أبطال.. وأقزام

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
أبطال.. وأقزام
يوسف.jpg

بقلم: د. توفيق الواعي

أتى على الأمة الإسلامية أزمنة عز ومنعة، ومجد وسؤدد، ونبتت في جوانبها الطيبة وفي أرضها المعطاءة ألوف من الأبطال الذين أحياهم الإيمان وأخرجتهم فيوضات الشريعة الغراء من أرض الجاهلية والضياع، وصدق الله ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ (الروم:19)، ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ (البقرة:28)، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال:24) فأخرجوا الدنيا من الظلمات إلى النور، ومن العماية إلى الهداية، وانطلق أشبالهم وشبانهم يفتحون الممالك وينقذون الشعوب من جور الطواغيت إلى عدالة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها.

والأمثلة في هؤلاء كثيرة يحفظها التاريخ وتعيها ذاكرة الزمان، من هؤلاء "قتيبة بن مسلم الباهلي"؛ الذي قال فيه الإمام الذهبي في السير 4-501،410: "كان لقتيبة بن مسلم بالمشرق فتوحات لم يسمع بمثلها، حيث كان أحد الأبطال الشجعان، ومن ذوي الحزم والدهاء، والرأى والعزم"، وهو الذي فتح الممالك وأرهب الأعداء وحطم الطواغيت، ففتح خوارزم، وبخارى وسمرقند، وفرغانة، وبلاد الترك، وغيرها، فلما قدم "قتيبة" خرسان واليًا من قبل "عبدالملك بن مروان"،

سار في الناس مسيرة أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فجمع الناس واستشارهم في أمورهم، وحضهم على الجهاد، وقال: "أما بعد.. إن الله قد أحلَّكم هذا المحل ليعز دينه، ويذبَّ بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضة، والعدو ذلاً وانكسارًا، ووعد نبيه - صلى الله عليه وسلم- النصر بحديث صادق وكتاب ناطق، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة:33)، ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب، وأعظم الذخر عنده، فقال: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلاَ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (التوبة:120، 121) ثم أخبر عمن قُتل في سبيله أنه حي مرزوق فقال: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران: 169)،

فتنجزوا موعد ربكم، ووطِّنوا أنفسكم على أقصى أثر، وأمضى ألم، وإياي والهوينى"، ثم عرض جنده في السلاح والكراع، فكان جميع ما أحصوا من الدروع في جند خراسان ثلاثمائة وخمسين درعًا فقط، فلم يمنعه ذلك من تنظيم جنده، والخروج بهم إلى الجهاد وقتال أعدائه حتى غنم الكثير الذي استطاع به في سنة واحدة وهي عام 86 هجرية (705 ميلادية) أن يقوم بتنفيذ العديد من الجولات التي أخضع فيها كثيرًا من الولايات، مثل: بلخ، وطلقان، وصغانيان، وكفتان، وآخرون، وأمل، وباسرا، وأتاه ملوكها، وأمراؤها خاضعين راهبين، ثم علم بوجود أسرى للمسلمين في قبضة ملك طرخان، فكتب إليه بإطلاق الأسرى والإقبال عليه، فأطلق الأسرى وأقبل عليه خاضعًا.

ثم اجتاز "قتيبة" بجنده نهر جيحون، وسار إلى "بيكند" أدنى مدن بخارى، ويقال لها مدينة التجار، وكانت حصينة منيعة بموقعها وجندها ففتحها، وأصاب المسلمون فيها من آنية الذهب والفضة ما لا يحصى، ووقع في أيدي المسلمين من المال شيء لم يصيبوا مثله بخراسان، وقوي المسلمون بذلك واشتروا السلاح والخيل وجلبت إليهم الدواب، كما غنموا خزائن من السلاح وآلة الحرب الكثير فقسمه في الناس فاستعدوا بذلك وساروا في عدة حسنة.

ثم تحرك إلى "نومشكت"، فعقدوا معه صلحًا، ثم تقدم إلى "راميثنة" فصالحوه، ثم زحف إلى الترك، فهزمهم وكانوا في مائة ألف، ثم تقدم لفتح "بخارى" سنة 90 ه، 709م، وقد جمعت له الجموع الكثيفة، فلم تقف رغم ذلك أمام القائد الظافر، ثم غزا قتيبة "شومان"، و"جس" و"نسف" سنة إحدى وتسعين للهجرة ففتحها، ثم صالح قتيبة ملك خوارزم شاه، وفتح "خام جرد"، ثم تقدم "نحو سمرقند" وفتحها عنوة، ثم صالح أهلها، وجمع أصنامها وما تحويه بيوت النار وأشعل النار فيها وكبر تكبيرًا ارتج له المكان، فاضطرمت فوجدوا من بقاياها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال، وتلا قتيبة ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى* وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى﴾ (النجم: 50، 51)

ثم غزا "الشاش" و"فرغانة"، وظل يغزو إلى أن وصل إلى الصين، وفتح "كاشغر" سنة 96هـ، وطلب ملك الصين من "قتيبة" أن يرسل إليه وفدًا من رجاله يفاوضه، فأرسل له وفدًا، عليهم السلاح متقلدي السيوف ولابسي المغافر، وأخذوا الرماح وتنكبوا القسي، وركبوا الخيول، فلما نظر إليهم صاحب الصين وحادثهم وحادثوه وعلم الملك ألا قبل لهم بهم قال: وما يرضي صاحبكم؟ قالوا: إنه حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم، ويعطوا الجزية، قال الملك: فإنا نخرجه من يمينه، نبعث له بتراب أرضنا فيطؤه، ونبعث بعض أبنائنا فيختمهم ونبعث له بجزية يرضاها، فقدم الوفد على قتيبة بهذا وصالحه ملك الصين على دفع الجزية.

فهل في الهمم فوق هذه الهمة؟ وهل في العز أفضل من ذلك؟ تعجز كلمات الدنيا أن تصف هذه الهمة، فلله درك يا قتيبة، وأي شأنك لم يكن عجبًا؟ فرحم الله قتيبة وغفر له، وقد مضى إلى ربه وبقيت فتوحاته وأيامه منارات تُضيء أعماق التاريخ، يقول عنه الحافظ ابن كثير: ما كسرت له راية، وكان من المجاهدين في سبيل الله، وكان من سادة الأمراء وخيارهم، ومن القادة النجباء الكبراء الشجعان، وذوي الحروب والفتوحات السعيدة والآراء الحميدة، وقد هدى الله على يديه خلقًا لا يحصيهم إلا الله، فأسلموا ودانوا لله عز وجل، وفتح من البلاد والأقاليم الكبار والمدن العظام شيئًا كثيرًا، والله سبحانه لا يضيع سعيه ولا يخيب تعبه وجهاده، فرحمة الله على البطل الذي أذل الله به ملوك الكفر حتى قالوا فيه: مضى ابن سعيد حيث لم يبق مشرق ولا مغرب إلا له فيه مادح كألَّم يمت حي سواك، ولم تقم على أحد إلا عليك النوائح لئن حسنت فيك المراثي وذكرها لقد حسنت من قبل فيك المدائح هؤلاء هم رجال الإيمان، ورجال النصر والعز والبطولة الذين صنعهم الإسلام ورباهم، رجاله الغر الميامين، فأين منهم عبدة الشهوات والأهواء، وعلوج الضياع والأقزام المهازيل، الذين هدموا الأمم، وأذلُّوا البلاد والعباد، وبدَّلوا نعمة الله كفراً وأحلُّوا قومهم دار البوار؟ نسأل الله السلامة والهداية والتوفيق والسداد آمين.

المصدر

قالب:روابط توفيق الواعى