؛ لما تتسم به كتاباته من شدة أسر في الأسلوب ودفء في التعبير ووضوح شفاف في الفكرة واستقلال في الشخصية وقوة ثقة بالنفس وعدم فناء في المصطلحات والمفاهيم الأجنبية.

إلا أن قطب لم يجد من يتحدث عنه ناقدًا كما وجد هؤلاء، وبخاصة أنه انصرف إلى الكتابات الإسلامية بكل كيانه رغم أنها- كما سوف نرى- ليست بعيدة عن الأدب والنقد كما يتوهم الكثيرون، وكان يستطيع أن يجمع بينها وبين المقالات والدراسات التي يتناول فيها أعمال الأدباء والنقاد، لكنْ كان للأقدار كلمتها المختلفة.

ولو قارنّا مثلاً بينه وبين د. محمد مندور الذي يسميه اليساريون: "شيخ النقاد"، ولا أدري على أي أساس شَيَّخوه؛ فهو يعتمد فيما يكتب على التلخيص لما يقرؤه دون الإشارة إلى المصدر الذي اعتمد عليه، بل مع الدعوى العريضة بأنه إنما استلهمه من وحي عبقريته استلهامًا، وأحيانًا على السطو على ما قرأه هنا وهناك كما صنع مع جان كالفيه ونعمات فؤاد، لرجحت كِفّة قطب رجحانًا وشالت كِفّة مندور، وقد اخترت مندور لأنه اشتبك مع سيد قطب في الأربعينيات من القرن البائد في معركة نقدية تشامخ فيها "شيخ النقاد" الذي لم يكن قد شاخ بعد، وظن أنه قادر على أن يهزم قطب بالتحدث من طرف أنفه، متناسيًا أنه كان حديث عهد بالعودة فاشلاً من فرنسا دون أن يحصل على درجة الدكتوراه التي ابتُعِث من أجل الحصول عليها رغم قضائه تسع سنوات كاملات في فرنسا، ومتناسيًا أيضًا أنه إلى وقت قريب كان يبدي الكثير من ضروب الخضوع والتزلف للدكتور طه حسين في خطاباته التي كان يرسلها إليه من بلاد الفرنسيس كلما أخفق في أمرٍ من أموره هناك، وما أكثر ما كان يخفق، أو احتاج إلى تدخل منه لتسهيل هذا الموضوع أو ذاك أو لإعفائه من هذه العقوبة أو تلك! وما أكثر ما كان يحتاج إلى مثل تلك التدخلات وهذه الخطابات متاحة لمن يريد الاطلاع عليها لمعرفة هذا الجانب الخفي من حياة مندور وشخصيته في كتاب نبيل فرج الذي أصدرته دار الهلال في تسعينيات القرن المنصرم.

فلم يكن هناك إذن أي مسوغ لهذا التشامخ المتصنَّع بأية حال، ومتناسيًا كذلك أنه- في كتاب له يعتز به هو ومشايعوه أيما اعتزاز، وهو كتاب "نماذج بشرية"- قد سطا على الفصول التي وضعها الكاتب الفرنسي جان كالفيه عن النماذج البشرية في الأدب الفرنسي واستطعت أنا أن أثبت بالصوت والصورة في كتابي: "د. محمد مندور بين أوهام الادعاء العريضة وحقائق الواقع الصلبة" أنه قد سطا فعلاً وحقًّا على سبعة نماذج على الأقل من نماذج كالفيه، ولو قُدِّر لي أن أضع يدي أيضًا على كتاب كالفيه في النماذج البشرية في الآداب الأوربية فأغلب الظن أنني سأجده قد سطا على فصول أخرى مما خلفه الكاتب الفرنسي، فكان ينبغي إذن أن يشعر بفظاعة ما اجترمت يداه من سرقة ويتصاغر وهو يكلم ناقدًا كبيرًا ملء "هدومه" كسيد قطب، ومتناسيًا فوق هذا وذاك أن ما كان يدعو إليه من "أدب مهموس" ظن أنه قد فتح به عكا ليس شيئًا آخر سوى ما يقول فيه الفرنسيون: "à (de)mi-voix" (كما في هذين العنوانين مثلاً: "La foi à mi-voix" و"Contes à mi-voix")، ومن ثم ليس له فضل فيه، وهو ما كان ينبغي أن يضعه في اعتباره حين أخذ يطنطن بأنه ابن بجدتها وأن ما يطلق عليه: "الأدب المهموس" إنما هو من بُيَنّات أفكاره، وبخاصة أن هذا اللون من التعبير الأدبي لا يصلح في كل المواقف والمناسبات، فشعر الفخر والحماسة مثلاً لا يصلح له الهمس والنجوى (كما في معلقة عمرو بن كلثوم، وبائية أبي تمام في فتح عمورية، ونشيد "دع سمائي فسمائي محرقة")، كما أن الشاعر الذي غدرت به حبيبته مثلاً وطعنته في قلبه طعنة نجلاء لا يمكنه الهمس والنجوى، بل لا بد له من التألم والصراخ أو التنفيس عن نفسه بتوعدها بالانتقام وتجريعها من نفس الكأس حتى لو لم ينتقم أو يضع وعيده موضع التنفيذ (كما في بعض أشعار كُثَيِّر عَزّة، ونونية ابن زيدون، و"لستَ قلبي" لكامل الشناوي)، وأن سخرية قطب منه لهذا السبب هي سخرية في موضعها بالتمام والكمال رغم ما سببته لمندور من وخز مؤلم يستحقه بكل تأكيد، فضلاً عن أن أسلوب قطب أحلى وأكثر إحكامًا من أسلوبه رغم ما يتمتع به أسلوب مندور بوجه عام من بساطة ودفء، إلا أنه يفتقر إلى ما تتصف به لغة قطب من شدة أسر وبُعد تام عن التهافت والركاكة اللذين يقابلاننا في كتاباته هو هنا وهناك.

ولا ننس أيضًا ما يتصف به مندور في غير قليل من الأحيان من الميل إلى خطف المعلومات خطفًا وعدم التأني للتثبت مما ينقل أو يكتب، وهو ما كشفتُه في كتابي السالف الذكر وكذلك في الفصل الأول من كتابي: "مناهج النقد العربي الحديث"؛ حيث تبين لي بكل يقين أنه لم يكن لديه الصبر على البحث والتنقيب، ولهذا كان يسارع إلى إطلاق الأحكام الفاسدة المتهافتة، وعلى نفس دَيْدَنه في اصطناع أستاذية لا تليق بهذا الكسل والتسرع.

وعلاوةً على هذا فسيد قطب كان شاعرًا وقصاصًا، ثم أضاف إلى ذلك الكتابة الإسلامية، وهو كله مما ينقص مندور، أما الكتابة السياسية فيشترك الاثنان فيها، وإن كانت كتابات مندور قد انتهى تأثيرها؛ لأنها كتابة وقتية تتصل بظروف معينة لا تستطيع تجاوزها والحياة بعيدًا عنها، فيما تظل كتابات قطب تنتشر وتستولي على العقول والقلوب بعد موته ميتة الشهداء؛ لأنها ذات طبيعة حية باقية ما بقي الإسلام والمسلمون وقضاياهم.

نعم.. تنتشر كتاباته وتستولي على العقول والقلوب؛ لا في مصر وحدها كما هو الحال بالنسبة لمندور في كتاباته السياسية أيام أن كان يكتب في تلك الموضوعات، بل في العالم العربي والإسلامي جميعًا، مع الفرق الهائل بين الأثرين لصالح سيد قطب بكل تأكيد.

ثم هناك فرق آخر شديد الأهمية، وهو أن مندور إنما كان يردد كلام اليسار الوارد من الخارج، أما قطب فهو مغموس في أرض الإسلام؛ لا يستورد شيئًا من خارج الديار ولا يتحذلق بالتبعية للفكر الإغريقي والأوروبي على طريقة القرعاء التي تتباهى بشعر بنت جارتهم؛ ولذلك كانت الضريبة التي دفعها- رحمه الله- رهيبة!

وثمة كتابه البديع: "في ظلال القرآن"، وهو عمل فكرى وأدبي لو كُتِب لمندور أن يعيش أضعاف عمره ويُوهَب أضعاف ما وُهِب من قوة فكرية وذوقية فلن يمكنه إنجاز معشاره.

أقول هذا رغم أنني لست ممن يوافقون سيد قطب على طول الخط؛ فقد كتبت بالتفصيل عن هذا التفسير الفريد في كتابي: "من الطبري إلى سيد قطب.. دراسة في مناهج التفسير ومذاهبه"، ووافقته في بعض الأشياء، وخالفته في بعض الأشياء، ولكن يبقى الكتاب بعد هذا كله قمة لا يطولها أمثال مندور، وهذا إن فكَّر مندور أصلاً أن ينطلق من منطلق الإسلام! وعجيب أن يتجاهل الدكتور مندور المرحوم سيد قطب في كتابه عن "الشعر المصري بعد شوقي" فلم يعرض له في قليل ولا كثير رغم أنه يتفوق بدون أدنى جدال على شعراء، كالهمشري وإبراهيم نجا وحسن كامل الصيرفي مثلاً، وإن لم يكن في الأمر أدنى عجب عند التأمل، فمندور وقطب- بعيدًا عن المعركة النقدية التي نشبت بينهما قبل ذلك- يمثلان فكرين متنافرين: الفكر اليساري المستورَد لدى مندور، والفكر الإسلامي الأصيل لدن سيد قطب.

كما أن الإعلام الرسمي، ومن ورائه الأدباء والنقاد، والشيوعيون منهم بالذات لتنافر طباعهم وطبع سيد قطب الرجولي المحب لأمته ودينه لا البائع نفسه بيع البخس والوكس والنحس لأعداء أمته ودينه والسائر في خطا الصهاينة الأرجاس الذين عملوا بكل قواهم على زرع خلايا الشيوعية في بلادنا حتى تكون تلك الشيوعية في خدمة الصهيونية ضد العروبة والإسلام والمسلمين وحتى يرقص الشيوعيون على أنغامها ويتقافزوا كما يفعل "القرد أبو صديري"، فالمهم عند أولئك المناكيد ألا تكون هناك قيود على ذممهم الخربة وأجسادهم النجسة وشهواتهم المنتنة، فلا عراقيل أمام الخمر والزنى واللواط والدياثة والقوادة والعمالة، هذا الإعلام قد تجاهل تمامًا إبداعات سيد قطب في الأدب والنقد وغير الأدب والنقد، ولقد ظهر أيام انهيار غير المأسوف على شبابه الاتحاد السوفيتي وثائق تُدين عددًا من كبار الشيوعيين في بلادنا غير المحروسة وتذكر المبالغ التي كانوا يتقاضَوْنها لقاء عمالتهم لهذه الدولة التي كانت كبرى إلى وقت قريب.

وما زال هؤلاء الكبار- الصغار في الحقيقة- يمرحون في الأرض ويتفيهقون ويعلموننا دروس الوطنية والكفاح والشرف الذي على أصوله على نحو سمج مقيت يبعث على الغثيان؛ ذلك أن أولئك البُعداء، جرَّاء ما مردوا على الخيانة والعمالة، لم يعودوا يشعرون بشيء اسمه الحياء والخجل.

والآن إلى بعض التفاصيل: فواحد من هؤلاء الشيوعيين الشرفاء (!) كانت زوجته الأمية التي التقطها من شوارع إحدى المناطق الشعبية بجوار "الست الطاهرة"؛ حيث كانت تعيش في كنف أب سكير، وحيث كانت تذهب إليه في شقته القريبة التي كان يعيش فيها وحده بعيدًا عن أهله الريفيين، كانت هذه الزوجة التي تعلمت فيما بعد القراءة والكتابة وأضحت تقدمية على سنة الشيوعيين "الصائعين" تعاشر عشاقها في حضور ذلك "الجردل" بالشقة المشتركة التي ظلا يسكنانها بعد الانفصال، ولا يملك "الجردل" إلا أن يشكوَ لطوب الأرض دون جدوى، فلا هي تكف عن ممارسة الخنا أثناء وجوده في الشقة، وعلى فراش الزوجية ذاته، ولا هو يكف عن الشكوى الذليلة المهينة! "وسلم لي على الشيوعية والشيوعيين الشرفاء"، وأحسن من شرف الشيوعيين "ما فيش"!

وكان ينبغي أن يعرف أنه لا معنى للشكوى مما تصنعه هذه "الصائعة"؛ فهي من غرس يده وتعليمه، ومن ثم فمن المستحيل أن تطهر حتى لو اغتسلت بماء "النهر" كله من القاهرة إلى أسوان! وهذا أمر يعرفه الجميع، لكن العجيب أنك تقرأ ما كتبه كلاهما عن علاقتهما فلا تجد إلا كلامًا عن الإخلاص والكفاح المشترك! ولقد شاهدتُ تلك الحيزبون أكثر من مرة في الفضائيات وهي تنعى على الرجال أنهم لا يهتمون من المرأة إلا بالنصف الأسفل! تقول هذا وهي تشير بإصبعها إلى نصفها "التحتاني" على مشهد ومسمع من الدنيا كلها دون حياء! صحيح.. تربية حواري!

وهناك الشيوعي الحقير الآخر صاحب دبلوم التمريض ومؤجّر أَسِرّة المستشفى الذي كان يعمل فيه للداعرين والداعرات من رفاق الخلايا الشيوعية المنتنة، يقضون فوقها حاجاتهم الحيوانية الوسخة مثلهم ومثل هذا القواد النجس، وتنظر فتجد هذا القواد يكتب في كل الصحف العربية بأمر من الدوائر التي تحتضنه هو وأمثاله وتسهل لهم سبل العيش الدنس، وكأن المحروسة قد خلت من الأقلام المثقفة الطاهرة العاقلة الراقية، ولم يبق إلا هذا الوسخ وأشباهه، وما أكثرهم هذه الأيام!

وفي أوائل السبعينيات ترددت عدة مرات على مقهى "ريش" بشارع سليمان بالقاهرة مع معيد زميل لي تربطه علاقة ببعض اليساريين، وفى إحدى هذه المرات، وكنت قد صليت المغرب قبلها بقليل في أحد الأركان في الممر الضيق هناك، مال علىّ زميلي قائلاً وهو ينظر ناحية شارع سليمان: هل أنت جوعان؟ فقلت له: كلا، ولكن لم هذا السؤال؟ قال وهو يشير إلى شاب يشبه البُرْص مارٍّ بالشارع: هذا هو فلان الفلاني- لم أكن سمعت به، ثم عرفت منه أنه يكتب القصة- وأنا متأكد أنه جوعان لم يأكل منذ أمس، ولسوف أطلب بعض السميذ والبيض والجبن الرومي من بائع السميذ هذا، وأتظاهر أني جائع حتى أعطيَه الفرصة كي يأكل دون حرج، وقد كان؛ إذ نادى الشاب الذي يشبه البرص، وطلب بعض الطعام من بائع السميذ، وترك لصاحبنا الطعام كله يزدرده، وهو يتصايح بشعارات الكفاح اليساري الحنجوري بعد أن أخبرنا أنه كان نائمًا منذ البارحة لم يستيقظ إلا الآن، وأنه لا يزال يشعر بألم خُمار الشراب الذي كان يعب منه مع رفاقه عبًّا أثناء السهرة، وهو ما بعثني على التهكم على ذلك اللون الرخيص التافه من التشدق بالنضال الطبقي، على حين لا يفكر رفيقنا الهمام الذي ليس عنده بعض شيء من الدم في أن يجد لنفسه عملاً يكفل له لقمة العيش على الأقل، فاغتاظ من ملاحظتي وتوتَّر وركبه عفريت، ولأول مرة أرى بُرْصًا يغتاظ ويتوتر ويركبه عفريت، فكانت تجربة مدهشة لي.

وفي أثناء ذلك كله كان الشاب الذي يشبه البرص يلتفت ناحية مجموعة يسارية جالسة على مقربة منا مكونة من بعض الشبان وإحدى "الصائعات" الشيوعيات، وكانوا جميعًا يشربون شيئًا من "نقيع البراطيش" الذي لا ترتاح معداتهم المنتنة لشيء سواه، وهو لا يكف عن قذف البنت "الصائعة" الضائعة التي تجلس مع الثلة إياها بألفاظ السباب المنتقاة التي يتقنها هو وأضرابه من لمامة الشوارع مع حرصه في ذات الوقت على المخافتة من صوته جبنًا منه وهلعًا كيلا يقوم أحد من الجماعة الأخرى بضربه وإلزامه السكوت، والسبب؟ السبب هو أنه كان يخاللها على سُنّة الشيوعيين الأنجاس، لكنها تركته إلى شيوعي حقير آخر.

ولم يعمَّر ذلك البُرْص طويلاً، بل سرعان ما مات وذهب في "ألف داهية" جرَّاء الإسراف في الخمر والزنى، مع الجوع والتشرد اللذين بلا بهما معه ابنته الصغرى دون أي ذنب جنته تلك الصغيرة البريئة التي كان يجوب بها الشوارع وهو يحملها على كتفه بعد أن هجرته زوجته أخت الشيوعي الآخر السكير "الهلفوت"، لعنهما الله.

ولقد قُدِّر لي بعد ذلك أن أقرأ للبُرْص بعض القصص التي كتبها فوجدته من قصاصي الدرجة العاشرة، إلا أن الشيوعيين- كعادتهم في رفع كل بُرْص حقير إلى السماء- كانوا يغدقون عليه صفات العبقرية، حتى أراحنا الله من خلقته وكَسَحَه القدر إلى مجاري التاريخ حيث ينتمي.

ولا ننس حكاية أروى صالح، التي كانت واحدة منهم ثم تبين لها أنها تعيش أكذوبة كبرى، ثم كانت ثالثة الأثافي اكتشافها أن الرجال (الرجال؟) الذين تزوجتهم، وكانوا كلهم من الشيوعيين، هم جميعًا من الشواذ على نحو أو على آخر كما كتب د. محمد عباس في مقال له مشهور، فلم تطق صبرًا على كل هذا القبح والنتن، وانتحرت وغادرت دنيا الشيوعية والشيوعيين الدنسة غير آسفة عليها ولا مأسوف عليها هي أيضًا.

ويلحق بهؤلاء كاتبات هذه الأيام اللاتي لا يكتبن في الواقع "أدبًا"، بل يفتحن مواخير يمارسن فيها "قلة الأدب"؛ مثلما صور العهد القديم أُمّة بني إسرائيل، التي قال على لسان المولى سبحانه وتعالى في الإصحاح السادس عشر من سفر "حزقيال"، وإن كان من غير الممكن أن يقول الله سبحانه وتعالى كلامًا عاريًا على هذا النحو: "فِي رَأْسِ كُلِّ طَرِيق بَنَيْتِ مُرْتَفَعَتَكِ وَرَجَّسْتِ جَمَالَكِ، وَفَرَّجْتِ رِجْلَيْكِ لِكُلِّ عَابِرٍ وَأَكْثَرْتِ زِنَاكِ".

وهذا التحلل والانحلال هو كل ما يهم الشيوعيين ومن على شاكلتهم رغم جعجعتهم عن الشرف والبطولة، وما أكثر السفلة "الأدناف" من أشباه الرجال الذين يكتبون مشجعين أمثال أولئك القحاب على كسر ما يسمونه برطانتهم الكريهة: "التابو"، والتحرر من كل خلق كريم وكل قيمة نبيلة! ولم لا، والجميع تربية خلايا الشيوعية التي تعمل على تسهيل كل شيء لأعضائها في "العتمة"، وأولها إطلاق العنان للأجساد الملتهبة التي لا تعرف نظافة ولا استحمامًا، والتي لا يردعها خوف من رب ولا تفكير في حساب أو ثواب وعقاب؛ لأنهم لا يؤمنون برب ولا بثواب وعقاب، إنهم مجموعة من الحيوانات قد أُطْلِق سراحها وتسلط عليها السعار الجنسي فاشتعلت شهوةً واغتلامًا، ، ولم لا، والأمر بالنسبة لهم "مولد، وصاحبه غائب"؟!

وإذا كان هذا الإعلام قد تجاهل سيد قطب كأنه لم يكن فهو تجنُّبٌ لا يمكن أن يدوم إلى الأبد، وأين ذهب عبد الناصر ذاته بعد أن كان اسمه يسدّ عين الشمس حتى أحال الدنيا إلى ظلام مخيف ورعب ما بعده رعب؟! وإضافة إلى هذا فالمشاهَد أن كثيرًا من الـمُسَمَّيْن بـ"الإسلاميين" لا ينظرون إلى إنجازات المرحوم سيد قطب الأدبية والنقدية عادة بعين الترحيب والرضا، أو على الأقل: لا ينظرون إليها بعين الاهتمام، على رغم من أن إنجازات الرجل في تلك الساحة هي إنجازات كبيرة بكل المقاييس، وإني لأرجو أن يأجره الله عليها أجرًا كبيرًا؛ فليس بالقليل عند خالق الذوق والجمال أن يعمل أحد عباده بقلمه في تربية الذوق وصيانة الجمال؛ إذ ليست الدنيا كلها أكلاً وشربًا ولا حتى صلاة وصيامًا فقط، بل هذا وذاك وذلك وتلك، وذوق ولياقة وكياسة وهُفْوٌ إلى الجمال وحسن تقدير له... إلخ، ثم إن من صفاته سبحانه جل وعلا أنه جميل يحب الجمال.

وبهذه المناسبة أذكر أنني، قبل عدة سنوات، لاحظت غياب طالب متدين من محاضراتي في مادة "القصة" كنت أَشِيم أن بإمكانه التفوق في تلك المادة وغيرها، ولما سألته عن سر هذا الغياب بَدَهَني بردٍّ لم أكن أتوقعه ألبتة؛ إذ قال إنها محاضرات في القصة، وهي ليست من الأهمية بمكان؛ لأنها لا صلة لها بالدين، وعبثًا حاولت أن أفهمه أن النقد الأدبي فرع من فروع المعرفة التي حض الإسلام أتباعه على السعي إلى تحصيلها واكتسابها، وأن دين النبي العظيم لا يعرف تلك التفرقة المصطنعة بين علم وعلم، تلك التفرقة التي لا تظن أن ثم أجرًا على تحصيل العلم إلا إذا كان متعلقًا بالدين من فقه وحديث وعقيدة وما إلى هذا، وأن النقد القصصي، والنقد الأدبي بوجه عام، من شأنه إكساب الطالب الحساسية الجمالية والذوقية والتعمق في فهم الحياة؛ إذ شعرتُ كأنني أنفخ في رماد أو في قربة مقطوعة، وبدا لي أن قطاعًا كبيرًا جدًّا من المسلمين ينظرون إلى الوجود من ثَقْب إبرة مع أنه ليس لِدِينهم نظير في الاهتمام بالدنيا والدعوة إلى البراعة في كل مناحيها وتسنُّم ذراها، في الوقت الذي يجيء فيه المسلمون في العصور الحديثة بوجه عام في ذيل الأمم حتى في أمور النظام والذوق والجمال!

وها هي ذي دورة بكين الأولمبية تهتك الستر عن تخلفهم الشائن حتى في ميادين الرياضة جميعًا، وهو أمر مخجل لأية أمة أخرى غير أمة المسلمين التي لم تعد تعرف شيئًا اسمه الخجل والخزي؛ إذ بات الخزي طعامها اليومي والأسبوعي والشهري والسنوي حتى إشعار آخر يبدو أنْ سيطول انتظاره كثيرًا كثيرًا كثيرًا.

وإذا كانت الكلمة الطيبة في دين النبي العظيم صدقة، أفلا يُعَدّ كلامنا في النقد الأدبي والقصصي كلمة طيبة نؤجَر عليها يوم القيامة؛ لما تؤدي إليه من خير كثير في هذه الدنيا التي أثبت المسلمون في عصرنا أنهم أساتذة الفشل فيها؟! وإذا كانت إماطة الأذى عن الطريق صدقة، أفلا تُعَدّ تلك المحاضرات لونًا من إماطة الأذى؛ لا عن الطريق، ولكن عما هو أهم وأخطر: عن العقول والأذواق؟!

أستغفر الله العظيم! ترى من أين أتى ذلك الطالب وأشباهه بهذا التفكير العجيب، وذلك الذوق الخشن؛ إذ لم يتورع أن يجبه أستاذه الذي يريد له المصلحة والتفوق بهذا الرد الجافي الخالي من كل أثر للياقة؟!

لقد قرأت في ذلك الوقت لأحد الدعاة المعروفين في صحيفة من الصحف الإسلامية الخاصة ذات مرة أن كتابة القصة حرام!

- الله أكبر! لماذا يا مولانا؟

- لأنها قائمة على الكذب؟

- كيف يا فضيلة الشيخ؟

- ألا يقول القَصّاص من هؤلاء مثلاً إن فلانًا الفلاني قام من نومة القيلولة فحلق لحيته واغتسل وتعطر ولبس بدلته ثم خرج إلى الشارع قاصدًا المقهى القريب... إلى آخره، رغم أنه ليس هناك رجل بهذا الاسم قام بهذا أو ذاك من التصرفات، بل كله من اختراع الكاتب الكذاب؟!

لإِنْ كان الأمر كما يقول الداعية المشهور فكلنا- بحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه- ذاهبون إلى جهنم وبئس المصير، ولن يدخل الجنة سوى ذلك الداعية، إن دخلها، ما دام دخولها بهذا العسر العسير، لكن الله من رحمته جعل للجنة ثمانية أبواب، ولم يجعلها كمساجد مصر التي يحرص خادم المسجد المزعج الكسول على أن يغلق أبوابها جميعًا ولا يترك منها إلا "درفة" واحدة من باب واحد لا تسمح بدخول أحد إلا إذا دخل بالجنْب ونَشِبَ في حلق الباب كما تَنْشَب شوكة السمكة في بلعوم الآكل وتسده فيختنق ويكاد أن يموت، ولم يستطع المرور إلا باستعمال "لبِّيسة" حذاء، وبعد أن يكون قد خلع ملابسه ودهن جسمه بالصابون، يا مُسَهِّل!

لقد كان رسول الله يحب التوسعة، لكن المسلمين في عصرنا هذا يغرمون بالتضييق في كل شيء، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "بشِّروا ولا تنفِّروا"، ونحن ننفِّر ولا نبشِّر أبدًا حتى لنرى أنه لو حدث أن انكشف من شعر المرأة "شعراية" واحدة لكان مصيرها قعر الجحيم للتو واللحظة.

الإسلام مَهْيَعٌ واسعٌ مكون من مسارات كثيرة، وكلها تؤدي إلى ذات المصير ما دام السائر يلتزم بالإيمان بالله واليوم الآخر والرسل الكرام، وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم، وما دام يصدق في كلامه وفعاله، وما دام يعمل ولا يكسل، وما دام يخلو قلبه من الأحقاد والضغائن، وما دام يحب الخير للناس جميعًا، والمسلمين منهم بوجه خاص، وما دام يسعى وراء العلم والمعرفة، وما دام يحرص على الذوق الجميل، وما دام يحب نبيه ويقدر العمل العظيم الذي أنجزه والدور الكريم النبيل الذي أداه جميع صحابته الشرفاء معه، ثم لا يهم بعد ذلك التسمية التي يتسمى بها؛ فالله سبحانه وتعالى رب الجميع من سنة ومعتزلة ومتصوفة وشيعة وخوارج، إلا أن كل فرقة من الفرق التي تنتمي للإسلام ترى أنها هي وحدها الفرقة الناجية، محوِّلةً بهذه الطريقة المهيع الواسع إلى حبل رفيع معلق في الفضاء لا ينجو إلا من يستطيع السير بل الجري عليه ذهابًا وإيابًا طول النهار والليل وهو مغمض العينين دون توقف أو كلل، ودون تلعثم أو تلجلج! وأَنَّى لأحد ذلك؟!

إن مصير من يحاول هذا الجنون معروف، ألا وهو سقوطه من حالق واندقاق عنقه وحمله على الأعناق إلى النعش فالقبر خَبْطَ لَزْق! أم ترى هناك من يرى خلاف ذلك؟ أَرُونِيه، ولكم الأجر والمثوبة من رب الأجر والمثوبة!

وبالمناسبة فقد كان عندي في تسعينيات القرن الماضي طالب لا يكف عن سؤالي عن مصير المعتزلة يوم القيامة: أهم في الجنة أم في النار؟ لتأتيه إجابتي على وتيرة واحدة لا تتغير أبدا، وهي: وهل أخبروك يا بنيّ أنهم سيعينونني ضابط جوازات على باب الجنة كما يصنعون في المطارات لأفرز القادمين: فمن كان معتزليًّا كالجاحظ والنظّام مثلا أمرت بزبانيتي أن خذوه واعتلوه إلى سواء الجحيم، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم، ومن كان مثلك يدخن واصفرت أسنانه من التدخين ولا يصلي، أو على الأقل غير منتظم في الصلاة، ولا يقرأ كما ينبغي لطالب مسلم أن يجعل ديدنه القراءة، ويسعى في تحصيل العلم لا يتوقف عن ذلك أبدًا، أمرت به أن احملوه معززًا مكرمًا في محفة مزينة بباقات الورد والريحان وضعوه في الجنة؟!

يا بني.. إنني أنا نفسي لا أدري ما الله فاعل بي، ولو أنني نجوت من أهوال النار ولو بخمس وأربعين في المائة أو بما هو دون ذلك بكثير وقبلوني في الجنة عن طريق الرأفة والعطف لكنت أسعد السعداء.

ثم أردت مداعبته فسألته: وأنت.. هل تصلي؟ فأجابني بما أعرف أنه سيجيبني به: أحيانًا، وأحيانًا.

فعدت أسأله: أولا تدخن، رغم أن التدخين ضار لا يرضاه الله سبحانه وتعالى، سواء قلنا إنه حرام كما أفهم أنا، أو اكتفينا بكراهته؟!

فقال: بلى.

فقلت له عندئذ: أوليس من الأفضل أن تشتغل بمصيرك أولاً ثم تبحث في مصير كبار المفكرين كالجاحظ وغيره؟ أو تظن يا ناصر أن أمثال الجاحظ سيدخلون النار بهذه البساطة التي تتوهمها، وبكلمة من واحد مثلك، لا لشيء إلا لأنه معتزلي؟!

وحتى الآن أراني كلما رأيت "ناصر"، الذي أصبح من طلبة الدكتوراه (المتقدمين قليلاً في السن)، أسأله ضاحكًا: هيه! أين انتهى الأمر بك مع الجاحظ؟ وأين وضعته: في الجنة أم في النار؟ فيقول لي وفي وجهه بعض الخجل: أولا تزال تذكر هذه السذاجات يا دكتور؟! ثم أنظر إلى أسنانه البُنِّيّة وأسأله: هيه! والسجائر؟ فيقول منكسرًا: أحاول أن أكف عنها.

على أن المحزن في الأمر هو موت الجاحظ ورحيله عن دنيانا منذ قرون طويلة؛ إذ كنت أتمنى أن لو كان من معاصري ناصر، هذا الذي يريد أن يراه يتقلب في النار ويصيح من ألم العذاب ولا مجير، فيضع فيه رسالة تخلده في الدنيا وتدير اسمه على لسان العالمين ليل نهار، بدل هذا السخف الذي أحاول أنا تحبيره هنا عبثًا!

وبعيدًا عن هذا التناول الفكاهي للأمر أراني أتأمل هذا الانكسار من تلميذي في بعض الأحيان وأقول في نفسي: "ومن يدريك يا فلان؟- فلان هذا هو أنا طبعًا كما لا أحتاج إلى أن أشرح للقراء!- ربما كان انكسار ذلك الطالب واهتمامه بالإسلام على قدر فهمه البسيط سببًا في دخوله الجنة، على حين يُحْرَم منها من هو مثلك يا أبا خليل.. هل عندك اعتراض؟!" فأسارع قائلاً: ومن أنا حتى يكون لي اعتراض على ما يشاؤه الله؟!

وعَوْدًا إلى داعيتنا الذي يكذّب القصاصين ويرى أنهم ذاهبون إلى جهنم نقول: من الواضح أنه يوسّع معنى الكذب بحيث يدخل فيه كل شيء تقريبًا، وعلى هذا فإذا قلتُ مثلا إنني ما إن رأيت الأسد مقبلا عليّ حتى أخذت ذيلي في أسناني وقلت: "يا فكيك"؛ فأنا في رأيه "كذابٌ قراري"؛ لأني أولاً ليس لي ذيل، وحتى لو كان لي ذيل فمنذ متى يستطيع الحيوان "أبو ذيل" أن يأخذ ذيله في أسنانه؟! وثالثًا فإنه لم يحدث أن قلت أنا أو غيري قط عند الهرب: "يا فكيك"، بل الذي يحدث أن الهارب يجري بأقصى سرعته دون أن ينبس في الغالب ببنت شَفَة، بل إن عبارة "بنت شفة" ذاتها كذب في كذب؛ لأن الشفاه لا تحمل ولا تنجب، فكيف يكون لها بنون أو بنات؟! كذلك هل للجدار إرادة كما لنا نحن البشر مثلاً حتى يقول القرآن عن موسى وفتاه إنهما وجدا في القرية التي مرَّا بها جدارًا يريد أن ينقض؟! وهل كل من كان في الدنيا أعمى بالمعنى الذي نعرفه من العمى سيكون في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً؟! إن هذا كله مجاز، ولو حاسبناه بحساب داعيتنا الكريم فسوف ننتهي إلى تلك النتائج الكارثية.

وفن القصة هو بدوره مجاز، بيد أنه مجاز من نوع أوسع؛ فمجازه ليس في الكلمة أو في الجملة، بل في بنائه كله من أوله إلى آخره، وهذا- كما قلت- معروف للطرفين: للأديب وللقارئ على السواء، والكذب بوجه عام آفة مرذولة يعاقِب عليها ربنا جل وعلا، وأفظع ألوانه هو الكذب الذي يتعمد فيه صاحبه الإخبار بغير ما حدث بغية تضليل الآخرين وإيذائهم، أو في أقل القليل بغية تفويت المصلحة عليهم، ويليه الكذب الذي ليس وراءه أي غرض كريم، بل الرغبة محض الرغبة في تغيير الحقائق، وهو ما يعد مرضًا، والعياذ بالله.

والحق أنه لو قام أمر البشر على الكذب ما تحركت المجتمعات خطوة واحدة إلى الأمام؛ إذ إن التقدم والتحضر والعمل والإنتاج والسعي في الأرض لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان هناك أمان واطمئنان إلى ما يتردد من روايات وأخبار وحكايات، وإلا فكيف يبني الناس أمور حياتهم في العلم أو في العمل أو في العلاقات الاجتماعية وغير ذلك على أرض من الرمال المتحركة المهلكة؟!

والقصاصون لا يأتون إلى شيء وَقَع فيَلْوُونَه عن حقيقته رغبةً في الضرر والأذى، كما أنهم لا يكذبون حبًّا في الكذب، بل يعرفون هم وقراؤهم منذ البداية أن الأمر كله خيال في خيال، وأن المقصود هو التسلي عن الهم والتعمق في فهم الحياة وتثقيف العقل والذوق واكتساب الرقىّ اللغوي والتعبيري وشغل أوقات الفراغ بما يعود على الذهن والقلب بالنفع الكريم وترسيخ هذه القيمة أو تلك والتنفير من هذا السلوك أو ذاك... إلخ؛ فليس هناك إذن- من حيث المبدأ على الأقل- تضليل ولا تعمد لتشويه الحقائق ولا رغبة في الإضرار بأحد، أما إذا وقع من بعض القصاصين ذلك فهؤلاء يدانون وحدهم لا فئة القصاصين جميعًا!

نعم.. لقد كان هناك في علماء المسلمين القدامى من كان ينظر إلى عمل القُصّاص في المساجد شَزْرًا ويحذِّر منهم ومن قَصَصهم، لكن ينبغي ألا يفوتنا أن ذلك إنما كان موجهًا إلى القُصّاص الذين يخترعون الأحاديث ويضيفونها زورًا وبهتانًا إلى رسول الله لا إلى القُصّاص من حيث إنهم قُصّاص؛ فالأمران مختلفان كما وضحت في الفصل الخاص بفن القصة من كتابي: "فنون الأدب في لغة العرب".

بل لقد استثنى الرسول من الكذب المعيب ما كان هدفه الإصلاح أو دَرْء الخطر عن الجماعة كما في حالة الصلح بين المتخاصمين، أو في حديث الرجل إلى زوجته طلبًا لإدخال السرور على قلبها بدلاً من صدمها بما في قلبه من مشاعر الكراهية التي تعرض له في وقت الغضب والمنازعة، أو الكذب على الأعداء حين يقع الإنسان أسيرًا في أيديهم مثلاً، وبطبيعة الحال ليست هذه الحالات الثلاث هي الحالات التي يجوز فيها وحدها ولا يجوز في سواها تنكب قول الحقيقة؛ إذ ليست إلا مجرَّد أمثلةٍ غير مستغرِقة.

ثم إن للواقع في الأعمال القصصية معنى آخر، إنه ليس ما وقع فعلاً، بل ما يمكن أن يقع أو ما يقتنع القارئ بأنه يمكن أن يقع، ولقد قلت: "أو ما يقتنع القارئ أنه يمكن أن يقع" حتى يدخل فيه قصص "ألف ليلة وليلة" والسِّيَر الشعبية التي يختلط فيها الجن والشياطين وبنو الإنسان في وقائع الحياة اليومية دون أي فواصل، ويقع فيها السحر والغرائب ببساطة تشبه بساطة تنفسنا للهواء، ويراه بعضنا الآن خرافات بَلْقاء لا ينبغي أن نصدق شيئًا منها، إلا أن القدماء كانوا يعتقدون فيها ويؤمنون بها فيصدّقون بظهور الجن والشياطين للبشر وبقدرة السحرة على تصيير الناس أحصنة وبراغيث وأصنامًا جامدة خرساء، وما إلى ذلك.

ولقد كنت يومًا من الأيام أقول بما يقول به النقاد الآن من أن الفرق بين القصص القديم والقصص الحديث هو أن الأول يقوم على حكاية الخرافات والأمور اللامعقولة، ثم تنبهتُ فيما بعد إلى أن الخرافات بالنسبة للقدماء لم تكن خرافات، بل كانوا يتحدثون عنها حديث من يراها واقعًا حقيقيًّا لا مراء فيه، بل إننا الآن لا نزال نتخذ من الأساطير والخرافات القديمة مشجبًا لكثير من أعمالنا القصصية والمسرحية، بل لقد ظهر في العقود الأخيرة ما يسمى في عالم القَصَص بـ"الواقعية السحرية"، وهي ضرب من القَصَص يشبه إلى حد بعيد قصص "ألف ليلة وليلة" رغم أن الكتّاب الذين يتبعون هذا الأسلوب يعلمون جيدًا أن هذا كله ليس إلا خرافات وأساطير لا تصدَّق، إلا أن هناك اتفاقًا ضمنيًّا بين الكتّاب والقراء على السكوت عن هذه النقطة كأنها ليست هناك، ثم من يدرينا أن بعض ما نراه الآن حقائق لا ريب فيها لن يكتشف الناس في المستقبل القريب أو البعيد أنها لم تكن سوى خرافات وأننا كنا مخدوعين عن أمرها؟! من هذا يتبين لنا كيف أن داعيتنا المبجل الجليل قد بسّط الأمر تبسيطا مُخِلاًّ حين أطلق حكمه المتسرع على القصة بأنها مجموعة أكاذيب وأن القصاص شخص كذاب ينبغي أن يتوب ويُنِيب ويعزم على ألا يعود إلى المعاصي أبدًا ويبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام.

لكن هل ترك سيد قطب الأدب والنقد الأدبي تمامًا بعدما توجه إلى الكتابات الإسلامية؟ كلا، فقد كتب مثلاً "التصوير الفني في القرآن"، وهو كتاب في التذوق البلاغي والنقدي للنص القرآني المجيد، كما أن كتابه: "في ظلال القرآن" هو أيضًا، في جانب من جوانبه، تناول بلاغي ونقدي لهذا النص الكريم، وكلا الكتابين مصوغ بأسلوب أدبي أنيق مشحون بالدفء وينفح بعطر الوجدان، بل إن كتابات سيد قطب الإسلامية التي لا علاقة لها بالأدب بمعناه الشائع هي رغم ذلك أدب بكل ما تعنيه كلمة "الأدب" من دلالة؛ إذ هي جميعًا تتسم بحرارة التعبير وتجنيح التصوير وحلاوة الأسلوب وروعته، وهذه هي مواصفات النص الأدبي بغض النظر عن الموضوع الذي يتناوله ذلك النص.

وهذا معروف لا حاجة إلى التدليل عليه، وقد أكده د. محمد مندور حين قال إن هناك من الكتابات التاريخية وغيرها ما يدخل في الأدب لهذا السبب الذي ذكرته (انظر كتابه: "تأسيس الفنون السردية وتطبيقاتها"/ الهيئة العامة لقصور الثقافة/ 2008م/ 80- 85، 120).

وأذكر أنني قرأت لتوفيق الحكيم في أحد كتبه استغرابه لانحصار الأدب عندنا فيما يسمى بالنثر الفني، على حين أنه يضم، لدى الغربيين، الكتابات التاريخية والكتابات العلمية ذاتها إذا صيغت صياغة فنية جميلة.

ويقول كاتب مادة "الأدب" في "الموسوعة العربية العالمية" إن الأدب "تعبيرٌ راقٍ عن المشاعر والأفكار والآراء والخبرة الإنسانية، وهو، في معناه العام، يشمل كل ما كُتِب عن التجارب الإنسانية عامة؛ فالأدب هو أحد الفنون الجميلة، أو ما يمكن أن يشار إليه بالكتابة الجميلة".

وفى الطبعة الرابعة من " Penguin Dictionary of Literary Terms and Literary Theory"، وتحت عنوان "Literature"، نقرأ السطور التالية، وفيها أن مصطلح "الأدب" مصطلح لا يخلو من الغموض والاتساع، حتى إنه ليشمل- إلى جانب الرواية والمسرحية والشعر- أعمالاً مثل كتاب "الشعر" لأرسطو، و"أصل الأنواع" لداروين، و"تاريخ الحروب الصليبية" لرانسيمان مثلاً؛ لما فيها من أسلوب فني جميل وشعور حار وما إلى ذلك: "A vague term which usually denotes works which belong to the major genres: epic, drama, lyric, novel, short story ode. lf we describe something as "literature", as opposed to anything else, the term carries with it qualitative connotations which imply that the work in question has superior qualities; that it is well above the ordinary run of written works. For example: "George Eliot"s novels are literature, whereas Fleming"s Bond books are unquestionably not." However, there are many works which cannot be classified in the main literary genres which nevertheless may be regarded as literature by virtue of the excellence of their writing, their originality and their general aesthetic and artistic merits. A handful of examples at random suggests how comprehensive the term can be. For instance: Aristotle"s treatises on Poetics and Rhetoric; St Augustine"s Civitas Dei; Erasmus"s Moriae Encomium; Descartes"s Discourse on Method; Berkeley"s Platonic Dialogues; Gibbons"s Decline and Fall of the Roman Empire; Prescott"s History of the Conquest of Mexico; Darwin"s On the Origin of Species; Lord Acton"s Essays on Church and State; Lytton Strachey"s Queen Victoria; R. G. Collingwood"s The ldea of Nature; D"Arcy Wentworth Thompson"s On Growth and Form; Sir Arthur Keith"s The New Theory of Human Evolution; Sir Charles Sherrington"s Man on His Nature; Sir Steven Runciman"s The History of the Crusades; and Dame Rebecca West"s The Meaning of Treason. Scores of others might be added to such a list.".

فسيد قطب إذن لم يترك الكتابة الأدبية والنقد الأدبي كما يتصور كثير من الناس، بل كل ما هنالك أنه انصرف عن تناول الأعمال البشرية إلى العكوف على القرآن العظيم والقضايا الإسلامية الكبيرة، واضعاً كل إمكاناته الذوقية والأدبية والنقدية في خدمة هذا المشروع المتميز، وعلى هذا فلست مع رأي د. علي شلش، الذي وضع عن سيد قطب كتابًا يشي عنوانه وحده بما يريد أن يقول، وهو "التمرد على الأدب.. دراسة في تجربة سيد قطب".

ويرد د. شلش هذا التمرد المتوهَّم إلى شعوره بالإحباط من جراء عدم اهتمام الكتّاب الكبار به ورفضهم الاعتراف بقيمة ما يكتب من خلال مقالات ودراسات يؤلفونها عنه، ولكن هل كان سيد قطب قليل الشأن حتى يحس بالإحباط جراء أمر كهذا، وهو الذي كان يعطي بما يكتبه عن هذا الأديب أو ذاك صك الاعتراف به؟! لقد كان- رحمه الله- كاتبًا كبيرًا ملء السمع والبصر، بل كان الناقد الأول بالنسبة لجيله والجيل التالي له، وكان كل أديب يتمنى أن يفوز منه بمقال. ومن هنا تصفه "The Columbia Encyclopedia" في مقالها عنه بطبعتها السادسة (2008م) بأنه "كان كاتبًا وناقدًا أدبيًّا محترمًا: Qutb became a respected writer and literary critic"، وكان يكتب في كثير من المجلات والصحف كما نعرف، وهو ما أشار إليه أيضًا كاتب المادة الخاصة به في "الويكيبيديا: wikipedia" في نسختها الفرنسية؛ إذ نقرأ أنه كان: "journaliste dans plusieurs des principales revues panarabes des années 30 et 40 (tel qu"Alaraby)"، وكذلك سهيل هاشمى (Sohail H. Hashmi) كاتب ترجمة "سيد قطب" في "and the Muslim World Encyclopedia of Islam"، الذي كتب يقول: "His early writings, consisting primarily of literary criticism and works of fiction and poetry, brought him to the attention of Egypt ’s cultural elite, including Taha Husayn". كما كان صاحب أسلوب لا يبارَى دقةً وأناقةً وسلاسةً وحيويةً ونصوعَ عبارةٍ وسعةَ ثقافةٍ ورهافةَ ذوقٍ وقوةَ ثقةٍ بالنفس.

ثم إن من يشعر بالإحباط إنما يعتزل دنيا الكتابة، فضلاً عن أن يعكف على كتاب الله الذي لا يقترب الكاتب العاقل منه إلا وقد نضج نضوجه النهائي، ولقد كان سيد قطب من هذه الناحية من أعقل العقلاء.

كذلك فالمقارنة في هذا المجال بين سيد قطب، رحمه الله، وعادل كامل على نحو ما صنع د. شلش هي مقارنة مجحفة ولا معنى لها؛ فكامل قد طلَّق دنيا الأدب والأدباء والنشر والناشرين تطليقًا بائنًا، وانصرف إلى مهنته في المحاماة، أما قطب فظل يكتب وينشر وتتهافت دور النشر على مؤلفاته، بل إنه- وهو في السجن- قد وضع عددًا من أهم أعماله وأخصبها، ومنها كتابه الفريد: "في ظلال القرآن"، الذي يكفي وحده لوضع اسمه في سجل الكتاب الخالدين في كل العصور، بخلاف كامل، الذي لم يكتب بعد ذلك إلا رواية نشرتها له دار الهلال في أوائل التسعينيات على ما يقول الدكتور شلش نفسه اسمها: "الحل والربط"، وإن كان من الممكن جدًّا أن يكون قد كتبها قبل هجره لدنيا الأدب.

وعلى أية حال فهذا- بالنسبة إلى كامل- هو كل شيء، فكيف تصح المقارنة بين الرجلين؟! وأين قامة عادل كامل من قامة سيد قطب أصلاً؟! الواقع أن هذه مقارنة لا معنى لها ولا موضع من الإعراب.

أقول هذا رغم أني مدين للدكتور شلش بتشجيعه إياي وأنا في مقتبل الشباب حين قرأ لي في أول السبعينيات من القرن البائد قصتين قصيرتين أيام أن كنت أكتب القصة القصيرة وأتردد على دار الأدباء، التي قابلته فيها، وأثنى مشكورا على أسلوبي وطريقتي في القص، مداعبًا لي عن حق بأنني قد قصدت في إحدى القصتين الإشارة إلى الفيلم الفرنسي الذي كان يُعْرَض في ذلك الوقت في بعض دور الخيالة، وهو فيلم "الموت حبًّا"، وكان شلش ناقدًا فنيًّا أيضًا، وزاد الرجل فلفت نظر الدكتور عبد القادر القط إليّ، وزكَّى نشر القصتين في مجلة (المجلة)، التي كان الأستاذ الدكتور يرأس تحريرها أوانئذ، إلا أنها أغلقت أبوابها عقب ذلك بقليل فلم يتيسر نشر شيء لي فيها.

أما قول د. علي شلش بأن نجيب محفوظ كان أصلب الثلاثة؛ إذ ظل يكتب وينشر في الوقت الذي انصرف فيه الآخران عن الكتابة الأدبية، فهو كلام غير دقيق بالنسبة لسيد قطب رحمه الله.. لماذا؟ لأن سيد قطب لم يهجر الكتابة بتاتًا في يوم من الأيام حسبما رأينا، بل ظل يكتب وينشر، وألَّف أخصب أعماله في تلك الفترة التي يدعي الدكتور شلش أنه هجر الأدب فيها كما سلف القول، وبالذات في فترة السجن التي لو قُدِّر لمحفوظ أن يجرّبها لما استطاع أن يكتب شيئًا ألبتة.

وفي مادة "Qutb, Sayyid" من "دائرة المعارف البريطانية الموجزة: Britannica Concise Encyclopedia" (ط 2005م) نقرأ أن سنوات السجن هي أخصب الفترات في حياة سيد قطب تأليفًا: "His prison years were his most productive".

كل ما في الأمر أن محفوظ ظل يكتب القصة لأنه لم يكن إلا قصاصًا، أما قطب فكان ناقدًا وقصاصًا وشاعرًا وكاتبًا سياسيًّا ومفكرًا إسلاميًّا، وإذا كان قد توقف عن كتابة القصة مثلاً أو عن نقد الأعمال الأدبية فقد انصرف إلى القرآن الكريم بالدراسة والتحليل والتذوق، واضعًا كل إمكاناته ومواهبه العقلية والنقدية والذوقية والأسلوبية في خدمة هذا العمل العظيم، فكيف يقال إن محفوظ كان أصلب من قطب؟!

وكيف، ومحفوظ معروف بأنه كان يلبس لكل حال لبوسها ويحرص على ألا يصطدم بالسلطة أو بالرأي العام أو بأصحاب النفوذ في ميدان النقد في عصره، على حين أن قطب لم يكن يبالي بشيء من ذلك متى ما اقتنع أنه على الحق، بصرف النظر عن مدى موافقتنا له في بعض أفكاره ومواقفه أو لا؟!

وأنا- بالمناسبة- لا أوافقه على كل ما قاله في تفسيره للقرآن مثلاً، بيد أن هذا لا يعميني عن الحقيقة الساطعة التي تصيح بملء فيها أن ذلك التفسير هو تفسير فريد لا يجود الزمان بمثله في سهولة، ولقد قدم الرجل رقبته فداء ما كان يعتقد من مبادئ وأفكار، ولم يقبل أن يتنازل عن شيء من ذلك أو يلتمس الصفح من السلطات، والجود بالرقاب أسخى آيات الجود! ومرة أخرى فنحن عندما نقول هذا فإنما نقوله بغض النظر عما إذا كنا نوافقه على هذا أو ذاك من مواقفه وآرائه؛ فتلك قضية أخرى (انظر ما قاله الدكتور شلش في كتابه السالف الذكر/ دار الشروق/ 1994م/ مقدمة الكتاب: "في البدء").

وكنت كتبتُ في مقالٍ لي منشور في بعض المواقع المشباكية منذ عدة سنين عن رواية "أشواك" أنها تدور حول تجربة عاطفية بين شابٍ وفتاة انتهت بخِطبةٍ لم يُكْتَب لها الاستمرار، وكانت هذه الرواية أول ما وقع في يدي لسيد قطب، وكنتُ أيامها في الإعدادية عام أربعة وستين وتسعمائة وألف للميلاد، ولم أكن قد سمعتُ باسم مؤلِّفها من قبل، وكنت أظنه مجرد أديب شاب، كما لم يَدُر بخَلَدي ولا بخلَد أي إنسانٍ أنه بعد نحو سنتين لا غير سيكون له ضجيجٌ رهيبٌ يملأ الدنيا ويشغل الناس كما لم يشغلهم أحد من قبل.

ومما قلته في ذلك المقال أن التجربة التي تعالجها الرواية هي، في أغلب الظن، تجربة شخصية للمؤلف. كما أشرت إلى تعاطفي وقتها مع بَطَلَيِ القصة، وابتأست لهذه العلاقة الجميلة أن تُجْهَض دون تمامها.

لقد كنت أيامها في بداية فترة المراهقة الرومانسية الجميلة، فضلاً عن حلاوة الأسلوب الذي صيغت به الرواية وبراعة الكاتب في التعبير عن حرارةِ التجربة وجوِّها الأسيان الذي يبعث على الحسرة! وأضفت قائلاً إنني، حين أعدت قراءتها بعد سنواتٍ طويلة تزوَّجت خلالها وسافرت إلى الخارج وأنجبت أولادًا، وجدت لها نفس التأثير الأول بل أَشَدّ، نظرًا لمعرفتي بالمصير المأساوي الذي آل إليه كاتبها.

وكنت قد قرأت وأنا بسبيل إعداد رسالتي للدكتوريَّة نقدًا لها في مجلة "الرسالة" القديمة كتبه وديع فلسطين، إذا لم تكن الذاكرة قد عبثت بي، ورأيته يأخذ على الرواية أشياء بحيث يخرج القارئ لهذا النقد بانطباع مؤدَّاه أنها ليست روايةً ذات شأن، وهو ما لم أستطع أن أتفق فيه مع الناقد قط، إذ الرواية عندي، ولا تزال، أكبر من هذا كثيرًا كثيرًا.

ثم ختمتُ كلامي عن الرواية قائلا: "ولعلي أستطيع أن أعود إليها قريبًا فأقرأها للمرة الثالثة لأمتِّع نفسي بها من جديد".

وهأنذا أعود إليها هذه الأيام فعلاً كما رجوتُ في المقال المذكور، فهل تغيَّر رأيي فيها؟ أم هل بقي كما هو؟ الواقع أن تقديري لها قد زاد كثيرًا، واستمتاعي بها قد أضحى أقوى من ذي قبل، وتعاطفي مع بطلها، الذي أتصور أنه هو سيد قطب ذاته، صار أحرَّ وآلم.

نعم منذ قرأتُ الروايةَ في صباي وأنا أتصور أنها تحكي ما وقع لكاتبها رغم أني لا أذكر أنني قرأت في أي من ترجمات سيد قطب أنه كان ينوي الزواج فخطب فتاة، وأوشك أن يعقد قرانه عليها، لكن الأمر لم ييلغ نهايته المرجوّة على غرار ما في القصة، إلا أن بعض السمات الفارقة في شخصية بطل الرواية هي نفسها تقريبًا سمات شخصية سيد قطب: فكلاهما كاتب مشهور يكتب في الصحف ويعرفه الناس، وله تأثير على نطاق واسع حتى إن البطل حين ذهب مع خطيبته إلى القسم للتبليغ عن أخيها الصغير الذي تأخرت به مربيته في العودة إلى البيت واطلع الضابط على بطاقته أبدى ترحيبه به بوصفه كاتبًا مرموقًا يكتب في الصحف الواسعة الانتشار، وكلاهما شاعر، وشاعر وجداني، كما أن الاثنين كليهما ريفيان محافظان، وإن كان هذا لم يمنع البطل من خطف قبلةٍ من فتاته مثلاً بين الحين والآخر.

كذلك فبطل الرواية يبدى، في بعض المواقف، ما يوحي بأنه يرى في الارتباط بالمرأة عقبة تعوقه عن بلوغ أهدافه في الإصلاح، وهو ما يتفق مع ما نعرفه عن حياة سيد قطب من عدم زواجه مثلما انتهى الأمر بالبطل في الرواية، إذ انتهت أحداثها بانفصاله عن خطيبته ليقابلها بعد بضع سنين وفي يدها ابنها، ويُفاجأ بها تناديه بذات الاسم الذي كانا ينويان أن يسميا به أول ابن لهما حين كانا يستعدان للزواج، مما يدل على أنها كانت تحبه حقًّا وصدقًا، وأنه هو الذي أفسد حياته وحياتها بالشك بسبب بعض الأشياء التافهة التي ليس لها في حد ذاتها خطر، إلا أن شِرّة الشباب وشدة غيرته كفيلة بتوليد البغل نفسه وتدمير كل شيء في وسوسة لا معنى لها.

طبعًا أنا أقول هذا الآن وقد تخطيتُ عتبة الستين وصرت أهدأ مما كنت في عرامة الشباب، لكن قطب لم يكن أيامها شابًّا لأنه يذكر في الرواية أن فارق السن بينه وبين خطيبته عشر سنين، والحق أن عطفي عليه هو الذي يدفعني إلى هذا القول لتصوري أنه لو كان تزوج من تلك الفتاة التي من الواضح أنه كان يحبها حبًّا شديدًا فلربما لم تكن نهايته قد اتخذت هذا المنحى المأساوى، فالزواج والأولاد كفيلان في كثيرٍ من الحالات بأن يهدئا من شدة الثورة والسخط على الأوضاع ويبصرا المصلح بالهوة الفاغرة فمها تحت أقدامه فيعمل بقدر طاقته على اجتنابها، ولربما استطاع أن يجد طريقةً أخرى في الدعوة إلى ما يؤمن به دون الاصطدام بغباء السلطة وانغلاق عقلها وانعدام مشاعرها وجلافتها وقسوتها، التي تمثلت عند أدنى دركاتها فيما صنعته مع محمد نجيب نفسه، ذلك الرجل الكريم الذي استدعاه من يُسَمَّوْن بــ"الضباط الأحرار" لينتفعوا بجاهه ومنصبه وسمعته الشريفة، فلبَّاهم وعرَّض نفسه لما يمكن أن يصيبه من تنكيلٍ وسجنٍ أو إعدام، إلى أن حصلوا منه على ما يريدون فقلبوا له ظهر المجن وأَرَوْه النجوم في عز الظهر، ولم يرحموا أحدًا من أبنائه، بل دمروهم تدميرًا.

وظل الرجل طوال سنوات وسنوات يعامَل بقسوة وحشية لا مسوغ لها لا من شخصيته ولا من الظروف التي كانت تمر بها مصر ولا من طبيعة الشعب المصري المستكينة التي لا تبالي بشيء حتى لو انطبقت السماء على الأرض، بل تظل على ولائها (الظاهري طبعًا، فهي لا تبالي في الواقع بشيء مبالاة حقيقية) لمَن في السلطة مهما سامها الخسف والهوان والاستبداد وطيَّن عيشتها واحتكر كل شيء في يده وخنقها وحرمها الهواء الطائر وأوجب عليها أن تتنفس بمقدار، وفي أوقاتٍ معلومةٍ لا تعدوها، ومن منخرٍ واحدٍ فقط بعد أن يضيق فتحته ولا يسمح بتوستعها مهما تكن الظروف. نعم، فنحن شعب لا يحسن إلا الطبل والزمر والرقص ومشاهدة مباريات الكرة المتخلفة ككل شيء في حياته، وهذا كل ما يهمه، و"طظ" بعد ذلك في الدنيا ومن نفضوها.

ذلك أني أرى، وكان قطب نفسه يرى شيئًا كهذا على نحو ما قرأنا في أول هذه الدراسة، أنه لا موجب لتضييع الوقت وإهلاك الأعصاب في مطاحنة السلطات ما دامت الشعوب "مبسوطة على الآخر" مع تلك السلطات، وسعيدة بما تصنعه بها، وتكره كراهية العمى من يشذ عن خط سيرها المهين فيبدي شيئًا من الشجاعة في مواجهة السلطة ويطالبها بحق الشعوب في الحياة والعزة والكرامة؛ إنها شعوب طبل وزمر، ولا شيء آخر، إنها شعوب لا تُعْنَى إلا ببطنها وفرجها، ثم لا شيء آخر، إنها شعوب ضُرِبَتْ عليها الذلة والمسكنة والهوان والبلادة وبُغْض العلم والعمل والإبداع والحضارة، ثم لا شيء آخر، وعلى رأى المثل: "أنا راضي، وأبوها راضي، وما لك أنت يا قاضي؟!".

إني أكتب هذا الكلام وأنا أكاد أطقّ من أجنابي كمدًا وقهرًا، والناس في كل مكانٍ من حولي "آخر انسجام"، وكأنَّ الدنيا كلها برها وبحرها وسماءها قد دانت لها، وأخذت بذلك على الله عهدًا إلى آخر الدهر! والواقع أن الإنسان إذا ما صوَّب نظره هنا وهناك وقارن بين شعوبنا في هذه المرحلة البائسة من تاريخها والشعوب الأخرى، ورأى أن الشعوب كلها شيء، وشعوب العالم العربي والإسلامي الحاليّة شيء آخر، شيء كله زفت وقطران، انبثق السؤال التالي في التو واللحظة: أوقد خلق الله الشعوب الأخرى من طينة، وخلق العرب والمسلمين في العصر الحديث من طينةٍ أخرى؟ إن ما تفعله شعوبنا الآن ليس له إلا معنى واحد هو أنها شعوب انتهت فترة صلاحيتها، بل إن كل شيء يقول بعلو صوته إنها تدمر نفسها وتنتحر حضاريًّا.

وأخيرًا إليك، أيها القارئ، هذه النكتة السوداوية التي تلخص الموقف كله وتعطيك ببساطةٍ تامةٍ ما أردت أن أقوله لك في الفقرات الكثيرة الماضية وأحس رغم ذلك أنني لم أصل إلى مبتغاي، فقد قرأت أن الناس، أثناء تظاهرة من تظاهرات حركة "كفاية" ضرب الأمن المركزي كالعادة حولها نطاقًا أوقف المرور، كانوا لا يكفّون عن التذمر من المتظاهرين، أتعرف لماذا أيها القارئ؟ لقد كانوا يقولون إن التظاهرة تعطلهم عن بلوغ بيوتهم.

وتسأل أنت: وما الذي يستعجلهم هكذا للوصول إلى بيوتهم؟ فأجيبك: لا شيء، إلا أن يخلعوا جواربهم ويشرعوا في تخليل أصابع أقدامهم، وهل هناك عمل آخر للناس في بلاد العرب والمسلمين غير هذا وأمثاله؟ أوتظن أن هذه شعوب يُرْجَى من ورائها خير؟.

و"أشواك" من الروايات التي يبرز فيها العنصر التحليلي النفسي بروزًا واضحًا، لقد كان سيد قطب يغوص في نفسية بطليه ويأخذنا معه في رحلة الغوص ويطلعنا على كل ما يدور في الأعماق حيث التيارات التحتية المتلاطمة التي لا يلحظها عين الواقف على شاطئ البحر، وهو يفعل ذلك في براعةٍ يحسد عليها، وفي خفةٍ ورشاقةٍ فنيةٍ ومقدرة على النظر إلى الأمر من كل وجوهه رغم ما يبدو من أنه هو بطل الرواية، ومن ثم كانت الخشية من أن ينسى نفسه ويأخذ جانب البطل ويدين الفتاة على طول الخط.

إلا أنه لم يقع في ذلك الشرك، فكان هذا دليلاً على أنه روائي كبير يمسك بخيوط عمله في أستاذية مكينة، ولقد كانت الرواية حرية بأن يشير إليها مؤرخو الرواية عندنا، بل أن يفيضوا القول فيها، بيد أنهم جميعًا قد أغفلوها إغفالاً تامًا، أنا لا أتحدث هنا عن النقاد، الذين استقبلوها لدن صدورها بما هي أهله من الاهتمام فكتبوا عنها ودرسوها، بل أتكلم عن مؤرخي الرواية، الذين جاءوا بعد إعدام سيد قطب، فقد سكتوا جميعًا عن مثل هذا الأمر الذي لم يكن ليعرضهم لأي شيء من جانب السلطات، إذْ لا علاقةَ للأمر بنشاط قطب السياسي، لكنهم أثبتوا أنهم فعلاً شجعان أجرياء لا يخشون في قولة الحق لوم لائم.

وفي يدي الآن كتاب الدكتور محمد مندور الذي أصدرته قصور الثقافة مؤخرًا وأعطته عنوان "تأسيس فنون السرد وتطبيقاتها"، وهو عنوان لا يلائم فكر مندور ولا المصطلحات التي كانت معروفة في عصره، ما علينا، فالذي أحب أن أقوله هو أن مندور حينما تناول الحديث عن تصنيفات الرواية في مصر، وجاء ذكر الرواية التحليلية لم يُكلِّف خاطره أن يزج باسم رواية قطب ولو على سبيل "برو العتب" كما يقولون، وهكذا يخذلنا مؤرخو الرواية فلا يذكرون شيئًا عن تلك الرواية البديعة التي لا بد أن تظهر في أية قائمة للرواية المصرية مهما يكن طبيعة تلك القائمة.

وهذه النزعة التحليلية تظهر مع اللحظة الأولى في الرواية، وكأنَّ صاحبها حريصٌ على أن يُرينا منذ البداية أنها رواية تحليلية لا مراء، وهذا هو الفصل الأول بحذافيره: "حينما أمسك بيدها ليلبسها خاتم الخطوبة، في حفل من الأهل والأصدقاء، وفي ضوء الأنوار الساطعة، وعلى أنغام الموسيقى في الحجرة المجاورة، أحس بيدها ترتعش متقلّصة في يده، ونظر فإذا دمعة تندّ من عينيها، شعرَ بشوكةٍ حادة تنغرز في فؤاده، وغامت الدنيا في عينيه، وتوقّع شرًّا غامضًا يُوشك أن ينقضَّ، بل شعر بالكارثة تظلله، وتغشى حياته، ولكنه تماسك، وأسرع يدعوها إلى المقصف المعد في مكانٍ آخر، غير ملتفت لدعوة المدعوين!

وهناك، قبل أن يحضر أحد، نظرَ في عينيها المغرورقتين، فإذا هي تحاول بشدّة أن تبتسم، وتحاول أن تبدو خفيفةً رشيقةً كعهدها في غالب الأحيان، أمسك بيديها بين يديه، وحدق في وجهها، وهو يقول:

- ماذا؟

قالت:

- لا شيء!

قال:

- بل هناك أشياء. ويجب أن أعلم هذه الأشياء.

قالت:

- أوه! قلت: لا شيء. ثم اسكت! لقد بدءوا يحضرون!

قال:

- أسكت. على أن تعديني بكل شيء بعد انصرافهم.

قالت:

- وهو كذلك!

وكانوا قد أقبلوا يتغامزون، فسحبت يدها من يده متظاهرةً بالدلال والخفة، كأنما كانا يتناجيان ويتعابثان في غفلةٍ من عيون الرقباء.

قالت في لهجة مناورة:

- ولماذا تصر على أن هناك شيئًا؟ ألا تتأثر الفتاة، وهي تقف في مفترق الطريق بين عهدين؟

قال في لهجة جادة:

- اسمعي يا سميرة. إنني أعرفك جيدًا، ولم تعد خافية منك تخفى عليَّ، ولقد لاحظت تلك النوبات التي تفجؤك وأنت معي في أبهج اللحظات، وهي علامة لا تخطئ على أن هناك شيئًا، ثم إنني أحبك ذلك الحب الذي تعرفينه، وإن بين قلبي وقلبك تلك "الشيفرة" الخفية التي تجعل لكل دقةٍ في فؤادك صداها القوي في فؤادي، فلا تحاولي أن تغالطيني أو تغالطي نفسك بعد اليوم.

فارقتها ابتسامتها، وخذلها تماسكها، وغامت على وجهها سحابة من الأسى، وقالت في صوتٍ غائر كأنما ينبعثُ من أعماق هاوية:

- أعلم أنك تحبني فوق مقدور الإنسان، وهذا ما يعذب ضميري، ثم سكتت سكته رهيبة فتناول يدها في صمت، وهو يحس هول العاصفة تجتاح نفسها فتحطمها وتوشك أن تجتاح حياتهما جميعًا، وحدّق بشدةٍ في عينيها ونظر إليها مستزيدًا!

قالت:

- اغفر لي أن أقول لك كل شيء، إنني أثق بك ثقةٍ عميقة، وأشعر بمقدار حبك لي. ولو فتشت في قلبي لوجدت لك مثل هذا الشعور فيه، ولكن هنالك في ضميري أشواكًا سأضع عليها يدك، وأترك لك التصرف فيها كما تريد.

قال:

- قولي كل شيء ولا تخـافي!

قالت:

لقد عزمت أن أقول.

...

في نهاية قصتها كانت تقول، وهي تهتز وتختلج: "وهذه الدمعة التي رأيتها لم يكن منها بد، كنتُ أشيّع بها عهدًا عزيزًا، كان اللحن الموسيقى من حولي هو لحن الجنازة، أشيع به نعشه للمرة الأخيرة. والآن لقد انتهى!".

وحينما بلغت القصة إلى هذا الحد كان قد اعتزم في نفسه أمرًا لا يدري كيف اعتزمه، ولا بأي شعورٍ اتجه إليه، كان الفارق بينه وبين فتاته عشر سنوات، ولكنه أحسَّ في هذه اللحظات القصار أنه يشيخ، وكان يحبها حبًّا عنيفًا مجنونًا، ولكنه أحس في هذه اللحظات القصار أنه يحبها حبًّا سماويًّا شفيفًا، وكان شديد الغيرة متوفز الإحساس، ولكنه أحس في هذه اللحظات القصار أنه فوق العواطف البشرية، وفوق غرائز الإنسان، قال في صـوت خفيض رتيب رهيب:

- يا بنيتي، إنني أعطف عليكما، فاعتمدي عليّ وسأساعدكمـا!

قالت في دهشة:

- تساعدنا؟ وكيف؟

قال في توكيد:

- ستكونين له!

قالت في ذعر:

- وأنت؟

قال:

- سأكون لك منذ اليوم أخًا وصديقًا!

قالت:

- وتضحي بحبك لي كله، وماضيك معي كله، وجهدك من أجلي كله؟

قال:

- نعم أضحيه، ولا زلت على استعداد لغيره من التضحيات، أضحيه وأنا أعلم أنني ضحيت بالحياة!

قالت مبهورة:

- يا لله! إنك نبيل. بل أنت أنبل من إنسان.

وحينما أوى إلى فراشه انجلى عنه هذا الخُمَار المريح، وتنبّهت أعصابه، وواجه كأنما هوّة تنفتح بين قدميه، وفجوة تفصل شطري حياته، ومدى من العمر لا يقاس بالآباد!

لقد بني في أحلامه عشهما المنتظر، ولقد مضى بخياله يطوي الأيام، ولقد عاش هذه الأحلام عيشة الواقع، واستغرق في هذا الخيال، حتى لم يعد يفرق بينه وبين الحقيقة! فأين هو الآن من هذه الأحلام؟

لقد أحسّ بالطعنة، وعرف أنه فقد الحلم القديم: حلم الحورية الهاربة التي سيقودها مغمضة العينين إلى العش المسحور بعد أن عاش في هذا الحلم عامين كاملين، وبعد أن سُحِر بها منذ اللقاء الأول، وأعدّ نفسه وأحاسيسه كلها لارتقاب اليوم الموعود.

وجد نفسه يبكي.

ثم أدركته رحمة الله فنام!".

فانظر إلى هذا الصراع العنيف في أغوار نفس البطل بين حبه العارم العنيف لخطيبته وبين مثاليته التي رأى أنها توجب عليه الانسحاب من الميدان بعد أن يجمع بينها وبين خطيبها الأول الذي كان هو يتصور أنها لا تزال تحبه، ومن ثم لن يستطيع أن يفوز بقلبها وحبها كاملاً، وانظر كيف يظن في البداية أن المسألة هينة، وأن القرار الذي اتخذه لن يسبب له أي ألم وأنه من ثَمَّ لا رجعةَ له فيه، بيد انه ما إن ينصرف ويعود إلى منزله ويخلو إلى نفسه حتى يتبين له ولنا أن هذا كله محض أوهام، وأن الأمر ليس بتلك السهولة التي ظنها وظنناها معه في البداية، ولسوف نقرأ في مواضع متعددة من الرواية مشاهد تحليلية كهذا المشهد، بل أبدع وأروع، إذ سوف يرينا كيف استولى حب الفتاة على قلب البطل استيلاءً، لا بناءَ على كلام الرواي، بل من خلال التصرفات والحوارات والمواقف الحية.

إنني كلما تذكرت وقائع الرواية وما انتهت عليه شعرت بحزن شديد وكدت أقول لسيد قطب، وكأنه جالس حيالي يكلمني وأكلمه: لم فعلت بنفسك هذا وألقيت بتلك النعمة التي وهبكها الله دون أن تفكر في العواقب العنيفة والآلام الرهيبة التي تألمتها، وحق لك أن تتألمها؟ ترى كيف سهل عليك أن تفرّط في تلك الفتاة الجميلة الأنيقة المصقولة المتحضرة التي سرعان ما استجابت لك، وانخرطت في عالم القراءة الراقية وأخذت تناقشك في كل ما تقرأ مناقشة الند للند، فضلاً عن موهبتها في العزف الموسيقى الذي كان يستبيك ويهدهد روحك ويطفئ نار غضبك وشكوكك؟ بالله ماذا كنت تريد أكثر من ذلك؟ يا خسارة! لقد وصفتَها أكثر من مرةٍ بأنها "حورية".

وهذا صحيح، وكنت لا أحب لك أن تُفرِّط في حوريةٍ كهذه! لكن ماذا نقول سوى أنها الأقدار، وأنه لم يُكْتَب لك في اللوح المحفوظ أن تفوز بها؟.

اقرأ معي، أيها القارئ، هذه السطور التي وصف بها الرواي ما حدث إثر مشاهدة بطلي الرواية لفلم يشبه قصتهما، مما حرَّك في نفس البطل المخاوف والشكوك، فعاد هو وخطيبته إلى بيتها محطم النفس مكتئبًا، واسأل نفسك: أفلم يكن أجدر بالبطل أن ينظر إلى النعمة التي بين يديه ويحرص عليها ويشكر ربه بسببها ويعمل على أن يأخذ منها أكبر ما يستطيع من السعادة وراحة البال ويبتعد عن موجبات التنغيص والنكد؟: "هنا لم يطق صبرًا على المواجهة، وخاف أن تخونه الكلمات، وأن تفضحه السمات، فانفلت إلى حجرةِ النوم.

ولم يكن عليه من بأسٍ في أن يرتاد من حُجَر الدار ما يشاء، لقد كان في حاجةٍ لأن يستلقي ويستريح، كالرحالة المجهد المكدودِ في سفرٍ طويل، لم يخلع ملابسه، ولم يخلع حذاءه، فما كانت له بقية من قوةٍ يؤدي بها هذه الحركات.

لقد كان حَسْبه أن يلمح السرير لينحطَّ عليه كالجدار المنهار، وانقضت دقائق، ومناظر الرواية أمام عينيه، بينما ترنّ في أذنه كلمات الأم الطيبة القلب عن هذه الفترة الحلوة من الحياة، وينفلت زمام أعصابه، فلا يستطيع أن يضبطها لمواجهةِ هذه المفارقات، وفي هذه اللحظة تصل إلى سمعه من حجرةِ الجلوس نغمة البيانو، إنها تعزف، إنه لحنه المحبوب، لحنه المسحور.

لقد سمع هذا اللحن من قبل، وسمعه كثيرًا، سمعه من تلك الفتاة نفسها، سمعها تعزفه فاستعاده واستعاده، وظل يستعيده في نشوةٍ عجيبة، حتى قالت له في دعابةٍ ساحرة: لن أعيده مرةً أخرى إلا لقاء أجرٍ معلوم! لم يكن يعرف اسم اللحن ولا عنوانه، ولم تكن تعرفه هي كذلك، كان أستاذ البيانو قد حفّظها إياه دون أن يذكر لها عنوانه، فما قيمة الاسم والعنوان؟ إن هذا اللحن المجهول كان يستجيش ضمائره ويحرك خواطره ويثير في حسه النشوة والحلم واللهفة والانسياب.

كان يصور نفسه في تلك الفترة التي لم يكن يعيش فيها على الأرض، ولم يكن يحس إلا أن الحياة حلم ظافر سعيد، لقد كان يحب، يحب هذه الفتاة التي تعزف ذلك اللحن وإنها لتعزفه بيدها وقلبها، وبأعصابها وملامحها، كانت هي اللحن ذاته في صورةٍ مجسمة، ولم تكن قد برزت بَعْدُ تلك الأشواك. ثم ها هي ذي تعزفه مرةً أخرى.

وإنه ليسري إلى نفسه رويدًا رويدًا، وينسكب في أعصابه رفيقًا رفيقًا، وإن نفسه لتهدأ وتطمئن، وإن أعصابه لتسكن وتستريح، وإنه ليثمل، ثم ينتشي، ثم يرف في جو شاعري شفيف، وإنه لينتفض بعد لحظة خفيفًا نشيطًا، وإنه لينفلت إلى حجرة الجلوس ملهوفًا مشتاقًا، حتى إذا اقترب استرق السمع والنظر، فإذا هي، هي حلمه الجميل، هي حوريته الهاربة، هي، ولا شيء سوى الماضي العزيز، والثقة العميقة، والحب المفتون.

هي، وإنه ليطوقها من الخلف في لهفة، فتبدو كأنما ذعرت للمفاجأة، المفاجأة التي كانت تنتظرها ولا شك بغريزتها العبقرية، غريزتها الفطنة التي توحي إليها في هذه اللحظات بالذات بالعمل المفرد الوحيد، الذي يجدي في مثل هذا الأوان، هي، وقد وجدها، ووجد نفسه، ووجد فيها ما يقال، وإن الحب ليعود اللحظة يحلم، وإن الحياة لهي في هذا الحلم الظافر السعيد!"، لكن إبليس اللعين لا يرضى لابن آدم أبدًا أن يستمتع بالسعادة! وكيف، وبينهما من العداوة ما لا ينساه أبدًا ذلك الرجيم، وإن نسيه ابن آدم لغفلته ونسيانه الذي يجري منه مجري الدم في العروق؟.

أكتب هذا وقلبي يدمع، مع أن سيد قطب مات منذ زمن، ولا بد أن تكون الحورية قد لحقت به هي أيضًا، أو تكون قد تجاوزت التسعين من عمرها، إلا أنني في قراءتي للرواية في المرتين الثانية والثالثة كنتُ أتناسى نهايتها المؤلمة التي أعرفها منذ القراءة الأولى، فأتصور أن شيئًا ما سوف يحدث في آخر لحظةٍ فيصلح ما فسد بين الخطيبين ويتزوجان ويعيشان في الثبات والنبات، ويقرآن معًا كتبًا وروايات، وينجبان صبيانًا وبنات، قارئين وقارئاتٍ على عكس الجموع العربية والإسلامية التي لا تقرأ ولا تحب أحدًا يقرأ وتكره القراءة والقراء كراهية العمى، ولشديد الأسف فإني أفاجأ دائمًا بأن نهاية الرواية هي هي لم تتغير في شيء، مما يزيدني ألمًا على ألم.

ويشبه هذا ما وقع لي حين شاهدت فلم "زينب" القديم لأول مرة، إذ فوجئت بأن زينب لم تمت بالسل ولا بغير السل، بل حصلت على الطلاق من زوجها الأول واقترنت برجلٍ آخر يحبها وتُحبه عالجها من مرضها فبرئت وعاشت معه في سعادةٍ وهناء، وهو ما انتشلني من جو الغم والنكد الذي كان يسود الفلم حتى تلك الانعطافة المباغتة التي يتميز بها الفلم عن رواية الدكتور هيكل، وأسعدني أشد سعادة، ولقد قرأت مرةً في "أخبار النساء" لابن الجوزي أن عمر بن الخطاب قال: "لو أدركتُ عفراء وعُرْوة لجمعتُ بينهما"، أي لسهَّل، رضي الله عنه، لهذين المحبين أمر الزواج فلم يفترقا ويقاسيا مرارة الحرمان، وليس شرطًا أن يكون ما نُسِب إلى ابن الخطاب رضي الله عنه صحيحًا بالضرورة، إلا أن للعبارة دلالتها المهمة.

ومع هذا فهي أشبه أن تكون قد صدرت من ابن الخطاب العبقري الذي كان، رغم شدته الظاهرية، يعطف على الضعف البشري عطفًا نبيلاً.

إنني على وعي تام بأن للتاريخ وللقدر منطقهما الذي يختلف عن منطقي هنا، فقد أعد القدر سيد قطب لينهض بدورٍ لا يستطيع غيره النهوض به، وإلا فكم واحدًا يمكنه أن يسير إلى المشنقة في رجولة وصلابة ورسوخ وإيمان لا يتلجلج وعدم التلفت إلى الماضي أو الأسف مجرد الأسف على ما وقع، بل مع الفرح الغامر؛ لأنه سوف يلقي ربه ولم يبدّل تبديلاً، سوى سيد قطب؟ كما أن ورطة أمريكا في العراق وأفغانستان وتوقفها عن اجتياح العالم الإسلامي كله كما كانت تخطط، أو في أقل القليل: تأخرها عن إنجاز ذلك الهدف حتى الآن، إنما هو، في جانبٍ منه، بركة من بركات هذه الرجولة العجيبة التي قلما يعرف الزمان لها شبيها، فإن الشبان والرجال والكهول الذين اتخذوا من قطب مثالاً لهم هم وقود هذا الكفاح البطولي العظيم الذي تئن منه أمريكا رغم الفوارق الهائلة بينها وبين أولئك المغاوير في العدة والعتاد والتخطيط والموارد والإمكانات والعلم والخبرة، لصالحها طبعًا، إلا أن البركة الإلهية ونفحات الإيمان التي يتمتع بها أولئك الأبطال تسد جانبًا كبيرًا من النقص الذي يعانون منه، ومرةً أخرى أقول إنني لا أوافقه، رحمة الله عليه، على كل ما كتب، إلا أن هذا لا يعميني عن موطن العظمة في شخصيته، وإلا فلست بإنسان! وإذا كنت لا أستطيع أن أسير سيرته أو أكون مقتحمًا للأخطار والنيران دون تلعثم أو تخوف مثله، فعلى الأقل ينبغي أن أقول فيه كلمة الحق، وألا أكون لئيما فأحاول التنقص منه حتى لا تتكشف نقائصي.

والحق أن الموجبات الموضوعية للشك والوسوسة والتردد لدى بطل الرواية ليست من القوة بمكان، بل كان من الممكن جدًّا أن ينتصر البطل عليها ويسعد بالجنة التي كان يرتع في بحبوحتها، جنة الحب والتفاهم، وينتهي الأمر بالزواج وامتزاج الجسدين والروحين وارتواء الحبيبين من كوثر السعادة الصافي.

بيد أن البطل، فيما هو واضح، لم يكن يريد أن يرتاح من هذا الشك وذلك الوسواس وما يجره في أعقابه من منغصات ومزعجات؛ ذلك أن أصل المسألة كلها أن العروس قد كاشفته بعد أن ضغط عليها إثر شعوره بأنها تكنُّ في قلبها شيئًا، بأنها كانت مرتبطةً برجل قبله يعمل ضابطًا، وأنها تريد أن يساعدها كي تنساه تمامًا، وأنها قابلته مرةً في مكان عمله في المعسكر الحربي الذي كان يعمل به، وبدا من سلوكها مع البطل وصراحتها وشفافيتها أنها مخلصةٌ فيما تقول وأنها تحبه فعلاً، وأنه إذا كان هناك رسيس باقٍ من الحب القديم فهو في طريقه إلى الزوال، بل سرعان ما زال فعلاً، وأصبحت الحورية له بكيانها أجمع، ثم إنه كان يحبها حبًّا جنونيًّا ملك عليه حياته، رغم أنه في نوبة نبل وأريحية في بداية صلته بها صارحها بأنه سوف يعمل على وصل ما كان انقطع بينها وبين الرجل الذي كان توشك أن تخطب له ثم لم تتم الخِطبة، وإن كان قد اتضح له أن من اليسير عليه أن يفقد حياته ولا يفقد الحورية، ومع هذا كله فقد تبيَّن له أن رجوعها إلى ذلك الرجل لا يمكن أن يحدث.

ولقد كان ذلك كله كافيًا كي يرمى الأمر وراء ظهره ويقبل عليها بكل ما يستطيعه من سعادة وهناء، إلا أن الشيطان الرجيم بارع في الوسوسة وزرع بذور الشك والشقاء في قلب ابن آدم، كما أن ابن آدم ليس دائمًا من العقل والحكمة؛ بحيث يهتبل الفرصة السانحة ويكرع من نهر السعادة الذي يجري تحت قدميه، بل يُؤْثِر أن يَشْقَى ويتعذب ويُشْقِىَ ويعذِّب من حوله على أن يسعد ويهنأ، وإلا فلم آثر الإنصات إلى وسوسات الشيطان في الجنة، التي كان يعيش فيها لا به ولا عليه دون أي إحساس بالتعاسة والشقاء، على أمر الله له بالحذر من أبي الأباليس؟

لقد رأى بطلنا مثلاً في المنام حلمًا يسيء إلى صاحبته، وكان قد تركها وفَصَم خِطْبته لها، وإن بدأ في ذلك الوقت يفكر في وصل ما انقطع، فما كان منه إلا أن سارع إلى لقائها في بيتهم وحاصرها بالأسئلة وكأن ما حلم به هو حقيقة واقعة، ومعنى هذا أنه يبحث عن التعاسة والغم بمنكاش، ولا يرتاح إلا إذا آلم نفسه وعذب ضميره وبات مرتعًا للهم والشك والعذاب المحرق.

وهنا أحب أن أقول شيئًا، وهو أن الإسلام لا يحبذ النكش في ماضي الفتاة بهذه الطريقة التي لا بد أن تنتهي بتدمير كل شيء، وفي ذهني الآن ما قرأته منذ وقت طويل عن عمر رضي الله عنه وأرضاه حين قال لأهل فتاة كان قد أقيم عليها حد الجلد، وتقدم لها بعد ذلك خاطب ففكروا في مصارحته بما وقع، إلا أن عمر هددهم بعقاب أليم إن هم لم يستروا عليها؛ إذ يكفي المسكينة ما أُوقِع بها من عقاب، وقد أنفقت بعض الوقت في البحث عن هذا الحديث في موقع "الدرر السنية" حتى وفقت إلى العثور، وهذا هو نص الحديث حسبما وجدته في الموقع المذكور: "أتى عمرَ بن الخطاب رجل فقال: إن ابنةً لي كنت وأدتها في الجاهلية فاستخرجتها قبل أن تموت، فأدركتْ معنا الإسلام فأسلمت، فلما أسلمت أصابها حدٌّ من حدود الله، فأخذت الشفرة لتذبح نفسها، فأدركناها وقد قطعت بعض أوداجها فداويناها حتى برئت، ثم أقبلت بعد بتوبة حسنة، وهي تُخْطَب إلى قوم، أفأخبرهم من شأنها بالذي كان؟ فقال عمر رضي الله عنه: أتعمد إلى ما ستره الله فتبديه؟ والله لئن أخبرت بشأنها أحدًا من الناس لأجعلنك نكالاً لأهل الأمصار! أنكحها نكاح العفيفة المسلمة" (الراوي: الشعبي- خلاصة الدرجة: فيه انقطاع- المحدث: ابن كثير- المصدر: مسند الفاروق- الصفحة أو الرقم: 1/ 393)، وإن عينيَّ لتوشكان أن تتندَّيا بالدمع وأنا أقرأ الآن تلك القصة!.

ولقد تكفل الله سبحانه بغفران اللمم، بل هو عز وجل يغفر الذنوب جميعًا، والعبرة في أن يرى الرجل من خطيبته الإخلاص، وألا تكون سيرتها قطعة من اللادن تلوكها الألسن، وعليه ألا يتصور أنها كان ينبغي أن تنتظر حتى يهل عليها ويشرِّف وجودها بمحيَّاه البهي، فعندئذٍ، وعندئذٍ فقط، تفتح قلبها للحب، أما قبل ذلك فلا، والعجيب أن الرجل لا يطالب نفسه بشيء من ذلك، وهذا لون من الأنانية المقيتة التي لا تليق، وكثير من الشبان في فترة الخِطْبة يحاول أن يقبِّل خطيبته، فإذا استجابت له شك في خلقها وسلوكها، وكان أول شيء يفكر فيه هو تركها بذريعة أنها لا تُؤْتَمَن على عرضه، وإن رفضت غضب منها وعَدَّ ذلك برهانًا على أنها لا تحبه ولا تستجيب لما يريد.

بالله كيف يطلب منها أن تكون باردةً في مثل ذلك الموقف وأن تقيس كل شيء بمقياس المثالية، وهو نفسه موحول في طين الأرض ويعمل على أن يوحلها معه؟ إنها بشر مثله، فلا ينبغي أن يثير غريزتها ثم يطلب منها أن تستعصم كل الاستعصام، فلماذا لا يقول ذلك لنفسه أولا؟ أوليس هذا ما يقتضيه العدل والإنصاف؟ ولا أدري من أين أتى الرجالَ عندنا أن القلب لا يعشق ولا ينبغي أن يعشق إلا واحدًا ليس إلا.

إن القلب الإنساني ليَسَعُ ألوانًا من التجارب، أفلو أحبت الفتاة خطيبها الأول، ثم لأمر أو لآخر تركها ذلك الخطيب، أفينبغي أن تترهَّب بعده إلى الأبد وتهجر دنيا الرجال، على حين يسرح هو في الأرض مرحًا ويخطب غيرها ويستمتع بحياته طولاً وعرضًا؟

إنها بشر مثله، وقد غرس الله في فطرتها ما غرس في فطرته من حب الجنس الآخر والهفوِّ إليه والرغبة في الاقتران به، ومن حقها إذن أن تصنع ما يصنع هو، أولو تزوجت المرأة، ثم مات عنها زوجها، أفتظل طول عمرها أرملاً لا تفكر في سواه؟ والله إن فعلت هذا من تلقاء نفسها لتربية أولادها مثلاً أو حفاظًا منها على ذكرياتها الجميلة معه فهي وشأنها، وتُشْكَر على ذلك، وإلا فكما أنه لا يُقِيم على ذكراها أبد الدهر لو كانت هي التي ماتت قبله، فكذلك لا يصح أن نطالبها بما لا نطالبه به ولا نتوقعه منه.

لقد تزوج الرسول عليه السلام مرارًا، فلم نسمع أنه حاصر أيًّا من زوجاته بالأسئلة عن حياتهن السابقة، بل لم يحدث قط أن اهتم بمعرفة ما كان بين المتزوجات منهن قبله وبين أزواجهن الماضين، فهل نكون نحن أغير منه صلى الله عليه وسلم أو أكثر مثالية؟ ألا إنه لتنطع سقيم! وفي روايتنا نرى سامي يقبّل حوريته ويحضنها ثم لا يدخل بها، فماذا كان يريد منها أن تصنع؟ أوكان يرى أنها لا يصح لها الزواج من بعده إلا إذا صارحت رجلها الجديد بما وقع بالتفصيل وتحصل منه رغم هذا على البركة، أو في أسوإ الأحوال: على العفو والمغفرة؟

لقد قرأت في الفصل المسمَّى: "العذراء الأم" من الرواية ذلك النص الذي يستوجب الوقوف إزاءه طويلاً، وكان البطل فريسةً لنوبة من نوبات النكش في دفاتر الماضي دون مسوغ صحيح: "عاد إلى داره موحش النفس مظلمًا كئيبًا، تجثم على صدره الكآبة، ويغشى نفسه الوجوم، وفي أعماقه سؤال غامض لا يسمح له بالظهور والوضوح: تراه أخطأ طريقه في هذا المشروع كله؟ وأن هذه الفتاة ليست له، لا هي ولا فتيات القاهرة جميعًا؟ إنه يتطلب في فتاة أحلامه مفارقات لا تجود بها الحياة، يتطلب الحورية القاهرية المغمضة العينين، يتطلب الفتاة العذراء القلب والجسد في زي قاهري، ويتطلب فيها الحساسية المرهفة والشاعرية المتوهجة، ومع هذا كله طيبة القلب وصفاء الروح! تراه أخطأ الطريق فطلب الحورية العذراء في بنت من بنات القاهرة؟ أم تراه أخطأ الطريق من أوله، فطلب حياة زوجية لا تصلح له بحال؟".

وإني لأتساءل: وماذا في بنات القاهرة؟ أهن من صنع الشيطان، وفتيات سائر المدن والقرى من صنع الله؟ أويكون ذنب الفتاة أنها قد تصادف مولدها في القاهرة؟ إن العاصمة أقمن بوجه عام أن تجعل شخصية المرء أنضج وأوسع أفقًا، وإني لأنظر إلى نفسي قبل وبعد مجيئي إلى القاهرة وأتساءل: أية النفسين أفضل عندك يا فلان؟ لا شك أن شخصيتي ما كانت لتنضج كل هذا النضوج لولا أنني أتيت إلى القاهرة رغم الحزن الشديد الذي كنت أشعر به أول وفودي عليها، وهو نفسه ما كنت أحس به أنا وزوجتي مضاعفًا أضعافًا في بداية حياتنا في أوكسفورد، إلا أننا نحمد الله آناء الليل وأطراف النهار أن أتاح لنا كل تلك التجارب على مرارتها في بدايتها وما شاكتنا به من أشواك.

لقد صيرتني تلك التجارب إنسانًا عالميًّا بدلاً من أن أظل قرويًّا ساذجًا ضيق الأفق والاهتمامات قليل الموهبة ضحل الثقافة والنفس، وفي القاهرة بعد ذلك كله، كما في كل مكان، الاستقامة والالتواء، والعفة والانحراف، وفي قلب القرى والنجوع والكفور فجور كالذي في القاهرة، كما أن في القاهرة زهدًا وعفافًا كالذي يجده الإنسان لدن أطهر الأولياء الصالحين في محاريبهم، ولقد كنت حريصًا أنا وزوجتي على تأدية كل صلاة في ميعادها في بريطانيا حتى ونحن نتنزَّه بين الحقول حول أوكسفورد؛ حيث كنا نمضي في بعض الأيام المشمسة الرائعة ساعاتٍ طويلات، ومعنا المذياع مفتوحًا على إذاعة القاهرة أو صوت العرب، وكذلك بعض الكتب نقرأ فيها أو نتناقش حولها، أو نلاعب الطفلين على الأرجوحة في الحدائق التي تقابلنا في كل مكان؛ فإذا أردنا أن نصلي أدينا صلاتنا حيث نحن، فهل منعَنا وجودنا في الحقول، وتحت أنظار المارة، في بلد غير مسلم من تأدية صلاتنا في ميعادها؟ هذا، ونحن بَعْدُ في تديننا بسطاء غاية البساطة!

وهذا يذكِّرني بما دار في بداية ثمانينيات القرن الماضي بيني وبين شاب طبيب متدين له صلة بي في إحدى القرى المصرية حول الفتاة التي كان يريدها زوجة له، إذ كان رأيه أنها ينبغي أن تكون جاهلةً لم تذهب إلى المدرسة وليست لها أية تجارب من أي نوع، أو كما قال هو: "قطة مغمضة"!

فكان ردي أن ما يتصوره هو الباطل والوهم بعينه، فليس هناك فتاة مغمضة كما يتصور، وأن كل فتاة لا بد أن تمر بتجارب في حياتها أيًّا كان لون هذه التجارب، وأن عقول البشر مفتوحة لتيار الحياة ليل نهار لا يمكن أن تنغلق أبدًا، وأنه سوف يجد عقل الفتاة الجاهلة محشوًّا بالخرافات والضلالات التي تلقتها عن أمها الجاهلة مثلها وعن جاراتها اللاتي لا يقللن جهلاً عنها هي وأمها، وأن الفتاة التي تذهب إلى المدرسة وتتعلم القراءة والكتابة لن تعدم، في أسوإ الأحوال، أن تتعلم آيةً قرآنيةً أو حديثًا نبويًّا أو بعض الإرشادات الصحية وقواعد اللياقة والسلوك، على حين أن تفكير الفتاة الجاهلة منحصر في أمور الطبخ والكنس والزريبة وما إلى ذلك، وأنه لا معنى لتصور أن كل ما تفعله الفتاة المتعلمة هو كتابة الخطابات الغرامية لكل من هب ودب، وأنني لا أفهم أبدًا كيف أن رجلاً متعلمًا تعليمًا حقيقيًّا بحيث يبلغ هذا التعليم أغوار عقله وقلبه يفكر مجرد تفكير في الزواج من فتاة جاهلة لم تتعلم.

ثم زدتُ فلفتُّ نظره إلى ما كنت أسمعه من أن في البيت المواجه لبيتهم عبر الطريق الزراعي والمصرف مجموعة من الأخوات المتعلمات المشهورات بجمالهن. هذا ما قلته له، وإلى هنا وكل شيء جميل، وقد اقتنع صاحبنا بما قلته له، إذ خطب كبرى أولئك الفتيات وتزوجها على بركة الله. إلا أن غير الجميل في الأمر أنه دعا إلى عُرْسه كل الناس ما عداي أنا رغم نفوري من حضور حفلات الأعراس بزحامها وطول ما يُنْفَق فيها من وقت ممل. وتكرر هذا في كل عرس تم بين أحد من إخوته وبين فتاة أخرى من ذلك البيت. وبطبيعة الحال أنا لا أقصد إلى المقارنة بين سيد قطب وهذا الشاب، فسيد قطب إنما قال عن نفسه أو عن بطله ما قال في غمرة الألم والشك القاتل، وإن كان ذلك البطل مسئولاً عن الانصياع للشك والخضوع له وعدم بذل الجهد الكافي للتحرر منه. كما أنه كان مقدِّرا لثقافة خطيبته ورهافة حسها وذكائها وجمالها القاهري المصقول. لقد كان البطل وقتذاك، سواء قلنا إنه هو سيد قطب أو لم نقل، كاتبا مشهورا يشار له بالبنان، ولم يكن بالشخص النكرة المنغلق الأفق والذوق.

هذا فيما يتعلق بالنصف الأول من ذلك السؤال الذي ألقاه البطل على نفسه وهو في غمرة الضياع والألم: "تراه أخطأ الطريق فطلب الحورية العذراء في بنت من بنات القاهرة؟ أم تراه أخطأ الطريق من أوله، فطلب حياة زوجية لا تصلح له بحال؟"، أما الشق الآخر من السؤال فهو ما يلفت النظر وينبغي أن يستبقينا أمامه طويلا. ترى أكان قطب، إذا قلنا إنه هو بطل الرواية، زاهدا في المرأة أو غير متعلق بها التعلق الكافي؟

إن وقائع الرواية لترفض هذا التفسير رفضا عنيفا، وإلا ففيم كل هذا الوله والشك والقلق وعدم الصبر إلى أن يتم الزواج فينال الحبيب من حبيبته ما يشاء من قبلات وأحضان؟ أتراه كان يفكر في أن يَهَب حياته للإصلاح؟ فأما الإصلاح الديني فلم يكن قطب قد اتجه إليه بعد، علاوة على أن الإسلام لا يعرف الترهب، وهو رحمه الله كان ولا ريب يعلم هذا جيدا.

أما الإصلاح السياسي فلم نسمع أن أحدا من فرسانه عزف عن الزواج بسببه، وهذا إن كان سيد قطب يفكر في هذا اللون من الإصلاح في ذلك الوقت، أو كان قد فكر في الإصلاح أصلا قبل اتجاهه إلى الإسلام. لكن لو استدرنا ونظرنا إلى المسألة من وجهها الآخر لوجدنا أن بطل القصة كان بينه وبين خطيبته عشر سنوات، ومعنى هذا أنه تأخر في التفكير في الزواج. كما أن سيد قطب لم يتزوج قط، ومات عَزَبًا رحمه الله.

أتراه كان استشفافا منه للغيب إذا أخذنا بأنه هو بطل الرواية، إذ هجس قلبه، مجرد هجس غامض، بأنه سوف يختار في مقبل الأيام طريقا كله معاناة وآلام، وقد ينتهي نهاية مأساوية، ومن ثم لا داعي لأن تكون له زوجة وأولاد يتجشمون معه هذا كله؟ لاحظ، أيها القارئ، أنني إنما عزوت ذلك إلى الهاجس ليس غير، وإلا فليس يعلم الغيب إلا الله، وإنْ صَدَقَتِ الهواجس في غير قليل من الأحيان!

وإلا فليس أمامنا إلا أن نقول إنه القدر، الذي كان يُعِدّ سيد قطب لدوره التاريخي الذي نعرفه والذي بذل دمه من أجله عن طواعية تامة ورجولة لا نظير لها.

ومنذ عدة ليال كنت أعسّ في جنبات المشباك، فاطَّلَعْتُ في موقع "ttp://www.worldpress.org/Mideast/2150.cfm"،تحت عنوان "Memories of Sayyid Qutb: An Interview With John Calvert"، على حوار مع جون كلافرت (John Calvert)، شريك وليام شبرد (William Shepard) في ترجمة كتاب قطب: "طفل من القرية" إلى الإنجليزية، وكان من بين ما سُئِله كلافرت السؤال التالي:

"Qutb was a life-long bachelor. What were his attitudes towards women? :"

فكان جوابه:

"I think he was a little bit afraid of women. He projected a lot of stuff on to women. He regarded women as a potential source of fitna, or social discord … Qutb was very afraid of the effects of sexuality as something that would compromise his identity as a God-fearing Muslim. If you look at his book Thorns, at the episodes he says that he experienced in the United States , women are always there in the background as temptresses. I don’t think that this pathology is common to Islamic culture, but I think Qutb certainly had a troubled relationship with women".

وفي هذا النص يؤكد كلافرت أن ما كتبه سيد قطب في رواية "أشواك"، وكذلك في مقالاته عن رحلته إلى أمريكا، يُظْهِر بجلاء أنه كان يَعُدّ المرأة فتنة ينبغي توقى شرها، وأن صلته بها كان يسودها الاضطراب.

ولست أوافق المترجم على كلامه، فليس في "أشواك" شيء من هذا الذي يقول، بل تعكس الرواية سعادته بخطيبته وحبه لها وفرحته بأنها تجسّد ما كان يحلم به في المرأة التي يريد الاقتران بها، إلا أن التردّد والتنوُّق والشكوك قد سممت عليه سعادته وأوردت علاقته بالحورية موارد التلف والبوار.

ولا شك أن غريزة الجنس غريزة عاتية، ومن ينكر ذلك فهو كذاب أو جاهل مخدوع لا يعرف شيئا من حقائق الحياة، لكنني لا أظن أن لسيد قطب في كتاباته، وبخاصة في"أشواك"، موقفا خائفا من المرأة يقوم على أساس افتراض الشر فيها، فما المرأة في الواقع إلا إنسان يخضع كما يخضع الرجل لغريزة الجنس.

وهو يعرف هذا جيدا، فهو كاتب ومفكر كبير، وإن كان الموروث الشعبي يطابق بين المرأة وبين تلك الغريزة، ويحمّلها من ثم التبعة وكأنها هي المسؤولة عن انحراف الرجل ووقوعه في شَرَك الغواية، مع أن الاثنين إنما تسيّرهما نفس الشهوة، وبالتالي فكلاهما مسئول عن الخطيئة.

بل ربما كانت مسؤولية الرجل أكبر، إذ كثيرا ما خدع المرأة ومنّاها الأماني وهوّن عليها الأمر وعشّمها في الزواج، ثم إذا ما جَدَّ الجِدّ تصرف بنذالة وأخذ ذيله في أسنانه وبلَّغ فِرَارا، تاركًا إياها وحدها تواجه المجتمع بعارها، ذلك العار الذي تتحمله في نظر المجتمع وحدها عادةً، لا لشيء إلا لأن العار الذي اشتركا في عمله لا تظهر آثاره إلا عليها.

كما أن سيد قطب، إن قلنا إنه هو سامي بطل الرواية، كان يتعاطف مع خطيبته رغم كل تلك الشكوك التي كانت تنتاشه بين الحين والحين. كما برّأها أمام أهلها أكثر من مرة ملقيا باللوم على نفسه. إلا أنه كان يريدها وردة لم تنفتح أوراقها لأحد قبله ولم يطَّلع على ما في قلبها أحد قبله، وهو في هذا يشبه كثيرًا من الشبان والرجال في بلادنا، فليس هو بالبِدْع في ذلك.

والبطل في "أشواك" يشبه في هذه السمة بطل "سارة" في بعض الملامح العامة: فكلاهما يقع فريسة للشك في الفتاة التي يحبها ويقاسى في هذا السبيل أهوال الجحيم.

إلا أن ثمة فرقًا كبيرًا بين الفتاة هنا والفتاة هناك: فهي في "أشواك" خطيبة، أي أن العلاقة بينها وبين حبيبها علاقة شرعية، وهي في "سارة" مجرد حبيبة لا يربطها بحبيبها شيء شرعي كما أن طبيعة الشك هنا غيرها هناك: فبطل العقاد يشك في حبيبته لأنه أحس أنها على علاقة بغيره في ذات الوقت الذي كانت مرتبطة به فيه، على حين أن بطل "أشواك" كان يخشى أن يكون قلب خطيبته ما زال ينبض بالحب للشاب الذي كان يريد خِطْبتها قبله.

كذلك فخطيبة سامي هي التي أنبأته بما كان بينها وبين ذلك الشاب، وطلبت منه أن يساعدها على تجاوز ذلك الماضي معترفة له بأنه يفوق خطيبها السابق كثيرا وأنه ليس إلى المقارنة بينهما لهذا السبب من معنى.

أما "سارة" فكانت مخادعة لا تخلص لهمام. ومما تتشابه فيه الروايتان أيضا أن كلا البطلين كاتب مشهور. وقد حرص الراوي على أن يشير إلى ذلك من خلال انتباه الضابط في كل من الروايتين إلى شخصية محدثه المعروفة من كتاباتها في الصحف والمجلات ذات الشأن.

وكلتا الروايتين تنتهي بالقطيعة بين الحبيبين، مع تعاطف كل منهما مع حبيبته رغم ذلك، وإن كان لكل منهما مسوغاته في هذا التعاطف، كما أن درجة التعاطف عند سامي أقوى كثيرًا منها لدى همام، فضلاً عن أن العامل الحاسم في الافتراق في "أشواك" يرجع إلى الفتاة، التي شعرت أن الريح التي ستسيّر قارب حياتها مع سامي لن تكون رخاءً في ظل شخصيته المتشككة التي لا تريد، فيما يبدو، أن تجنح إلى السلام.

ولا ينبغي أن ننسى أن سيد قطب بقي ردحًا طويلاً من عمره متعلقا بالعقاد مخلصا له مدافعا عنه ضد مناوئيه من أمثال الرافع ومندور، وكان يراه أديبًا ومفكرًا وشاعرًا متميزًا وممتازًا ليس له من ضريب، وذلك قبل أن يستقلّ بطريقته هو ويمضى على سنته. فلا غَرْوَ إذا وجدنا بين روايته ورواية العقاد مثل تلك المشابه، وهى لا تنال من رواية "أشواك" في قليل أو كثير، وبخاصة أنها في معظمها مشابه قائمة على المصادفة المحضة.

وكلتا الروايتين هي بَعْدُ من القَصَص العالي الذي قلما يقرأ الإنسان قَصَصًا مثله: سواء في روعة الأسلوب أو عمق التحليل أو إحكام البنية الفنية أو في مقدرة الاستيلاء التام على كيان القارئ، مع انفراد "أشواك"، في حالتي أنا على الأقل، بأنها تثير التعاطف مع بطل القصة وحبيبته حتى من قبل معرفتي بشخصية سيد قطب كما أوضحت من قبل.

وفي النهاية أترك القارئ مع هذه الفقرات من الرواية يقرؤها على مهل: "وفي المساء كان يقصد إلى الدار، وليس في خياله إلا صورتها المرحة الوثابة، وإلا صوتها الشجي الطروب. واستقبلته متهللة، وقبل أن يجتاز الممر وراء الباب، وكانت يدها لا تزال في يده، قالت:

- كنت الليلة خائفة. ولكم تمنيت لو تجيء في الظلام!

وأحس أن الدنيا لا تسعه من الفرح، فضغط يدها بحرارة، فتأودت وهي يشد يدها في يده، وبدت فتنة جارفة لا تحتملها الأعصاب! وانطلقت بعد قليل إلى البيانو توقع عليه اللحن المسحور، فغمرت روحه نشوة عجيبة، وانسربت خواطره تراود أحلاما ذهبية، وأحس بسعادة تضيء روحه بنور وهاج، وتحلق به في وادٍ من التيه بعيد.

وبعد أن استعادها مرة ومرة، على عادته كلما سمع اللحن المسحور، أعلنت في دعابة ساحرة أنها لن تعيد العزف، ونهضت واقفة وانفلتت من الحجرة كالحورية الهاربة، أو كالغزال الشرود.

وكان معه في الحجرة أبوها وأمها وأخوها الشاب، ورآها تذهب نحو مرافق المياه، فتظاهر بعد برهة بأنه ذاهب إلى المرافق، وكانت له الحرية في أن يذهب ويروح حيثما يشاء، وكان يفصل المرافق عن الحجرات ممر طويل ضيق. وفي منتصف الممر قابلها راجعة، ولا يذكر أنه رآها كما رآها هذه الليلة. كانت متوهجة يخيل إلى الرائي أنها تتوقد، كما يخيل إليه أن كل نفسها منافذ تُتَلَقَّى منها الأضواء والأصداء، وتشع منها الطاقة والحرارة! ونسي المنزل ومن فيه، وهم على مقربة منهما، وراح يضمها إليه في شوق عارم، ويهوى على شفتيها في لهفٍ حَرُور، وأحس أنها تتذاوب فيه، وتتفانى بكاملها، وأنها تستجيب له بكل ذرة فيها، وأنها تتلاشى وتتداخل وتتهاوى.

ومضت فترة لم يكن يعي فيها شيئا، ولكنه لا ينساها أبدا! مضت هذه الفترة، وإذا هي تَثْنِي جيدها إلى الوراء، وقَوَامها في يديه، فتواجهه بنظراتها الجاهرة، وتقول في دعابة ساحرة: الرجل وراءنا! والله أناديه!

ولم يكن يملك إلا أن يضمها إليه في عنف، وهي تسكب في نفسه أحلى رحيقها المذخور بهذه النظرة وتلك الفتنة. ثم تملصت منه، وانفلتت تجري، وعاد هو إلى الحجرة نشوان، ولكنه تعبان! عاد فجلس، ولم يلحظ أحد منهم عليه شيئا، ولو تنبه أحدهم إلى عينيه لرآهما تقطران نشوةً وسكرًا.

وغابت عنهم فترة طويلة، ثم عادت وقد هدأ كل هذا النشاط، وسكنت كل هذه الفورة، وبدت مطفأة خابية، وصدمه هذا الانقلاب صدمة عنيفة، وخيلت له أوهامه أن هذا ندم منها على ما وهبت له، وأنها لا تزال تعد نفسها لحبيبها الأول. كانت كل معرفته بالمرأة من الأوراق! ووجم، وثقل عليه الجو، فشاع في المجلس كله الوجوم، وبخاصة وقد تقدم الليل، وداعب عيونهم النعاس.

وانتهز فرصة انفرادهما بعد قليل في الممر، فراح يفسد كل شيء. قال لها:

يبدو أنك نادمة على ما أعطيت.

وهزت رأسها أنْ: نعم.

فلم يحاول أن يفهم إلا أنها تعني ما تقول! قال:

تريدين أن تكوني له خالصة!

وجرح هذا كرامتها، فلم ترد أن تتقهقر. قالت:

أي نعم!

وغاظه ذلك جدا. ولم يحاول أن يفهم غلطته في سَوْق هذا الحديث إليها الآن. قال:

لن أعيدها مرة أخرى. اطمئني!

قالت في برود:

تحسن صنعًا!

وأفلت منه قياد نفسه، ولم يعرف كيف يدير الكلمات، قال:

- لا يزال أمامك أن تختاري. فالفرصة بعد لم تضع!

وتظاهرت بعدم المبالاة، وكانت عادتها حين تجرح كبريائها، وقالت:

- والفرصة أمامك كذلك لم تضع، وتستطيع أن تتصرف بكامل حريتك!

وهنا فقط أحس أنه أخطأ في إدارة الحديث من أوله، وأنه استجاب لهواجسه التي لا زالت تختلج في ضميره، وأنه دفع بها إلى مكابرة لا مفر لها منها، فقال:

لندع الحديث الآن.

وعاد إلى الحجرة يستأذن للخروج. ولم تحضر هي لتسلم عليه. فدعتها أمها، فحضرت متثاقلة، ومدت إليه يدها باردة فسلم وانصرف وملء نفسه ظلام.

عاد إلى داره موحش النفس مظلما كئيبا، تجثم على صدره الكآبة، ويغشى نفسه الوجوم. وفي أعماقه سؤال غامض لا يسمح له بالظهور والوضوح: تراه أخطأ طريقه في هذا المشروع كله؟ وأن هذه الفتاة ليست له، لا هي ولا فتيات القاهرة جميعا؟ إنه يتطلب في فتاة أحلامه مفارقات لا تجود بها الحياة. يتطلب الحورية القاهرية المغمضة العينين.

يتطلب الفتاة العذراء القلب والجسد في زي قاهري، ويتطلب فيها الحساسية المرهفة والشاعرية المتوهجة. ومع هذا كله طيبة القلب وصفاء الروح! تراه أخطأ الطريق فطلب الحورية العذراء في بنت من بنات القاهرة؟ أم تراه أخطأ الطريق من أوله، فطلب حياة زوجية لا تصلح له بحال؟

وفي مثل هذه الهواجس، التي كان يصاحبها في نفسه هم ثقيل وهمود كئيب، قطع الطريق الطويل بين دارها وداره، حتى إذا وصل لم تكن فيه بقية من النشاط للصراع والتفكير، فاستلقى مهدودا فنام!

وأصبح الصباح، فإذا هو يجد له نفسا جديدة غير التي نام بها. لقد صحـا وفي نفسه صفاء هاديء وصوفية شفيفة، إنه يعطف على الفتاة عطفا هادئا رفيقا. لقد صارعت أشواكها وقاومت ماضيها، ولقد ألقت بنفسها بعد هذا كله إليه، مجردة من كل ستار، عارية من كل رداء. وبالأمس ألقت بنفسها كلها إليه، واستسلمت لأحضانه. أنثى كاملة تستسلم للرجل الذي تختاره، فما باله لا يزال بعد هذا كله يذكّرها بالأشواك، ويحيطها بالشكوك، ويحرجها بالاتهام؟ لها الله!

وأحس عندئذ بالصفاء الهادئ يفارقه، وبالصوفية الشفيفة تتخلى عنه، وأجدّت له هذه الخواطر شوقًا جارفًا شديدًا، ورأى نفسه يعبر عن هذا الشوق بشعر حار ملهوف. وحينما جاء موعده اليومي كان قد أنفق كل رصيده من الصبر، فانطلق إلى الدار ترفّ كل جوارحه هوًى إليها، وصعد السلم قافزا لاهثا. فلما كان أمام الباب وقف يلتقط أنفاسه قبل أن يضغط زر الجرس.

وجاءت الخادم ففتحت الباب، وبيدها الطفل الصغير أخو الفتاة، وكان يحبه حبا جما لخفة دمه، ورشاقة حركته، وحلاوة حديثه. وكانت الخادم خارجة به للرياضة في منتزه قريب. فتناوله بكلتا يديه، وقبله قبلة حارة عنيفة! ثم سأله عن "سميرة"، فقال الطفل في شيء من التخابث:

- عايزها؟

- أيوه.

قال:

- كانت تبكي.

ولا يدري كيف استقبل هذه الكلمة. تألم لها ما في هذا شك، ولكنه شعر بارتياح غامض. تبكي؟ إذن في نفسها من حديث الأمس بقية.

وإن بكاءها ليؤلمه، ولكن أوَلاَ يدل هذا على أن المسألة في نفسها باتت جدا، وأنه يؤذيها ما يثور في نفسه حولها من شكوك؟ وتنبه لهذا الشعور في نفسه فعده شعورا أثيما! أوَيريحه أن تتألم الفتاة لمجرد استيثاقه أن الأمر بينهما قد صار جدا؟ ثم يزعم أنه يحبها؟ يحبها أو يحب نفسه؟ ومع ذلك يصف نفسه بالإيثار! وبينما كانت هذه الخواطر تجول في نفسه كان يندفع في الدار مناديًا:

سميرة. سميرة. أين انت يا سميرة؟

ولقيته أمها فسلمت عليه، وفي قسماتها شيء من الانكسار، ونادت بدورها عليها:

سميرة. تعالي. إنه جاء!

وأحس من هذا أن عدم مجيئه اليوم كان متوقعا، وأنه قد دار بشأنه حديث. وعـاوده الشعور المبهم المختلط. وأقبلت سميرة، ونظر فإذا هي مكدودة، تغيم عليها سحابة من الأسى.

ولكنه قد حضر برصيد نفسي ضخم من الحماسة والطلاقة، فراح يجلو هذه الغاشية بنشاطه وطريقة حديثه والتفاتاته وحركاته، واستجابت الأم لهذا فبدا عليها الانشراح.

أما هي فكانت في نفسها بقية لا تزال، ولكنها كانت خيرا مما لقيها أول مرة. وطلب منها أن تعزف له دوره المحبوب، ولكنها تمنعت حتى كادت أمها تغضب، فاستجابت لها. وكان عزف هذا الدور يكفي لإحداث جو آخر.

وخرجت الأم، وقد راقها الجو الجديد، لتشرف على الشاي والفاكهة! ولما اختلى بها قالت له في رزانة:

- يا سامي. إنك مظلوم معي. ومن واجبك أن تبعد عن طريقي. إنه مليء بالأشواك! وحاول أن يطمئنها بشدة، فأخذ يدها بين يديه وضغطها مربتًا، وقال:

- أرجو يا سميرة أن تغفري لي اندفاعاتي، فأنا رجل جُرِح مرة، فدعي لي فرصة تندمل فيها جروحي، كما تركت لك فرصة تنتزعين فيها أشواكك.

وأدركتْ ما في لهجته من صدق وعمق فقالت:

- معك حق. معك حق. ولكنني مع هذا بدأت أخاف!

قال لها في توكيد ظاهر:

- لا. لا تخافي. ثقي أنني أثق بك في أعماقي. وإلا ما وجدتني بجانبك إلى هذه اللحظة. قالت:

- سأقول لك الحق: أنا مجرمة.

عندئذ فاضت نفسه رقةً لها وعطفًا عليها، وراح يُطمئنها على ثقته بها، ويبرئها مما ترمي به نفسها. وبعد فترةٍ على هذه الوتيرة من الحديث عاد إليها اطمئنانها، وارتدت إليها بشاشتها، وتوهجت عيناها بذلك البريق الجذاب العجيب، وخُيِّل إليه أنه غسل ما في نفسها وغسل ما في نفسه، وأنهما يرفان طليقين في سماء الحياة".

المصدر