أمهات المؤمنين في مدرسة النبوة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
أمهات المؤمنين في مدرسة النبوة


بقلم : الأستاذ مصطفى الطحان

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا . يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا . وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا . وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (.

الأحزاب (31 – 34).

الطبعة الأولى صفر 1423هـ

أبريل 2005م

المقدمة

عندما كتبت كتاب شخصية المسلم المعاصر كنت أريد المسلم والمسلمة. ولكن ذلك لم يقنع أخواتنا الداعيات العاملات.. بحجة أن لهن شخصية متميزة في بعض الجوانب، الأمر الذي دعاني إلى الكتابة عن المرأة المسلمة في موكب الدعوة .

وقضية المرأة ودورها في حياة الرجل والأسرة والمجتمع.. وفي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. مختلف عليها بين الإسلاميين.

فريق يرى أن رسالتها العظمى تكمن في حسن تبعلها لزوجها.. وإدارتها لأسرتها وإعداد أبنائها للحياة، وفريق يرى أن للمرأة حقوقا تتجاوز هذا الحد.. وهي تكافئُ حقوق الرجل.. إن لم تكن بالنوع (في بعض الأحيان) ففي عموم الموضوع.

تسمع أحيانا وتقرأ أن الإدارة والسياسة (على سبيل المثال) تقتضيان بعداً في التفكير، ومنطقا سديدا، وحسابا دقيقا للعواقب، وصبرا مضنيا، وضبطا للعواطف، وكبحا للأهواء والنزوات.. إلى صفات كثيره كلها يعوز المرأة. ويستشهدون على صحة نظرتهم بمثل قديم متداول لا قيمة له (بأن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة)[1].

فمن يحسم هذا الخلاف...؟

تحسمه النصوص الصحيحة.. وسيرة أمهات المؤمنين.. اللواتي نزلت النصوص في بيوتهن، وكن التطبيق العملي لهذه التعاليم.. طبقن ذلك تحت سمع وبصر النبي صلى الله عليه وسلم فسددهن وعلمهن.. وأطلقهن معلمات لنساء ذلك الجيل.. ومرشدات لأجيال النساء فيما بعد.

ومن هذا المنطلق كان هذا الكتاب.

تحدثنا في الفصل الأول عن الحكمة في تعدد أزواجه صلى الله عليه وسلم، وذكرنا أنها حكم تعليمية وسياسية وتشريعية واجتماعية.

وتحدثنا في الفصل الثاني عن سيرته ومعاشرتهصلى الله عليه وسلم لأزواجه.

وفي الفصل الثالث، تحدثنا بشيء من التفصيل عن أمهات المؤمنين ودورهن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المجتمع الإسلامي الجديد.

هذا الكتاب.. مع الكتاب الآخر: المرأة في موكب الدعوة.. يكمل أحدهما الآخر.. ويبرزان بشكل واضح دور المرأة في إعادة بناء المجتمع الإسلامي.

والله نسأل أن ينفع به.. وأن يجعله خالصا في سبيله. والحمد لله رب العالمين.


المؤلف
الكويت في 12 صفر 1423هـ
الموافق 5 مايو 2002م

[1] عائشة والسياسة - د. سعيد الأفغاني، ص- 10.

الفصل الأول

أمهات المؤمنين في موكب الدعوة

لماذا الكتابة في هذا الموضوع..؟

يأخذ هذا الموضوع مكانه -عادة- في الجزء الأخير من كتب السيرة.. يتحدث الكتّاب فيه عن سيرة أمهات المؤمنين باختصار.. ويتعرضون في بعض الأحيان للشبهات التي أثارها بعض المستشرقين حولهنّ: تعددهنّ.. وبعض الأحداث التي مرت في حياتهن..

هذه الموضوعات لا تدخل ضمن نطاق كتابنا.. وإذا تناولناها باختصار، فمن قبيل الإلمام بمجمل الموضوع.. فلهذا الموضوع كتب أخرى وكتّاب آخرون.

فماذا نريد بهذا الكتاب..؟

قضية المرأة ودورها في حياة الرجل والأسرة والمجتمع.. وفي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. مختلف عليه بين الإسلاميين. فريق يرى أن رسالتها العظمى تكمن في حسن التبعّل.. وإدارة البيت.. وتربية الأبناء وإعدادهم للحياة.. وفريق يرى أن للمرأة حقوقا تتجاوز هذا الحدّ.. وهي تكافئُ حقوق الرجل.. إن لم تكن بالنوع (في بعض الأحيان).. ففي عموم الموضوع.

من يحسم هذا الخلاف..؟

تحسمه النصوص الصحيحة.. وسيرة أمهات المؤمنين.. اللواتي نزلت النصوص في بيوتهن، وكن التطبيق العملي لهذه التعاليم.. طبقن ذلك تحت سمع وبصر النبي صلى الله عليه وسلم فسددهن وعلمهن.. وأطلقهن معلمات لنساء ذلك الجيل.. ومرشدات لأجيال النساء فيما بعد..

نريد أن نبحث عن الحقيقة في سيرتهن.. وعن العظمة التي اكتسبنها في بيت النبوة.. فأصبحن المثل الرائد.. والقدوة المتفردة.. عبر العصور..

إن البحث المستأني في سيرة أمهات المؤمنين يكشف لنا أن في زواجه صلى الله عليه وسلم من كل واحدة منهن حكمة.. إما تعليمية أو تشريعية أو سياسية أو اجتماعية.. ولقد حاولنا أن نتتبع تلك الخيوط ونكشف عنها..

أولا - الحكمة التعليمية

وهي أهم تلك الحكم وأبقاها.. فالحكمة السياسية أو الاجتماعية في حياة أمهات المؤمنين ربما انتهت بانتهاء أسبابها.. أما الحكمة التعليمية فباقية، فهي الموصولة بمنبع العلم.. الناشرة عرفه في المجتمع الإسلامي.. النافذة إلى كل امرأة وفتاة في ذلك العصر.. الباقية أثرا يُقتدى به في كل العصور..

• تروي السيدة عائشة رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار، سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض، فعلّمها كيف تغتسل، ثم قال لها: خذي فرصة ممسكة (أي قطعة من القطن بها أثر الطيب) فتطهري بها.. قالت: كيف أتطهر بها..؟ قال: تطهري بها، قالت: كيف يا رسول الله أتطهر بها؟ فقال لها: سبحان الله تطهري بها..!! قالت السيدة عائشة: فاجتذبتها من يدها، فقلت: ضعيها في مكان كذا وكذا، وتتبعي بها أثر الدم، وصرحت لها بالمكان الذي تضعها فيه.

• وفي حديث أم سلمة قالت: جاءت أم سليم (زوج أبي طلحة) رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن الله لايستحي من الحق.. هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إذا رأت الماء.

فقالت أم سلمة (أم المؤمنين): لقد فضحت النساء، ويحك أوَ تحتلم المرأة؟ فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: إذاً فبمَ يشبهها ولدها..؟

وكان المؤمنات يسألنه عن كل ما يعرض لهن على اختلاف درجاتهن في الحياء حتى كان بعضهن يشكو إليه هجر بعولتهن لهن اشتغالا بالتعبد أو لغير ذلك. وكان لا بد من تعليمهن وإنصافهن من بعولتهن.

مثل هذه الأسئلة (الخاصة) كانت تحرج النبي صلى الله عليه وسلم، فتتولى أمهات المؤمنين شرحها وتبيانها.

• تقول السيدة عائشة: رحم الله نساء الأنصار، ما منعهن الحياء أن يتفقهن في الدين.. كانت المرأة من هؤلاء تأتي إلى السيدة عائشة رضي الله عنها لتسألها عن بعض أمور الدين، وعن أحكام الحيض والنفاس والجنابة وغيرها من الأحكام التي تستحي المرأة عادة من ذكرها.. كآداب المعاشرة والجماع والزينة وغيرها..

ومن المعروف أنّ السنة المطهّرة ليست قاصرة على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل تشمل قوله، وفعله، وتقريره.. وكل هذا من التشريع الذي يجب على الأمة اتباعه، فمن ينقل لنا أخباره وأفعاله صلى الله عليه وسلم في المنزل، غير هؤلاء النسوة اللواتي أكرمهن الله فكن أمهات للمؤمنين وزوجات لرسوله الكريم[1] ؟

كان الرجال والنساء يرجعون بعده صلى الله عليه وسلم إلى أمهات المؤمنين في كثير من أحكام الدين ولاسيما الزوجية فمن كان له قرابة منهن كان يسألها دون غيرها.

فكان أكثرُ الرواة عن السيدة عائشة رضي الله عنها أختَها أمَّ كلثوم وأخاها من الرضاعة عـوف بـن الحارث، وابن أخيها القاسم وعبد الله ابني محمد بن أبي بكر، وحفصة وأسماء بنتي أخيها عبد الرحمن، وعبد الله وعروة ابني عبد الله بن الزبير من أختها أسماء. وروى عنها غيرهم من أقاربها ومن الصحابة والتابعين وهم كثيرون جدّا.

كذلك كان أكثر الرواة عن السيدة حفصة رضي الله عنها أخاها عبد الله بن عمر وابنه حمزة وزوجه صفية بنت عبيد وأم بشر الأنصارية رضي الله عنهم أجمعين.

وأكثر الرواة عن السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أبناء أخواتها ولاسيما أعلمهم وأشهرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين.

وأشهر الرواة عن السيدة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها ابنتها حبيبة وأخوها معاوية وعنبسة وابنا أخيها وأختها رضي الله عنهم أجمعين.

أما السيدة صفية بنت حيي رضي الله عنها فقد روى عنها ابن أخيها رضي الله .

وهكذا نرى كل واحدة من أمهات المؤمنين قد روى عنها عِلمَ الدين كثيرٌ من أولي قرباها ومن النساء والرجال الآخرين.

وجملة القول: إن أمهات المؤمنين التسع اللائي توفى عنهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كنّ كلهن معلمات ومفتيات لنساء أمته ولرجالها مما لم يعلمه عنه غيرهن من أحكام شرعية وآداب زوجية، وحكم نبوية[2] .

ثانيا- الحكمة التشريعية

وأوضح مثال لهذه الحكمة التشريعية زواجه صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش رضي الله عنها.

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) أنه قال:

إن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنّا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن )ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله( [3] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت زيد بن حارثة بن شرحبيل.

وقد زوجه عليه السلام بابنة عمته (زينب بنت جحش الأسدية).. ولم يكن زواجا موفقا فقد كانت تعامله بشدة.. ولم تنسَ لحظة أنها ذات الحسب والنسب.. وأنه عبدٌ مملوك قبل أن يتبناه النبي. وطلّق زيد زينب.. فأمر الله رسوله أن يتزوجها ليبطل بدعة التبني ويعيد الأمور إلى نصابها..

وخشي رسول اللهصلى الله عليه وسلم ألسنة المنافقين أن تقول: تزوج محمد امرأة ابنه.. وفي ذلك ما فيه من حرج شديد. تباطأ النبي في تنفيذ ذلك حتى نزلت الآية:

)وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه، فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكونَ على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطرا، وكان أمر الله مفعولا( [4].

كان لابد من إبطال هذه العادة السيئة.. وإرجاع الأمور إلى نصابها.. فكانت حكمة الله أن يتزوج رسول الله من زينب بنت جحش..

روى البخاري بسنده أن زينب رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهليكنّ، وزوجني الله من فوق سبع سماوات..

ثالثا- الحكمة الاجتماعية

وهذه الحكمة تتجلى في أمرين..

الأمر الأول: أنه صلى الله عليه وسلم وثّق صلاته بالمصاهرة مع أقرب أصحابه إليه، فقد تزوج عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنه الذي قال فيه رسول الله: ما لأحد عندنا يدٌ إلا وقد كافيناه بها، ماخلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافيه الله تعالى بها يوم القيامة..

وتزوج من حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. فكان ذلك قرة عين لأبيها عمر على صدقه وإخلاصه، وتفانيه في سبيل هذا الدين، وعمر هو بطل الإسلام، الذي أعزّ الله به الإسلام والمسلمين، ورفع به منار الدين.. فكان اتصاله عليه السلام به عن طريق المصاهرة خير مكافأة له على ما قدم في سبيل الإسلام [5].

وكذلك زوج بناته من عثمان وعلي رضي الله عنهما..

وهكذا وثّق رسول الله صلاته الاجتماعية عن طريق المصاهرة بأكرم طبقة من الصحابة وأعظمهم دورا في خدمة الدعوة..

الأمر الثاني: هو الدور الذي لعبته أمهات المؤمنين في توعية النساء ورفع مستواهن.. وحثّهن على المطالبة بحقوقهن.. فكنّ بحق زعيمات الإصلاح الاجتماعي في المجتمع المسلم.

كان الناس يترسمون في معاملة أزواجهم ما يفعله النبي، وكان صلى الله عليه وسلم معهن ليّن الجانب حلو العشرة سهل

المقادة، كن يراجعنه في كثير من أموره، ويرددن عليه حتى صرن قدوة يقتدي بها بقية النساء، فإذا أنكر زوج حق زوجته في مراجعته احتجت عليه بعمل الرسول فأسكتته، وما أطرف حديث عمر بن الخطاب يقص فيه ما جرى له معهن، ويصف هزيمته وكيف انكسر لهن، على رغم شدّته، قال:

والله إن كنّا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم، فبينا أنا في أمر آتمره إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا. فقلت لها: ومالكِ أنت ولما هنا؟ وما تكلفك في أمر أريده؟

فقالت لي: عجبا لك يا ابن الخطاب، ما تريد أن تُراجعَ أنت وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظلّ يومه غضبان. فآخذ ردائي ثم أخرج مكاني حتى أدخل على حفصة، فقلت لها: يا بنية إنك لتراجعين رسول الله حتى يظلّ يومه غضبان؟

فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه. فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. ثم خرجت حتى أدخلَ على أم المؤمنين أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها فقالت لي:

عجبا لك يا ابن الخطاب: قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه؟ فأخذتني أخذا كسرتني به عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها [6]..

لقد ارتفعت مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي.. وكانت أمهات المؤمنين رائدات التغيير في ذلك المجتمع قريب العهد من الجاهلية.

كانت السيدة عائشة رضي الله عنها زعيمة الآخذين بناصر المرأة، والمنافحين عنها بلا منازع، وإليها وحدها تتطلع أبصار المستضعفات، لما تمّ لها من المكانة الكبيرة في العلم والأدب والدين، حتى تقطعت دون مقامها الأعناق، وكانت أستاذة لمشيخة الصحابة الأجلاء في كثير من أمور العلم والدين.

ولبث الخلفاء الراشدون يرعون منزلتها ويشاورونها ويسألونها المسائل ويرجعون إلى رأيها، وهي واقفة بالمرصاد لكبارهم: تصحح لهم كلما رأت خطأ في حديث يحدثون به أو حكم يصدرونه. وقد ألّف الزركشي كتابا قائما برأسه على الأمور التي استدركتها عائشة على أعلام الصحابة.

بلغها أن عبد الله بن عمرو بن العاص يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فقالت:

يا عجبا لابن عمرو: يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟!.. لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد وما أزيد أن أُفرغ على رأسي ثلاث إفراغات[7].

أما إذا تعلق الأمر بكرامة المرأة ولو من بعيد، فيا لهول ما يلقى المخطئ من عنفها، وإذاً لا يقوم لغضب السيدة شيء: دخل عليها رجلان فقالا: إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله كان يقول: (إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار)، فطارت شقة منها في السماء وشقة منها في الأرض وقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول، إنما قال: (كان أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في المرأة والدابة والدار). وبلغها عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب). فقالت عائشة معنفة مصححة: (شبهتمونا بالحميـر والكـلاب. والله لقد رأيت رسول الله يصلي وأنا على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأوذي رسول الله فأنسل من عند رجليه). فيخضع الأصحاب لفتواها، ويزيدونها على الزمن إجلالا.

وإلى السيدة عائشة رضي الله عنها يرجع الفضل الأكبر -بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في إعظام الناس المرأة الإعظام اللائق، حتى ظهر في كثير من اللائي طمحن إلى اقتفاء أثرها في الشجاعة الأدبية والجرأة[8].

ولقد أثمرت هذه السياسة في رفع شأن المرأة حتى آتت أكلها، ورأى النساء أنفسهن والرجال سواسية، حتى اعتددن بأنفسهن الاعتداد كله، وحتى قالت عائشة: (إنما النساء شقائق الرجال).

ولم يأل الرسول في بث حكمه الغالية في قلوب الأصحاب وصية بالنساء، كلما آنس داعيا إلى القول. واستفاضت الأحاديث استفاضة شافية توصي بالمرأة أما، وتوصي بها زوجا، وتوصي بها بنتا، وتوصي بها جنسا[9].

رابعا- الحكمة السياسية

لقد وقفت قريش في وجه الدين الجديد منذ اليوم الأول الذي أعلن فيه رسول الله دعوته.. وكذلك فعلت قبائل العرب.. فقد أخذت موقف قريش لما للأخيرة من زعامة أدبية ودينية بين قبائل العرب.. وكان إصهار النبي إلى بعض البيوتات القرشية.. أو القبائل العربية الأخرى.. من الوسائل التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم لكسر حدة الخصومة بينه وبين هذه القبائل.. فمن المعلوم أن الإنسان إذا تزوج من قبيلة أو عشيرة، أصبح بينه وبينهم قرابة ومصاهرة، وذلك بطبيعته يدعوهم إلى نصرته وحمايته.

• فقد تزوج رسول الله من جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق.. وكانت قد أسرت في الحرب التي دارت بين قومها والمسلمين.. فعرض عليها النبي أن يؤدي عنها كتابتها ويتزوجها.. ولقد كان زواجا ميمونا على عشيرتها.. فعندما خرج الخبر إلى الناس قالوا: أصهار رسول الله يسترقون؟ فأعتقوا ما كان في أيديهم من سبي بني المصطلق.. وعندما علم أبوها بذلك أسلم وأسلم معه قومه..

• وكذلك كان زواجه صلى الله عليه وسلم من صفية بنت حيي بن أخطب.. سيدة بني قريظة.. فأعتقها وتزوجها..

• وكذلك زواجه صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم قريش وقائد جيش المشركين.. فلما بلغ الخبر أبا سفيان.. أقرّ ذلك الزواج وقال: هو الفحل الذي لايقدع أنفه.. وكان هذا الزواج سببا لتخفيف الأذى عنه وعن أصحابه المسلمين، وسببا في تأليف قلبه وقلب قومه وعشيرته..

أباطيل وأسمار

يزعم المستشرقون أن محمدا كان رجلا شهوانيا، لم يكتف بزوجة واحدة أو حتى بأربع زوجات كما حدد لأصحابه.. بل تزوج عشرة نساء أو يزيد..

وابتداء نقول إن نبي الإسلام لم يكن راهبا.. ولم يكن كذلك عازفا عن المرأة.. فقد كان يحب نساءه.. حتى أن حبه لزوجه الأولى خديجة بنت خويلد فاق كل تصور.. وعندما توفيت اسودت الدنيا في عينه وسمى عام وفاتها بعام الحزن.. وظل طوال عمره يذكرها ويكرم أصدقاءها ومعارفها.. وكذلك كان يحب نساءه الأخريات وخاصة عائشة.. وهذا الحب النظيف هو علامة الرجولة والاستقامة.. فلم يُعرف أقوامٌ منعتهم تشريعاتهم من حب المرأة أو تعدد الزوجات الشرعيات إلا بالسقوط في حمأة الرذيلة والانحطاط.. وكتاب العالم المفتوح أمامنا أعظم شاهد على مانقول..

نقول ذلك.. ونقول أيضا: إن زيجات النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن شهوانية كما يزعمون..

• فأين الشهوانية في زواجه صلى الله عليه وسلم من سودة بنت زمعة وهي أرملة في العقد السادس من عمرها يوم تزوجها رسول الله.. أيصنف هذا الزواج شهوانيا أم يعتبر كفالة لامرأة من المؤمنات المهاجرات الهاجرات لأهليهن المشركين بعد فقدها زوجها..؟

• وأي شهوانية في زواجه من السيدة زينب بنت خزيمة (أم المساكين) وهي بنت الستين عندما استشهد عنها زوجها عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب في غزوة بدر..؟

• وأي شهوانية في أن يضم رسول الله إلى بيته أم سلمة رضي الله عنها عندما استشهد عنها زوجهافي غزوة أحد وهي التي اعتذرت عندما طلبها رسول الله بأنها مسنة ومصبية (صاحبة عيال)..؟

إن الدارس لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، يجد أن معظم زيجاته من هذا الصنف.. ولو كان غرضه مجرد الشهوة، لاختار النواهد الأبكار الجميلات من بني قومه.. فأين أباطيل الخصوم وأسمارهم..؟

[1] شبهات وأباطيل حول تعدد زوجات الرسول- محمد علي الصابوني، ص- (13-18).

[2] حقوق النساء في الإسلام - محمد رشيد رضا، ص- (63-65).

[3] الأحزاب- 5.

[4] الأحزاب- 37.

[5] شبهات وأباطيل حول تعدد زوجات الرسول- محمد علي الصابوني، ص- 25.

[6] الإسلام والمرأة- سعيد الأفغاني، ص- (48-49).

[7] الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة- الزركشي، ص- 123.

[8] الإسلام والمرأة - سعيد الأفغاني، ص- (48 - 52).

[9] الإسلام والمرأة - سعيد الأفغاني، ص- 53.

الفصل الثاني

سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في معاشرة نسائه

لا يقدر على ذلك إلا نبي

علّمنا رسول الله أن نحافظ على أسرار بيوتنا.. ومع ذلك فقد فتح بيوته للناس.. يتعرفون على أسراره الزوجية.. وأخلاقه في بيته.. وأسلوب معاشرته لأزواجه.. كيف مازحهن.. كيف داعبهن.. كيف عاشرهن.. لماذا غضبن.. وكيف رضين.. غيرتهن.. تآمرهن وتظاهرهن على الكيد له.. غضبه منهن.. تخييره لهنّ بين الدنيا والآخرة..

لا يستطيع ذلك إلا نبي.. فقد أراد صلى الله عليه وسلم أن يعلّم زوجاته ويدربهّن لتعليم بنات جنسهنّ.. ويعلم المسلمين كيف يتصرفوا مع زوجاتهم.. وكيف يديروا شؤون بيوتهم..

رسول الله في بيته

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الكامل والأسوة الحسنة للرجال في حسن معاشرته أزواجه بالمعروف. والقسمة بينهن بالعدل في المبيت والنفقة واللطف والتكريم.

كان يزورهن كلهن صباحا للوعظ والتعليم، ومساء للمجاملة والمؤانسة، وكن يجتمعن معه في بيت كل منهن. وكان يخدم في بيته ويقضي حوائجه بيده. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط. وتقول: كان ألين الناس وأكرم الناس وكان رجلا من رجالكم إلا انه كان بسّاما[1].

كان إذا أراد السفر أقرع بين نسائه. ولما مرض مرضه الأخير.. أستأذنهن أن يكون في بيت عائشة فأذنّ له.

كان يحب عائشة ويميل لها.. وكانت هي أكثرهن إدلالا عليه.. ولمَ لا.. وقد رزق حبها ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك.. فلا تلمني فيما تملك ولا أملك.

أحزاب وضرائر

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: إن نساء رسول الله كن حزبين: حزب فيه عائشة وحفصة وسودة وصفية. والحزب الآخر فيه أم سلمة وسائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم. وكان المسلمون –وقد علموا حب رسول الله عائشة- يقدمون هداياهم لرسول الله في بيتها.. وكان ذلك مبعث غيرة نسائه الأخريات.. ولقد كلمته أم سلمة..

وكلمته ابنته فاطمة في ذلك فقال لها: يا بنية ألا تحبين ما أحب..؟ قالت بلى.. قال فأحبي هذه.. وأخيرا كلمته زينب بنت جحش وقالت: إن نساءك ينشدنك العدل في بنت أبي قحافة، ورفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبتها، وردت عائشة على زينب حتى أسكتتها.. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة وقال: إنها ابنة أبي بكر[2]. يعني إنها مثل أبيها ذكاء وعقلا وحجة.

كان بالامكان أن تبقى هذه الأحاديث.. من أسرار البيوت.. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدث بها.. وتناقلها عنه الرواة.. ولسان الحال يقول: إن البيت النبوي مثل سائر البيوت.. ونساؤه مثل سائر النساء.. تنشب بينهن الخلافات ويتحزبن مع هذا الفريق أو ذاك.. ويتزاحمن على قلب النبي كل واحدة منهن ترغب بامتلاكه.

الغيرة الزوجية

الغيرة الزوجية غريزة أو عاطفة في الرجال والنساء، وهي فيهن أشد ولاسيما إذا تعددن عند الرجل. ولئن كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلهن يغرن من عائشة لعلمهن بأنها الأحب إليه.. فلهي كانت أشدهن غيرة، حتى كانت تغار من خديجة.. وهي لم ترها. وفي كتب السيرة والسنة أحاديث كثيرة تتحدث عن غيرة عائشة، وغيرة بقية نسائه.. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج كل ذلك بالصبر والأناة والحلم والتسامح[3].

تظاهر نساء النبي على الكيد له

والأمر يتصل بالغيرة.. فقد شرب مرة عسلا عند زينب كان أهدي إليها وكان يحبه، فأغرت عائشة به جميع نسائه فتظاهرن على الكيد له.. حتى لا يعود إلى شرب العسل عندها.. بأن تواطأن على أن ينكرن رائحته مما شرب ففعلن، وكان شديد الكراهة للرائحة الخبيثة فامتنع عن شرب ذلك العسل عندها وحرّمه على نفسه فلما علم بكيدهن وكذبهن عليه غضب عليهن كلهن[4].

وتواطأت عائشة مع حفصة في حادثة تحريم مارية القبطية، وكان سببه غضب حفصة لاجتماعه (أي بمارية) بها في بيتها فاسترضاها بتحريم مارية عليه وأمرها أن تكتم الخبر فأفشته لعائشة.. وفيهما نزل قول الله تعالى: )يا أيها النبي لمَ تحرم ما أحلّ الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم. قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم. وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض، فلمّا نبّأها به قالت: من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير. إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تَظاهرا عليه فإنّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير. عسى ربه إن طلّقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا([5].

واتفقت الروايات على أن تخيير النبيصلى الله عليه وسلمأزواجه بين تطليقهن وإبقائهن على عصمته على الوجه الذي يريده منهن وهو أن يكنّ قدوة صالحة للنساء في الدين، كان بعد حادثة غضبه من أجل ذلك الحديث الذي أفشته حفصة إلى عائشة، وهجره لهن شهرا.

وقد صح أنه حدث في أثناء ذلك سبب آخر للتخيير وهو إلحافهن بطلب التوسعة في النفقة والزينة[6].

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش حياة شظف في بيته..

ففي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما دخل إلى بيت النبي بكى، فقال رسول الله ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ قلت ومالي لا أبكي وهذا الحصير قد أثّر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الأنهار والثمار وأنت رسول الله وصفوته.. فقال له النبي: إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا.

فأية قدوة صالحة للنساء المسلمات في ذلك الزمان وإلى آخر الزمان.. إذا كانت أمهات المؤمنين مسرفات يبحثن عن حظوظ الدنيا وشهواتها وزينتها..؟

قال تعالى: )يا أيها النبي قل لأزواجك: إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكنّ وأسرحكنّ سراحا جميلا.. وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعدّ للمحسنات منكنّ أجرا عظيما([7].

اختيارهنّ الله ورسوله

كان رسول الله يعامل أزواجه أكرم معاملة يمكن أن تحلم بها امرأة.. ومع حبهن الشديد وتقديرهن الكبير للنبي الزوج.. إلا أن الغيرة أوحت لكل واحدة منهن سببا لإيذاء النبي ومحاولة السيطرة على قلبه وأن تكون الأولى القريبة منه..

تظاهرن عليه، وكدن له، وأفشين أسرارا استأمنهن على كتمانها، وطالبنه بمزيد من النفقة.. وهو الذي ادّخر طيباته إلى الحياة الأخرى.. فحذرهنّ.. وهجرهنّ.. وأخيرا خيّرهنّ بين البقاء يتحملن معه شؤون الدعوة وتبعاتها، ويكنّ المثل الأعلى لنساء المؤمنين، وبين طلاقهنّ..

في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما نزلت آية التخيير قال: فبدأ بعائشة فقال: يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك. قالت وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، قال (لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا، ثم خيّرهن كلّهن فاخترن ما هو خير لهن.. اخترن الله ورسوله والدار الآخرة).

مضاعفة أجرهن

وأمام هذه العودة الكريمة إلى الصواب، واختيارهن البقاء إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم، أثابهن الله أجرا مضاعفا على جميل صبرهن.

قال تعالى: {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما. يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا. وقَرْن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقِمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا( [8] .

تحريم طلاقهنّ

ونزل قوله تعالى: )لا يحلُّ لك النساءُ من بعدُ ولا أن تبدَّلَ بهن من أزواج ولو أعجبك حسنُهُنَّ إلا ما ملكت يمينُك، وكان الله على كل شيء رقيبا( [9].

وواضح أن هذه الآية نزلت في مكافأة أزواج النبي على اختيارهن الله ورسوله وثواب الدار الآخرة على نعيم الحياة الدنيا وزينتها فحرّم عليه أن يتزوج عليهن أو يستبدل بهن أزواجا أخرى..

صيانة مقامهنّ

كان بعض أصحابه صلى الله عليه وسلم غافلا عن التزام الأدب اللائق ببيوت الرسول ، فكانوا يجلسون عنده في كل وقت، وربما أطالوا فيتأذى الرسول ويستحي أن يصرفهم. وصيانة لوقت النبي وبيته ومقام أزواجه نزل قوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتَ النبي إلا أن يؤذنَ لكم إلى طعام غيرَ ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعِمتم فانتشروا، ولا مستأنسين لحديثٍ، إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق، وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهنَّ من وراء حجاب ذلكم أطهرُ لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكِحوا أزواجه من بَعْدِهِ أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما( [10].

إنما تقرر ذلك لتبيان ما يجب على المؤمنين من توقيره صلى الله عليه وسلم وتعظيم حرمته وسدّ منافذ الذرائع.. خاصة وان المنافقين كانوا يتربصون.. كما فعلوا (يوم الإفك) في رمي السيدة عائشة، ومن هذا القبيل أن صفية أم المؤمنين زارت النبي وهو معتكف في العشر الأخير من رمضان في المسجد فتحدثت عنده ساعة فلما قامت تنقلب راجعة قام معها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغا باب المسجد مرّ بهما رجلان من الأنصار فسلما ثم نفذا (مسرعين) فقال لهما صلى الله عليه وسلم علــى رسلكمــا إنمــا هي صفية بنت حيي، إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم..

أمهات المؤمنين

قال تعالى: )النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم( [11].هذا هو القول الكريم، الذي تردده محاريب المسلمين منذ خمسة عشر قرنا وستظل تردده إلى قيام الساعة، يسمعه المؤمن فيمتلئ صدره إعظاما وإجلالا: لمن شاركن الرسول صلى الله عليه وسلم في ضرائه وسرائه، وصبرن معه على شظف العيش وكلب الزمان، وتحملن معه صروف الأذى وخففن عنه ما يجد من آلام في سبيل الدعوة إلى الله.

ظلت بيوتهن مهابط الوحي والرحمة والهدى مدة حياتهصلى الله عليه وسلم، فلما انتقل إلى جوار ربه، بقيت هذه البيوت مثابة للناس يقصدونها متعلمين مستفتين، أو ملتجئين مستغيثين، فكانت تهدي الحائر، وتعلم الجاهل، وتحمي الملتجئ، وتنجد المستغيث، ولبث الناس جميعا على اختلاف طبقاتهم: الخلفاء فمن دونهم يخضعون لأزواج الرسول خضوع الأبرار لأمهاتهم.

ولننظر في هذا الحوار الذي دار بين أم سلمة أم المؤمنين والخليفة عثمان رضي الله عنه.. قالت أم سلمة: يا بني ما لي أرى رعيتك عنك نافرين، ومن جنبك مزورين. لا تعفُ طريقا كان رسول الله لحبها (بيّنها)، ولا تقتدح زندا كان أكباها، توخّ حيث توخى صاحباك. هذه حق بنوتي قضيتها إليك ولي عليك حقّ الطاعة [12].

وكان من رحمة الله بهذه الأمة، أن طال عمرهن بعده صلى الله عليه وسلم، فنقلن لأمته كثيرا من سنته وخاصة فيما لا يطلع عليه إلا النساء، فعن طريقهن عرف المسلمون أحواله المنزلية، وعنهن رووا كثيرا من السنة التي لولاهن لضاعت، وكانت بيوتهن بمنزلة مدارس مفتحة الأبواب يتعلم فيها النساء والرجال دينهم على السواء[13] .

أمرهنّ بعد رسول الله

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الاهتمام بأمرهن وكان يقول: (إن أمركنّ مما يهمني من بعدي، ولا يحنو عليكن إلا الصابرون) [14]. كانت تروى عنهن المآثر في الزهد والورع.. وكان النساء والرجال يقصدونهن للتعلم والسؤال وهنّ يحدثن كلا بما سمعن ورأين من قول النبي وفعله وحاله، وأصبحن أسوة لغيرهن من النسوة في التدين، وكانت سيرتهن خير سيرة ينبغي أن يكون عليها نساء الأنبياء صلوات الله عليهم.

[1] حقوق النساء في الإسلام - محمد رشيد رضا، ص- 110.

[2] الشيخان.

[3] حقوق النساء في الإسلام (المرجع السابق)، ص- 116.

[4] الشيخان.

[5] التحريم (1-5).

[6] حقوق النساء في الإسلام - محمد رشيد رضا، ص- 125.

[7] الأحزاب (28-29).

[8] الأحزاب (31-34).

[9] الأحزاب - 52.

[10] الأحزاب - 35.

[11] الأحزاب - 6.

[12] الإسلام والمرأة - سعيد الأفغاني، ص- 100.

[13] الإسلام والمرأة - سعيد الأفغاني، ص- 62.

[14] مسند الإمام أحمد.

الفصل الثالث

خديجة بنت خويلد - سيدة نساء قريش

(1)
خديجة بنت خويلد - سيدة نساء قريش

موعد مع القدر

هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي. أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، وأحرصهن على التزام جانب الأمانة، والاحتفاظ بسياج العفة والكرامة[1].

كانت كثيرة المال وافرة الثراء، لها تجارة واسعة ترسلها إلى أسواق العرب مع ما ترسله قريش من قوافلها، وكانت قافلتها تعدل أحيانا قوافل قريش بأجمعها[2].

كانت على موعد مع القدر حينما اختارت محمدا ليخرج في تجارتها. فـأحسنـت معاملته وأجزلت أجره، ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم حاله معها فقال: (ما رأيت من صاحبة أجير خيرا من خديجة)..

وتأنس خديجة إلى صدق رسول الله وأمانته فتطلب منه أن يخرج بتجارتها إلى الشام وترسل معه غلامها ميسرة.

كانت فرحة خديجة كبيرة بتجارتها التي ربحت ضعف ما كانت تربح، ولكن فرحتها بمحمد وحديث ميسرة عن أمانته واستقامته وعفته كانت أكبر.

وأدركت خديجة بحسها المرهف، وعقلها الراجح، أن محمدا صنف آخر من الرجال، وأنه ليس مثل أولئك الذين تقدموا للزواج منها، يطلبونها لشرفها أو لمالها أو لجمالها..

وإذا كانت قد رفضت في كل مرة زعماء قريش الواحد تلو الآخر، الذين تقدموا إليها.. فإنها تحس في نفسها رغبة ملحة أن تتقدم هي لمحمد وتطلب منه أن يتزوجها. ولكن كيف السبيل إلى ذلك وأعراف القوم تأبى؟

ذهبت إلى إحدى صديقاتها نفيسة بنت منيه تبثها ما في نفسها، وتطلب مشورتها.. فأشارت عليها أن تقوم هي بهذا الدور، فذهبت إلى محمد تتعرف رأيه وتستطلع خبره، فقالت نفيسة:

ما يمنعك أن تتزوج يا محمد ؟ قال:

ما بيدي ما أتزوج به. قالت نفيسة:

فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى الجمال والمال والشرف، ألا تجيب؟ فسأل محمد:

ومن هي؟ قالت نفيسة : خديجة.

ومن الحوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفيسة رسولة خديجة، إلى الحوار المباشر معها.. قال رسول الله:

من لي بك وأنت أيم قريش، وأنا يتيم قريش؟ قالت:

يا ابن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك.

وهكذا ترفض خديجة كبار شخصيات قريش.. وتُقبل على محمد.. ولم لا.. وهو كما وصفه عمه أبو طالب عندما جاء لخطبتها قال:

(أما ابن أخي محمد فلا يوزن به رجل إلا رجحه شرفا ونبلا وفضلا وعقلا، وان كان في المال قلا، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة.. وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك).

وهكذا زفت خديجة بنت خويلد بنت الأربعين صاحبة المال والسؤدد، التي يلقبها قومها بالطاهرة، إلى محمد صلى الله عليه وسلم سيد شباب قريش ابن الخامسة والعشرين والذي يلقبه قومه بالأمين.

نعمت الزوجة الصالحة للزوج الصالح

وعاش الزوجان في أمن وأمان، وحب ووئام، فولدت له القاسم ثم زينب ثم رقية، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم ولدت له في الإسلام عبد الله فسمي الطيب والطاهر.

وإذا كانت العناية الإلهية قد هيأت محمدا لدور كبير يقوم به في واقع الحياة البشرية، فيحولها من الظلمات إلى النور.. فإن العناية الإلهية ذاتها، هي التي جاءت بخديجة الكبرى لتكون الزوجة العظيمة، التي ترعى الزوج: بحبها وحنانها وقلبها وروحها. إن من يدرس سيرة هذه الأم العظيمة، لا بد أن يدرك، أنها جاءت على قدر، لتقوم إلى جانب النبي بأعظم وأنبل دور تقوم به امرأة.

أمام الموقف الكبير

كان محمد صلى الله عليه وسلم، بعيدا عن ترهات قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور يتحنث ويتعبد ويتفكر في ملكوت السموات والأرض، وفيما وراءها من قدرة مبدعة.

وكانت خديجة تؤمّن له الهدوء الشامل، والاستقرار الكامل، تأخذ له الطعام إلى الغار إذا أبطأ عنها.. وتكلأه بحبها إذا حضر إليها، كانت مقتنعة بعمله.. مدركة بفطرتها السليمة أن لزوجها شأنا عظيما.. كانت خديجة له ردءا وعونا وحصنا يعتصم به من عوادي الدهر، يستلهم منها الأمن عند الخوف، ويستمد منها القوة عند الضعف، ويجد فيها السكينة عند القلق والاضطراب[3].

وعلى رأس الأربعين عاما، جاء الحق محمدا وهو في غار حراء، جاءه الملك فقال:

اقرأ، فقلت:

ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فضمني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال:

اقرأ، فقلت:

ما أنا بقارئ، فأخذني فغتني الثالثة، ثم أرسلني فقال:

)اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم([4].

فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة، فقال:

زملوني زملوني، لقد خشيت على نفسي يا خديجة.

وتواجه خديجة العظيمة الموقف الكبير بمفردها، فلا تجزع ولا ترتبك ولا تتردد.. بل تخاطب الزوج الخائف وتقول:

كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. أبشر يا ابن عم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.

هل هناك شجاعة أعظم، أو حكمة أبلغ، أو موقف أكرم من فعل خديجة هذا وموقفها..؟

ولا تكتفي بذلك التطمين الأوليّ لتثبيت القلب الخائف.. فتأخذ بيده إلى ابن عمها ورقة بن نوفل.. وكان شيخا كبيرا تنصر في الجاهلية.. فتقول له:

يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة:

يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة:

(هذا هو الناموس الأكبر نزّله الله على موسى، ليتني فيها جَذَعَا أنصرك حين يخرجك قومك، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا) [5].

ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم حجم المسؤولية التي ألقتها العناية الإلهية على كاهله.. وانه سيؤذى ويُخرج ويُقاتل.. وأدركت معه خديجة مقدار الواجب الكبير الذي تتحمـلـه للوقوف إلى جانب الزوج النبي.

كانت معه بكل إحساسها ونبلها وحبها وعطفها. كانت حزينة معه يوم فتر الوحي.. وينشرح فؤادها وهي ترى زوجها مستبشرا بعودته.

علمها رسول الله كيف تتوضأ وتصلي.. ولقد شهدتهما أيام مكة ولياليها يصليان لله ويحمدانه ويشكرانه على ما أولاهما من نعم.

المجتمع المسلم الأول

كان بيت الرسول الذي يضم بالإضافة إلى زوجه خديجة بناتها وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة هو المجتمع المسلم الأول الذي آمن بالدعوة الكريمة التي نزل بها الأمين جبريل، على قلب الأمين محمد صلى الله عليه وسلم.

وإذا كانت خديجة في جاهليتها مشغولة في تجارتها وتنمية أموالها والمحافظة على مكانتها.. فهي اليوم مشغولة بالدعوة وكيف تكسب لها أنصارا.. مشغولة بالنبي وكيف تقف إلى جانبه تؤازره وتعاونه وتكلؤه.

عندما أسلم أبو بكر رضي الله عنه، وانضم إلى موكب المؤمنين، وسمعت مقالته وهو في بيتها يعلن تصديقه لمحمد صلى الله عليه وسلم دون توان أو تردد لم تـملك نفسها إلا وهي تهتف بأبي بكر مهنئة له وتقول: الحمد لله الذي هداك يا ابن أبي قحافة. جميع المؤمنين أبناؤها وهي أم المؤمنين.

في طريق الدعوة

وتـمر الدعوة بمراحلها الصعبة، ويقف أهل مكة موقف العداء الشديد من محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته، نالوه بالإساءة ووالوه بالسخرية ورموه بكل ما يكره من بذيء القول وفاحش الكلام. نعتوه بالجنون والسفه، واتهموه بالكهانة والسحر. في كل يوم كانت عقول أهل مكة تتفتق عن مزيد من وسائل المكر والخبث والحرب ضد النبي وأصحابه.

وكان رسول صلى الله عليه وسلم وزوجه خديجة والنفر القليل من المؤمنين معه يقابلون كل ذلك بإيمان أرسخ من جبال مكة، وبعزيمة أثبت من الدنيا وما فيها.. يقابلون الفظاظة بالمرحمة.. والطيش بالحلم.. والإساءة بالإحسان..

كم عانت السيدة خديجة من جوار أبي لهب الذي تزعّم هو وزوجه أم جميل نادي قريش في الإساءة إلى النبي.. فكانت تكتفي بإزالة ما كانت تلقيه أم جميل من أقذار وأشواك تضعها في طريق النبي وأمام داره..

وسارت خديجة مع زوجها العظيم في طريق الدعوة.. والآلام.. صابرة محتسبة.. ردوا عليها بناتها رقية وأم كلثوم وكانتا عُقد عليهما لعتبة وعتيبة ابني أبي لهب..

هاجرت ابنتها رقية مع زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه مع أوائل المهاجرين إلى أرض الحبشة.

كانت تحس بالألم يعتصر فؤادها، على غربة بناتها، وتشتت شمل أسرتها، ولكنها الصابرة المحتسبة.. وكيف يمكن أن تكون أما للمؤمنين ومثلا أعلى للمؤمنات.. إن لم تعط من نفسها القدوة والمثل في التضحية والفداء...؟

الحصار في شعب بني هاشم

(رأت قريش أن كل ما استعملته من وسائل مع النبي وصحبه، من المسالمة والإغراء، ومن السخرية والاستهزاء، ومن الإرهاب والتعذيب، ومن الدعاية والتهويش لم يجدها نفعا، ولم يصرف الناس عن دعوة الإسلام، ولم يحل بينها وبين الظهور والانتشار. ورأت أن دخول العناصر القوية فيها قد زادها ظهورا وانتشارا، فقد عز المسلمون منذ أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب، واستطاعوا أن يستعلنوا بصلاتهم بعد أن كانوا يسرون بها، وأن يصلّوا عيانا في حرم الكعبة بعد أن كانوا يستخفون في شعاب الجبال، واستطاعوا كذلك أن يجهروا بالقرآن على مسمع من قريش بعد أن كانوا يتخافتون به.

وحارت قريش في أمرها. فلجأت إلى سلاح آخر غير سلاح الإرهاب والتخويف، هو سلاح المقاطعة) [6].

فاجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني عبد المطلب، على أن لا ينكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم. فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، وعلقوها في جوف الكعبة. فلما فعلـت ذلـك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب إلى قريش، فظاهرهم[7].

وتركت خديجة دارها، وانتقلت مع محمد إلى شعب أبي طالب، تقاسي ما يقاسي زوجها وما يقاسي أتباعه معه. ولم تتوان رغم تجاوزها الستين في أن تقوم لمحمد صلى الله عليه وسلم بما كانت تقوم له من قبل. فظلت هي هي المواسية المشجعة المؤازرة وزير الصدق الذي عاون محمدا، وأخذ بيده منذ بدء دعوته[8].

ليس هذا فقط.. بل وكانت تدبر أمر ايصال بعض الطعام إلى الشعب المحاصر، وتشرف بنفسها على توزيعه على المحاصرين..

ثلاث سنوات طوال، مكثها المسلمون محاصرين في الشعب، حتى اشتد بهم البلاء وبلغ منهم الجهد، فأكلوا ورق الشجر وسُمع صراخ أطفالهم من بعيد..

وإذا استطاع الحصار أن ينال من الأجساد المتعبة، إلا إنه كان يصفي المعدن الكريم، فيزداد قوة وصلابة وتـمسكا بالدعوة العظيمة. وما أن انقضت أيام الحصار وأحس النبي صلى الله عليه وسلم أن بإمكانه استئناف دعوته حتى فقد عمه أبا طالب الحصن الحصين الذي كان يحوطه بكل أنواع الرعاية والحماية.. ولم تلبث خديجة أن مرضت، واشتد بها المرض.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانبها يمرّضها ويقوم على خدمتها ويقول لها: بالكره مني ما يجري عليك يا خديجة..

ويظل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانب خديجة، يخفف عنها ويذكّرها بما وعدها الله به في الجنة من نعيم وما أعده لها من قصر من قصب لا نصب فيه ولا صخب حتى فاضت روحها بين يديه صلى الله عليه وسلم.

يا أخي المسلم.. ويا أختي المسلمة

إذا مررتم بالحجون في مكة فألقوا التحية على أمنا الكبرى.. على خديجة، المرأة العظيمة.. عظم الدعوة وعظم الرسالة.

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب..).

مثلهن الأعلى

لقد تفردت خديجة بهذا الفضل.. ومن أجل ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، دائم الذكر لها والحنين إليها، يترحم عليها، ويتحدث بأيامها، ويبر صواحبها، ويتهلل لمن يراه من أهلها.

روى مسلم عن عائشة قالت: ما غرت على نساء النبي، إلا على خديجة، وإني لم أدركها. قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ذبح الشاة.. فيقول: (أرسلوا بها إلى صدائق خديجة.. قالت فأغضبته يوما، فقلت: خديجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني رزقت حبها).. ومرة ، قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أبدلك الله خيرا منها. قال: ما أبدلني الله خيرا منها، وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء).

هذه هي خديجة الكبرى .. الداعية الأولى.. والمثل الأعلى لبناتها المسلمات السائرات على نهجها في موكب الدعوة. التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد، وأشار الراوي إلي السماء والأرض) [9].

وإذا كان إلى جانب كل رجل عظيم امرأة يعتمد عليها في جهاده، وفي الوصول إلى أهدافه، فقد كانت خديجة تلك السيدة العظيمة التي ناصرت النبوة، وعاونت على رفع راية الإسلام، وجاهدت في سبيل الدعوة الإسلامية. لم تخذل زوجها يوما من الأيام، بل كانت الأولى في كل شيء، في سماحة الخلق، وجمال الطلعة، ووفاء الزوجة، وشرف النسب وكرم المحتد والإيمان الثابت والنفس المخلصة والقلب السليم [10].

لقد كانت الحضارة الإسلامية التي أضاءت الدنيا وارتقت بالإنسان من وهدة التخلف إلى أرقى مستويات الرقي، ملفّعة بصبر خديجة البارة بأمتها، وبرسالة زوجها، لقد كانت حصيلة حبّ وأمانة، وتضحية ورصانة، وجلد وصبر، وكد وعمل ودفع للباطل وتأييد للحق[11]..

[1] أمهات المؤمنين- محمد أحمد برانق، ص- 6.

[2] صور من حياة الرسول- أمين دويدار، ص- 85.

[3] صور من حياة الرسول- أمين دويدار ، ص-90.

[4] العلق- (1-5).

[5] رواه الشيخان.

[6] صور من حياة الرسول - دويدار، ص- (180-181).

[7] المرجع السابق، ص- 181.

[8] أمهات المؤمنين- برانق، ص- 24.

[9] الشيخان.

[10] خديجة أم المؤمنين- عبد الحميد الزهراوي، ص- 9.

[11] نساء النبي - بنت الشاطئ، ص- 62.

سودة بنت زمعة - رضي الله عنها

(2)
سودة بنت زمعة - رضي الله عنها

هي سودة بنت زمعة بن قيس بن عمرو.. وزوجها ابن عمها (السكران بن عمرو). أسلم الاثنان في مكة، وتعرضا (مثل بقية المؤمنين) لأشد صنوف العذاب والاضطهاد..

رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه النفر القليل الذين آمنوا معه، مازالوا يذكرون النفر الثمانية من بني عامر، يخرجون من ديارهم وأموالهم، يجوزون القفر المرهوب ويركبون أهوال البحر لينجوا بدينهم من مطاردة مجنونة آثمة، تحاول أن تردهم قسرا إلى متاهة الضلال ومهواة الشرك.

هؤلاء النفر هم: السكران وزوجه سودة وأخوها مالك، وأخواه سليط وحاطب وابن أخيه عبد الله بن سهيل بن عمرو. وصحب ثلاثة من الثمانية زوجاتهم، وكلهن عامريات [1].

وتـمرّ الأيام ثقيلة على مهاجري الحبشة في دار غير ديارهم.. وبين قوم غرباء عنهم.. حتى وصلت إليهم الأخبار تحمل نبأ دخول أكثر أبناء قريش في الإسلام.. ورأى نفر من المهاجرين (والفرحة لا تكاد تسعهم) أن يعودوا إلى مكة إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم وإلى قومهم وبلدهم.. وكان من هؤلاء السكران وزوجه سودة.

وقبل أن يصلوا إلى مكة وصلتهم الأخبار بأن نفرا قليلا دخل الإسلام، وأن قريشا ضاعفت إيذاءها للمسلمين.. وحاصرتهم ومن انضم إليهم في شعب أبي طالب.. فقرر نفر من هؤلاء العودة إلى دار هجرتهم في الحبشة.. بينما قرر السكران وزوجه دخول مكة ليلاقيا ما يلاقيه المسلمون فيها من أذى وعذاب وحصار.. وما أن استقر المقام بالأسرة المجاهدة في مكة حتى توفى السكران.. وبقيت إلى جانبه زوجه سودة تبكيه فقد كان ابن عمها ورفيق دربها في الإيمان والهجرة.. وها هو يدفن في ثرى مكة، مرقد من مضوا من أهله وأصحابه.. ويترك أرملته من بعده، قد أسلمتها محنة الاغتراب إلى محنة الترمل.

وكانت من أهم الأحداث التي وقعت في تلكم الفترة وفاة أبي طالب عم رسول الله [ الذي كفله صغيرا، وآزره كبيرا، وناصره على دعوته، وحماه من عوادي المشركين. ووفاة السيدة خديجة زوج النبي التي صدقته وآمنت به وكانت له وزير صدق طول سني كفاحه وجهاده[2].

عام الحزن

وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما المشركون فقد تجرأوا عليه، كاشفوه بالنكال والأذى.. ورسول الله يقول: ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب.. وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه هذا بعام الحزن..

كان الصحابة يرقبون آثار الحزن على وجه النبي صلى الله عليه وسلم فيشفقون عليه من تلك الوحدة.. ويودون لو يتزوج، لعلّ في الزواج ما يؤنس وحشته بعد أم المؤمنين الراحلة[3].

وجاءت خولة بنت حكيم السلمية إلى النبي تعرض عليه أن يتزوج.. ويقول رسول الله: ومن بعد خديجة...؟

وتقول خولة: عائشة.. بنت أحب الناس إليك، تخطبها اليوم ثم تنتظر حتى تنضج.. وسودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس.. وأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبتهما.

ولكن هل تستطيع سودة أن تـملأ من فؤاد النبي وأبنائه وبيته ما كانت تشغله خديجة..؟

لم يتصور ذلك أحد.. فقد كانت امرأة مسنة في نحو ست وستين سنة، ولكنها من المؤمنات المهاجرات الهاجرات لأهليهن خوف الفتنة، ولو عادت إلى أهلها لأكرهوها على الشرك أو عذبوها عذابا نكرا ليفتنوها عن دينها.. فاختار النبي صلى الله عليه وسلم كفالتها. ولقد قابل الناس هذه الالتفاتة من الرسول الكريم بالإعجاب والثناء، وخفف قومها بنو عبد شمس (أعداء الرسول وأعداء بني هاشم) من غلوائهم في عداوة صاحب الدعوة ومخاصمته، وأُنقذت هي مما كان ينتظرها من الضياع[4].

لقد كانت سودة تدرك تـماما، أن حظها من رسول الله بـرٌ ورحمةٌ وإكرامٌ.. لا حب وتآلف وامتزاج.. وقبلت الدور، فحسبها أن رفعها رسول الله إلى تلك المكانة، وأن جعل منها أما للمؤمنين.

وقدمت سودة كل ما في وسعها لخدمة النبي والسهر على راحته ورعاية أبنائه ليتفرغ هو إلى جهاده وأداء رسالته.. وعمّرت سودة بعد وفاة النبي سنين عدّة.. حتى وافاها أجلها فلقيت ربها راضية مرضية.

[1] المرأة صانعة الأبطال - د. نشأة ظبيان، ص- 21.

[2] أمهات المؤمنين - محمد أحمد برانق 4: 10.

[3] نساء النبي- بنت الشاطئ، ص- 58.

[4] زوجات النبي الطاهرات - محمد محمود الصواف، ص- 25.

عائشة أم المؤمنين - الفقيهة.. السياسية

(3)
عائشة أم المؤمنين - الفقيهة.. السياسية

الصديقة بنت الصديق

أخرج الطبراني عن عائشة رضي الله عنها قالت:

(لما توفيت خديجة رضي الله عنها قالت خولة بنت حكيم رضي الله عنها:

• يا رسول الله ألا تتزوّج؟ قال:

• ومن؟ قالت:

• إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا، قال:

• فمن البكر؟ قالت:

• ابنة أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر. قال:

• فمن الثيب؟ قالت:

• سودة بنت زمعة. قال:

• فاذهبي فاذكريهما عليّ.

فجاءت فدخلت بيت أبي بكر فوجدت أم رومان أم عائشة رضي الله عنهما، فقالت: "يا أم رومان ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة! أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قالت: وددت، انتظري أبا بكر فإنه آت، فجاء أبوبكر فقالت: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة! أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، فقال: هل تصلح له؟ إنما هي بنت أخيه. فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ارجعي إليه فقولي: أنت أخي في الإسلام وأنا أخوك، وابنتك تصلح لي، فأتت أبا بكر فقال: ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فأنكحه.

وكل ما نعلمه عن عائشة يومذاك أنها بنت ست سنين أو سبع، وأنها كانت قد خطبت (لجبير بن المطعم بن عدي) وأن أبا بكر وعده.. فلما طلبها رسول الله.. ذهب أبو بكر إلى المطعم ليكلمه بشأن هذه الخطبة فوجد عنده امرأته (أم جبير)، فبادرت أبا بكر وقالت: لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى تصبيه (فيرتد عن دينه) وتدخله في دينك الذي أنت عليه، فاقبل أبو بكر على المطعم وقال له: ماذا تقول أنت؟ فقال: إنها لتقول ما تسمع. فخرج من عنده واعتبر هذا الكلام يحلّه من وعده السابق.. فدعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه عائشة.

وهكذا دخلت عائشة التاريخ من أوسع أبوابه. عاشت في بيت النبي زوجة كريمة محبوبة، وشاهدة ذكية على ميراث النبوة تقتبس وتحفظ وتستوعب كل ما ترى.. لتكون بعد ذلك شاهد صدق ووزير خير ومعلّما لكل من أراد أن يتعرف على أحوال النبي في بيته وأهله.

أما قوم عائشة فهم بنو تيم، عرفوا بالكرم والشجاعة والأمانة وسداد الرأي، كما كانوا مضرب المثل في البر بنسائهم والترفق بهن وحسن معاملتهن.

وأما أبوها فأبو بكر الذي كان له إلى جانب هذا الميراث الطيب، شهرة ذائعة في دماثة الخلق وحسن العشرة ولين الجانب. وأجمع مؤرخو الإسلام على أنه (كان أنسب قريش لقريش، وأعلم الناس بها وبما كان فيها من خير وشر. وكان تاجرا ذا خلق معروف، يأتيه رجال قومه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه وخبرته وحسن مجالسته) [1].

وأما أمها فـأم رومان بنت عامر الكنانية، من الصحابيات الجليلات. قال فيها رسول الله [ عندما توفيت: اللهم لم يخف عليك ما لقيت أم رومان فيك وفي رسولك. وقال فيها أيضا: (من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان).

أما عائشة فالحديث عنها يطول.. وفي سيرتها عبر ودروس لا حصر لها تحتاج إليها كل امرأة مسلمة عاملة في موكب الدعوة.

عائشة أمّ المؤمنين

عندما يمعن الإنسان الحصيف النظر في سيرة السيدة عائشة أم المؤمنين يجـد كيف أنها شهدت المواقع كلها.. وكيف أعدّها القدر على عينه لتصبح في بيت أبيها الصديق أو بيت زوجهــا النبي.. إحدى شاهدات العصر الإسلامي في مراحل قوته وضعفه، وفي مرحلة انبساطه وانكماشه، وفي مرحلة فتنه وعطائه..

نشأت في بيت كريم، فكان أبوها وجيها في قومه، ميسورا في تجارته، مضرب الأمثال في حلمه وصدقه. كان من أوائل المقبلين على اعتناق الدين الجديد، يقول فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر.. ما عكم حين ذكرته له وما تردد فيه) [2]... وأصبح بالتالي هو وبيته وماله تحت تصرف الدعوة وقائدها.. يقول النبي: (ما نفعني مال قط، ما نفعنا مال أبي بكر). وعندما يسمع أبو بكر ذلك يبكي ويقول: وهل أنا ومالي إلا لك..؟

كان النبي لا يخطئ أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إمّا بكرة وامّا عشية[3].

عاشت عائشة الصغيرة في هذا البيت الكريم.. تشاهد الأحداث فتحفظها وتترسب آثارها في ذاكرتها.. فالطفل لا ينسى.

شهدت إسلام أبيها..

وشهدت مرحلة الكفاح الدامي بين دعاة الحق وكفار قريش يسومونهم سوء العذاب..

وشهدت صراع العقيدة مع جميع الولاءات الجاهلية، فلقد ترك المؤمنون والمؤمنات أرضهم وملاعب صباهم ليهاجروا إلى الحبشة فرارا بدينهم..

وانحاز المؤمنون إلى فريقهم تاركين الأهل والآباء والأبناء وأصبحوا أمة من دون الناس..

وشهدت فصول الهجرة الكبرى.. هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأبيها إلى المدينة المنورة. في بيتها وأمام عينيها خططا للهجرة، ومن ذلك المكان خرجا ولا يعلم بخروجهما أحد في مكة إلا عليّ بن أبي طالب وآل أبي بكر..

كانت عائشة وحيدة في البيت ترقب.. فأخوها عبد الله يتسلل بين الناس يتسمع ما يقولون.. وأسماء أختها تنشغل بتدبير طعام تحمله خفية إلى الغار إذا جنّ المساء [4].

تسمع من أخيها عبد الله، حنق قريش على المهاجرين.. ورصدهم مائة ناقة لمن يدلهم عليهما. وخروج نفر من فرسان قريش في طلبهما.. وتحدثها أختها أسماء بعد كل زيارة لها عن الغار وصعوبة البقاء فيه وعن المشركين المطاردين وهم يقفون على قيد خطوة منهما..

لم يكد يتحمل رأس الصبية الصغيرة كل هذا الصراع الذي اشتركت فيه كل عناصر الشر، ولكن ثقتها بالنبي وبأبيها الصديق وبعين الرحمن التي لا تنام.. كانت أكبر من كل مكر شيطاني مريد..

وتنفست عائشة الصعداء وهي تسمع لأختها أسماء تحدثها عما كان:

(عند هدأة المساء في تلك الليلة التاريخية الخالدة على الدهر، جاء الدليل، عبد الله بن أريقط البكري يسوق الراحلتين اللتين أودعهما أبو بكر منذ أيام وراحلة له ثالثة، فأناخ عند فتحة الغار، فخرج الرسول وصاحبه، وجاءت أسماء بطعامها في سفرة وقد فاتها أن تجعل للسفرة عصاما، فلما همّا بالرحيل وأرادت أن تعلقها، أعوزها العصام تربط به السفرة إلى الرحل، فحلت نطاقها فشقته نصفين، علقت السفرة باحدهما، وانتطقت بالشق الآخر فكانت ذات النطاقين.

ونظر أبو بكر إلى الراحلتين، فقرب أفضلهما للنبي وقال:

- اركب فداك أبي وأمي.

وسرى الركب ممعنا إلى الجنوب، في طريق غير مطروق، ووقفت أسماء تتبعه بعينيها وقلبها حتى أبعد.. فعادت وحدها إلى البيت.. وهي توجس خيفة من تنبه المطاردين..

وغابت عائشة عمّا حولها.. ومضت تسري بروحها في أثر الراحلين [5].

ولم توقظها غير طرقات عنيفة على الباب.. لقد جنّ جنون قريش.. جاءوا يسألونها في غلظة:

- أين أبوك يا بنت أبي بكر..؟

وعندما نفت علمها بشيء.. كانت يد أبي جهل ترتفع فتلطم خد أسماء لطمة قاسية طرحت قرطها...

ووصلت الأخبار إلى مكة بأن محمدا وصاحبه قد وصلا إلى يثرب.. وهدأت عائشة بعد طول قلق واضطراب.. واشتعل شوقها للحاق بالمهاجرين.. في دار الهجرة [6]..

في الطريق إلى يثرب...

بعد نحو شهر، جاء زيد بن حارثة من دار الهجرة ليصحب بنات المصطفى إليه، ومعه رسالة من أبي بكر إلى ابنه عبد الله، يطلب إليه فيها أن يلحق به، مصطحبا أم رومان زوج أبي بكر، وابنتيه أسماء وعائشة.

مازالت عائشة تذكر تلك الرحلة المثيرة عبر الصحراء إلى المدينة.. فتقول:

حتى إذا كنت بالبيداء نفر بعيري وأنا في محفّة معي فيها أمي فاستغاثت أم رومان مذعورة: وابنتاه، واعروساه.. فأسرع عبد الله بن أبي بكر وطلحة بن عبيد الله وزيد بن حارثة فردوا البعير النافر. ووصلوا أخيرا إلى يثرب واستقرت عائشة في السنّح في بيت أبيها أبي بكر.

عائشة في بيت النبي

وما أن استقر المقام في الموطن الجديد.. وأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء المسجد والمنزل الجديد.. حتى تحدث أبو بكر إلى محمد صلى الله عليه وسلم في إتـمام الزواج الذي عقده في مكة منذ ثلاث سنين..

وتصف عائشة حفل زفافها فتقول:

جاء رسول الله بيتنا فاجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء، فجاءتني أمي وأنا في أرجوحة، فأنزلتني ثمّ سوّت شعري ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت تقودني فأدخلتني ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا.. وقالت: (هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهن، وبارك لهن فيك)..

ووثب القوم والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، ما نحرت عليّ جزور ولا ذبحت من شاة.

وانتقلت عائشة بعد ذلك إلى بيتها الجديد، الذي لم يكن أكثر من حجرة صغيرة بنيت حول المسجد، من اللبن وسعف النخيل، ووضع فيه فراش من أدم حشوه ليف، ليس بينه وبين الأرض إلا الحصير، وعلى فتحة الباب أسدل ستار من الشعر. في هذا البيت البسيط المتواضع بدأت عائشة حياة زوجية حافلة، وكما كانت شاهدة على أحداث الإسلام منذ يومها الأول ترقبها في بيت أبيها الصديق.. فقد أصبحت شاهدة على حياة النبي القائد تنهل من علمه وحكمته وسيرته ما وسعها عقلها وذكاؤها أن تنهل وتتعلم..

لقد كانت عائشة باستمرار في وسط المعركة..

• معركة تقودها مع الضرائر من حولها في بيت زوجها، تحاول أن تستأثر بقلبه وحبه دون الأخريات..

رصيدها في ذلك حب رسول الله لأبيها: فقد كان من أحب الناس إليه وأقربهم منه..

ورصيدها أنها الوحيدة من بين جميع نسائه في السابق واللاحق من لدن خديجة حتى اخراهن التي زفّت بكرا إلى زوجها لم تعرف قط رجلا غيره..

ورصيدها أنها عروس حلوة، خفيفة الجسم، ذات عينين واسعتين وشعر جعد، ووجه مشرق، مشرب بحمرة.. تدل على صاحباتها بصغر سنّها وجمال طلعتها..

• ومعركة أخرى تخوضها مع مروجي الإفك.. حين أحبّ قادة النفاق في المدينة أن يحاربوا النبي في شخصها.. فاتهموها بعرضها ليضربوا بحجر واحد زوجها وأبيها وبيضة الإسلام كله بعد ذلك..

• وخاضت عائشة معركة السياسة تقوّم المعوج، وتنادي بالإصلاح.

تخالف عثمان رضي الله عنه في حياته، وتنادي بمحاكمة قتلته بعد استشهاده..

وكما انشغلت عائشة بمعاركها المستمرة في حياتها.. فقد انشغل المستشرقون والمفترون طويلا في هذه المعارك في حياتها وبعد مماتها..

• ناصبها بعض المسلمين العداء فقد كانت في الموقف السياسي المناوئ لسيدنا علي كرم الله وجهه.. ومازالت منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا هدفا لكتابات جهلائهم وغرضا لافتراءاتهم..

• وناصبها البعض الآخر العداء.. لموقفها السياسي الجريء وتدخلها في الصراع السياسي الذي نشب بين سيدنا علي والزبير وطلحة رضي الله عنهم أجمعين ورأيهم أن ليس للمرأة إلا الجلوس في بيتها.. وما لها والسياسة!

• أما المستشرقون فيتحدثون عن زواج غريب جمع بين زوج كهل وطفلة غريرة عذراء(!) ويقيسون بعين الهوى، ظروف الجزيرة العربية اليوم والأمس بأعرافهم حيث لا تتزوج الفتاة عادة قبل سن الخامسة والعشرين..

وكان يمكن غض النظر عن مثل دعواهم الباطلة هذه.. فمثل هذا الزواج كان شائعا قبل وبعد زواج النبي من عائشة. وبيئة الجزيرة التي تنضج فيها الفتاة في وقت مبكر غير بيئة أوروبا التي عليها يقيسون، ولقد أدرك ذلك المستشرق بودلي بعدما زار الجزيرة العربية فعاد من زيارته يقول: كانت عائشة على صغر سنها نامية ذلك النمو السريع الذي تنموه نساء العرب. ومثل هذا الزواج مازال عادة آسيوية، وشرق أوروبية وكذلك كان طبيعيا في إسبانيا والبرتغال حتى سنين قليلة [7].

ثم مالنا ولهؤلاء المستشرقين.. فإن عائشة من أعلى بيوتات الجزيرة، ومن أفصح قومها لسانا، ومن أشدّهن ثقة واعتدادا بنفسها.. فإذا هي أقبلت على هذا الزواج وتحدثت عنه وتاهت به.. فما بال الآخرين؟!

يقول المؤرخ المنصف بودلي: (منذ وطئت قدمها بيت محمد، كان الجميع يحسون وجودها. ولو أن هناك شابة عرفت ماهي مقبلة عليه، لكانت عائشة بنت أبي بكر.. فلقد كونت شخصيتها منذ اليوم الأول الذي دخلت فيه دور النبي الملحقة بالمسجد) [8]. لم تكن إذن مجرد طفلة غريرة ساذجة كما يدّعون!!

لقد اكتمل نمو عائشة في بيت النبوة، ونضجت شخصيتها وتدرجت بين عيني الرسول من صبية يأتيها زوجها بصواحبها ليلعبن معها، أو يحملها على عاتقه لتطل على نفر من الحبشة يلعبون الحراب في المسجد، إلى شابة ناضجة مجربة، تسألها امرأة في مسألة دقيقة من مسائل الزينة والتجميل، فتجيبها:

(إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك فتضعيهما أحسن مما هما فافعلي) [9]!

حديث الإفك

أما الحديث عن الإفك فقد أخرج ابن اسحاق عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه. فلما كان غزوة بني المصطلق خرج سهمي عليهن معه، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قالت: وكنت إذا رحل لي بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين كانوا يرحلون لي فيحملونني ويأخذون بأسفل الهودج، فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون به.

قالت: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك وجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا فبات به بعض الليل، ثم أذن مؤذن في الناس بالرحيل، فارتحل الناس، وخرجت لبعض حاجتي، قبل أن يؤذّن في الناس بالرحيل، وفي عنقي عقد لي فيه جزع ظفار (خرز يماني). فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري.

فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فألتمسته حتى وجدته، وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحّلون لي البعير ولم يشكّوا أني فيه، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب، قد انطلق الناس. قالت: فتلففت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو افتقدت لرجع الناس إليّ.

قالت: فوالله! إني لمضطجعة إذ مرّ بي صفوان بن المعطّل السلمي رضي الله عنه، وكان قد تخلف عن العسكر لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس، فرأى سوادي، فأقبل حتى وقف عليّ وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب. فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا متلففة في ثيابي.

قال: ما خلّفك -يرحمك الله؟

قالت: فما كلمته، ثم قرّب إليّ البعير فقال: اركبي واستأخر عنّي.

قالت: فركبت، وأخذ برأس البعير فانطلق سريعا يطلب الناس، فوالله! ما أدركنا الناس وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس. فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي فقال أهل الأفك ما قالوا، فاضطرب العسكر ووالله! ما أعلم بشيء من ذلك.

ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة لا يبلغني من ذلك شيء، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبوي. لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا إلا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بي، كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي فلم يفعل ذلك بي في شكواي تلك، فأنكرت ذلك منه.

كان إذا دخل عليّ وعندي أمـي تـمرضني. قال: (كيف تيكم) لا يزيد على ذلك.

قالت: حتى إذا وجدت في نفسي فقلت: يا رسول الله لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني. قال: لا عليك.

قالت: فانقلبت إلى أمي، ولا علم لي بشيء مما كان، حتى إذا نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة. فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح ابنة أبي رهم بن المطلب. قالت: فوالله! إنها لتمشي معي إذا عثرت في مرطها. فقالت:

تعس مِسْطح!

قلت: بئس لعمر الله!.. ما قلت لرجل من المهاجرين شهد بدرا.

قالت: أَوَمَا بلغك الخبر يا بنت أبي بكر؟

قلت: وما الخبر؟

فأخبرتني بالذي كان من قول الإفك.

قلت: أو قد كان هذا؟

قالت: نعم والله لقد كان.

قالت: فوالله! ما قدرت على أن أقضي حاجتي، ورجعت، فوالله! مازلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي.

وقلت لأمي: يغفر الله لك! تحدث الناس بما تحدثوا به، ولا تذكرين لي من ذلك شيئا.

قالت: أي بنية! خففي عليك الشأن، فوالله! لقلّما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها، لها ضرائر، إلا كثّرن وكثّر الناس عليها.

قالت: وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبهم- ولا أعلم بذلك- فحمد الله وأثنى عليه! ثم قال: (أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق؟ والله! ما علمت منهم إلا خيرا. ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، ولا يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي).

قالت: وكان كِبْرُ ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج مع الذي قال مِسطح وحمنة بنت جحش وذلك أن أختها زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن امرأة من نسائه، تناصيني في المنزلة عنده غيرها، فأما زينب رضي الله عنها فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا، وأما حمنة فـأشاعت من ذلك ما أشاعت تضادّني لأختها، فشقيت بذلك.

ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليّ، فدعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى عليّ خيرا وقال: يا رسول الله أهلك وما نعلم منهم إلا خيرا، وهذا الكذب والباطل، وأما علي فإنه قال: يا رسول الله، إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف. وسل الجارية فإنها ستصدقك فدعا رسول الله بريرة يسألها.

قالت: فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا ويقول: اصدقي رسول الله.

قالت: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة شيئا إلا أني كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه، فتنام عنه، فتأتي الشاة فتأكله.

قالت: ثم دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندي أبواي، وعندي امرأة من الأنصار وأنا أبكي وهي تبكي. فجلس فحمد الله وأثنى عليه! ثم قال: (يا عائشة.. إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقي الله. وإن كنت قد قارفت سوءا مما يقوله الناس، فتوبي إلى الله فإن الله يقبل التوبة من عباده).

قالت: فوالله ما هو إلا أن قال لي ذلك، فقلص دمعي حتى ما أحس منه شيئا، وانتظرت أبوي أن يجيبا عنّي رسول الله فلم يتكلما.

قالت: وأيم الله! لأنا كنت أحقر في نفسي وأصغر شأنا من أن ينزّل الله فيّ قرآنا يُقرأ به ويُصلى به، ولكنّي كنت أرجو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه شيئا يكذب الله به عنّي لما يعلم من براءتي، ويخبر خبرا، وأما قرآنا ينزل فيّ فوالله! لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك.

قالت: فلمّا لم أر أبوي يتكلمان قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله؟ فقالا: والله ما ندري بما نـجيبه. قالت: ووالله! ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام.

قالت: فلما استعجما علي استعبرت فبكيت ثم قلت: والله! لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا والله! إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس -والله يعلم أني منه بريئة- لأقولن مالم يكن، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني.

قالت: ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره. فقلت: ولكن سأقول كما قال أبو يوسف: )فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون( [10].

قالت: فوالله! ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسجّي بثوبه، ووضعت وسادة من أدم تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فوالله! ما فزعت وما باليت قد عرفت أني بريئة، وأن الله غير ظالمي، وأما أبواي، فوالذي نفس عائشة بيده! ما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قاله الناس. قالت ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وانه ليتحدر من وجهه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: (أبشري يا عائشة! قد أنزل الله عز وجلّ براءتك).

قالت: قلت الحمد لله!

ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عز وجل من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت رضي الله عنهما، وحمنة بنت جحش رضي الله عنها وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدّهم [11].

وأخرجه أيضا الإمام أحمد وفي سياقه:

قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه. فقلت: والله! لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أنزل براءتي، وأنزل الله عز وجل: )إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم. لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا أفك مبين. لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون. ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم، إذ تلقّونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم، ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم. يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين. ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم. إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون. ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم( [12].

وحديث الإفك، الذي تناول بيت النبوة الطاهر الكريم، وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم إنسان على الله، وعرض صديقه الصديق أبي بكر رضي الله عنه أكرم إنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرض رجل من الصحابة صفوان بن المعطل رضي الله عنه يشهد رسول الله أنه لم يعرف عليه إلا خيرا..

هذا الحادث.. قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية آلاما لا تطاق، وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل، وعلق قلب رسول الله وقلب زوجه عائشة التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه، وقلب صفوان.. شهرا كاملا. علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق [13].

والحادث مليء بالعبر.. يحتاج من يريد أن يعلق على مجمل حوادثه إلى كتاب كامل.. لقد أراد المرجفون النيل من الإسلام ومن صاحب الرسالة فاختاروا هدفهم في شخص السيدة عائشة بنت الصديق. فقد كانت شخصية هامة على كل الأصعدة: الأقرب من قلب رسول الله، والأفقه في دين الله، ومن بيت الصديق أقرب المؤمنين إلى رسول الله، ترعى المسلمات اجتماعيا، صاحبة رأي وفكر.. ومن هنا فإن تسديد الهدف لهذه الشخصية الكبيرة سيكون ذا واقع كبير وتأثير شديد على الإسلام وعلى صاحب الرسالة.

وسام البراءة

عائشة البريئة.. كانت تدرك أن الله تعالى مبرئها.. ولكنها لم تتوقع أن ينزل الله تعالى في شأنها قرآنا يتلى. (ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى. ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله [ في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها).. وهكذا رفع القرآن من مكانة المرأة، واهتم رب العزة لقضيتها.. وأنزل فيها قرآنا يتعبد المسلمون بقراءته إلى ما شاء الله.. فبعد أن كانت المرأة في أنحاء الدنيا في جاهلية العرب وخارجها إنسانا هامشيا لا يحسب له أحد حسابا.. إذا به تنشغل السماء بمظلمته.. وينزل القرآن.. يبرأ صاحبة هذه المظلمة.

واستعلت عائشة بالوسام القرآني.. وكانت تفاخر أبدا بقولها: (أنا التي أنزلت براءتي من السماء).

ولم يكن وساما لصدر أم المؤمنين عائشة فحسب بل ولصدر جميع بناتها المسلمات الداعيات في كل مصر وعصر.

عائشة العالمة

دخلت عائشة بيت النبي وهي صغيرة، فترعرعت في مهبط الوحي، ومنبع العلم تغرف منه ما شاء لها ذكاؤها وعبقريتها، وتأثرت بهدي رسول الله فنشأت مجتهدة في دينها وعبادتها، وكان الرسول حفيا بها يعلمها، ويعني بها، ويخرج بها في مغازيه، وكانت أخبر الناس بتاريخ الرسول والمسلمين، كما كانت أعلم الناس بجاهلية العرب.. فلم ينتقل الرسول إلى جوار ربه حتى خلفها مرجعا وحجة يلجأ إليها الكبار والصغار متعلمين مستفتين.

كان الناس يرون علم عائشة قد بلغ ذروة الإحاطة والنضج في كل ما اتصل بالدين من قرآن وحديث وتفسير وفقه. كانت في المدينة مع الفقهاء الكبار كعبد الله بن عمر وأبي هريرة وابن عباس في مقام الأستاذ من تلاميذه. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحيل عليها كل ما تعلق بأحكام النساء أو بأحوال النبي البيتية، لا يضارعها في هذا الاختصاص أحد من النساء على الإطلاق.

طار صيتها في التمكـن من العلم، ورجع إلى قولها كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وابنه وأبي هريرة وابن عباس وابن الزبير. وقد نقل عنها وحدها ربع الشريعة على ما يقول الحاكم في مستدركه [14]. قد ألّف بدر الدين الزركشي كتابا قصره على موضوع واحد هو استدراكات السيدة عائشة على الصحابة أسماه (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة) وقال في مقدمته: (هذا كتاب أجمع فيه ما تفردت به الصديقة أو خالفت فيه سواها برأي منها أو كان عندها سنة بينة، أو زيادة علم متقنة، أو ما أنكرت فيه على علماء زمانها، أو رجع فيه إليها أجلة من أعيان أوانها، أو حررته من فتوى، أو اجتهدت فيه من رأي رأته أقوى. وأورد الزركشي استدراكها على ثلاثة وعشرين من أعلام الصحابة مثل عمر وعلي وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم. وبلغ عدد استدراكاتها تلك تسعة وخمسين).

هذه ثقافتها في بيت الرسول أما ما حملته من بيت أبيها الصديق فإحاطة واسعة بالأخبار والأشعار وأيام العرب وأنسابها ومفاخرها.

ورسخت لها هذه المنزلة في العالم الإسلامي حينئذ، وانفردت بها دون غيرها من النساء والرجال. ولنقرأ معا ما كتب عنها الذهبي في كتابه سير النبلاء[15]:

1-عن أبي بردة عن أبيه قال: ما أشكل علينا أصحابَ محمد حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما.

2- قال الزهري: لو جمع علم الناس كلهم وأمهات المؤمنين لكانت عائشة أوسعهم علما.

3- قال مسروق: والله لقد رأيت أصحاب محمد الأكابر يسألونها عن الفرائض.

4- قال عروة بن الزبير لعائشة: يا أمتاه لا أعجب من فقهك أقول: زوجة نبي الله وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس أقول: ابنة أبي بكر وكان أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب، من أين هو؟ قالت عائشة: (أي عريّة، إن رسول الله كان يسقم عنـدي آخر عمـره، وكانـت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات، وكنت أعالجها له، فمن ثمّ). وكنت أمرض فينعت له الشيء، ويمرض المريض فينعت له، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض، فأحفظه.

5- قال معاوية: والله ما سمعت قط أبلغ من عائشة ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم[16].

لقد أعد النبي صلى الله عليه وسلم عائشة لتكون خير مصدر يرجع إليه المسلمون من بعده. كانت عائشة شابة لها من الذكاء والفطنة وقوة الذاكرة ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يطمئن على الكثير مما سيتركه لديها من تراث عظيم.

لقد كان في نزول الوحي على النبي وهو في بيت عائشة دون غيرها من نسائه، إشارة لها بأن تتجه بكل كيانها إلى تفهم رسالة زوجها العظيمة، لتؤدي دورها في إرشاد المسلمين من بعده. فأخذ عنها المسلمون في عهد أبي بكر، واستشارها العلماء والفقهاء في عهد عمر وعثمان وعلي ومعاوية..

وبقيت حتى توفيت مرجعا للمسلمين في التعرف على أحكام دينهم.

يقول الأستاذ سعيد الأفغاني: سلخت سنين في دراسة السيدة عائشة، كنت فيها حيال معجزة لا يجد القلم إلى وصفها سبيلا، وأخص ما يبهرك فيها علم زاخر كالبحر بعد غور، وتلاطم أمواج وسعة آفاق، واختلاف ألوان، فما شئت إذ ذاك من تمكن في فقه أو حديث أو تفسير أو علم بشريعة أو آداب أو شعر أو أخبار أو أنساب أو مفاخر أو طب أو تاريخ.. إلا أنت واجد منه ما يروعك عند هذه السيدة، ولن تقضي عجبا من اضطلاعها بكل أولئك وهي لا تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها[17].

عائشة وقضية المرأة

كانت عائشة رضي الله عنها زعيمة الآخذين بناصر المرأة، والمنافحين عنها بلا منازع. وإليها كانت تتطلع أبصار المستضعفات لما تمّ لها من المكانة الكبيرة في العلم والأدب والدين. وإليها يرجـع الفضـل الأكبر - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في إعظام الناس المرأة الإعظام اللائق، حتى ظهر كثير من اللائي طمحن إلى اقتفاء أثرها في الشجاعة الأدبية والجرأة.

فإذا أحبت النساء أن يسألن من علم.. أو يبحثن عن مسألة.. توجهن إلى عائشة.. وإذا أحست المرأة بظلم زوجها.. جاءت عائشة تستفتيها وتطلب نصرتها..

في الحديث عن عبد الواحد بن أيمن قال: حدثني أبي قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها درع قِطْر ثمنه خمسة دراهم فقالت: (ارفع بصرك إلى جاريتي فإنها تُزهى أن تلبسه في البيت، وقد كان لي منه درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كانت امرأة تُقَيَّنُ بالمدينة إلا أرسلت إليّ تستعيره) [18].

عائشة والسياسة

شاركت السيدة عائشة رضي الله عنها في أحداث عصرها السياسية.

كان لها رأيها الواضح المؤيد أو المعارض. ففي عهد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما اقتصر دورها على الناحية العلمية والاجتماعية..

وفي عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، سارت السيدة عائشة في الشطر الأول من خلافته سيرتها على زمن صاحبيه.. أما في الشطر الثاني.. فقد قرّب عثمان أقاربه فولاّهم الأمصار وفضّلهم على غيرهم من كبار رجال المسلمين.. وبسببهم أقصى الكثير من صحابة الرسول.. ويقال أنه أساء إلى رجال كانت لهم يد وسابقة.. وأغضبت هذه التصرفات الكثير من الناس.. وحاولت عائشة كما حاول الآخرون أن يسدوا النصح إلى عثمان، مبينين له فساد ما يتبع من سياسة. فكان يستمع إليهم، ثم لا يلبث أن يغلبه مستشاروه من ذوي رحمه فيعود إلى ما كان ينهج من تصرف.

كان من ذلك أن ازداد غضب الكثيرين عليه. في هذه المرحلة مارست السيدة عائشة حقها في النصح والتسديد وأصبحت زعيمة للمعارضة بلا منازع.

فعندما غضب الخليفة عثمان على عمّار بن ياسر رضي الله عنهما ويقال بأنه ضربه وشتمه.. نددت السيدة عائشة بفعله هذا وقالت على الملأ: ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم، وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد. وحينما عزل عثمان عبد الله بن مسعود عن بيت مال الكوفة.. ونال منه وشتمه.. غضبت عائشة وقالت: أي عثمان، أتقول هذا لصاحب رسول الله..؟

وولىّ عثمان على الكوفة أخاه من أمه الوليد بن عقبة، فبرم به أهلها وكرهوه، وأتى وفد منهم إلى عثمان يشكونه..

وحدث أمر مشابه مع ولاة عثمان في مصر والبصرة.. وفي كل ذلك كانت السيدة عائشة تعلن رأيها صراحة على الملأ.. تندد بالخطأ، وتأخذ جانب أصحاب رسول الله، وتطالب عثمان التزام جانب الصواب..

وفي أوج الأزمة حضرت وفود من البصرة والكوفة ومصر، وحاصرت المدينة وهم يطالبون بخلع الخليفة أو قتله.

وبعث عثمان بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما يستمع إلى شكايتهم، ويعدهم بإزالة أسبابها. وقام علي بمهمته خير قيام. فانصرف القوم وهم راضون مطمئنون.

ولم يمض على هذا الأمر غير أيام قليلة حتى عاد الثائرون، فحاصروا المدينة من جديد، فقد اكتشفوا أن كتابا ممهورا بخاتم عثمان أرسل إلى والي مصر يطالبه بقتل هؤلاء بمجرد عودتهم.. وانفجر الموقف.. بين خليفة لا علم له بالكتاب.. وبين شكوك حامت حول مروان بن الحكم مستشاره وحامل ختمه.. وبين ثوار لم يعودوا يرضون بغير خلع الخليفة أو قتله..

في هذه الظروف تأهبت نساء النبي ومعهن السيدة عائشة لمغادرة المدينة إلى مكة يبغين الحج.. ولربما للبعد عن هذه الفتنة التي تعصف بالخلافة والخليفة.

وحملت الأخبار إلى مكة نبأ مقتل الخليفة عثمان...

تأثر الناس لهذا الحدث الجلل وأنكره جميع الصحابة بلا استثناء ومنهم بالطبع أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها.. فالمعارضة ونصح الحاكم شيء والاعتداء المسلح على الخليفة شيء آخر.. الأسلوب الأول واجب شرعي يقوم به كل مسلم، والأسلوب الثاني خروج على الله ورسوله وخليفته. وكما كانت عائشة تطالب عثمان بالاستقامة على منهج رسول الله في سياسته.. فهي اليوم تطالب بالضرب بيد من حديد على أيدي الجناة القتلة.. وعندما سئلت في هذا قالت: رأيتهم استتابوه، فلما تاب، قتلوه وهو صائم في الشهر الحرام، والبلد الحرام، وأخذوا المال الحرام.. والله لأصبع عثمان خير من طباق الأرض من أمثالهم..

• هذا الموقف، فهمه بعضهم على أن عائشة غيّرت موقفها من عثمان.. وهو فهم غريب.. فعائشة العالمة الفقيهة تفرق بين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وبين قتل رجل صحابي جليل وخليفة عظيم مثل عثمان.

• وفهم البعض أيضا أن عائشة هي التي أوقدت نيران الحرب بين المسلمين أنصار علي الذي بويع بالخلافة وأنصار عثمان الذين يطالبون بمحاكمة ومقاضاة القتلة..

أما عائشة فقد أعلنت بأبلغ بيان.. بأنها إنما خرجت للإصلاح بين الناس، (وأرجو فيه الأجر إن شاء الله).

• وتعرضت السيدة عائشة إلى أقوال كثيرة.. كلها كذب وافتراء.. فقد نسبوا إليها القول: اقتلوا نعثلا فقد كفر[19].

• وذكر البلاذري أن السيدة عائشة قالت حين قتل عثمان: تركتموه كالثوب المنقى من الدنس ثم ذبحتموه كما يذبح الكبش.. أجابها مسروق: هذا عملك: كتبتِ للناس تأمرينهم بالخروج إليه، فقالت السيدة: والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت بسواد في بياض حتى جلست في مجلسي هذا. قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها[20].

لقد جانب الصواب الرجل الغيور الأديب سعيد الأفغاني في كتبه الكثيرة التي كتبها عن السيدة عائشة:

عائشة والسياسة، الإسلام والمرأة.. وعلى الرغم من إعجابه الشديد بعظمة وفقه وبيان السيدة.. إلا أنه نعى عليها أن تتدخل في السياسة فهي وظيفة الرجل وحده.. لقد أخطأ الرجل مرتين:

1- مرة عندما حمّلها مسؤولية الحرب.. وإنما دخلتها للإصلاح.. ولم يفرق بين إصلاح بالكلمة.. وخروج على الخلافة بالسيف.

2- والمرة الثانية عندما تصور أن العمل السياسي وقف على الرجل وحده.. وهذا وهم وانهزام أمام الفكر الغربي.. الذي أعطى المرأة حقها السياسي.. فقال بعضهم ومنهم الأفغاني.. إنه ليس للمرأة حق في العمل السياسي. وأخيرا.. فهذه بإيجاز كلمات عن السيدة العظيمة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر أحب الناس إلى قلب رسول الله.. أحبها.. ونزل عليه الوحي في بيتها.. ودفن في حجرتها.. وتركها منارة للناس تعلمهم.. وللكبار تصوبهم.. وللخلفاء تنصح لهم بالحكمة والموعظة الحسنة.

[1] نساء النبي- بنت الشاطئ، ص- 72.

[2] البخاري.

[3] السيرة - ابن هشام 2: 128.

[4] السيرة - ابن هشام 2: 130.

[5] نساء النبي - بنت الشاطئ، ص- 84.

[6] نساء النبي - بنت الشاطئ، ص- 84.

[7] الرسول - بودلي، ص- 129.

[8] الرسول - بودلي، ص- 130.

[9] نساء النبي - بنت الشاطئ، ص- 89.

[10] يوسف - 18.

[11] متفق عليه.

[12] النور - (11-20).

[13] في ظلال القرآن 4: 2495.

[14] عائشة والسياسة- سعيد الأفغاني، ص- 16.

[15] ص - 73.

[16] عائشة والسياسة- سعيد الأفغاني ، ص- (18- 19).

[17] عائشة والسياسة- سعيد الأفغاني، ص- (18، 19).

[18] البخاري.

[19] كذب هذه الرواية ابن تيمية - منهاج السنة 2: 188.

[20] عائشة والسياسة- سعيد الأفغاني، ص- 54.

حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها

(4)
حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها

عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما حين تأيّمت حفصة من خنيس بن حذافة السهمي لقي عثمان رضي الله عنه فقال: إن شئتَ أنكحتك حفصة، قال: سأنظر في أمري، فلبث ليالي فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج، قال عمر: فقلت لأبي بكر رضي الله عنه: إن شئت أنكحتك حفصة، فصمت، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي، ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدتَ عليّ حين عرضت عليّ حفصة فلم أرجع إليك شيئا، قلت: نعم، قال: إنه لم يمنعني أن أرجع إليك إلا إني علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها، فلم أكن أفشي سره، ولو تركها لقبلتها[1].

وحفصة هي بنت عمر بن الخطاب.. أرملة الصحابي الجليل (خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي القرشي)، من أصحاب الهجرتين: هاجر إلى الحبشة مع المهاجرين الأولين ثم هاجر إلى المدينة، وكان الوحيد من بني سهم الذي شهد إلى جانب رسول الله بدرا.. وجرح في أحد.. ثم مات في دار الهجرة متأثرا بجراحه، وترك وراءه أرملته الشابة.

والمرأة المسلمة في المجتمع الإسلامي عندما تترمل لا تنتهي حياتها كما يحدث في بعض المجتمعات الجاهلة.. حيث تصبح جزءا من المتاع يتوارثه أقرباء الزوج في بعض البلاد.. أو يصبح حتما عليها أن تتزوج من شقيق الزوج أو من يرضاه لها في بلاد أخرى.. وحتى إذا أرادت أن تتزوج وسُمح لها بذلك فلن تجد إلا الرجال من الدرجة الثانية.. فكلهم يرغبون المرأة البكر الصغيرة.. أما الإسلام.. فقد طالب المرأة أن تستأنف حياتها من جديد، مرة بعد أخرى حتى لا تضيع في دائرة العُقد والحرمان.. وضرب المثل في ذلك قائد الأمة.. فعندما ترملت حفصة واستشهد زوجها في سبيل الله، قال رسول الله: يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة، ويضمها النبي إليه فتقر عينها، ويرضي هذا التصرف والدها الذي بذل الكثير في سبيل تدعيم الدين الجديد. وتنضم بذلك حفصة الشابة التقية الورعة إلى بيت النبوة لتصبح أما للمؤمنين.

حلف الضرائر

دخلت حفصة بيت النبي وفيه سودة وعائشة..

أما سودة فقد كانت امرأة كبيرة السن.. علمت منذ دخولها البيت النبوي أن حظها من رسول الله بر ورحمة وإكرام.. وأما عائشة فقد كانت الصبية الجميلة الأثيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.. والتي تحاول أن تستأثر وحدها بحبه وقلبه..

وتناست عائشة ما كانت تجد من ضرتها حفصة، بعد أن وفدت على بيت النبي أزواج جديدات.. وحاولت أن ترى فيها أقرب ضرائرها إليها، وأجدرهن بأن تقف معها في وجه الخطر المشترك[2]. رضيت حفصـة من جانبها بهذا الحلف.. فلم يكن بين نساء النبي الأخريات أقرب إليها من عائشة.

(لقد جعلَ اللهُ حياة النبي الخاصة والعامة كتابا مفتوحا لأمته وللبشرية كلها، تقرأ فيه صورة العقيدة، وترى فيه تطبيقاتها الواقعية، ومن ثم لا يجعل فيها سرا مخـبوءا، ولا سترا مطويا، بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العادي. حتى مواضع الضعف البشري الذي لا حيلة فيه لبشر.

إنه ليس له في نفسه شيء خاص. فهو لهذه الدعوة كله. فعلام يختبئ جانب من حياته صلى الله عليه وسلم أو يخبأ؟ إن حياته هي المشهد المنظور القريب الممكن التطبيق من هذه العقيدة، وقد جاء صلى الله عليه وسلم ليعرضها للناس في شخصه، وفي حياته، كما يعرضها بلسانه وتوجيهه. ولهذا خلق. ولهذا جاء. ولقد حفظ عنه أصحابه صلى الله عليه وسلم ونقلوا للناس بعدهم أدق تفصيلات هذه الحياة. فلم تبق صغيرة ولا كبيرة حتى في حياته اليومية العادية، لم تسجل ولم تنقل.. وكان هذا طرفا من قدر الله في تسجيل حياة هذا الرسول، أو تسجيل دقائق هذه العقيدة مطبقة في حياة الرسول. فكان هذا إلى جانب ما سجله القرآن الكريم من هذه الحياة السجل الباقي للبشرية إلى نهاية الحياة [3].

قال تعالى: )يا أيها النبي لم تحرّم ما أحلّ اللهُ لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم، قد فرض اللهُ لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم، وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير. إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير، عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا( [4].

تعرض هذه السـورة صفحـة مـن الحياة البيتية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصورة من الانفعالات والاستجابات الإنسانية بين بعض نسائه وبعض، وبينهّن وبينه! وانعكاس هذه الانفعالات والاستجابات في حياته صلى الله عليه وسلم وفي حياة الجماعة المسلمة كذلك.. ثم في التوجيهات العامة للأمة على ضوء ما وقع في بيوت رسول الله وبين أزواجه..

الحادث الذي نزلت بشأنه هذه السورة وردت فيه روايات متعددة.. منها أن النبي صلى الله عليه وسلم خلا يوما بجاريته (مارية القبطية) في بيت حفصة.. فآلمها ذلك وقالت للنبي: (والله لقد سببتني، وما كنت لتصنعها لولا هواني عليك) واستعبرت باكية..

وأقبل عليها يترضاها بأن أسرّ إليها أن مارية حرام عليه، ثم أوصاها أن لا تحدث أحدا بما كان.. ورضيت حفصة.. ولكن فرحتها كانت أكبر من أن تستطيع كتمانها.. فأسرّت بالسرّ إلى عائشة.. ولم تقدّر حفصة وهي تذيع السر لعائشة، عواقب هذا الإفشاء..

هذا الحديث عن تحريمه صلى الله عليه وسلم مارية على نفسه، وإفشائها السر لعائشة وتظاهرهما على النبي هو المتداول في كتب الفقه، وهو متداول أيضا في كتب التفسير. وفي الصحيحين رواية أخرى مختلفة.

في هذا السياق، يقال إن رسول الله طلّق حفصة تطليقة واحدة، وفي رواية أن جبريل تدخل وقال للنبي: أرجع حفصة، فإنها صوّامة، قوّامة، وإنها زوجتك في الجنة.. كان من الطبيعي أن يكون إحساس حفصة بالندم أوفر من إحساس أمهات المؤمنين الأخريات، وشعورها بالخطأ أفدح من شعورهن. فما كان لها وهي التقية العابدة، أن تذيع سرا ائتمنها عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن تخلف ما وعدت به من كتمان، ولا كان لها أن تلقى ترضيته لها، وإكرامه إياها، بمثل ذاك الجحود والنكران[5].

جمع المصحف وحفظه

أشار عمر بن الخطاب على الخليفة أبي بكر رضي الله عنهما أن يبادر إلى جمع القرآن الكريم، قبل أن يبعد العهد بنزوله، ويمضي حفظته الأولون، وقد استشهد منهم مئات في حروب الردة.

واستجاب أبو بكر بعد تردد.. وجمع المصحف الكريم وأودعه عند أم المؤمنين حفصة بنت عمر..

وفي عهد عثمان رضي الله عنه تم توحيد حرف المصحف ورسمـه.. من المصحف المجمـوع المـودع لدى حفصة.. ونسخت من المصحف العثماني الإمام، نسخ وزعت على الأمصار..

استمرت الصلة قوية بين السيدة حفصة وعائشة..

وكادت تخرج معها للإصلاح بين الناس فيما سمّي فيما بعد بحرب الجمل.. لولا أن ردّها أخوها عبد الله بن عمر..

شهدت حفصة بنت عمر رضي الله عنها.. وفاة النبي وخلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وأقامت بالمدينة عاكفة على العبادة قوامة صوّامة إلى أن توفيت في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عنه، وشيعتها المدينة إلى مثواها بالبقيع مع أمهات المؤمنين رضي الله عنهنّ..

مواقفها السياسية

ولحفصة أم المؤمنين مواقف مشهودة، تدلّ على عمق فهمها ووعيها لمجريات الأمور..

• فعندما تعرض الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمحاولة الاغتيال.. راجعه المسلمون بأن يستخلف لهم.. كان عمر مترددا وهو يقول: إن أستخلف فقد استخلف أبو بكر، وإن لم أستخلف فإن رسول الله لم يفعل..

وعندما علمت حفصة بموقفه.. أصرّت على أخيها عبد الله بأن يكلمه وينقل له رأيها بضرورة الاستخلاف..

كانت تخاف الفتنة..!

• وعندما بايع سيدنا الحسن معاوية بالخلافة.. وطوى سيدنا الحسن شراع الفتنة.. فرح المسلمون بهذا النصر. ولم يخرج عبد الله بن عمر رضي الله عنه ليشارك إخوانه فرحتهم.. فأصرت عليه حفصة أن يخرج.. وبقيت وراءه حتى أقنعته وخرج.. كانت تخاف الفرقة..!

• كان سيدنا عمر رضي الله عنه يستشيرها في كثير من الأمور التي تتعلق بحياة النبي البيتية.. يسألها ويقول لها معتذرا: إن الله لا يستحي من الحق. لقد كانت حفصة ورعة تقية عالمة.. تشغلها هموم المسلمين ومصلحتهم.

[1] البخاري والنسائي.

[2] نساء النبي - بنت الشاطئ، ص-122.

[3] في ظلال القرآن- سيد قطب 6: 3610.

[4] التحريم (1-5).

[5] نساء النبي - بنت الشاطئ، ص- 126.

أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها

(5)
أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها

أخرج النسائي بسند صحيح عن أم سلمة قالت:

لما انقضت عدّة أم سلمة بعث النبي صلى الله عليه وسلم من يخطبها عليه، فقالت: (أخبر رسول الله أني امرأة غَيْرَى، وأني امرأة مصبية، وليس أحد من أوليائي شاهدا).

فقال: (قل لها: أما قولك غَيْرَى، فسأدعو الله فتذهب غيرتك، وأما قولك: إني امرأة مصبية، فستُكفين صبيانك، وأما قولك: ليس أحد من أوليائي شاهدا، فليس أحد من أوليائك شاهد أو غائب يكره ذلك. قالت لابنها عمر: قم فزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوّجه)[1].

وأم سلمة هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية.

أبوها: أحد أبناء قريش المعدودين وأجوادهم المشهورين، وقد ذهب دونهم على الدهر بلقب (زاد الركب).

وأمها: عاتكة بنت عامر الكنانية من بني فراس الأمجاد.

وزوجها الذي مات عنها هو أبو سلمة، عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، الصحابي ذو الهجرتين، ابن عمة رسول الله: برة بنت عبد المطلب بن هاشم، وأخوه -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة[2].

وأبو سلمة وزوجه من السابقين الأولين.. ومن أصحاب الهجرتين: هاجرا أول الأمر إلى الحبشة مع من هاجر إلى جوار النجاشي الملك العادل الذي لا يظلم عنده أحد.. وهناك رزقا ابنهما سلمة..

ثم عادا إلى مكة.. التي ضاقت بأبنائها وألحت في اضطهادهم.. فلما أَذِنَ النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى يثرب أجمع أبو سلمة وزوجه على الهجرة إلى الموطن الجديد..

وقصة هجـرة أبـو سلمة وزوجـه إلى يثرب هي إحدى المآسي التي تحمّلها ذلك الجيل القرآني الفريد صابرا محتسبا.. فقد جاء رجال بني المغيرة وقالوا له: (هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد)..؟! وأمسكوا بالمرأة.. وجاء بنو عبد الأسد (رهط الزوج) ونزعوا ابنها منها.

وأصبحت أم سلمة وحيدة: زوجها في يثرب وابنها عند قبيلة زوجها، وهي محبوسة عند بني المغيرة في مكة، تقول: كنت أخرج كل غداة إلى الأبطح.. فما أزال أبكي حتى أُمسي، سنة أو قريبا منها.

وفي المدينة المنورة.. شهد أبو سلمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بدر الكبرى.. ثم شهد يوم أحد، وأبلى فيه بلاء مشهودا، وبعد أحد عقد له رسول الله لواء سرية عدتها مائة وخمسون رجلا هاجمت بني أسد الذين كانوا يعدون العدة لمهاجمة المدينة.. ثم رجع وصحبه إلى المدينة غانمين.. وفي المدينة قضى أبو سلمة من آثار جرح أصابه في أحد.. ورسول الله إلى جانبه يكبر عليه تسع تكبيرات، ويقول: (لو كبرت على أبي سلمة ألفا كان أهلا لذلك) [3].

مات الفارس المجاهد الصحابي الجليل ابن عمة رسول الله وأخوه من الرضاعة: أبو سلمة.. وترك وراءه أرملته ذات الهجرتين أم سلمة هند بنت زاد الركب..

فكيف يمكن أن تكافأ هذه المرأة العظيمة..؟

هل تترك لترملها.. وأولادها.. وكبر سنها..؟

أم تضم هي ومن تعول إلى بيت النبوة، فتأمن بعد خوف.. وتستريح بعد حياة ملأى بالمتاعب.. وتأنس بعد حزن لم يفارقها منذ أسلمت.. وتصبح أخيرا أما للمؤمنين..!

ولكن كيف ذلك.. وهي امرأة كبيرة السن، كثيرة العيال، وفوق هذا وذاك فهي شديدة الغيرة..؟

وبعظمة بالغة يمسح النبي جميع أحزان أم سلمة، يقول لها: أنا أكبر منك، وأما الغيرة فيذهبها الله، وأما العيال فإلى الله وإلى رسوله..

وهكذا استقرت أم سلمة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذت دورها في حياة الدعوة وحياة القائد العظيم..

ولم ينسَ رسول الله كلما دخل عليها أو زارها أن يسألها عن صغيرتها زينب فيقول: (أين زناب)؟

سلام عليكم آل البيت

كانت أم سلمة تعرف لنفسها.. قدرها، فإيمانها العميق، وتضحياتها التي ليس لها حدود، ومجدها الموروث، وزواجها من النبي الكريم، وعقلها الراجح، أكسبها مكانة رفيعة في المجتمع المسلم.. فهي تقول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.. عندما تدخل في مراجعة أمهات المؤمنين لزوجهن الرسول: عجبا لك يا ابن الخطاب، قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه..؟

قال عمر: فأخذتني أخذا كسرتني به عن بعض ما كنت أجد [4].

وما قالت كلمتها هذه إلا وهي مدلة بمكانها عند النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيته، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعدّها من أهله. حدثوا إنه كان يوما عنـدها وابنتهـا زينب هنـاك، فجاءته الزهراء مع ولديها فضمها إليه، ثم قال: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد. فبكت أم سلمة فنظر إليها رسول الله وسألها: ما يبكيك؟ قالت: يا رسول الله خصصتهم وتركتني وابنتي. قال: إنك وابنتك من أهل البيت.

عاش أبناء أم سلمة في رعاية الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت ابنتها زينب من أفقه نساء أهل زمانها.. أما سلمة فقد زوجه رسول الله من أمامة بنت عمه حمزة بن عبد المطلب.. وكذلك شب أخوه عمر وأخته دُرّه في كفالة النبي صلى الله عليه وسلم ورعايته.. وكانوا جميعا جزءا لا يتجزأ من البيت النبوي الكريم.

الوحي ينزل في بيتها

كانت عائشة تتباهى على ضرائرها بأن الوحي ينزل على رسول الله وهو في بيتها.. ومع ذلك فقد نزلت آية من سورة التوبة وهي: )وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم( [5].

نزلت على رسول الله من السحر وهو في بيت أم سلمة..فقالت، وقد سمعته يضحك:

- مم تضحك يا رسول الله؟ أضحك الله سنك!

قال: تيبَ على أبي لبابة..

قلت: أفلا أبشره؟

فقال: بلى، إن شئت.

أم سلمة تشور على رسول الله

وفي العام السادس للهجرة صحبت (أم سلمة) رسول الله في رحلته إلى مكة المكرمة معتمرا، وهي الرحلة التي صدّت فيها قريش محمدا وأصحابه عن دخول البلد الحرام، وتم بعد ذلك صلح الحديبية بين النبي وقريش.. الذي نص على أن تضع الحرب أوزارها عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك، فدخلتها بأصحابك فأقمت فيها ثلاثا.

وأصاب الصحابة من توقيع هذا العهد هم عظيم.. ظنا منهم أنه يبخس المسلمين حقهم. واستفحل الأمر إلى حد ينذر بالخطر، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال: قوموا فانحروا واحلقوا وحلّوا، فلم يجبه أحد إلى ذلك، فرددها ثلاث مرات فلم يفعلوا.. فدخل على أم سلمة وهو شديد الغضب، فقالت: ما شأنك يا رسول الله..؟ قال: هلك المسلمون! أمرتهم فلم يمتثلوا! فقالت: يا رسول الله، لا تلمهم فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح، ورجوعهم بغير فتح، ثم أشارت عليه أن يخرج ولا يكلم منهم أحدا، وينحر بدنه ويحلق رأسه. فخرج فلم يكلم أحدا حتى قام فنحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد يقتل بعضهم بعضا من الغم [6]!

وثاب المسلمون إلى رشدهم.. بعد أن غلبتهم عواطفهم.. وغابت عنهم في زحمة القلق والاضطراب عظمة هذا الفتح المبين.. وكان لأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها فضل رباطة الجأش.. فأشارت على النبي بالرأي السديد الذي أنقذ الموقف وحلّ عقدة القوم..

وكذلك صحبت أم سلمة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، وفي فتح مكة، وفي حصار الطائف، وغزوة هوازن وثقيف، ثم في حجة الوداع.

وبعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى حاولت أم سلمة أن تتجنب الخوض في الحياة العامة.. ومع ذلك فقد كانت تراقب الموقف وتتدخل بالقدر المناسب. فعندما عصفت الحوادث بخلافة سيدنا عثمان رضي الله عنه دخلت عليه وحدثته ناصحة فقالت: (يا بني، مالي أرى رعيتكَ عنكَ نافرين، وعن جناحك مزورين، لا تعفُ طريقا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها، ولا تقتدح بزند كان عليه الصلاة السلام أكباه. وتوخ حيث توخّى صاحباك أبو بكر وعمر. هذا حق أمومتي قضيته إليك وإن عليك حق الطاعة.

عندما وقعت الفتنة الكبرى اندفعت تؤازر عليا.. فجاءت عليا وقدمت إليه ابنها عمر قائلة:

• يا أمير المؤمنين، لولا أن أعصي الله عز وجل، وأنك لا تقبله مني، لخرجت معك. وهذا ابني عمر، والله لهو أعزّ علي من نفسي، يخرج معك فيشهد مشاهدك. ثم مضت إلى عائشة فقالت لها في عنف واستنكار: (أي خروج هذا الذي تخرجين)؟

وهكذا تختلف السبل بأمهات المؤمنين.. في موقفهن من الفتنة الكبرى.. وتوفيت أم سلمة.. وصلى عليها أبو هريرة.. ودفنت بالبقيع.. وكانت آخر من مات من أمهات المؤمنين رضوان الله عليهم أجمعين.

[1] حياة الصحابة 2: 657.

[2] السيرة - ابن هشام.

[3] نساء النبي (المصدر السابق)، ص- 147.

[4] متفق عليه.

[5] التوبة - 102.

[6] صور من حياة الرسول (المرجع السابق)، ص- 465.

أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها

(6)
أم المؤمنين زينب بنت جحش
رضي الله عنها

وزينب بنت جحش بن رئاب، هي الشابة الشريفة الحسناء، سليلة بني أسد، وحفيدة عبدالمطلب، وابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما زوجها الأول فزيد بن حارثة أو زيد بن محمد كما كانوا يسمونه في مكة والمدينة. ولقد شغل زواج زينب من رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأهلها.. فكيف يتزوج محمد زينبا.. وهو الذي أعلن في الملأ من قريش أن زيدا ابنه وارثا ومورّثا..؟!

وهل يتزوج الرجل من كانت امرأة ابنه..؟! إن ذلك أمر ما كانت تقبله أعراف العرب..! وللإحاطة بملابسات هذا الموضوع نحتاج إلى أن نرجع قليلا إلى الوراء لنتعرف على أبطال قصتنا..

(1) فزيد كان غلاما لحكيم بن حزام بن خويلد.. ثم لعمته خديجة بنت خويلد.. ثم استوهبه منها محمد زوجها فأعتقه.. وزيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب، خرجت به أمه (سعدى) لتزيره أهلها بني معن بن طيء فأصابته خيل من بني القين بن جسر، فباعوه بأسواق العرب فاشتراه حكيم بن حزام.. وكان حارثة أبو زيد قد جزع عليه أشد الجزع، وخرج يلتمسه فوجده في مكة.. فوقف على محمد بن عبدالله وقال له: (يا ابن عبدالمطلب، يا ابن سيد قومه، أنتم جيران الله، تفكون العاني وتطعمون الجائع، وقد جئتك في ابني، فتحسن إليّ في فدائه)..؟ ويسأله محمد:

(أو غير ذلك)؟

ويقول: (ما هو)؟، أجاب محمد:

أدعوه وأخيره، فإن اختاركما فذاك، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا" ويقول والده:

(قد زدت على النصفة).

ودعي زيد، فعرف أباه وعمّه، وخيّره محمد إن شاء ذهب معهما وإن شاء أقام معه.. فاختار محمدا. وتوسل إليه أبوه وعمّه في ضراعة وقالا له:

(يا زيد أتختار العبودية على أبيك وأمك وبلدك وقومك)..؟

فقال زيد: (إني قد رأيت من هذا الرجل شيئا، وما أنا بالذي أفارقه أبدا)..

عندها أخذ محمد بيده، وقام به إلى الملأ من قريش فأشهدهم أن زيدا ابنه وارثا ومورّثا. ومن يومها.. وهو يدعى (زيد بن محمد).

كان زيد أول من أسلم.. وعندما بلغ سن الزواج اختار له المصطفى زينب بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب.

(2) وكرهت زينب، وكره أخوها عبد الله بن جحش أن تزف الحسناء القرشية المضرية إلى مولى من الموالي.

وقالت زينب: (لا أتزوجه أبدا).. ولم يذعنا للأمر حتى نزل فيهما قول الله تعالى: )وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبينا( [1].

وليس بعد الأمر الرباني إلا السمع والطاعة..

(ودخل زيد بزينب. فوجد امرأة مصروفة الفؤاد عنه، تسلمه جسدها، وتحرمه العطف والتقدير، فثارت رجولته وقرر ألا يبقى معها، وتدخل النبي بين الحين والحين لإصلاح ذات البين دون جدوى) [2] .

(3) (في هذه الحال أوصى الله نبيه أن يدع زيدا يطلق زوجته، وأن يتزوجها هو بعد انتهائها منه).

فاعترى الرسول هم مقلق لهذا الأمر المريب، وساوره التوجس من الإقدام عليه بل أخفاه في نفسه خوفا من مغبته، فسيقـول الناس: تزوج امرأة ابنه، وهل تحل!! ولكن هذا الذي سيقوله الناس هو ما أراد الله هدمه، ويجب على النبي أن ينفذه دون تهيب. وقد تريث النبي في إنفاذ أمر الله، ولعله ارتقب من الله -لفرط تحرجه- أن يعفيه منه، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فعندما جاء زيد يشكو امرأته ويعرض نيته في تطليقها، قال له النبي: )أمسك عليك زوجك واتق الله( [3].

عند ذلك نزل الوحي يلوم الرسول على توقفه ويعتب عليه تصرفه، ويحضه على إمضاء رغبة زيد في فراق امرأته، ويكلفه بتزوجها ولو قال الناس تزوج امرأة ابنه، فإن ادعاء البنوة لون من التزوير، تواضع عليه العرب مراغمة للحق وينبغي أن يقلعوا عنه وأن يهدروا نتائجه وليكن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه وبمن التصق به أول ما يهدم مآثر الجاهلية في العرف الشائع.

هذه هي القصة كما رواها القرآن الكريم [4].

)وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله، وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه. فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطرا وكان أمر الله مفعولا( [5].

(4) على أن الغريب في هذه القصة ما زعمه الزاعمون في القديم والحديث.. من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يطلب زيدا مرة فلم يجده، ورفعت الريح سترا من شعر على باب زينب، فانكشف عنها وهي في حجرتها حاسرة، فوقع إعجابها في قلبه.. وزعم من ذكر هذه السفاهات، أن الذي كان يخفيه النبي في نفسه ويخشى فيه الناس هو ميله لزينب، وأن الله -بزعمهم- يعتب عليه عدم التصريح بهذا الميل!

ونقول: هل الأصل الخلقي أن الرجل إذا أحب امرأة لغط بين الناس مشهرا بنفسه وبمن أحب؟ خصوصا إذا كان ذا عاطفة منحرفة، جعلته يحب امرأة رجل آخر؟

هل يلوم الله رجلا، لأنه أحب امرأة آخر، فكتم هذا الحب في نفسه، أكان الله يرفع درجته لو أنه صاغ فيه قصائد غزل؟

إن الذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه تأذيه من هذا الزواج المفروض، وخوفه من لغط الناس عندما يجدون نظام التبني - كما ألفوه- قد انهار[6]..

إن هذا التفسير هو الذي يليق بمقام النبي صلى الله عليه وسلم..

فمن ذا الذي كان يمنع رسول الله أن يتزوج بزينب وهي قريبته ومن أهل بيته..؟ أفبعد أن يضغط عليها وعلى أسرتها ويزوجها من زيد.. يطمع بها..؟

(5) بعد هذه التجربة القاسية التي عاشتها زينب.. وهي تـمتثل لأمر الله في زواجها من زيد بقصد تحطيم الاعتزاز بالأنساب، وتجربتها الجديدة في زواجها من النبي بقصد تحطيم عرف التبني، أبعد ذلك ألا يحق لها أن تطمئن وتستريح وقد أصبحت أما للمؤمنين في بيت رسول الله وهي تدلّ على صاحباتها أمهات المؤمنين وتقول: أنا أكرمكن وليا، وأكرمكن سفيرا زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات [7].

أكرمهن وليا وأكرمهن سفيرا

كانت زينب تدلّ على نساء النبي بأنها أكرمهن وليا وأكرمهن سفيرا.. وكذلك كانت تدل عليهن بجمالها وشرفها وقربها من النبي صلى الله عليه وسلم.

ولهذه الأسباب فقد كانت عائشة رضي الله عنها الحريصة أن تحتل قلب النبي وتستأثر بكامل حبه.. تغار من أم سلمة.. فلما جاءت زينب قالت: لم تكن واحدة من نساء النبي تناصيني غير زينب.

لقد تآمرت عائشة مع حفصة وسودة أيتهن دخل عليها رسول الله اثر انصرافه من عند زينب، فلتقل له: إني أجد ريح مغافير.. في محاولة مـاكـرة لإبعـاده صلى الله عليه وسلم عن بيت زينب.. فقد كان يطيل المكث لديها.

الفضل ما شهدت به الضرائر

هذه الخصومة المحتدمة بين الزوجتين عائشة وزينب.. لم تمنع عائشة من أن تشهد لها بالصلاح والتقى والتدين الصادق.. ففي محنة الإفك التي مرّت بالسيدة عائشة قالت: كان كبر ذلك -الإفك- عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج، مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش، وذلك أن أختها زينب كانت عند رسول الله، ولم تكن امرأة تناصيني في المنزلة عنده غيرها. فأما زينب فعصمها الله تعالى بدينها فلم تقل إلا خيرا، وأما حمنة بنت جحش فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضارني لأختها، فشقيت بذلك... وتزيد عائشة شهادتها وضوحا فتقول: (ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله عزوجل) [8].

وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن زينب بنت جحش أواهة. فقال رجل: ما الأواه يا رسول الله؟ قال: الخاشع المتضرع.

وكانت زينب كريمة خيّرة، تصنع بيدها ما تحسن صنعه ثم تتصدق به على المساكين.. كانت زينب أسرع نساء النبي لحاقا به.. تقول عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا.. فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، ولم تكن بأطولنا، فعرفنا حينئذ أن النبي إنما أراد طول اليد بالصدقة.. وكانت زينب امرأة صناع اليدين تدبغ وتخرز، وتتصدق في سبيل الله.

[1] الأحزاب - 36.

[2] فقة السيرة - محمد الغزالي، ص- 660.

[3] الأحزاب- 37.

[4] فقه السيرة - محمد الغزالي، ص- 661.

[5] الأحزاب - 37.

[6] فقه السيرة- محمد الغزالي .

[7] البخاري.

[8] صحيح مسلم.

جويرية بنت الحارث رضي الله عنها

(7)
جويرية بنت الحارث
رضي الله عنها

أخرج ابن إسحاق عن عائشة رضي الله عنها قالت: لمّا قسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث رضي الله عنها في السهم لثابت بن قيس بن شمّاس أو لابن عمّ له، فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلو مُلاحة (شديدة الحسن) لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، في نحو العشرين من عمرها. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتستعينه في كِتابتها، قالت عائشة: (فوالله ما هو إلا أن رأيتُها على باب حجرتي فكرهتها، وعَرفتُ أنه سيرى منها ما رأيتُ) فدخلت عليه فقالت: (يا رسول الله أنا بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخفَ عليك، فوقعتُ بالسهم لثابت بن قيس ابن شمّاس، فكاتبتُه على نفسي فجئتُك استعينُكَ على أمري)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فهل لك في خير من ذلك)؟ قالت: (وما هو يا رسول الله)؟ قال: (أقضي عنك كتابتك وأتزوجك)، قالت: (نعم، يا رسول الله قد فعلت). قالت: (وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية بنت الحارث)، فقال الناس: (أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا ما بأيديهم)، قالت: (فلقد أُعتِقَ بزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مائة بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها) [1].

• وقعت غزوة بني المصطلق في السنة السادسة للهجرة. فقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق بزعامة الحارث بن أبي ضرار يعدّون العدة لحرب المسلمين، فندب رسول الله أصحابه للجهاد، وخرج بهم مسرعا وكانوا سبعمائة مقاتل. وبلغ رسول لله صلى الله عليه وسلم بأصحابه إلى ماء لهم يقال له (المُريسيع).

التقى الجمعان فعرض عليهم النبي الإسلام ليمنعوا أنفسهم وأموالهم فأبوا، فأخذهم أصحاب النبي ولم يغادروا منهم أحدا. أسـروا الرجـال وغنموا الأموال وسبوا النساء واستاقوا نعمهم وشاءهم.

• أما جويرية فهي بنت سيد القوم الحارث بن أبي ضرار، نشأت في ظل سيادة أبيها في عز وسؤدد.

تزوجت من مسافع بن صفوان أحد فتيان خزاعة، وقد قتل عنها مشركا فيمن قتل في الحرب التي خطط لها أبوها وقومها.

ووجدت جويرية نفسها في موقف صعب. انتقلت فيه فجأة من أعز فتاة في قومها فهي بنت سيد القوم وزوجة فارسهم.. تدّل على الجميع بحسبها ونسبها وجمالها ومالها.. وإذا بها اليوم أسيرة ذليلة تساق مع السبايا لتقع في سهم رجل من أطراف الناس يدعى ثابت بن قيس بن شمّاس.

وفي ظلال هذه المحنة.. جاءتها الفكرة.. فلم لا تكاتب على نفسها.. وتلجأ إلى النبي تحادثه في أمرها..؟

ولقد ترجح عندها أن تجد لدى النبي حلا ومخرجا. ولربما أدركت بعقلها الراجح وتفكيرها الحصيف أن النبي وحده من يستطيع أن يفهم مأساتها فينقذ سيدة قوم ذلت وهانت وأسرت!

وبلغة عاطفية مؤثرة.. أضفى عليها الجمال الحزين مزيدا من التأثير.. قالت: (أنا بنت سيد القوم، أصابني من البلاء ما لا يخفى عليك، فجئتك أستعينك". كلام مختصر وبليغ ومؤثر).

ولقد أصابت جويرية.. فوجدت عند النبي ما كانت ترجو. يسألها النبي: (فهل لك خير من ذلك).. وتسأل: (وما هو يا رسول الله)..؟ فيجيب: (أقضي عنك كتابتك وأتزوجك.. وتقول: (نعم يارسول الله).. ويقول النبي: (قد فعلت) [2]..

ولا أعرف.. هل أوصلها فكرها، يوم كاتبت عن نفسها وجاءت تخاطب النبي، إلى مثل هذه النتيجة: بأن تصبح زوجة كريمة في بيت النبي..؟

هل تصورت أن تخلص من ذل الأسر لتصبح سيدة ليـس لبني المصطلـق فحسـب، بـل ولجميع نساء العالمين.. وأمّا لجميع المؤمنين..؟

ويتسامع المسلمون بالخبر.. فيطلقون كل من كان من الأسرى من قومها.. ويسمع والدها الحارث بالخبر.. فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وتدخل العروس بيت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، (وما من امرأة أعظم على قومها بركة منها: أعتق بزواجها، أهل مائة بيت من بيوت بني المصطلق) [3].

مفارقات

كرهت عائشة رضي الله عنها جويرية منذ رأتها.. فقد عرفت بحسها الأنثوي أن رسول الله سيرى منها ما رأت.. وتحقق ظنها.. ودخلت الأسيرة الحسناء بيت النبي أما للمؤمنين.. أما عائشة فقد كانت في هم مقيم.. فما لبثت أن شغلت عن جويرية وغيرها.. بما أعقب تخلفها عن الركب العائد من بني المصطلق، من قيل وقال في قصة الإفك.

توفيت جويرية رضي الله عنها سنة خمسين وهي بنت خمس وستين سنة.. ودفنت في البقيع إلى جانب أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين..

[1] حياة الصحابة 1: 664 منقولا عن البداية 5: 159.

[2] هذا الحوار في السيرة 3: 307.

[3] هذا القول للسيدة عائشة أم المؤمنين.


صفية أم المؤمنين رضي الله عنها

(8)
صفية أم المؤمنين
رضي الله عنها

انتهت السنة السادسة للهجرة، وقد تم فيها صلح الحديبية.

وبزغ هلال المحرم من سنة سبع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتهيأ لمعركة خيبر. فقد كشفت له معركة الخندق عما ينطوي عليه اليهود من حقد، وما يبيتون للإسلام من شر، وفتحت حصون خيبر حصنا حصنا، وقتل رجال وسبيت نساء.. وكانت صفية عقيلة بني النضير من بينهن.. فأنقذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقها، وتزوجها.

وصفية هي بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير، ينتهي نسبها فيما يقال إلى هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام، وأمها برّة بنت سموءل.

تزوجت من سلام بن مشكم فارس قومها وشاعرهم.. ثم خلف عليها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق صاحب حصن (القموص) أعز حصن في خيبر.

اقتحم المسلمون الحصن بعد قتال مرير، وجيء بكنانة حيّا، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله الرسول عنه، فنفى أن يكون يعرف مكانه، فقال له رسول الله: (أرأيت إن وجدناه عندك. أأقتلك؟ قال كنانة: (نعم).

فلما اكتُشِفَ مخبأ الكنز عنده، دفعه المصطفى إلى (محمد بن سلمة) فضرب عنقه بأخيه (محمود بن سلمة) الذي قتله اليهود في المعركة [1].

وسيقت نساء القموص سبايا، وفي مقدمتهن زوجة كنانة.

يحدث أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ صفية بنت حيي، قال لها: (هل لك فيّ)..؟

قالت: (يا رسول الله.. قد كنـت أتـمنّى ذلك في الشرك.. فكيف إذا أمكنني الله منه في الإسلام)..؟ فاعتقها عليه الصلاة والسلام وتزوجها [2].

وصفية يوم تزوجهـا رسـول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن قـد جاوزت السابعة عشرة من عمرها.. ومع ذلك فهي امرأة عاقلة، تتصرف بحكمة لا ينتظرها الإنسان ممن هنّ في مثل سنّها.

• فعندما تزوج رسول الله صفية وأراد أن يعرس بها، تمنعت وأبت عليه أن يفعل. فوجدها صلى الله عليه وسلم في نفسه، وشقّ عليه تـمنعها ورفضها. فلما كان بالصهباء في الطريق إلى المدينة نزل يستريح، فبدا له أن صفية متهيئة للعرس: جاءتها ماشطة فمشطتها وجملتها وعطرتها. وظهرت صفية عروسا تأخذ العين بسحرها.. وأقبلت على رسول الله.. فسألها: "ما حملك على إبائك في المنزل الأول..؟ فأجابت: (خشيت عليك قرب اليهود) [3].

فهي تعرف قومها ومكرهم.. فخشيت على رسول الله من مكرهم.. وهذا التصرف الذي أبدته صفية، انتبه له عقلاء الصحابة.. فقد روى ابن هشام في السيرة: أن أبا أيوب الأنصـاري بـات يقظان ساهرا متوشحا بسيفه، يطيف بالقبة التي دخل فيها النبي صلى الله عليه وسلم على صفية، فلما أصبح رسول الله سمع حركته ورأى مكانه فسأله: مالك يا أبا أيوب؟

أجاب: (يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة، قد قتلت أباها وزوجها وقومها، وكانت حديثة عهد بكفر، فخفتها عليك).

فدعا له الرسول وقال: (اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني) [4].

• وينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه صفية فيرى بعينها خضرة (سوادا) فقال لها: (ما هذه الخضرة بعينيك)..؟ قالت: (قلت لزوجي كنانة بن الربيع -في ليلة عرسي- إني رأيت فيما يرى النائم كأن قمرا وقع في حجري، فلطمني). وقال: (أتريدين ملك يثرب) [5]؟

إن موقع صفية في بيت أبيها حيي زعيم بني النضير، مكّنها من الإطلاع على خبايا الفكر اليهودي المتعصب الحاقد.. كانت تسمعهم يحذرون العرب وهم أهل شرك وأوثان، من أن نبيا سيبعث، قد أظل زمانه، نتبعه، فنقتلكم معه، قتل عاد وارم، وكانوا يصفونه لهم بصفاته.

فلما بُعث النبي الخاتم وهاجر إلى المدينة سمعت صفية بأذنيها ما دار بين أبيها وعمها.. ولنستمع إليها تحدثنا. قالت:

(كنت أحبَّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني دونه. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، غدا عليه أبي وعمي مغلّسين، فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس، فأتيا كالّين ساقطين يمشيان الهوينا. فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليّ أحد منهما مع ما بهما من الغم. وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي:

أهو هو؟ قال: نعم والله.

قال عمي: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟ أجاب: عداوته والله ما بقيت [6].

فهل يستغرب أحد بعد ذلك أن تحلق صفية في أجواء الدين الجديد.. وأن ترى قمرا يقع في حجرها.. فتؤمن بالنبي ويحسن إسلامها.. يقول رسول الله لعائشة: كيف رأيتها..؟ فتجيب: رأيت يهودية. ويرد عليها رسول الله: لا تقولي ذلك، فإنها أسلمت وحسن إسلامها [7].

أبي هارون وعمّي موسى

حاولت صفية أم المؤمنين رضي الله عنها، بلباقة طبعها، وحذرها المعهود فيها، أن تأخذ طريقا وسطا بين الضرائر في بيت النبي.. تقربت من حزب عائشة- حفصة من جانب، ومن الحزب الآخر الذي تقوده أم سلمة وزينب والزهراء من جانب آخر.. ومع ذلك فما أكثر ما سمعت التعريض جهرا أو تلميحا بالدم اليهودي الذي يجري في عروقها..

كانت تتمتع باستمرار بحماية النبي وعطفه.. فعندما رآها تبكي لكلام سمعته من أمهات المؤمنين.. قال لها النبي: ألا قلت: وكيف تكونان خيرا منّي، وزوجي محمد، وأبي هارون، وعمي موسى..؟

روي أن أمهات المؤمنين اجتمعن حول فراش الرسول صلى الله عليه وسلم في مرضه الأخير، فقالت صفية: (إني والله، لوددت أن الذي بك بي.. فما كان من أزواجه إلا أن غمزن ببصرهن فما راعهن إلا أن قال رسول الله: مَضْمِضْنَ! تساءلن في دهشة: من أي شيء؟ قال: من تغامزكن بها.. والله إنها لصادقة[8].

المعركة السياسية

شاركت أم المؤمنين صفية رضي الله عنها في المعركة السياسية التي جرت أيام عثمان.. فكانت شديدة الولاء لأمير المؤمنين عثمان.. ولقد وضعت معبرا بين منزلها ومنزل عثمان، فكانت تنقل إليه الطعام والماء.. وهو في محنة الحصار[9].

ماتت صفية في خلافة معاوية.. ودفنت بالبقيع مع أمهات المؤمنين.. رضي الله عنها وأرضاها.

[1] سيرة ابن هشام 3: 351.

[2] نساء النبي- بنت الشاطئ، ص-193، نقلا عن طبقات ابن سعد 2 : 85.

[3] السيرة - ابن هشام 3: 350.

[4] السيرة - ابن هشام 3: 355.

[5] السيرة- ابن هشام 2: 165.

[6] السيرة - ابن هشام 2: 165.

[7] رواه ابن ماجة.

[8] الإصابة في معرفة الصحابة - ابن حجر العسقلاني.

[9] الاصابة في معرفة الصحابة - ابن حجر العسقلاني.

أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها

(9)
أم المؤمنين أم حبيبة
رضي الله عنها

أخرج الزبير بن بكار عن إسماعيل بن عمرو أن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: (ما شعرت وأنا بأرض الحبشة إلا برسول النجاشي -جارية يقال لها أبرهة، كانت تقوم على ثيابه ودهنه- فاستأذنت عليّ فأذنت لها، فقالت: إن الملك يقول لك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجكه، فقلت بشرك الله بالخير، وقالت: يقول لك الملك: وكّلي من يزوجك، قالت: فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه فوكلته، وأعطيت أبرهة سوارين من فضة وخدَمتين من فضة كانتا عليّ، وخواتيم من فضّة في كل أصابع رجلي سرورا بما بشرتني به، فلما أن كان من العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومن كان عنده من المسلمين أن يحضروا، وخطب النجاشي وقال: الحمد لله الملك القدوس المؤمن العزيز الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم.

أما بعد: فإن رسول لله صلى الله عليه وسلم طلب أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصدقتها أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم، فتكلم خالد بن سعيد، فقال: الحمد الله أحمده وأستغفره، وأشهد أن لا أله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد: فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفع النجاشي الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا فإن من سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا) [1].

قالت أم حبيبة: (فلما وصل إلي المال أرسلت إلى أبرهة التي بشرتني فقلت لهـا: إني كنـت أعطيتـك ما أعطيتك يومئذ ولا مال بيدي وهذه خمسون دينارا فخذيها فاستعيني بها، فأخرجت إلي حقة فيها جميع ما أعطيتها فردّته إليّ وقالت: عزم عليّ الملك أن لا أرزأك شيئا وأنا التي أقوم على ثيابه ودهنه، وقد اتبعت دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلمت لله، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر. فلما كان الغد جاءتني بعود وورس وعنبر وزباد كثير، وقدمت بذلك كله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يراه عليّ وعندي فلا ينكر، ثم قالت أبرهة: فحاجتي إليك أن تقرئي رسول الله صلى الله عليه وسلم منّي السلام وتعلميه أني قد اتبعت دينه. قالت: ثم لطفت بي وكانت هي التي جهزتني وكانت كلما دخلت علي تقول: لا تنسي حاجتي إليك.قالت فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرأته منها السلام، فقال: (وعليها السلام ورحمة الله وبركاته) [2].

وأم حبيبة هي رملة بنت أبي سفيان زعيم مكة وقائد معسكر الشرك يومذاك، وزوجها هو عبيد الله بن جحش الأسدي، ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقصة أم حبيبة منذ كانت رملة بنت أبي سفيان وحتى أصبحت أم المؤمنين، ذات فصول كثيرة، وكلها مثيرة..

• فمن هذه الفصول إسلام عبيد الله بن جحش وإسلام زوجه معه.. وهكذا أصبحت رملة في طريق ووالدها في طريق آخر..

• ومن فصولها هجرتها مع زوجها إلى الحبشة، والتي أحدثت شرخا آخر في بيت أبي سفيان، فها هي ابنته تهجر مكة وتهجر أباها وتهاجر إلى بلاد بعيدة في سبيل دينها.

• وما أن تستقر رملة في الحبشة وترزق بطفلتها (حبيبة) حتى يتنصر زوجها ويحاول أن يردها عن دينها الإسلام وهو يقول لها: يا أم حبيبة، إني نظرت في الدين فلم أر دينا خيرا من النصرانية، وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد، ثم رجعت إلى النصرانية.

فقلت: والله ما هو خير لك.. وأكبّ على الخمر حتى مات..

فيم كانت الهجرة إذن، وفيم كان عذاب الاضطهاد ومحنة التشرد وأشجان الاغتراب، ومرارة التنكر للآباء والأجداد، وهذا هو يصبأ عن الإسلام الذي من أجله احتملت رملة كل ذلك، ورضيت أن تذيق أباها القهر والحسرة..؟

واعتزلت رملة الناس شاعرة بالخزي لفعلة الرجل الذي كان لها زوجا ولا يزال لطفلتها أبا..

وأغلقت الباب عليها وعلى طفلتها حبيبة مضاعفة الغربة، لا تريد أن تلقى الناس في دار هجرتها، ولا سبيل لها إلى أرض الوطن، حيث أبوها يعلن حربا شعواء على النبي الذي صدقته وآمنت به[3].

ومن قلب الضيق.. يأتيها الفرج..

فقد أحس النبي -على البعد- بمأساة أم حبيبة.. التي فقدت زوجها.. وفقدت موطنها.. وعافت أباها من أجل دينها.. فما شعرت ذات يوم إلا وطرقات تلح على بابها الموصد.. فتحته وإذا هي أمام بشارة النجاشي بأن محمدا يخطبها لنفسه..

وهكذا وجدت أم حبيبة نفسها أماً للمؤمنين، وسط حفاوة المسلمين الذين مازالوا على أرض الحبشة ووسط رعاية وإكرام النجاشي حاكم تلك البلاد.

ما أدري بأيهما أسر..؟

استقرت الأمور في المدينة المنورة لصالح الدولة المسلمة.. فانكسرت شوكة قريش واعترفت بالدين الجديد، واستسلم اليهود بعد معارك فاصلة كانت آخرها معركة خيبر لسلطان المسلمين في جزيرة العرب.. وآن للمهاجرين المستضعفين الذين هاجروا إلى الحبشة أن يعودوا.. فقد أصبحت دار الإسلام دار أمان ومنعة. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي يشكره على حسن استضافته للمهاجرين المسلمين ويطلب منه الإذن بعودتهم إلى ديارهم.. وكانت فرحة المدينة فرحتان.. عبّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أدري بأيهما أنا أسر: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر.. ومع هؤلاء كانت أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب تنتظر النبي صلى الله عليه وسلم ليحملها إلى بيته، وقد مضى على زواجهما بضع سنين..

واحتفلت المدينة بهذا الزواج ..و أولم خال العروس (عثمان بن عفان) للمسلمين وليمة حافلة .. وعلّق عليه أبو سفيان فقال : (هو الفحل لا يجدع أنفه) [4].

وجاء دور مكة.. الحلقة الأخيرة في معسكر الشرك.. فقد نقضت قريش عهد الحديبية، وشعرت بخطورة الموقف.. فلم يعد لها قبل بمحمد وجنوده.. فقررت أن تبعث زعيمها أبا سفيان يفاوض عنها.. يعتذر عن الغدر ويطمع بأن يجدد محمد الهدنة.. وتهيب أبو سفيان لقاء محمد.. فرأى وهو السياسي المحنك أن يتوسل بابنته أم المؤمنين أم حبيبة إلى لقاء القائد المظفر محمد صلى الله عليه وسلم.

(وفوجئت به أم المؤمنين يدخل بيتها، ولم تكن قد رأته منذ هاجرت إلى الحبشة، فوقفت تجاهه بادية الحيرة، لا تدري ماذا تفعل أو ماذا تقول.. وعندما أراد الجلوس.. اختطفت الفراش.. ويسألها أبوها: أطويته يا بنية رغبة بي عن الفراش، أم رغبة بالفراش عني؟

وجاء الجواب: (هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك، فلم أحب أن تجلس عليه)!

ولم يستطع أبو سفيان أن يزيد عن قوله: لقد أصابك يا بنية بعدي شر [5].

وتم الفتح.. وفرح المسلمون بعودة الإسلام إلى مكة أم القرى.. وكانت فرحة أم المؤمنين فرحتين.. فرحتها بفتح مكة.. وفرحتها بإسلام أبيها. وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن..

سررتني سرك الله

وأحسّت أم حبيبة بدنو الرحيل، فدعت إليها عائشة فقالت لها: (وقد كان بيننا، ما يكون بين الضرائر.. فتحللينني من ذلك..؟ فحللتها عائشة واستغفرت لها، وأضاء وجهها بنور الرضا وهمست: سررتني سرّك الله). ورقدت أم حبيبة بسلام في البقيع إلى جانب أمهات المؤمنين.. بعد رحلة العمر الطويلة الشاقة.

[1] البداية 4: 143.

[2] ابن سعد 8: 97.

[3] نساء النبي- بنت الشاطئ، ص- 198.

[4] تاريخ الطبري 3: 90.

[5] سيرة ابن هشام 4: 38.

أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها

(10)
أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية
رضي الله عنها

أخرج الحاكم عن ابن شهاب قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام القابل عام الحديبية معتمرا في ذي القعدة سنة سبع وهو الشهر الذي صدّه فيه المشركون عن المسجد الحرام، حتى إذا بلغ يأجُج بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة بنت الحارث بن حَزن العامرية فخطبها عليه، فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وكانت أختها أم الفضل تحته، فزوجها العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام النبي صلى الله عليه وسلم بسرف (موضع قرب مكّة) بعد ذلك بحين حتى قدمت ميمونة فبنى بها بسَرِف. وقدر الله تعالى أن يكون موت ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها بعد ذلك بحين، فتوفيت حيث بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم [1].

وميمونة هي برة بنت الحارث الهلالية، إحدى أخوات أربع قال فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأخوات المؤمنات)..

أما الأولى: فهي أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث زوج العباس بن عبد المطلب، أول امرأة آمنت بعد خديجة رضي الله عنها. وهي التي ضربت أبا لهب عدو الله ورسوله، حين دخل بيت أخيه العباس فاحتمل مولاه (أبا رافع) فضربه بالأرض ثم برك عليه يضربه لأنه أسلم. فقامت أم الفضل إلى عمود فشجت رأس أبي لهب شجة منكرة، فما عاش بعدها إلا سبع ليال حتى رماه الله بداء قتله[2].

والثانية: أختها لأمها زينب بنت خزيمة الهلالية العامرية. كانت زوجة لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فلما استشهد في بدر ضمها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فجبر خاطرها بعد أن انقطع عنها الناصر والمعين. وكانت قد بلغت الستين من عمرها حينما تزوج بها النبي صلى الله عليه وسلم.

كانت تسمى أم المساكين لرحمتها إياهم ورقتها عليهم.

والثالثة: أختها لأمها أسماء بنت عميس الخثعمية زوج جعفر بن أبي طالب، وقد تزوجت من بعده أبا بكر ثم خلف عليها الإمام علي.

والرابعة: أختها لأمها سلمى بنت عميس زوج حمزة بن أبي طالب.

وأمهن جميعا، هند بنت عوف بن زهير، التي قيل فيها: (أكرم عجوز في الأرض أصهارا هند بنت عوف) أصهارها: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وحمزة والعباس ابنا عبد المطلب وجعفر وعلي ابنا أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

واختلفت الروايات في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة..

ففي حين تذكر بعض الروايات أن برّة وقد كانت في السادسة والعشرين من عمرها، مات عنها زوجها أبو رهم بن عبد العزى العامري، فأفضت إلى شقيقتها أم الفضل بما يهفو إليه قلبها، فتحدثت به إلى زوجها العباس، فمضى من فوره إلى ابن أخيه وعرض عليه أمر برّة، فاستجاب النبي صلى الله عليه وسلم وبعث ابن عمه جعفر -زوج أختها أسماء- يخطبها.

وفي رواية أخرى أن برّة هي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تبارك وتعالى فيها: )وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين( [3].

وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قدم وأصحابه مكة في السنة السابعة للهجرة لأداء العمرة، فلما بلغ يأجج بعث بجعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة فخطبها عليه.

والرواية الأخيرة.. هي التي تتسق - والله أعلم- مع مقاصد زواج النبي صلى الله من ميمونة.. فبالإضافة إلى أنها من أكرم بيوتات مكة.. وأصهارها من أعظم الرجال.. وباستثناء أبي بكر فهم أبناء وأحفاد عبدالمطلب.. بالإضافة إلى ذلك.. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفكر في مكة.. وفي قريش التي وقفت عاتية جبارة في وجه الدين الجديد.. ومازالت قبائل العرب تنتظر موقفها قبل أن تقبل على الإسلام.. من أجل ذلك.. قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية بشروطـه التي بدت مجحفة بحـق المسلمين.. مقابل أن يحصل على اعتراف قريش بالإسلام كقوة أخرى موجودة في جزيرة العرب.. وهو اليوم يدخل مكّة وبوده لو لم يفارقها.. فما عليه لو تزوج من مكة وطلب إليهم لو يمهلوه ريثما يتم الزواج، فيكسب بهذا الإمهال مزيدا من الوقت.. ليمكّن للإسلام من هؤلاء.

فلما جاءه مبعوث قريش يطالبه بالخروج، إذ انقضى الأجل المنصوص عليه.. قال: ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم، وصنعنا لكم طعاما فحضرتـموه..؟ وفهم أهل مكة الأمر، وأدركو أن أياما أخرى لمحمد بين ظهرانيهم قد تفتح له أبواب مكّة طائعة مختارة.. فأجاب مبعوث مكّة: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنّا.

وخرج رسول الله من مكّة.. لم تنجح الخطة الميمونة.. ولكن برّة بنت الحارث التي سماها رسول الله (ميمونة) هي التي ربحت، فبنى بها رسول الله في سرِف قرب التنعيم ودخلت معه المدينة تحمل لقب أم المؤمنين.

ودخلت ميمونة بيت النبي مسالمة، قد اكتفت من دنياها بما منّ الله عليها به من نعمة الإسلام، وشرف الزواج بالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام.

عاشت ميمونة تذكر اليوم الميمون الذي جمعها بالنبي وتحن إلى سِرف حيث بنى بها.. وقد أوصت أن تدفن عندما تموت في موضع قبتها هناك.. فلما ماتت صلى عليها ابن اختها عبد الله بن عباس وأرقدها حيث أحبت.

عندما ذكرت عائشة ميمونة قالت: (أما إنها كانت والله من أتقانا لله، وأوصلنا للرحم).

[1] الحاكم 4: 30.

[2] سيرة ابن هشام 2: 301.

[3] الأحزاب - 50.

مارية القبطية رضي الله عنها

(11)
مارية القبطية
رضي الله عنها

ولدت مارية في قرية تدعى حفن قريبة من بلدة (أنصنا) من صعيد مصر، لأب قبطي يدعى شمعون وأم مسيحية رومية.

وفي بداية شبابها الباكر انتقلت مع أختها (سيرين) إلى قصر المقوقس عظيم مصر.

وعندما كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية زعماء الدول المجاورة.. كان المقوقس ممن كاتبهم وأرسل إليه حاطب بن أبي بلتعة يدعوه إلى الإسلام ومما جاء في الرسالة: (أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين).

وأحسن المقوقس لقاء رسول رسول الله وأخبره بأن القبط لا يطاوعوه على ترك دينه.. ومع ذلك فقد أكرم وفادة (حاطب) رسول رسول الله وكتب له: قد أكرمت رسولك، وبعثت لك بجاريتين لهما مكان من القبط عظيم وبكسوة ومطية لتركبها والسلام عليك [1].

وتقبل رسول الله الهدية وأعجبته مارية فاحتفظ بها، ووهب أختها سيرين لحسان بن ثابت رضي الله عنه. وأنزلها رسول الله بمنزل لحارثة بن النعمان قرب المسجد.

وإذا كانت زعيمة الضرائر عائشة رضي الله عنها قد قللت من شأنها في البداية.. إلا أن كثرة تردد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ومكثه الطويل عندها.. دعاها لإعادة حساباتها..!

كانت مارية، تفكر باستمرار في سيدة مصرية جاءت إلى هذه الديار قبلها وتزوجت من النبي إبراهيم عليه السلام، وأنجبت له إسماعيل نبيا ابن نبي..

وعندما شعرت مارية ببوادر الحمل.. كانت تتمنى أن يختم الله حياتها فتصبح أما لولد محمد صلى الله عليه وسلم كما كانت هاجر أما لولد إبراهيم.

وخاف الرسول على مـارية فنقلهـا إلى العالية بضواحي المدينة، توفيرا لراحتها وسلامتها، وعناية بصحتها وصحة جنينها. وسهر عليها يرعاها، وكذلك فعلت أختها سيرين.

وعندما بلغ الجنين أجله وحانت ساعة الولادة ذات ليلة من شهر ذي الحجة سنة ثمان للهجرة، دعا رسول الله قابلتها (سلمى زوج أبي رافع)، ثم انتحى ناحية من الدار يصلي ويدعو..

وجاءت أم رافع بالبشرى.. وخفّ رسول الله إلى مارية فهنأها.. ثم حمل وليده بين يديه مستثار الفرح والحب وسماه إبراهيم تيمنا باسم جد الأنبياء.

وخيل لمارية أنها نالت مناها.. فهذه هي تلد للنبي ولدا.. كما ولدت زميلتها من قبل (هاجر) لإبراهيم ابنه إسماعيل..

ولم تكتمل سعادة الأبوين.. فقد مرض إبراهيم وتوفي ولما يبلغ العامين من عمره بعد.. يقول سيدنا الرسول الحزين على ابنه: إنا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئا، يا إبراهيم لولا أنه أمر حق ووعد وصدق، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنّا عليك حزنا هو أشد من هذا. وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون. تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب.

ثم نظر إلى مارية في عطف ورثاء وقال: إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين تكملان رضاعته في الجنة [2].

وآب المشيعون واجمين، وقد غام الأفق وانكسفت الشمس، فقال قائلهم: إنها انكسفت لموت إبراهيم.. فقال رسول الله: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته [3].

وحرمت مارية من ولدها الذي قرت به عينها حينا، ثم لم تلبث إلا القليل حتى حرمت من الرسول الذي أوصي المسلمين فقال: استوصوا بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما.

وانتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى، وترك مارية تعيش من بعده خمس سنوات.. لا تكاد تخرج إلا لتزور قبر الحبيب محمد.. أو قبر ولدها فلما ماتت سنة ستة عشرة من الهجرة صلي عليها سيدنا عمر رضي الله عنه ودفنها بالبقيع [4].

[1] تاريخ الطبري 3: 85.

[2] رواه مسلم.

[3] رواه مسلم.

[4] نساء النبي - بنت الشاطئ، ص- 226.

مراجع البحث

1- عائشة والسياسة - سعيد الأفغاني.

2- شبهات وأباطيل حول تعدد زوجات الرسول - محمد علي الصابوني.

3- حقوق النساء في الإسلام - محمد رشيد رضا.

4- الإسلام والمرأة - سعيد الأفغاني.

5- البخاري ومسلم.

6- مسند الإمام أحمد.

7- أمهات المؤمنين - محمد أحمد برانق.

8- صور من حياة الرسول - أمين دويدار.

9- خديجة أم المؤمنين - عبد الحميد الزهراوي.

10- المرأة صانعة الأبطال - د. نشأة ظبيان.

11- نساء النبي - بنت الشاطئ.

12- زوجات النبي الطاهرات- محمد محمود الصواف.

13- السيرة النبوية - ابن هشام.

14- تاريخ الطبري.

15- في ظلال القرآن - سيد قطب.

16- سير النبلاء - الذهبي.

17- منهاج السنة - ابن تيمية.

18- حياة الصحابة - الكاندهلوي.

19- فقه السيرة - محمد الغزالي.

20- سنن ابن ماجه.

21- الإصابة في معرفة الصحابة - ابن حجر العسقلاني.

22- البداية والنهاية - ابن كثير.

23- المرأة في موكب الدعوة - مصطفى محمد الطحان.

كتب للمؤلف

1-الفكر الحركي بين الأصالة والانحراف (اللغة العربية- التركية).

2- الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا.

3- القومية بين النظرية والتطبيق (اللغة العربية - التركية).

4- نظرات في واقع المسلمين السياسي

5- نظرات في واقع الدعوة والدعاة.

6- القيادة في العمل الإسلامي (اللغة العربية - الأوردية- أندونيسي- بوشتو).

7- في التدريب التربوي (اللغة العربية- الانكليزية - التركية - التامل - الأردو - كردي).

8- حاضر العالم الإسلامي - 1991م.

9- حاضر العالم الإسلامي - 2991م (اللغة العربية - التركية).

10- فلسطين والمؤامرة الكبرى (اللغة العربية - التركية- الأوردو).

11- مستقبل الإسلام في القوقاز وبلاد ما وراء النهر (اللغة العربية- التركية- الأوردو).

12- دور الشباب المسلم في إعادة بناء الأمة.

13- النظام الإسلامي منهاج متفرد.

14- رد على كتاب آيات شيطانية.

15- شخصية المسلم المعاصر (اللغة العربية- التركية - الأوردو - الانكليزية - الألبانية - البولندية - الفلبينية).

16- الإسلام دعوة التحرير (بالاشتراك مع كتاب آخرين).

17- الصراع الحضاري ودور الشباب المسلم.

18- كيف نعالج المجاعة في أفريقيا - الظاهرة والحل.

19- المرأة في موكب الدعوة ( اللغة العربية - الأوردية - الألبانية).

20- تحديات سياسية تواجه الحركة الإسلامية (اللغة العربية - الأوردو - الإنكليزية - الاندونيسية).

21- صفات الداعية المسلم.

22- رسالة المسلمين في بلاد الغرب (بالإشتراك مع كتاب آخرين).

23- أمهات المؤمنين في مدرسة النبوة.

24- العولمة تعيد صياغة العالم.

25- التربية ودورها في تشكيل السلوك.

26- دليل العمل الطلابي (اللغة العربية - الاندونيسية).

27- القدس والتحدي الحضاري.

28- الفكر الإسلامي الوسط (دراسة في فكر الإخوان المسلمين).

29- معالم تربوية (التربية بالقصة) - الجزء الأول.

30- العمل الجماعي (أهميته ومشروعيته).

31- الشورى ودورها في بناء الفرد والمجتمع.