أثر أبي الأعلى المودودي على الجماعات الدينية المعاصرة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
أثر أبو الأعلى المودودي على الجماعات الدينية المعاصرة

بقلم :د.حسن حنفي

مقدمة:

الإمام المودودى

بالرغم من وجود أسباب اجتماعية وسياسية واقتصادية لظهور الجماعات الدينية المعاصرة خاصة تلك التي تحاول أن تحقق أهدافها بالقوة الا ان الأسباب الفكرية أو الاسس العقائدية لا تقل أهمية عن الأسباب الاولى لأنها هي التي تعطي الاسس النظرية للسلوك، وبالتالي تكون هي المحرك الاول لهذه الجماعات والدافع لها على الحركة والنشاط والتي تمدها بقيمها وأهدافها ووسائل تحقيقها وتنفيذها.

ومفكر الدولة الاسلامية الاول هو الامام أبو الأعلى المودودي الذي أنشأ حركته "الجماعة الاسلامية" بعد الإخوان المسلمين في مصر بثلاثة عشر عام تقريباً.

ويتسم الفكر الديني عند المودودي بطابع خاص تجعله ذا بناء محدد، يظهر في سلوك هذه الجماعات الدينية المعاصرة.

ويمكن وصف هذا البناء على النحو الآتي:

1_ الحاكمية لله:

تعطى الحاكمية لله تصورا مركزيا للعالم.

فالله قمة الكون خلقه ويحكمه ويسيطر عليه فالانبياء هم المعلنون عن هذه الحاكمية، ومعهم القادرون على السير على هداهم.

وتنبع السيطرة على الكون بكل ما فيه حدا لا يستطيع معه أحد الخروج عنه، فلا تكن الا عبد الله ولا تأتمر الا بأمره ولا تسجد لاحد من دونه فانه ليس هناك من صاحب جلالة فالجلالة كلها مختصة بذاته جل وعلا، ولا شارع من دونه، فالقانون قانونه، ولا يليق التشريع الا بشأنه، ولا يستحقه الا هو، ولا ملك ولا رازق ولا ولي الا هو، وليس من دونه من يسمع دعاء الناس ويستجيب لهم، وليست مفاتيح الكبرياء والجبروت الا بيده، ولا علو لاحد ولا سمو في هذه الدنيا فكل من في السماوات والارض عباد أمثالك والرب هو الله وحده.

فارفض كل أنواع العبودية والطاعة والخضوع لاحد من دونه، وكن عبد الله، قانتا مستسلماً لاوامره".

ولما كانت الحاكمية لله فالاستخلاف لا يكون الا في الحاكمية.

وقد قرر جميع الانبياء هذه الحاكمية وهذا الاستخلاف مؤكدين حقائق ثلاث:

الاولى:أن السلطة العليا التي على الانسان أن يخضع لها وبطبعها ويقر بعبوديته لها والتي يتأسس على طاعتها النظام الكامل للأخلاق والمجتمع والحضارة هي سلطة الله وحده وينبغي التسليم بها وقبولها على هذا الاساس.

والثانية: حتمية طاعة النبي وحكمه بوصفه ممثلا ونائبا عن السلطان الاعلى والحاكم المطلق.

والثالثة: أن القانون الحكم الذي يقرر التحليل والتحريم في جميع الميادين هو قانون الله وحده الناسخ لكل القوانين البشرية وليس للعباد حق المساءلة والنقاش في أحكام الله فما حرمه الله يكون حراما وما حلله يكون حلالاً لانه مالك كل شيء ويفعل ما يشاء.

وقد بين القرآن طاعة الانسان لله وللرسول ولاولي الامر.

كما نص على الحاكمية في "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".

ويصفهم القرآن مرة أخرى بالظالمين ومرة ثانية بالفاسقين.

وليس صحيحا أنها آيات خاصة نزلت في أهل الكتاب في مناسبات خاصة بل هي أحكام عامة تتجاوز أسباب النزول وتنطبق على كل أمة بالنسبة لكتابها في كل زمان ومكان.

وتتضمن الحاكمية رفض حاكمية البشر وضرورة الثورة عليها، وكأن عصيانها أمر الهي مثل رفض آل البيت بقيادة علي والحسين وباقي الائمة الرضوخ لسلطة الدولة الاموية التي اغتصبت الحكم وأخذته بالقهر والتهديد تارة وبالرشوة والاغواء تارة أخرى.

فالنظرية السياسية في الاسلام تقوم على مبدأ أساسي وهو "أن تنزع جميع سلطات الامر والتشريع من أيدي البشر منفردين ومجتمعين ولا يؤذن لاحد منهم أن ينفذ أمره في بشر مثله فيطيعوه أو ليسن قانونا لهم فينقادوا له ويتبعوه فان ذلك أمر مختص بالله وحده لا يشاركه فيه أحد غيره".

لذلك تتميز الدولة الاسلامية بثلاث خصائص:

الاولى: أنه ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أي نصيب من الحاكمية فان الحاكم الحقيقي هو الله.

والثانية: أنه ليس لاحد من دون الله شيء من أمر التشريع.

والثالثة: أن الدولة الاسلامية لا يؤسس بنيانها الا على ذلك القانون المشرع الذي جاء به النبي من عند الله مهما تغيرت الظروف والاحوال.

وأن الدولة لا تستحق الطاعة الا من حيث أنها تحكم بما أنزل الله وتنفذ أوامره في خلقه.

وتتمثل حاكمية البشر في ثلاثة نظم: العلمانية، والقومية، والديمقراطية وهي النظم التي سيطرت على الحياة السياسية في الغرب.

فالعلمانية تعني عزل الدين عن الحياة الاجتماعية للافراد وقصره فقط بين العبد وربه.

أما القومية فانها تقوم على مصلحة الامة ورغباتها بصرف النظر عن مصالح الامم الاخرى ومن ثم نشبت الحروب بين القوميات، والويل للمغلوب فلا مكان للضعيف.

أما الديمقراطية هي الدولة الحديثة التي تتمثل فيها حاكمية البشر في الغرب والتي يرغب المسلمون في تقليدها.

وهي نظم كلها ترفض الحاكمية لله وبالتالي تجعل الفرد خاضعا لشهواته ورغباته، وتجعل المجتمع خاضعا لاهوائه ومصالحه.

وفي غياب حاكمية الله لا يوجد مكان الا للشيطان الذي يبشر بالالحاد والعنف.

الدولة الاسلامية اذن ليست دولة ثيوقراطية لأنها ليست دولة رجال الدين، وليست دولة ديمقراطية لان الحكم ليس للشعب، ولكنها دولة "ثيوديموقراطية" الحاكمية فيها لله طبقا لاختيار الشعب، فالله هو المشرع والمسلمون هم المنفذون.

هي دولة لا تقوم على جنس أو عنصر أو مصلحة أو حدود جغرافية بل دولة فكرية أي دولة مبادىء وغايات.

الدولة الاسلامية تقوم على الديقراطية الاسلامية، وفيها يكون كل عضو في المجتمع خليفة، لا فوارق في النسل أو في المهنة، وليس فيها استبداد طائفة بأخرى على الانتخاب بناء على التقوى، ويحكمها قضاء ليس من صنع أهواء البشر.

هذه الدعوة لحاكمية الله ورفض حاكمية البشر هي التي تدفع الجماعات الدينية المتطهرة الى قيام مجتمع مغلق داخل المجتمع الكبير، وتجعل هدفها اقامة الدولة الاسلامية، وشق عصا الطاعة على النظم القائمة، وعدم التعاون مع الدولة اللا دينية الذي يظهر في الطعن في شرعية دساتيرها، ورفض الطاعة لمن يحكم بغير ما أنزل الله، وتحريم الصلاة في مساجدها، وتحريم الخدمة في قواتها المسلحة، وتحريم العمل في وظائفها الحكومية.

2_ التنزيل والنص:

يبدو التنزيل الالهي في اعتبارنا الاوامر الالهية للتنفيذ ومعرفتها من الوحي مباشرة بقراءة النصوص الدينية وفهمها فهما حرفيا بالاعتماد على سلطة النص وحده المتمثل في "قال الله" و "قال الرسول".

لذلك تسود الحجج النقلية وتقل الحجج العقلية.

ولما كانت الحجج النقلية قاطعة لا تحتمل وجهين كانت الاوامر الالهية كلها محكمات وليس بها من المتشابهات شيئاً.

لذلك كان أهم كتاب للمودودي هو "ترجمان القرآن" الذي يشابه "في ظلال القرآن" لسيد قطب.

وهو تفسير شامل للقرآن سورة سورة، وآية آية حتى يتم الكشف عن التنزيل دون تأويل أو جمع للموضوعات المتفرقة وعرضها في نسق محكم.

وخطورة منهج التنزيل أي استنباط الاحكام الالهية مباشرة من القرآن دون اعتماد على العقل أو المشاهدة هو أولا اخراج الكلم عن مواضعه واستعماله في غير ما أنزل فيه، وتأويله على غير معناه، ومن ثم تنتهي الحرفية الى عكسها أي التأويل بلا شاهد حسى أو دليل عقلي.

ثانياً أخذ بعض الكلام وترك البعض الآخر، وانتقاء الآيات التي تشير الى الحاكمية لله وترك الآيات الاخرى التي تشير الى وضعية الشريعة حتى تتفق الحاكمية مع التنزيل.

ثالثا، عدم إعمال العقل والاثبات بالبرهان والاعتماد على سلطة النص وحدها وبالتالي استحالت مخاطبة غير المؤمنين كما استحال الحوار بالعقل حول معاني النصوص.

فالنصوص ليست موضوعا للحوار بل موضوع للتنفيذ.

رابعا، استحالة المعارضة العقلية لسلطة النص وايجاد التفسيرات المغايرة التي تقوم على الدليل العقلي والشاهد الحسي.

خامسا، تحويل الشاهد الى تعصب وقوة واقتناع لا يتزحزح عنه حتى ولو كانت أمامه عشرات البراهين العقلية المضادة حتى تحول الحوار الى جدل انفعالي يقوم على مقدمات نفسية ومسبقة.

ويقوى ذلك في مجتمعاتنا اننا ما زلنا نعيش مرحلة النقل، والاعتماد على سلطة الموروث، واستمرار علمنا من الكتب والنصوص، واستشهادنا في حياتنا العامة بأقوال القادة والحكام وكتابات أولى الامر وخطبهم.

ولكن عند الشباب المؤمن أي الكتب أولى بالاستشهاد: كتاب الله أم كتاب الأمير؟ لذلك يرفض المودودي وضعية الشريعة بمعنى أن لها أسسا وضعية تقوم عليها.

فينفذ قانون تحريم الخمر في أمريكا لانه من وضع البشر بعد أن عرفوا أنها "ضارة بالصحة ومفسدة للقوى الفكرية، وهدامة لبناء المدنية الانسانية" مع أن أهم ما يميز الشريعة الاسلامية هو وضعيتها.

فبالرغم من أن القانون الاسلامي تعبير عن الارادة الالهية الا أنه يقوم أيضا على الدفاع عن مصالح البشر.

فهو قانون وضعي يقوم على أسس موضوعية في الدفاع عن المصالح العامة والتي أطلق عليها الاصوليون القدماء الكليات الخمس: الدين، والحياة، والعرض، والعقل، والمال.

وان كل أبحاثهم في العلل وأنواعها وطرق معرفتها لترمي أساسا الى البحث عن وضعية الشريعة وقيامها على جلب المنفعة ودفع المضرة.

وبالتالي يمكن الدخول في نقاش مع الجماعات الاسلامية عن الأسس الوضعية للتنزيل والاشتراك معهم في تحديد مصالح المسلمين.

وقد يصعب ذلك لسببين: الاول تحجر فكر الجماعات وعدم استطاعتها التفكير في الاسس الوضعية للتنزيل.

والثاني تحرج النظم القائمة من الدخول في نقاش عام حول "مصالح المسلمين" نظرا للأوضاع المخالفة للشرع التي نعيش فيها مثل الفقر والتسلط والخوف.

فلا يمكن النقاش حول الدين وقد تحول الى شعائر وطقوس ومظاهر خارجية وبعد أن قامت الدعوات لفصله عن الدولة.

كذلك لا يمكن النقاش حول الحياة والنظام السياسي يدعو الى الفصل بين الدين والدولة، ويجعل الدين لدور العبادة والدنيا للمؤسسات السياسية.

ولا يمكن الحوار حول المال نظرا لوجود الاقلية المترفة بيدها المال في مقابل الاغلبية الفقيرة المعدمة التي تكد من أجل سد رمقها.

ولا يمكن المناقشة حول العقل نظرا لما تبثه السلطة القائمة من دعوات ايمانية واحتفالات دينية وابتهالات صوفية ورؤية للمعجزات تجعل العاطفة هي وسيلة التخاطب، وتفسح المجال للتعصب الديني.

ولا يمكن الحديث عن العرض نظراً لما تسمح به الدولة من مظاهر للخلاعة والفجور في حياتنا العامة وفي أجهزة الاعلام.

ويمكن التخفيف من حدة التنزيل بعدة طرق:

أولا، استعمال النص المعارض، ومقاومة النص بالنص حتى لا تكون شرعية النص أحادية الطرف.

ثانيا، نقل المجتمع كله من مرحلة المنقول الى مرحلة المعقول من أجل الاعتماد على العقل حتى ينشأ الحوار، وتتم البرهنة على الشيء بالدليل فتخف حدة التعصب والانفعال.

ثالثا، الاعتماد على الواقع المرئي والعيان المباشر وادخال الواقع في بطن النص حتى يتحول الشكل الى مضمون وحتى يمكن رؤية المنفعة والضرر كأساس للتحليل والتحريم.

3_ الثنائية المتصارعة:

تكشف هذه الثنائية عن ثنائية متعارضة متصارعة بين النقيضين: الخير والشر، الحق والباطل، الصواب والخطأ، الهداية والضلال، الايمان والكفر، الاسلام والجاهلية، الاسلام والغرب أو عن عدة صور فنية مثل الملاك والشيطان، الجنة والنار.

ولا سبيل الى ايجاد حل وسط بين هذين الطرفين المتصارعين أو الانتقال من أحدهما الى الآخر عن طريق التوسط والتدرج.

الخير مطلق، والشر مطلق، والحق مطلق، والباطل مطلق، ولا مكان للمواقف النسبية أو الشك أو الظن أو التردد.

وهي ثنائية تحدد العلاقة من جديد بين حاكمية الله وحاكمية البشر، بين الحكومة الدينية والحكومة اللا دينية على مستوى العمل والممارسة.

والعلاقة الطبيعية بين الطرفين هي علاقة التضاد دون واسطة أو مصالحة.

فبقاء أحدهما مرهون بالقضاء على الآخر.

وان بقاء الباطل في غيبة الحق عنه.

ومن ثم ينشأ الصراع بين الجماعات الدينية والسلطة القائمة، كل طرف ينتهز الفرصة للانقضاض على الطرف الآخر، ويتشكك في نواياه.

ولما كانت سلطة الدولة هي الاقوى كان القهر دائما من جانبها، وكان رد الجماعات عفوياً، جزئياً، اعلاميا لاثبات الحق من حيث المبدأ فينال أعضاء الجماعة الشهادة ويكونون علامة على الطريق.

فهناك صراع بين الاسلام والجاهلية.

ففي المعرفة تكون الجاهلية طريق الحس والمشاهدة وطريق الحدس والتخمين.

فالطريق الاول يقود الى الفكر الطبيعي الذي يجعل العالم مصدر المعرفة والذي يؤدي على مستوى السياسة والاجتماع الى الحاكمية البشرية، حاكمية الطبقة أو الاسرة أو الجمهور، وحب الذات والشهوات، والخلاعة والفحشاء، والى الانتقال من الاقطاع الى الرأسمالية في دكتاتورية العمال وأخيراً الى التعليم العملي المهني وليس الى التعليم الديني العقائدي.

وهو الفكر الذي انتج كل المذاهب السياسية الغربية من قومية وتسلطية (استعمار).

والطريق الثاني طريق الحدس والتخمين يؤدي الى الشرك الذي يجعل الحياة مرتعا للاوهام والطقوس والخرافات أو الى الرهبانية التي لا تتجاوز الفردية والانانية والسلبية والتكفير عن الذنب أو الى وحدة الوجود التي يمحي فيها التمييز بين الخالق والمخلوق.

أما طريق الاسلام فهو طريق النبوة ونظرة الانبياء للانسان وللكون التي تجعل الله مسيطرا على كل شيء وحاكما وآمرا وقاضيا.

ولا سبيل الى المصالحة أو الى التوفيق بين الطريقين، طريق الجاهلية وطريق الاسلام.

ولا يذكر المودودي أن الحس والمشاهدة مصدرا من المعرفة عند الاصوليين وأن الحدس يعطي البديهيات وهي أيضا مادة للمعرفة في علم أصول الدين.

كما أن المودودي لا يذكر الآثار العملية التي تنتج عن كل طريق وكيف أن الغرب تقدم بالفكر الطبيعي وأننا قد تأخرنا بالفكر الالهي.

وأحيانا تكون الثنائية المتصارعة بين الاسلام والغرب، الروحانية والمادية، الدينية واللا دينية.

فالمذاهب الاوربية كلها فلسفية أم سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية مذاهب جاهلية: المادية، مذهب المنفعة (فلسفة الذرائع).

والقومية، الديمقراطية، العلمانية، الرأسمالية، الاشتراكية، الفاشية، النازية، الفوضية.

فالغرب بعد أن ترك الدين نظرا لظروف الكنيسة في العصر الوسيط، لم يبق له الا الدنيا.

ولما كان غنى الامم بالافكار ورقيها بالآراء فان الغرب قد بدأت نهايته بعد الفلاسفة على مستوى المذاهب والعقائد والنظريات! العلم، والالحاد، والمذهب العقلي، والمذهب الطبيعي، والمذهب الاجتماعي كلها مذاهب تقوم على الخداع والتضليل، وجاء المسلمون فأصبحوا عبيدا لها! ولقد انهارت حضارة الاسلام في الهند بسبب عبودية المسلمين للغرب.

لذلك يجب أن يتحرز المسلمون في باقي الاقطار الاسلامية من هذا الداء.

وهنا يرد المودودي على الدهريين كما رد الافغاني من قبل.

واذا كانت الحضارة الغربية قد انتحرت فان الاسلام مازال حيا في قلوب الناس وفي تراثهم المجيد.

واذا كانت تركيا قد سارت مع الهند في التقليد والانهيار فان باقي العالم الاسلامي ما زال يرغب في الاسلام دينا ودنيا.

ويمكن التخفيف من حدة هذه الثنائية المتصارعة عن طريق الحوار بين الطرفين، والاعتراف بالجماعات الاسلامية كتيار أصيل في البلاد، واعطائها كافة الحقوق للتعبير عن نفسها.

والاعلان عن دعوتها، وقبول السلطة القائمة المراجعة والنقد.

فالجماعات الاسلامية على حق من حيث المبدأ.

فاذا ما أعطى لها حق التعبير الحر قامت بالموعظة الحسنة وتخلت عن العنف الذي لا يتولد الا تحت الكبت السياسي والحرمان من وسائل التعبير.

ولقد ظلت حياتنا الوطنية خلوا من هذه الوحدة بين الشكل والمضمون، الشكل الديني والمضمون السياسي.

فالحاكمية لله تشرع من حيث المبدأ، وهو ما تفعله الجماعات الاسلامية ولكنها لا تتحقق الا في مضمون سياسي واجتماعي وهو ما تفعله النظم السياسية القائمة على اختلاف مذاهبها.

وتصبح المسألة هي: الحاكمية لصالح من؟ والقرارات السياسية لصالح من؟ فلو أمكن تفسير الحاكمية لصالح جماهير المسلمين ولو أمكن قيام نظم سياسية تعطي الاولوية لصالح الاغلبية على امتيازات الاقلية لما حدث الصدام بين الجماعات الدينية وبين الدولة.

ولا يقتصر الامر على الحوار بين الشكل والمضمون في حياتنا السياسية، بين الدين والتنمية، بل يتجاوز ذلك الى الوحدة الوطنية ذاتها التي يجد فيها كل تيار ذاته متفقا على برنامج للعمل الوطني مع باقي التيارات وان كان مختلفا معها في باقي منطلقاتها النظرية.

4_ منهج الانقلاب:

ويتم حسم الصراع بين الثنائية المتعارضة عن طريق منهج الانقلاب.

وفي اللغة الفارسية يعني لفظ "انقلاب" ثورة، وكأن الثورة لا تكون الا انقلابا وكأن الانقلاب هو طريق الثورة.

وهو المنهج السائد أيضاً في التراث الاسيوي، هذا الذي عبر عنه الافغاني بالتغيير الاجتماعي عن طريق انقلاب السلطة السياسية.

وهو الغالب أيضا على التراث الشيعي على عكس محمد عبده وأهل السنة بوجه عام.

وهو التيار الذي يرمي الى احداث التغير الشامل في الامة عن طريق التربية وعلى مدى عدة أجيال.

يرفض المودودي طريق التدرج والاصلاح والنهج الديمقراطي لاحداث الانقلاب.

فكل محاولات الاصلاح عن طريق التدرج وبالنهج الديمقراطي وهم وخداع، وأماني معسولة لخداع الشعوب سواء من العلمانيين أو المسلمين الخطابيين.

وهذا الانقلاب هو الجهاد، وهو "السعي المتواصل والكفاح المستمر في سبيل اقامة نظام الحق"، وهو الركن السادس من أركان الاسلام دون الاعلان عنه.

وان لم يكن ركنا عند البعض فهو فريضة من أجل حماية الاسلام.

والجهاد ليس هو ما أطلق عليه الاوربيون الحرب المقدسة بل هو فكرة انقلابية.

وحزب الانقلاب هو حزب الله، حزب الحق والعدل ليكون شهيدا على الناس.

ومهمته "أن يقضي على منابع الشر والعدوان ويقطع دابر الجور والفساد في الارض والاستغلال الممقوت وأن يكبح جماح الآلهة الكاذبة الذين تكبروا في أرض الله بغير الحق وجعلوا أنفسهم أربابا من دون الله ويستأصل شأفة ألوهيتهم ويقيم نظاما للحكم والعمران".

ان حزب الانقلاب هو الوحيد المرشح لاخذ السلطة من أجل القضاء على الفساد.

لذلك لا يمكن تقسيم الجهاد الى هجومي ودفاعي لان هذين اللفظين يصدقان فقط على الحروب الوطنية.

وليس الجهاد في الاسلام كذلك لانه هجومي ودفاعي معا "هجومي لان الحزب الاسلامي يضاد ويعارض الممالك القائمة على المبادىء المناقضة للاسلام ويريد قطع دابرها ولا يتحرج في استخدام القوة الحربية لذلك".

ويفصل المودودي هذا البرنامج في نقاط أربع:

الاولى تطهير الافكار وتعهدها بالغرس والتنمية ومن هنا كان اهتمام المودودي بالتعليم والتربية وتطهير الثقافة.

الثانية استخلاص الافراد الصالحين وجمعهم في نظام واحد وتربيتهم من أجل تكوين الزعامة من الصفوة.

والثالثة السعي في الاصلاح الاجتماعي الشامل في الدين والدنيا دون اكتفاء بالوعظ والارشاد.

والرابعة اصلاح الحكم والادارة لان تغيير نظام الحكم هو السبيل لمنع الفساد في الارض.

ويحدث الانقلاب عن طريق تكوين جماعة من الصفوة تقوم بالانقلاب "فانها لا تظهر دولة اسلامية بطريقة خارقة للعادة بل لابد لايجادها وتحقيقها من أن تظهر أولا حركة شاملة مبينة على نظرية الحياة الاسلامية وفكرتها وعلى قواعد وقيم خلقية وعملية توافق روح الاسلام وتوائم طبيعته يقوم بأمرها رجال يظهرون استعدادهم التام للاصطباغ بهذه الصبغة المخصوصة من الانسانية، ويسعون لنشر العقلية الاسلامية، ويبذلون جهودهم في بث روح الاسلام الخلقية في المجتمع".

ثم تتحول هذه الصفوة شيئاً فشيئاً الى حركة شعبية شاملة "تقوم هذه الحركة الشعبية وتنهض وتقوى حتى تغير بجهادها المستمر العنيف أسس الجاهلية الفكرية والخلقية والنفسية والثقافية السائدة في الحياة الاجتماعية وتأتي بنيانها من القواعد".

وكلما كانت الصفوة مختارة كان نجاحها أعظم.

هؤلاء الرجال يكونون الزعامة الحقة التي لا تبغي النفع العاجل ولا تنظر الى مصالح قومها بل هي الزعامة التي تحقق حاكمية الله الاوحد كما فعل رسل الانسانية وكما تثبت سنن الله في الكون.

ويحدد المودودي الدعوة الاسلامية في ثلاث مبادىء:

عبادة الله، تطهير النفس، والانقلاب العام.

ويقول المودودي شارحاً المبدأ الثالث: "ودعوتنا لجميع أهل الارض أن يحدثوا انقلابا عاماً في أصول الحكم الحاضر الذي استبدت به الطواغيت والفجرة الذين ملأوا الارض فسادا وأن ينتزعوا هذه الامامة الفكرية والعملية من أيديهم حتى يأخذها رجال يؤمنون بالله وباليوم الآخر ويدينون بدين الحق ولا يريدون علو في الارض لا فسادا".

يجب اذن تكوين زعامة طاهرة في مواجهة الاغلبية الدنسة من أجل تحويلها الى جماعة طاهرة لان غاية الدين الحقيقية هي اقامة نظام الامامة الصالحة الراشدة وتوطيد دعائمه في الارض "وكل ذلك يتوقف تحققه على القوة الجماعية.

الذي يضعضع القوة الجماعية ويفت في عضدتها يجنى على الاسلام وأهله جناية لا يمكن جبرها... ثم اذا لم يكن من الممكن تحقيق هذا المقصد الاسلامي الا بالمساعي الجماعية لم يكن بد من أن تكون في الأرض جماعة صالحة تؤمن بمبادىء الحق وتحافظ عليها ولا تكون لها غاية في الحياة الا اقامة نظام الحق وارادة شؤونه".

وتقوم التربية الخلقية للزعامة على القوانين المادية والمعنوية.

فالانسان موجود طبيعي تسري عليه سائر قوانين الطبيعة ولكنه أيضا موجود خلقي لا يذعن للطبيعة بل يسيطر عليها ويتحكم فيها.

فالأخلاق هي مناط رقي الانسان وانحطاطه.

وهي نوعان: الاخلاق الانسانية الاساسية، والاخلاق الاسلامية.

فالاولى مثل "قوة الارادة والمضاء في الامر والعزم والاقدام والصبر والثبات والاناة ورباطة الجأش وتحمل الشدائد والهمة والشجاعة والبسالة والنشاط والشدة والبأس والولوع بالغاية والاستعداد للتضحية بكل شيء في سبيل تحقيقها، والحزم والحيطة وادراك العواقب والقدرة على تقدير المواقف المختلفة"... وهذه كلها صفات القيادة الحازمة والزعامة الصلبة.

أما الأخلاق الاسلامية فلها مهام ثلاث:

الاولى تزويد الاخلاق الانسانية بمركز صحيح وقطب مستقيم اذا اقترنت به حولها الى الخير والرشد وهو ما توفرها الزعامة بوجودها.

والثانية تأصيل الاخلاق الانسانية وتوسيعها وتطبيقها وتقويتها مثل الصبر والمثابرة والجهاد وهو ما توفره الزعامة أيضا بقدوتها.

والثالثة تطهير القلب من أدران الاثرة والانانية والظلم والخلاعة والاستهتار وهو ما توفره الجماعة أيضا بايمانها.

ويحدد المودودي منهاج العمل للجماعة بثلاث مبادىء: الاصطباغ بالدين كلية، وتقوية أواصر الصداقة والقرابة، والصبر على الشدائد والثبات في المصاعب.

ويبرز المودودي دور الطلبة في بناء مستقبل العالم الاسلامي مما يفسر اقبال الطلاب خاصة على الجماعات الدينية.

فالطلبة هم قادة الوعي، القادرون على الفكر والمؤهلون للزعامة.

الطلاب في البلاد الاسلامية في أوضاع متجانسة يرون انهزام الامة أمام الاستعمار وأثر الحضارة الغربية في ثقافاتهم.

وبالتالي فعلى عاتقهم يقع تحويل التراث الحضاري الى الاجيال القادمة.

وهناك طريقان لذلك.

الاولى تخص الطلبة والثانية تخص الحكومات.

فما يخص الطلبة هو تربيتهم على مبادىء الاسلام الثلاث: مبدأ التوحيد ومبدأ الرسالة ومبدأ البعث بعد الموت، وضرورة تركيز الجهود للمحافظة على هذه المبادىء من أجل الاستمساك بالاخلاق الاسلامية والحضارة الاسلامية أمام جرائم الذين ينشرون الثقافات العاهرة في الشباب الاسلامي، ووسط انتشار الخيانات في المجتمع.

أما ما يخص الحكومات فهو ضرورة التربية العسكرية على مبادىء الاسلام حتى يمكن للشباب تحقيق أهداف الاسلام.

والحقيقة أن كل ما يقوله المودودي لحل هذه الثنائية المتعارضة صحيح من حيث المبدأ ولكن الخلاف في التطبيق.

فلا يمكن ادانة الواقع كله وهدمه وتقويضه ثم اعادة البناء من جديد.

بل الممكن هو تطوير والواقع تماما وبالتالي تتحقق الحاكمية لله.

فادانة الواقع كله لا تسمح والواقع تماما وبالتالي تتحقق الحاكمية لله.

فادانة الواقع كله لا تسمح بالتعامل معه بل تسبب النفور من كل محاولات الاصلاح والتغيير.

صحيح أن هذه الثنائية المتعارضة تعبر أيضاً عن البناء الثقافي للمجتمعات المتخلفة التي لا تعرف التوسط بين الأطراف الا أن اكتشاف الواقع هو الذي يمكن أن يجمع الاطراف المتصارعة حوله.

فالواقع ليس حقا أو باطلاً خيراً أو شراً، بل هو الواقع ذاته يتغير ويتحرك ويتبدل.

هو ميدان العمل والجهاد والكفاح المتواصل.

5_ الايمان والطاعة:

الدين هو الايمان والتسليم بمعطياته دون أعمال لعقل أو اقامة لبرهان على صحة هذا الايمان أو حتى مضمون اجتماعي له.

والايمان أكثر عاطفة وانفعالا وأقل عقلا وبرهانا.

لذلك غاب الحوار، وانعدم النقاش، وزادت الحمية الدينية، وانقلبت الى تعصب وهوس.

عندما يتحدث المودودي عن مبادىء الاسلام فانه لا يتحدث عن الايمان بالواقع عن طريق الحس والمشاهدة وبطريق العقل والاستدلال ولكنه يتحدث عن الايمان عن طريق النبوة، نبوة الرسل.

فالعقل البشري يتخبط في طريقه، والمعرفة البشرية ناقصة وخاطئة، والانسان جاهل ونزاع للهوى.

أما الرسل فهم أكمل البشر وأفضل الخلق لذلك هم مصدر العلم والمعرفة.

النبوة اذن هو الطريق الى العلم الصحيح، ليس عن طريق الجهد البشري بل عن طريق الوحي والالهام.

والدليل على صدق النبي هو المعجزة أي الدليل الخارجي المحض.

النبوة ضرورية للانسان لان الانسان لا يكفي ذاته.

ان استطاع معرفة دنياه فانه قاصر على معرفة آخرته.

أما مضمون النبوة فهو ديني خالص، الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعلى رأسه تصور الالوهية وصفاتها.

يغيب عنه المضمون الاجتماعي الذي يربط الايمان بقضايا الواقع حتى لا ينغلق على نفسه فيتصلب ويتحول الى هوس ديني.

والعجيب أن يجعل المودودي نسبة التصوف الى الفقه نسبة الدين الى الشريعة، التصوف شريعة للباطن والشريعة شريعة للظاهر.

والمسلم من يجمع بين الشريعتين وأصبح باطنيا في سره ظاهريا في علنه، يتصوف ويقيم الشعائر.

ويقوي ذلك ما يسود مجتمعاتنا من دعاية للايمان لان الايمان يعني التسليم، والتسليم بالمعطيات مسبقا يخدم النظم السياسية لانه يضمن لها طاعة الجماهير والتسليم المسبق بما تعطيه لها الصفوة الحاكمة.

كما أنه الطابع العام المميز للمجتمعات المتخلفة اذ يقاس التقدم بمقدار ما يتوفر في المجتمع من عقلانية وممارسة للنقد.

ويمكن بطبيعة الحال التخفيف من حدة هذا الايمان الانفعالي عن طريق عمل العقل، وطلب البرهان، وتحليل المعطيات، والتفرقة بين التمني والرغبات من ناحية وبين الفكر الموضوعي من ناحية أخرى.

ويقترن الايمان بالطاعة فان أي تنظيم اجتماعي لابد أن يقوم على الايمان الراسخ لاعضائه وعلى طاعة الامير.

وقد انهارت المجتمعات الاسلامية لفقدانها هاتين الدعامتين.

والطاعة مطلقة تنفيذا للاوامر ودون مناقشة لما تقضيه الحاكمية لله.

ويعرف المودودي الاسلام حسب التعريف الشائع بأنه الانقياد والاستسلام.

فالكون كله منقاد لقاعدة معينة وكذلك حياة الانسان.

أما الكفر فهو العصيان والجهل والظلم والخسران المبين.

ويقرن بين الايمان والطاعة، ويجعل حاجة الانسان الى العلم واليقين من أجل الطاعة وليس لاجل الرفض.

يجعل الايمان الانسان مطيعا منفذا للأوامر والاحكام، ومن لا يؤمن بالله يكون رافضا عاصياً خارجا.

وأن طاعة النبي واجبة فيما نفهم وفيما لا نفهم.

أما العبادة فهو أيضا خضوع العبد للرب.

وأحكام الشريعة تطلب من الانسان حق الله في الطاعة والايمان والانقياد.

ويحدد المودودي الصفات اللازمة للعاملين في الحركة الاسلامية على نوعين:

فردية وجماعية.

فالفردية تشمل الخضوع للاوامر والنواهي.

وطبقا لهذا الخضوع تتحدد درجات الجهاد ثم الهجرة ثم بداية الحرب مع البيئة المحيطة ابتداء من المنزل حتى المجتمع.

أما الجماعية فانها تهدف الى تحريك الجماعة عن طريق أواصر الصداقة والقرابة.

والمجاهد في سبيل الله تتحدد علاقته بالله بالتفهم والتفكر أولا وبالعمل ثانيا.

ويقوي ذلك الطابع التسلطي لمجتمعاتنا المعاصرة التي يسودها أيضا هذا النمط من السلوك طبقا للتصور الهرمي للعالم.

فالحاكمية للسلطان الذي يأمر فيطاع دون جدل أو نقاش حتى ولو أعترضت على أوامره وقوانينه بعض جماعات المعارضة.

وبالتالي تعبر أيديولوجية التسلط ليس فقط عن الحاكمية لله بل أيضاً عن الاوضاع السياسية في مجتمعاتنا المعاصرة، كل منها يقوي الآخر ويغذيه.

تقوي هذه الطاعة نظمنا السياسية المعاصرة التي يدين لها المواطن بالولاء.

فتعتقل المعارضين، وتتهمهم بالمروق والعصيان، وتدين حركات الرفض.

وتصف الثوار بالكفر والعمالة والالحاد.

ويمكن التخفيف من حدة هذه الطاعة العمياء عن طريق اذكاء روح المعارضة في المجتمع، وافساح المجال للتعبير عن مختلف الآراء، وعدم سيادة الرأي الواحد والارادة الواحدة، وسماع آراء الشباب بدلا من تلقينهم للمذاهب السياسية والمعتقدات الدينية أو دفعهم نحو المراجعة والتمحيص، وعدم قبول شيء على أنه حق أن لم يثبت بالدليل أنه كذلك.

6_ المحارم والطقوس:

الحجاب والستار والمحرم علامات مميزة للجماعات الدينية تخصها عن غيرها من الجماعات تأكيدا للهوية الدينية والانفصال عن باقي المجتمع.

فجسم الانسان به أجزاء محرمة لابد من تغطيتها، والعلاقات الانسانية بها جوانب محرمة لا يجب الاقتراب منها.

ويصل الامر الى تصور العالم مملوء بالمحرمات التي تتحول الى مقدسات كما هو الحال في المجتمعات المتخلفة.

والاخطر من ذلك أن يتحول ذلك المجهول الى نشاط سري والى تحول الجماعات الدينية الى جماعات باطنية تخضع لقوانين العالم السري، عالم ما تحت الارض.

لذلك تظهر مسألة الحجاب وكأنها مسألة جوهرية في الاسلام وفي تنظيم الجماعات الدينية.

وتبدو مسائل الجنس والزواج وغض الطرف وعدم لمس يد النساء والهجوم على حفلات التعارف والرحلات والجلوس المشترك للطلبة والطالبات في الجامعات، كل ذلك فتنة وشبهات! فالانسان حيوان مملوء بالرغبات والشهوات والغرائز التي يجب كبح جماحها وذلك عن طريق المحرمات أي اقتصاص جوانب في الانسان لا يمكن الاقتراب منها بل معاملتها بالكبت والحرمان مثل الجنس المحرم.

وينتج عن هذا أخلاق التزمت والالتزام بالشعائر والطقوس والمظاهر الخارجية.

ويتحول الدين الى مجرد أعمال للجوارح كنوع من الاعلان عن النفس والدعاية الدينية المرئية التي يلاحظها كل الناس.

فما أسهل اطالة اللحى بدعوى السنة، ومسك السبحة بدعوى ذكر الله، ولبس الجلباب الابيض بدعوى الزي الاسلامي، واقامة الصلاة في الكليات والمعاهد ودور العلم بدعوى الايمان.

فمبادىء الاسلام هي الاركان الخمس، وقانونه هو قانون العقوبات، وحدوده لمن يقترب من المحرمات، والشريعة وضعت القيود لزجر النفس وكبح جماح شهواتها وعقابها حتى أصبح العالم كله مغلغلاً بالشريعة، وكل شيء محكوم عليه بقانون.

فضاعت البراءة الأصلية وانعدم السلوك الفطري.

وكل ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح فهو حرام حتى ولو كانت ذبائح أهل الكتاب.

ويحدث هذا كرد فعل عما يحدث في المجتمع المتخلف من انحلال خلقي واثارة جنسية ينشأ بعده التزمت المضاد عند الاتقياء.

وهذا بالاضافة الى أن المجتمع المتخلف يتسم بالتشدق بالفضائل والرغبة في الاعلان عن التقوى في مظاهرها الخارجية حتى يفعل الباطن ما يشاء بغير حساب كما هو الحال عند المنافقين.

ويظهر نشاط الجماعة نظرا لغياب أي نشاط سياسي آخر لاي حزب أو جماعة.

فيبدو فريدا نظرا للسلبية التامة لمعظم التنظيمات السياسية.

ويظهر سريا نظرا لغياب أي نشاط اسلامي علني يدعو الى تحقيق الحاكمية لله بعد القضاء على نشاط الإخوان المسلمين منذ 1954 حتى الآن.

ويمكن التخفيف من حدة التزمت الدين عن طريق العودة الى الفطرة والى البراءة الاصلية التي تحدث الاصوليون عنها، ففطرة الانسان بطبيعته تدفعه نحو الخير، والبراءة الاصلية في العالم، الاشياء على الاباحة ما لم يرد فيها تحريم، تجعله خارج نطاق المحرمات.

ويمكن القضاء على كل المحرمات والاسرار "التابو" عن طريق العلم والمعرفة.

فلا حياء في الدين، والانسان قادر على معرفة ذلك المجهول حتى ولو كانت أعضاء بدنه أو بدن الغير.

ومن مظاهر التزمت الديني ما يذكره المودودي باستمرار عن أهل الذمة وحقوقهم في الدولة الاسلامية والبداية بتقسيم مواطني الدولة الواحدة الى مسلمين وذميين مما يثير الضغائن والاحقاد ويبعث على الطائفية والفتن وكأن الدولة الاسلامية أصبحت قاب قوسين أو أدنى أو كأنها قد تحققت بالفعل وأخذ المسلمون حقوقهم والآن جاء الدور على أهل الكتاب وأخذوا حقوقهم والآن نبحث عن واجباتهم.

ومن مظاهر التزمت الديني أيضا الهجوم على حركة تحديد النسل وبيان أسباب نشأتها في الدول الصناعية كضرورة من ضرورات الصناعة وكنتيجة لعلم المرأة.

ولكن آثارها على الغرب كانت وخيمة فيما يتعلق بكثرة الفواحش، والأمراض الخبيثة، وكثرة وقائع الطلاق، وانخفاض نسبة المواليد.

أما الاسلام فانه يترك خلق الله على الطبيعة لأنه يعلم مضار هذه الحركة في الجسد والروح وفي الحياة المدنية والاجتماعية وفي الاخلاق وفي النسل والحياة والحياة القومية.

ويمكن علاج مشاكل الامة عن طريق اعادة تنظيم اقتصادها وتوزيع مواردها وليس عن طريق خنق امكانياتها البشرية.

وهو وان كان على حق من حيث المبدأ الا أن سبب التحريم ليس هو الطبيعة بل ضرورة الثورة السياسية في مجتمعاتنا من أجل أعادة توزيع الدخل القومي على أساس من العدل والمساواة.

والاغرب من ذلك كله هو تأكيد المودودي على الملكية الخاصة في الاسلام ملكية الارض بموجب القرآن والحديث ورفضه جميع أنواع الاشتراك في فلاحة الارض مثل المزارعة.

والاغرب من ذلك كله هو وقوفه أمام الاصلاح الزراعي ونفيه للتأميم والمساواة في توزيع الثروة ودفاعه عن حقوق الملكية وانكاره لاية قيود عليها التي لا أصل لها الا في هوى النفس وكأن الجماعات الدينية المغلقة تؤدي الى الاستحواذ على الاشياء والتسلط على المادة وتجعل المقصود من حدود الله اثبات حق الملكية الفردية في حين أن مثل هذه الجماعات عادة تكون ذات نزعة اشتراكية

المصدر