أحكام المهور ... للعلامة الشيخ فيصل مولوي (الجزء الأول)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٥:٢٥، ٨ يونيو ٢٠١١ بواسطة Attea mostafa (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
أحكام المهور ... للعلامة الشيخ فيصل مولوي (الجزء الأول)


مقدمة

فيصل مولودي.jpg

بســــــــــم الله الرحمن الرحيـــــــــم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد..

فهذه دراسة أعدّت أصلًا للمحاكم الشرعية السنيّة في لبنان، وقد كنت يوم ذاك مستشاراً في المحكمة العليا، وكثرت شكوى الناس من مسألة طارئة ملخّصها أن عقود الزواج المعقودة في لبنان قبل سنة 1985 م كانت تحدّد المهر بالليرة اللبنانية التي كانت تتراوح قيمتها بين ليرتين ونصف إلى عشر ليرات للدولار الأمريكي الواحد. ثم انهارت قيمة هذه الليرة حتّى أصبح الدولار الأمريكي يساوي ثلاثة آلاف ليرة، ثمّ عادت إلى التحسّن حتّى وصلت الآن سنة 1999 م إلى 1.500 ليرة لبنانية للدولار الواحد، أي أنّ قيمتها الفعلية هبطت حوالي ألف مرّة.

ولقد تواصل العرف في لبنان ، وفي كثير من البلاد الإسلامية، على أن يقسم المهر قسمان: الأول: معجّل يدفع للزوجة قبل الدخول، والثاني مؤجّل يدفع عادة عند حلول أقرب الأجلين: الطلاق أو الوفاة.

فإذا تمّ عقد الزواج وتحديد المهر المؤجّل قبل سنة 1985 م ثمّ وقع الطلاق أو حدثت الوفاة مثلًا بعد سنة 1990 م. فكيف يدفع المهر المؤجّل؟ هل يدفع بالليرة اللبنانية، أم تحدّد قيمته بعملة ثابتة نسبياً كالدولار الأمريكي؟

فلو كان المهر المؤجّل مثلًا خمسين ألف ليرة قبل سنة 1985 م، فإن قيمته يوم ذاك كانت حوالي خمسة عشر ألف أو عشرين ألف دولار، وهو مبلغ يكفي في حينه لشراء شقّة مناسبة، يمكن للمطلّقة أو المتوفّى عنها زوجها أن تسكن فيها، أو تؤجّرها وتعيش بقيّة حياتها من قيمة الإيجار. ولو دفع بعد سنة 1990 م عند استحقاقه بنفس المقدار أي خمسين ألف ليرة لبنانية فهو لا يزيد عن ثلاثين دولاراً فقط.

ولقد اختلفت آراء القضاة الشرعيين في هذه المسألة، فكان أكثرهم يحكم بنفس المبلغ المحدّد بالليرة اللبنانية، ولكنّه يحاول أن يقنع الزوج بدفع أكثر من ذلك، وهو ينجح في كثير من الحالات، ولكن المبلغ الذي يرضى به الزوج يظلّ غالباً أقلّ بكثير من نسبة انهيار الليرة.

وكان بعض القضاة يحكم بتعديل المبلغ المحدّد بالليرة اللبنانية دون التزام محدد بنسبة معيّنة، بل انطلاقاً من العدالة الشرعية، وانسجاماً مع الرأي الراجح في مذهب السادة الأحناف - وهو المعمول به في المحاكم الشرعية في لبنان - والذي يرى أنّ الفلوس إذا هبطت قيمتها يرجع إلى تحديدها بحسب قيمتها من الذهب يوم إجراء العقد.

ثم إنّ المحكمة الشرعية العليا في بيروت حسمت اجتهادها في هذه المسألة بالأكثرية، وقرّرت أنّه لا يحقّ للزوجة أن تأخذ أكثر من المبلغ المحدّد بالليرة اللبنانية ولا عبرة بهبوط قيمتها مهما بلغ، إلّا إذا رضي الزوج أن يدفع لها أكثر من ذلك، وفي حدود رضاه فقط.

ولمّا كنت مخالفاً لهذا الرأي فقد كتبت هذه الدراسة العلمية أذكر فيها ما يسّر اللّه من الأدلّة التي تثبت وجوب الرجوع في مثل هذه الحالات إلى تقدير القيمة بالذهب.

وقد كان تعليل المحكمة العليا لاجتهادها مبنياً على التفريق بين العقود المالية البحتة وبين مهور الزواج. فاعتبرت أنّ رأي السادة الأحناف يختصّ بالحالة الأولى ولا يشمل الثانية. وقد بيّنت خطأ هذا التعليل في آخر هذه الدراسة، ونقلت نصوصاً صريحة تؤكّد أنّ مذهب السادة الأحناف في هذه المسألة يشمل المهور أيضاً.

وبما أنّ هذه المشكلة تكرّرت في كثير من البلاد الإسلامية التي هبطت قيمة عملتها بشكل كبير، كالسودان والعراق وتركيا، وبشكل أقلّ منه في غيرها من البلاد، فقد وجدت من المفيد نشر هذه الدراسة، حتّى يأخذ الحوار بين العلماء مداه، عسى أن نتوصّل إلى اجتهاد جماعي يحفظ أصول الشريعة ويحقّق مقاصدها.

واللّه أسأل أن يجنّبنا الزلل، وأن يعصمنا من الشطط، فما أردت من هذه الدراسة إلاَ بذل الجهد للتعرّف على حكم اللّه تعالى، فإن أصبت فذلك فضل اللّه، وإن أخطأت فتلك طبيعة البشر، وأستغفر اللّه تعالى أوّلا وآخراً، والحمد للّه ربّ العالمين.


العدل في الشريعة الإسلامية

قال اللّه تعالى: { يَا أَيُّهَا اُلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِاُلْقِسْط شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اُلوَالِدَيْنِ وَاُلأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيَّاً أَوْ فَقِيراً فَاُللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا اُلْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا...} [النساء: 135] . وقال تعالى: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاُعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } [الأنعام: 152] . وقال تعالى: { إِنَّ اُللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اُلأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اُلنَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِاُلْعَدْلِ...} [النساء: 58] . وقال تعالى: { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَ تَعْدِلُوا اُعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى...} [المائدة: 8] . وقال تعالى: { إِنَّ اُللَّهَ يَأْمُرُ بِاُلْعَدْلِ وَاُلإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي اُلْقُرْبَى...} [النحل: 90] .

وقد أمر اللّه تعالى رسوله محمداً صلّى اللّه عليه وسلم بالعدل بين المسلمين فقال: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ...} [الشورى: 15].

كما أمر اللّه تعالى بالعدل بين جميع الناس فقال: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِاُلْقِسْطِ...} [الأعراف: 29]. وأكّد بوضوح أن القسط مطلوب حتّى مع غير المسلمين فقال تعالى:{ لا يَنْهَاكُمُ اُللَّهُ عَنِ اُلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي اُلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اُللَّهَ يُحِبُّ اُلْمُقْسِطِينَ } [الممتحنة: 8].

انطلاقاً من هذه الآيات الكريمة استنتج الإمام ابن القيّم رحمه اللّه، أن العدل من أهم مقاصد الشريعة فقال: "إن اللّه سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثمّ شرع اللّه ودينه.

واللّه سبحانه أعلم، وأحكم وأعدل أن يخصّ طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها. بل قد بيّن سبحانه بما شرعه من الطرق أنّ مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق يُستخرَج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له".


المبحث الأول: العدل في العقود يقوم على التوازن والتراضي

ولقد اقتضت طبيعة الحياة الاجتماعية بين الناس منذ وجدوا أن تقوم بينهم عقود واتفاقات كثيرة لقضاء الحاجات وتبادل المنافع. وجاءت الشريعة الإسلامية فأقرّت من العقود التي يتعامل بها الناس بعد أن طهّرتها من كل ألوان الظلم، وأمرت بالوفاء بهذه العقود. قال تعالى: { يَا أَيُّهَا اُلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِاُلْعُقُودِ...} [المائدة:1].

وإذا كان العدل بين الناس هو هدف الشريعة الأول، فإنّ العدل في العقود يتجلّى في أمرين اثنين حرصت عليهما الأحكام الشرعية وهما:

1 - التوازن بين التزامات الطرفين

قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِاُلْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ اُلْكِتَابَ وَاُلْمِيزَانَ لِيَقُومَ اُلنَّاسُ بِاُلْقِسْطِ} [الحديد: 25]

ومعنى هذه الآية: أنه حتى يقوم الناس بالقسط فيجب عليهم أن يلتزموا بأحكام القرآن وأن يقيسوا التزامات الطرفين بالميزان حتى لا يطغى أحدهما على الآخر. ومثل ذلك قوله تعالى: {وَاُلسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ اُلْمِيزَانَ * ألاَ تَطْغُوا فِي اُلْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا اُلْوَزْنَ بِاُلْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا اُلْمِيزَانَ} [الرحمن: 7 ـ 9]. وقوله تعالى: { وَأَوْفُوا اُلْكَيْلَ وَاُلْمِيزَانَ بِاُلْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَ وُسْعَهَا} [الأنعام: 152].

وقد طالب نبيّ اللّه تعالى شُعيب عليه السلام قومه بقوله: { وَلا تَنْقُصُوا اُلْمِكْيَالَ وَاُلْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا اُلْمِكْيَالَ وَاُلْمِيزَانَ بِاُلْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا اُلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي اُلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [هود: 84، 85].

وبمثل هذا أمر اللّه تعالى المسلمين فقال: { وَأَوْفُوا اُلْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِاُلْقِسْطَاسِ اُلْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [الإسراء: 35]. بل هدّد اللّه تعالى المسلمين بالويل إذا تلاعبوا بالميزان حتى يختلّ التوازن بين الطرفين فقال تعالى: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * اُلَّذِينَ إِذَا اُكْتَالُوا عَلَى اُلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ اُلنَّاسُ لِرَبِّ اُلْعَالَمِينَ } [المطففين: 1 - 6].

انطلاقاً من هذه الآيات الكريمة التي فرضت على المسلمين إقامة التوازن بين التزامات الطرفين، فإنّ الشريعة الإسلامية منعت كثيراً من العقود التي يختلّ فيها هذا التوازن، سواء بسبب استغلال أحد الطرفين للآخر، أو بسبب جهل أحد الطرفين أو اضطراره، أو بسبب الرغبة في المخاطرة، ومن ذلك منع بيوع الغرر بأنواعها ،ومنع القمار والربا والاحتكار، وكذلك فرْضُ بعض الأحكام الشرعية في كثير من العقود لمنع الاختلال في التوازن، وتفصيل هذا الكلام موجود في أمّهات كتب الفقه.

2 - التراضي بين طرفي العقد

قال تعالى: { يَا أَيُّهَا اُلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِاُلْبَاطِلِ إِلاَ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اُللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [النساء: 29].

لقد اعتبرت هذه الآية الكريمة عدم التراضي بين الطرفين يماثل جريمة قتل النفس، ولذلك فقد اتفق الفقهاء جميعاً، كما أقرّت القوانين الوضعية، أن العقود لا تقوم إلاَ على الرضا الكامل من الطرفين.

ولقد تحدّث الفقهاء عن عيوب الرضا، وهي حالات تشوب إرادة أحد الطرفين فلا يكون رضاه صحيحاً كاملًا ملزماً.

وقد قسّم الأستاذ مصطفى الزرقا في كتابه: "المدخل الفقهي العام" ص356 من الجزء الأول هذه العيوب إلى قسمين:

أ - عيوب تنشأ عن سبب رافق ولادة الإرادة، وأثّر في تكوينها منذ البداية تأثيراً فاسداً كما في حالة الإكراه على التعاقد.

ب - وعيوب تنشأ عن سبب طارئ لم يكن ملحوظاً عند التعاقد يؤدّي إلى اختلال في تنفيذ العقد، فتصبح الإرادة هنا معيبة بعد أن كانت صحيحة، لأن التراضي بين الطرفين قام على أساس مختلف، وجاء السبب الطارئ ليؤثّر على التراضي الأول أو يلغيه. ومثال ذلك حالة تلف قسم من المبيع قبل التسليم، وهي المسمّاة عند الفقهاء بتفرّق الصفقة، وذلك لأن المشتري قد لا يرضى بشراء الباقي ولو بحصّته من الثمن.

ومثال ذلك أيضاً ظهور عيب في المبيع غير مدلَّس، وهو العيب الذي لم يكن البائع نفسه يعلم به، فهو يُعتبر من قبيل الغلط، كما يمكن اعتباره من قبيل اختلال التنفيذ، وبه يختلّ رضا المشتري، إذ المفروض أنه اشترى على أساس السلامة من العيوب، ولذلك يُمنح حقُ الإبطال المسمّى خيار العيب.


المبحث الثاني: العدل في عقود الزواج

أولاً: التوازن في عقود الزواج تحدّده الأحكام الشرعية

إن الزواج عقد خاص يهدف إلى إقامة حياة مشتركة ضمن أسرة واحدة، وإلى استمتاع كل من الزوجين بالآخر. لذلك فإن الأحكام الشرعية هي التي حدّدت حقوق وواجبات كل من الطرفين بما يكفل التوازن بينهما، ويؤدّي إلى تحقيق التكامل وبناء العائلة، ولقد حدّدت الأحكام الشرعية تفاصيل هذه الحقوق والواجبات، ويمكن الرجوع إليها في مظانّها من الكتب الفقهية، إذ لا يتّسع المجال هنا لذكرها. ونكتفي هنا بالإشارة إلى المبدأ العام الذي أكّد هذا التوازن بين الزوجين وهو قوله تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ اُلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِاُلْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } [البقرة: 228].

وفي آية أخرى بيّن اللّه تعالى أن هذه الدرجة هي درجة القوامة فقال: { اُلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى اُلنِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اُللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ...} [النساء: 34].

وإذا كان اختلال التوازن هنا بإعطاء الرجل حق القوامة على زوجته مبنياً على ضرورة وجود رئيس في هذه الأسرة، وعلى أن اللّه تعالى أعطى الرجال بالإجمال ما يؤهّلهم للقيام بهذه المهمّة، إلاَ أنه فرض في مقابل ذلك على الرجل أن يدفع لامرأته مهراً في مقابل حقّه في القوامة عليها. يقول المفسّرون في قوله تعالى: { وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ..} أن هذا الإنفاق يتناول المهر والنفقة. وبما أن النفقة الزوجية تُفرض على الزوج في مقابل احتباس زوجته، فلم يبقَ إلّا المهر فريضة فرضها اللّه تعالى على الزوج في مقابل حقّه بالقوامة.


ثانياً: الرضا في عقود الزواج يتبع إرادة الطرفين

وإذا كان التوازن في حقوق الزوجين وواجباتهما تحدّده الأحكام الشرعية، فإن التراضي على إجراء عقد الزواج متروك للطرفين. ومن المعروف في الأحكام الشرعية أن عقد الزواج لا يكون صحيحاً إلّا بالرضا الكامل من الطرفين، وأن الذي يعبّر عن هذا الرضا هو الإيجاب والقبول. إن الشريعة الإسلامية لم تكتفِ برضا البنت وحدها، وإنّما فرضت أيضاً رضا وليّها وموافقته.

ويتوقّف رضا الزوجة ووليّها عادة على مسائل كثيرة من أهمّها الكفاءة والمهر.

والكلام عن الكفاءة له مجال آخر.

أمّا الكلام عن المهر فإننا نوجزه في النقاط التالية، ونحصر الحديث فيما له علاقة بموضوعنا وهو:


المبحث الثالث :المهر في عقود الزواج

حكم المهر

المهر حقّ مالي أوجبه الشارع للمرأة على الرجل في عقد زواج صحيح أو دخول بشبهة أو بعد عقد فاسد. ويُفهم من هذا التعريف أنّ الحكم الشرعي في المهر الوجوب ودليله قوله تعالى: { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } [النساء: 24].

- ويجوز تعجيل المهر أو تأجيله، وعلى هذا نصّ قانون حقوق العائلة العثماني في المادة (81): "يجوز تعجيل وتأجيل المهر المسمّى تماماً أو قسماً منه". وإذا كان الأجل مجهولًا فقد وقع العرف بين الناس على تحديده بأقرب الأجلين من الطلاق أو الوفاة. وقد تعارف الناس على تأجيل المهر كلّه أو جزء منه إلى أقرب الأجلين، حيث تفتقد المرأة الزوج الذي ينفق عليها فتكون محتاجة إلى هذا المهر لتستعين به على شؤون حياتها.


طبيعة المهر

واختلف الفقهاء بعد اتفاقهم على وجوب المهر في تحديد طبيعته. فمنهم من قال إن وجوبه كان عوضاً عن ملك المتعة وهذا رأي المالكية وقول للشافعية. وذهب آخرون إلى وجوب المهر من دون عوض، بل هو هدية لازمة وعطية مقرّرة من الشارع لقوله تعالى: { وَآتُوا اُلنِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } [النساء: 4]. والنِحلة تطلق على ما يُعطيه الإنسان هبة عن طيب نفس بدون مقابلة عوض.

ولو تعمّقنا في دراسة هذا الخلاف لوجدنا أن القرآن الكريم سمّى المهر باسمين مختلفين وهما: الأجر والنِحلة، قال تعالى: { فَمَا اُسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]. وقال تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِاُلْمَعْرُوفِ} [النساء: 25]. وقال تعالى: { فَاُنْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [النساء: 25].

هذه الآيات تدلّ على أن المهر يقدّم للمرأة أجراً، والأجر لا يكون إلاَ مقابل عوض. وفي المقابل يعتبر بعض الفقهاء أن المهر عطية واجبة تُقدّم إلى الزوجة كهدية لقوله تعالى: { وَآتُوا اُلنِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } وقد فسّر كثير من العلماء النِحلة هنا بأنها الهبة تعطى بدون عوض.

وطالما أن القرآن الكريم سمّى المهر أجراً وسمّاه نِحلة، فإن الجمع بين هاتين الصفتين أولى من ترجيح إحداهما على الأخرى كما هي القاعدة في علم أصول الفقه، لأننا بالجمع نلتزم بمقتضى الدليلين دون اضطرار إلى تعطيل أحدهما أو تأويله.

وبناءً على ذلك نقول: إن المهر نحلة، أي أنه يُعطى للزوجة بدون عوض مادي. وهو أيضاً أجر أي أنه يُعطى مقابل عوض. والعوض هنا لا يصح أن يكون الاستمتاع الجنسي لأنه مشترك بين الزوجين، فوجب أن يكون هذا العوض غير مادي، وهذا ما رجّحناه عندما اعتبرنا أن قبول المرأة - الزوجة - بوضع نفسها تحت قوامة زوجها هو الواجب الشرعي الذي فرضه اللّه عليها، وأن هذا الواجب يقابله عند الرجل واجب دفع المهر إكراماً لزوجته وإظهاراً لأهميّة عقد الزواج وخطورته كما يقول الفقهاء.

فالرجل إذاً يُقدم المهر، والمرأة تُقدِّم عِوَضاً عنه قبولها بقوامة الزوج.

وبعد أن وصلتُ إلى هذه النتيجة قرأتُ ما يؤيّدها تماماً في كتاب "المبسوط" للسرخسي وهو قوله: "وحجّتنا في ذلك أن المهر إنّما يستحقّ عوضاً عمّا ليس بمال" . كما قرأت للأستاذ السيّد سابق في كتابه "فقه السنّة" تعليلًا لوجوب المهر قوله: "فهو يطيّب نفس المرأة ويرضيها بقوامة الرجل عليها" .


أنواع المهر

والمهر في الأحكام الشرعية نوعان:

الأول: هو المهر المسمّى وهو الذي اتفق عليه الزوجان.

والثاني: هو مهر المثل، وهو الذي يُفرض على الزوج إذا لم يكن هناك اتفاق على تسمية المهر، وطالما أنّ عقد الزواج يصح بين الطرفين ولو لم يسمّيا مهراً، فإن الأحكام الشرعية تتدخّل لتفرض على الرجل دفع مهر المثل، وهذا ما يؤكّد أهميّة المهر ووجوبه.

أما إذا تراضى الطرفان على مهر محدّد فهو المهر المسمّى الذي يجب على الرجل الالتزام به، لأن إرادة الطرفين ورضاهما وقع على ذلك. وقد نصّ قانون حقوق العائلة العثماني في المادة 80 على ما يلي: "المهر مهران إمّا المهر المسمّى، وهو الذي سمّاه الطرفان قليلًا كان أو كثيراً، أو مهر المثل وهو مهر امرأة تقابلها وتماثلها من قوم أبيها، وإن لم يوجد ضمن أهالي بلدها".

والمهر المسمّى يمكن أن يكون من الأموال المثلية أو القيميّة:

والأموال المثلية هي التي لا تتعيّن بالتعيين بل تثبت في الذمّة كالنقود. فإذا سمّي المهر مبلغاً من النقود كألف دولار مثلًا فإنها لا تتعيّن بل يمكن للزوج أن يدفع أي ألف من الدولارات، وهذا المبلغ يبقى ثابتاً في ذمّته حتّى يؤدّيه. وأما الأموال القيمية فتشمل كل مالٍ له قيمة تختلف عن قيمة مثيله، فلو كان المهر داراً فإن الدور تختلف بين صغير وكبير وبين قديم وحديث، ولأسباب أخرى كثيرة، لذلك إذا تمّ الاتفاق على أن يكون المهر المسمّى عيناً من الأعيان القيمية فيجب أن تُحدّد وأن تُعيّن بالذات، فلا يصح أن يكون المهر المسمّى داراً من غير تحديد، بل يجب أن يكون الدار الفلانية، وأن تحدّد هذه الدار بموقعها وسائر صفاتها التي تميّزها عن غيرها أو برقمها في الصحيفة العقارية.

إذا كان المهر قيميّاً أي عيناً وحدث به عيبٌ فاحش وهو في يد الزوج وقبل أن يُسلّمه إلى زوجته:

فقد ذكر العلّامة السرخسي في "المبسوط" الجزء الخامس، أن ذلك له خمسة أوجه:

أ - أن يكون العيب بآفة سماوية فيثبت لها الخيار، إن شاءت رجعت بقيمة الصداق على الزوج يوم تزوّجها، وإن شاءت أخذت الصداق.

ب - أن يكون العيب بفعل الزوج، فيكون لها أيضاً الخيار للتغيُّر.

ج - أن يكون العيب بفعل الصَّداق نفسه، ففي ظاهر الرواية يُعتبر هذا العيب كالعيب بآفة سماوية، أي يثبت لها به الخيار.

د - أن يحصل التعيّب بفعل الأجنبي، فيجب عليه ضمان النقصان ويثبت لها الخيار بسبب التغيير الذي حصل للصَّداق.

ه - أن يكون التعيّب بفعل المرأة، فتصير به قابضة للصداق ولا خيار لها في ذلك.

أما إذا كان المهر مثلياً ومؤجّلًا وحدث به عيب فاحش قبل تسليمه إلى الزوجة:

فلم أجد من الفقهاء القدماء من تكلّم فيه، إلاَ بعض متأخّري الأحناف عند كلامهم على الفلوس. وموضوعنا المتعلّق بالمهور المؤجّلة المحدّدة بالليرة اللبنانية، وكيفية تسديدها بعد انهيار قيمة الليرة، يدخل تحت هذا العنوان.


للمزيد عن الشيخ فيصل مولوي

وصلات داخلية

حوارات مع الشيخ فيصل مولوي

مقالات بقلم الشيخ فيصل مولوي

مقالات كتبت عنه

أخبار متعلقة

وصلات فيديو