الفرق بين المراجعتين لصفحة: «أيام من حياتي»

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
سطر ٢٥١: سطر ٢٥١:
وخلاصة المخاوف : أن هذه الحركة الإسلامية ستقضي على كل فكر مغاير ل[[لإسلام]] . هذا ما وصلنا إجمالا عما تحويه تقارير المخابرات الأمريكية والروسية ل[[عبد الناصر]]، ومن ناحية أخرى فان [[عبد الناصر]] اعتبر أن البعث الإسلامي بمثابة قضاء تام على حكمه الدكتاتوري الغاشم . . وفى أوائل [[أغسطس]] [[1965]] وصلتني أخبار عن إعداد قائمة من المطلوب اعتقالهم من رعيل رسالة التربية الجديدة والفكر الذي أقام من الشباب جواهر نورانية تتحرك ب[[الإسلام]] . كما كان يتحرك به رجال من الصدر الأول في فجر الرسالة إلى دار ابن أبى الأرقم ، ويتصدر القائمة الأستاذ الشهيد [[سيد قطب]] ، [[زينب الغزالي|زينب الغزالي الجبيلي]]، [[عبد الفتاح عبده إسماعيل]] ، [[محمد يوسف هواش]] . وفى الخامس من [[أغسطس]] وصلتني أخبار اعتقال الشهيد [[سيد قطب]] . كنت مجتمعة مع بعض الأخوات حين جاءتني مكالمة هاتفية قيل لي فيها: إن منزل [[سيد قطب]] قد فتش وبحث فيه عنه . وكان شقيقة الأستاذ محمد قد اعتقل في [[مرسى مطروح]] قبل أيام ، فطلبت زوجي في رأس البر ورجوته أن يطمئننى على [[سيد قطب]] وجاءت مكالمة زوجي بعد ساعة تؤكد اعتقاله .
وخلاصة المخاوف : أن هذه الحركة الإسلامية ستقضي على كل فكر مغاير ل[[لإسلام]] . هذا ما وصلنا إجمالا عما تحويه تقارير المخابرات الأمريكية والروسية ل[[عبد الناصر]]، ومن ناحية أخرى فان [[عبد الناصر]] اعتبر أن البعث الإسلامي بمثابة قضاء تام على حكمه الدكتاتوري الغاشم . . وفى أوائل [[أغسطس]] [[1965]] وصلتني أخبار عن إعداد قائمة من المطلوب اعتقالهم من رعيل رسالة التربية الجديدة والفكر الذي أقام من الشباب جواهر نورانية تتحرك ب[[الإسلام]] . كما كان يتحرك به رجال من الصدر الأول في فجر الرسالة إلى دار ابن أبى الأرقم ، ويتصدر القائمة الأستاذ الشهيد [[سيد قطب]] ، [[زينب الغزالي|زينب الغزالي الجبيلي]]، [[عبد الفتاح عبده إسماعيل]] ، [[محمد يوسف هواش]] . وفى الخامس من [[أغسطس]] وصلتني أخبار اعتقال الشهيد [[سيد قطب]] . كنت مجتمعة مع بعض الأخوات حين جاءتني مكالمة هاتفية قيل لي فيها: إن منزل [[سيد قطب]] قد فتش وبحث فيه عنه . وكان شقيقة الأستاذ محمد قد اعتقل في [[مرسى مطروح]] قبل أيام ، فطلبت زوجي في رأس البر ورجوته أن يطمئننى على [[سيد قطب]] وجاءت مكالمة زوجي بعد ساعة تؤكد اعتقاله .


وقررنا تأجيل الاجتماع بالأخوات حتى نرى ماذا بعد الاعتقالات ، وكان اعتقال [[سيد قطب]] كالصاعقة بالنسبة لجميع الشباب ، فضلا عنا نحن ، فقد كان [[الهضيبي]] قد أوكل كل المسئوليات لسيد قطب ، وكانت اتصالاتنا كلها به حسب أمر [[حسن الهضيبي|الهضيبي]]، وكان علينا بعد اعتقاله أن نرجع إلى [[المرشد العام]] ، نستأذنه فيمن يتولى المسئولية بدلا من سيد. كنت أنا وعبد الفتاح ، نفكر فيما حدث قبل أن يحدث بخمسة أيام ، فلما حدث ، زارني عبد الفتاح وكلفني بالسفر لرؤية المرشد في [[الإسكندرية]] وقدم لي أحد أبنائنا من الشباب على أنه سيكون حلقة الاتصال بيننا إذا اعتقل هو . . ولكن بعد ساعات أرسل إلى يطلب منى أن ألزم بيتي، وألغى سفري ل[[لإسكندرية]] - غير أنى كنت قد اتصلت بالمرشد، وجاءت السيدة حرمه من [[الإسكندرية]] - ورتب الأمر على أن نكون على اتصال دائم ب[[حسن الهضيبي|الهضيبي]]، هذه المرة قدم لي أخا كريما ليكون حلقة الاتصال بيننا. . [[مرسي مصطفى مرسي]] . واتصلت ب[[المرشد العام]] وأخبرته بواقع الأمر، وأقرنا على ما اتفقنا عليه وتأثر تأثرا عميقا لأخبار الاعتقالات وبخاصة اعتقال سيد قطب . وأخذت الأخبار تتوالى بالقبض على العشرات والمئات ، وارتفع إلى الآلاف ، وقد أقسم لي [[شمس بدران]] بعد اعتقالي برأس [[عبد الناصر]] اعتقلوا مائة ألف من [[الإخوان]] في عشرين يوما، ملئوا بهم السجن الحربي وسجن القلعة وسجن أبي زعبل وسجن الفيوم و [[الإسكندرية]] وطنطا وسجوناً أخرى . وفى يوم الخميس 19 [[أغسطس]] ، علمت أن سيدة فاضلة تناهز الخامسة والثمانين تدعى أم أحمد من شبرا قد قبضوا عليها، وهى من المناصرين للدعوة من يومها الأول ، وسارت في الطريق مع [[الإمام الشهيد]] [[حسن البنا]] خطوة خطوة، وكان لها جهد كبير مبارك في مساعدة الأسر التي فقدت العائل بالسجن والمعتقلات الناصرية . . وكانت على اتصال دائم بنا . . كان خبر اعتقالها مفزعا ومؤثرا بالنسبة لي، ولكنى قلت لابن أختها بعد دقائق صمت أغرقتني بالألم : "إنه شيء جميل . . ما دام في الأرض التي ضاعت معالمها امرأة مؤمنة تعتقل في سبيل الله ، وفى سبيل دولة القران ، وهي في الخامسة والثمانين ، فمرحى مرحى يا جنود الله " . . !
وقررنا تأجيل الاجتماع بالأخوات حتى نرى ماذا بعد الاعتقالات ، وكان اعتقال [[سيد قطب]] كالصاعقة بالنسبة لجميع الشباب ، فضلا عنا نحن ، فقد كان [[الهضيبي]] قد أوكل كل المسئوليات لسيد قطب ، وكانت اتصالاتنا كلها به حسب أمر [[حسن الهضيبي|الهضيبي]]، وكان علينا بعد اعتقاله أن نرجع إلى [[المرشد العام]] ، نستأذنه فيمن يتولى المسئولية بدلا من سيد. كنت أنا وعبد الفتاح ، نفكر فيما حدث قبل أن يحدث بخمسة أيام ، فلما حدث ، زارني عبد الفتاح وكلفني بالسفر لرؤية المرشد في [[الإسكندرية]] وقدم لي أحد أبنائنا من الشباب على أنه سيكون حلقة الاتصال بيننا إذا اعتقل هو . . ولكن بعد ساعات أرسل إلى يطلب منى أن ألزم بيتي، وألغى سفري ل[[لإسكندرية]] - غير أنى كنت قد اتصلت بالمرشد، وجاءت السيدة حرمه من [[الإسكندرية]] - ورتب الأمر على أن نكون على اتصال دائم ب[[حسن الهضيبي|الهضيبي]]، هذه المرة قدم لي أخا كريما ليكون حلقة الاتصال بيننا. . [[مرسي مصطفى مرسي]] . واتصلت ب[[المرشد العام]] وأخبرته بواقع الأمر، وأقرنا على ما اتفقنا عليه وتأثر تأثرا عميقا لأخبار الاعتقالات وبخاصة اعتقال [[سيد قطب]] . وأخذت الأخبار تتوالى بالقبض على العشرات والمئات ، وارتفع إلى الآلاف ، وقد أقسم لي [[شمس بدران]] بعد اعتقالي برأس [[عبد الناصر]] اعتقلوا مائة ألف من [[الإخوان]] في عشرين يوما، ملئوا بهم السجن الحربي وسجن القلعة وسجن أبي زعبل وسجن الفيوم و [[الإسكندرية]] وطنطا وسجوناً أخرى . وفى يوم الخميس 19 [[أغسطس]] ، علمت أن سيدة فاضلة تناهز الخامسة والثمانين تدعى أم أحمد من شبرا قد قبضوا عليها، وهى من المناصرين للدعوة من يومها الأول ، وسارت في الطريق مع [[الإمام الشهيد]] [[حسن البنا]] خطوة خطوة، وكان لها جهد كبير مبارك في مساعدة الأسر التي فقدت العائل بالسجن والمعتقلات الناصرية . . وكانت على اتصال دائم بنا . . كان خبر اعتقالها مفزعا ومؤثرا بالنسبة لي، ولكنى قلت لابن أختها بعد دقائق صمت أغرقتني بالألم : "إنه شيء جميل . . ما دام في الأرض التي ضاعت معالمها امرأة مؤمنة تعتقل في سبيل الله ، وفى سبيل دولة القران ، وهي في الخامسة والثمانين ، فمرحى مرحى يا جنود الله " . . !


وأرسلت لابنتي في [[الإسلام]] غادة عمار وقلت لها : "اليوم اعتقلت مجاهدة جليلة فاضلة تدعى الست أم أحمد، وتقطن بناحية شبرا ولدى أموال لحساب أسر المسجونين وشؤون الدعوة فها هي إليك يا غادة، فإذا اعتقلت فسلميها للمرشد أو لآل قطب ، وسلمتها مظروفا فيه أموال الجماعة التي كانت أمانة عندي، وهى اشتراكات من [[الإخوان المسلمين]] . وعلمت بعد ذلك وأنا في السجن أن هذا المبلغ أودعته غادة عند ابنتي في [[الإسلام]] [[فاطمة عيسى]] وعندما قبض عليها الطغاة استولوا على هذا المال الذي كان ثمن الطعام وأجر المساكن ومصاريف التعليم والعلاج لأبناء المسجونين وأسرهم ، تلك الأسر التي لا ذنب لها ولا جريمة، وما قررت دولة الانقلاب العسكري لتبيدهم إلا لأنهم من القاعدة الخالدة على التاريخ لتجديد أمر الأمة الإسلامية . علمت بذلك عندما جيء بغادة عمار وعلية [[حسن الهضيبي|الهضيبي]] إلى زنزانتي في السجن الحربي فقلت : "حسبنا الله ونعم الوكيل ، الدنيا ساعة ، أما الآخرة فهي دارنا والحساب هناك " . ومرت ساعات رهيبة تحمل لي أخبار اعتقالات جديدة، ومرة أخرى جاءني رسول طلب منى أن أسافر إلى [[الإسكندرية]] لمقابلة المرشد. كان ذلك في مساء الخميس 19 [[أغسطس]] ، وبينما كنت أستعد للسفر جاء آخر وطلب منى تأجيل السفر لحين صدور أوامر أخرى .
وأرسلت لابنتي في [[الإسلام]] غادة عمار وقلت لها : "اليوم اعتقلت مجاهدة جليلة فاضلة تدعى الست أم أحمد، وتقطن بناحية شبرا ولدى أموال لحساب أسر المسجونين وشؤون الدعوة فها هي إليك يا غادة، فإذا اعتقلت فسلميها للمرشد أو لآل قطب ، وسلمتها مظروفا فيه أموال الجماعة التي كانت أمانة عندي، وهى اشتراكات من [[الإخوان المسلمين]] . وعلمت بعد ذلك وأنا في السجن أن هذا المبلغ أودعته غادة عند ابنتي في [[الإسلام]] [[فاطمة عيسى]] وعندما قبض عليها الطغاة استولوا على هذا المال الذي كان ثمن الطعام وأجر المساكن ومصاريف التعليم والعلاج لأبناء المسجونين وأسرهم ، تلك الأسر التي لا ذنب لها ولا جريمة، وما قررت دولة الانقلاب العسكري لتبيدهم إلا لأنهم من القاعدة الخالدة على التاريخ لتجديد أمر الأمة الإسلامية . علمت بذلك عندما جيء بغادة عمار وعلية [[حسن الهضيبي|الهضيبي]] إلى زنزانتي في السجن الحربي فقلت : "حسبنا الله ونعم الوكيل ، الدنيا ساعة ، أما الآخرة فهي دارنا والحساب هناك " . ومرت ساعات رهيبة تحمل لي أخبار اعتقالات جديدة، ومرة أخرى جاءني رسول طلب منى أن أسافر إلى [[الإسكندرية]] لمقابلة المرشد. كان ذلك في مساء الخميس 19 [[أغسطس]] ، وبينما كنت أستعد للسفر جاء آخر وطلب منى تأجيل السفر لحين صدور أوامر أخرى .

مراجعة ٢٣:٢٠، ١١ ديسمبر ٢٠١٠

أيـام من حيـاتي


مذكرات الحاجة / زينب الغـزالى


إهداء

الحاجة زينب الغزالي
  • إلى الأرواح الطاهرة الزكية التي صعدت إلى بارئها ، فرحة بفضل الله عليها ورضوانه .
  • إلى النفوس النقية التي أزهقت في سبيل ربها ، وذهبت إليه تشكو ظلم البشرية وطغيانها. .
  • إلى الدماء التي سالت لتكون موجا هادرا يدفع الأجيال عبر التاريخ الى طريق ربها .
  • إلى الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله وفى سبيل الإسلام فضحوا وفدوا فكانوا في الأرض الأوفياء ، وفى الآخرة الخالدين الفائزين .
  • إلى الذين قال لهم الناس : ( إن الناس قد جمعوا لكم وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) .
  • إلى الذين عذبوا في سبيل الله تعالى فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا.
  • لكل هؤلاء وللمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أقدم هذا الكتاب .

وأسالك اللهم أن تتقبله وتنفع به . . ( ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبتت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) .

زينب الغزالي الجبيلي

مقدمة

بسم اله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .. نازعتني فكرة الكتابة عن "أيام من حياتي " وترددت كثيراً . غير أن الكثرة ممن أثق في إيمانهم بالقضية الإسلامية وهم من أبنائي وأخواني رواد الدعوة وبناة فكرها الذين عاشوا معي تلك الأيام ، رأوا أنه من حق الإسلام علينا أن نسجل تلك الحقبة من الأيام التي عاشت فيها الدعوة الإسلامية محاربة من قوى الإلحاد والباطل في الشرق والغرب ، التي قامت لتقتل كلمة الحق ورافعي لوائها وكل دعاتها الفاهمين الفاقهين المصارحين بشجاعة وصدق بأن كتاب الله وسنة رسوله معطلان ولابد من قيام الكتاب والسنة . ولابد من عودة الأمة الإسلامية بكل مقوماتها إلى أرض الإسلام لتحقق الصورة العملية العملاقة بعودة مجتمع التوحيد والعلم والمعرفة والصلة الحقيقية بالله سبحانه وتعالى ، فتنطوي مجتمعات الجاهلية التي أعمت البشرية عن طريقها السوي وشغلتها بغثائها عن طريق الله .. طريق الحق ، فيعملوا على تطهير الأرض من تأليه البشر ، وعبادة طواغيت الأرض بإتباع تشريعاتهم وتعطيل شريعة الله ، وتعود الحياة بنبضات الوجود الحقيقي الذي كانت به الأمة في عصر النبوة وصحبه المباركين رضوان الله عليهم جميعاً خير أمة أخرجت للناس . لا صلاح لأمة ولا لهذا العالم إلا بالدعوة إلي الإسلام . إن غياهب السجون ومقاصل التعذيب وشراسة حملة السياط لم تزد المخلصين من أبناء الدعوة وبناة فكرها إلا قوة وثباتاً وصبراً على دفع الباطل ونحن نترصد منابته .

كذلك كان عهد الذين سلكوا طريق الحق قبلنا فاعتقدوه . فليس بالسياط يضيع الطريق ! ! ولكن الحجة بالحجة والرأي بالرأي، والكلمة تجابهها الكلمة .

سهل أن تضع القوة الباطشة العمياء السياط في أيدي المجانين ، ولكن الصعب هو أن تصرف المخدوعين بالباطل والمقتنعين بحمل السياط والمتألهين في الأرض ، عن طريق غوايتهم وجهلهم فتهديهم إلى طريق مستقيم .

والطريق إلى الحق واحد وهو طريق الله وأنبيائه ورسله وورثتهم .

أما الباطل فطرقه وسبله متفرقة. وعلى كل سبيل من سبله شيطان يزين للمغمورين منهم في ظلمة الباطل غوايته ويقودهم إلى سبيله. ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) الأنعام : 153 .

وليس أمام البشرية اليوم للخلاص من ذلك الضلال وهؤلاء الطغاة من البشر إلا أن ينتهجوا منهج الحق ، ومنهج الله ، المنهج المحمدي الموحى به "القرآن الكريم " والملهم به من السنة الصحيحة . وإني لأرى بوادر النصر وإرهاصاته -إن شاء الله - بقيام الأمة وعودة المجتمع الذي سيعلو بتوحيده فوق توليفات البشر مما يغزو بلادنا اليوم من تيارات الإلحاد، نعم إني لأحسها قريبة وأرى أعلامها ترمى بهذا الغثاء من فكر البشرية الضال في ركام الجاهلية .

إني لأكاد أشاهد أعلام الالتزام بما كلفت به خير أمة أخرجت للناس . . وأعلام الالتزام بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله .

نعم إننا لا نستعجل الزمن . فالسنون ، عشراتها ومئاتها، ليست بذات قيمة في عمر الدعوات والأمم . ولكن العبرة أننا ثابتون على الطريق ، مؤمنون بسلامة الخطى ووضوح الرؤية . إننا على يقين أننا على حق . وكل الذي يعنينا أن نضيف لبنات جديدة للبناء. المهم ألا نتقاعس ولا نتخاذل ولا نتقهقر عن عقيدتنا: عقيدة التوحيد، عقيدة العمل ، عقيدة البيان ، بيان الحق للناس جميعا، بيان عقيدتنا لكل البشر.

وإيمانا منا بأن فترة سجننا وتعذيبنا هي من حق التاريخ ، ومن حق الذين على الطريق أن يعوها ويدرسوها حتى يبقوا على طريق الجهاد، ولا تتحول قضيتهم إلى سفسطة كلامية، وحديث ترف وقصة تاريخ ، إيمانا بهذا كله نزلت على رأى المخلصين من أبنائي وإخواني، واستعنت بالله سبحانه وتعالى في جمع ما احتوته ذاكرتي مما كان . وان كان من الصعب أن يستعاد بوصفه ونمطه ..

ويكفى دلالة عليه أن أشير إلى أن حاملي السياط وخبراء التعذيب بألوانه وأشكاله ، قد سموه : جهنم !! إن جهنم هذه كانت بوتقة لصهر معادن الرجال فنقتها ، وانجلت مهزلة التعذيب عن رجال محصتهم الفتنة فقالوا بأعلى صوت : "يا أيها الناس : الإسلام ليس انتماء بل التزام واتباع " .

وأرجو الله أن يعينني على استعادة الصورة أو بعضها، وأن تكون للمخلصين مشعل حق ونور وهداية . فلنشق لخطانا صراطا مستقيما، وإني لأعيدها وأصر عليها : "إنها رسالة الرسل والأنبياء، هيمنت عليها وأكملتها رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فبشريعته أتم الحق تكاليفه لعباده ونسخ بها ما سبقها وأقامها حقيقة زكية (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) الكهف : 129 .

إن الذين تجشموا وعورة الطريق وعرفوا بمشيئة الله مقاصد الكتاب والسنة، لن يحيدوا عن الحق والخير والدعوة إليه حتى تقوم الأمة وتستقر البشرية تحت أعلام كتاب الله وسنة رسوله .

وإننا لعلى الطريق مثابرون محتسبون ما نلاقى غد الله . . و( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ) التوبة .

فإلى أرواح الشهداء الذين سبقونا : تحية حب وعرفان ووعدا بأننا على الطريق . إلى كل من كان في قلبه مثقال ذرة من خير. . لعل الله أن ينفع به ويهدي . . وما تشاءون إلا أن يشاء الله .

زينب الغزالي الجبيلي


الباب الأول : عبد الناصر يكرهني شخصيا !

في مساء يوم من أيام الشتاء، وفى أوائل شهر فبراير عام 1964 م كنت عائدة إلى بيتي، حين انقلبت بي عربتي إثر اصطدامها بعربة أخرى، كانت الصدمة قاسية فذهبت في شبه إغماءة، كانت الآلام الشديدة توقظني منها. ولم أتبين من كل ما حدث حولي إلا صوت إنسان ينادى اسمى في فزع ، وغبت عن الوعي، وحين تنبهت وجدت نفسي في مستشفى هليوبوليس وبجانبي زوجي وأشقائي وشقيقاتي وبعض زملائي في الدعوة وزميلاتي . كان الكل في فزع وألم شديدين تحكيهما تعبيرات الوجوه التي تصفحتها وأنا أفتح عيني لأول مرة وشفتاي تتمتمان "الحمد لله . . الحمد لله ، وكأني بالتمتمة أسألهم عما حدث ؟ إلا أنني ما لبثت أن غبت ثانية عن الوعي، ولم أتنبه إلا بدخول إحدى الحكيمات بالمستشفى مع ممرضين وممرضتين لحملي إلى حجرة الأشعة . وتذكرت ما حدث وسمعت زوجي يقول : الحمد لله سلمها الله ، احمدي الله يا حاجة . وسألت عن سائق عربتي فعلمت أنه –بحمد الله – بخير، وأنه يعالج في المستشفى، وعلمت فيما بعد أنه أصيب بارتجاج في المخ . وحملت إلى غرفة الأشعة، ولما تبين وجود كسر في عظمة الفخذ، وضع ساقي في قفص حديدي وتقرر إجراء عملية جراحية. ونقلت إلى مستشفى مظهر عاشور ليجريها لي جراح العظام الدكتور محمد عبد الله ، واستغرق إجراء العملية -تعاد بعد التحضير والتخدير- ثلاث ساعات ونصف الساعة . . عشت بعدها فترة، ونذر الخطر تحيط بي . ثم زالت أيام الخطر وبدأت ألتقط ما يقال وما ينقل ، مما يوضح أن الحادث كان مدبرا من مخابرات جمال عبد الناصر لاغتيالي، وتواترت الأخبار تؤكد ذلك . وكان لفيف من الشباب المسلم يزورني يوميا للاطمئنان ، وعلى رأسهم الأخ الشهيد عبد الفتاح عبده إسماعيل . فلما بلغتني تلك الأخبار، طلبت منه أن يقلل الشباب من زيارتي . وكان رده أنه قد حاول هذا فعلا، ولكنهم رفضوا وأصروا على زيارتي . . وفى أحد الأيام التالية دخل السكرتير الإداري لجماعة السيدات المسلمات وبيده ملف أوراق ، يعرضها على بصفتي رئيسة الجماعة، وكان في الغرفة زوجي والسيدة حرم الأستاذ الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين ، ورأيت زوجي يسرع إلى السكرتير قبل أن تتاح له فرصة تقديم الملف لي فيأخذه منه ويخرج معه من الحجرة، وهو يحدثه حديثا فهمت منه أنه نهاه مرة قبل ذلك عن تقديم هذه الأوراق لي، ودهشت لذلك وسألت زوجي عن السبب فتعلل بأنني محتاجة إلى موافقة الدكتور عبد الله المشرف على علاجي . وذهب زوجي إلى الدكتور الذي ما لبث أن جاء ليكشف على ساقي وليحرم على القيام بأي عمل ، ليؤكد لي أنه منع دخول الأوراق أو وصول الأخبار عن الجمعية إلى . ولما احتججت بأن الأمر بسيط لن يتعدى التوقيعات أصر على موقفه . ومضت أيام رجوت الطبيب بعدها السماح بمزاولة بعض أعمال الجماعة من فراشي فرفض ، وازددت يقينا بان هناك شيئا ما، يتعمد الجميع إخفاءه عنى :

زوجي والسكرتير والزائرون ، بل حتى سكرتيرة مجلس إدارة جماعة السيدات المسلمات التي كانت تزورني دائما، وكنت أحس من إجابتها المقتضبة على أسئلتي عن الجماعة بأنها تخفى عنى شيئا. وجاءتني السكرتيرة في أمسية استجمعت فيها شجاعتها لتنقل إلى ما أخفوه عنى . كان الأمر خطيرا على ما بدا من موقف زوجي ا! بشجاعتي والمشجع على الصبر والاحتمال وقوة الإرادة . وأخذت الأوراق السيدة فإذا هي قرار "بحل المركز العام لجماعة السيدات المسلمات "، وأخذت السكرتيرة تتحدث إلى قائلة :

"طبعا يا حاجة الأمر شديد بالنسبة إليك " . قلت "الحمد لله ، ولكن ليس من حق الحكومة أن تحل الجماعة، إنها جماعه إسلامية" أجابتني : "لا أحد يقدر أن يقول للحكومة هذا، لقد بذلنا مجهود كبيرا جدا، ولكن عبد الناصر مصر على حل الجماعة، هو يكرهك شخصيا حاجة زينب ! !

لا يطيق أن يسمع اسمك على لسان أي إنسان . عندما يذكر اسمك يثور ويغضب وينهى المقابلة! قلت : "الحمد لله الذي جعله يخافني ويبغضني، وأنا أبغضه لوجه الله ولن يزيدنا طغيانه ، نحن معاشر المجاهدين ، إلا إصرارا على أن نرضي ضمائرنا ونعيش لدعوتنا ، إنها دعوة التوحيد وسننتصر بإذن الله ، وأرخص ما نبذله لها أن نستشهد في سبيلها". "ليس لعبد الناصر الحق في أن يحل جماعة السيدات المسلمات .

إن الله تبارك وتعالى هو الذي يعقد للمسلمين راياتهم ، والذي يعقده الله لا البشر". قالت والدموع في عينيها : "يا حاجة . . المسألة خطيرة، ونرجو الله أن لا تنتهي بحل الجماعة، ربما كانت كلماتك هذه تسجل ، أو أنها قد سجلت فعلا ربما كان هنا جهاز تسجيل " . واستمرت تسر إلى : "يا حاجة : أنا أطلب منك شيئا صغيرا وهو التوقيع على هذه الورقة، فإذا وقعتها سيلغى قرار الحل " . فسألتها أن تطلعني على الورقة فإذا هي استمارة انتساب للاتحاد الاشتراكي، فقلت لها : "لا والله ، شلت يدي إذا وقعت يوما على ما يدينني أمام الله بأنني اعترفت بحكم الطاغوت جمال عبد الناصر الذي قتل عبد القادر عوده وزملاءه . إن الذين غمسوا أيديهم في دم الموحدين خصوم لله وللمؤمنين . الأشرف لنا أن يحل المركز العام للسيدات المسلمات " . قبلت رأسي وهى تبكى وتقول : - أتثقين بأنني ابنتك ؟ قلت : نعم . . قالت : فاتركي هذا الموضوع . . قلت : سنترك الأمر، ولن أوقع هذه الورقة . إن فيها ولاء للطاغية، وهذا أمر مستحيل إتيانه ، والله يفعل ما يختاره لعباده . ومرت أيام المستشفى وتقرر خروجي مع استمرار العلاج .


أنا والاتحاد الاشتراكي

وفى البيت كانت السيدة السكرتيرة تزورني يوميا وأخبرتني بان قرار الحل أوقف . ودهشت لذلك وسألت كيف ذلك فقالت : "لا أدرى . ربما يكون فتح باب للاتصال بك " . وأخذ السكرتير الإداري يحضر لي ما يحتاج للاطلاع والتوقيع ، وأخذت أزاول نشاطي في تسيير أعمال المركز العام للسيدات المسلمات من بيتي. ولكنى عدت إلى المستشفى مرة أخرى لإجراء عملية جراحية لرفع المسامير من الفخذ، وكان قد أفرج عن الشهيد الإمام سيد قطب وزارني في المستشفى وجمع من الإخوان . وذات يوم فوجئت بخطاب مرسل! عن طريق البريد ببطاقة كتبت فيها هذه البيانات :

"ا لاتحاد الاشتراكي العربي" حرية - اشتراكية - وحدة

الاسم والشهرة : زينب الغزالي الجبيلي ، وشهرتها : زينب الغزالي .

الوظيفة أو المهنة : رئيسة المركز العام لجماعة السيدات المسلمات .

وحدة : البساتين - الماطة . قسم : مصر الجديدة. محافظة : القاهرة.

جاءتني هذه البطاقة بالبريد ومعها ما يثبت سداد اشتراكي عن عام 1964 فضحكت ضحكة مريرة بما صار إليه حال "مصر" وتذكرت كيف كنا نعيش في حرية لعنوها بعد انقلابهم العسكري . وبعد استكمال العلاج بالمستشفى عدت إلى المنزل وأخذت دعوات الاتحاد الاشتراكي تتوالى بالبريد لحضور اجتماعات الاتحاد الاشتراكي، ولكنني قررت أن أتخذ موقفا سلبيا ، وبعد أيام صرح الدكتور بالخروج ومزاولة نشاطي تدريجيا في المركز العام للسيدات المسلمات ، وكنت لا أزال أستعين بالعكاز في المشي . وفى صبيحة أحد الأيام ، وبينما أنا بالمركز العام للسيدات المسلمات ، دق جرس الهاتف ، وطلب منى السكرتير أن أرد على من يطلبني من الاتحاد الاشتراكي ، أمسكت بالسماعة قائلة لمحدثي : "السلام عليكم " ورد السلام من الجهة الأخرى، ثم قلت : "نعم ، ماذا تريد؟" فسألني إن كنت أنا زينب الغزالي ، ولما أجبت بالإيجاب قال : "نحن هنا الاتحاد الاشتراكي، إن شاء الله أعضاء مجلس إدارة السيدات المسلمات وحضرتك على رأسهم تشرفي وتنوري ، تأخذون علم السيدات المسلمات وتذهبون لاستقبال عبد الناصر في المطار" . فأجبته : "إن شاء الله ، يفعل الله ما يشاء ويختار". قال : "عشمنا كده ، مجلس الإدارة وعدد كبير من أعضاء الجمعية العمومية، وإذا أمرت أرسلنا لك عربة تكون تحت تصرفكم " . قلت : "شكرا" . وانتهت المكالمة .

وبعد يومين أو ثلاثة جاءت مكالمة أخرى من الاتحاد الاشتراكي، كانت سيدة تسأل عن سبب عدم حضورنا لاستقبال الرئيس في المطار. قلت : "إن أعضاء مجلس إدارة السيدات المسلمات والجمعية العمومية ملتزمات بالسلوك الإسلامي، ولا يستطعن يا ابنتي الحضور في مثل هذه الاستقبالات المزدحمة" . قالت : "إزاى الكلام ده يا ست زينب ؟ يبدو إنك مش عاوزة تتعاوني معنا ، هل بلغت العضوات وهن رفضن ؟" . قلت : "مادمت أنا غير مقتنعة بهذا العمل لأنه يخالف تعاليم الإسلام فكيف أبلغهن ؟" . قالت : "إنتي غير متعاونة معنا" . قلت : نحن مرتبطات بتعاليم القران والسنة، عهدنا مع الله ، وتعاوننا على البر والتقوى كما أمرنا الله ، والهاتف لا يصلح لمثل هذه المناقشة، . قالت : "تفضلي، سننتظرك في مركز الاتحاد الاشتراكي بميدان عابدين لنتفاهم ا. قلت : أنا مريضة، حركتي قليلة بسبب علاج رجلي، فإذا شئت تفضلي وشرفينا في المركز العام للسيدات المسلمات . قالت : وأنت نازلة من البيت مري علينا، ألست عضوة في الاتحاد الاشتراكي؟ ! . قلت : "أنا عضوة في المركز العام لجماعة السيدات المسلمات ، والسلام عليك يا ابنتى ورحمة الله ،. وأنهيت المكالمة ولم أذهب إليها . وبعد أسبوع من هذه المكالمات التليفونية عرض على سكرتير الجماعة خطاب مسجلا يحمل تاريخ 15/ 9/ 1964 بقرار وزاري رقم 32 1 بتاريخ 6/ 9/ 1964 م . والقرار ينهى إلينا حل المركز العام للسيدات المسلمات مره أخرى ! !

لا . . لا . . للطاغية

وعقد مجلس إدارة السيدات المسلمات اجتماعا عاجلا في 9 جمادى 1384هـ الموافق 15/ 9/ 1964 ، وهو نفس اليوم الذي وصل فيه قرار الحل ، وقرر المجلس رفض قرار الحل وتسليم الجماعة وأموالها وممتلكاتها لجماعة أخرى كانت قد انفصلت عنا بإيعاز من المباحث العامة قبل انقلاب عبد الناصر، !

هذه الفئة المنشقة بعد الانقلاب إلى جند لعبد الناصر، كما قرر المجلس دعوة الجمعية العمومية لجلسة طارئة استثنائية في مدة لا تتجاور 24 ساعة، واجتمعت الجمعية العمومية ، وقررت رفض قرار الحل وعرض الأمر على القضاء. ووكلنا الدكتور عبد الله رشوان المحامى ليمثلنا في القضية ، وأرسلت الجماعة خطابات مسجلة وبرقيات إلى رئاسة الجمهورية ووزارة الداخلية والشئون الاجتماعية والنائب العام وصورا منها للصحف ، نخطرها برفض قرار الحل ، وبان المركز العام للسيدات المسلمات تأسس 57 3 1 هـ – 1936 م لنشر الدعوة الإسلامية والعودة بالمسلمين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم ، وليس لوزارة الشئون أو الداخلية ولاية علينا ، والولاية لله وحده ، ولمن يقيم دينه ، ويحكم بشرعه . وعند ذلك تعجل عبد الناصر قرار الحل والإدماج كما سبق أن أصدر من قبل – وللانتقام الشخصي من زينب الغزالي؟ لتعطيل دعوة الله ولوجه الشيطان - أمرا عسكريا بوقف صدور مجلة (السيدات المسلمات ) لأجل غير مسمى ، وكنت صاحبة امتيازها ورئيسة تحريرها . واقتحم زبانية الطاغوت دار المركز العام لجماعة السيدات المسلمات واستولوا على محتوياته ، وشردوا مائة وعشرين فتاة وطفلة يتيمات كانت جماعة السيدات المسلمات تؤويهن وتكفل جميع احتياجاتهن من إيواء وتعليم ، بكل مراحله من الروضة إلى الجامعة . وأحب أن أسجل هنا بكل فخر أن زبانية الطاغوت لم يجدوا سيدة واحدة في انتظارهم من أعضاء المركز العام للسيدات المسلمات ، سواء من مجلس الإدارة أو الجمعية العمومية أو هيئة الواعظات ، وكانوا قد طلبوا منى الحضور لتسليمهم الدار فرفضت ، وكذلك كان موقف جميع عضوات الدار فاستلموا من السكرتير الإداري، وهو موظف وليس له هذا الحق .

ويشرفني أن أسجل هنا بعض العبارات التي سجلتها الجمعية العمومية جلستها ، وأرسلتها ترد بها على قرار الحل إلى رئيس الجمهورية والنائب العام ووزير الداخلية والصحف : "إن جماعة السيدات المسلمات أسست 57 3 1 هـ – 1936 م لنشر دعوة الله والعمل على إيجاد الأمة المسلمة التي تعيد للإسلام عزته ودولته ، وكانت لله وستظل لله ، وليس لأي حاكم علماني حق الولاية على المسلمين ". " فجماعة السيدات المسلمات ، رسالتها الدعوة إلى الإسلام وتجنيد الرجال والنساء شبابا وشيبا لاعتقاد رسالته وإقامة دولته الحاكمة بما أنزل الله " .

ونحن –السيدات المسلمات – نرفض قرار الحل ، وليس لرئيس الجمهورية –وهو ينادى صراحة بعلمانية الدولة - حق الولاء علينا، ولا لوزارة الشئون الاجتماعية كذلك . وليست الدعوة أموالاً أو حطاما تصادره حكومة العلمانيين المحاربين لله ولرسوله وللأمة المسلمة . "فلتصادر الحكومة الأموال والحطام ولكنها لا تستطيع أن تصادر عقيدتنا . إن رسالتنا رسالة دعوة ودعاة، إننا نقف تحت مظلة لا إله إلا الله وحده ، وهذا الاعتقاد بأنه لا إله إلا الله يلزمنا بالعمل المستمر المتواصل غير المنقطع ، حق تقوم دولة الإسلام بأمة الإسلام الواعية لدينها الحاكمة بشرعه ، المجاهدة في سبيل نشره " .

ماذا نفعل بعد ذلك ؟

أخذت سيدات الجماعة يتوافدن إلى بيتي بعد ذلك متسائلات : ماذا نفعل ؟ ؟ كان هذا الموقف الشامخ من السيدات المسلمات سنة 1964 في قمة عناد السلطة الناصرية، في الوقت الذي كان فيه الكثيرون يقفون موقف التقية ويقرون الطاغوت على فعله بل يصدرون الفتاوى المؤيدة لأفعاله . . ويصبغون عليه صبغة ترفعه إلى مكان الألوهية! وما كانت التقية كذلك يوما ما في الإسلام لضياع العقيدة والتمويه على المسلمين ، ولقد رأينا بعض المجلات الإسلامية تتسابق في إرضاء الطاغوت . حتى مجلة الأزهر نفسه العزيزة علينا معزته ، تخلط بعض سطورها بنبضات هامدة لكتاب منافقين يتسابقون في إرضاء الباطل وأهله . . وأخذت الفتاوى تتوالى في تجريح المجاهدين الذين أخذوا بالعزيمة ولم يأخذوا بالضلال ، الذي سماه من أخذ به رخصة، جرحوا المجاهدين الذين انعم الله عليهم بالتزام الإسلام لا بالانتماء إليه ، والالتزام هو الإسلام ، أما الانتماء بغير التزام فشيء آخر. وقد أبت جماعة السيدات المسلمات أن تأخذ بما سموه رخصة، أو أن تكتفي بالانتماء، فرفعت لواء الحق وقالت كلمة الصدق في وقت تخلى فيه كثير من الناس عن الحق والصدق خوفا على مناصبهم وضياع دنياهم ، ولم تقف موقف المتفرج كما فعل كثير من الناس ، ولكنها قالت رأيها بصراحة - في الأوضاع التي كانت سائدة يومئذ - لا تبتغى إلا وجه الله وان غضب الناس جميعا . وكانت عضوات الجماعة لا يصبرن على عدم لقائي فأخذن يتوافدن على بيتي يواسينني في الأمر. فقد كانت جماعة السيدات المسلمات حياتي ووجودي ، عاهدت الله يوم تأسيسها أن لا أعيش لغيره سبحانه . وأخذت أعداد السيدات المسلمات الكبيرة المتوافدة على دارى يعاهدن الله من جديد ألا يعشن إلا لكلمة الحق وتبليغها، واتفقن معي على عقد اجتماعات بمنازلهن تتولى الواعظات فيها إرشاد السيدات إلى مبادئ الإسلام ، ولكن حكومة الطاغية التي كانت تتعقب الدعاة إلى الله في كل مكان بهذه الاجتماعات ، أرسلت إلى السيدات اللائى يتم الوعظ في منازلهن وقامت بتهديدهن وأخذ التعهد ألا يعقدن اجتماعا للوعظ في بيوتهن . واقتصر النشاط بعد ذلك على النشاط الفردي .


المساومة ثم المخادعة

أخذ رجال المباحث والمخابرات الناصرية يطلبون مقابلتي ويعرضون عروضا لإعادة المركز العام للسيدات المسلمات . وكانت هذه العروض تكلفني أن أشترى الدنيا بالآخرة . وعلى سبيل المثال عرضوا على إعادة إصدار مجلة السيدات المسلمات باسمي كرئيسة للتحرير وصاحبة الامتياز مقابل 300 جنيه شهريا، على أن لا يكون لي شأن بما يكتب في المجلة . وكان جوابي : مستحيل أن تصدر مجلة السيدات المسلمات من مكاتب المخابرات لتنشر علمانية عبد الناصر فأنا لم أعتد إلا أن أكون مسئولة مسئولية فعلية . كذلك عرضوا على إعادة المركز العام وصرف إعانة قدرها عشرون ألف جنيه سنويا، على أن يكون من مؤسسات الاتحاد الاشتراكي . . وكانت إجابتي: إن شاء الله ، لن يكون عملنا إلا للإسلام. إن الذين يتكسبون بالإسلام لا يستطيعون خدمته ، وكان هذا الرد يغضبهم . ولكنهم يحاولون إغرائي المرة بعد المرة . وكنت أتعجب من الطريقة ومن إصرارهم على هذه المحاولات الفاشلة، ولكنني اكتشفت بعد ذلك وعرفت لماذا هم حريصون على مخادعتي .


خفافيش الليل

ففي إحدى الأمسيات ، وأنا في منزلي، استأذن ثلاثة رجال لمقابلتي، ، وبعد دخولهم إلى حجرة الصالون ذهبت إليهم فوجدتهم يلبسون (غتراً) عربية ، ولما سلمت عليهم قدموا لي أنفسهم على أنهم من سوريا، قادمون من السعودية للفسحة في القاهرة لمدة عشرة أيام وأنهم قابلوا في السعودية الأستاذ سعيد رمضان والشيخ مصطفى العالم و كامل الشريف و محمد العشماوي و فتحي الخولي (هؤلاء من الإخوان الذين فروا من الطاغوت وظلمه )، وهم يسلمون على الإخوان في مصر ويريدون أن يطمئنوا عليهم وعلى تنظيمهم ، وقد أمرونا بالانضمام إلى هذا التنظيم ونحن مستعدون لتنفيذ الأوامر والبقاء في مصر لمعاونة التنظيم . ثم أخذوا يتحدثون عن الإخوان وعن عبد الناصر وكيف أنه يضطهد الإخوان المسلمين ثم تكلموا عن أحداث سنة 1954 وعن حل جماعة الإخوان المسلمين واستشهاد عبد القادر عودة وزملائه ، وكيف أنهم مستعدون للأخذ بالثأر وقتل عبد الناصر، وأن هذا هو رأى كامل الشريف والعشماوي و رمضان و الخولي و العالم . ولما كنت أسمع لهم فقط ، طلبوا منى الإجابة، فقلت : "أنا أسمع إلى أشياء جديدة على ومصطلحات لا أدرى عنها شيئا". قالوا: "سنرجع لك يا أخت زينب مرة أخرى لنعرف رأى المرشد ورأى التنظيم في هذا . . . " . فأجبتهم باقتضاب :

"أولاً : أنا لا أعرف شيئا يسمى التنظيم في الإخوان . وأسمع أن الإخوان كجماعة قد حلت كما تقول الحكومة.

ثانيا : أنا لا أحدث المرشد في مثل هذه الأمور، فصداقتي به وصلتي : إخوة !سلامية ومحبة عائلية .

ثالثا : إن قتل عبد الناصر شيء غير وارد عند المسلمين كما أتصور، وأنا أنصحكم بالعودة إلى بلدكم والاشتغال بتربية أنفسكم إسلاميا" . وبعد أن كانوا يستمعون إلي وهم وقوف جلسوا وقال أحدهم :

"الظاهر الأخت زينب غير مقتنعة . من الذي خرب بلاد المسلمين غير عبد الناصر؟" .

قلت : ليس من رسالة الإخوان المسلمين قتل عبد الناصر وسألتهم أن يعطوني أسماءهم فأعطوني أسماء تلعثموا كثيرا وهم ينطقوا بها، وكانت : عبد الشافي عبد الحق ، عبد الجليل عيسى، عبد الرحمن خليل . ضحكت لمصادفة وجود كلمة "عبد في الأسماء الثلاثة، وكان واحد فقط هو الذي ذكر أسماء الثلاثة. وقلت لهم : خير لكم أن ترجعوا إلى بلدكم قبل أن تمسك بكم مخابرات عبد الناصر إن كنتم لا تعرفونها، وليس لكم بها صلة فعلا وأنا أعتقد ذلك وأجاب أحدهم : على كل حال لك الحق في أن تشكى يا حاجة فينا، ستريننا مرة أخرى وستعرفين من نحن . وانصرفوا. وزارني الأخ عبد الفتاح إسماعيل فذكرت له قصة الزوار السوريين( المزعومين ) .


كلهم أحمد راسخ !

لم يمض أسبوعان على الزيارة الأولى حتى فوجئت بزيارة رجل يدعى أحمد راسخ قدم لي نفسه على أنه من المباحث العامة . وأخذ يسألني عما بيني وبين السوريين الذين زاروني . . . فوضحت له أنني مدركة تماما أنهم جواسيس وليسوا إخوانا سوريين ، وأنهم في المباحث قد أرسلوهم ، وأن هذه أعمال صبيانية سخيفة، فقد فعلوا كل ما يريدون ، صادروا المجلة والمركز العام فما الذي يريدونه بعد ذلك ؟ ! وكان أغرب ما سألني عنه ما أعنيه في أحاديثي عن جمالوف وجمالفة . فقلت له : إن هؤلاء ملاحدة يفخرون بالانتماء إلى الباطل وأهله . وغير الحديث قائلا : "إننا مسلمون يا حاجة" قلت : "إن المسلمين غير ذلك ؟ قال : "لو تفاهمت معنا لأصبحت من الغد وزيرة للشئون الاجتماعية" . فضحكت ساخرة وقلت : "المسلمون لا تغريهم المناصب ، ولا يشتركون في حكومات علمانية إلحادية . ومركز المرأة المسلمة يوم تقوم حكومة الإسلام ستقرره الحكومة الإسلامية . ماذا تريدون منى؟" قال : "نريد أن نتفاهم معا" قلت : "هذا مستحيل ، أناس يدعون للكفر ويرفعون شعارات الضلال . . وأناس يدعون لتوحيد الله والإيمان به . . فكيف يتفق هذا؟" . ثم أردفت قائلة "توبوا إلى الله واستغفروه وارجعوا إليه . . . أرجو إنهاء المقابلة" . وكان قد فرغ من القهوة التي قدمت له فقام منصرفا وهو يقول : "والله نحن نريد أن نتفاهم معك . ويوم نتفاهم معك ، ستكونين أنت التي ستصدرين قرارا بإعادة جماعة السيدات المسلمات وكذلك المجلة" ، قلت له : شكرا . . الإسلام في غنى عن الهيئات والجماعات التي ترضى بالعمالة لأعداء الإسلام ، ربنا يهديكم ويتوب عليكم " . وبعد يومين من هذه الزيارة وقفت عربة حكومية على باب منزلي ونزل منها شاب يرتدى ملابس كحلية اللون وكنت أجلس في شرفة المنزل فدخل وقال : "السلام عليكم يا حاجة زينب " . فرددت السلام ودعوته لدخول المنزل ، ودخل حجرة الضيوف وقدم لي نفسه . . أحمد راسخ ضابط من المباحث العامة ، ونظرت إليه بتدقيق وكآني أبحث طوله وعرضه ، فقد دعيت مرة إلى وزارة الداخلية لمقابلة شخص يسمى أحمد راسخ ! . . . وذهبت إلى هناك وكان فوق مكتبه لوحة مكتوبا عليها أحمد راسخ ، ثم حدث أن زارني قبل يومين الشخص الذي يسمى نفسه : أحمد راسخ ، وها هو شخص ثالث يدعى أحمد راسخ يزورني ! !

اسم واحد لثلاث شخصيات مختلفة. . . أخذت أنظر إليه وأنا لا أصدق ما أرى . . فمن غير المعقول أن يكون كل رجال المباحث العامة باسم أحمد راسخ ! . . . وشعر بنظرتي الفاحصة فسألني : "مم تتعجبين يا حاجة زينب ؟ من زيارتي ؟ " .

عجبت من هذا الأمر، وأجبت ساخرة : " لا . . إن هذا البيت يستقبل ضيوفه دائما -سواء كانوا على موعد أو غير موعد- بترحيب وتكريم . ولكنى سأحكي حكاية قرأتها في جريدة الأهرام على ما أذكر. " كانت ملكة هولندا وزوجها في ضيافة ملك إنجلترا منذ مائتي عام ولفت نظر ملك إنجلترا اهتمام ملكة هولندا بكلب كان يجرى في الاستقبال ، هرولت إليه في لهفة وكأنها فقدت الوعي، وحملته إلى صدرها وأخذت تقبله بشغف وحنان ، ثم أعطته لزوجها وهى تسر له ببعض الكلمات وتشير إلى عيني الكلب ووجهه فأخذ الملك الكلب وأخذ يقبله كذلك . . . تعجبت ملكة إنجلترا وزوجها مما رأيا وبخاصة بعد أن عادت ملكة هولندا وأخذت الكلب من زوجها وهما يجففان الدموع المنهمرة من أعينهما، وضمته إلى صدرها كطفل عزيز عليهما . ولما دعيا إلى مائدة الطعام الملكية أخذت ملكة هولندا الكلب معها وأخذت تطعمه وقالت ملكة إنجلترا: إن الكلب لابنتها الأميرة. أما الملك فقد سأل ضيوفه عن سر هذا التعلق بالكلب وقال وكأنه يعتذر: "لولا أن الأميرة متعلقة بهذا الكلب لأهديته لكم ا . فقالت ملكة هولندا التي كانت تؤمن بتناسخ الأرواح ، إن لها ابنا مات وقد انتقلت روحه إلى هذا الكلب وأخذت تحاول إقناع ملكي إنجلترا بأن عيني الكلب هما عينا ابنها تماما. . . وأقنع ملك إنجلترا ابنته بإهداء الكلب لملكة هولندا فأهدته لها فقد كانت تسمع القصة مع والديها". ثم قلت له : "يا أستاذ راسخ ، إن الذين يقولون بتناسخ الأرواح يدعون بعض الشبه بين الشخص المتوفى وبين الذي حلت فيه الروح بعد ذلك . ولكنى التقيت بثلاثة من المباحث كلهم يدعى أنه أحمد راسخ ، ومع ذلك فهم مختلفون في الطول والعرض واللون ولا يوجد تشابه بينهم . . . فهل قرر رئيس جمهوريتكم اعتناق مذهب جديد في تناسخ الأرواح وأمركم باعتناقه ؟ ! فارتسمت على وجهه دهشة شديدة وحيرة بالغة . وقال : "نحن ناس طيبون يا حاجة ونريد أن نتفاهم معك ، أنا صحيح أحمد راسخ " . قلت : "وهذا الأمر ليس له من الأهمية نصيب ". وسالت : "ماذا تريد؟ ". قال : "إن الحكومة ترغب رغبة شديدة في التفاهم معك ، ونحن نعلم أن الإخوان المسلمين خدعوك وأقنعوك بمبادئهم ، والذي حدث لجماعة السيدات المسلمات وحل مركزها العام كان سببه الإخوان . هؤلاء ناس مشاغبون . ونحن نريد أن تتفاهمي معنا . وما نريده بسيط جدا هو أن نعرف الأفراد القائمون بنشاط من الإخوان المسلمين ، والله يا حاجة الريس سيحفظ لك هذه الخدمة وفى أيام قليلة ستلمسين نتيجة تعاونك معنا. وأنت سيدة طيبة طول عمرك لا شأن لك بشغب الإخوان المسلمين وكفى ما سببوه لك مع الحكومة". وأخذ يدعى أن الأستاذ الإمام الهضيبي والإمام سيد قطب . . يعملان جهدهما ليتفاهما مع الرئيس ، ولكن الرئيس يرفض التعاون معهما لأنه لا يأمن لهما. وأضاف : ولو كنت تعرفين ما يقوله الإخوان عنك لتفاهمت معنا . . . وضحكت . . . ثم قلت : "سأتكلم معك على أنك رجل من رجال المباحث لا يهمني الآن اسمه ولا رسمه :

أولاً: إني أعتقد أن المسلمين الذين لا يعلمون من الإسلام إلا ظواهره يعرفون ويعتقدون أنكم بعيدون عن الإسلام ومحاربون له . أتريدون أن تتفاهمون مع الحق وأنتم على الباطل ؟ ! تستوردون عقائدكم من الشرق والغرب وترفعون شعارات الإلحاد الشيوعي ، وتارة تتمسحون بآلهة الرأسمالية وضائعون بين الشعارين . . ومن هذا الضياع تستمدون تشريعاتكم وأحكامكم لا أظنني صريحة معك وكلامي واضح لا يحتاج إلى تأويل . الإسلام شيء غير ما تريدون ا . قال : "والله يا حاجة أنا أصلى الجمعة" . قلت : "وبقية الفرائض ؟ا . قال : "تعودت أن أصلى الجمعة لأن والدي كان يفعل ذلك وكان يأخذني معه إلى المسجد يوم الجمعة . . .".

قلت له : "ألم تسأل والدك لماذا يصلى الجمعة فقط ؟" . قال : "قلوبنا مسلمة يا حاجة مادمنا نقول : لا إله إلا الله قلت له كفاية ذلك " إن كلمة (لا إله إلا الله ) بغير التزامكم بها ستكون حجة عليكم عند الله ، لا حجة لكم ". قال : "الناس على دين ملوكهم " . قلت : "إن شاء الله تحشرون على دين ملوككم ". قال : "عشمي أن نتفاهم " . قلت : "إن رسالات الأنبياء على مدى التاريخ لم تلتق أبدا بالباطل وأهله إلا لتدعوهم ليسلموا وجوههم لله سبحانه !. فانصرف وهو يقول في لهجة غاضبة : "طبعا. . أنا لن أجيء لك ثانية وإذا أردت الاتصال بي فها هو رقم تليفوني" . قلت له : "متشكرة، لا أريده " . وفى أواخر شهر يوليه 1965 علمت أن هناك عمليات اعتقال في صفوف الإخوان المسلمين وكان لي بهذه الجماعة صلة وثيقة قديمة .


الباب الثاني: وكانت بيعة

لم تكن صلتي بجماعة الإخوان المسلمين حديثة كما توهمها العابثون إذ كانت تعود بتاريخها إلى سنة 1357 هـ 1937 م . في ذلك اليوم البعيد المبارك من 1358 هـ تقريباً وبعد ما يقرب من ستة أشهر على تأسيس جماعة السيدات المسلمات كان أول لقاء لي مع الإمام الشهيد حسن البنا . كان ذلك عقب محاضرة ألقيتها على الإخوات المسلمات في دار الإخوان المسلمين وكانت يومئذ في العتبة .

كان الإمام المرشد في سبيله لتكوين قسم للأخوات المسلمات ، وبعد مقدمة عن ضرورة وحدة صفوف المسلمين واتفاق كلمتهم دعاني إلى رئاسة قسم الأخوات المسلمات . وكان هذا يعنى دمج الوليد الجديد الذي أعتز به " جماعة السيدات المسلمات " واعتباره جزء من حركة الإخوان المسلمين ، ولم أعد بأكثر من مناقشة الأمر مع الجمعية العمومية للسيدات المسلمات ، التي رفضت الاقتراح وإن حبذت وجود تعاون وثيق بين الهيئتين .

وتكررت اللقاءات مع تمسك كل منا برأيه وتأسست الأخوات المسلمات ولم يغير ذلك من علاقتنا الإسلامية شيئاً . وحاولت في أخر لقاء لنا في دار السيدات المسلمات أن أخفف من غضبه بعهد آخذه على نفسي أن تكون السيدات المسلمات لبنة من لبنات الإخوان المسلمين على أن تظل باسمها واستقلالها بما يعود على الدعوة بفائدة أكبر . على أن هذا أيضاً لم يرضه عن الاندماج بديلاً ودارت الأحداث بسرعة ووقعت حوادث سنة 1948 وصدر قرار حل الإخوان ومصادرة أملاكهم وإغلاق شعبها ، والزج بالآلاف في المعتقلات وقامت الأخوات المسلمات بنشاط يشكرن عليه وكانت إحداهن السيدة تحية الجبيلي زوجة أخي وابنة عمى ومنها عرفت الكثير من التفاصيل ، ولأول مرة وجدت نفسي مشتاقة إلى مراجعة كل آراء الأستاذ البنا وإصراره على الاندماج الكلي . وفي صبيحة اليوم التالي لحل جماعة الإخوان كنت بمكتبي في دار السيدات المسلمات وفي نفس الحجرة التي كان بها آخر اجتماع لي بالمرشد الإمام ، ووجدت نفسي أجلس إلي مكتبي وأضع رأسي بين يدي وأبكي بكاءً شديداً ، فقد أحسست أن حسن البنا كان على حق فهو الإمام الذي يجب أن يبايع من المسلمين جميعاً على الجهاد لعودة المسلمين إلي مقعد مسئوليتهم ، وإلي وجودهم الحقيقي الذي يجب أن يكونوا فيه ، وهو مكان الذروة في العالم يقودونه إلي حيث أراد الله ويحكمونه بما أنزل الله . وأحسست أن حسن البنا كان أقوى مني وأكثر صراحة في نشر الحقيقة وإعلانها . وإن هذه الشجاعة والجرأة هي الرداء الذي يجب أن يرتديه كل مسلم . وقد ارتداه البنا ودعا إليه . ثم وجدت نفسي أهتف بالسكرتير ليوصلني بالأخ عبد الحفيظ الصيفي الذي كلفته بنقل رسالة شفوية للإمام البنا يذكره فيها بعهدي في آخر لقاء لنا … وحين عاد بتحيته ودعائه استدعيت أخي محمد الغزالي الجبيلي وكلفته بإيصال وريقة صغيرة بواسطته أو بواسطة زوجته إلي الإمام المرشد وكان في الوريقة : " سيدي الإمام حسن البنازينب الغزالي الجبيلي تتقدم إليك اليوم وهي أمة عارية من كل شي إلا عبوديتها لله وتعبيد نفسها لخدمة دعوة الله ، وأنت اليوم الإنسان الوحيد الذي يستطيع أن يبيع هذه الأمة بالثمن الذي يرضيه لدعوة الله تعالى . في انتظار أوامرك وتعليماتك سيدي الإمام … " .

وعاد شقيقي ليحدد لي لقاءً سريعاً في دار الشبان المسلمين ، كان المفروض أن يحدث وكأنه مصادفة . ولم أكن أعدم مبرراً لتواجدي هناك ، فقد كنت ذاهبة إلي صالة دار الشبان لإلقاء محاضرة ، والتقيت بالأستاذ البنا فقلت له ونحن نصعد الدرج : " اللهم إني أبايعك على العمل لقيام دولة الإسلام وأرخص ما أقدم في سبيلها دمي ، والسيدات المسلمات بشهرتها " فقال : " وأنا قبلت البيعة وتظل السيدات المسلمات على ما هي عليه " . وافترقنا على أن يكون اتصالنا بواسطة منزل أخي وكانت أول رسالة من الإمام الشهيد تكليفاً بالوساطة بين النحاس و الإخوان ، وكان رفعة مصطفى باشا النحاس خارج الحكم حينذاك وحدد النحاس المرحوم أمين خليل للقيام بإزالة سوء التفاهم ورضى به الإمام الشهيد وكنت حلقة الاتصال . وفي ليلة من ليالي فبراير سنة 1949 جاءني أمين خليل ليقول لي " يجب اتخاذ إجراءات ليسافر البنا من القاهرة فالمجرمون يأتمرون به ليقتلوه . ولم أجد وسيلة للاتصال به مباشرة فقد اعتقل أخي ، فحاولت الاتصال بالإمام الشهيد شخصياً ، وأنا في طريقي للاتصال بلغني خبر الاغتيال ونقله إلى المستشفى ثم تواترت الأخبار بسرعة بسوء حالته وذهب شهيداً إلى ربه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً . وكان ألمي كبيراً وكانت نقمتي على المجرمين مرة لم أحاول كتمها .

وجاءت حكومة اتحاد الأحزاب وأصدرت أمراً بحل جماعة السيدات المسلمات واعترضت أمام القضاء الذي حكم لنا في عهد حكومة حسين سري باشا سنة 1950 بالعودة للنشاط . وكان المحامي في هذه القضية الأستاذ عبد الفتاح حسن "باشا" وجاءت حكومة الوفد وعاد الإخوان إلي نشاطهم وهم على بيعتهم للإمام المرشد حسن الهضيبي ، وأحببت في اليوم الأول لافتتاح المركز العام للإخوان المسلمين أن أعلن ولائي للدعوة بطريق غير مباشر إلي أن يقضي الله في الأمر بما يريد ، فتبرعت بأغلى شئ كنت أعتز به في أثاث منزلي وهو طاقم صالون أرابيسك مطعم بالصدف ليؤثث به مكتب المرشد العام . وسارت الأمور هادئة مطمئنة ، وزارني الشهيد عبد القادر عودة وشكرني على التبرع وقال : " يسعدنا إذا أصبحت زينب الغزالي الجبيلي من الإخوان المسلمين ." قلت : " أرجو أن أكونها بإذن الله . " فقال : " قد كانت والحمد لله . " وصارت الأمور في هدوء ومودة بيني وبين كثيرة من أعضاء الجماعة حتى حكومة الانقلاب العسكري بقيادة اللواء محمد نجيب الذي كان قد زارني قبل الانقلاب بأيام بصحبة الأمير عبد الله الفيصل وليس سراج الدين والشيخ الباقوري وشقيقي علي الغزالي بمناسبة وجود الأمير عبد الله الفيصل في مصر ، وقد تعاطف الإخوان مع الانقلاب وكذلك السيدات المسلمات لفترة أحسست بعدها أن الأمور لا تسير كما كنا نأمل وأنها ليست الثورة المنتظرة تتويجاً لجهود سبقت على أيدي العاملين لإنقاذ هذا البلد … وأخذت أنقل رأيي لمن ألقاه من الإخوان . وحين عرضت منا مناصب وزارية على بعض الإخوان ، وضحت رأيي في مجلة السيدات المسلمات ، فما كان لأحد من الإخوان أن يقسم يمين ولاء لحكومة لا تحكم بما أنزل الله .. ومن يفعل منهم ذلك يجب فصلهم من الإخوان وواجب الإخوان أن يحددوا موقفهم بعد أن اتضحت نوايا الحكومة .

وزارني الشهيد عبد القادر عودة طالباً مني تأجيل الكتابة في هذا الموضوع ، وأمسكت عددين ، ثم عدت إلى الكتابة إلى أن زارني الشهيد عبد القادر عودة للمرة الثانية حاملاً في هذه المرة أمراً من المرشد العام بعدم الكتابة في هذا الموضوع ، وتذكرت بيعتي للبنا - رحمه الله - واعتقدت أن الولاء قائم بها للهضيبي ، وامتثلت للأمر . ومنذ ذلك الوقت والبيعة تحكم تصرفاتي حتى ما يبدو منها خاصاً كرحلة مؤتمر السلام في فيينا التي لم أقم بها إلا بعد أن حصلت على لإذن الإمام المرشد الهضيبي


وسقط القناع

ومرت الأيام وجاءت أحداث 1954 ونكباتها ومخا زيها التي أسقطت القناع عن وجه جمال عبد الناصر لتظهر عدائه للإسلامومحاربته له في شخوص دعاته وقيادات نهضته ، وصدرت أحكام الإعدام البشعة على قمم القيادات الإسلامية : الشهيد المستشار عبد القادر عودة ، صاحب الفضيلة العالم الأزهري الورع الذي رصدت القيادة البريطانية في القنال عام 1951 عشرة آلاف جنيه لمن يأتي به حياً أو ميتاً : الشيخ محمد فرغلي الذي أُهدي للاستعمار ميتاً دون أن تخسر الخزينة البريطانية مبلغ المكافأة ، وباقي الشهداء الكرام . حتى المجاهد الكبير الإمام حسن الهضيبي حكموا عليه بالإعدام ، ولم ينفذ ، فقد أصيب فجأة بذبحة شديدة بالقلب نقل على أثرها للمنزل وقرر الأطباء أنه لن يعيش إلا ساعات ، وهنا ظهر عبد الناصر فأصدر عنه عفواً ، متوقعاً أن يقرأ نعيه في الصحف صباح اليوم التالي . ولكن قدرة الله أحبطت كيده ، وعاش الإمام . فلكل أجل كتاب ، نعم عاش ، ليؤدي بعد ذلك خدمات للمسلمين ويقود الدعوة الإسلامية في أحلك أيام شهدتها الدعوة ، وقد أظهر قوة الصلابة في الحق وهو المريض بعدة أمراض مما أذهل الجلادين وجعلهم يقودونه إلى السجن الحربي مرة أخرى ويعذبونه بأبشع أنواع التعذيب ، ولكنه ظل متمسكاً بالحق سائراً على طريق أصحاب الدعوات إلى أن شهد هو نهاية عبد الناصر وزبانيته وهو صامد ، رافع أعلام الحق والتوحيد الذي أعتقده ، متلبس بكل حبات وجوده ، وأخذ بالعزيمة ولم يتسرب إلى نفسه ضعف أو وهن في دين الله ورفض أن يأخذ بالرخص فيقيم في بيته وينكر بقلبه كما يفتي ويأخذ بذلك بعض العلماء . بل أني لأذكر له هذا الموقف الكريم الشجاع حينما أراد بعض من طالت عليهم المدة واعتراهم بعض الضعف أن يأخذوا بالرخصة ويكتبوا للطاغية مؤيدين وملتمسين العفو منه ، وسألوا الإمام حسن الهضيبي أن يأذن لهم في ذلك فقال قولته المشهورة : " أنا لا أكره أحد على الأخذ بالعزيمة والوقوف معنا ، ولكنى أقول لكم : إن الدعوات لم تقم يوماً بالذين يأخذون بالرخص " . قال ذلك وهو الشيخ الكبير ذو الثمانين عاماً ، وظل بسجن مزرعة طره إلى آخر الأفواج التي أفرج عنها بعد موت عبد الناصر … ولنا عودة أخرى إلى تفاصيل أحداث 1965 .

صرخات تنادى للواجب وفي عام 1955 رأيت نفسي مجندة لخدمة الدعوة الإسلامية بغير دعوة من أحد فقد كانت صرخات اليتامى الذين فقدوا آباءهم بالتعذيب ودموع النساء اللاتي ترملن وأزواجهن خلف قضبان السجون . والآباء والأمهات من الشيوخ الذين فقدوا فلذات أكبادهم . كانت هذه الصرخات والدموع تنفذ إلى أعماقي . ووجدت نفسي وكأني من المسئولين عن ضياع الجياع وجراح المعذبين . وأخذت أقدم القليل .

ولكن أعداد الجياع تزداد يوماً بعد يوم . وأعداد العرايا كذلك . وأخبار الشهداء الذين يقضى عليهم تحت سياط الفجرة المارقين القساة الجاحدين . والمدارس والجامعات تتطلب مصاريف وأدوات وملابس . وأصحاب المنازل يطالبون بإيجار منازلهم . وزادت المشكلة تعقيداً وثقل الحمل على حامله . واتسع الخرق على الراقع وبخاصة بعد عام ونصف . وبالتحديد في منتصف 1956 حينما خرج بعض أعداد من المعتقلين الذين لم يحكم عليهم . كان البعض منهم في اشد الحاجة لمن يزوده بالمال والطعام والملابس والمأوى . كل هذا والمسلمون في هذا البلد الطيب في مصر التي نكبت بمن قاد الانقلاب ليس فيهم من يعي واجبه . بل على العكس من ذلك وجدنا كثيراً من علماء وشيوخ الدين يتبرءون من المجاهدين …

كان الجميع من المتفرجين على ما يحدث . حتى الذين يبكون للمأساة ويتألمون كانوا يكتمون آلامهم ويخفون دموعهم خشية أن يتهمهم الطاغية بأنهم مسلمون . ولما اشتد بي الألم على ما وصلت إليه الأمور . ولم أجد لنفسي مخرجاً . ذهبت لزيارة أستاذي الجليل صاحب الفضيلة الشيخ محمد الأودن . وهو من القلة القليلة التقية النقية من رجال الأزهر . وكنت أستشيره في كل ما يعرض لي من أمور الدعوة وعلوم الإسلام . وكان يعتقد معي أن عدم اندماج السيدات المسلمات ربما يخدم الإخوان في فترة مقبلة . وقد كان يعلم ببيعتي للبنا ويباركها ويؤيدها كما كان يعلم ولائي للدعوة بعد استشهاد البنا وقبله . وجلست إليه أحدثه عن مأساة الأسر . كان يستمع إليّ في ألم شديد . وأنهيت حديثي بعرض ما فكرت في عمله في حدود إمكانياتي . وكنت أرى أنه لا يكفي أن نتألم وجراح الجوع وجراح السياط وجراح العرايا وتشرد النساء والأطفال يجرى بقسوة وشدة في دوائر حياة الدعاة والملبين والمجاهدين لتكون كلمة الله هي العليا . وأرى أني أستطيع كرئيسة للسيدات المسلمات أن أقدم العون إن شاء الله لأسر الإخوان بما يمكني الله فيه . فقبل فضيلته رأسي وهو يبكي قائلاً لي : لا تترددي في أي عون . والله هو المبارك للخطى . وعدت لأوضح له موقفي في الجماعة والثقة المطلقة في شخصي من السيدات المسلمات أعضاء الجماعة فقال لي فضيلته : قد أصبح فرضاً حتمياً عليك أن لا تبخلي بجهد في هذا الطريق وما تقومين به اجعليه بينك وبين الله تبارك وتعالى ثم أضاف : إن المنقذ الوحيد بأمر الله للإسلام هم هؤلاء المعذبون " الإخوان المسلمون " لا أمل لنا إلا في الله ثم في إخلاصهم وما يبذلون في سبيل الدعوة . اعملي يا زينب كل ما تستطيعين عمله . وعملت فعلاً ما أستطيع . وبذلت جهدي في أن أقدم شيئاً ولم يشعر أحد أني أفعل شيئاً . فقد كان فرد أو فردان هما اللذان أُسلمهما ما أستطيع على أنها أشياء مرسلة لي وأنا مكلفة بنقلها إليهم فقط .

ثم علمت أن الوالدة الفاضلة المجاهدة الكبيرة حرم الأستاذ الهضيبي تبذل هي أيضاً مجهوداً كبيراً مع بعض الفضليات الكريمات من الأخوات المسلمات مثل : المجاهدة آمال العشماوي حرم الأستاذ منير الدلة وكانت هي بنفسها على رأس الأخوات المسلمات . ومثل خالدة حسن الهضيبي و أمينة قطب و حميدة قطب و فتحية بكر والمجاهدة أمينة الجوهري و علية الهضيبي و تحية سليمان الجبيلي . واتسعت اتصالاتي رويداً رويداً فاتصلت بخالدة الهضيبي في سرية شديدة ثم بحميدة قطب و أمينة قطب . وكل ذلك من أجل المعذبين والأطفال واليتامى .


على الطريق مع عبد الفتاح إسماعيل

كان أول لقاء لي به في عام 1957 وفي موسم الحج . كنت في ميناء السويس على رأس بعثة الحج لجماعة السيدات المسلمات ، وكان معي في المودعين شقيقي محمد الغزالي الجبيلي فوجدته مقبلاً عليّ في صحبة إنسان يكسو وجهه نور ومهابة يغض بصره ، قدمه لي أخي قائلاً : الأخ عبد الفتاح إسماعيل ، كان من أحب شباب الإخوان إلى الإمام الشهيد حسن البنا ، كان فضيلة المرشد يحبه ويؤثره وله فيه ثقة مطلقة ، وقد طلب مني أن أقدمه لك بهذه الصورة حتى تعرفيه ، وحياني الأخ وهو يقول سأكون إنشاء الله معكم في الباخرة ، فرحبت به وانصرف ، وصعدنا إلى الباخرة وتحركت بعيداً عن الشاطئ وانشغلت بمطالب البعثة ، بعثة حج السيدات المسلمات. وعندما ذهبت إلى حجرتي بعد تناول الغداء ، سمعت طرقات على الباب ، أذنت بالدخول فتكرر الطرق ثانية ولكن الطارق كان يذهب بعيداً عن فتحة الباب ، ولما سمع صوتي يأذن بالدخول للمرة الثالثة . دخل فوجدته الأخ الذي قدمه لي شقيقي على رصيف الميناء .. قال في إخبات وهو يطرق إلى الأرض بعد أن ألقى عليّ السلام .. أنا أعلم بحمد الله أن بينك وبين الإمام الشهيد حسن البنا بيعة بعد طول خلاف ، ولما سألته عن مصدر معلوماته أجاب : الإمام الشهيد نفسه طيب الله ثراه .. فسألته عما يريد ، أجاب : أن نلتقي في مكة لوجه الله نتحدث فيما كان البنا يريده منك إن شاء الله . كانت كلمات سهلة العبارات طيبة النوايا لينة ، لكنها مع بساطتها قوية صادقة ثقيلة التكاليف تحمل معنى الأمر ولا تترك مجالاً للتفكير . قلت إنشاء الله في دار بعثة السيدات المسلمات بمكة أو بجدة ، ولما سأل عن العناوين حدثته عن أخوين في جدة قال إنه يعرفهما وهما الشيخ العشماوي و مصطفى العالم وكلاهما يستطيع أن يرشده إلى مكان إقامتي بمكة وجدة . حياني الأخ وانصرف .

وفي ليلة من ليالي ذي الحجة كنت على موعد بعد صلاة العشاء مع فضيلة المرحوم الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم المفتي الأكبر للمملكة العربية السعودية حينذاك .. وكنا نبحث معاً مذكرة قدمتها لجلالة الملك أشرح له فيها ضرورة تعليم البنات في المملكة ، وأطلب منه الإسراع في تنفيذ هذا المشروع ، مبينة مصلحة المملكة في ذلك ، وحولت المذكرة على فضيلة المفتي الذي طلب مقابلتي . وقضيت ساعتين أبحث المشروع معه . وعند انصرافي من مجلسه ، أخذت طريقي إلى باب السلام وكان في نيتي أن أطوف حين أوقفني صوت يناديني باسمي محييا بتحية الإسلام ، والتفت فإذا به عبد الفتاح إسماعيل وسألني عن وجهتي ولما عرف أنها الطواف ثم دار البعثة صحبني إلى المسجد وطفنا بالبيت معاً وبعد صلاة سنة الطواف جلسنا تجاه الملتزم وأخذ يتحدث فيما يريد .

سألني عن رأيي في قرار حل الإخوان . أجبت أنه قرار باطل شرعاً . قال : هذا الأمر الذي أريد بحثه معك .. ولما سألته أن يزورني في دار البعثة استبعدها كمكان لمثل هذه الأمور خوفاً من أجهزة التجسس الناصرية ، واتفقنا على أن نجتمع في مكتب عمارة الحرم المكي .. في مكتب معالي الرجل الصالح الشيخ صالح القزاز ، واجتمعنا هناك ولكنه أسر إليّ أن الأفضل أن نلتقي في الحرم وانصرف هو على أن نلتقي خلف مقام إبراهيم . وبعد ركعتي الطواف جلسنا خلف مبنى زمزم بالقرب من مقام إبراهيم ، وأخذ يتحدث عن بطلان قرار حل جماعة الإخوان المسلمين ووجوب تنظيم صفوف الجماعة وإعادة نشاطها ، واتفقنا على أن نتصل بعد العودة من الأرض المقدسة بالإمام حسن الهضيبي المرشد العام لنستأذنه في العمل . وقال عندما هممنا بالانصراف : يجب أن نرتبط هنا ببيعة مع الله على أن نجاهد في سبيله ، لا نتقاعس حتى نجمع صفوف الإخوان ونفاصل بيننا وبين الذين لا يرغبون في العمل أيا كان وضعهم ومقامهم ، وبايعنا الله على الجهاد والموت في سبيل دعوته . وعدت إلي مصر


الإذن بالعمل

ومع أوائل 1958 كانت لقاءاتي قد تعددت بعبد الفتاح إسماعيل في منزلي وفي دار المركز العام للسيدات المسلمات . كنا نبحث في أمور المسلمين محاولين بكل جهدنا أن نفعل شيئاً للإسلام يعيد لهذه الأمة مجدها وعقيدتها ، مبتدئين بسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام والسلف الصالح ومن بعدهم ، جاعلين منهجنا مستمداً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

وكانت خطة العمل تستهدف تجميع كل من يريد العمل للإسلام لينضم إلينا .. كان ذلك كله مجرد بحوث ووضع خطط حتى نعرف طريقنا ، فلما أردنا أن نبدأ العمل كان لابد من استئذان الأستاذ الهضيبي باعتباره مرشداً عاماً لجماعة الإخوان ، لأن دراساتنا الفقهية حول قرار الحل انتهت إلى أنه باطل لأن عبد الناصر ليس له ولاء ولا تجب له طاعة على المسلمين حيث أنه يحارب الإسلام ولا يحكم بكتاب الله تعالى .. والتقيت بالأستاذ الهضيبي لأستأذنه في العمل باسمي وباسم عبد الفتاح إسماعيل ، وأذن لنا في العمل بعد لقاءات عديدة شرحت له فيها الغاية وتفاصيل الدراسات التي قمت بها وعبد الفتاح . وكان أول قرار لبدء العمل هو أن يقوم الأخ عبد الفتاح عبده إسماعيل بعملية استكشاف على امتداد مصر كلها . على مستوى المحافظة والمركز والقرية ، والمقصود من هذا أن نتبين من يرغب في العمل من المسلمين ومن يصلح للعمل معنا ، مبتدئين بالإخوان المسلمين لجعلهم هم النواة الأولى لهذا التجمع ..

وبدأ الأخ عبد الفتاح إسماعيل جولته بادئاً بالذين خرجوا من السجون من الإخوان والذين لم يدخلوا لتختبر معادنهم وهل أثرت المحنة في عزيمتهم ، وهل دخول من دخل السجن جعلهم يبتعدون عما يعرضهم للسجن مرة أخرى أم أنهم لا يزالون على ولائهم للدعوة مستعدين للتضحية بكل غال ورخيص في سبيل الله ونصرة دينه .

كانت عملية استكشاف لابد منها حتى نبدأ العمل على أرض صلبة ، وحتى نعرف من يصلح فعلاً ، وكنا ندرس معاً التقارير التي يقدمها عبد الفتاح إسماعيل عن كل منطقة ، وكنت أزور المرشد العام وأبلغه مجمل ما اتفقنا عليه وما وصلنا إليه .. وكنا إذا عرضنا عليه صوراً من الصعوبات التي نلاقيها ، قال : استمروا في سيركم ولا تلتفتوا إلى الوراء ، لا تغتروا بعناوين الرجال وشهرتهم . أنتم تبنون بناء جديداً من أساسه . وكان تارة يقر ما يعرض عليه وتارة يعطي بعض التوجيهات . ومن هذه التوجيهات أنه أوصانا بأن نضمك إلى مراجع بحوثنا " المحلي لابن حزم " .

وفي سنة 1959 انتهت بحوثنا إلى وضع برنامج للتربية الإسلامية ، وأشهد الله على أنه لم يكن في برنامجنا غير تربية الفرد المسلم الذي يعرف واجبه تجاه ربه وتكوين المجتمع المسلم الذي سيجد نفسه بالضرورة مفاصلاً للمجتمع الجاهلي . ولما كانت جماعة الإخوان المسلمين معطلاً نشاطها بسبب قرار الحل الجاهلي لسنة 1954 كان ضرورياً أن يكون النشاط سرياً .


وقفة مع زوجي

لم يكن عملي في هذا النشاط يعطلني عن تأدية رسالتي في المركز العام لجماعة السيدات المسلمات ولا يجعلني أقصر في واجبي الأسري ، غير أن زوجي الفاضل المرحوم محمد سالم سالم لاحظ تردد الأخ عبد الفتاح إسماعيل وبعض لبنات طاهرة زكيه من الشباب المسلم على منزلنا . فسألني زوجـي : هل هناك نشاط للإخـوان المسلمين ؟ أجبت : نعم . . فسألني عن مدى النشاط ونوعيته . . قلت : إعادة تنظيم جماعة الإخوان .. ولما أخذ يبحث الأمر معي قلت له : هل تذكر يا زوجي العزيز عندما اتفقنا على الزواج ..

ماذا قلت لك ؟ قال : نعم اشترطت شروطاً ، ولكني أخاف عليك اليوم من تعرضك للجبابرة .

ثم صمت وأطرق برأسه فقلت له : أنا أذكر جيداً ما قلت لك : لقد قلت لك يومها : إن هناك شيئاً في حياتي يجب عليك أن تعلمه أنت لأنك ستصبح زوجي ، ومادمت قد وافقت على الزواج فيجب أن أطلعك عليه على ألاّ تسألني عنه بعد ذلك ، وشروطي بخصوص هذا الأمر لا أتنازل عنها . . أنا رئيسة المركز العام لجماعة السيدات المسلمات .. وهذا حق ، ولكن الناس في أغلبهم يعتقدون أني أدين بمبادئ الوفد السياسية ، وهذا غير صحيح .. الأمر الذي أومن به وأعتقده هو رسالة الإخوان المسلمين .. ما يربطني بمصطفى النحاس هو الصداقة الشخصية ، لكني على بيعة مع حسن البنا على الموت في سبيل الله ، غير أني لم أخط خطوة واحدة توقفني داخل دائرة هذا الشرف الرباني ، ولكني أعتقد أني سأخطو هذه الخطوة يوماً ما بل وأحلم بها وأرجوها ، ويومها إذا تعارضت مصلحتك الشخصية وعملك الاقتصادي مع عملي الإسلامي ووجدت أن حياتي الزوجية ستكون عقبة في طريق الدعوة وقيام دولة الإسلام فسنكون على مفرق طريق ، ويومها أطرقت إلى الأرض ثم رفعت رأسك والدموع محبوسة في عينيك لتقول : أنا أسألك لتقول : أنا أسألك ماذا يرضيك من المطالب المادية فلا تسألين ولا تطلبين أي شئ من مهر أو مطالب زواج ، وتشترطين عليّ ألا أمنعك عن طريق الله ..

أنا لا أعلم أن لك صلة بالأستاذ البنا ، والذي أعلمه أنك اختلفت معه بشأن انضمام جماعة السيدات المسلمات إلي الإخوان المسلمين .

قلت : الحمد لله ، اتفقنا أثناء محنة الإخوان سنة 1948 قبل استشهاد البنا ، وكنت قررت أن ألغي أمر الزواج من حياتي ، وأنقطع للدعوة انقطاعاً كلياً .. وأنا لا أستطيع أن أطلب منك اليوم أن تشاركني هذا الجهاد ، ولكن من حقي أن اشترط عليك ألا تمنعني جهادي في سبيل الله ، ويوم تضعني المسئولية في صفوف المجاهدين فلا تسألني ماذا أفعل ولتكن الثقة بيننا تامة ، بين رجل يريد الزواج من امرأة وهبت نفسها للجهاد في سبيل الله وقيام الدولة الإسلامية وهي في سن الثامنة عشرة ، وإذا تعارض صالح الزواج والدعوة إلى الله ، فسينتهي الزواج وتبقى الدعوة في كل كياني . .

ثم توقفت عن الكلام برهة ونظرت إليه قائلة : هل تذكرت ؟ قال : نعم . قلت : اليوم أطلب منك أن تفي بوعدك .. لا تسألني بمن ألتقي . وأدعو الله أن يجعل أجر جهادي قسمة بيننا فضلاً منه سبحانه إذا تقبل عملي . . أنا أعلم أن من حقك أن تأمرني ومن واجبي أن أطيعك ولكن الله أكبر في نفوسنا من أنفسنا ، ودعوته أغلى علينا من ذواتنا . ونحن في مرحلة خطيرة من مراحل الدعوة . . قال : سامحيني ، أعملي على بركة الله . يا ليتني أعيش وأرى غاية الإخوانقد تحققت ، وقامت دولة الإسلام .. يا ليتني كنت في شبابي فأعمل معكم ….

وكثر العمل ، والنشاط وتدفق الشباب على بيتي ليلاً و نهار ، وكان الزوج المؤمن يسمع طرقات الباب في جوف الليل فيقوم من نومه ويفتح للطارقين ويدخلهم إلي حجرة المكتب ، ويذهب إلي حجرة السيدة التي تدير أعمال البيت فيوقظها ويطلب منها أن تعد للزائرين بعض الطعام والشاي ، ثم يأتي إليّ فيوقظني في إشفاق وهو يقول : بعض أولادك في المكتب وعليهم علامات جهد أو سفر ، وأرتدي ملابسي وأذهب إليهم ويأخذ هو طريقه إلى مكان نومه وهو يقول لي : إذا صليتم الفجر جماعة فأيقظيني لأصلي معكم إن كان ذلك لا يضر ، فأجيب إنشاء الله .

فإن صلينا الفجر أيقظته ليصلي معنا ثم ينصرف ، وهو يحيي الموجودين تحية أبوية مملوءة بالشفقة والحب والحنان .


الاتصال بالإمام الشهيد سيد قطب

في عام 1962 التقيت بشقيقات الإمام الفقيه والمجاهد الكبير الشهيد سيد قطب بالاتفاق مع الأخ عبد الفتاح إسماعيل وبإذن من الأستاذ حسن الهضيبي ، المرشد العام للإخوان المسلمين ، للاتصال بالإمام سيد قطب في السجن لأخذ رأيه في بعض بحوثنا والاسترشاد بتوجيهاته . طلبت من حميدة قطب أن تبلغ الأخ سيد قطب تحياتنا ورغبة الجماعة المجتمعة لدراسة منهج إسلامي في الاسترشاد بآرائه .. وأعطيتها قائمة بالمراجع التي ندرسها وكان فيها تفسير ابن كثير ، والمحلي لابن حزم ، والأم للشافعي وكتب في التوحيد لابن عبد الوهاب وفي ظلال القرآن لسيد قطب ، وبعد فترة رجعت إلي حميدة وأوصت بدراسة مقدمة سورة الأنعام .. الطبعة الثانية وأعطتني ملزمة من كتاب قالت : إن سيد يعده للطبع واسمه معالم في الطريق .. وكان سيد قطب قد ألفه في السجن وقالت لي شقيقته ، إذا فرغتم من قراءة هذه الصفحات سآتيكم بغيرها .

وعلمت أن المرشد اطلع على ملازم هذا الكتاب وصرح للشهيد سيد قطب بطبعه .. وحين سألته قال لي : على بركة الله .. إن هذا الكتاب حصر أملي كله في سيد ، ربنا يحفظه ، لقد قرأته وأعدت قراءته وأعدت قراءته ، إن سيد قطب هو الأمل المرتجى للدعوة الآن ، إن شاء الله وأعطاني المرشد ملازم الكتاب فقرأتها فقد كانت عنده لأخذ الإذن بطبعها وقد حبست نفسي في حجرة بيت المرشد حتى فرغت من قراءة " معالم في الطريق " .

وأخذنا نعيد الدراسة والبحث من جديد في صورة نشرات قصيرة توزع على الشباب ليدرسوها ثم تدرس بتوسع في حلقات ، وكانت الأفكار متفقة والغايات غير مختلفة فانسجمت الدراسة مع الوصايا والصفحات التي كانت تأتينا من الإمام الشهيد سيد قطب رحمه الله وهو داخل السجن ، وكانت ليالي طيبة وأياماً خالدة ولحظات قدس مع الله ، يجتمع عشرة أو خمسة من الشباب ويقرءون عشر آيات تراجع أحكامها وأوامر السلوك فيها وكل غاياتها ومقاصدها في حياة العبد المسلم . وبعد تفهمها واستيعابها يتقرر الانتقال إلي عشر آيات أخرى إقتداء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

ومرت أيام حلوة طيبة ونعمة من الله تحتوينا ونحن ندرس وندرس ونربي أنفسنا ونهيئ للدعوة رجالها بشباب اقتنع بضرورة الإعداد لقيام دعوة الحق العادل .. وقرر وجوب حتمية إعداد أجيال في شخوص هذا الشباب الذي نرجوه أساتذة في التوجيه والإعداد للأجيال المقبلة .

قررنا فيما قررنا ـ بتعليمات من الإمام سيد قطب وبإذن الهضيبي ـ أن تستمر مدة التربية والتكوين والإعداد والغرس لعقيدة التوحيد في النفوس . والقناعة بأنه لا إسلام إلا بعودة الشريعة الإسلامية وبالحكم بكتاب الله وسنة رسوله لتصبح شريعة القرآن مهيمنة على كل حياة المسلمين ، قررنا أن يستغرق برنامجنا التربوي ثلاثة عشر عاماً ، عمر الدعوة في مكة ، على أن قاعدة الأمة الإسلامية الآن هم الإخوان الملتزمون بشريعة الله وأحكامه فنحن ملزمون بإقامة كل الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة في داخل دائرتنا الإسلامية .. والطاعة واجبة علينا لإمامنا المبايع ، على أن إقامة الحدود مؤجلة ـ مع اعتقادها والذود عنها ـ حتى تقوم الدولة .. وكنا على قناعة كذلك بأن الأرض اليوم خالية من القاعدة التي تتوفر فيها صفات الأمة الإسلامية الملتزمة التزاماً كاملاً ..

كما كان الأمر في عهد النبوة والخلافات الراشدة ، ولذلك وجب الجهاد على الجماعة المسلمة التي حكم الله والتمكين لدينه في الأرض حتى يعود جميع المسلمين للإسلام فيقوم الدين القيم ، لا شعارات ولكن حقيقة عملية واقعة .

ودرسنا كذلك وضع العالم الإسلامي كله بحثاً عن أمثلة لما كان قائماً من قبل بخلافة الراشدين والتي نريدها نحن في جماعة الله الآن ، فقررنا بعد دراسة واسعة للواقع القائم المؤلم ، أن ليس هناك دولة واحدة ينطبق عليها ذلك ، واستثنينا المملكة العربية السعودية مع تحفظات وملاحظات يجب أن تستدركها المملكة وتصححها ، وكانت الدراسات كلها تؤكد أن أمة الإسلام ليست قائمة ، وإن كانت الدولة ترفع الشعارات بأنها تقيم شريعة الله ‍‍! …. وكان فيما قررناه بعد تلك الدراسة الواسعة ، أنه بعد مضي ثلاثة عشر عاماً من التربية الإسلامية للشباب والشيوخ والنساء والفتيات ، نقوم بمسح شامل في الدولة فإذا وجدنا أن الحصاد من أتباع الدعوة الإسلامية المعتقدين بأن الإسلام دين ودولة ، والمقتنعين بقيام الحكم الإسلامي قد بلغ 75% من أفراد الأمة رجالاً ونساءً ، نادينا بقيام الدولة الإسلامية ، وطالبنا الدولة بقيام حكم إسلامي ، فإذا وجدنا الحصاد 25 % جددنا التربية والدراسة لمدة ثلاثة عشر عاماً أخرى وهلم جرا ، حتى نجد أن الأمة فد نضجت لتقبل الحكم بالإسلام . وما علينا أن تنتهي ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍أجيال وتأتي أجيال ، المهم أن الإعداد مستمر ، المهم أن نظل نعمل حتى تنتهي آجالنا ثم نسلم الراية مرفوعة " بلا إله إلا الله ، محمد رسول الله " إلى الأبناء الكرام الذين يأتون من بعدنا . وكنا على اتصال بالأستاذ محمد قطب ، بإذن من المرشد العام ، كان يزورنا في بيتي بمص الجديدة ليوضح للشباب ما غمض عليهم فهمه وكان الشباب يستوضحونه ويسألونه أسئلة كثيرة يجيب عليها .


الباب الثالث : المؤامرة

وخرج الأستاذ الشهيد سيد قطب من السجن ، وسبق خروجه بشهور عملية محاولة اغتيالي التي لم تنجح ، والتي تحدثنا عنها في أول هذه المذكرات ، وانتقلت إلينا أخبار بان إخراج الشهيد سيد قطب من السجن تخطيط من المخابرات ليسهل اغتياله ، وأن في خطة الاغتيالات القضاء على عبد الفتاح عبده إسماعيل . . وعشنا متوكلين على الله نعمل وخلف ظهورنا ما يدبر الفجار، غير أننا أخذنا ندرس ما وصلنا من أخبار عن رعب الفجار الحاكمين ، فقد أصبحوا يتوهمون أن هناك حركة فكرية يقودها سيد قطب من داخل السجن ، وتقودها وتعمل على تنفيذها جماعة من الإخوان المسلمين ، على رأسها الشهيد عبد الفتاح إسماعيل و زينب الغزالي الجبيلي خارج السجن . . وقد تأكدت لدينا الأخبار بان المخابرات الأمريكية والمخابرات الروسية ووليتهم الصهيونية العالمية قد قدموا تقارير مشفوعة بتعليمات لعبد الناصر بأخذ الأمر منتهى الجد للقضاء على هذه الحركة الإسلامية ، ولا فسينتهي كل ما فعله عبد الناصر في المنطقة من تحويل عن الفكر الإسلامي وبث اليأس في النفوس من إمكان أي إصلاح أو بعث عن طريق الإسلام . .

وخلاصة المخاوف : أن هذه الحركة الإسلامية ستقضي على كل فكر مغاير للإسلام . هذا ما وصلنا إجمالا عما تحويه تقارير المخابرات الأمريكية والروسية لعبد الناصر، ومن ناحية أخرى فان عبد الناصر اعتبر أن البعث الإسلامي بمثابة قضاء تام على حكمه الدكتاتوري الغاشم . . وفى أوائل أغسطس 1965 وصلتني أخبار عن إعداد قائمة من المطلوب اعتقالهم من رعيل رسالة التربية الجديدة والفكر الذي أقام من الشباب جواهر نورانية تتحرك بالإسلام . كما كان يتحرك به رجال من الصدر الأول في فجر الرسالة إلى دار ابن أبى الأرقم ، ويتصدر القائمة الأستاذ الشهيد سيد قطب ، زينب الغزالي الجبيلي، عبد الفتاح عبده إسماعيل ، محمد يوسف هواش . وفى الخامس من أغسطس وصلتني أخبار اعتقال الشهيد سيد قطب . كنت مجتمعة مع بعض الأخوات حين جاءتني مكالمة هاتفية قيل لي فيها: إن منزل سيد قطب قد فتش وبحث فيه عنه . وكان شقيقة الأستاذ محمد قد اعتقل في مرسى مطروح قبل أيام ، فطلبت زوجي في رأس البر ورجوته أن يطمئننى على سيد قطب وجاءت مكالمة زوجي بعد ساعة تؤكد اعتقاله .

وقررنا تأجيل الاجتماع بالأخوات حتى نرى ماذا بعد الاعتقالات ، وكان اعتقال سيد قطب كالصاعقة بالنسبة لجميع الشباب ، فضلا عنا نحن ، فقد كان الهضيبي قد أوكل كل المسئوليات لسيد قطب ، وكانت اتصالاتنا كلها به حسب أمر الهضيبي، وكان علينا بعد اعتقاله أن نرجع إلى المرشد العام ، نستأذنه فيمن يتولى المسئولية بدلا من سيد. كنت أنا وعبد الفتاح ، نفكر فيما حدث قبل أن يحدث بخمسة أيام ، فلما حدث ، زارني عبد الفتاح وكلفني بالسفر لرؤية المرشد في الإسكندرية وقدم لي أحد أبنائنا من الشباب على أنه سيكون حلقة الاتصال بيننا إذا اعتقل هو . . ولكن بعد ساعات أرسل إلى يطلب منى أن ألزم بيتي، وألغى سفري للإسكندرية - غير أنى كنت قد اتصلت بالمرشد، وجاءت السيدة حرمه من الإسكندرية - ورتب الأمر على أن نكون على اتصال دائم بالهضيبي، هذه المرة قدم لي أخا كريما ليكون حلقة الاتصال بيننا. . مرسي مصطفى مرسي . واتصلت بالمرشد العام وأخبرته بواقع الأمر، وأقرنا على ما اتفقنا عليه وتأثر تأثرا عميقا لأخبار الاعتقالات وبخاصة اعتقال سيد قطب . وأخذت الأخبار تتوالى بالقبض على العشرات والمئات ، وارتفع إلى الآلاف ، وقد أقسم لي شمس بدران بعد اعتقالي برأس عبد الناصر اعتقلوا مائة ألف من الإخوان في عشرين يوما، ملئوا بهم السجن الحربي وسجن القلعة وسجن أبي زعبل وسجن الفيوم و الإسكندرية وطنطا وسجوناً أخرى . وفى يوم الخميس 19 أغسطس ، علمت أن سيدة فاضلة تناهز الخامسة والثمانين تدعى أم أحمد من شبرا قد قبضوا عليها، وهى من المناصرين للدعوة من يومها الأول ، وسارت في الطريق مع الإمام الشهيد حسن البنا خطوة خطوة، وكان لها جهد كبير مبارك في مساعدة الأسر التي فقدت العائل بالسجن والمعتقلات الناصرية . . وكانت على اتصال دائم بنا . . كان خبر اعتقالها مفزعا ومؤثرا بالنسبة لي، ولكنى قلت لابن أختها بعد دقائق صمت أغرقتني بالألم : "إنه شيء جميل . . ما دام في الأرض التي ضاعت معالمها امرأة مؤمنة تعتقل في سبيل الله ، وفى سبيل دولة القران ، وهي في الخامسة والثمانين ، فمرحى مرحى يا جنود الله " . . !

وأرسلت لابنتي في الإسلام غادة عمار وقلت لها : "اليوم اعتقلت مجاهدة جليلة فاضلة تدعى الست أم أحمد، وتقطن بناحية شبرا ولدى أموال لحساب أسر المسجونين وشؤون الدعوة فها هي إليك يا غادة، فإذا اعتقلت فسلميها للمرشد أو لآل قطب ، وسلمتها مظروفا فيه أموال الجماعة التي كانت أمانة عندي، وهى اشتراكات من الإخوان المسلمين . وعلمت بعد ذلك وأنا في السجن أن هذا المبلغ أودعته غادة عند ابنتي في الإسلام فاطمة عيسى وعندما قبض عليها الطغاة استولوا على هذا المال الذي كان ثمن الطعام وأجر المساكن ومصاريف التعليم والعلاج لأبناء المسجونين وأسرهم ، تلك الأسر التي لا ذنب لها ولا جريمة، وما قررت دولة الانقلاب العسكري لتبيدهم إلا لأنهم من القاعدة الخالدة على التاريخ لتجديد أمر الأمة الإسلامية . علمت بذلك عندما جيء بغادة عمار وعلية الهضيبي إلى زنزانتي في السجن الحربي فقلت : "حسبنا الله ونعم الوكيل ، الدنيا ساعة ، أما الآخرة فهي دارنا والحساب هناك " . ومرت ساعات رهيبة تحمل لي أخبار اعتقالات جديدة، ومرة أخرى جاءني رسول طلب منى أن أسافر إلى الإسكندرية لمقابلة المرشد. كان ذلك في مساء الخميس 19 أغسطس ، وبينما كنت أستعد للسفر جاء آخر وطلب منى تأجيل السفر لحين صدور أوامر أخرى .


وجاء دوري

وفى فجر الجمعة 20 أغسطس 1965 اقتحم رجال الطاغوت منزلي، ولما طلبت منهم إذنا بالتفتيش ، قالوا: إذن ! أي إذن يا مجانين ؟ نحن في عهد عبد الناصر، نفعل ما نشاء معكم يا كلاب . . !

وأخذوا يقهقهون في صورة هستيرية وهم يقولون : الإخوان المسلمون مجانين ، قال إيه ، يريدون إذن تفتيش في حكم عبد الناصر! ودخلوا البيت وأتلفوا ما فيه بالتمزيق تارة وبالتكسير تارة أخرى حتى لم يتركوا شيئا سليما . وكنت أنظر إليهم باحتقار وهم يمزقون فراش المنزل . وأخيرا قبضوا على ابن أخي الطالب في كلية المعلمين محمد محمد الغزالي، وكان يقيم معي كابني وقالوا لي : لا تغادري البيت . قلت : أفهم من ذلك أن إقامتي محددة . قالوا : إلى حين صدور أوامر أخرى، واعلمي أن البيت تحت الحراسة فإذا تحركت فسيقبض عليك . وظننت أن الأمر سيقف عند تحديد الإقامة، وجاء لزيارتي شقيقتي وأولادها وزوجها، وكنت أعد حقيبتي استعدادا للقبض على . ورجوت زوج شقيقتي مغادرة المنزل حتى لا يقبضوا عليه إن عادوا ووجدوه كما فعلوا مع ابن أخي. ولكنه أصر على البقاء رغم محاولاتي المتكررة في إفهامه أن الوقت ليس وقت مجاملة أو نحوه . وبينما كنا نتناول الغداء اقتحم المنزل زبانية الطاغوت وأتوا على البقية الباقية واستولوا على ما في الخزانة . واستولوا على ما يزيد على نصف مكتبتي، ولم تفلح محاولاتي في إنقاذ بعض المؤلفات القديمة في التفسير والحديث والفقه والتاريخ مما يعود تاريخ طبعه إلى أكثر من مائة عام ، كما لم تفلح محاولاتي في الاحتفاظ بمجموعات ثلاث من مجلة السيدات المسلمات التي أوقفت بأمر عسكري سنة 1958 ، فقد صادروا كل ما أرادوا وللخزانة وقتها قصة عجيبة . فقد كانت الخزانة لزوجي إلا أن بها أشياء تخصني أيضا. فلما طلبوا المفتاح قلت لهم : إنه مع زوجي وهو مسافر في مصيفه ، فإذا بهم يهتفون برجل منهم يأمرونه بفتح الخزانة ، وتقدم هذا الرجل وفتح الخزانة بآلات ومفاتيح كانت معه ، كأي لص متمرس ! ! ولما طلبت منهم إيصالا بما أخذوه قالوا في سخرية : "أنت مجنونة . أنت فاكرة نفسك شاطرة، إخرسي بلاش دوشة" . وقبضوا على وأدخلوني عربة وجدت فيها ابن أخي الذي قبضوا عليه في الفجر، وشابا من شباب الدعوة، سألت ابن أخي : إيه يا محمد؟ فلم يجبني ففهمت أن التعليمات إليه أن لا يتكلم ، وكانوا قد أتوا به ليرشدهم إلى المنزل لأن هؤلاء كانوا غير زوار الفجر. . وأخذت العربة تنهب بنا الطريق حتى وصلت إلى السجن الحربي، عرفت ذلك من اللوحة الموجودة على بوابته ، واقتحمت السيارة البوابة المرعبة ، وبعدما ابتلعت البوابة السيارة ومن فيها . أنزلت منها واتجه بي وغد غليظ إلى حجرة استجوبني فيها وغد آخر، وأدخلت منها إلى حجرة أخرى . ووقفت أمام رجل ضخم الجثة مظلم الوجه قبيح اللفظ ، فسأل الذي يمسك ذراعي عنى فأجابني بسباب غلف فيه أسمي، ومع ذلك التفت هو إلى في غلظة وسألني من أنت ! . قلت : "زينب الغزالي الجبيلي" . فانطلق يسب ويلعن بما لا يعقل ولا يتصور. وصرخ الذي يمسك بذراعي قائلا : "دا رئيس النيابة يا بنت الــ . . . ردى على سعادته "، وكان الآخر قد صمت

قلت : لقد اعتقلوني أنا وكتبي وكل ما في الخزانة، فأرجو حصر هذه الأشياء وتسجيلها فمن حقي أن تعاد إلى . أجاب رئيس النيابة المزعوم الذي وضح فيما بعد أنه شمس بدران ، أجاب في فجور وجاهلية متغطرسة: "يا بنت الـــ . . . نحن سنقتلك بعد ساعة، كتب إيه ؟ وخزنة إيه ؟ ومصاغ إيه ؟ أنت ستعدمين بعد قليل ، كتب إيه وحاجات إيه اللي بتسألي عليها يا بنت الـــ . . . ، إحنا سندفنك كما دفنا عشرات منكم يا كلاب هنا في السجن الحربي" لم أستطع أن أجيب ، لأن الكلمات كانت بذيئة الألفاظ سافلة، والسباب والشتائم منحطة إلى الحد الذي لا يستطيع فيه الإنسان أن يسمعها فضلا عن أن يجيب عنها.

وقال هذا المتغطرس للذي يمسك ذراعي : خذها . . . قال : إلى أين ؟ أجاب ؟ هم عارفون . وجذبني الفاجر في وحشية وهو يقول : يا بنت الـ . . . وعند الباب نادى صاحب الجثة الغليظة المظلمة على الشيطان الممسك بذراعي فالتفت إليه ، فكأني أرى ظلمة من دخان غليظ أسود تغرقه ، قلت في سرى : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم تضرعت إلى الله قائلة: اللهم أنزل على سكينتك وثبت قدمي في دوائر أهل الحق ، واربط على قلبي بذكرك وارزقني الرضا بما يرضيك . وقال الممسك بذراعي للشيطان : نعم يا معالي الباشا . قال له : تروح رقم 24 وبعد ذلك تأتوني . وانصرف بي الشيطان الشقي الممسك بذراعي وأدخلني حجرة ، فرأيت رجلين يجلسان إلى مكتب في يد أحدهما مفكرة كنت أعرفها، وهى خاصة بالأخ الشهيد عبد الفتاح إسماعيل ، كان يخرجها في حلقات القران ونحن نتدارس ويدون بها بعض ملاحظاته ، فعرفت أنه اعتقل وبعض الإخوان إذ كان عنده اجتماع بهم في ذلك الوقت ، وأحدث ذلك رعدة في نفسي خشيت أن يلاحظها بعض الشياطين ، وكان أذان العصر يخترق سمعي، وترك الشيطان رقبتي ولكن ظللت في مكاني فصليت إلى الله ،وما أن انتهيت من الصلاة حتى انكب الشيطان على في وحشية، قيل له : اذهب بها إلى 24 .


الطريق إلى الحجرة 24

خرج بي الشيطان وهو ممسك بذراعي، وسار معنا اثنان من الشياطين سود الوجوه ممسكان بالكرابيج ، ساروا بي في أنحاء متعددة من السجن الحربي . . ورأيت الإخوان المسلمين معلقين على الأعواد والسياط تلهب أجسادهم العارية، وبعضهم سلطت عليه الكلاب الضالة لتمزق جسده بعد السياط . وبعضهم يقف ووجهه إلى الحائط في انتظار دوره من التعذيب والتنكيل . كنت أعرف عددا كبيرا من هؤلاء الشباب المؤمنين الأتقياء الأنقياء، أبنائي وأحبائي في الله ، أصحاب مجالس التفسير والحديث والحياة الندية الذكية في دارى ، في دارهم ، في دار ابن أبى الأرقم ، في هدأة السحر، في أنوار الفجر . عرفت منهم الكثير، رأيت العجب ، هذه الأنماط البشرية الفريدة في إنسانيتها ، المترفعة بإسلامها ، الموصولة بالسماء المرموقة بعين القدرة المنزهة المتمتعة بحضرة الله سبحانه وتعالى ، شباب الإسلام ، شيوخ الإسلام ، هذا مصلوب على خشبة ، هذا منكفئ على وجهه للحائط ، والسياط تنزل عليه تأكل من ظهره ، هذا ينزف من جبينه الذي لم ينحن إلا لله والنور يغمر وجهه المنساب من رأسه المرتفع المعتز بالله ، وذاك ظهره للحائط ، كل الوجوه يجرى فيها نور التوحيد. . ولكن نزيف الدم من الوجوه والظهور شيء مخيف . وصرخ شاب مصلوب على خشبة : أماه ! ثبتك الله ! قلت : والنور قد غطى المكان فلمع لون الدم فيه : أبنائي ، إنها بيعة، صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة .

ورفع الشيطان يده وهو يهوى بها على صدغي وأذني، فأخذت عيني تدور وأذني كذلك كأن ماسا كهربيا قد مسها، وانكشف النور عن أجسام ممزقة وأشلاء متناثرة تملأ المكان ، فقلت : في سبيل الله ، وسمعت صوتا كأنه يأتي من الجنة :

اللهم ثبت الأقدام ، اللهم احفظهم من الفجرة . لولاك ربى ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا . . فثبت الأقدام إن لاقينا . وارتفعت أصوات السياط وتزاحمت ، ولكن صوت الإيمان أقوى وأوضح ، وكانت برهة، وخرج صوت آخر كأنه مقبل من السماء يقول : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له ". وقلت ثانية : "صبرا يا أبنائي إنها بيعة، صبرا إن موعدكم الجنة" . وأخذت يد الفاجر ظهري بضربة موجعة أليمة ساخنة، فقلت : "الله أكبر ولله الحمد، اللهم صبرا ورضا، اللهم شكرا وحمدا على ما أنعمت به علينا من الإسلام والإيمان و الجهاد في سبيلك " . وفتح باب لحجرة مظلمة فدخلتها ثم أغلقوا بابها .


في الحجرة 24

ابتلعتني الحجرة فقلت : باسم الله السلام عليكم . وأغلق الباب وأضيئت الكهرباء قوية! إنها للتعذيب ! الحجرة مليئة بالكلاب ! لا أدرى كم ! ! أغمضت عيني ووضعت يدي على صدري من شدة الفزع ، وسمعت باب الحجرة يغلق بالسلاسل والأقفال وتعلقت الكلاب بكل جسمي، رأسي ويدي، صدري وظهري، كل موضع في جسمي، أحسست أن أنياب الكلاب تغوص فتحت عيني من شدة الفزع وبسرعة أغمضتهما لهول ما أرى ووضعت يدي تحت إبطي وأخذت أتلو أسماء الله الحسنى مبتدئة ب "يا الله ، يا الله " وأخذت أنتقل من اسم إلى اسم ، فالكلاب تتسلق جسدي كله ، أحس أنيابها في فروة رأسي، في كتفي، في ظهري، أحسها في صدري، في كل جسدي، أخذت أنادى ربى هاتفة: "اللهم اشغلني بك عمن سواك ، اشغلني بك أنت يا إلهي يا واحد يا أحد يا فرد يا صمد، خذني من عالم الصورة، اشغلني عن هذه الأغيار كلها، اشغلني بك ، أوقفني في حضرتك ، إصبغني بسكينتك ، ألبسني أردية محبتك ، ارزقني الشهادة فيك والحب فيك والرضا بك والمودة لك وثبت الأقدام يا الله ، أقدام الموحدين " . كل هذا كنت أقوله بسري، فالكلاب ناشبة أنيابها في جسدي . مرت ساعات ثم فتح الباب وأخرجت من الحجرة . كنت أتصور أن ثيابي البيضاء مغموسة في الدماء، كذلك كنت أحس وأتصور أن الكلاب قد فعلت . لكن يا لدهشتي، الثياب كأن لم يكن بها شيء، كأن نابا واحدا لم ينشب في جسدي. سبحانك يا رب ،، إنه معي، يا الله هل أستحق فضلك وكرمك ، يا الله يا إلهي لك الحمد . كل هذا أقوله أيضا في سرى، فالشيطان ممسك بذراعي يسألني : كيف لم تمزقك الكلاب ؟ والسوط في يده وخلفي شيطان ثان بيده سوط أيضا . كان الشفق الأحمر يكسو السماء ينبئ بأن الشمس قد غربت ، وأننا أوشكنا على العشاء إذن فقد تركت مع الكلاب اكثر من ثلاث ساعات . لك الحمد يا إلهي على كل حال . اخترقوا بي طريقا توهمته طويلا، فتح باب : ابتلعتني الساحة المخيفة خلفه . ثم ابتلعني ممر طويل مخيف على جانبيه أبواب مغلقة . أحد الأبواب منفرج بعض الشيء يطل منه وجه منير، خرج منه بعض النور فبدد بعض ظلام الممر، عرفت فيما بعد أنه باب الزنزانة رقم 2 التي تسبق زنزانتي رقم 3 ويسكنها الضابط الكبير محمد رشاد مهنا الذي كان يوما وصيا على عرش مصر الذي توهم الفجرة أن الإخوان سينصبونه رئيسا للجمهورية فاعتقلوه . وفتح باب الزنزانة رقم 3 . . فابتلعتني .


الزنزانة رقم 3

وفتح باب الزنزانة 3 . . . فابتلعتني واختطفتني ظلمتها وأغلق الباب خلفي في اللحظة التي أشعل فيها مصباح معلق في سقف الزنزانة، كان الضوء مخيفا مرعبا لشدته لا تستطيع أن تفتح عينك فيه . فعرفت للتو أنه للتعذيب أو الإرهاق .

وبعد فترة طرقت الباب ، وجاء مارد أسود في غلظته سألني عما أريد، فاستأذنت في الذهاب إلى دورة المياه للوضوء ، فأجاب في وحشية ممنوع طرق الباب - ممنوع دورة المياه - ممنوع الوضوء - ممنوع الشرب . إذا طرقت الباب سأجلدك خمسين جلدة، وفرقع بالسوط في الهواء ليريني أنه على استعداد لتنفيذ تهديده . لم يكن في الزنزانة شيء، وكنت قد تعبت من الوقفة الطويلة بين الكلاب في "الحجرة 24" فخلعت معطفي وفرشته على أرضها وتيممت وصليت المغرب والعشاء، وجلست القرفصاء ، ولكن ساقي المكسورة لم ترحني فوضعت حذائي تحت رأسي وتمددت على إسفلت الحجرة . لكن الطغاة لم يمهلوني . كان بأعلى الزنزانة نافذة تطل على فناء السجن ، جاءوا بصليب من الخشب على ارتفاع النافذة ثم جاءوا بشباب من المؤمنين يصلبونهم الواحد تلو الآخر على هذا الصليب ، ويأخذون في جلد المصلوب بالسياط ، والشاب يذكر اسم الله ويستنجد به ، وبعد نصف ساعة من الجلد المستمر المتواصل يقولون لهذا الشاب الذي قد يكون مهندسا أو مستشارا أو طبيبا: "يا ابن الكلب متى جئت هنا؟". فيقول : "اليوم أو البارحة" ، فيعودون إلى السؤال : "متى ذهبت إلى منزل زينب الغزالي آخر مرة؟" . فإن قال لا أذكر، عادوا إلى الجلد وطلبوا منه أن يسب زينب الغزالي بأبشع ما يتصور الإنسان من الألفاظ الفاحشة ؟الكلمات البذيئة، ؟طبعا يرفض هذا الشاب المؤمن ويعودون لجلده مرة أخرى، وربما قال أحد الشباب : إننا لا نرى فيها إلا الصدق والفضيلة فيزيدونه ضربا وجلدا حتى يفقد الوعي، فيأتوا بآخر طالبين منه نفس الشيء ظنا منهم أن ذلك يضعف من عزيمتي . وهكذا، شاب يعقب أخاه ، وقلبي يتمزق على هذا الشباب المؤمن . أخذت أناجى الله وأتضرع إليه طويلا . سألت الله أن يجعلني فداء لهذا الشباب فأتلقى التعذيب بدلا منهم ، فقد تصورت أن هذا أهون على، فأخذت أدعو الله أن يجعلني مكانهم أو يصرف عنى وعنهم هذا الجلاد. تمنيت أن يقولوا ما يريده هؤلاء الفجرة عن زينب الغزالي حتى ترفع عنهم السياط ، ولكنهم لم يقولوا، والسياط تتضاعف وتتعالى صيحاتهم والألم يمزقني . وأنا أناجي ربى فأقول "اللهم اشغلني بك عنهم واشغلهم بك عنى. اللهم ألهمهم الخير الذي يرضيك ، اللهم احجب عنى أصوات تعذيبهم ، اللهم إنك تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، إنك أنت علام الغيوب ، تعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، فرحمتك اللهم بعبادك " .


الرؤيا

ولا أدرى كيف أخذني النوم وأنا أذكر الله ، وكان في هذا النوم خير وفضل وعطاء، كان فيه رؤيا مباركة هي إحدى رؤاي الأربع لحضرة النبي عليه الصلاة والسلام في محنتي :

"رأيت بحمد الله صحراء مترامية وإبلاً عليها هوادج كأنها صنعت من النور، وفى كل هودج أربعة من الرجال كأنهم أيضا وجوه نورانية ، رأيتني خلف هذا السيل من الإبل في هذه الصحراء المترامية التي لا يحدها البصر، أقف خلف رجل عظيم مهيب وهو يأخذ بخطام امتد في أعناق هذا السيل الجارف من الإبل التي لا يحصى عددها . أخذت أردد في سرى : أتكون حضرة محمد صلى الله عليه وسلم . فإذا به يجيبني : "أنت يا زينب على قدم محمد عبد الله ورسوله " . سألت : "أنا يا سيدي يا رسول الله على قدم محمد عبد الله ورسوله ؟" .

قال عليه الصلاة والسلام : "أنتم يا زينب على الحق ، أنتم يا زينب على الحق ، أنتم يا زينب على قدم محمد عبد الله ورسوله " . وقمت من النوم وكأنني ملكت الوجود بهذه الرؤيا ، وأدهشني – بعد ما نسيت ما أنا فيه وأين أنا – أنى لا أجد ألم السياط ولا الصلبان القريبة من النافذة، فقد نقلت إلى مكان بعيد وأصبحت الأصوات تأتيني عن بعد .

ثاني ما أدهشني أن اسمي في شهادة الميلاد زينب غزالي واسم الشهرة المعروف لدى الناس "زينب الغزالي" والرسول عليه الصلاة والسلام يناديني بأسمى في شهادة الميلاد وفعلا نقلتني الرؤيا عن الزمان والمكان فتيممت ، وأخذت أصلى ركعات شكرا لله على هذا العطاء . وفى إحدى سجداتي وجدتني أقول : "ربى بم أشكرك ؟ إني لا أجد ما أشكرك به إلا أن أجدد بيعتي لك . اللهم إني أبايعك على الشهادة في سبيلك . اللهم أنا أبايعك على ألا يعذب أحد بسببي . اللهم ثبتني على الحق الذي يرضيك وأوقفني في دائرة الحق الذي يرضيك ! " وانتهيت من صلاتي، وأخذت أكرر ما دعوت به في سجودي وكأنني أعيش في عالم غير الذي أنا فيه وأحسست براحة وسكينة واطمئنان قلب . .

وسمعت ضجة شديدة في الخارج وأصوات عربات كثيرة تتزاحم إلى الداخل وأخرى خارجة من الجحيم ، عرفت فيما بعد أن هذا الوقت انتهاء وردية من الزبانية وبدء ورديه أخرى للتعذيب . . وسمعت المؤذن يؤذن لصلاة الفجر فرددت الأذان ثم تيممت وصليت . .

أمضيت على هذه الحال ستة أيام على التوالي من مساء الجمعة 20 أغسطس إلى الخميس 26 أغسطس لا يفتح باب الزنزانة فلا أكل ولا شرب ولا دورة مياه ولا صلة بالخارج ، غير تلصص هذا الشيطان الذي يضع عينه على فتحة باب الزنزانة الصغيرة بين الحين والحين . ولك أن تتصور أيها القارئ العزيز كيف تستطيع أن تعيش هكذا، وإذا استطعت أن تعيش بلا طعام ولا ماء كيف يستغني الإنسان عن قضاء حاجته الضرورية؟ كيف يعيش الإنسان بغير أن يذهب إلى دورة المياه ولو مرة واحدة في اليوم ؟. ولا تنس أننا كنا في شهر أغسطس ! فهل تجيز اليهودية أو الوثنية ذلك ! فما بالك بالذين يدعون أنهم مسلمون . . وهل يفعل ذلك أي كائن ينتمي للجنس ا لبشرى ؟ !

يا الله ! لكم جنى الطغاة المستبدون على كرامة الإنسان ، وتحللوا من كل دين وخلق ، ولكن اليقين بالله واعتقاد الحق ، وأن يرى الإنسان ربه ويعايش أمره كل ذلك قد يصنع شيئا كبيرا فوق طاقة البشر. فلا تدهش أيها القارئ : لأنني استطعت أن أعيش هذه الأيام بغير ماء، أو طعام ، أو قضاء ضرورة، أو صلة بإنسان . اللهم إلا هذه الطرقات من الشيطان الأسود الذي ربما فتح الباب يسأل في غلظة ووحشية : يا بنت الــ . . أنت لسة عايشة؟!. ..

نعم أيها القارئ لقد عشت هذه الأيام بأمرين

الأول : هو فضل الله علينا بالإيمان به . إنه الإسلام الذي يمنح صاحبه قوة يغالب بها الصعاب والمشقات أيا كانت هذه الصعاب . إنه فضل الله . فالإيمان يعطى قوة وطاقة احتمال هائلة، تعلو قوة الطواغيت الفجرة الذين ظنوا أنهم فعلا يحكمون . والحق أن المؤمن يعيش متصلا بالله سبحانه . مستغنيا عن الصورة والأغيار .

والأمر الثاني : هو تلك الرؤيا المباركة التي كانت بمثابة تخفيف وزاد ودفعة حياة من الله تعالى، عشت بها مشغولة به عن الأغيار المحيطة بي ، وجعلتني أحتمل في رضا وسكينة جحيم هؤلاء الطواغيت . . وفى صبيحة اليوم السابع فتح باب الزنزانة ودخل الشيطان الأسود وبيده ربع رغيف ملوث بقذارة من فضلات الإنسان وقطعة من الجبن الأصفر كذلك . ورمى بهما إلى الأرض وقال يا بنت الـ . . ده أكلك ما دمت عايشة . لم أمس الخبز ولا الجبن وأخذت الماء وأغمضت عيني لشدة قذارة إنائه وسددت أنفى، ورفعت الماء إلى فمي وأنا أقول : "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم " . "اللهم اجعله غذاءً وريا، وجهادا وعلما، ومعرفة وصبرا ورضا" . وشربت من الكوز وأغلقت الزنزانة . ومكثت على حالي إلى ما قبل غروب الشمس . حين فتحت الزنزانة ودخل الشيطان الأسود . وقال وهو يضرب بالسوط الذي في يده – على الحائط وعلى أرض الزنزانة : قومي يابنت الـ .. روحي المراحيض .. وعندما خرجت كدت أن أسقط على الأرض لشدة إعيائي فأمسك بذراعي ومشى بي حتى أدخلني المرحاض ، ولما أردت اغلاق باب المرحاض قال : ممنوع اغلاقه ، فخرجت من المرحاض وقلت له : أرجعني إلى الزنزانة لا أريد شيئاً . قال في وحشية والجاهلية تغطي عليه وعلى المكان . أدخلي يا بنت الـ . . أمال إحنا حانحرسكم إزاي يا أولاد . . . . أريد من القارئ أن يتصور معي هذا الموقف ؟! أي جاهلية وأي إلحاد يبيح ذلك ؟ . عدت إلى الزنزانة وأنا أتمنى الموت إن كان الموت خيرا لي . حتى لا أضطر مر ة أخرى إلى الذهاب إلى دورة المياه مع هذا الشيطان ، أغلقت الزنزانة فتيممت وصليت المغرب . وما أن انتهيت حتى فتح باب الزنزانة ودخل الوحش الذي أدخلني من قبل حجرة الكلاب ويدعى صفوت الروبي، ومعه شخصان . ثم قال أتفضل يا دكتور. تولى أحدهم الكشف على وأنا على إسفلت الزنزانة . قال واحد من الواقفين للذي يكشف على : إيه يا شعراوي؟ أجاب : لا شيء قلبها سليم . ذلك القلب الذي أصيب بجلطة من التعذيب . وخرجوا وأغلقت الزنزانة . وبعد دقائق فتحت الزنزانة وأخذوني إلى حوش مرعب مظلم مخيف وتركوني ساعتين تقريبا . وجهي للحائط بعد أن أمروني بعدم التحرك . وقالوا لي وهم يغلقون على باب الحوش : أجلك انتهى النهاردة ! يا بنت الــ . . أخذت أفكر فعلا فيما يقولون وأطلب من الله السكينة والأمن وأن ألقاه على الإسلام ، وأخذت أتلو فاتحة الكتاب وسورة البقرة وأنا أحس وكآني أقرأها للمرة الأولى . واصلت بالتلاوة حتى أيقظتني من استغراقي صفعة من يد غليظة قاسية وصعق الكهرباء، وأخذ هذا الوحش يضربني بقسوة بالسوط على جسدي حيثما وقع ، ثم أعطاني ثلاث ورقات بيضاء وقال : والظلمة تتساقط من وجهه كأنما في عينيه شيطان : إكتبى هذه الأوراق ! ودخل ثلاثة رجال يأمرونه أن يعيد ضربي ويعلقون : " حتى لا تنسى أن تكتبي ما نريد يا بنت الــ . . .. " ثم أمروه بعد فترة بإيقاف الضرب وأمسك بي أحدهم في غلظة ورمى بي إلى الحائط . عرفت فيما بعد أنه حمزة البسيوني . وتلقفني آخر، ويدعى سعد خليل فأخذ يهزني هزا عنيفا حتى أسقطني على الأرض وأمر العسكري أن يركلني بقدمه . ثم جاءوا بمقعد أجلسوني عليه وأعطوني الأوراق وأنا لا أستطيع أن أمسكها لشدة ما بي، وقاومت وأمسكتها والألم يعتصرني . وصاح بي أحد هؤلاء الأقزام : اكتبي أسماء كل من تعرفين في السعودية . في السودان . في لبنان ، في الأردن . في أي مكان في العالم . اكتبي كل معارفك على وجه الأرض ، إذا لم تكتبي فسنضربك بالرصاص في هذا المكان الذي تقفين فيه . اكتبي كل معارفك من الإخوان المسلمين وكل شئ عن صلتك بهم . وقدموا لي قلما ثم أغلقوا الباب وخرجوا . وجلست إلى الأوراق وكتبت فيها : إن لي في كثير من البلاد أصدقاء عرفوني عن طريق الدعوة الإسلامية . فحركتنا في الأرض هي لله سبحانه ، والله يسوق إلينا من يختار وجهته وطريقه . الطريق الذي سلكه من قبلنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح . . .

إن غايتنا أن ننشر دعوة الله وندعو للحكم بشرعه . أنني باسم الله أدعوكم أن تتخلوا عن جاهليتكم وتجددوا إسلامكم . وتنطقوا بالشهادتين وتسلموا لله وجوهكم ، وتتوبوا إلى الله من هذه الظلمة التي رانت على قلوبكم فأغلقتها في وجه كل خير، لعل الله يخرجكم من ظلمة الجاهلية إلى نور الإسلام . وبلغوا ذلك لرئيس جمهوريتكم لعله يتوب ويستغفر ويعود للإسلام ، ويخلع عن نفسه أطمار الجاهلية . فان أبى فانتم مسئولون عن أنفسكم وعن الطريق الذي اخترتموه . وأشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمدا عبد لله ورسوله . اللهم اشهد أنى قد بلغت دعوتك ، فان تابوا فتب عليهم . اللهم وتب علينا فانك أنت العزيز الحكيم . وثبت أقدامنا على الطريق وامنحنا الشهادة في سبيلك عطاء منك وفضلا . .

كتبت ذلك مستعينة بالله واثقة أنى أديت رسالة الله . وعدت إلى تلاوتي، وجاء المدعو صفوت الروبي فاخذ الأوراق وتركني في هذا المكان المرعب بعد أن أطفأ النور . ولم تمض فترة حتى فتح باب الحوش وأوقدت الكهرباء ودخل أربعة جنود ومعهم صفوت يصيح بكل ما في قاموسه البشع من ألفاظ السباب والشتائم . يا بنت الــ . . و . . و . . إحنا بنهزر؟ إيه الكلام الفارغ اللي أنت كاتباه ده ؟ .

ثم صاح قائلا : انتباه ! ! حمزة باشا البسيوني ، مدير عام السجون الحربية . ودخل مدير عام السجون الحربية تسبقه كلمات يقذف بها ، لا تساويها في سفالتها أي كلمة أو لفظة سمعتها من قبل ، على قذارة ما سمعت . أخذت أنظر إليه باحتقار شديد وازدراء . وكانت في أيديهم أوراق قالوا كذبا إنها الأوراق التي كتبتها ومزقها أحدهم وهم يعيدون ما قاله صفوت من أنهم لا يهزلون وأنهم يستنكرون الكلام الفارغ الذي كتبته . وقال البسيوني : خذوها. دي ما فيش فايدة فيها . ثم خرج ، إلا أنه لم يلبث أن عاد صفوت ومعه جند طرحوني أرضا بقسوة ووحشية ولا أدري كيف وضعوا يدي ورجلي في قيد وعلقوني على خشبة كما يعلق الجزار ذبيحته وجلدت وحشيا من أناس تمرنوا وتمرسوا في الجريمة . كنت أردد اسم الله تعالى حتى أغمى على . أفقت فوجدت نفسي على نقالة مثل نقالة المستشفيات . كنت عاجزة عن الحركة والكلام . غير أنى كنت أحس بما يقع . وذهبوا بي إلى الزنزانة . ولما أفقت من إغمائي وجدت نفسي مصابة بنزيف شديد. طرقت الباب أستغيث بأن يسعفوني بشيء أجفف به الدماء المتدفقة. وطلبت الطبيب فجاء الجواب سبابا ولعنات .

وعدت إلى ربى أساله - وهو الذي بيده كل شئ - أن يرفع عنى ما بي . وتذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب ا ودعوت الله أن يوقف الدم . واستجاب الله دعائي كرما وفضلا . غير أنى ظللت أقاسي من آلام شديدة بجسدي كله . ناهيك عن قدمي كان بهما نارا موقدة . ولجأت إلى ذكر الله والصلاة له ، أروض نفسي بالانصراف إليه على احتمال ما بي . ومرت ليال قاسية وأنا على هذه الحال : آلام مبرحة ولا طبيب ولا علاج إلا هذا الشيطان الأسود الذي يفتح الباب مرة كل يوم ليرمى بقطعة من الخبز وأخرى من الجبن . وكما يضع هذا الشيء يأخذه فقد كنت لا أطيق رائحة ما يقدمونه من طعام .

ولكن الله ألف بينهم

وفى يوم أحسست بمن يجذبني إلى باب الزنزانة . كان صوت أقدام أحسست أن قلبي ينجذب إليها . وأمسكت بباب الزنزانة ووضعت عيني عالي الثقب الذي يراقبونني منه بين الحين والحين . ورأيت صاحب هذه الخطى . كان الإمام حسن الهضيبي المرشد العام . وأدركت أنهم قبضوا عليه . ووضعت فمي على الثقب وقرأت قوله تعالى : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ، إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) آل عمران : 139 - 140 . وصرت أترقب هذه الخطى الغالية . وكان الله يرزقني رؤيته كل يوم . فكنت أقف وأردد الآية ويجيب بإيماءة خفيفة لا يلحظها الشيطان الذي يرافقه . كان هذا اللقاء يؤنسني كثيرا ويشغلني عن جل آلامي. وهذا أمر لا يحس بجلاله غير المؤمنين المتآخين في الله . فالإسلام يربط بين قيادته وجنده برباط يعلو بالنفوس حتى تؤثر مرضاة الله على نفسها . وعشت يغمرني الاطمئنان بذلك .

عودة إلى دوامة التعذيب والمساومة

لم يطل بي الاطمئنان . فذات مساء فتحت الزنزانة وفاجأني الشيطان صفوت بالسوط يضرب به كل شيء ويضرب به الحائط . ثم أخذني بوحشية من ذراعي وأخرجني من الزنزانة إلى حوش السجن . فإلى مكتب يواجه السجن رقم (2)، وأجلسني على مقعد تجاه مكتب وتركني وخرج ، وما لبث أن جاء شيطان آخر سألني عما إذا كنت زينب الغزالي ولما أجبت بالإيجاب خرج كما دخل . وبعد فترة دخل ثلاثة جنود كأنهم خارجون لتوهم من جهنم . طول أجسامهم مرعب وعرض أجسامهم كذلك . وجوههم تعكس غلظة قلوبهم . وبعدهم بقليل دخل رجل فسألهم عما إذا كانوا قد عرفوني ورأوني ، وأجابوا بنفس واحد بالإيجاب ، وقالوا بأن موعد موتى قد حل . ثم خرجوا ليعودوا بالأخ فاروق المنشاوي فيجلدوه بعد أن قيدوه وصلبوه على عود من الخشب . وبين الجلدة والجلدة كانوا يسألونه عن عدد المرات التي زارني فيها . ويطلبون منه أن يسبني فيرفض فيزيدونه جلدا، وأنا أتمزق مما أرى وأسمع حتى طرحوه أرضا واعتقدت أنه يحتضر . ولكن إرادة الله شاءت له أن يعيش وبحاكم ليحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة . يدعو في السجن للإسلام وللحق الذي آمن به حتى امتدت إليه يد آثمة وبتعليمات من عبد الناصر لتقتله في سجن ليمان طره فيفوز بالشهادة . ولم يكتف الآثمون بجلد الأخ فاروق ، بل أتوا بأخ آخر علقوه على أعوادهم وأعادوا عليه ما سألوا فاروق عنه ورفض الأخ كما رفض أخوه من قبل . واشتد العذاب وتعب الشاب وظنوا أنه يموت . فأنزلوه أرضا ورفعوه على نقالة وانصرفوا به لا يدرى أحد إلى أين . . . ويبدو أنهم اعتقدوا أن ما رأيت وما سمعت . . سيدفعني إلى بعض ما يريدون فأرسلوا لي رجلا يتصنع أنه من أهل النصيحة والخير. حياني وقدم لي نفسه على أنه عمر عيسى وكيل النيابة (وعرفت فيما بعد أنه أحد شياطينهم ). ثم بدأ نصيحته قائلا : أنا يا حاجة زينب أريد أن أتفاهم معك لأنقذك من بين أنياب وبراثن هذه البلاوي . كيف ترمين بنفسك في هذا "القرف " وأنت زينب الغزالي . المحترمة المصونة . شوفي الإخوان المسلمين ، كلهم بمن فيهم الهضيبي اعترفوا بكل شيء.

وقالوا عنك كلاما يحكم عليك بالإعدام . حموا أنفسهم ورموك أنت . أنا رأيي يا حاجة أن تدركي نفسك قبل فوات الأوان وتقولي الحقيقة وتقولي لنا : ماذا كان هؤلاء ينوون فعله ، وتوضحي موقفك وأنا متأكد إن موقفك سليم .

وصمت ولم أجبه . قال : "جاوبي يا ست زينب في هدوء وروية . نحن نريد أن نصل إلى الحقيقة". فأجبت : أعتقد أن الإخوان المسلمين وأنا معهم ومنهم لم نفعل شيئا يغضب البشر السوي المدرك للحقيقة . ماذا فعلنا؟ كنا نعلم الناس الإسلام فهل في هذا جريمة؟.

وصمت فقال : " لكن أقوالهم تثبت أنهم كانوا يتآمرون على حاجات كثير منها قتل جمال عبد الناصر وتخريب البلد، وأنك أنت اللي كنت تحرضينه على ذلك . وأنا وكيل نيابة ليس لي مصلحة إلا الوصول للحقيقة. فما رأيك بعد هذا؟" .

قلت : ليس من أهداف الإخوان المسلمين قتل عبد الناصر أو غيره أو تخريب البلد، الذي خرب البلد فعلا هو جمال عبد الناصر. إن غايتنا اكبر من ذلك . إنها الحقيقة الكبرى قضية التوحيد في الأرض ، توحيد الله ، عبادة الله وحده ، إقامة القرآن والسنة . إنها قضية ( إن الحكم إلا لله ) الأنعام : 57 وعندما نحقق غايتنا إن شاء الله ستهدم هياكلهم وتنتهي أسطورتهم . إن أهدافنا الإصلاح لا التخريب . البناء لا الهدم ". فابتسم ابتسامة باهتة وقال : "يعنى فعلا أنتم تتآمرون على عبد الناصر وحكمه . هذا ثابت من أقوالك يا ست زينب ". قلت : "الإسلام لا يعرف لغة التآمر، ولكن يجابه الباطل بالحق ويوضح للناس الطريقين : طريق الله تعالى وطريق الشيطان " . الذين يسلكون طريق الشيطان مرضى بؤساء نقدم لهم الدواء في إشفاق وعطف والدواء في أيدينا : دعوة الله ، دين الله ، شريعة الله ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) الإسراء : 182 . وانقلب وجه الشيطان الذي كان يدعى أنه وكيل النيابة، والحق أنه كان سعد عبد الكريم . وخرج وهو يقول : أنا أردت أن أخدمك . ولكن يظهر أنك مازلت مخدوعة بما صوره لك الإخوان المسلمون . . وجاء صفوت الروبي فأوقفني ووضع وجهي إلى الحائط وتركني ساعات أتمزق بما أسمع من تعذيب الإخوان ، وجلدهم واحدا بعد الآخر، يحضرني من أسمائهم : مرسى مصطفى . فاروق الصاوي . طاهر عبد العزيز سالم . وعاد كيل النيابة المزعوم ومعه حمزة البسيوني وصفوت الروبي . وقال حمزة : لماذا لا تريدين أن تتفاهمي مع وكيل النيابة؟ نحن نريد أن نخلصك من الورطة التي أنت فيها . أنا أعرف زوجك . هو رجل طيب وأنت حا توديه في داهية! ! حسن الهضيبي قال كل حاجة . والإخوان قالوا كل حاجة . وأنت لم لا تخلصين نفسك مثلهم ؟. قلت : صحيح ! الإخوان قالوا كل حاجة ولذا تجلدونهم وتصلبونهم على الخشب . أنا لا اكذب على الإخوان ولا على نفسي. . نحن مسلمون ونعمل للإسلام وهذا هو عملنا !!

كان يقف خلفهم أربعة من زبانيتها يضربون بسياطهم الأرض التي كانوا يجلدون عليها الإخوان . نظرت إلى وكيل النيابة المزعوم وقلت : وهذه السياط يا وكيل النيابة؟ هل هي من مواد القانون في كلية الحقوق ؟ وضربني حمزة البسيوني على وجهي وهو يقول : هو أنت يا بنت الــ. . . . . حا تجننينا! أنا اقدر أدفنك زي ما با دفن عشرة كل يوم منكم ! فنظرت ثانية لوكيل النيابة المزعوم وقلت له : لماذا لا تكتب هذا الكلام في محضرك ؟ إذا كان معك محضر ! !

فنظر إلى حمزة البسيوني وقال : خلاص تصرفوا أنتم ، أنا كنت أريد أن أخدمها لكن هي لا تريد. وكانت هذه الكلمة بمثابة أمر لصفوت وزبانيته الذين يضربون الأرض والحائط بالسياط ، وتحولت السياط إلى جسدي فأغمضت عيني خوفا من أن يصيبها السوط ، وظلت السياط نازلة على جسدي بوحشية ، وأنا أشكو إلى الله وكنت كلما اشتد الألم رفعت صوتي قائلة : يا رب ! يا الله ! وتركوني بعد أن ألصق صفوت جسدي بالحائط ورفع يدي إلى أعلى وأنا أردد يا لطيف ! يا الله . أنزل بي عونك ! ألبسني سكينتك ! ! بعد ساعات جاء صفوت ومعه شيطان أسود يدعى سامبو . ضربوني على وجهي عدة ضربات وأخذوني إلى الزنزانة وأغلقوها . بعد دقائق من إغلاق الزنزانة سمعت آذان الفجر فصليت ودعوت الله : "إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل على سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك "!!


مندوب رئيس الجمهورية

تركوني في الزنزانة ثلاثة أيام ، أخذوني بعدها لنفس المكتب حيث كان يجلس رجل أبيض طويل القامة.. قال : اجلسي يا ست زينب ، نحن عرفنا أن الجماعة هنا أتعبوك . أنا أعرفك بنفسي : أنا من مكتب السيد رئيس الجمهورية، ونريد أن نتفاهم معك يا ست زينب !! البلد كلها تحبك ونحن أيضا نحبك .

لكن أنت متباعدة عنا ومخاصمانا ولا تريدين أن تتفاهمي معنا . لكن والله لو تتفاهمي معنا يا ست زينب سنخرجك اليوم من السجن الحربي، كلنا نقول : هذا الوضع ليس لك أنت . أنا لا أعدك أن تخرجي من السجن فقط . بل أعدك أيضا أن تكوني وزيرة للشئون الاجتماعية بدل حكمت أبو زيد . . . قلت له : هل جلدتم حكمت أبو زيد قبل أن تصبح وزيرة وأطلقتم عليها ا لكلاب ؟ . قال : ما هذا الكلام ؟ هوده حصل ؟ . نحن متألمون لمجرد وجودك هنا .

قلت : وماذا تريدون منى؟ . قال : الإخوان المسلمون لبسوك كل التهمة . والهضيبي لبخ في الموضوع وعبد الفتاح إسماعيل قال كل حاجة، وسيد قطب قال كل حاجة . لكن نحن أحسسنا أنهم يحاولون تخليص أنفسهم وتحميلك أنت المسئولية كلها . ولذا جئت النهاردة بنفسي بأمر من الرئيس عبد الناصر حتى نتفاهم وتخرجي معنا . وسأوصلك إلى بيتك بعربيتي، وأحب أعرفك أن من أقوال الإخوان أصبح معروفا ومعلوما لدينا أنهم كانوا يريدون الاستيلاء على الحكم ، وإنك أنت التي رسمت الخطة للاستيلاء على السلطة وقتل عبد الناصر وأربعة وزراء معه . ونحن نريد فقط توضيح موقفك ودور سيد قطب والهضيبي في الموضوع . ومن هم الوزراء الأربعة المطلوب قتلهم : تفضلي تكلمي! واشرحي لنا الموقف بالتفصيل . قلت : أولا الإخوان المسلمون لم يدبروا خطة للاستيلاء على الحكم ولا لقتل عبد الناصر والوزراء الأربعة المزعومين ولا لقتل واحد . الموضوع هو دراسة للإسلام ولمعرفة أسباب تأخر المسلمين والحالة التي وصلوا إليها . . عند ذلك قاطعني قائلا : يا ست زينب أنا قلت لك : هم قالوا كل حاجة. قلت : جائز جدا.

وقطعا قالوا ما أراده الجلادون منهم . فترخصوا لأنفسهم وقالوا شيئا لم يحدث . . .

القضية كلها أننا كنا ندرس الإسلام ونعمل على أن نربى له جيلا يعيه ويفهمه . فإن كانت هذه جريمة فأمرنا لله " . فأقسم بالله العظيم أنه يريد خدمتي وأنه حضر خصيصا لخدمتي. قلت له : شكرا أنا لم أفكر يوما أن أكون موظفة حتى ولا وزيرة ، أنا قضيت عمري في خدمة الإسلام وموضوع وزارة الشئون لا يعنيني في قليل أو كثير لأني لا أصلح للوظيفة، فعملي كله التطوع لخدمة الإسلام . وقام الرجل وتركني في الحجرة بعد أن قال : أنت حرة، نحن عرضنا خدماتنا وأنت ترفضين . . .

وبعد خروجه بساعة دخل الحجرة رياض ومعه صفوت وكان رياض قد هددني أكثر من مرة بأنه سيقتلني إذا لم أقل له ما يريد، وتكررت عملية الضرب السابقة التي لم يمر عليها اكثر من ثلاثة أيام وبعد الضرب المؤلم أعادوني إلى الزنزانة . كان ذلك أيضا مع طلوع الفجر .


وجوه غالية تدخل زنزانتي

في عصر اليوم التالي سمعت أصوات أعرفها وأحبها ، قمت بصعوبة إلى الباب ونظرت من الفتحة الضيقة ، فرأيت الشيطان حمزة البسيوني وتابعه صفوت يسدان على الفتحة، إلا أنى سمعت أصواتا أعرفها، وما لبث الشيطان وتابعه أن تحركا فرأيت بعض الوجوه الغالية : علية حسن الهضيبي، وغادة عمار. وجلست حتى لا يراني أحد من الطغاة وأنا أنظر من فتحة الباب ، غير أن الألم أخذ بي فغطى كل مشاعري وأحاسيسي، وأخذت أدعو الله سبحانه وتعالى وأسأله أن يدفع عن بناتي وأخواني شرور الطغاة . كنت مستغرقة أفكر : علية حامل في شهورها الأخيرة ؟ كيف اعتقلها الطغاة؟ وغادة؟ ماذا فعلوا برضيعتها الصغيرة؟ كيف تركتها؟ إنها لقسوة وفجور ووحشية ! ! يا للبشر من حكامهم عندما يرتدون أردية الجاهلية، فتغطى كل مشاعرهم وتضيع ضمائرهم فيصبحون جلادين لرعاياهم ! ويلك يا عبد الناصر! أيها الطاغوت كم خدعت قومك ! !

وينفتح الباب ويرمى الشيطان الأسود ببطانية ووسادة ، وكان قد مر علي ثمانية عشر يوما وأنا أفترش الإسفلت ، وأعود بعد لحظات ووسادتي يرمى بهما على الأرض وأنا في دهشة مما يحدث . ولم تلبث دهشتي أن زالت حين فتح الباب ثانيه ليدخل صفوت وحمزة البسيوني مصطحبين علية الهضيبي وغادة عمار يدخلانهما ويخرجان ويغلق باب الزنزانة . وتقبل على علية تأخذني بين ذراعيها تقبلني وأنا منصرفة عن نفسي والدنيا وتتساءل في ألم : أنت الحاجة؟ والتفت إلى غادة فأرى عينيها ممتلئتين بالدموع تغرقان وجهها. وأسأل علية في ألم . .ألم تعرفيني ؟ فتجيب : لا . . لا. . يا حاجة لقد تغيرت كثيرا نقص وزنك إلى حد مخيف ، وأصبح وجهك كأنه وجه شقيقك سعد الدين . قلت : هذا أمر طبيعي، أنت لا تعرفين الهول الذي أعيش فيه . وفوق ذلك فأنا لا أتناول من الطعام إلا ملعقة من السلاطة في اليوم والليلة يرمى بها الجندي وهو مرعوب يخشى أن يضبط متلبسا بجريمته . وتحاول أن ترتب المكان بما أصبح فيه من بطاطين ووسادات . وتجد وتسألني عن مصحف ، مسكينة علية لقد حسبت أننا نتعامل مع "آدميين " بل نسيت علية أننا هنا مع أعداء المصحف ؟ " أأنتظر منهم أن يسمحوا لي به وتعرض على غادة مصحفا صغيرا كان معها وكذلك تفعل علية. ونجلس ولما مددت رجلي المكسورة التماسا للراحة ظهرت آثار التعذيب وضرب السياط ، وتسألني علية عما ترى فاتلوا عليها الآية الكريمة عن أصحاب الأخدود ( النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) ، وتبكي غادة في صمت وتتساءل علية في عجب : أيمكن أن يحدث هذا مع النساء ، علية طيبة القلب لم تستطع أن تصل بخيالها إلى المدى الذي يمكن أن يبلغه حكم عبد الناصر من عداوة لله ثم للدعاة .


وفاة رفعة مصطفى النحاس

وأرادت علية أن تغير الموضوع وأن تخرج بي خارج الأسوار ، ونقلت لي نبأ وفاة مصطفى النحاس باشا . وخنقتني عبارات الوفاء وأنا أدعو ربي " اللهم إنك غني عن عقابه وهو فقير إلى رحمتك ، اللهم فارحمه " وعرفت منها أنه مات بعد دخولي السجن بيومين أو ثلاثة . وحدثتني عن جنازته ، وعن الألوف المؤلفة التي التي كانت تسد جميع الطرقات ، عن المظاهرات ، عن خطف النعش حتى مسجد الحسين ، عن الهتافات بألا زعيم بعد النحاس ، عن بعض شعارات الإخوان وسط مسيرة الجنازة ، عن محاولة أجهزة الدولة الوقوف أمام هذا الطوفان ، عن تعليق الإعلام الخارجي على ما حدث .. وكان حديثاً طويلاً مطمئناً صريحاً . لقد انتهزت جماهير الشعب فرصة وفاة النحاس لتبدي رأيها صريحاً واعتقادها سليماً فهتفت معلنة مدوية تشق بهتافها سماء مصر : " لا زعيم بعدك يا نحاس " . فكأنها بتلك الصرخات المدوية تعبر عن حرمان مكبوت في النفوس والقلوب والمشاعر . والوجدان فكأنها تقول : " أيتها الزعامات الباطلة أسقطي " " أيتها الأقنعة الزائفة انكشف الغطاء ووضح خداعك وغشك " " أيها المنقذ أغرقك السراب والوهم " " يا حبيب الملايينأمرت الفجار فزيفوها فصدقتهم وما أنت إلا وليد إعلام مأجور وكاتب مأمور " " أيتها الخشب المسندة ستحرقك النار .. نار الحق فتصبحوا رماداً تذروه الرياح يا سراباً وأهل الحق ظمأى " .

وسألت علية وماذا بعد ذلك ؟ قالت يتهامس الناس على اعتقال عشرين ألفاً من المشيعين . نعم لقد كانت جنازة النحاس أذان حق واعلان صدق عن سريرة مصر والمشاعر الحبيسة في نفوس أبنائها والحرية المكبوتة . وشدني الحديث إلى ذكريات كثيرة عن مصطفى النحاس ، ذلك الرجل الذي لم يحقد يوماً على أعدائه ، وكان لا يعز عليه أن يعترف بالخطأ إذا أخطأ ، لقد كان زعيماً وطنياً . وسألت محدثتي هل اعتقل أخي " سيف الغزالي " الوفدي فلم تؤكد علية ولم تنف ، وساد الصمت فظنت بي خوفاً على أخي فربتت على كتفي قائلة : يا حاجة كل شئ عنده بمقدار . لم يكن بي خوف ولكن كان انشغالي بهذه الصورة الرائعة للجنازة . فقد كانت صورة التشييع كما نقلتها لي علية تعطي إشارة صريحة وقوية إلى أن نبض هذه الأمة لم يتوقف رغم كل إيحاءات أجهزة الإعلام التي خدعت الناس وبخاصة خارج مصر فظنوا الطاغوت إنساناً أو كما علقت عليه علية ـ ظنوه المنقذ - ما حدث كان يعني أنه ـ بإذن الله ـ سيأتي اليوم الذي تكشف فيه الحقائق ليعلم الناس حقيقة حكامهم وما يبيعون وما يشترون ، يبيعون شعوبهم وضمائرهم ويشترون مقاعد للحكم مقابل سحق الإسلام والمسلمين ، إنه لتخطيط رهيب ! وانصرفت إلى غادة أسألها عن زوجها وأولادها ووالديها . ومن بين دموعها عرفت أن الزوج هرب لاجئا إلى السودان ، وأن الأم مريضة تائهة بين سمية المريضة وهالة الرضيعة . وأنها ما كانت لتهتم بشيء لولا الطفلتين . هدأتها ودعوت للجميع ثم سألتها عن ضياء الطوبجي وهل تم زفافه ؟ وكان الجواب أنهم قبضوا عليه ويده في يد عروسته والمأذون ، وقبضوا على عروسته وهى في ملابس الزفاف وعلى أخته منى وأخيه الدكتور . وهزني نبأ القبض على الفتيات وتساءلت : إذن كان القصد هو القبض على كل من له اتصال بالإخوان . وتدخلت علية لتقول : بل على كل من يرى مؤديا للصلاة . وبدأت غادة تحدثني عن الاعتقالات والوحشية في تفتيش المنازل ليلا ونهارا ولم أكن بحاجة إلى هذا الحديث فقد حدث هذا معي واكثر. قلت : أعتقد أن التتار حين حاربوا الإسلام لم يفعلوا ما فعله عبد الناصر وزبانيته ، ولا الرومان حين كانوا في مصر قبل الفتح الإسلامي . لقد أنسانا الحكم الناصري فجور المجرمين في التاريخ الإنساني كله . إنه مارد أصم عن سماع الحق أعمى عن رؤية النور. فلا عجب أن يجلد النساء ويسجنهن ويقتل الرجال وييتم الأطفال ويرمل النساء ! ! والحديث بمرارته وما فيه من شجون وأسى كان الواقع يحكى ذلك كله . والتفتت إلى تحدق بي وتغوص بعينيها في قدمي المنتفختين وساقي المتورمة وقالت : أظن أن دورنا في التعذيب قد جاء يا حاجة، ربنا يعيننا ويصبرنا. وسآتيك بفوطة من حقيبتي أغطى بها رجليك ، أليس معك حقيبة ملابس يا حاجة؟

ظللت : ثمانية عشر يوما وأنا في هذه الملابس الملوثة بدماء النزيف كما ترين يا ابنتي . وأخذت غادة تبكى وهى تنظر إلى ملابسي المجمدة بالدم والصديد فوق جسمي . واقترحت على أن تغير ملابسي بما معها هي ولما رفعت الملابس الممزقة عن جسدي فوجئنا بآثار السياط تمزقه وكانت صيحة استنكار وألم ، فهذا مما لا يمكن أن يحدث مع النساء في نظرهما. . وحاولت أن أخفف عنهما ما رأتا فحمدت الله على أن كان هذا في سبيله سبحانه وتعالى، لا في سبيل أي دعوة دنيوية أو إلحادية، حمدته على أن أكرمنا بالإسلام وحمدته على أن شرفنا بمظلة : أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبد لله ورسوله ". وحاولت علية بدورها أن تخفف عنى، فنقلت لي أحاديثهم عنى حديث أختها السيدة خالدة الهضيبي عن أن السجن لن يضيرها بشرط أن يدعوها فيه معي في زنزانة واحدة. لقد هزني هذا الحديث كثيرا . ولكن لو رأت خالدة جسمي لغيرت رأيها وطلبت من الله أن يعافيها . . ودعوته سبحانه أن يعفى جميع الأخوات وجميع المسلمين والمسلمات من جور وظلم أهل الباطل .


الطعام عبادة

وفتح باب الزنزانة فجأة فانقطع ما بيننا من حديث ودخل الشيطان الأسود وبيده ثلاثة أرغفة من الخبز و" قروانة" صفيح بها فاصوليا مسلوقة . أخذتها منه علية . وأغلق الباب . كنت لا أطيق رائحة هذا الطعام . وكانت علية حاملا ويبدو عليها الإجهاد . وكأنها أحست بما في نفسي فقربت الطعام منى وهى تقول : الأكل حلو يا حاجة! وناولتني رغيفا ، وناولت غادة رغيفا آخر وابتدأت تأكل وتبعتها غادة . قالت علية : يجب أن أكل من أجل الضيف الذي هنا ! ! وأشارت إلى حملها ولما رأتني متوقفة توقفت وكذلك فعلت غادة . قالت علية : نحن نأكل ونقول مع كل لقمة بسم الله الرحمن الرحيم . ولم أستطع أن أبتلع الطعام . فقالت علية : يا حاجة أنا معتقدة أنك أصبحت في نصف وزنك طبعا من عدم الأكل ، وقد أصبح الأكل في هذا الوقت عبادة . فالجلادون سيسعدهم أن تموت زينب الغزالي . والامتناع عن الأكل حرام . حاولت دون جدوى أن أناقشها بأني آكل ما يمسك على الحياة، وإرادة الله قد أعطتني الصبر عن الطعام والقدرة على الاكتفاء بملعقة سلاطة . ومازالت بي تلح حتى أكلت . ويعلم الله أنه كان عذاباً لا طعاماً . وفى صبيحة اليوم الثاني لحضور علية وغادة، استطعت أن أشركهما معي في لقائي اليومي بالمرشد العام عن طريق ثقب الباب ، وحدثتهما عما بعثه في نفسي من طمأنينة وراحة . واستطاعت علية أن ترى أباها في ذهابه إلى دورة المياه وإيابه وكذلك غادة . وجلسنا باقي النهار تحكى لنا فيه غادة كيف قبضوا عليها وكيف التقت بحميدة قطب بعد القبض على، وأبلغتني أنهم قبضوا على آل قطب جميعا . ومرت ساعات اليوم ثقيلة بطيئة تقطع وحشتها ركعات الصلاة الجماعية .


وجاء ليل المساومة والعذاب

وعند صلاة العشاء فتح باب الزنزانة ودخل الشرير صفوت الروبي ومعه جندي آخر وأخذاني إلى المكتب الذي سبق أن دخلته مرتين من قبل ذلك . وجدت رجلا يجلس على المكتب ، ألقيت عليه السلام فلم يرد . وأخذت نظراته الوحشية تتفرسني وهو يقول : أنت زينب الغزالي؟ قلت : نعم . أشار إلى مقعد أمامه لأجلس عليه ثم قال : إذن أنت زينب الغزالي ! ! لماذا أسأت إلى نفسك إلى هذا الحد؟ أكل هذا لأجل الإخوان المسلمين ؟ كل واحد منهم يحاول تخليص نفسه . وهم جميعا يرمونك أنت في البئر وحدك . أنت صعبانة علينا. أنا ألفيت على نفسي أن أنتشلك من البئر. وسأتفاهم معك على بعض الأمور. تذهبين بعدها إلى البيت . ليس هذا فقط . أنا أقول لك باسم جمال عبد الناصر : إن تم التفاهم وعقلت فسيصدر الرئيس قرارا بإعادة المركز العام للسيدات المسلمات وسيرجع لك مجلتك ، وسيعطيك إعانة للمجلة ألفي جنيه شهريا وسيصرف لك مبلغا كبيرا للجمعية ويعيدها أحسن مما كانت . إن تفاهمت معي سأرسل في إحضار ملابسك وبعد ساعة سنقابل جمال عبد ا لنا صر . . أنت صعبانة علينا والإخوان الذين أوقعوك في داهية . ربنا يسامحهم . الريس قلبه كبير !. . كان يتكلم وأنا صامتة لا أجيب . . فقال : ما تردى يا ست زينب ؟ والله الريس ناوي يقيل حكمت أبو زيد ويجيبك مكانها. نحن نريد أن تتعاوني معنا . افتحي قلبك وقولي كل شئ وستعرفين أنني أخوك وأحب لك الخير . وناس طيبون كثيرون في الخارج أيضا يحبونك ويتوسطون من أجلك . وقد قلبوا الدنيا لأجلك . قلت : أنا لا أريد أن كون وزيرة، ولم يجل بخاطري هذا الأمر في يوم من الأيام ، أما جماعة السيدات والمجلة كذلك . . فقد فوضت أمري فيهما لله ، وليس من الضروري للمسلمين أن يعملوا تحت راية مجلة أو جماعة فهم يعملون تحت راية لا إله إلا الله . قال : إذن فلم كنتم ترتبون لإعادة الإخوان المسلمين ؟ يا ست زينب ؟ قلت : نحن مختلفون في فهم كل شئ . أنا مثلا أعتقد أن جماعة السيدات التي أسستها لم تحل . وعبد الناصر يتوهم أنه حلها باستيلائه على أموالها ودورها وممتلكاتها . فالمسلمون تعقد راياتهم بيد الله ، وما يعقده الله لا يحله البشر. وجماعة الإخوان مثل جماعة السيدات المسلمات لم تحل أيضا . ودعوة الله ماضية في طريقها وكلمة الحق قائمة. وسيفنى عبد الناصر ودولته وتبقى كلمة الله . وعندما تنقضي آجالنا ونلقى الله ، سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون . !ن دين الله قائم ، ولا تزال طائفة من أمة الإسلام قائمة على الحق مدافعة عن دين الله ، مجاهدة في سبيل الله ، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك . وأدعو الله تبارك وتعالى أن نكون من الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، مبينين للأمة طريقها إلى الله تعالى . . هؤلاء الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المجددون لأمر الإسلام .

إن تأسيس جماعة الإخوان المسلمين لم يكن خبط عشواء من حسن البنا ولكنه كان تنفيذا لأمر أراده الله لتجديد هذا الدين بإقامة دولته وتنفيذ شريعته ولذا فليس من حق جمال عبد الناصر حل جماعة الإخوان . قلت هذا وسكت . فقال لي : والله إنك خطيبة فعلا. لكنى لم آتك لآخذ منك درسا في الإخوان ولتجتذبيني لأكون واحدا منهم . أنا آتيك لأصل معك إلى حل ينقذك من المصيبة التي أوقعت نفسك فيها . . لقد رمى الإخوان كلهم المسئولية عليك . . عبد الفتاح إسماعيل يقول : إنك أنت التي جندتيه . . الهضيبي خلص نفسه ورمى المسئولية عليك فقال : أنت أسست التنظيم . سيد قطب تخلص وشبكك أنت . . أنت إما طيبة جدا أو مجنونة . . عبد الناصر يريد أن يخلصك مما أنت فيه ، عبد الناصر (اللي البلد في خنصره ) يريد أن يسامحك عما مضى ويفتح صفحة جديدة . هو عارف انك خطيبة، لك تأثير على الناس والناس تحبك وجماهيرك كثيرة . . أنت يا زينب خسارة وأنت ورقة رابحة . . أهناك أحد يريد عبد الناصر أن يقربه ويرفض ؟ أنت مجنونة صحيح ! لا مؤاخذة . أنا أقول هذا لأني أريد مصلحتك وأنت طول عمرك تربين اليتامى وتعملين الخير. اعقلي يا حاجة وشوفي مصلحتك واسمعي كلامي . . . قلت : ألا يكفيك ما قلت ؟ قال : أمر بسيط جدا سترين الخير بعده : أن تذكري لي جميع أسماء الإخوان الذين كانوا يحضرون إليك في المنزل ، والطريقة التي كانوا سيقتلون بها عبد الناصر، ومتى أخذتم الأمر من الهضيبي بقتل الريس . كما نريد أن نعرف موقف سيد قطب ، وكيف أعدت الخطة وما هي تفاصيلها، وأنا أحلف لك برأس عبد الناصر أنك ستخرجين هذه الليلة من السجن ولتتسلمي وزارة الشئون الاجتماعية . دى فرصة لا تضيعيها، أنا حلفت لك بشرفي وشرف الريس . اعقلي وفكري جيدا في مصلحتك ، كل الإخوان الآن لا يفكرون إلا في أنفسهم . . وهنا دخل الحجرة رجل غليظ الجثة لا تقع عيني عليه إلا ورأيت شيطانا في وجهه . قال : يا سيادة العقيد لقد أحضرنا كل التسجيلات التي كنا نضعها في منزلها بالزيتون ومصر الجديدة . إذا أمرت نحضرها حتى تسمعها لها.

قال محدثي : اذهب أنت الآن يا رياض ! ثم عاد يكلمني قال : شوفي يا زينب ، أنا عارف أن زوجك رجل طيب وأريد أن أخدمك من أجلك وأجله . واخوتك منهم أصدقاء لي أعزاء على . أنا أريد أن أخدمك والرئيس حريص على أن تتفاهمي معنا وهو يريد خدمتك ، وأنا أعدك بشرفي وشرف الرئيس عبد الناصر أن أحرق الأشرطة أمامك إذا تفاهمنا، نحن نريد أن نخلصك من الورطة التي أوقعك فيها الإخوان ، والله العظيم نحن مسلمون أحسن منهم . ما هو الإسلام ؟ الإسلام أن لا يضر الإنسان أخاه ! !

قلت وكلى سخرية : والذي تشهده هنا، أليس إضرارا بأخيك وبالناس جميعا . قال في بلاهة : نحن طيبون جدا والنبي بس تفاهمي معنا وستدركين طيبتنا ..

قلت : أدعو الله أن يتوب عليكم وتكونوا مسلمين . وهنا أخرج ورقا من درج مكتبه وأمسك بالقلم وقال : يا ست زينب قولي من الذي كان يأتي عندك ؟ . قلت : لا أتذكر لأني لا أحفظ الأسماء ولا أسأل أحدا عن اسمه . قال : طيب ! نترك هذا الموضوع لنعود إليه بعد قليل . نتكلم في موضوع حسن الهضيبي وسيد قطب.

قلت : أي موضوع هذا؟ قال : موضوع قتل عبد الناصر والاستيلاء على الحكم ! قلت : يا أستاذ ! القضية اكبر من قتل عبد الناصر والاستيلاء على الحكم . قتل عبد الناصر أمر تافه لا يشغل المسلمين ، القضية قضية الإسلام ، الإسلام غير قائم ونحن نعمل لقيام الإسلام ونعمل على تربية نشء للإسلام . وإذا كان عبد الناصر يحارب الإسلام في أشخاص المسلمين وينكر الحكم بشريعة الإسلام مدعيا أن هذا رجعية وتعصب وتأخر فأمر لا يشغلنا . قال : أنت مجنونة ! هذا الكلام خطير. ألا تعلمين أنك لو قتلت هنا الآن ودفنت ما علم بك أحد. الظاهر أنك تستحقين ما أنت فيه . لو تركتك الآن فستقتلين بعد ساعة .

قلت : يفعل الله ما يشاء ويختار. ولم أكد أقول هذا حتى انقلب كالوحش الذي أخذه الصرع ، وأخذ يهذي في هستيريا بالسب واللعن والشتم . ثم نادى أحد الجنود وأعطاه إشارة جاء على إثرها رياض إبراهيم .

قال له : ودي التسجيلات للمحكمة . هذه مجنونة. اعرف شغلك معها وهات لها سعد وانصرف ذلك الذي كان يساومني . وحضر العسكري سعد وهو يقول نعم يا باشا. قال له : سويها يا سعد. وسأله سعد : كم جلدة يا باشا؟ قال : خمسمانة جلدة . وأنا راجع بعد قليل . وأخذ سعد يضربني بالسوط على يدي ورجلي وظهري وكل مكان في جسدي . ثم يتركني واقفة ووجهي للحائط ويغيب مقدار ساعة يعود بعدها لضربي بالسوط مرة أخرى . ثم جاءوا بجماعة من شباب الإخوان وأخذوا يجلدونهم ويلقنونهم ألفاظا قبيحة وسبابا مشينة ليوجهوها لي . وكان الشبان يرفضون ذلك فيزيدونهم جلدا .

وكان منهم الطيار ضياء الطوبجي الذي قبض عليه يوم زفافه .


وجاء دور حمزة في ليل المساومة !

بعد جلد شباب الإخوان وجلدي أخذوني إلى حوش السجن الذي فيه زنزانتي . وأوقفني المدعو سعد ووجهي للحائط ما يقرب من ساعة . كان البرد قارسا وآلام الركل والسياط شديدة . وجاء حمزة البسيوني، كنت قد بدأت أحفظ بعض الأسماء. وكان معه رياض الذي قال : يا بنت اعقلي وفكري في مصلحتك . نحن لا نريد إلا نفعك . انصحها يا حمزة باشا !

حاتعقلى وتعترفي كما اعترف كل الرجال أم لا ؟! قلت : ليس لدى ما أعترف به . الخير الذي كنا نجتمع من أجله هو بعث عقيدة التوحيد في نفوس الشباب . التفت حمزة لصفوت وكان يقف خلفه . فقال صفوت : أوامرك يا باشا . قال حمزة : هات لي كرسيا ولها كرسيا. زوجها صاحبي . ولذا سأتعب نفسي معها.

جاء الكرسي فأمرني بالجلوس ليعرف كيف يكلمني موضحا أنه يفعل ذلك من أجل زوجي . حاولت أن أجلس فلم أستطع . كانت السياط قد أخذت من جسدي مما أعجزني عن الجلوس . أعاد حمزة الأمر بالجلوس فقلت : كلمني وأنا واقفة . فقال لي : أنت التي فعلت هذا في نفسك وحقرت نفسك بهذا الشكل . لقد أصبح شكلك قبيحا، وأصبحت رجلاك مثل رجلي الرجل الوحش . إن زوجك سيغتم حين يراك بهذا الشكل . لقد أصبح سنك ستين سنة. وزوجك صاحبي وصعبان عليّ انظري إلى يديك ، كأنهما يدا عمال البناء .

قال صفوت : إنت بتقول يا باشا: سنها ستون سنة ، دي شكلها كما لو كان سنها مائة وعشرين سنة. وشكلها أصبح قبيحا، زوجها يسبها ويلعنها وستصلها ورقة الطلاق في البريد وأخذ يقهقه .

قال حمزة : أنت صعبانة على، أنا أريد أن أخدمك . ظللت صامتة لا أتكلم ، بل أنظر نظرات فيها احتقار له وازدراء لما يقول ، ولا أدري أكان يحس بهذه النظرات أم أنه كان غبيا؟ كنت أراه غبيا جبانا . . كالحشرة الملوثة. كان يظن أنه يخيفني ، ولكنى كنت أحس أنه يفرق منى رعبا . هكذا كنت أحس عندما كان يهذي بتهديداته . صرخ كالوغد يأمر صفوت أن يضع وجهي للحائط ، وأسرعت أنا بنفسي أنفذ الأمر وأرفع يدي إلى أعلى، وما لبث السوط في يد صفوت أن بدأ يهوى على ظهري في وحشية، ثم استدعى عسكريا اسمه سعيد أوقفه بجانبي وبيده سوط يضرب به في الأرض . وجاء آخر بصفيحة زيت مغلي وضعوا فيها عددا من السياط .

وانصرف حمزة البسيوني وصفوت . وتركوا هذا الشقي سعيد يغمس تلك السياط في الزيت المغلي ويأمرني أن أنظر. ثم دخل الحوش اكثر من عشرة عساكر أخذ كل واحد منهم سوطا أخذوا يضربون بها في الأرض ويقولون : يا بنت الـــ . . بنسن لك الكرابيج . وأنا لا التفت إليهم . كنت مشغولة عنهم بذكر الله . كنت أتلو قول الله تعالى ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) ودخل السفاح الروبي بعد فترة وقال : اخرجوا يا أولاد . انتظروني . أجلنا قتلها الليلة . . وجذبني من ذراعي وأخذني إلى الزنزانة .


عودة إلى الزنزانة

فتح الباب وابتلعتني الزنزانة . كانت علية وغادة نائمتين فجلستا وأزعجهما الدم الذي ينزف من قدمي . سألتني علية عما فعلوه في رجلي، قلت : الحمد لله وطلبت منهما العودة إلى النوم وأنا أردد حديث الرسول عليه السلام : "بسم الله ، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" . ومرت ليلتان وآلام الجلد تأخذ منى كل مأخذ، وأنا أكتم آلامي داخل نفسي إشفاقا منى على علية وغادة، وكانتا تحرصان كل الحرص على ألا تسألاني عما حدث في تلك الليلة ولا عن سبب استدعائي ، لقد اكتفتا بما رأتا من آثار التعذيب على جسدي وبمنظري عند العودة . وفى صبيحة يوم سألتني غادة عما حدث فأسكتتها علية وشعرت أنا بأن في سؤال غادة نذيرا بفصل جديد فانقبضت نفسي وانقضى اليوم .


وهبط ليل آخر

وبعد صلاة العشاء فتح باب الزنزانة وسدته جثة صفوت المظلمة الذي نادى بوحشية : يا بنت يا زينب قفي؟ وسحبني من يدي وهو يقول تعالى اختل توازني وكدت أسقط على الأرض من شدة الإعياء! . . وفى الطريق قابله رجل قال له : خليل بك ينتظرك يا صفوت ! قال وهو يسب ويلعن . . أنا آخذ له البلوى دي سأل الآخر هي دي زينب الغزالي؟ فأجاب صفوت : نعم هي دي . زينب الغزالي . . وأخذ يسب ويلعن وأدخلني حجرة بها مكتب عليه رجل كأن وجهه الليل المظلم المخيف . انتفض الرجل واقفا كأن جنا مسه وقال لصفوت : روح انته هات الرجل. وتركني واقفة وأخذ يذرع الحجرة ذهابا وإيابا كالملدوغ . عاد صفوت ومعه رجل دخل وجلس على المكتب . أخذ يقول : من أنت يا بنت ؟ قلت : زينب الغزالي الجبيلي! قال : ولم أنت هنا ؟ قلت : لا أعلم . قال : لازم تعرفي . أنت هنا لأنك والهضيبي وسيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل دبرتم لقتل جمال عبد الناصر. قلت : لم يحدث هذا! قال : اعتدلي في كلامك ! . . الليلة قتل لا جلد ككل مرة . أتعرفين من أنا؟ أنا وحش السجن الحربي. . أنت فاهمة. قلت . . ليس هنا إلا الوحوش والكلاب . . لم أر أحدا من الآدميين منذ دخلت السجن إلا هؤلاء المظلومين من الإخوان حملة الأمانة وزعماء الحق . فقام وركلني برجله ودفعني بكلتا يديه فأوقعني، ثم أخذ يرفصنى برجليه ، ثم أوقفني وكان الضرب قد أتعبني فاستندت إلى الحائط . فنظر إلى وقال : لا نريد هذه الفلسفة اعتدلي وتكلمي! . . وضربني بكلتا يديه على وجهي . . وأخذني صفوت بيديه . . وأجلسني على مقعد وخرج وأغلق باب الحجرة . . وبعد فترة دخل رجل وقال : "إيه يا زينب ماذا تفعلين بنفسك . . أنت تشتمين الناس وتسخرين بهم . . الريس قلبه كبير ويريد أن يخدمك . نحن نريدك شاهدا في القضية فقط وسنخرجك من الجريمة التي ألبسها إياك الإخوان المسلمون " . قلت : "ليس هناك جريمة لدى الإخوان المسلمين . . الجريمة أنكم أنتم أيها الأوغاد تحكمون هذا البلد الطيب " . قال : "أنت إما مجنونة أو حالتك النفسية سيئة سأتركك وأبعث لك من يعرف كيف يتفاهم معك ". وتركني وخرج ، وحمدت الله على أنه لم يأمرني بالوقوف لشدة تعبي . وبعد فترة دخل رجل وبيده سوط وكان ما يميزه أن حب الشباب يملأ وجهه . قال : قفي يا بت . . من أنت ؟ قلت : زينب الغزالي الجبيلي . . قال : يا نهار أسود. تبقى دي ليلتك الأخيرة مادمت حضرت هنا . ودخل رجل آخر فقال للأول : أخرج أنت سأقعد معها قليلا . هذا حرام . دي فعلت خيرا كثيرا، لكن أوقعها الإخوان . . قال الأول : صحيح يا بيه لازم تكون عملت طيب لأنك لحقتها . كان فاضل لها دقائق وعمرها ينتهي . . قال الثاني : اذهب أنت . سأقعد أتفاهم معها ما تريدون منها بالضبط ؟ قال الأول : الريس والمشير يريدان أن تكون شاهد ملك في القضية وتعترف على الإخوان . . والإخوان كلهم اعترفوا يا بيه . ثم خرج وبقى الثاني. قال : يا زينب ما هذا الذي تعملينه في نفسك ؟ ملابسك متقطعة ومتبهدلة . . ثم جلس على المكتب وهو يقول : " إنت باين عليك الإعياء خالص . . تقدري كمان تجاوبي على أسئلتي، أو نتفاهم غدا"؟ لم أجبه . . قال : "أنا كنت مع أخيك عبد المنعم وسيف ومع زوجك هذا الصباح . . زوجك رجل طيب جدا إ أنت صعبانة على قوى . . وأنا أر يد إخراجك من هذه القضية، وموضوع إنك تصبحين شاهدة ملك موضوع جيد جدا . . " ثم نادى صفوت وأمره أن يأخذني كي أنام وأرتاح وأفكر لنلتقى غدا. . وأخذني صفوت . .


استراحة قصيرة

وابتلعتني الزنزانة ، وكانت علية وغادة نائمتين ، وتنبهت علية إلى دخولي فقالت : أجئت يا حاجة؟ قلت: الحمد لله .

حاولت أن أنام فلم أستطع . . وأذن الفجر فصلينا، وأخذت غادة تسألني عما حدث . قلت الأمر لله . أدعو الله أن يثبتنا على الحق ، إنهم يريدونها فتنة. إنهم يطلبون منى المستحيل . قالت علية : ربنا يعينك يا حاجة . وأعادت غادة السؤال عن تفصيل ما حدث . . فلم أحدثها. . كنت متعبة وكان على أن أهيئ نفسي للقاء الليلة الآتية . . وفهمت علية ذلك فأسكتت غادة وانقضى النهار.

وما أقسى الليل

وجاء الليل الذي أصبحت أخافه وأخشاه ، وأخذت علية وغادة تدعوان لي وللإخوان جميعا ، وفتحت الزنزانة وأخذت ، ولكنى وجدت رجلا آخر لم أره من قبل ومعه صفوت ، ذهبا بي إلى مكاتب التعذيب . أمر الرجل صفوت بالانصراف وأمرني بالجلوس على مقعد بجوار المكتب . ثم بدأ حديثه قائلا: يا ست زينب أنت أتعبت الناس الذين يريدون خدمتك . وأنا اليوم مقطوع لخدمتك ، وأرجو أن يعينني ربنا وتنهدي بالله وتتركي حكاية الإخوان المسلمين ، وكفاية أنهم أوقفوك هذا الموقف الحرج . . أنت مخدوعة فيهم . فاكرة إنهم صحيح يريدون الإسلام . هؤلاء طلاب حكم ' نحن نريد أن تفتحي لنا قلبك . الهضيبي قال كلاما معناه الحكم عليك بالإعدام وأيده سيد قطب في ذلك . . نحن لا نصدق كلامهم ونريد إخراجك من القضية نهائيا واعتبارك شاهد ملك. . كما أننا نريد أن تذهبي الآن إلى منزلك ، وعندما نحتاج ليك في الشهادة نرسل لك أو نذهب نحن إليك في منزلك ، إذا وافقت على هذا ستقابلين المشير عامر والرئيس عبد الناصر، وسيصدر قرار من الرئيس بإلغاء قرار حل جماعة السيدات ، وقرار بإعادة صدور المجلة، ليس هذا فحسب بل إن الرئيس ينوى أن يعطيك مركزا كبيرا في الدولة يجعلك صاحبة السيطرة على كل الجمعيات في الجمهورية . . وكفى ما حدث لك من غدر الإخوان . . كل المصائب يريدون وضعها على رأسك ليخرجوا هم سالمين " . . كان يتحدث وأنا صامتة لا أنطق بكلمة، وكان وهو يتحدث يتفرس في ملامحي . ثم دق جرسا على المكتب دخل بعده صفوت فطلب لنفسه شايا ثم التفت إلى يقول : أنت تشربين القهوة فهل أطلب لك فنجان قهوة . فقلت : "شكرا. . لا أريد شيئا". قال : "اسمعي يا زينب ، سأعطيك ورقا وقلما، اكتبي فيه كل ما اتفقنا عليه فقلت : " إننا لم نتفق على شئ . ولا أدري ماذا اكتب . . !" .

قال وهو يناولني الورقة والقلم : "إنت للآن لم تستطيعي أن تقدري مصلحتك . . الرئيس جمال يريد خدمتك ، ويريد إخراجك من القضية ! !" .

قلت : "أي قضية؟ ! ! ناس اجتمعوا ليدرسوا دينهم ، ويتفقهوا فيه . . هل هذه قضية أو جريمة؟ ! ! الأولى بالرئيس وبالمشير أن يحاكما الذين ينشرون التسيب الأخلاقي، والانحلال ، بل والتسيب الإلحادي . . وينشرون الفساد في كل مكان . . إذا كتبت فسأكتب الحقيقة الواقعة في هذا البلد المسكين . . الحق الذي أعلمه سأكتبه . قال : "أنا عارف إنك سيدة فاضلة على علم ، وعقلك كبير، ولن ترتضى أن تزيدي موقفك سوءا اكثر مما أنت فيه ! ! . . أنا سأتركك مع الورق والقلم . . قبل الكتابة . ضعي أمام عينيك أن الرئيس يريد إخراجك من القضية . . القضية وضحت معالمها تماما . . الهضيبي وسيد قطب كانا يدبران لاغتيال عبد الناصر والاستيلاء على الحكم . ويقولان إن زينب الغزالي هي التي كانت تدبر وتخطط . يريدان إلقاء كل المسئولية فوق رأسك ويلتمسان البراءة لهما فقط . بل إنهما يقولان إنك أنت السبب في كل ما حدث ، وأنت التي سببت لهما الأذى والضرر. . اكتبي . . اكتبي . . لكن فكرى طويلا في موقفك وموقف الإخوان منك . . إنهم يريدون إلصاق القضية كلها بك . . وإخراج أنفسهم منها . . إننا نعلم أنهم حرضوك ثم تخلوا عنك . . هل هذه شجاعة؟!! إنها نذالة". . وتركني وحدي مع الورق والقلم . . وآه من الورق والقلم مع سجين في زنزانة ! ! . .

وكتبت " . . . كنا نجتمع مع شباب الإخوان ندرس في كتب الفقه والسنة والحديث والتفسير . كنا ندرس كتاب المحلى لابن حزم ، وزاد المعاد لابن القيم ، والترغيب والترهيب للحافظ المنذر ، وفى ظلال القران لسيد قطب ، وملازم من كتاب معالم في الطريق . . كنا ندرس سيرة الرسول والصحابة . وكيف قامت الدعوة الإسلامية . . وكان ذلك بإذن وإرشاد الأستاذ الهضيبي . . كان الغرض من الدراسة هو إيجاد لبنات سليمة من الشباب المسلم . علنا نستطيع إعادة مجد الإسلام وقيام أمته الفعالة في الأرض . وبعد دراسة طويلة قررنا أن نعيد تنظيم الإخوان المسلمين في كل مواقعها وأن نعمل بدأب ومثابرة على جمع كل من نستطيع من لبنات صالحة من شباب الأمة الضائع في المجتمع الجاهلي المحيط بالبشرية كلها . . وقررنا أن يستغرق هذا العمل ثلاثة عشر عاما . بعدها نقوم بمسح للجمهورية، فإن وجدنا الفئة المؤمنة بمبادئ الإسلام تقل نسبتهم عن 25% جددنا فترة الدراسة المصحوبة بالتربية لثلاثة عشر عاما أخرى ثم نعيد التقييم ثانية وثالثة ورابعة حتى تصل النسبة75% من مجموع الشعب . . عندها ننادى بالدولة الإسلامية . . فماذا يخيف عبد الناصر، وماذا يخيفكم أيها الحاكمون ؟ ربما تمض أجيال قبل أن يتحقق هذا الذي نرجوه ، فما الذي يخيفكم ؟! ! ليس في حسابنا -بالمرة- قتل عبد الناصر، فقتله ليس أمرا واردا في قضيتنا . . القضية اكبر من قتل شخص أو أشخاص وفكرة القتل مرفوضة ولكنكم تتعللون بها لتقتلوا المؤمنين . . ! ! من الذي أمركم بتعذيبنا وقتلنا؟ الصهيونية أم الشيوعية؟ ! !

إن الأمر الذي ترتعد منه الشيوعية الملحدة ، ويخيف الغرب المنحرف ، المرتد عن مسيحيته . . إن الأمر الذي ترتجف منه الصهيونية العالمية ويجعلها لا تنام ولا تهدأ . . الأمر الذي يرعب كل هؤلاء جميعا، هو عودة الإسلام بعقائده وشرائعه ومعاملاته إلى المسلمين . . ! ! نعم عودة الإسلام تقلق كل هؤلاء ولذلك هم يتربصون بنا ويتجسسون علينا، ثم يأمرون عملائهم بالقضاء على المؤمنين . . ولكن الله متم نوره . ومخزي الكافرين . . إن قتلتمونا اليوم فسيأتي من بعدنا من يرفع راية الإسلام . . أما مجلة السيدات المسلمات أو المركز العام للسيدات المسلمات أو الدنيا كلها إذا جاءتنا لتكون لغير الله فنحن نرفضها ولا نريدها . . إننا لا نطلب إلا الله وطريقه وشريعته " وذيلت هذه الكلمات بتوقيع "زينب الغزالي الجبيلي"! ! . ودخل صفوت الروبي وطلب منى الأوراق فأعطيتها له وخرج . . ومرت فترة . عاد إلى الرجل الذي كان أعطاني الأوراق والقلم . ومعه أوراق - ليست هي التي كتبتها- ثم مزقها وقذفني بها في وجهي ليوهمني بأنه مزق ما كتبت ! ! . . وقال لصفوت : "خذوها يا صفوت . . إنها لا تستحق إلا الإعدام كما قرروا . . أنا كنت أريد أن أخدمها لكنها رفضت يدي الممدودة إليها . . دعهم يعدمونها! ! " . . وانصرف . . إنني في دهشة -بل في حيرة- إن كانوا يقولون ويزعمون أن القضية وضحت كل معالمها وتكشفت كل عناصرها، فلماذا لم يقدموني إلى المحاكمة العلنية، ولا داعي للترغيب والترهيب والتعذيب ؟! ! أم أن القضية هي الموت البطيء تنفيذا لمخطط مرسوم ؟ حقا لقد وضحت القضية . . ووضحت كل معالمها. . وتكشفت كل عناصرها . . بل وبان هدفها والغرض منها . . أنهم يريدونها جاهلية . . جاهلية! !


الفتنة في حقيبة ملابس . . وخطاب من عبد الناصر

أغلق باب الزنزانة فانتقلت إلى عالم آخر. . ! ! كان الإرهاق والجهد والألم قد سطر كل منها سطورا عميقة في نفسي وجسدي!! . . وتكورت في مكاني أحاول النوم فلم أستطع فقد كنت كأنني أتقلب على مسامير محمية . . فالسياط والركل والصفع قد مزقت جسمي، والسب بأبشع الألفاظ وأقذرها قد مزق نفسي.. !!

وهكذا ظللت أتقلب حتى سمعت أذان الفجر فاستيقظت علية وغادة وتيممتا وادينا الصلاة . . كان حالي يغنى عن أي سؤال فنظرت إلىّ علية وقالت : "الدكتور أعطاني حبوبا مهدئة أتأخذين قرصا يا حاجة؟ ! ! " قلت : "لا بأس يا علية!إ". تناولت القرص واستسلمت للنوم . . ولكن هيهات للنوم أن يجمع أشلاء جسد ممزق ، وشتات نفس ممزقة! ! ففزعنا إلى الله . . نقرأ القرآن . . ونصلى ما استطعنا . . كانت غادة تحفر على حائط الزنزانة تاريخ كل يوم منذ مجيئها إلى السجن . . قالت : "اليوم 8 أكتوبر فقلت : "ربنا يفوته على خير. . " قالت علية : "إن شاء الله " وفى الضحى فتحت الزنزانة وظهر- صفوت ومعه جنديان يحملان حقيبة كبيرة عرفت من النظرة الأولى أنها من منزلي! ! فتح صفوت الحقيبة وهو ينادى : "يا زينب ! هذه ملابس طلبناها لك من البيت وأخذ يخرج ما في الحقيبة ويعرضه على ثم أعاد ما أخرجه إلى الحقيبة ثانية وأقفلها. . كانت الحقيبة كأنها أعدت لرحلة طويلة. . فسألته : "من طلب كل هذه الملابس ومن أحضرها"؟ فقال صفوت : نحن طلبناها وأختك حياة أحضرتها . . ثم أمر الجنديين بالانصراف بالحقيبة! ! ولبث قليلا ثم أغلق الزنزانة! ! انصرف الزبانية فأغمضت عيني ورحت في إغماءة شديدة؟ على إثرها هرعت إلي علية وغادة تدلكان يدي وقدمي تحاولان إفاقتي ، وأخذتا تهونان على الأمر. . هم اعتقدوا إنك محتاجة إلى ملابس فطلبوها . . الأمر بسيط وعادى جدا . . " قلت : " لا يا علية إنها مصيبة كبيرة ، فقالت علية : "لماذا يا حاجة؟ انهم رأوا ثيابك قد تمزقت وأنك في حاجة إلى ملابس. فقلت : "لا.. لا .. يا علية. هذه فتنة! ! لماذا أنا بالذات التي تأتيها ملابس ؟ إنني منقبضة وغير مستريحة إلى هذا. . إنني مقبلة على اختبار اكبر مما أنا فيه !. . وأخذت أدعو الله أن يثبتني على الحق . وانتظمنا في صلاة العصر. ونحن في الركعة الأخيرة دخل صفوت وجذبني بوحشية وقال : "تعالى معي ! ! " وأغلق الزنزانة على غادة وعلية . سار بي إلى آخر الممر. ثم قذفني في زنزانة حالكة الظلام ، كريهة الرائحة، رطبة تمرح فيها فئران متوحشة! ! جلست في رعب شديد وجسمي يرتعد من شدة البرد وبرودة الإسفلت بقسوة ، وظلمة الزنزانة تضاعف خوفي ورعبي وآلامي ! ولجأت إلى الله لأتغلب على هذه الظرف . فتيممت وأخذت أصلى وأصلى وأناجى ربي . . ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) الرعد : 128 . وفجأة أضيء النور .

ودخل صفوت ومد يده قائلا : "أقرئي هذا الخطاب يا بنت ! نظرت في الخطاب . . فوجدت مكتوبا في أعلاه "مكتب رئيس الجمهورية" ثم مكتوب في صلبه بالآلة الكاتبة - "بأمر جمال عبد الناصر رنيس الجمهورية تعذب زينب الغزالي الجبيلي فوق تعذيب الرجال ! "

التوقيع (جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية" ومختوم بخاتم شعار الدولة الخاص برئاسة الجمهورية . قرأت الخطاب ثم أعدته إلى صفوت قائلة : "الله اكبر منكم جميعا . . نحن معنا الله . . " فأخذ يرميني صفوت بنظرات شرسة ويقذف من فمه بقذارات من السب المقذع . . ولم أنطق بكلمة واحدة فأغلق الزنزانة .

بعد فترة قصيرة سمعت صفوت يصيح بأعلى صوته "انتباه "! ! وفتحت الزنزانة ودخل حمزة البسيوني تتراقص الشياطين في عينيه وقال : "آخر فرصة لك . . ساعة واحدة فكرى فيها جيدا وقدري مصلحتك ، لقد أحضرت لك ثيابا لتقابلي المشير عبد الحكيم عامر والرئيس جمال . ثم يتغير موقفك في القضية " ونظر إلى صفوت قائلا : "اقرأ عليها الخطاب يا صفوت ! ! " فرفع صفوت عقيرته وقرأ "بأمر جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية تعذب زينب الغزالي الجبيلي فوق تعذيب الرجال " إمضاء جمال عبد الناصر. . أخذ حمزة البسيوني الخطاب من صفوت وقال وهو يناوله لي : " خذي . . خذي يا مجنونة الخطاب واعرفي ما فيه جيدا . . " فقلت له : " لقد قرأته " ! ! فقال : "أقرئيه مرة أخرى" . . ثم اتجه إلى صفوت وقال : أين السوط يا صفوت ؟! ! فأخذت الخطاب وقرأته ثم قذفت به إلى الأرض وقلت له : "ربنا اكبر منكم يا فجرة . . اخرجوا يا كفرة! !" .

نادى حمزة البسيوني على بعض الجنود خارج الزنزانة، فدخل جندي يحمل حقيبة الملابس . وقال في وحشية : "سنمنحك فرصة لمدة ساعة . . وهذه ملابسك . . فكرى جيدا ولمصلحتك فقط .. حل المشكلة في يدك أنت ! ! " ثم أغلقوا الزنزانة وانصرفوا . أخذت أستغفر الله وادعوه الثبات على الحق . ومضت الساعة الممنوحة لي . فدق أذني صوت صفوت "انتباه ! ! " ثم دخل حمزة البسيوني ونظر إلى ثم قال : "ألم ترتدى ثيابك ؟ ! ! أتريدين الموت ؟ ! " . لا بأس ! لقد بعت نفسك ! حسنا خذها يا صفوت . . بنت الكلب. . . . تريد أن تقدم نفسها فداء لسيد قطب والهضيبي ، إنهم يريدون التخلص منها ويخرجون هم أبرياء . جذبني صفوت بعنف وخرج بي من الزنزانة وسار بي في الممر، وأثناء مروري على زنزانتي قلت "الله اكبر" بصوت مرتفع حتى تسمع "علية وغادة فكنت أعتقد أنها اللحظة الأخيرة في حياتي، كما قال حمزة البسيوني ! ! . الله اكبر منكم يا فجرة . . اخرجوا يا كفرة! إ" .



الباب الرابع : مع شمس بدران (زنزانة الماء ! ! ! والجريمة)

واستمر صفوت في سيره حتى مكتب ضابط يدعى هاني ، وأخذني هاني إلى مكتب شمس بدران .. إ! شمس بدران وما أدراك ما شمس بدران ! !

إنه وحش غريب عن الإنسانية وأكثر وحشية من وحوش الغاب ! ! إنه أسطورة في التعذيب والقسوة ! !

كان ينطلق في لذة غريبة يضرب الموحدين المؤمنين ، بأعنف ما يمكن أن يتصوره العقل البشرى. ظنا منه أن القسوة والعنف في التعذيب يرد المسلمين عن دينهم وعقيدتهم !! وقد خاب ظنه . .

وسألني شمس بدران في غطرسة كأنه جامع رقاب الخلق بين أصابعه هو أنت بقى ست زينب الغزالي؟ قلت : نعم !

كان مكتب حمزة البسيوني يتصل بمكتب شمس . وكان يقف خلفي الجلاد صفوت الروبي واثنان آخران وبيد كل منهم سوط كأنه لسان من لهب ! ! .

قال شمس بدران وهو مازال في غطرسته : " يا بنت يا زينب ! خلى بالك وتكلمي بعقل وشوفي فين مصلحتك ، خلينا نخلص منك ونشوف غيرك وإلا بعزة "عبد الناصر" أجعل السياط تمزقك . قلت : " يفعل الله ما يشاء ويختار". فقال : "ما هذه الرطانة العجيبة يا بنت . . ؟إ " فلم أرد عليه فقال : "ما هي صلتك بسيد قطب والهضيبي؟". قلت في هدوء : "أخوة في الإسلام ، . فقال في استنكار بليد : "أخوة ماذا؟" . فأعدت : "أخوة في الإسلام " . فقال : "ما مهنة سيد قطب ؟".

قلت : "الأستاذ الإمام سيد قطب مجاهد في سبيل الله ، ومفسر لكتاب الله ، ومجدد ومجتهد" .

فقال في بلادة : ما معنى هذا الكلام ؟ فقلت وأنا أضغط على مخارج الألفاظ تأكيدا له معناه : إن الأستاذ سيد قطب زعيم ، ومصلح ، وكاتب إسلامي ، بل من أعظم الكتاب الإسلاميين ، ووارث محمدي . وبإشارة من إصبعه انهال على الزبانية . وقال هو: إيه يا ست ؟ ولم أجبه – قال : ومهنة الهضيبي إيه كمان ؟ فقلت : "الأستاذ الإمام حسن الهضيبي" إمام مبايع من المسلمين المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين ، الملتزمين بتنفيذ أحكام الشريعة ، والمجاهدين في سبيل الله حتى تعود الأمة الإسلامية كلها إلى كتاب الله ، وسنة رسوله ".

وما فرغت من كلامي حتى عاود الزبانية التعذيب بالسوط !

فقال : "هراء، وكلام فارغ . . ما هذا يا بنت الــ. . . " .

وقال حسن خليل : "دعها يا باشا. . توجد نقطة مهمة !!" ثم تقدم إلى وامسكني من ذراعي وقال : "هل قرأت كتاب "معالم الطريق " لسيد قطب ؟ فقلت : "نعم قرأته " .

فقال رجل آخر من الجالسين – وكان يدخل بعض الضباط أثناء الاستجواب ويجلسون للمشاركة في الاستجواب من جهة . ومن جهة أخرى كنوع من الإرهاب ممكن تعطينا موجزا لهذا الكتاب ؟

فقلت : "بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . ..".

فقاطعني شمس بدران في صفاقة غريبة : أنت واقفة على منبر مسجد يا بنت الــ. . . . ؟! إننا في كنيسة يا أولاد الــ. . . . . !".

وقال حسن خليل : معذورة يا باشا. . أكملي يا زينب. ماذا فهمت من كتاب معالم في الطريق ؟ فقلت : كتاب معالم في الطريق في فهم المجتهد المفسر سيد قطب يدعو المسلمين لمراجعة أنفسهم مع كتاب الله ، وسنة رسول الله ، وتصحيح تصورهم لعقيدة التوحيد . فإذا وجدوا أنفسهم – وهذا هو الواقع الآن – منقطعين عن كتاب الله ، وسنة رسوله سارعوا بالتوبة . وعادوا إلى دينهم وكتابهم ، وسنة رسولهم ! . ثم يدعوهم للمفاصلة بينهم وبين الجاهلية المتفشية في الأمة، فطمست وضوح الرؤية في فهم القرآن . وتصور أوامره تصورا سليما . فإذا راجعت الأمة الكتاب ومراميه ، ومقاصده ، والتزمت بدينها صحت عقيدتها. فالسيد قطب يرى ضرورة تبصير الأمة بمراجعة عقيدتها لتقرر صدقا من قلبها وضميرها، أنها ملتزمة بكل ما تكلفها به شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله . .

ولزمت الصمت بضع لحظات ، فقال حسن خليل في تهكم أبله "إنها خطيبة. وقال آخر: "إنها كاتبة كذ". وأخرج مجموعة من مجلة السيدات المسلمات كانوا قد استولوا عليها مع الكتب يوم القبض على . وأخذ يقرأ منها بعض جمل من مقال افتتاحي لأحد أعداد المجلة . لكن شمس بدران قاطعه ونظر إلى الحيوانات المفترسة التي تحيط به. وقال جاهلية : أنا لم أفهم شيئا مما قالته هذه البنت ! ! فنزل على الزبانية بسياطهم : قائلين وضحى يا بت للباشا . فقال حسن خليل - ويبدو وكأنه ينسج شبكة لاصطيادي - : لا بأس يا باشا . . لحظة أخرى. .

ثم قال كأنه : أريد أن أفهم معنى ما تلزم به لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فقلت : إن محمدا صلى الله عليه وسلم ، جاء ليخرج البشرية كلها من عبادة البشر، وعبادة الوثن ، إلى عبادة الله الواحد القهار هذا معنى لا إله إلا الله . وأما معنى محمد عبده ورسوله ، فكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الوحي، وهو القرآن الكريم والسنة الصحيحة ، هو حق واجب التنفيذ اعتقادا وعملا، وهذا هو التصور السليم لكلمة التوحيد" .

فقال شمس بدران وقد أخذته العزة بالإثم "كفى سخافات !" ثم نزل على وحوشهم بالكرابيج . وقال حسن خليل " لحظات أخرى يا باشا - من أجلى . ونظر إلى وقال : هل نحن مسلمون أم كفار؟! ! . قلت : اعرض نفسك على كتاب الله وسنة رسوله ، وستعرف أين أنت من الإسلام . فقال شمس بدران "يا بنت الــ. . ، وانطلقت القاذورات من فمه تكشف أخلاقيات هذا المخلوق العجيب ! ! أما أنا فلم أرد من هول السياط .

وبدأ شمس بدران يمارس عملية وحش الغاب المفترس . . إن غابة عبد الناصر لا تعرف تقاليد أو عادات . بل تسودها جاهلية حمقاء، يظلها طغيان أهوج ، وتسرح في دروبها ذئاب خبيثة جائعة إلى نهش البشر! ! .

نظر شمس بدران إلى صفوت وقال : علقها يا صفوت الضرب ده مش نافع ! ! .

فخرج صفوت وأتى بعامود من الحديد وقاعدتين من الخشب . وجاء ثلاثة من الزبانية يحمل كل منهم سوطا. وأعدوا الآلة ليعقوني عليها. فقلت لهم : "أعطوني بنطلونا من فضلكم. . أرجوكم ! ! " .

فقال حسن خليل لشمس بدران : "لا بأس يا باشا" . فقال شمس بدران : "هاتوا لها بنطلونا" . وفى سرعة عجيبة أحضر أحد الجنود بنطلونا كأنما انتزعه من تحت رجليه ! !

وقال حسن خليل لشمس بدران : "عفوا يا باشا ثم التفت إلى وقال : "أدخلي هذه الحجرة البسي فيها البنطلون . . " .

كانت حجرة فاخرة الأثاث ، مكيفة الهواء، بها جهاز تليفزيون وجهاز راديو! ! ولبست البنطلون وخرجت إليهم ! ! وعلقت بأمر شمس بدران في هذه الحديدية . . ولا أدرى كيف ربطوا يدي مع رجلي . ولا كيف علقت . . ! !

ويخرج الأمر من فم شمس بدران كضابط عظيم في ساحة الوغى : اجلدها يا وله خمسمائة جلدة! ! وتنهال السياط تسطر على قدمي وجسدي أبشع ما عرفته الجاهلية من قسوة وحيوانية .. ويشتد الجلد . . ويشتد الألم . يعز على أن أضعف أمام هؤلاء الوحوش . احتملت . احتملت وأنا أضرع إلى الله في سرى . ويتضاعف الألم ، ويتضاعف ، ولما فاض الكيل ، ولم يعد كأنه طاقة على الكتمان علا صوتي يرفع شكواي للذي يعلم السر وأخفى . أخذت أردد : يا الله يا الله ، والسياط تشق في قدمي مجارى الألم . وفى قلبي ومشاعري مجارى الرضا، والتعلق بالله . . ! ! حتى فقدت الوعي . ولم أشعر بنفسي ، ورقدت جثة هامدة فوق الأرض وهم يحاولون تنبيهي ويحاولون إيقافي فلا أستطيع . فكلما وقفت سقطت .

كان الألم فوق الاحتمال والدم ينزف من قدمي ويأمر شمس بدران صفوت بإيقافي. كنت في غاية الألم والجهد فحاولت أن أستند إلى الحائط فيبعدني صفوت عن الحائط بسوطه !!. .

فأقول لهم : دعوني أجلس على الأرض فيقول شمس بدران : لا . . لا . . أين ربك ادعيه لينقذك من يدي . . نادى عبد الناصر وانظري ماذا يحدث . . ولم أرد عليه ، فيستمر في جاهليته : ردى على! أين ربكم ؟! ! فلزمت الصمت فقال : ردى! ! .

فقلت بصوت خافت لشدة ما أنا فيه : "الله سبحانه الفعال ذو القوة المتين " وأخرجوني من مكتب شمس بدران إلى المستشفى .


زنزانة الماء. . ! !

خرجت من مكتب شمس بدران . . وتنفست الصعداء، فإني أتلهف إلى الراحة وأكاد أشعر أن أعضائي تتمزق ! ! . . وسرت مع جلادي صفوت الروبي إلى حيث يريد أن يسوقني! ! . . وما كدت أشرف على نهاية الممر حتى نادى حسن خليل بكلمات كأنها الحمم تخرج من بركان ثائر: ارجع يا صفوت . الباشا يريد زينب مرة أخرى ! .

ومرة أخرى دخلت مكتب شمس بدران ، وكانت المفاجأة! ! إذ رأيت حميدة قطب أمامي . . ! ! عرفتها ، وهى لم تعرفني، فالسياط ، والكلاب ، والإجهاد، والجوع ، والعطش ، والتمزق في جسدي . . كل هذا قد غير ملامحي وغير صورتي ! ! .

وسأل شمس بدران الابنة الفاضلة حميدة قطب : هل هذه زينب الغزالي؟ فدققت حميدة النظر وأجابت : نعم. . كنت في قمة الإجهاد والألم . فلم أتابع الأسئلة التي كانت توجه . إن شمس بدران يسأل عن الأخت الفاضلة فاطمة عيسى، التي كانت تنزل في زنزانة مقابلة لزنزانتي . أخذت الابنة حميدة قطب تجيب عن أسئلة شمس بدران الذي أمر بخروجي.

وما كدت أخرج حتى سقطت على الأرض . فأمر صفوت جنديا أن ينادى الممرض عبد المعبود، حضر عبد المعبود ومعه زجاجة نزع غطاءها . ومررها أمام أنفى " فأفقت ، ثم أوقفوني . . وأمرني الجلاد صفوت بالسير . بل وأخذ يضربني بسوطه لأسرع الخطأ ! ! فاسقط على الأرض . . فيأمرني بالوقوف والسير. وسوطه المجنون يصب على جسدي المكدود نارا حامية! ! وهكذا دخلت الممر أسير فاسقط ، ثم أنهض لأسير فأسقط ، وسوط الجلاد المجنون لا يرحم ! ! يا إلهي ! ! هل هذا إنسان ؟ ، أم مخلوق آخر يمشى على رجلين وسوط . وسمعت صوتا ينادي : دخلها يا صفوت سجن رقم (5) وصوتا آخر اذهب بها إلى الماء يا صفوت ! ! " أدخلني صفوت سجنا وأمرني بالجلوس على الأرض . ثم أمر الجندي التمورجي عبد المعبود أن يضمد جراحي . . ! !

وفتح باب زنزانة، فرأيت خلف الباب سدا حديديا يرتفع لأكثر من متر. أمرني صفوت أن أخلع ملابسي وأن أقفز هذا السد الحديدي! جمدني الخوف ووجدت نفسي لا أقوى على الحركة فلم أتقدم شبرا واحدا . وتركزت عيناي على بئر من الماء خلف السد.

وجمعت كل قوتي في فمي وقلت : لن أخلع ملابسي أبدا ! ! . فقال في جاهلية ماجنة عابثة: ستنزلين الماء بثوب واحد. . فقلت : أنا لابسة جلبابا واحدا. فقال صفوت في غرور : سأمزقه ! ! . . ومزق جلبابي الأوحد بمشرط شرائح ؟؟ . . وقال : اخلعي البنطلون يا بنت الــ . . . . البنطلون خسارة وأنت ستموتين بعد ساعة ! ! . قلت : عندما أدخل الحجرة سأعطيك البنطلون . . . فقال في صلف وحماقة : حجرة آيه يا بنت الـ . . إننا سنقذفك في البئر ونخلص منك . قلت : إذن ، أدر ظهرك لأخلع البنطلون . . .

وأدار صفوت ظهره . وخلعت البنطلون الذي أعطوه لي عندما جلدوني في مكتب شمس بدران ! ! .

ووقفت في الثوب الممزق ، لا أدرى ماذا أفعل . . ! ! وعندما أمرني صفوت أن أقفز إلى الماء امتنعت وقلت : لا، أنا لا أرمى نفسي في الماء، إذا كنتم ناويين على قتلى فتحملوا أنتم مسئولية هذا الأمر. . أما أنا فلن أنتحر أبدا . . . كنت أعتقد أنهم قد اعتزموا قتلى والخلاص منى حقا، فظروف الحال كانت تؤكد عندي هذا الاعتقاد . . فالغلظة والفظاظة التي فاقت كل تصور والبئر التي أمامي والتي يطلبون منى أن أقفز فيها . كل هذا أكد عندي أن النية اتجهت فعلا إلى قتلى! ! فليرموني إذا شاءوا في البئر، فالموت في سبيل الله أسمى أمانيّ . . ومرحى بالشهادة في سبيلك يا إلهي .

وجاء الزبانية يسوقونني بسياطهم لأقفز إلى الماء فأتمنع ، فترتفع جاهليتهم . وتزداد حمية سياطهم فأسقط على الأرض ، فقد كان العذاب فوق طاقتي بكثير. . تفنن فيه صفوت ، والجندي سعد، وجندي ثالث يدعى سامبو، هكذا سمعتهم ينادونه ، وحملني الثلاثة وقذفوا بي إلى البئر! ! . وأفتح عيني فإذا بأنني أقف على أرض صلبة! ! . . وعرفت أن الماء لم يكن بئرا وإنما هو زنزانة من الماء . . ! ! . . فاتجه إلى الله سبحانه وأقول : باسمك اللهم ، سلمت لك آمري، وأنا أمتك ، وعلى عهدك ما استطعت . . ألبسني أردية حبك ، وأغدق على من صبرك يا الله . .. ويريد صفوت أن يزيد طوفان العذاب فيقول ، وسوطه ينزل على جسدي حيثما اتفق : اقعدي يا بنت الــ. .إ! .

فأقول : كيف أقعد في هذا الماء؟ إن هذا مستحيل . . فيقول الجلاد بلسانه وسوطه : اجلسي كما تجلسين في الصلاة . . أظن تعرفين هذا جيدا . . أرينا مهارتك وأقعدي . . إنك لم ترى شيئا بعد. . فمازال في جعبة أبى خالد الكثير. . جمال عبد الناصر هو الذي عرف كيف يتعامل مع الإخوان المسلمين . . هيا اجلسي يا بنت الــ. . . وجلست فصارت المياه إلى أسفل ذقني، وقال صفوت : إياك أن تتحركي ولو حركة واحدة . . جمال عبد الناصر أمر بجلدك كل يوم ألف جلدة بالسوط .. أحب أعرفك التسعيرة هنا . . الحركة بعشرة سياط ! ! . لشدة الهول ، نسيت أقدامي الممزقة . بل نسيت كل جندي . غير أن المياه أخذت تفعل بالجراح ما لم أستطع وصفه من آلام ، لولا عناية الله ما احتملتها . . وشغلتني آلامي عن صفوت ، وسعد، وسامبو ، ولكن أعادني صفوت بسوطه إلى الواقع الكثيف المرارة! .

وقال صفوت : أعلمي - يا حلوة - لو نمت فالسوط يوقظك . هذه الجلسة فقط . . نعم تجلسين هكذا . . هل ترين الفتحة المحفورة بالباب ؟ إنها للمراقبة . . إذا وقفت ، أو نمت أو حركت يدك أو رجلك فالسياط موجودة ومستعدة . . إننا وضعناك في وسط الحجرة، فإياك أن تفكري أن تزحفي لتسندي رأسك مثلا إلى الحائط . إذا سولت لك نفسك أن تفعلي هذا فعشرة سياط . . إذا وقفت فعشرة سياط . ومد رجلك خمسة سياط . . مد ذراعك خمسة سياط . . علمت – يا حلوة – هذه التسعيرة؟ فلينفعك الهضيبي أو سيد قطب . . أنت هنا في جهنم عبد الناصر. . إذا قلت يا رب فلن ينقذك أحد، ويا سعادتك لو قلت يا عبد الناصر. . فستفتح لك الجنة . جنة عبد الناصر أيضا. . أتفهمين ؟! ! أنت يا حلوة - ما زال أمامك الكثير. وما سيأتي اكثر وأكثر. . يا ليتك تعقلين. . إنني مستعد أرجو لك معالي الباشا وتذهبين إليه . . وتقولين ما يريده . . هل أنت مجنونة؟ من أجل من تفعلين في نفسك كل هذا؟ من أجل الإخوان ؟ . . كلهم اعترفوا ولم يبقوا عليك . . ولفوا الحبل حول عنقك . . . ظللت صامتة وإن كانت نظراتي إليه تقول الكثير. . ولكنه جاهل أحمق وحيوان مغرور! ! .

فاستأنف سخفه ، أو بالأحرى استأنف إغراءه : أطيعيني، واستمعي إلى . . وأنقذي نفسك . . أنت في الصباح ستكونين مع الأموات .

وظللت على حالي من الصمت والسكون فقال : "ردى يا بنت الــ. . فصمت .. فقال : الأمر بسيط جدا سآخذك إلى معالي شمس بدران باشا، وتقولين له كيف اتفق سيد قطب مع الهضيبي على قتل جمال عبد الناصر! .

فصرخت بكل قوتي . . كل الإخوان أبرياء . وربنا سينتقم منكم ليست الدنيا غايتنا، نحن نطلب رضاء الله ، وبعده فليكن ما يكون ! !

فانطلقت القذارة من فمه بأبشع ما يمكن أن يسمعه إنسان . وانطلق سوطه بأعتى ما يمكن أن يتحمله بشر من حقد وكراهية! ! واستمرت قذارته واستمر حقده وكراهيته اكثر من نصف ساعة! ! ثم انصرف وهو يقول : أنت عارفة التعليمات والتسعيرة يا بنت الــ. . . لم أستطع أن أظل في مكاني بلا حركة . فليس في مقدور أي إنسان مهما كانت طاقته ومهما بلغت قوة احتماله أن يجلس هذه الجلسة ولا يتحرك .


إنه تعذيب . وعذاب..! !

الضرب بالسوط أهون من التجمد في هذه الجلسة دون حركة . فلهيب السوط أهون من عذاب الماء. .!! أخذت أفكر كيف أتحرك . . لو مددت رجلي سيصل الماء إلى فمي. فلم يكن بد من الوقوف وأتحمل عشرة سياط . . ! ! وفوضت الأمر لله . وقلت : يا رب أنت معي! ! ووقفت !! .

خيل إلى أن الجند نائمون . . وسمعت أذان الفجر، فتيممت على الحائط ، لأن الماء كان قذرا جدا لا يصلح للوضوء. . وأديت ركعتي السنة، ودخلت في ركعتي الفرض وهنا فتحت الزنزانة، وهوى السوط على جسمي . فجلست كما كنت فاغلق الباب . .

وأخذت أردد : حسبنا الله ونعم الوكيل . حتى تأخذني سنة من النوم فيوقظني الماء الذي يصافح ذقني . كانت زيارة سامبو وسوطه لا تقل عن خمس مرات في الليلة الواحدة! ! . . فكان لابد من الحركة، وكان لابد من السوط ! ! .


الجريمة ! !

مع الضحى، جاء صفوت وأخرجني إلى زنزانة أخرى بجوار زنزانة الماء . . ابتلعتني هذه الزنزانة . . وتكورت في ركن من جوفها مستندة إلى حائط . . كان الحائط بالنسبة إلي كأنه وسادة ناعمة محشوة بريش النعام ! ! كانت آلامي عاتية متنوعة . . آلام الجوع تفري أمعائي . . وآلام جروحي تمزقني . . جروح جسدي وجروح نفسي. . لقد صرت كتلة آلام . . كل جزء منها يئن ويصرخ إ! . . ويدخل صفوت ومعه مارد أسود! ! أخذ يتحسس سوطه بيده اليسرى ثم يضرب الأرض والحائط ، وكأنه يستحث لهيبه ، أو يستنفر حميته ! ! وقف صفوت وألقى أوامره وتعليماته إلى هذا المارد بان يرتكب أبشع جريمة ممكن أن يقترفها بشر. . ! ! وترك له السوط وهو يقول في صلف وغرور: إذا وجدت منها أي معارضة فالسوط معك . . . انشغلت عن هذا السفه بالله سبحانه وسألته متوسلة إليه : "اللهم إني أمتك ، وعلى عهدك ما استطعت . . أدعوك بضعفى، وقلة حيلتي، وانكساري، وهواني على الناس ، أن تدفع عنى شر الأشرار، وتحميني بقدرتك ، وتعينني على ظلمهم . .".

أخرجني من إغراقتي في مناجاة ربى صوت هذا الإنسان المأمور بإيذائي بأبشع جريمة . . يناديني "يا خالة! !" . ونظرت إليه ودهشت . . فقد تغير وجهه وارتسمت عليه ملامح إنسان ! ! .

قال بصوت منخفض فيه شفافية : لا تخافي يا خالة. . لن أؤذيك ، ولو قطعوني . . فقلت بصعوبة بالغة : ربنا يهديك يا بنى. . ربنا يكرمك . فتح باب الزنزانة في عنف وانطلق صفوت يضرب الرجل بالسوط ويقول : يا ملعون ، يا ابن الكلب ، لقد أوردت نفسك مورد الهلاك ، ستقدم إلى مجلس عسكري . . هذه أوامر جمال عبد الناصر يا ابن الكلب . . أنت تكسرها؟! أنقذ نفسك فورا قبل أن أذهب بك إلى شمس باشا يحولك إلى مجلس عسكري . . ثم أعاد عليه الأوامر الفاجرة والتعليمات الفاحشة بكلمات صريحة صارخة لا يمكن أن تخرج من فم إنسان وأغلق الزنزانة وأطل من الفتحة وقال : " أنا سأتركك ساعة، ثم أعود إليك لأنظر ماذا فعلت . . أنقذ نفسك ، ونفذ الأوامر! ! " .

حيا الجندي صفوت تحية عسكرية مز داخل الزنزانة وقال : "حاضر يا أفندم ! ! " . كنت أستمع إلى هذه الجاهلية وذلك الفجور، فأناجي ربى بتلك الكلمات ، "إنها دعوتك ، ونحن جندها ، وشهداؤها . . فغيرتك على جندك ، وأعراضهم يا الله ! اجعلنا أقوى من ظلمهم وألوان تعذيبهم "، وأخذت أدعو لهذا الرجل بالهداية ، ظننت أن هذا الرجل - بعد الأوامر الجديدة - سيخشى البشر، فيسلك مسالك الوحوش . . ولكنه كان رائعا وشجاعا . وقال كأنه في براءة الأطفال : لماذا يعذبونكم هكذا يا خالة؟

فقلت : إننا – يا بنى – ندعو لله ، ونريد حكم الإسلام لهذا البلد. ولا نطلب لأنفسنا سلطانا.

وسمعت أذان الظهر فتيممت على حائط الزنزانة وأديت الصلاة، فقال في رجاء : "ادعى لي يا خالة . فدعوت له بالهداية وقمت لصلاة السنة، فقال : ادعى لي أن يكرمني الله بالصلاة يا خالة. . أنتم لستم بشرا. ربنا يخرب بيتك يا عبد الناصر! .

فقلت له : هل تعرف الوضوء؟. فقال : طبعا، أنا كنت مواظبا على الصلاة .. لكن جيش حليمة لو رأوني أصلى يسجنونني . . . فقلت له : صل ولو سجنوك ، فالله معك . فقال ونور الإيمان يملأ وجهه . . "سأصلى" . وفجأة ضرب أحد الجنود باب الزنزانة بعنف وقال : يا ابن الكلب . . ماذا تفعل ؟إ! . فقال الرجل : الست لم تفرغ من الصلاة. فقال الجندي في صفاقة : صفوت آت إليك. وأرسلني أنظر ماذا فعلت .

وجاء صفوت كحيوان مجنون وهجم على الرجل بوحشية شرسة، وظل ينهال بسوطه على الرجل حتى أفقده حتى الأنين ! ! وجاء مساعدو الجلاد وحملوا المسكين إلى مصيره ، وأغلقت الزنزانة على آلامي وهمومي . . آلمني ما نال هذا الرجل بسببي، أو لأن الله أضاء بصيرته فلم يطع الظالم ! ! كانت السياط التي مزقت جسده تمزق جسدي وتحفر أخاديد في نفسي! ! .

وهربت من همومي وآلامي إلى صلاة العصر. .


إلى زنزانة الماء مرة أخرى! !

وغربت الشمس ، فنشط جلادو السجن الحربي وزبانيته ، وبدأت عجلة التعذيب تدور! ! آخذوني في ستر الليل ، إلى زنزانة الماء . . كانت أمعائي تصرخ من الجوع وحلقي يكاد يتشقق من العطش ، وآلام جراحي تضرب كل جزء من جسمي بعنف وشراسة . آخذتني سنة من النوم ، وأنا على هذا الحال ، فإذا بخلق جميل ، يرتدون حللا من الحرير ، مزركشة ، داخل مخملات مطرزة بالذهب ، ويحملون صحافا من الذهب والفضة عليها ما طاب من الأطعمة من لحوم وفاكهة لم أر مثيلا لها! ! . . فأخذت آكل من هذه ، وتلك ، واستيقظت من سنة النوم هذه ، فوجدت نفسي في شبع وري، فلا جوع ، ولا عطش !! بل إن مذاق ما أكلته من طعام كان لا يزال بفمي!! فأخذت أشكر الله وأحمده . . مكثت في الماء طول الليل إلى ضحى اليوم الثالث ، عندما دخل صفوت وشمر بنطلونه ، ونزل إلى الماء وقال وهو يهزني بقسوة: إلى متى تظلين على عنادك ؟ أنقذي نفسك واكفينا أمرك . . أحكي الحكاية . . كيف اتفق سيد قطب مع الهضيبي على قتل عبد الناصر ومتى قال لك أن تأمري عبد الفتاح إسماعيل بقتل عبد الناصر؟ فقلت : كل هذا لم يحصل. . فخرج يسب ويلعن .. ثم عاد صفوت مرة أخرى بعد ساعة تقريبا، وأخرجني من الماء، وأدخلني في الزنزانة الأخرى التي تجاور زنزانة الماء وانصرف وارتعدت . . فقد اتجه تفكيري إلى ما حدث في هذه الزنزانة فاتجهت إلى الله بكل إيماني أن يحفظني مما يدبرون . .

ورجع صفوت وضابط بملابسه الرسمية يدعى إبراهيم . . وقال صفوت : سيادة الضابط سيتكلم معك يا. . فقال الضابط : اخرج أنت يا صفوت ثم اتجه إليّ وقال : أليس من الأفضل أن تقدري مصلحتك وتعملي لها فقط ؟. . هؤلاء القوم ليس لهم إله حتى يخشونه ! هل تعلمي ماذا فعلوا بالجندي الذي لم ينفذ الأوامر معك بالأمس ؟ لقد أعدم رميا بالرصاص . . إنهم اليوم يعدون لك فرقة من أعتى المجرمين . . اعملي كل ما يطلبونه منك وأنقذي نفسك من أنيابهم . . حسن الهضيبي وسيد قطب وعبد الفتاح رجال ، يتحملون مسئولية خطئهم . . والتزمت الصمت ، فقد سئمت أسلوب المساومة والإغراء والتهديد، ولا أظن أنني سألاقى من التعذيب أكثر ولا أبشع مما أنا فيه . . فقال الضابط لصفوت وكأنه عز عليه أن يفشل في مهمته : اعمل معها ما شئت ، إنها تستاهل كل اللي يحصل ليها. . . ودخل صفوت وأطلق سبابه الصارخ : عبد الناصر أرسل في طلب شياطين من النوبة سينهشونك نهشا . . إلى أين تفرين منهم ؟ الوقت يمضي ، وكل دقيقة تقربك من النهاية ثم أغلق الباب خلفه . . وبعد العصر، نقلوني إلى زنزانة الماء حيث مكثت فيها طول الليل . . . ! ! وجاء ضحى اليوم الرابع ، ولم أر أحدا غير صفوت الذي أخرجني من الماء وأدخلني الزنزانة الأخرى . . وبعد العصر أعادوني إلى زنزانة الماء فمكثت فيها إلى ضحى اليوم الخامس ! ! . وهكذا كل يوم من زنزانة إلى زنزانة بألوان من العذاب مختلفة! !


صرعت الوحش في زنزانتي ! !

لم يبق موضع في جسمي إلا وفيه اثر عذاب وموضع جراح ! ! ولم تبق ذرة في نفسي إلا وفيها جرح عميق ينزف ألما وحسرة . . !! هل كل ما يحدث هنا في السجن الحربي يخرج من بشر. . من إنسان ! غير معقول أن هؤلاء المخلوقات بشر. . ! ! إنهم مخلوقات تسمع وترى وتنطق وتمشى على رجلين ، ولها ذراعان وهيكل بشرى . . ! ! لا . . لا. . إنها مخلوقات غريبة . . من تركيبة عجيبة . . ! ! . .

وأخرجوني من الماء إلى الزنزانة المجاورة . . وحياني صفوت بعدة ضربات ملتهبة بسوطه المجنون . . وقال وهو يضربني : إن ما سيحصل لك اليوم لم يحصل لكلب أجرب في طاحونة!! وأغلق باب الزنزانة ثم انصرف . . وما مروري إلا دقائق قليلة حتى فتح باب الزنزانة مرة أخرى وامتلأت بحمزة البسيوني وصفوت وجندبين آخرين ! ! . . وانطلقت القذارة من فم حمزة البسيوني بأبشع ما يمكن أن يتخيله إنسان . . سب فاضح صارخ وقال : "يا بنت الــ. .. أنقذي نفسك وقولي كل شيء . اعترف الهضيبي ، واعترف سيد قطب ، واعترف عبد الفتاح إسماعيل ، ووضعنا أصابعنا على كل شيء من واقع اعترافاتهم . . عرفنا منهم أن الهضيبي أمرك أن تقولي لعبد الفتاح إسماعيل بأن دم عبد الناصر مباح لأنه كافر. . كل واحد منهم تكلم ، وأنقذ نفسه وأنت ضيعت نفسك . . . ثم قال مهددا والشرر يتطاير من عينيه : ستعرفين كيف أنتزع منك كل ما نريده . . ستتكلمين أم لا؟.

ثم التفت إلى صفوت وقال : نفذ الأوامر يا صفوت . . . . ومن يعص الأمر من أولاد الكلب – مشيرا إلى الجنديين حوله إلى المكتب فورا . . وتولى صفوت إفهام الجنديين مهمتهما البشعة بأسلوب داعر صارخ الفجور، بعيد كل البعد عن الحياء. . مغمور في الانحطاط إلى أبعد ما يكون . . فقال لأحدهما في مجون : نفذ التعليمات – يا ابن الكلب – بعد إغلاق الزنزانة ، وبعد أن يتم التنفيذ، ادع زميلك ليقوم بدوره كذلك . . مفهوم ؟! ! ثم أغلق الزنزانة وانصرف . .

جلس الرجل يتوسل إلى أن أقول ما يريدون لأنه لا يريد أن يؤذيني، ومن جهة أخرى فإن عدم التنفيذ يلحق به ضررا بليغا وايذاءً جسيما. . قلت له بكل ما أوتيت من قوة : إياك أن تقترب منى خطوة واحدة . . إذا اقتربت ، سأقتلك . . سأقتلك . . سأقتلك ، فاهم ! ! .

كنت أرى الرجل ينكمش ويتقاعس غير أنه أخذ يقترب في خطوات ، ولم أدر إلا ويداي حول رقبته ، وأنا أصرخ بكل صوتي : "بسم الله ، الله أكبر. . وغرزت أسناني في عنقه ، وإذا به ينفلت من بين يدي، ويسقط تحت قدمي خائرا، يخرج من فمه زبد أبيض كرغاوى الصابون . . سقط الوحش تحت قدمي، جثة هامدة لا تنبض إلا بهذا الزبد الأبيض . . أنا التي تتربع على قمة الألم ، والتي مزقتها الجراح التي حفرتها السياط في كل موضع من جسمها! أنا التي غلفها الإعياء من كل الزوايا .. تصرع هذا الوحش الذي أمروه بأن يفترسني! !

لقد بث فيّ الله - جلت قدرته - قوة غريبة صرعت هذا الوحش ! !

وكانت معركة شر! ضارية انتصرت فيها الفضيلة على شراسة الرذيلة . .

كان هذا علامة صدق ، وبشرى للمخلصين . . فالحمد لله ولا إله إلا الله . . إن الطغاة يخافون ويهزمون ، وأصحاب الرسالات خلف القضبان مجردون من كل شئ إلا من الإيمان بالله تعالى . . غير أن ثبات المؤمنين على الحق هو دائما شئ لا يستطيع المنهزمون في أنفسهم وضمائرهم بتقاعسهم عن الإيمان أن يفعلوه . يا إلهي ما أكرمك وما أوسع عطاءك . . أنت ربنا ورب كل شئ . . فهؤلاء الذين يأخذون بأمر الله يحاربون . . ويقاومون. . ولكن العاقبة دائما للمتقين . . وفتحت الزنزانة ودخل رأس الزبانية حمزة البسيوني ، والجلاد صفوت وجند آخرون ، ووقع نظرهم على هذا الوحش الممدد على الأرض ، والرغاء الأبيض يخرج من فمه . .

فبهت الذي كفر؟! . . خرست الألسنة وتبادلوا نظرات زائغة حيرى . . ! . . وحملوا الجثة وأعادوني إلى زنزانة الماء . .

من الفئران إلى الماء وبالعكس ! !

في زنزانة الماء ظللت حتى جاء اليوم السادس . . وفى ضحى اليوم أخرجوني من الماء إلى الزنزانة المجاورة ، فتوترت أعصابي انتظارا لما سيحدث . . فقد مرت بي في هذه الزنزانة ألوان من العذاب . فوضت أمري إلى الله ، وجلست مستندة إلى حائط الزنزانة . . أحسست بأشياء تتحرك ،فرفعت رأسي إليها، فإذا بخيوط متصلة من الفئران تنزل من النافذة كان أحدا يفرغها من كيس ! ! أخذتني رعدة شديدة، وشعرت برعب مريع ! ! . . أخذت أردد اللهم اصرف عنى السوء بما شئت وكيف شئت ".. ورددت هذا الدعاء، حتى سمعت أذان الظهر، فتيممت وصليت وجلست أختم صلاتي، وأذكر الله حتى أذان العصر فأديت صلاته . .

وهنا دخل الوحش صفوت الروبي. . كانت الفئران قد انصرفت من النافذة من حيث أفرغت ولم يتبق إلا فأر أو اثنان ! ! دارت عيناه في أنحاء الزنزانة في نظرات دهشة، وارتسمت على وجهه ألف علامة تعجب ! !

وكأن ذلك قد عز عليه ، فانصرف يسب ويلعن تلاحقه خيبة الأمل ! ! . . وأعادني إلى زنزانة الماء ، ثم عاد ومعه الضابط رياض .

وقف رياض خارج الزنزانة في محاولة يائسة لإقناعي لأقول بأن تنظيم الإخوان كان يهدف إلى قتل عبد الناصر والاستيلاء على السلطة بعد قلب نظام عبد الناصر . . فقلت له : هذا كذب وافتراء. وما كنا نجتمع إلا لنتدارس كتاب الله وسنة رسوله ، وتربية جيل مسلم يفقه الإسلام ، ويعمل لقيام دولته . فقال : أنت مصرة على هذا؟ ستعرفين كيف يكون العذاب من الآن. . إن كل ما مر عليك يعتبر محاولات إلى جانب ما سيأتي . وذهب وبقيت أنا في الماء..!! ثمانية أيام وأنا على هذه الحال ، حتى بلغ بي الإرهاق والإجهاد درجة تفوق كل احتمال .

وبدا ذلك واضحا على صحتي التي وصلت إلى حال يرثى لها! !

وفى اليوم التاسع جاء رياض ومعه صفوت وضابط آخر في زيه الرسمي . وأخرجوني من الماء . بدأ رياض يهددني بأن هذه المرة هي الفرصة الأخيرة لإنقاذ نفسي، فإما أن أعترف كما يريدون ، وأما الخلاص مني نهائيا .

وقال : أنت فاهمة ربكم عنده جهنم صحيح ؟! جهنم هنا عند عبد الناصر. . الجنة عند عبد الناصر جنة موجودة حقيقية . . وليست جنة وهمية خيالية مثل التي يعدكم بها ربكم إ! ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) الكهف.

ثم أخرجوني من الماء إلى الزنزانة المجاورة وأغلقوها ثم انصرفوا . . وفزعت إلى الله في صلاتي؟ أطلب منه أن يصرف عنى شر هؤلاء، كنت في صلاتي عندما دخل الزنزانة عدد من الجند يزيد على العشرة ومعهم ضابط بزيه الرسمي . ثم انضم إليهم حمزة البسيوني ، وصفوت الروبي .

قال صفوت لحمزة البسيوني : أوامرك يا باشا في بنت الــ . . فقال حمزة البسيوني للجند: ماذا شربتم ؟!

فقالوا : شاي يا معالي الباشا . . . فقال : شاي يا أولاد الكلب . . خذهم يا صفوت اسق كل واحد منهم زجاجة خمر، وأن يدخنوا الحشيش ، وأطعمهم كل ما يشتهون ، ثم ارم لهم بنت الـــ. . ولهم عندي إجازة ومكافأة . وأغلقوا الزنزانة وانصرفوا . مكثت في الزنزانة حتى صلاة العصر . . كنت ساجدة في الصلاة عندما فتحت الزنزانة ويندفع صفوت وجذبني من ذراعي في وحشية وقطع صلاتي، ثم أخذني إلى زنزانة المياه وأغلقها وانصرف ! وجاء رياض ودلف إلى الزنزانة، وكله علامة تعجب يحاول أن يخفيها تحت ظلال من الذهول وهو يقول :

تريدين أن تكوني قديسة ؟ الجنود الذين أعددناهم لك ذهبوا إلى المستشفى. . لكنهم غدا سيأتون ينهشون لحمك نهشا، في المستشفى حقنوهم وأصبحوا كالكلاب المسعورة . . وأنها أوامر جمال عبد الناصر. . لن يتركك أبدا . . تعبنا من النصيحة وحاولنا معك مرة ومرات وأنت لا تتزحزحين عن موقفك . . تريدين أن تكوني قديسة ردى، ردى . . أين سوطك يا صفوت ؟" أخذ صفوت يضربني ورياض يستحثه : استمر يا صفوت . . قديسة يعنى إيه يا بنت الـــ . . ! ! تريدين بعد موتك بثلاثين سنة يقيمون لك ضريحا في مسجد ويقولون إن زينب الغزالي الجبيلي أظهرت كرامات في السجن الحربي. . لكن ، أنت هنا، ولا الشيطان يعرف ماذا نعمل فيك ؟!.

وضحكت وأنا في قمة المعاناة كانت ضحكة سخرية من جهله وغروره ، وقلت : إذا كنا نريد ما تقول ، ما دفع الله شروركم عنا . ولما استطعنا المقاومة والصبر" والتغلب على ما تسموه ، بأنفسكم جحيم عبد الناصر. . لكننا طلاب حقيقة نطلب الله ، ثم رضاه . . سينصرنا الله عليكم إن شاء الله وسيفرى الله أسنان الأشقياء الذين تعدونهم لنهش لحومنا .

كان صفوت قد ابتعد عن رياض ، فناداه هذا مستعينا .

"أدركني يا صفوت بنت الـ . . . . بتخطب . . إنها تخطب يا صفوت . .. وأسرع صفوت لنجدة رياض وألهبني بسوطه .

وقال : دعها لي يا سعادة البك . وغدا سترى وتشاهد ما نزل بها! !. وأجلسوني الجلسة المعتادة في الماء ثم أغلقوا الزنزانة وانصرفوا . .

الله وحده يعلم الحالة التي كنت عليها.. لقد كنت في قمة الألم ، وقمة الإجهاد، وقمة المعاناة . إن آلاما مبرحة تسرى في كل جسدي .

آه ! ! مسكين يا بلدي! ! هل أمرك إلى هذه الطغمة التي اعتدت على كل القيم ، وحطمت كل القوانين ؟! !

شغلني التفكير في بلدي عن بعض آلامي . . وإن كان أضاف هما إلى همومي ! ! إن ما أصابني ويصيبني قد أصاب ويصيب غيري بكل تأكيد. . لقد بت أتصور أن البلد كله قد صار سجنا حربيا، يحكمه حمزة البسيوني، وصفوت ، ورياض ، والسفاح الشرس شمس بدران ! ! . . كلهم حلقات واحدة في سلسلة متصلة تكبل هذا البلد. .إ!

مسكين يا بلدي. . لا، لا لن تكون مسكينا يا بلدي، وفيك حملة كتاب الله وسنة رسوله ، ومن يستظل بمظلة لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله . . إننا إن ذهبنا فسيأتي بعدنا وبعدنا من يرفع الراية غدا . . تشرق الأرض بنور ربها، وتتفيأ البشرية ظلال العبودية لله الواحد القهار . .

من الماء إلى وكيل النيابة! !

معذرة على هذا التكرار .. فالمقصود التفصيل والتوضيح ، كيف كان حال مصر : فسدت الحياة وأسنت ، ظلم ، رعب ، اعتقالات ، مجازر ، تشريد …. سيطرت قوى الشر والباطل واستبدت ، وساوت بين الجميع ، بين أصحاب القلم والفكر والرأي ، والوزراء والقادة العسكريين ، وبين المواطن العادي . بين الشاب والشيخ .. بين الرجل والمرأة .. بين المريض والصحيح .. كلهم أمام السياط ، وتحت السياط ، والصلب ، والكلاب ، وجميع أنواع التعذيب ، الكل سواء … إنها اشتراكية التعذيب !! . . وفى صباح اليوم التاسع ، أخرجوني من الماء في وقت مبكر وقال - صفوت : أنت ذاهبة إلى وكيل النيابة، وكفاك عذابا وأنقذي نفسك .. ثم أضاف وقد بدت في عينيه نظرة التهديد: طبعا أنت عارفة المطلوب منك . . وسنرى ما تقولين ! إ" . وجذبني بقسوة، فقلت : إن ثوبي ممزق . . أعطني ثوبا أستتر به فقال مساوما : أحضر لك جلبابا وتكتبين أن حسن الهضيبي وسيد قطب اتفقا على قتل عبد الناصر، والاستيلاء على الحكم ؟!

فقلت لا فقال : أذهبي عارية، ولينفعك إسلامك . . وليراك الإخوان هكذا . . فقلت : إن الله هو الحليم الستار. ودخلت مبنى آخر من مباني السجن الحربي : ثم إلى حجرة مفتوحة يتصدرها رجل يجلس إلى مكتب ، وعرفت فيما بعد أن هذا الرجل يدعى جلال الديب .

نظر إلى نظرة تائهة تشعرك بأنه يحس أنه أصغر من المهمة المعهودة إليه . . وقال مشيرا بطرف إصبعه : اجلسي . فجلست على كرسي أمام المكتب ثم بدأ حديثه معي أنت زينب الغزالي الجبيلي الزعيمة الإسلامية المشهورة. . لماذا وضعت نفسك في هذا الموقف ؟ هل يرضيك ما أنت فيه ؟ إني مسلم أحب لك الخير وجئت لا ' نقذك . أنا أسعد فخر الدين وكيل النيابة . . أنا لا أستطيع أن أتصور أن زينب الغزالي هي الجالسة أمامي بهذه الحال التي وصلت إليها . أرجو أن تساعديني لأخلصك مما أنت فيه . .

فقلت : والله ما نقول إلا ما يرضى ربنا ولا نبغي إلا وجهه تعالى . فقطب حاجبيه ونكس رأسه وهو يسأل ما سنك الآن ؟

فقلت : أنا من مواليد 2 يناير سنة 1917 فقال : مندهشا أو متصنعا الدهشة يا ساتر! كنت معتقدا أن سنك في التسعين . . لماذا فعلت كل، هذا؟! قلت : ( لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . فقال : يبدو أنك غير قادرة على الكلام ؟!

فلزمت الصمت ! ! فسأل : على أي شئ اتفقت أنت والشيخ عبد الفتاح إسماعيل ؟ . قلت : اتفقنا على أن نربى الشباب على الإسلام ، ونفقهه في أصول الكتاب والسنة حتى ننقذ هذا المجتمع من هذا الضياع الذي يعيش فيه . قال* أنا لا أريد خطابة . . أنا أريد أن توضحي . "إن الهضيبي قال لك أمرا تنقلينه إلى عبد الفتاح عبده إسماعيل ، وقال لك أمرا ثانيا تنقلينه إلى سيد قطب ما هو هذا الأمر؟! أظن واضح ؟؟" .

قلت : استأذنت فضيلة المرشد الأستاذ الهضيبى ليجتمع الشباب لدراسة تفسير القرآن والسنة مع الاستعانة ببعض كتب الفقه كالمحلى لابن حزم ، وكتب التوحيد لابن عبد الوهاب ، وابن تيميه، وكتب الأستاذ سيد قطب ، ومن الشباب كان عبد الفتاح عبده إسماعيل .

فقال - وقد رسم على شفتيه ابتسامة حاول أن تكون ساخرة- : لا يا ست زينب ، الموضوع ليس كذلك . . الموضوع ظهر ووضح فأنقذي نفسك واذكري الحقيقة، فقلت : كل الذي كنا نريده أن نربي جيلا صالحا ونبني أمة مسلمة. فقال في إصرار: كلهم اعترفوا وقد ألقوا المصيبة عليك كلها، فقلت بهدوء: الله المطلع يحميني ويحميهم - إن شاء الله - من أن ننزلق إلى باطل . . فقال في عصبية وبدأ يظهر نواياه : لا . يبدو أنك مغرمة بإظهار عضلاتك الخطابية، ومغرورة . . حتى النيابة لا تستطيع أن تصل معك إلى قرار!

فقلت ، وأنا لا أستطيع الكلام - فقد كنت في قمة التعب والإجهاد ولكن شعور بالظلم دفعني إلى أن أقول -: لو عرفت النيابة واجبها ما . . فقاطعني ثائرا: "أخرسي! حتى النيابة تتطاولين عليها ولا تسلم من لسانك " . . ثم نادى صفوت الذي كان واقفا بالباب . . لا فائدة منها يا صفوت . . إنها اعتدت على النيابة سأثبت في المحضر أنها اعتدت على النيابة .

جذبني صفوت بوحشية ونظر إلى وكيل النيابة وقال : إلى أين يا سعادة البيه . . ؟ فقال وكيل النيابة بسرعة – وكأنه يرد على سؤال مسبق - : إلى الماء طبعا. . وعدت إلى الماء وسوط صفوت لا يكل ولا يضعف ، زين له شيطانه الشر وهيأت له جاهليته الطغيان . وسولت له نفسه المريضة ذلك طمعا في رضا من فوقه ، وأملا في القرب من أسيادهم .

السوط مع الرغيف ! !

بعد العصر، في اليوم العاشر، فتحت زنزانة الماء، وأخرجني صفوت من الزنزانة أسلمني لاثنين من الزبانية وقال لهما : "إلى سجن 3" . . أدخلوني هناك زنزانة، فارتميت على الأرض جثة هامدة مثخنة بالجراح . . كان جسمي متورما كالكرة المنفوخة. . وأحس بأن قلبي يكاد ينخلع من مكانه . . انبطحت على الأرض لا أقوى على الأنين ! ! . . وأسلمت نفسي للذي بيده مقادير الأمور. لا أدرى كم مر من الوقت وأنا على الأرض ، حينما سمعت جلبة خارج الزنزانة. زحفت على الأرض وبصعوبة بالغة أمسكت بالباب ونظرت من الفتحة . فرأيت جماعة من الإخوان ، يقفون طابورا طويلا، بيد كل واحد " قروانة " من الصفيح يتقدم بها إلى جندي، فيغرف هذا الأخير من " قزان " أمامه شيئا غريبا ويصبه في القروانة الصفيح . . وعندما يتناول الأخ نصيبه من هذا الطعام الغريب ، يتناول أيضا نصيبه من السياط ! ! كان عدد من الجنود الزبانية يقفون في صفين متقابلين ، وعندما يمر الأخ بعد أن يتناول نصيبه من الطعام ، يضربه كل جندي عند مروره عليه بسوطه . . وهكذا لابد أن يدفع الأخ ضريبة إجبارية عددا من السياط بعدد الجنود! وينصرف الأخ .

شعر أحد الزبانية بي وأنا أختلس النظر إلى طابور تسليم الطعام الرهيب ، فدخل زنزانتي كالوحش الهائج وأخذ يضربني بحذائه ضربا مؤلما، ثم ينهال بسوطه المجنون على ما يصادفه من جسمي، فخارت قواي، وغبت في نوم عميق على إسفلت الزنزانة! ! .

أيقظني الملعون صفوت ومعه أحد الجنود بيده قروانة بها قليل من الحساء أسود اللون ، تنبعث منه رائحة كريهة لا تطاق . . قال صفوت : اشربي هذا وإلا فسنضربك عشرة سياط . فقلت : سأشربها! ! فقال صفوت لمساعده : اتركها عشر دقائق ، ثم عد إليها . وانظر ماذا فعلت ؟ ، إن لم تكن قد شربت اضربها عشرة سياط وناديني . . ! ! ، . خرجا وأغلقا الباب ، ولما بعد وقع أقدامهما ، واطمأننت إلى أن أحدا لا ، يراني، سكبت الحساء تحت البطانية التي رموا بها على إسفلت الزنزانة . . وعاد الجندي بعد المدة المحددة فوجد القروانة فارغة فأخذها وانصرف ! ! قضيت ليلتي . . ويا لها من ليلة . . كنت على قمة الألم والمعاناة. . أنياب آلام البدن تنهش جسمي كله . وافترشت آلامي وقضيت ليلتي . . ! !


إلى المستشفى

وفى ضحى اليوم إلحادي عشر فتح صفوت الزنزانة وقال : تفضل يا دكتور ماجد . ودخل الطبيب ماجد في زيه العسكري ومعه التمورجي الجندي عبد المعبود. . كانت قدماي تنزفان دما وصديدا ، وأورام وانتفاخات منتشرة في جسمي وآلام حادة تفرى عظامي .

قال الطبيب ماجد للتمورجي : اعصر لها رجليها ونظف الجروح وانقلها إلى المستشفى . . " ونقلت إلى المستشفى في حراسة اثنين من الزبانية! ! مكثت يوما في المستشفى (أو الشفخانة كما يطلقون عليها) وسعدت ، لا لأنني بعدت عن التعذيب ، فالتعذيب في جسمي ضارب أنيابه ، ولكنني سعدت من تغيير المكان . . نعم ، كنت في زنزانة في المستشفى، ولكن شعوري بأنني في مستشفى أدخل على بعض الراحة . . وحمدت الله . تمنيت أن تمتد إقامتي في المستشفى فترة تلتئم فيها جراحي، ويخف فيها زئير عظامي. . واستسلمت لهذا الحلم الجميل ولكن ، وآه من لكن ! جاءتني الزبانية وأخرجتني من حلمي الجميل إلى واقعي المر الأليم ! ! وأخذني الزبانية إلى مكتب شمس بدران ! ! . . كنت أمشى على قدمي بصعوبة بالغة . . بل لم اكن أستطيع أن أحمل جسمي . . ولكن السوط في يد الزبانية خلفي تهددني إن أبطأت ، ويهوى على إن تلكأت أو وقفت ! ! ولم اكمل الطريق من المستشفى إلى مكتب شمس بدران ، فسقطت على الأرض في منتصف الطريق ، فرفعني الجند، وجروني على الأرض جرا . . وأوصلوني على هذه الحال إلى مكتب شمس بدران ؟! !


مع شمس

وما كاد السفاح الجاهلي شمس يراني حتى نادى على صفوت الروبي، وفي حركة ، كأنه أمام آلات التصوير- فقد ازداد احتقان وجهه وارتسمت عليه غضبة عارمة، وتحجرت عيناه في مقلتيه حتى صار وجهه مثل وجه البومة – واستدار إلى صفوت ، وذراعه ممدودة إلى آخر مداها ، وإصبعه تشير إلى : علقها يا صفوت واجلدها خمسمائة جلدة! ! . . وحشية ما بعدها وحشية؟ وقسوة غريبة لا يعرفها إلا شمس بدران ! ! . وعلقوني وجهزوني للجلاد . . ! ! وشمر صفوت الروبي عن ساعده ، ورفع سوطه وأخذ في تنفيذ أمر مولاه شمس ! ! خمسمائة جلدة . . وأنا أستغيث ضارعة : "يا الله ، يا الله " وشمس بدران يقول : "أين هو الله ؟!" الذي تنادينه ، فلينفعك إن كان موجوداً ! . . لو استغثت بعبد الناصر لأغاثك في الحال ! . . ثم أخذ بلسانه يتطاول على جلال الله سبحانه ، مما تأبى ألسنة المؤمنين أن تتفوه والتلفظ به ؟ ولو كان إعادة لما قاله الفاجر الكافر .

وتم الجلد . وأنزلوني من التعليقة وأوقفوني والدم ينزف من قدمي . . وأمرني بدران أن أؤدي حركة "محلك سر" مدعيا أن هذا علاج لقدمي! ! . وبعد فترة أسندت ظهري إلى الحائط ، ثم جلست من شدة العناء، فجذبني صفوت بغلظة، ولم أستطع الوقوف فهويت على الأرض . . وهنا جاء حمزة البسيوني وحش السجن الحربي، وقال : إنها تمثل يا باشا! ! . . وأغمى على، وتنبهت على الطبيب الذي أعطاني حقنة في ذراعي وأمر لي بكوب من عصير الليمون واسقوني إياه . . قال شمس بدران : هيا ! لن ينفعك العناد . . نفذي ما نريد وإلا علقناك ثانيا. وثالثا . ورابعا . ومائة مرة . . لا يخطر على بالك أبدا أننا عاجزون عن انتزاع ما نريده منك . . إننا نعطيك الفرصة فقط. مفهوم ؟!! من يمنعنا عن دفنك وأنت حية؟إ!

فقلت : يفعل الله ما يشاء ويختار، وله الحمد حتى يرضى .

فقال في غيظ وضيق : لا تكلميني بهذه اللغة وهذا الأسلوب.

وقال حسن خليل محاولا أن يثنيني عن عزمي : يا بنت اعقلي، واشترى نفسك . . لن ينفعك أحد من الإخوان هنا. . كل منهم يريد نفسه فقط . . إنهم يفرون إلى النجاة! !

ثم أخرج ورقا وقلما واستأنف حديثه أو نصائحه : خذها يا صفوت إلى المستشفى ودعها تكتب كل ما تعرفه عن تنظيم الإخوان . . كيف عرفتهم ؟! وكيف اتفقوا على قتل جمال عبد الناصر. . وتذكر كل أسماء الذين تعرفهم من الإخوان ! ! وفى الطريق إلى المستشفى كان صفوت يأمرني بالمشي، وأنا عاجزة كطفل يخطو خطواته الأولى! ! وتستبد بصفوت وحشيته فكان يوقفني بين وقت وآخر ويأمرني أن أؤدي محلك سر! ! محلك سر! ! إن هذا علاج لقدميك يا بنت الـ . . . .

الله وحده يعلم كيف قطعت الطريق إلى المستشفى . . لقد كانت رحلة عذاب ووصلت إلى المستشفى ودخلت زنزانتي . أعطاني صفوت الورق والقلم وقال : طبعا عرفت المطلوب . . ولا داعي للفلسفة . . اكتبي كل ما تعلمونه يا إخوان يا كذابون . . وكيف كنتم ستقتلون جمال عبد الناصر. . واضح ؟! هيا يا حلوة وأغلق الباب ، وانصرف !

لم أستطع أن أمسك القلم ، فقد كانت يداي متورمتين ، ولم أستطع الكتابة فمضى اليوم الأول ، ولم أفعل شيئا. . لم اكتب حرفا واحدا. . وعاد صفوت ليأخذ ما كتبت . فوجد الورق أبيض لم يمر عليه القلم . فقال : سأترك لك الورق لتنقذي نفسك يا بنت الـ. . وانصرف.

وأخذت اكتب بصعوبة . وفى اليوم الثالث جاء حمزة البسيوني ، وجمع الأوراق وانصرف ، وقضيت يومي بين صحوة وغفوة . لا أستطيع أن أستقر على موضع . . إن وقفت نبحت قدماي . وان نمت صرخت عظامي! وجاء صفوت ، ومعه جنديان ليأخذاني إلى مكتب شمس بدران وبنفس الطريقة السابقة قطعت الطريق سيرا على قدمي مع الوقوف على فترات في "محلك سرا بأمر صفوت الروبي! !

ودخلت مكتب شمس بدران فنظر لي في وحشية وقسوة وهو يمزق أوراقا ويلقيها في سلة المهملات ثم قال : يا بنت الـ . . ألم يكفك كل هذا العذاب ؟! ! ماذا كتبت ؟ كلام فارغ . . أجلدها مرة أخرى يا حمزة!

فقال حمزة البسيوني وحسن خليل : سنعيدها للكلاب أحسن يا باشا، فقال شمس بدران في عصبية : أحضر الكلاب هنا يا صفوت ! !

أسرع صفوت وعاد ومساعده نجم بكلبين كالوحشين من مجموعة الكلاب المدربة التي كانت لي معها سابقة في اليوم الأول من أيام "باستيل مصر" . . السجن الحربي . . وقال شمس بدران : أطلق عليها الكلاب يا صفوت ! !

وهجم على الوحشان ، فأغمضت عيني . وأنا أقول : حسبي الله ونعم الوكيل ، اللهم اكفني السوء بما شئت وكيف شئت . وظل الكلبان ينهشان جسمي كله بأنيابهما ويشعلان فيه نارا موقدة. . وشمس بدران لا يكف عن سبابه يا بنت الـ. . اكتبي أنكم اتفقتم على قتل جمال عبد الناصر. . كيف كنتم ستقتلونه ؟ اكتبي . . اكتبي يا بنت الـ . . !! . . وصار عدد الكلاب ثلاثة . . اثنان ينهشاني وشمس بدران يسلقني بلسانه القذر السليط ! !

ويبدو أن شمس بدران قد شعر بأن لا جدوى من الكلاب فصرخ في صفوت ، وجسمه كله يهتز من الثورة : اصرف الكلاب يا صفوت ، وجهز بنت الـ . . للجلد ! واستدعوا الطبيب ، فحضر ثم فحصني وقال لشمس بدران : إذا سمح الباشا يؤجل جلدها اليوم فحالتها "لا تتحمل " .

وقال شمس بدران لحمزة البسيوني : "خذها إلى 24 أريد يا حمزة أن تحمل إلى جثتها .

وحملوني إلى رقم 24 . . بناء لم أدخله من قبل ، ثم أوقفوني فاقشعر بدني وتسمرت في مكاني! ! . . رقم 24 هذا زنزانة في وسطها نار موقدة، وعند كل ركن من الأركان الأربعة يقف جندي بيده سوط كلسان الأفعى. . وتناولني الجندي بسوطه وهو يأمرني بأن أدخل في دائرة النار، فإذا اقتربت منعني الجندي القريب منها، فيتلقاني الثالث . . وهكذا النار المشتعلة قريبة منى، يلفحني لهيبها.. ظللت ما يقرب من ساعتين وأنا بين لهيبين ، لهيب النار المشتعلة التي أخشى الوقوع فيها، ولهيب سياط الزبانية وكلا اللهيبين مر. ويدخل حمزة البسيوني، ونظرة بلهاء بلا معنى في عينيه ويقول وأنا في وسط هذا السعير: اكتبي أنكم ستقتلون جمال عبد الناصر وإلا قذفناك في النار ! ! .

ونظرت إليه نظرة ، وصرخت في وجهه صرخة بدون صوت ، وبكيت بدون دموع . . لقد كان العذاب فوق ما أحتمل ، وأغمى على ولم أفق إلا وأنا في المستشفى! !


مشهد تمثيلي بالإكراه ! !

في صباح يوم ، أخرجوني من زنزانة المستشفى، فرأيت مصورين وآلات التصوير معدة، وأجلسوني على مقعد، وأمروني أن أضع ساقا على ساق ، وأضع سيجارة في فمي، ليصوروني على هذه الحالة فقلت : مستحيل أمسك سيجارة لا في يدي، ولا في فمي! ! فوضعوا المسدس في ظهري وفى أم رأسي لأمسك السيجارة فرفضت ونطقت بالشهادتين وقلت : افعلوا ما تشاءون - لن أفعل ! ! ضربت بالسياط . . أعادوا المسدس إلى رأسي ، وأعادوا الأمر بمسك السيجارة ووضعها في فمي، فرفضت وأصررت على الرفض ! ! . . فلما يئسوا صوروني . .

في اليوم التالي، طلبوا منى أن أذهب' لأتحدث في التليفزيون على أن يملوا على كلاما من عندهم وبهتانهم على "الإخوان المسلمين". فقلت : لن أقول إلا الآتي إذا ذهبت إلى التليفزيون . " إن جمال عبد الناصر كافر يحارب الإسلام في شخص جماعة الإخوان المسلمين . . ولذلك نحن نحاربه ، لأنه قال إن الحكم بالقرآن رجعية وتأخر وتعصب مقيت ، ولأنه يستورد مواد أحكامه وتشريعاته من الدب الأحمر الشيوعي ومذهبه الإلحادي الذي يقول لا إله والحياة مادة . . لهذا نحن نحاربه " . . فقال : ستتكلمين والمسدس في ظهرك ونافوخك . . لابد أن تقولي ما نريده نحن .. قلت : بالأمس لم أرض أن أضع سيجارة في يدي أو في فمي، وأنتم تهددونني بمسدسكم وتضعونه في رأسي وفى ظهري ، ومصورو صحافتكم وإعلامكم يشهدون ، فهل تظنون اليوم أن أقول غير الحقيقة؟ ! لا . . واظن إننا لحملة رسالة … . وأمناء أمة وورثة كتاب فجلدت وأعدت إلى الزنزانة .

وأعادوني إلى مكتب شمس بدران . . وما كاد يراني حتى قال في دهشة مصطنعة : إيه أما زالت على قيد الحياة يا بنت الـ . . ؟! أنا قلت يا حمزة هات لي جثتها. . فقال حمزة البسيوني في رجاء: معذرة يا باشا. . قل لها تعليماتك وهي مستعدة لتنفيذها . فقال شمس بدران : اكتبي يا زينب . . . !! فقلت : لن اكتب إلا الحقيقة. . إذا أردتم فاقتلوني . . إنها شهادة تكتب عند الله إن شاء سبحانه . فقال حسن خليل : لن نسمح لك بهذه الشهادة؟إ!

فقلت : إن الشهادة من عند الله ؟ إذا أرادها لأحد من خلقه أعطاها له .

فقال شمس بدران وقد أثاره إصراري : علقها يا صفوت . . واجلدها خمسمائة جلدة! ! لتعرف من ربها . وعلقوني، وجلدني الزبانية . . سخاء في الوحشية وكرم في القسوة! ! خمسمائة جلدة على إنسان في قمة الألم ، وقمة المعاناة. . ماذا بعد؟! وأعادوني إلى الزنزانة .

ولم يمض وقت حتى أخذوني ثانية إلى مكتب شمس بدران الذي قال :

أجلسي هنا؟! ! وأشار إلى كرسي أمام مكتبه . . ثم قال : هل أنت فاهمة أن قلوبنا جامدة لا تحس ؟! أنا متأثر جدا لحالتك . . أنا والدي شيخ في الأزهر! ! نظرت إليه نظرة ذات مغزى كبير مليئة بالازدراء والاحتقار!

وعاد إلى طبعه الوحشي قائلا في عصبية مهددا: يا بنت الـ . . إ! . اسحبها يا حمزة إلى 32. . الحجرة 32

ودخلت زنزانة وجدت بها عمودين من الخشب متصلين من أعلى بعمود أفقي تتدلى منه حلقتان . . أوقفوني على كرسي . وأمروني بالسوط أن أمسك الحلقتين ، عندئذ أزاحوا الكرسي من تحت قدمي فصرت معلقة في الهواء . . ! ! لم أستطع أن أستمر في الحلقتين أكثر من عشر دقائق فهويت على الأرض وتلقفني الزبانية بسياطهم المجنونة . وأعادوني مرة أخرى إلى الحلقتين. فسقطت ، فعملت في السياط المجنونة ما شاء لها هوى الزبانية. . وظلت هذه العملية تتكرر ما يقرب من ثلاث ساعات ! !


شموخ الإيمان وذلة الباطل

أعادوني إلى مكتب شمس بدران ، فأشار بطرف إصبعه ، في حركة تمثيلية، إلى كرسي أمام مكتبه ، فجلست ثم أخذ جلال الديب وحسن خليل يحاولان إقناعي بأن أكتب ما يريده الباشا . . ويكرران بأن ذلك في مصلحتي! ! فقلت لهما: لن أكتب شيئا لا أعرفه . . فقال لي : إننا عرفنا كل شئ، واعترف الإخوان بكل شئ، اقرأ لها الملفات ! !

ملف عبد الفتاح إسماعيل وملف مجدي عبد العزيز، وأحمد عبد المجيد وملف سيد قطب ، وملف محمد هواش ، وصبري عرفه ، وعبد المجيد الشاذلي ، وفاروق المنشاوي ، ومرسي مصطفى مرسي ، على حد زعمهم ، ثم قال شمس بدران : اقرأ لها أقوالهم ، وقرأ جلال الديب أقوال على عشماوي! ! أذهلني ما سمعت إ! ولما فرغ قال شمس بدران - وهو يغمض إحدى عينيه ويهز رأسه -: ما رأيك في هذه الأقوال ؟ ! فقلت على الفور: هذا كله كذب وافتراء.

فقال شمس بدران : تريدين أن تنكري أنك أسست تنظيم الإخوان ؟ إليك كلام شيخكم يقطع بأنك أنت التي أسست التنظيم . . اقرأ لها أقوال الهضيبي يا جلال . وبعد عدة دقائق قال له : انتظر. . اترك هذا الملف واقرأ لها أقوال عبد الفتاح إسماعيل ، وأخذ جلال يقرأ. . وبعد قليل سألني شمس بدران : ما رأيك ! ! . . لم أجب . . قال يا جلال . . اقرأ لها أقوال مخطط الإخوان سيد قطب ..

فأخذ جلال يقرأ ثم ينتقل من ملف إلى ملف ولما فرغ قال شمس بدران : ما رأيك فيما سمعت ؟! هل تكتبين ما نريد؟ فقلت : هذا باطل ؟؟ فقال في تهكم : وما هو الحق يا نابغة الزمان ؟ قلت : كل ما سجل هنا لعلى عشماوي، أعتقد أنه هو الباطل . . أما بقية إخواني فهم أهل الدعوة وأهل الحق . . والمسطر هذا مزور عليهم . . قال شمس : علقها يا صفوت وأنت يا حمزة هات على عشماوي وحضر الكلاب . وجاء على عشماوي . . كان على عشماوي يلبس "بيجامة من الحرير المهفهف نظيفة، أنيقة شعره ممشط لا يبدو عليه أي أثر للتعذيب ، فلما رأيته واستعرضت في حالة الآخرين ، وحالتي علمت بل تيقنت أن هذا المخلوق خان أمانة الله ، وشهد على إخوانه زورا فهوى في مهاوي الفساق الفجار، الظالمين ، وأصبح من رجال شمس بدران وذنبا من أذناب جمال عبد الناصر، الذين لا يعرفون قيما ولا أخلاقا ولا دينا . قال له شمس بدران : يا على ، ماذا أخذت من زينب الغزالي في آخر يوم توجهت فيه إليها، وماذا قالت لك ؟

قال على عشماوي : أعطتني ألف جنيه ، وقالت لي . . النقود ستكون عند غادة عمار لتسليمها إلى بيت الهضيبي أو بيت قطب ، إذا قبضوا على اتصل بغادة أو بحميدة ستعرف أين النقود إذا احتجتم إليها" . فقال شمس بدران : كم كانت النقود يا زينب الغزالي؟ ولماذا كنت خائفة عليها؟

فقلت : كانت النقود أربعة آلاف جنيه ، وهى قيمة اشتراكات مجموعة من الإخوان في السودان والسعودية ، لمساعدة أسر المسجونين ، ومصاريف الطلبة في المدارس والجامعات ، وإيجار بيوت ، صرفنا منها في العيد الماضي ألف جنيه على العائلات . .

وهذا الواقف أمامكم هو الذي أخذ الألف جنيه ليعطيها لعبد الفتاح إسماعيل لحساب الهضيبي . وقال شمس بدران : أنت يا على، ماذا أكلت عند زينب الغزالي آخر مرة؟ فقال على عشماوي : أعطتني طبق أرز بالكبدة وقالت لي : كل ، ربنا يعينك .. ثم قال : كفاية! ! اخرج يا على، فخرج على عشماوي مصحوبا بسلامة ورعاية شمس بدران ! !

وقال شمس بدران : هات عبد الفتاح ، يا حمزة.

وبعد لحظات عاد حمزة البسيوني بعبد الفتاح إسماعيل .(أعدم في العام 1966 مع الشهيد السيد قطب) . كان يكسوه وقار الصادقين ، ونور الموحدين ، يلبس حلة سجن زرقاء ، ممزقة ، وآثار التعذيب تنطق بمدى ما لاقاه هذا المجاهد الصادق المؤمن الموحد . . وقال يوجه القول إلى : "السلام عليكم " . قلت : "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته " .

وقال شمس بدران : ماذا كنت تعمل عند زينب الغزالي يا عبد الفتاح ؟ لماذا كنت تذهب إليها؟ ويرد عبد الفتاح بلسان صدق وحق غريب على الجاهلين : أختي في الله . . كنا نتعاون على أن نبني الشباب المسلم على مبادئ القرآن والسنة، وبطبيعة الحال كان ذلك سيفضي إلى تغيير الدولة، من دولة جاهلية إلى دولة إسلامية . .

ويقول شمس بدران في غلظة : أتخطب ؟ أنت لست على المنبر يا ابن الـ. . . . اخرج . . اخرج . . ويخرج عبد الفتاح إسماعيل كما جاء. . بعد أن وجه القول إلى "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " . فقلت : "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته " .

وأخذت شمس بدران ثورة عارمة فجرت القذارة على لسانه فانساب بأبشع الألفاظ وأقذرها ! ! واسترحت . . نعم استرحت لشموخ الرجولة في عبد الفتاح إسماعيل ، مأخوذة بذروة الإيمان فيه ، وقلت في سرى "الحمد لله ! أن لله رجالا . . اللهم احفظهم لدعوتك يا الله . إن خان على العشماوي فهناك الموحدون الصابرون . . رواد الطريق وطلاب الحقيقة .

وتنبهت على صوت شمس بدران وهو يصرخ : خذوها بنت الــــ. . وبكره تيجي ومعها الورق مكتوب . وأعطى حسن خليل لصفوت ورقا وقلما وأعادوني إلى المستشفى وأمسكت بالورق والقلم . ماذا اكتب ؟ ماذا يريدون منا؟ أيريدون أن نغضب ربنا ونخالف ديننا! إ؟ لا والله لن نكتب إلا أننا في سبيل الله قمنا وتحت راية القران سرنا. . لا إله إلا الله . . محمد رسول الله . لن نشرك بربنا أحدا ولا نعبد إلا إياه . ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وتوفنا مسلمين . وأنتم يا فراعنة العصر اقضوا ، إنما تقضون هذه الحياة الدنيا. وغدا سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .

وفى اليوم التالي جاء حمزة البسيوني ورياض وصفوت وأخذوا الأوراق وانصرفوا ، وعادوا بعد ساعة تقريبا ، وحملوني في عربة -لعجزي عن الحركة- إلى مكتب شمس بدران ، الذي رأيته يمزق أوراقا يلقيها في سلة المهملات وهو يقول : هذه أوراقك أنا سآخذ كوز دم من جسدك وتكتبين ما أريده بالدم . . وأعادوني إلى المستشفى . . ! ! تحت اللعنات وضرب السياط .


عبد الناصر أمر بإعدامي! !

مكثت بالمستشفى عدة أيام تحت العلاج . فقد كنت قاب قوسين أو أدنى من ا لموت ! ! وذات يوم قبيل الغروب أخذوني إلى مكتب شمس بدران . . لكنهم لم يدخلوني " بل أمروني أن أقف ووجهي إلى جهاز كهربائي ، يخرج صوتا مزعجا، وينبعث منه هواء ساخن . . ظللت واقفة -ووجهي إلى هذا الجهاز اللعين - ليلة كاملة! ! وفى الصباح أعادوني إلى المستشفى . دخل الدكتور ماجد ونظر إلى وجهي وقال لعبد المعبود التمورجي : وجهها شديد الاصفرار . . هل أخذوها مرة أخرى الليلة؟ فقال عبد المعبود: نعم !

وبعد نصف ساعة أحضر لي عبد المعبود نصف رغيف أفرنجي وبداخله بعض المربى، وقال : الدكتور أمر لك بهذا ..وعند الغروب أخرجت من المستشفى لأوضع في حجرة قريبة من مكتب شمس بدران ، ثم حضر الزبانية حمزة وصفوت ورياض وصاروا يتداولون فيما بينهم هامسين . وانصرف الأولان وبقى الأخير الذي انقلب إلى مسخ مشوه يلطم وجهه ويشد شعره ، ثم يفتعل حركات كما لو كان يريد تمزيق ملابسه ويصرخ عاويا متهما إياي بالجنون والغفلة، مهددا بأني إذا لم أطع شمس باشا اليوم فإن حياتي سوف تنتهي . ثم يتساءل إن كنت أعلم أين ذهب عواد ورفعت وإسماعيل الفيومي ( أستشهد في باحة السجن الحربي في العام 1965 بعد أن حطموا رأسه في نافورة السجن) ؟ ويضيف أنهم يدفنون كل يوم في السجن عشرة كلاب من الإخوان ، يدفنونهم في جحيم عبد الناصر. فلما علقت على هلوسته تلك بأن قتلانا شهداء في الجنة، زاد من لطم وجهه وصاح مادام الكلاب والماء والنار والسياط وكل هذا العذاب لم ينفع معك . . فاليوم الباشا سيذبحك . . . أخذ الأمر من جمال عبد الناصر. . . ماذا ستفعلين . . ؟! قلت : الذي يفعل هو الله . فقال في بله : أنت تريديننا أن نفعل مثلكم ونخيب خيبتكم ؟ أنت تريديننا أن نترك روسيا التي تحكم نصف العالم وننصاع لكلام شخص مثل الهضيبي أو سيد قطب أو حسن البنا؟ أنتم مجانين. . إننا لسنا مثلكم . . ردى على . فقلت " إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون . ويقولون أئنا لتاركون آلهتنا لشاعر مجنون " وكانت هذه الآلهة هي الأصنام . والحكام سدنة الأصنام . وهم الذين رموا محمداً الرسول " صلى الله عليه وسلم " سيد ولد آدم . رموه بالجنون . وهكذا يعيد التاريخ نفسه فتقولون لمن يدعونكم إلى الله أنهم مجانين ، ويسيركم الطاغوت الذي استخدمكم في الباطل ، وتسيرون خلفه أذلاء بثمن بخس : أرضيتم المخلوق وأغضبتم الخالق . فجن جنونه وثارت ثائرته وهو يقول : أتريدون أن تعيدونا إلى الجمود والتأخر؟ . وفتح الباب واندفع جند كالوحوش يلهبون جسدي بالسياط . وهو يضحك في بله ويقول : والله يا زينب أنا خايف عليك ومشفق عليك . . . وأنا أقول : "حسبنا الله ونعم الوكيل " .

قلت في سخرية: شفقة وخوف ؟! ما هذا!! أنت تخاف ؟! القضية كما تقولون وضحت كل عناصرها . . فماذا يهمكم اعترافي أو إقراري؟! نعم وضح كل شئ . . وضح زوركم ، وكذبكم ، وإلصاق الجرائم بالأبرياء. أخذ المجنون رياض يضرب صدره ، ويشد شعره ويصرخ : بأي قوة تعيشين ؟!! كدنا نفقد عقولنا فيك . . . الأطباء يقولون : إذا لم يدخل لك طعام ستهلكين . . ودخل حمزة البسيوني وصفوت ، وقال حمزة : خيرا يا رياض .. ماذا فعلت معها؟ أظن عقلت ؟ !

ملأت نظرة بكل السخرية وصوبتها إلى حمزة البسيوني وقلت : لا أدرى من المجنون ؟ فنظر إلى حمزة ولم يعقب ، ثم استدار إلى صفوت وقال : هاتها يا صفوت إلى مكتب الباشا؟! !

في مكتب الباشا

أجلسني شمس على كرسي وقال : أعتقد أنه لا داعي للاستمرار في العناد، أريدك أن تكتبي ما نريد . فقلت : أتريد أن اكتب أننا كنا سنقتل عبد الناصر؟ هذا أمر مستحيل ، والله ما كنا لنجتمع إلا لدراسة القرآن والحديث لنبين للناس كيف يخرجون من طاعة الطواغيت البشرية إلى طاعة الله فيعبدونه وحده ويقيمون دينه ، لا يأتمرون إلا بما في الكتاب والسنة، لا يعصون الله فيما أمرهم ، ولكن يتحرونه دوما، ويجتهدون ألا يعصوه ، وإن عصوه تابوا ، واستغفروا. . ومع ذلك نحن نعتقد أن الحكم القائم حكم جاهلي يجب أن يزول ، لا بالحديد والنار بل بوجود قاعدة إسلامية عريضة في الأمة، فكيف تقولون إننا كنا سنقتل عبد الناصر؟! . . لابد أن نخرجكم أولا من الجاهلية .. فعندما توجد هذه القاعدة ستقوم الدولة الإسلامية حتما، انهالت السياط من مردة الإنس فصرخت بأعلى ما استطعت : لن أكتب لن اكتب . فاقتلوني. فالدنيا لا تساوى عندي شيئا . .

والتفت إلي شمس بدران يسأل : الورق الذي مزقته لم تذكري فيه شيئا عن عبد العزيز على . فسألت : ومن عبد العزيز على؟ فقال شمس بدران : عبد العزيز على باشا الذي عينه عبد الناصر وزيرا ولم يحفظ هذا المعروف وعض اليد التي أكرمته ، وتنكر لعبد الناصر. فقلت على الفور وقد طفا الإسم إلى ذاكرتي : عبد العزيز على، صاحب حركة اليد السوداء ضد الإنجليز؟ عبد العزيز على. لقد كان عبد الناصر وزملاؤه يجلسون على الأرض أمامه يستمعون منه دروسا في الوطنية . . إنني أعرف أنه رجل عظيم ، وهو صديق زوجي، وأخ في الله ، وزوجته من أعضاء المركز العام لجماعة السيدات المسلمات وصديقتي وأختي في الله . فسأل في تهكم : ألم تضميه إلى تنظيم الإخوان ؟! ! أجبت : كان يشرفنا ذلك ، إنه كما قالت الخنساء: "علم في رأسه نار".

فصرخ شمس بدران في عجرفة تخجل منها الجاهلية : إيه كمان عندك من الكلام الفارغ ؟! . . ونزلت السياط .

بعدها فترة راحة وتشاور هامس فيما بينهم ، ثم قال حسن خليل : نريد أن نعرف ، لماذا عرفت عبد العزيز بعبد الفتاح عبده إسماعيل ، وأين تم هذا التعارف ؟ أجبت : عندما كسرت رجلي بفعل رجال مخابراتكم ، كان يزورني في المستشفى هو وزوجته . واستمرت زياراته في البيت عندما تركت المستشفى. وتصادف يوما أن جاء عبد الفتاح عبده إسماعيل لزيارتي وكان عبد العزيز على موجودا فتعارفا . . هذا كل ما أتذكره بالنسبة لهده الواقعة.

فقال حسن خليل : يا ست زينب ، سنسلم معك أن تعارف عبد العزيز على وعبد الفتاح عبده إسماعيل كان مجرد لقاء عابر، فكيف تعرف عبد العزيز على في بيتك وبواسطتك بفريد عبد الخالق ؟

فقلت : عندما جاءت الممرضة لإجراء العلاج الطبيعي لساقي المكسورة، خرج عبد العزيز على وجلس في الصالون . وفى هذه الأثناء حضر فريد عبد الخالق فجلس في الصالون . وكان ليعرف عبد العزيز على بعد . وعندما انتهت جلسة العلاج ، وانصرفت الحكيمة ، دخل فريد عبد الخالق ليراني، ودخل عبد العزيز على ليستأذن في الانصراف ، فقدمت كلا منهما للآخر، فصرخ شمس بدران وكان في قمة الضيق : نادوا صفوت ! ! ولم أفق إلا في المستشفى، وقدماي في الضمادات وآلام حادة تدق عظامي، وتفرى كل جسمي!! .


الوهم الكبير !

مكثت بضعة أيام في المستشفى تحت العلاج ، ثم حملت إلى مكتب شمس بدران ! ! ويصر شمس بدران على وهمه الكبير، ويلف ويدور حوله ، حتى يخيل إلى أنه من كثرة ترديده هذا الوهم قد وقر في نفسه حقا، وأصبح حقيقة واقعة في عقله . .

( الإخوان المسلمون دبروا واتفقوا على اغتيال جمال عبد الناصر! ! ) وينظر إلى شمس بدران ودهشة كبيرة تملأ عينيه ، وتملأ قسمات وجهه ، ويقول مستنكرا : أ أنت على قيد الحياة؟! . ثم يقول متعجبا: "بعد كل ما جرى عليك ولك ؟إإ". فأرد : قال الله تعالى ( قتل أصحاب الأخدود ) البروج : 4 ! ، والذين قتلوا أصحاب الأخدود كانوا مجانين بالباطل والزور والبهتان . أما الذين قتلوا في الأخدود -وبأيدي أصحابه - فكانوا أصحاب رسالة ، وحملة أمانة . . مصرين على أن يؤدوا أمانتهم ، ويبلغوا رسالتهم .

فقال شمس بدران : إننا لا نفهم هذا الكلام ولا يستهوينا هذا الأسلوب يا مجنونة! أما زلت تعتقدين في وجود إله ؟ ! أنتم مهزومون من سنة 1948 إلى الآن – انهزمتم لما قاومتم فاروق ، وانهزمتم عندما قاومتم الثورة في سنة 1954 وانهزمتم عندما قاومتم الثورة في سنة1965. فأين ربكم الذي تزعمون؟ ! ! فقلت : إننا انتصرنا في سنة 1948 وانتصرنا في سنة 1954 وانتصرنا في سنة 1965.

فقال : إننا نعلقك كالدجاجة. . نرميك في النار. . نقذف بك إلى الكلاب ، لماذا لم يمنعنا ربكم عنكم ، إن كان موجودا يا مهزومين يا أولاد الــ . . ؟! وقلت : أما كونكم منتصرين علينا بهذا الجلد، وبتلك الألوان من العذاب فهذا أمر توهمونه ، أنتم تخافون منا! ! .

فقال غاضبا: أسكتي! أنتم مجرمون . فقلت : كلا. . لسنا مجرمين ، نحن حملة رسالة، وأمناء أمة، ودعاة حق ، وعلامات على طريق النور . فقال : أريد أن تشرحي لي كيف أنكم منتصرين علينا! . فقلت : نحن منتصرون عليكم ، طالما نحن أغنياء بالله ، أقوياء به سبحانه ، متوكلون عليه ، مكافحون ، مقاتلون مجاهدون في سبيله . . ولكن أمرا واحدا يثبت أننا منهزمون ، لو تخلينا عن اعتقادنا بوجوب الجهاد لرفع راية التوحيد وإعلاء كلمة الإسلام .. إن الإسلام في حقيقته : دين ودولة، سياسة داخلية، سياسة خارجية، نظام أمة، نظام مجتمع ، سلام يملأ الدنيا عدلا، وحرب تخلص العباد من عبادة الفرد إلى عبادة الله الواحد القهار و لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . . إن العبد الذي أسلم وجهه لله تعالى بصدق ويقين أصبح متصلا بالله سبحانه رب كل شئ، فكيف يخاف خلقه من اتصلت روحه بعالم السماء وتعلق قلبه بالفردوس فهانت عليه الدنيا؟! أما أنتم أيها الضالون المكذبون ماذا تستطيعون ؟ تمزقون أجسادنا ، تقتلوننا ، ترهبوننا ، تمنعون عنا الماء والطعام . . السياط في أيديكم ، وسائل التعذيب رهن إشارتكم ، كل ذلك في ضمائرنا شئ هين ، تفرقون منا خوفا. . لماذا؟ لأننا حزب الله وأنتم حزب الشيطان ( إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ) المجادلة.

أثارت لغة الإيمان وأثار منطق التوحيد، جاهلية شمس بدران وحيوانيته ، فصرخ كالملدوغ : صفوت . . صفوت ! ! علقها واجلدها خمسمائة جلدة! ! وجلدت . . وأنزلت ، وسئلت نفس الأسئلة ، وأصررت على ما أجبت به . . فيعود شمس بدران إلى صراخه : علقها يا صفوت واجلدها مائتين وخمسين جلدة! ! وعلقت ، وجلدت . . وأفقت من غيبوبتي لأجدني في المستشفى محاطة بعدد من الأطباء يقومون بإسعافي وتضميد جروحي! ! مكثت في المستشفى عدة أيام تحت العلاج " ثم حملوني إلى مكتب شمس بدران على نقالة ! .. رفعوني على كرسي أمام مكتب شمس بدران ، وقال : يا بنت الـ . . لن ينفعك العناد. . أنزلي عن عنادك حتى يمكن أن ننتهي من التحقيق معك ونرسلك للنيابة . نظرت إليه بكل ما تبقى بي من رمق ، قائلة في استنكار: نيابة؟!! وأنت من ؟

قال : إننا نجهزك للنيابة!! فقلت : ماذا تريد منى؟

قال مهددا: اعتدلي في إجابتك . . فلم يعد بك قوة للجلد. . وصفوت كما تعلمين على أتم استعداد. . إ! قلت : الله الفعال والمعين .

قالي : محمد قطب ، وشباب الإخوان كانوا يجتمعون في بيتك . لماذا؟ قلت : اعتاد الأستاذ محمد قطب وشقيقتاه - أمينة وحميدة- زيارتي . . فقاطعني شمس بدران - وقد كست ألفاظه ما تعودته من بذاءات وفحش-:

أنا أقول ، محمد قطب ، وشباب الإخوان ، أولاد الـ . . كانوا يجتمعون عندك ، لماذا؟ أجبت على بذاءته : الشباب الفاضل ، المسلم العامل ، اعتاد بعضه أن يزورني، وقد يلتقون بالأستاذ محمد قطب صدفة .

فيصرخ : يا بنت الـ . .أنا أقول ، كان الشباب يطلبون منك أن تهيئي لهم الاجتماع بمحمد قطب ، فكان يحضر عندك للغداء هو وهؤلاء الشباب . وبعد الغداء يتم اللقاء وينعقد الاجتماع . . لماذا؟

فأرد بكل ثبات وطمأنينة : لما أصدر الأستاذ محمد قطب كتابيه "جاهلية القرن العشرين ا و"التطور والثبات " طلب بعض أبنائي، وإخواني من شباب الدعوة أن يجتمعوا بالأستاذ محمد قطب ليسألوه عن بعض الأشياء في الكتابين استعصت على فهمهم ، واستجاب الأستاذ لدعوتهم عدة مرات . ثم يسأل : ولماذا كان يحضر عبد الفتاح عبده إسماعيل هذه الاجتماعات ؟

فارد : لأنه من خيرة شباب الإخوان المسلمين ، ومن صفوة رجالها .

فيجيب في سخرية جاهلة : والله عال ، من الصفوة يا بنت الـ . . ثم يزيد: في أي اجتماع من هذه الاجتماعات اتفق هو ومحمد قطب على قتل عبد الناصر؟ قلت : قصة قتل عبد الناصر هذه أنتم اخترعتموها.

قال شمس بدران : لماذا لم تشتغلي بالمحاماة وتكفينا قرفك هذا!

فقلت : الحمد لله الذي أقامني في خير ما يقيم فيه عباده . . داعية إلى الله وسأظل بفضله إن شاء الله . . فقام مسرعا يركلني وهو يقول : نهايتك على أيدي اليوم. . يا بنت الـ . . ! ثم سال بعد فترة : إيه التنظيم الذي أقمتيه مع محمد قطب ؟ اتفقتم على قتل جمال عبد الناصر. . عبد الفتاح عبده إسماعيل أو الولد الفيومي؟

فقلت : الفيومي قتلتوه خلاص . فضحك ضحكا عاليا وقال : ما أنت عارفة كويس ! يا صفوت . . يا صفوت وديها للفيومي ( كان من حراس الطاغية عبد الناصر الشخصيين وكان من الإخوان واتهموه ظلما وجورا بمحاولة اغتيال الطاغية . . ورغم أنه كان في متناول يمينه إلا أنه يفعل . . حطموا رأسه في العام 1965 في باحة السجن الحربي ) فاخذ صفوت يصب على نار سوطه المجنون ! ! . .

فأسقط في إغماءه وأنقل إلى المستشفى لمعاودة إعدادي وتجهيزي لسماع مهاترات شمس بدران وعصابته ، ولمزيد من التعذيب والتنكيل لي وإهدار الإنسانية على مذبح شهوة السلطان ! .

إصرار شمس بدران على وهمه

مرة أخرى نقلوني إلى مكتب شمس بدران ! !. . لقد عاد إلى الوعي بعد أن فقدته تحت سياط الزبانية . . فلا بأس من العودة إلى مكتب التعذيب . . مكتب شمس بدران ! ! . . نعم . حملوني على نقالة إلى مكتب شمس بدران ! ! كان شمس بين عصبة من أعوانه ، وبادرني عندما أجلسوني على كرسي أمام مكتبه : يا بنت الـ . . لم يعد بك أدنى احتمال لأدنى قدر من التعذيب ، فارحمي نفسك ، وإلا قسما برأس عبد الناصر أدفنك مع الفيومي وغيره .

وأضاف واحد من إلأذناب : اسمعي يا زينب ، ردى على سعادة الباشا، وفكري في مصلحتك ، لننتهي معك إلى حل . . واسترسل شمس بدران : تذكري جيدا، جاء إليك شخص من طرف فؤاد سراج الدين ، وطلب منك أن تتفقي مع الإخوان المسلمين ليتعاونوا مع الوفد لإزالة حكم عبد الناصر، وقال لك هذا الشخص بأن هناك رجالا في مكتب المشير عامر سيتعاونون معكم ومع الوفد . فقلت - وأنا أضغط على الكلمات من فرط دهشتي على قدرة هؤلاء الشياطين على التلفيق والتزوير- : هذا محض كذب ، إن فؤاد سراج الدين لم يرسل إلى أحدا في مثل هذا الأمر ولا في غيره . ولم ألتق بفؤاد باشا من حوالي إثتي عشرة سنة . . ولكي أكون دقيقة في شهادتي، فإن زوجي الحاج محمد سالم سالم كان في مزاد، والتقى-مصادفة- بمعالي فؤاد باشا سراج الدين ، فسأل زوجي عن صحتي وأحوالي ، وكلفه أن يبلغني سلامه وتمنياته . وهوت السياط الملعونة، كأنها ألسنة الأفاعي جائعة تصب زعافها أينما حطت ، أو كألسنة اللهب نشوى ما يصادفها . . وكانت قدماي لا تزالان ملفوفتين بالضمادات ، وجروحي لم تلتئم .

ويتساءل الزبانية وسياطهم تتصارع على قدمي وجسدي : فؤاد سراج الدين أرسل إليك أم لا؟

وأرد : لم يرسل إلى !

فيأمر شمس بدران بزيادة وطأة التعذيب ، فيغمى على، ويوقف الجلد وأنقل على نقالة إلى المستشفى! ! . . ثم تبدأ الدائرة من جديد، وأعود إلى مكتب شمس بدران مرة ثالثة . . ! ! ويقول شمس بدران ، وقد أخذته العزة بالإثم : افهمي أنه لا يقف أمامنا أي شئ . . إننا ندفن منكم كل يوم عشرين كلبا، وصحراء السجن الحربي بطنها مستعدة لمئات الألوف . . وقسما برأس عبد الناصر إن لم تسلكي كما نريد، لأدفنك مثل الكلاب التي أدفنها كل يوم . ولم أنظر إليه ، ولم يبد على أي أثر أو تأثير من سفاهته وجاهليته ، فاستشاط غضبا وقال : ردي على وإلا قتلتك وجعلت نهايتك تحت السياط . فقلت : لا إله إلا الله الفعال ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين .

فقال شمس بدران : هات الكلاب يا صفوت ؟! !

ويحضر صفوت كلبين من الكلاب المدربة، ويطلقهما على، فيهجمان على كما يهجم الوحش الجائع على فريسته . . إ!

وأستعيذ من أذى الوحشين بقولي : اللهم إني أعوذ برضاك من غضبك ، اللهم فادفع السوء عنى بما شئت وكيف شئت .

فقال حمزة البسيوني . يا باشا وجهها أصفر وأشرفت على الموت . وقال شمس بدران في غطرسة : أخرج الكلاب يا صفوت ، وخذوها . . ارموها تموت في المستشفى . وعدت إلى المستشفى على نقالة! ! وفى منتصف الليل . . في جنح الظلام ، ومرة رابعة إلى مكتب شمس بدران ! ! إنها الحقيقة . .

الحقيقة المرة المؤلمة التي تجرع كأسها فريق من المواطنين إشباعا لشهوة الانتقام ، وخصيصا لهدم الدين الإسلامي بإبادة دعاته ، وحتى تنطوي، في زعمهم ، مظلة لا إله إلا الله . . محمد رسول الله ، وتنتشر مظلة الكفر وليعم تيار الإلحاد .

وما كادوا ينزلونني من النقالة إلى مقعد في مكتب شمس بدران ، حتى أغمى على فاحضروا عصير ليمون واسقوني إياه ، وحقنوني في ذراعي فارتد إلى الوعي . . !

وقال شمس بدران : يا بنت اتعدلي ، يا زينب أنت صعبانة علينا، إننا لسنا وحوشا كما تقولين . . والرئيس جمال عبد الناصر قلبه كبير وسيغفر لك إذا قلت الحقيقة . . اعملي لمصلحتك فقط . . قولي الحقيقة يا زينب . . فقلت : الحقيقة .. قولوا لعبد الناصر إنكم المغتصبون المعتدون علي سلطان الله. . توبوا إليه وارجعوا. . اخرجوا من باطلكم إلى الحق ، من ظلمكم إلى العدل ، ومن ظلامكم إلى النور. . إن الذين يؤيدونكم في باطلكم وتستعملونهم مخالب باطل وعدوان وجريمة ، قلوبهم مريضة ، وأنتم مرضى . وتساءلوا في دهشة مشوبة بثورة أو في ثورة مشوبة بدهشة : هي دي الرسالة اللي عايزانا ننقلها لعبد الناصر؟! ! فقلت بإصرار وبغيظ : إنني لم أقلها إلا لتنقلوها إليه ! !

وكان الجواب على "تطاولي" هذا إلهاب جسدي بالسوط منهم في استنكار وارتعاد: دي بكل تأكيد مجنونة . . مجنونة . . مجنونة. . في حاجة إلى علاج بالجلسات الكهربائية! . .

وما إن ينتهي المرتعدون الذين في قلوبهم هواء من استنكارهم (لتطاولي) على سيدهم ، حتى يعلو صوت المسخ المسمى شمس بدران : الكلاب اللي مجوعينها من إمبارح . . فين يا حمزة؟! ويردف حسن خليل بصوت تمثيلى : يا زينب حرام عليك ، إنت قريبة من الموت . . أتقذى نفسك ، محدش من الإخوان راح ينفعك ، كلهم عملوا لمصلحتهم وأنقذوا أنفسهم . . أرجو أن يسمح الباشا بإحضار على عشماوي ليذكرها بالشخص الذي جاء إليها من طرف فؤاد سراج الدين .

وقال شمس بدران : تذكري يا بنت الـ . . وإلا واجهناك بعلي عشماوي . . فقلت : علي عشماوي باع نفسه لطواغيت الباطل والجريمة بثمن بخس ، فخسر الدنيا والآخرة . . وقصة سراج الدين قصة مدبرة المراد بها أن تذلوا الرجال . . رجالا ذوى قلوب ، وضمائر ، ورؤوس مرفوعة . .

ودخل حجرة التحقيق ضابط يدعى سعيد عبد الكريم اشترك معهم ثم قال : يا زينب ، سأفكرك بشيء قد يساعدك في موضوع سراج الدين . . ألا تعرفين الحسيني عبد الغفار، كان في الإخوان المسلمين ثم انشق عنهم مع شباب سيدنا محمد، وتفاهمت أنت معه عدة مرات ليعود إلى صفوف الإخوان المسلمين ، لأنك حريصة على أن يبذل جهده داخل صفوف الجماعة؟

فقلت : حسبنا الله ونعم الوكيل ، الحسيني عبد الغفار هو أخي في الله ، وكان في الإخوان المسلمين كما كان في شباب سيدنا محمد، وتكلمت معه فعلا ليعود إلى صفوف الإخوان المسلمين ، ولكنه اعتذر عن ذلك ، وليس له علاقة بسراج الدين ولا بالوفد .. وكان رئيس شباب الأحرار الدستوريين يوما، وذلك يجعله مناوئا للوفد لا متفقا معه .

فقال حسن خليل : هذا صحيح ، لكن عندما تكون المسألة اتفاق الدستوريين والسعديين والوفديين والإخوان المسلمين تكون المسألة في طريقها الطبيعي ! ! فقلت : ليس هذا حقا، وهناك مسافة بين الإخوان وغيرهم الذين لم يدرسوا النظرية الإسلامية بتكتيكها الإلهي ، وأيدلوجيتها الربانية . وأشار شمس ونزلت على السياط ، وقال عبد الكريم : نرجوك يا باشا . . خليها تكمل . . قال عبد الكريم : كملي يا زينب . قلت : أما الإخوان المسلمون فيأخذون الإسلام عقيدة يبحثون في منابعها ويدققون في مصادرها، تلقوها من الله تعالى على يد رسوله صلى الله عليه وسلم . . بمعايشتهم للكتاب والسنة ، والأرض عند الإخوان لها وزنها وقدرها ما دامت أرضا للإسلام ، في سبيلها يستشهدون ، وعن حياضها يذودون ، يحررون الأرض لله كما يحررون البشر لله ، يعبدون الأرض لله كما يعبدون البشر لله . وعلى الأرض المعبدة لله وبالبشر المعبد لله تكون الأمة ويكون المجتمع المسلم.

ألم يحرر محمد صلى الله عليه وسلم . عند بعثته الأرض ثم يدعو الناس إلى التوحيد، ولم يدع ولم يناد بالإصلاح الاجتماعي ثم يدعو الناس إلى التوحيد، ولم يدع إلى تقسيم المال بالسوية ثم يدعو الناس للتوحيد، لم يدع لإصلاح جزئي، ولكن محمد صلى الله عليه وسلم . دعا إلى التوحيد فأسلم رجال وآمنوا بأنه لا معبود إلا الله ولا حاكم إلا الله ، ولا رازق إلا الله ، ولا ضار ولا نافع إلا الله ، وهو المحيي المميت ، ولا مدبر ولا مشرع إلا الله ثم كانت الهجرة إلى المدينة بالسابقين الأولين من المؤمنين.

ثم كانت بدر الأولى نداء لقيام الأمة، وتوالى نزول القران على محمد صلى الله عليه وسلم . قال شمس : هات الكلاب يا صفوت إ!

قفزت على الكلاب والوحوش البشرية تشبعني ضربا ونهشا والدماء تسيل هنا وهناك . . سارع الطبيب الواقف معهم بوقف جلدي ولكن هيهات . . هيهات . . انطلق آذان الفجر ينير سكون الليل فأحسست ببرد وسلام من هذه السياط التي لا تلين ولا تكف فتذكرت أمر الله ( يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) الأنبياء : 169 .

تباركت يا رب وتعاليت ، فأنا حفيدة إبراهيم أول الموحدين وجد النبي صلى الله عليه وسلم . أن رحمتني من أبالسة يسؤوهم أن أقول : ربى الله لا أشرك به أحدا ( قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون . . ) . أفقت لأجدني في المستشفى ولا أدري ، وان كنت واعية تماما لما ينتظرني .


تسلط الأقزام وتحكيم الهوى

وهكذا، كانت الأقزام متسلحة بالسلطة تتسلط على الرجال ، فتحطم "الكرامة" ، وتمزق الكبرياء ، وتذل الإباء والشمم ، في أيام كان القانون فيها في سبات عميق . . والإنسانية في إجازة طويلة . . والرحمة رحلت عن ديارنا . . ! ! وسألني شمس ، وسألني أعوانه ، عندما حملوني إلى مكتبه : قولي يا بنت يا زينب ، ما رأى الحسيني عبد الغفار في الكلام الذي بلغك من فؤاد سراج الدين . ومن الذين كانوا سيتعاونون مع فؤاد سراج الدين من مكتب المشير عامر؟ وماذا طلب من الإخوان للقيام بالانقلاب ؟ .

فأجبت : الحسيني عبد الغفار أخي في الله ، ولا أعلم شيئا عما أسمع من إفك وكذب .

فتساءل حسن خليل وسعد عبد الكريم : أسمعي يا زينب ، ألم يقابل الحسيني عبد الفتاح إسماعيل في بيتك ؟. ألم تكلمي الحسيني لينتظم في صفوف الإخوان المسلمين ؟ .

قلت : أنا تكلمت مع الحسيني ليعود إلى صفوف دعوته وليس هذا جريمة، الحسيني رجل مؤمن بدعوة الإخوان ، وإن لم يكن منتظما فيها، فإنه يتمنى أن تتحقق مقاصدها ، وأن تهدى الناس إلى مقاصد الكتاب وغاياته ، وإلى مراد السنة وأهدافها، وقد تقابل الحسيني مع عبد الفتاح إسماعيل في بيتي وأخذا يتحدثان عن الإسلام وما أصاب المسلمين من انحطاط وتأخر، ثم انصرف الحسيني عبد الغفار، وقد تقابل الحسيني مع عبد الفتاح إسماعيل في بيتي مصادفة ثم قال لي عبد الفتاح عبده إسماعيل :

الحسيني رجل صالح وطيب وعالم مخلص .. قال أحدهم : الحسيني قال كل شيء . لكن أنت تريدين أن تكون الفداء لكل الإخوان المسلمين ، وحتى الحسيني وفؤاد سراج الدين ، وتبعديهم عن المسئولية . .إننا نمنحك فرصة أخيرة لتراجعي فيها نفسك بخصوص رجال الوفد، وبعض رجال مكتب المشير عامر . . ما رأيك في هذه الفرصة؟ وسنواجهك بالحسيني وفؤاد سراج الدين ولكن بعد أن نخرج عينيك وتصيرين عمياء. فقلت : الحمد لله نرى بقلوبنا وصرخ شمس بدران كمن لدغته أفعى : "هات الكلاب يا صفوت "! !

فتدخل أحد الأعوان يهدئه : لا عليك يا باشا . إنها لا تدري أين مصلحتها ولا تقدر النهاية! !

فقلت : النهاية بيد الله وليست بأيديكم ، والله الفعال ذو القوة المتين . وقال آخر من شلة الضباط المحيطين بشمس بدران : يأمر الباشا بإحضار الحسيني عبد الغفار . ثم نادوا صفوت لإحضاره ، وقال شمس بدران في كبرياء الجاهلية : خذوها إلى المستشفى الآن ! !

إنهم كالخفافيش يعشقون الظلام ، ؟ لا ينشطون إلا فيه . . ففي الليل حملوني وأجلسوني على مقعد في مكتب شمس بدران ، وبعد لحظات دخل الحسيني عبد الغفار . . كانت ذراعه مكسورة ملفوفة في جبيرة ومعلقة إلى صدره . . وكانت قدماه في ضمادات سميكة . . وكانت آثار التعذيب الوحشي –بل الجاهلي – بارزة على كل جزء من جسده .

وقال الحسيني عبد الغفار عندما دخل : السلام عليكم .

قلت : وعليكم السلام . ونظر إليه شمس بدران في سخرية وسأل في تهكم : يا حسيني، ما هي قصتك مع زينب ؟

وقال الحسيني : الورق مكتوب فيه كل شيء . فأخرج شمس بدران أوراقا وأعطاها للحسيني وأمره بقراءتها-.

لم اكن مشغولة بالأوراق التي بين يدي الحسيني، بل كنت أفكر كيف أجيب على هذا الشيطان بما يخفف عن الحسيني أو يرفع عنه العذاب ، ويقيني أن الحسيني عذب حتى يكتب ما يريدون . وأخذ الحسيني يقرأ في الأوراق التي أعطاها له شمس بدران . . أشياء كثيرة لم أحس يوماً أن الحسيني يعتقدها أو يدعو لها أو يتكلم بها. كل ما قرأه لم يكن صحيحا ولا واقعا وإنما خيال مريض . . سألني شمس : ما رأيك ! قلت : إنه الإكراه للإخوان والبطش والعذاب حتى يقولوا ما تريدون ! فقال شمس : وهل ما سمعته كذب ؟

أجبت : الحسيني لا يكذب . ولكنى على يقين أنه قد عذب حتى. . فصرخ شمس مقاطعا غاضبا. ماذا تقصدين ؟ الكلام الذي قرأه الحسيني ألم يقله لك ؟! وقال حسن خليل : إننا نريدك أن تقولي هل ما سمعته من الحسيني حصل أم لا؟

وقال آخر: هل ستحرقين نفسك بالنار من أجل الحسيني كما حرقتها من أجل الإخوان ؟ فأجبت : أنا لا أحرق نفسي ولكن أحييها.

قال شمس بدران : أنت يا حسيني بلغت زينب رسالة من فؤاد سراج الدين !

فقلت وأنا أوجه الكلام إلى الحسيني: أنت يا حسيني بلغتني رسالة من فؤاد باشا سراج الدين ؟

فقال الحسيني : فؤاد سراج الدين الصغير وليس معالي الباشا؟

فقلت : أنا لا أعرف إلا فؤاد باشا سراج الدين . . من هو فؤاد الصغير يا حسيني؟!

فقال الحسيني : ابن عم فؤاد باشا.

فقلت للحسيني. وما تلك المسالة يا حسيني؟

فقال : أنا قلت إن المسألة كانت عبارة عن نكتة رواها لي على سليمان وأنا ذكرت هذه النكتة أمام الحاجة زينب ! !

فقال شمس بدران للحسيني : اخرج يا حسيني.

فقلت لشمس بدران : حسبنا الله ونعم الوكيل ! . . النكتة صنعتم منها مؤامرة ! . . وفؤاد باشا سراج الدين لم يسلم منكم يا ظلمة .

ثم نادى شمس على صفوت وعادت السياط لتنهال من جديد . ثم قال شمس : خذها يا حمزة للمستشفى. عذاب . . !! في المستشفى . . ! !

وفي اليوم التالي دخل زنزانتي في المستشفى حمزة البسيوني ومعه رجل يرتدى الملابس العسكرية برتبة لواء ومعهما التمورجي عبد المعبود . وقال حمزة البسيوني لعبد المعبود : اذهب وأحضر كرسيا ومنضدة صغيرة، وفى لحظات عاد عبد المعبود بالكرسي والمنضدة . وضع حمزة البسيوني ورقا أبيض على المنضدة وقال لعبد المعبود : اجلس إلى هذه المنضدة واكتب كل ما ستمليه عليك .

وجاء صفوت الروبي يحمل ملفات متضخمة. أخرج حمزة من كل ملف ورقة وقال لي : كل هذا الكلام تدونيه في أوراقك ، هو من كلام الهضيبي، وسيد قطب ، وعبد الفتاح إسماعيل ، وهواش ، وأحمد عبد المجيد ، ومرسى مصطفى مرسى ، وصبري عرفة ، وفاروق المنشاوي ، وعبد العزيز على ، فقلت لهم : سأكتب ما أعرفه ، ليس لي علاقة بهذا الكلام. . إنني لا أصدق ولا أعتقد أنها للإخوان الذين تدعون أنها لهم . . قال حمزة البسيوني : ردى كما ينبغي، سنرسلك إلى مكتب شمس باشا، وتذوقين العذاب ألوانا كما تعرفين .

وما أمليت على عبد المعبود إلا ما يرضى الله ربنا هو ولينا ونعم النصير.

وفى صباح اليوم التالي أخذوني إلى مكتب شمس بدران ووضعوني على مقعد، أخذ شمس بدران أوراقا وأخذ يمزقها ويرمى بها في سلة المهملات ، وقال في أسلوب يترفع أي مخلوق في أدنى درجات الإنسانية ويتمتع بأقل قسط من الأخلاق أن ينحدر إليه : أنت يا بنت الــ . . تريدين أن تهدمي كل التحقيقات وتبطلي كل أقوال الإخوان ؟ الكلام الذي قاله الإخوان مضبوط .

إجابات الإخوان أنت ملزمة بتأييدها في أقوالك . أنت ملزمة بكل ما قاله الإخوان .

فقلت : أنا ملزمة بالحق الذي أعتقده ، إنني لست ملزمة أن أقول إلا ما أعتقده. وغير ملزمة بأن أصدق أن هذه الإجابات من أقوال إخواني . واجهوني بهم جميعا، إن سياطكم وتعذيبكم قد انتزعتها منهم .. انتزاعا. فصرخ شمس بدران : خذها يا حمزة،أنا أريدها جثة أوقع تصريح دفنها! . . أخذوني إلى حجرة وأغلقوها على ، وبعد ساعة أخرجوني منها ، وأوقفوني تحت سياط الكرابيج ووجهي إلى الحائط أمام جهاز تكييف . وظللت واقفة ما يقرب من الست ساعات وكأ ننئ كنت واقفة على مسامير محماة . فقد كانت آلام حادة تفرى قاع قد مي مع ضربات الجلد المستمرة .

وفى منتصف الليل - ودائما الليل - أعادوني إلى مكتب شمس بدران الذي قال لي : يا زينب..أكتبي . . الرئيس جمال عبد الناصر سيغفر لك . . واكثر الإخوان اعترفوا.. إن سلكت ستقابلين جمال عبد الناصر صباح غد، وتعودين إلى بيتك فورا، وبعدها سيلغى قرار حل المركز العام للسيدات المسلمات ، وسيتقرر إعطاؤك خمسين ألف جنيه كإعانة للجماعة ، وكدفعة أولى لبناء أرض الجماعة في مصر الجديدة، وعشرة آلاف جنيه لإعادة صدور المجلة . وسأل رجل من الجالسين بالمكتب : هل جماعة السيدات المسلمات لها أرض في مصر الجديدة يا زينب ؟ فأجبت : نعم ، عندها ستة آلاف متر. فقال نفس الرجل – والذي عرفت أنه صلاح نصر فيما بعد – وماذا كانت ستفعل الجمعية بهذه المساحة الكبيرة من الأرض ؟ فقلت : كانت الجمعية ستبنى دارا لتربية الفتاة المسلمة , ودار ضيافة للمسلمات وقاعة محاضرات ، ودارا للمركز العام ، ومسجدا ، وجمعية لتحفيظ القران الكريم ، ومدرسة إعدادية وأخرى ابتدائية ومعهدا للواعظات .

فتساءل : ومن أين لكم بالأموال ؟ فأجبت : من التبرعات – والعمل على مراحل .

فقال : إذن ، إنها فرصة جميلة يمنحها لك الرئيس جمال . . تعودين إلى بيتك وتعود الجماعة . . وثقة الرئيس نتائجها كبيرة! !

فقلت : ثقتنا في الله اكبر. . الإله اكبر في نفوسنا من الأرض ، ومن المال ، ومن كل طواغيت الأرض المعتدين على حق الله وحق عباده ، أنا لا أريد أي شيء منكم ، ولن أقبل أبدأ أن أقابل عبد الناصر ولا أصافح اليد التي غمست في دم إسماعيل الفيومي ورفعت بكر ومحمد عواد وغيرهم كثير وعبد القادر عودة وزملائه ، لن أصافح اليد التي غمست في هذا الدم المبارك ، إن هذا الدم سيقود على مدى السنين أجيال المسلمين الذين سيعودون إلى ماضيهم الزاهر المجيد . إلى مقعد المسئولية في هذا العالم . . وتنهال اللكمات والركلات والضربات فأقع هامدة على الأرض ، ويقول شمس بدران : يا حمزة خذها إلى رقم 34 .

وأدخلت رقم 34 ! ! . . زنزانة ضيقة مظلمة كالقبر الموحش . . ! ! وأدخلوا معي كلبين ، وأغلقوا الزنزانة .

تيممت وأخذت أصلى، وأنا لا أدرى أين القبلة . . انتهى من صلاة وأدخل في أخرى، انشغالاً بالله لعله يصرف عنى ما أرادوه .

تسلق الكلبان ظهري في ركوعي وسجودي، وأخذا يخمشان رأسي ، ووجهي . . وأنا أصلى وأستغرق وأسبح في عالم الدعوات والتضرعات. وبعد ساعة فتحت الزنزانة وسحبوا الكلبين وحملوني إلى المستشفى . بعد العشاء أعادوني إلى مكتب شمس بدران . قال شمس بدران : يا زينب ، انعقد في بيتك اجتماع كان يضم أكثر من خمسين رجلا من الإخوان المسلمين من جميع أنحاء الجمهورية - هذا الاجتماع كان منذ ثلاث سنوات . ماذا جرى في هذا الاجتماع ؟

فقلت : صلينا المغرب جماعة ، وصلينا العشاء ، ثم التراويح .

فقال : أنا أسألك ، ما الغرض من هذا الاجتماع ؟ فقلت : لا أتذكر. سأل : تناولوا الإفطار عندك ! فقلت : عدد منهم .

فسأل : ولماذا كان الاجتماع ؟ فقلت : كنا ندرس الإسلام ، وكيف نقاوم تيارات الإلحاد التي تغذيها وتنفخ فيها أجهزة الجاهلية وأعلامها .. قال : ولماذا عندك بالذات ؟ أجبت : لأنني من المسلمين إن شاء الله . . سال : وأي جاهلية ، وأي إسلام ، وأي إلحاد؟ !

فقلت : لو قمت بجولة في البلد لرأيت على أرصفة الشوارع أكوام الجرائد، ومجلات الإلحاد ونشرات الانحلال التي توزع بأثمان رمزية لنشر الشيوعية، والإلحاد والانحلال والتسيب في كل شيء . فقاطعني في شبه صراخ : كفى، كفى. . دا كلام فارغ ، ما هي أسماء المجتمعين عندك ؟ فقلت : لا أتذكر أسماءهم . سأل : أحد المجتمعين ترك الاجتماع وقابل الهضيبي ثم رجع مرة أخرى بعد اتصالك تليفونيا بمنزل الهضيبي، من هذا الرجل ؟

فقلت : لا أتذكر. وكل ما يعلق بذاكرتي في هذا الخصوص أنه سألني أن أستأذن الهضيبي لمقابلته . . فماذا في هذا؟

سأل : كنتم مجتمعين إذن؟ أنا أسهل لك الإجابة! الرجل الذي ذهب إلى الهضيبي اسمه عبد الفتاح الشريف أليس كذلك ؟

ثم أردف : سأعلقك إن لم تجيبي ثم اكمل . . اتفقتم على قلب نظام الحكم وقتل جمال عبد الناصر. فقلت : اتفقنا على محاربة الجاهلية ، والتسيب والانحلال والإلحاد . والعمل على نشر تعاليم القران وإقناع المسلمين بوجوب حكم القرآن والسنة. فسأل مستنكرا : وماذا يعمل الأزهر؟ انطقي ما هي وظيفة الأزهر؟ علقها يا صفوت واجلدها . وأنا تحت السياط أقول يا الله ، يا الله ، وأخذت اكرر الاسم الأعظم حتى أغمى على .



الباب الخامس : وسمع فرعون

أفقت .. يا إلهي .. إنني ما زلت على الأرض أمامهم جثة هامدة . . إنهم أسعفوني .. وبصعوبة شديدة حاولت النظر في الحاضرين . . فإذا بجمال عبد الناصر يتكئ على كتف عبد الحكيم عامر ويمسك في يده نظارة سوداء .

عندما رأيت جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، نسيت ألمي، ودبت في جسدي يقظة غريبة، وانتابني نشاط غريب ! !

أعطوني كوبا من عصير الليمون فشربته ، رفعوني من فوق الأرض على مقعد، ثم أحضروا لي فنجان قهوة فلم أتردد في تناوله .

كان إحساسي بان هناك شيئا خطيرا سيحدث ، فكل ما يدور حولي يقوى عندي هذا الإحساس . وقال شمس بدران ؟هو ينفخ : يا بنت يا زينب ، أريد أن تجيبي على كل سؤال أوجهه إليك بصراحة وإلا . . ! ! افترضي يا زينب أن الإخوان المسلمين هم الذين يحكمون البلد، وأننا نقف أمامكم تحاكموننا، فماذا كنتم تفعلون بنا؟

فأجبت في قوة وشجاعة: نحن لا نسكن في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ولا نلوث أيدينا بما لوث به الظالمون أيديهم ، نحن لانغمس أيدينا في الدم . . ' نحن لا نجلس في مقاعد طواغيت الأرض . , فقال : اخرسي! أنا باسألك ، إن كنت جالسة على هذا الكرسي مكاني ماذا كنت تفعلين معي؟

فقلت : نحن طلاب حقيقة ، ليس في حسابنا أن نصل إلى الحكم ، إننا حملة لواء "لا إله إلا الله " نفتديه بالأموال والأرواح .

فقال شمس بدران : اخرسي يا بنت الـ . .. أنا اكرر لك السؤال . ماذا كنتم تفعلون لو وصلتم إلى ا أ؟

فقلت : إننا لسنا طلاب حكم ! . . ولا يعنينا أن نكون في قمة المسئولية أو عند السفح حراسا للطريق المؤدى إلى الرجل الذي حمل الأمانة وبايعته الأمة، عبدا لله حاكما بما أنزل الله ولتكن هذه الدار دار البعث . . البعث الإسلامي . فصرخ شمس بدران متشنجا: اخرسي . . اخرسي . . اخرسي؟ ! أريد إجابة واحدة : افترضي أنك جلست على الكرسي الذي أجلس عليه الآن ماذا تفعلين معي وأنا متهم أمامك . . ؟ فقلت : ربما تنتهي أجيال وأجيال حتى يحكم الإسلام ، نحن لا نتعجل الخطى، ويوم يحكم الإسلام ستكون مواقع المرأة المسلمة في مملكتها الطبيعية لتربى رجال الأمة . فقال شمس بدران كتائه يضرب في الصحراء في يوم عاصف : يا بنت الـ . . . أنا أقول افترضي جدلاً أنك جالسة مكاني ماذا تفعلين معي؟ فقلت : الإسلام عدل ورحمة، فلا سياط ولا قتل ، ولا تعذيب ولا سجون ، ولا نفى، ولا دفن للأحياء، ولا تمزيق لأجساد الشهداء : رفعت بكر وعواد وإسماعيل الفيومي . . لا تشريد أطفال ، ولا ترمل نساء، لا فراعنة ولا وثنية . . ولكن الحق والعدل . . الكلمة تواجهها الكلمة والحجة تواجهها الحجة . . صرخ شمس كالصريع : اخرسي . . اخرسي . . علقها يا صفوت اجلدها . وعلقني صفوت ، وعلى لفائف الشاش ، أخذت السياط المجنونة تهوى على كل جزء في جسمي، والدم ينزف . . ولا أدري كم من الوقت مر . . فقد رأى الطبيب إنزالي وقال : إن حالتها خطيرة . . إنها تموت يا معالي الباشا!!

قال شمس : في ستين داهية.

قال أحد الضباط : إننا نريد أن تكون حية حتى تقف أمام المحكمة! !

فقال شمس بدران : نعم ، نعم نريدها تعيش لتذهب إلى المحكمة ويتفرج عليها الشعب وتكون عبرة. وقال الطبيب : إننا في حاجة إلى أدوية وعقاقير غير موجودة! !

فقال شمس بدران : اطلبها من صيدلية المشير عامر! !

ونقلت إلى المستشفى ولم أدر ماذا حدث في تلك الليلة، فقد رحت في غيبوبة أفقدتني الإحساس بالألم ' كما أفقدتني الاستمتاع باسترجاع الحوار مع شمس بدران على مسمع من جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، لقد قلت ما أردت أن يعرفه . . وقد عرفه ! !


أصل المؤامرة . . نكتة ! !

أسعفت بالعلاج ، لأنهم كانوا يحرصون على حياتي . . فأنا متهمة من وجهة نظر من ينسجون القضية ويؤلفون فصولها ويصنعون أبطالها . . فلا غرابة إذن ، أن يصرف لي دواء لأستطيع حضور المحاكمة! ! أمضيت ثلاثة أيام في غيبوبة . .

وفى مساء يوم سمعت صوت مراد وصفوت يخرج من زنزانة الأخ أحمد كمال ويسألانه عن عنوان سيف الإسلام . . وأعطاهما العنوان ، وبعد ما يقرب من ثلاث ساعات عادا إلى زنزانة الأخ أحمد كمال وسألاه عن عنوان مكتب سيف البنا. . ! !

وسيف البنا هو نجل الإمام الشهيد حسن البنا، أخذت أدعو لسيف وأمه وإخوته ، فأمه مريضة بالقلب ، وسيف هو العائل الوحيد للبيت والأسرة . أخذت أضرع إلى الله سبحانه أن يصرف عنهم كيدهم . رفعوني على نقالة إلى مكتب شمس بدران . . وسألني شمس بدران سؤالاً تأكد لي منه أن سيف الإسلام البنا نجل الإمام الشهيد حسن البنا في السجن الحربي! ! وشغلني جدا أمر وجود سيف البنا في السجن الحربي .

وقال شمس بدران لحمزة البسيوني : ألم أقل لك إن هذه البنت لا تدخل مكتبي وهى حية؟ لماذا أحضرتها وفيها نفس يتردد؟! ثم وجه الكلام إلى وكل عضلات وجهه تهتز في عصبية : أما زلت على قيد الحياة؟ لماذا . . لماذا؟ فقلت : ليس بإرادتك ، ولا بإرادتي أن أعيش أو أموت ، ولكنها إرادة الله وهو المحيى المميت .

فصرخ قائلا : اخرسي، اخرسي . . ردى على سؤالي فقط : من الذي كان سيغتال جمال عبد الناصر في طريق الإسكندرية من رجال الجيش ؟

فقال حسن خليل : قرب لها المسألة قليلا يا باشا، أ؟ اسمح لي أن أفهمها الموضوع .

ثم أردف –بعد أن أومأ إليه شمس بدران برأسه – هناك شخص حكى لك عن جماعة تربصوا لجمال عبد الناصر في الطريق الصحراوي وكان مسافرا بالسيارة إلى الإسكندرية . من حكى لك هذه الرواية؟ ومن كان في السيارة الجيب لاغتيال عبد الناصر؟

فقال شمس بدران : ردى بسرعة! !

فقلت : ما أتفه ما تعذبون الناس من أجله ! ويلكم من الله ! ثم ويلكم من التاريخ ! ثم ويلكم من الناس جميعا وهم ينزلون عليكم لعناتهم ! . . وكان جزائي على ذلك قاسيا : دم يسيل وعظام تكسر! . وكان شمس يقول : إن علقناك الآن ستموتين ، ولكننا سنسامحك إن أخبرت عن الحكاية! ! احكي لنا الحكاية من أولها. . يا بنت الــ . الحكاية اللي قالها لك سيف البنا. فقلت : آه . . النكتة التي قالها سيف ، فقام شمس مسرعا يركلني ويصفعني وهو يقول : أيوه يا أختي النكتة!

وقلت : كنت في بيت الشهيد البنا وقال سيف الإسلام . . يقولون كان جمال عبد الناصر مسافرا في الطريق الصحراوي بالسيارة إلى الإسكندرية وكمن له جماعة من الجيش في سيارة جيب ليغتالوه . وفى اللحظة الأخيرة تغير نظام سفر عبد الناصر، وسافر بالقطار، والغريب في الموضوع أن السيارة الجيب هربت فلم يستطيعوا القبض عليها ولا على من فيها.

فقلت لسيف : حقا إنها نكتة . . لكن ليس هو الفراغ الذي جعل الناس يقولون ذلك كما تقول يا سيف . . . أنا لا أعتقد أن هناك سيارة جيب ، والأمر كله من صنع جهاز المخابرات . . هناك كل يوم مؤامرة مزعومة لاغتيال عبد الناصر، مرة من الجيش ومرة من الشعب ، وهلم جرا ونسمع عن ذلك . . ويقبض على آلاف الناس .

وقال سيف : دي مجرد نكت الناس بتعملها وخلاص.

فقلت : الناس لا يفكرون في قتله . . قتل الحاكم الظالم لا ينهي المشكلة. . القضية اكبر من قتل عبد الناصر، القضية تخليص البلد من حكم جاهل ، عات متجبر.

وأجابني سيف : من الأفضل للناس أن يشغلوا أنفسهم بمصالحهم الشخصية وتربية أنفسهم .

فقلت : على أي حال لم يقتل هذا البلد غير النكت . . لم يستطع الناس أن ينفسوا عما في صدورهم إلا بالنكتة . . وبها قتلت الرجولة وقتلت المسئولية . وانتهى الحديث مع سيف الإسلام البنا .

فقال شمس بدران : هذه الحكاية - حكاية اغتيال عبد الناصر في طريق الإسكندرية الصحراوي- دار حديث فيها بينك وبين عبد الفتاح إسماعيل وعلى العشماوي في بيتك ودرستم تخطيطها، والأخطاء التي وقعت فيها . لما ذ ا ؟

فقلت : ما حصل غير ذلك ، أنا نقلت النكتة لعبد الفتاح عبده إسماعيل عن سيف الإسلام . . لم ندرس الحكاية . . دي نكتة فقذفت بركلات وشتائم !

قال شمس بدران : أنت حكيت هذه الحكاية لحسن الهضيبي . لماذا؟ نكت الناس بتقولها وحكايات بترويها .

قلت : جائز. . فيها حاجة دي؟! . وعملت السياط عملها .

قال شمس : جميل ، نترك موضوع سيف الآن ، وننتقل إلى موضوع آخر: كان عبد العزيز على هو المسئول عن تنظيم الإخوان حتى خروج سيد قطب من السجن ، قولي لنا كيف أتى هذا؟ قلت : لم يحصل . فقال : كيف ؟ عبد العزيز على كانت يجتمع مع على عشماوي وعبد الفتاح إسماعيل وضياء الطوبجي، ويحيى حسين ، وعبد المجيد الشاذلي، ومجدي عبد العزيز، واجتمع مع سيد قطب عدة مرات بعد خروجه من السجن .

قلت : لا أدرى شيئا عن هذه الاجتماعات .

فقال شمس بدران : ومن يدرى بها غيرك ؟! أنت تعرفين جيدا أنهم كانوا يجتمعون .

فقلت : هذا محض افتراء.

وقال شمس بدران : من الذي حمل أمر الهضيبي بزعامة عبد العزيز للتنظيم غيرك ؟

فقلت : هذا محض افتراء.

فقال شمس بدران مهددا : يبدو أننا حا نشوف شغلنا معك ، لا بتعقلي ولا بتشوفي مصلحتك .

وقال أحد الجالسين على طريقة السماسرة . . واحد يشد وواحد يرخى : لحظة واحدة يا باشا. أنا سأحاول مع زينب ثم اتجه إلى وقال : يا زينب . . الهضيبي اعترف ، وعبد العزيز على اعترف ، أنا سأحاول أفكرك بحكاية يمكن تجعلك تتداركين الأمر، كلهم اعترفوا ولا داعي للإنكار . . ما هو السم الذي أعده عبد العزيز على ليستعمله إسماعيل الفيومي ( استشهد في السجن الحربي بعد تعذيب مروع في العام 1965) في قتل جمال عبد الناصر؟ ما هي حكاية السم وكيف دار الاتفاق عليها؟

فصرخت : يا عالم أنتم مجانين بأمر اسمه قتل عبد الناصر؟ إن كنتم تريدون قتله فاقتلوه وأريحونا ، وعلى كل واجهوني بعبد العزيز على ، واجهوني بالأستاذ حسن الهضيبي!

فقالوا : لا، سنواجهك أولا بعلي العشماوي ! !

فقلت : على العشماوي كذاب أشر، وسأبصق في وجهه لأنه كذاب مأجور . .

فقال شمس بدران : أليس على العشماوي واحدا منكم ؟ قلت : واجهوني بالرجال الأفاضل . . عبد العزيز على، وحسن الهضيبي .

فقال حسن خليل : لا مانع ، سنواجهك بهما إ!

وقال شمس بدران : اسمعي! متى استشرت الهضيبي ليتولى عبد العزيز على زعامة الإخوان المسلمين نيابة عنه ؟

فقلت : لم يحصل !

فقال شمس بدران : يا صفوت هات على العشماوي !

ودخل على العشماوي يرتدى الحرير الهفهاف ممشط الشعر، تبدو عليه آثار المعاملة الحسنة . . ! ! وقال له شمس بدران في رقة : ماذا حصل يا على ، عندما ذهبتم إلى الهضيبي وكانت رجلها مكسورة، ولم تنزل من العربة، وذهبت أنت لبنت الهضيبي لتعرف رأى أبيها ا!

وقال على العشماوي: نعم حصل ، لقد قلت لبنت الهضيبي أن تسأل أباها عن ثقته في عبد العزيز على، وما إذا كان المرشد يرشحه لتولى الأمر نيابة عنه . . وعادت وهى تحمل موافقة الهضيبي على ترشيح عبد العزيز على .

فقال شمس : إيه رأيك يا بنت الـــ . . ؟

فقلت لعلى العشماوي . أنت كذاب ، والحقيقة أنك قلت لي بأن هناك واحدا من الإخوان تقدم لخطبة حفيدة عبد العزيز بك على، وهذا الأخ يريد أن يعرف رأى الهضيبي وأنا كنت خارجة من منزلي دون اتفاق مسبق ، فركب على العشماوي معي، وقلت له إنني لا أستطيع الصعود إلى بيت الهضيبي نظرا لكسر رجلي، والأفضل أن تذهب معي، وكان رد الأستاذ الهضيبي إن أسرة عبد العزيز على لا يسأل عنها، فهي أسرة مسلمة طيبة، وعلى بركة الله .

فقال شمس بدران : هل هذه هي الحقيقة يا على؟

فقال علي العشماوي : إن هذه اصطلاحات يا باشا ، والحاجة تعرف هذا جيدا.

فقلت لعلي العشماوي : أنت كذاب أشر، وهيئتك تفضحك . . الإخوان على الأعواد تقطع السياط أجسادهم ، وتنهشهم الكلاب ، ويتقلبون في ألوان من العذاب وأنت على هذه الهيئة. . أنت مأجور رخيص .. أنت عميل كاذب ، ولذلك يسمع لك . فقال شمس بدران : اخرج أنت يا على! . . ثم اتجه إلى وصوته يحمل ، التهديد: يا زينب إننا نمنحك فرصة أخيرة، اشرحي لنا صلة عبد العزيز على ؟ بالتنظيم ، وما هي الرسائل المتبادلة بين الهضيبي وعبد العزيز على بواسطتك ؟

فقلت : أنا مصرة على مواجهة عبد العزيز على والهضيبي

قال شمس بدران : خذها يا صفوت ، إلى أن نحضر عبد العزيز علي والهضيبي . ! وخرجت مع صفوت من مكتب شمس بدران ، وأوقفني صفوت ووجهي إلى الحائط ثم أدخلوني مرة أخرى مكتب شمس بدران . غير أنى لم أجد الهضيبي أو عبد العزيز على .

فقلت : أين الهضيبي، وأين عبد العزيز على؟

فقال شمس بدران في حدة : هل نعمل على هواك يا بنت الـــ . ؟ سنحضر : من نريد . . ووقت ما نحب . . يبدو أننا سنرجعك إلى أول التعذيب . .

فقلت : ما دمتم لا تستحون من الله ، فهل تستحون من الخلق ؟!

وقال حسن خليل : يا بنت اعقلي . الباشا يريد أن يحولك إلى النيابة . فاعقلى ، واعملي لمصلحتك . . فقلت : نيابة؟ ! أية نيابة؟ وأنتم من تكونون ؟

فقال شمس بدران : إننا نجهزك للنيابة. .

نعم التجهيز للنيابة ! ! .. السياط ، الكلاب ، النار، زنزانة الماء ، التعليق على الأعواد كالذبائح ، إيلام النفس بأقذر الألفاظ وأفحشها ، التجويع ، العطش ، الحرمان من استعمال دورة المياه فترات طويلة، الذهاب إلى مكاتب التحقيق صباحا ومساء مع استمرار أنواع التعذيب ، تحطيم الأعصاب بالات التعذيب . . كل هذه وسائل التجهيز والإعداد للمثول أمام حضرة صاحبة الجلالة النيابة! !

محمد قطب

وفى مكتب شمس قال حسن خليل : إننا نريد يا باشا قبل النيابة أن ننتهي من موضوع تنظيم محمد قطب . ونرى موضوع الولد المدعو الدكتور مسعود فقال شمس بدران كمن عثر على شيء كان قد فقد منه : نعم . نعم تنظيم محمد قطب يا زينب .

فقلت : أنا أجبت عن هذا الموضوع من قبل . . لقد قلت إن محمد قطب لم يؤسس تنظيما ، وإنه كاتب إسلامي وكل عمله أن يبين للناس الطريق الصواب ، وأين الدائرة التي يقف فيها المسلمون ، وللناس بعد ذلك أن يتصرفوا حسب ما يرون وحسب ما يعتقدون .

فقال شمس بدران : خذها يا حمزة ، يبدو أنها تريد أن تعود إلى المياه ، والكلاب ، والنار والجلد . . و . . و.

وأخذني حمزة البسيوني إلى حجرة تبعد عن حجرة شمس بدران قليلا، وأغلقها على ثم انصرف . وبعد نصف ساعة جاءني حسن خليل قال : اسمعي يا زينب ، أنا حضرت إليك لا نصحك ، أنا مندهش لأنني أراك تلقين الحبل حول عنقك ، كل الإخوان عملوا لأنفسهم ، وعرفوا طريق السلامة، لقد ألقينا القبض على مائة ألف ، الباقي عندنا الآن عشرون ألفا. كل واحد من هؤلاء اعترف بالحقيقة، ومن يعترف ، يخلى سبيله فورا، ونصف العشرين ألفا اعترفوا بكل شيء واعتذروا عما فعلوه وقبلنا عذرهم وأخلى سبيلهم . . حتى المرشد حسن الهضيبي ، وعبد الفتاح إسماعيل ، وسيد قطب ، كل هؤلاء اعترفوا واعتذروا . . أنت تعملين لحماية المرشد وهو ألصق بك كل شيء، وعبد الفتاح إسماعيل وسيد قطب كذلك . . أنت تحرقين نفسك من أجل أشخاص كلهم تنكروا لك . أنت لازم تغيري موقفك . . الرجال عرفوا السلامة وعملوا لها وألقوا المسئولية كلها عليك . . الهضيبي شتمك ، سيد قطب شتمك . . عبد الفتاح إسماعيل شتمك ، محمد قطب شتمك ، سيد قطب شتمك ، كل الإخوان شتموك . . إن موقفك محل تقديرنا وإعجابنا، ونحتقر موقفهم ، ودعك من سباب الباشا ، ومن حمزة البسيوني والولد صفوت .

إننا احتقرنا الإخوان عندما سبوك وازداد احترامنا لك وإعجابنا بك . . خسارة هذه الشخصية القوية تنتهي بهذا الشكل . . شمس باشا مصر على أن يعيدوا التعذيب من جديد من نمرة واحد.. أنا أخذت على عاتقي التفاهم معك لأعود إلى الباشا برأي يخرجك من هذه الورطة . . استرسل متسائلا: كنت تتناولين الغداء مع الهضيبي يومين في الأسبوع أو يوما على الأقل بانتظام ، وهذا باعتراف الهضيبي في التحقيق ، وكنت تحملين الأوامر والتعليمات إلى عبد الفتاح إسماعيل ، أرجو أن تعطينا نموذجا من هذه الأوامر. الهضيبي وعبد الفتاح إسماعيل اعترفا بهذا. سيد قطب عندما خرج من السجن كنت حلقة الاتصال بينه وبين الهضيبي . . إننا لا نتكلم من فراغ يا ست زينب . كانت في يده ورقة ينظر فيها ثم يتكلم . . ألقى نظرة إليها ثم استطرد: مثلا أموال الجماعة كانت عندك في البيت فنقلتيها إلى بيت الهضيبي. ثم عادت مرة أخرى إلى بيتك . ثم نقلت إلى بيت الهضيبي ثانية وعادت إليك أخيرا. كل هذا ذكره الهضيبي فما معنى إنكارك له ؟!

كل الأمور يا ست زينب تكشف سرها والناقص هو أن تضعي النقط فوق الحروف . وطبعا ستكتبين في كل هذا وعن أشياء أخرى، وسنرفع إلى عبد الناصر ونوضح له أنك تغيرت ثم نحولك إلى النيابة وينتهي التحقيق عند هذا الحد، وسيفرج عنك بعد يومين ، ثم يتم تعيينك وزيرة للشئون الاجتماعية . حكمت أبو زيد مغضوب عليها الآن ، ما رأيك يا ست زينب ؟! وضغط على زر جرس صغير فحضر جندي فورا ووقف أمامه منتصب القامة . فقال له : هات عصير ليمون ، وأخذ يشرح وبفتح موضوعات ، موعزا إلى بالكتابة فيها.

وعاد الجندي بكوبي ليمون فقال : اتفضلي كوب الليمون ، ثم أمر الجندي أن يحضر فنجاني قهوة. . واستأنف الكلام وأنا صامتة . . يبدو أنه اطمأن لما قال ، والتفت إلى الجندي قائلا: إنت تحت أمر الست زينب ، ثم قال لي: سنطلبك عند الباشا بعد ساعة وشوفي مصلحتك بقه . . وجلست إلى المكتب وجرى قلمي على الورق بالآتي : بسم الله الرحمن الرحيم وأصلى وأسلم على محمد وآله وصحبه ، أما بعد فأحمد الله تعالى وأشكره وأعجز عن إحصاء الثناء الواجب لجلاله سبحانه وتعالى فقد اختارني- بغير استحقاق منى- لأكون علي الطريق الذي اختاره لعباده . . طريق القرآن والسنة، طريق الحق الحمد لله الذي أوقفني تحت مظلة قوله تعالى : ( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ) ، الحمد الله الذي أوقفني تحت مظلة قوله تعالى : ( إن الله أشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة ) التوبة .

والحمد لله الذي اختارني من بين رجال مؤمنين ونساء مؤمنات واجتباني بصحبة رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لنكون شهداء أن رسالة الله التي أوقفنا حياتنا على نظرها والدعوة إليها والجهاد في سبيلها بكل مرتخص وغال تحقيقا لقوله تعالى : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ) التوبة . . وتحقيقاً لقوله تعالى ( كنتم خير أمةً أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر )

بذلك كله أكرر وأؤكد أننا لازلنا على طريق شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبد الله ورسوله . . ملتزمين بشطري الشهادة حفظة لكتاب الله حافظين لأحكامه اللهم اشهد أننا ثابتون على الطريق لا مغيرين ولا مبدلين . فانصرنا على كل ظالم أشرك بك ، وعطل كتابك وعادى دينك ، وحارب أهل دينك حماة كتابك وحماة سنة رسولك .

اللهم بذلك أحيا وعلى ذلك ألقاك إن شاء الله . فتقبلني سبحانك في أهل التوحيد، أهل الكلمة الصادقة، أهل خشيتك والحياء منك .

اللهم ارزقني الحب فيك والبغض فيك والجهاد في سبيلك .

هذا هو طريقي أيها الناس فافعلوا ما تريدون وكما تشاؤون .

سأدعو إليه على بصيرة فلا تجهدوا أنفسكم لترمونا في نقائصكم وتغمسونا في ظلمات فجوركم وشرككم بالله ، ومحاربتكم للإسلام وأهله . إنا برءاء منكم ومما تعملون . . إنا مقاومون لباطلكم حتى نلقى الله ، .

إمضاء (زينب الغزالي الجبيلي)

ودخل حمزة البسيوني وقال : أيوه يا زينب ! ! إن شاء الله يكون ربنا هداك وعرفت مصلحتك ! ! زوجك رجل طيب . . الحاج سالم صديقي . . إنه رجل على خلق . . أنا لا أعرف كيف وقعت في براثن الإخوان المسلمين . . على فكرة! هل انتهيت من الكتابة؟ فناولته الأوراق .

فقال : تعالى معي عند الباشا . . وذهبنا إلى مكتب الباشا شمس بدران ! ! قال شمس بدران : اجلسي يا زينب ، اطلبوا ليمونا وقهوة لزينب ! ! أخذ الورق وشرع يقرأ، وأخذت قسمات وجهه تترجم إحساسه وشعرت أنه يكاد ينفجر! ! وخرجت سهام نارية من عيني شمس بدران إلى حمزة البسيوني ومن معه . وقال وهو يضغط على الألفاظ : ما هذا؟ ألف سوط يا صفوت . البنت سخرت منا كلنا .. أين كنت يا حمزة أين كنتم جميعا؟. . فانهالت السياط وألقى الأوراق إلى الأرض واستطرد : البنت سخرت منا . لعبت بعقولنا كلنا يا حمزة. . إنها اكثر من خطيبه على منبر. . يا بنت الــ . !!

جمع أحد الضباط الأوراق المبعثرة في الحجرة وقرأ منها سطورا وقال : إيه القرف ده هو أنت إيه . . افعل معها ما شئت يا باشا . أوقفوا السياط وحكموا على بقراءة الأوراق . وقال أحد الجالسين : انظر بنت الــــ . خطيبة وكاتبة وضيعت نفسها ومستقبلها . . يا بنت الــ . إنها تستحق اكثر مما وقع لها، وأمر شمس بدران بتعليقي وجلدي! !

قدماي ممزقتان ملفوفتان بضمادات .. وكل موضع في جسمي استوفى نصيبه - وفوق نصيبه - من السياط ومن ألوان العذاب الأخرى. ورغم ذلك رفعني الزبانية على التعليقة كالذبيحة، وانهالت السياط المجنونة تنفذ أمر الباشا المحموم ! !

وانبثق الدم من الضمادات فأمر الطبيب بإنزالي . . رموني أمام حجرة شمس بدران ما يقرب من الساعة، ثم حملوني على نقالة إلى المستشفى . .

جاء مراد وحمزة البسيوني وقالا في جاهلية الجاهلين : قرر الأطباء أن الموت قاب قوسين منك أو أدنى، ولكن لابد أن تذهبي إلى المحكمة لتسمعي حكم الإعدام بأذنيك وتجنى ثمرة ما زرعت . إننا سنرسلك إلى النيابة غدا، واعلمي أنك إن لم تستجيبي لكل ما تقرره النيابة، ستعودين لنا مرة أخرى. ثم نادى حمزة . . صفوت وقال له : باكر خذها النيابة الساعة 9 ! ! وانصرفوا . . النيابة ! !

لقد مررت بكل درجات التعذيب درجة درجة، من الجلد بالسياط المجنونة كألسنة اللهب إلى نهش الكلاب المدربة ، إلى زنزانة الماء ، إلى زنزانة النار، ثم تكررت عملية الجلد والصلب والتعليق على الأعواد كالذبائح ، إلى عذاب يحطم الأعصاب والأرواح .

وجاءت النيابة، لتستكمل المهزلة فصولها، ويعاقب المظلومون في ظل العدل وسيادة القانون . . ! ! دخلت خيام المحققين من رجال النيابة ! !

وإنهم جميعا لمخطط واحد ينفذون ! ! في خيام التحقيق كان التهديد مستمرا من المحقق الذي يطلب من المتهم أن يوقع على ما يسجل من زور وبهتان في أوراق التحقيق تحت نظر وسمع كبار القضاة والمستشارين المنتدبين للإشراف على التحقيقات .

والحق أن كل شيء في هذه الأمة يمتهن ويمسخ ، كل ما فيها ومن فيها. حتى رجال القانون والقضاء الذين روى التاريخ نزاهتهم في كل عصر وكانت شجاعتهم في الحق مضرب الأمثال ، رأينا بعضهم في السجن الحربي مسخا مشوها وباطلا مزورا ، يكذبون في شجاعة ويخافون الباطل ويدافعون عنه بجرأة . يهددون المتهم إذا لم يوقع على ما يسجلونه ويقر بكل ما يكتبونه ، بالعودة إلى مكاتب التحقيق بالسجن الحربي! ! نظر وكيل النيابة إلى وضمادات الشاش تغلف قدمي ويغلف نفسي إعياء وضعف . . لا يكاد صوتي يخرج من بين شفتي . . ووكيل النيابة يجلس خلف جبل من الدوسيهات . . أمامه أوراق مكتوبة . سكرتير النيابة جالس إلى مكتب صغير وأمامه كومة من الأوراق البيضاء وبيده قلم مستعد لتنفيذ الأمر. . أملى عليه وكيل النيابة اسمي، وسني ومكان مولدي وسكنى .

والتفت إلى وكيل النيابة بوجه جامد ثم قال : يا زينب ، في هذه الملفات والدوسيهات أقوال الإخوان المسلمين كلها ' واضح فيها موقفك جيدا ، سأترك أقوالك في المكاتب ، وأريد الحقيقة منك أنت وهذه حقيقة قالها حسن الهضيبي ، وقالها سيد قطب ، وقالها عبد الفتاح إسماعيل وقالها جميع الإخوان . . أريد يا زينب أن تتخلى عن عنادك وألا تضيعي وقتنا فيما لا يفيد . . والأمر بسيط جدا إعادتك إلى المكاتب مرة أخرى! !

وأخذ يوجه إليّ الأسئلة وانا أجيب . ولكني لاحظت عجباً !! كنت إذا أجبت على سؤال ببضعة كلمات أجده يملأ صفحة كاملة على إنها إجابة مني !!

أثارني ما لاحظته فقلت لوكيل النيابة المحقق : ماذا يا استاذ قناوي ؟ إنني اجبت على سؤال واحد في كلمات قليلة ..

فقال : إنني اساعدك لأن كل كلمة منك ستعرض على سيادة رئيس الجمهورية . كلامك أنت بالذات طلب أن يعرض عليه يومياً !!

فقلت : هذا أمر لا يهمني في قليل أو كثير ، إنما ما أهتم به . ألا يكتب باسمي إلا ما أقول . فقال سأقرأ عليك فيما بعد كل شئ . وقلت في هدوء وما الداعي مادمت تكتب من عندك . لا داعي لأن أتكلم وليكتب كاتب النيابة ما تريد على أن يكون في علمك أنني لن أعترف إذا كان هناك محكمة .. إلا بالذي أقوله أنا لك ..!! .

وعاد إلي سؤالي . قال : أنت قلت : عبد الناصر كافر وحكومته كافرة والمجتمع كافر أيضاً.

قلت : نحن لا نكفر أهل القبلة . قال : ومن هم أهل القبلة ؟ قلت : الذين يقولون : لا إله إلا الله محمد رسول الله ثم يلتزمون بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربه . قال أريد أن تشرحي صفات أهل القبلة .

قلت : " الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت إن استطاعوا إليه سبيلاً ويلتزمون بأحكام الكتاب والسنة . لا يشرعون من عند أنفسهم ولا يحكمون بغير ما أنزل الله . " قال : هل تعتبرين جمال عبد الناصر وحكومته والمجتمع من أهل القبلة . قلت : عبد الناصر نفسه لا . لأنه حاكم يستطيع أن يحكم بكتاب الله لو أراد إلا أنه عمل على تعطيله ، فهو يشرع للناس من عنده ويعطل كتاب الله وقد قال عبد الناصر صراحة : أنه لا يقيم حكومة دينية .

قال : أنا أريد أن تقولي لي بصراحة : عبد الناصر والحكومة كافرين . ولا رأيك إيه . قلت : لقد أجبت ومن شاء أن يعلم حقيقته مع الله فليعرض نفسه على كتاب الله وكان قد كتب حوالي خمس صفحات فولسكاب . ثم عاد يسألني سؤالاً آخر فقال : أنتم كنتم تريدون قتل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ . قلت : إن المشغولين بالدعوة لدين الله وعودة الأمة الإسلامية إلى حياة الناس لا ينشغلون بهذه الأمور السخيفة . ثم يوم يعود المسلمون لدينهم فستنتهي كل هذه الرذائل ، وستتخلص الأمة من هذا التسيب المقيت ، وعبادة الشيطان في هذه الصور المختلفة التي فتنت الأمة وانهارت بها هذا الانهيار الذي جعلها غثاء كغثاء السيل .

كان وكيل النيابة محمد القناوي يسمع منى كلاماً ويكتب غيره أو يحرفه أو ينقل كلاماً آخر من الملفات المرصوصة أمامه . وهكذا كانت خيمة النيابة على هذا النمط الغريب العجيب عشرة أيام . وكان المستشار محمد عبد السلام يتردد على الخيمة ويسأل القناوي عن الوضع ويقول له : أبذل جهدك .. وينصرف .

وفي الخيمة قلت للقناوي : إني أرى شيئاً عجباً . أرى رجال القانون والقضاء في غابة يتعايشون مع وحوشها ، يلقون عن أنفسهم ثياب القضاء ويرمون من فوق أكتافهم أردية القانون والعدل قال : نحن نحرص على تخليصك وإنقاذك من الإخوان ليس لك بعد أقوال الهضيبي وسيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل إلا شئ واحد هو الإعدام .

وما رأيك في كلام الهضيبي وسيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل ؟ قلت أنتم تختلقون عليهم الكذب وهؤلاء هم طليعة الجماعة المسلمة . قال : وهل نكذب على أحد ؟ أنت لاتقولين الحقيقة وتكذبين . قلت أكذب على من ؟ . قال : على الحكومة وعلينا نحن رجال النيابة . قلت أنت مصدق أنك من رجال النيابة ومن رجال القانون .

قال : سأقفل التحقيق وأعيدك إلى مكاتب التعذيب .. وبعد ذلك تحضرين لنا مرة أخرى . . وطلب قهوة وأخذ يشربها . وبعد ما شرب القهوة قال : إيه يا زينب ؟ أتريدين الرجوع إلى المكتب ؟ إن عبد الناصر مستعجل أوراقك ليطلع عليها . .

أمرني بالتوقيع على ما كتب فرفضت . فأعادني مرة أخرى إلى المكاتب وجلدت من جديد وأعادوني مرة ثانية إلى مكاتب التحقيق ..

وانتهت مهزلة التحقيق ولكن ..


الجولة الثانية مع النيابة

بعد يومين طلبت للنيابة مرة أخرى . وهناك وجدت عدداً من الشباب أفناهم التعذيب وكساهم ثوب عذاب. فسألني قناوي : متى التقيت بهؤلاء ؟ ومتى تعرفت إليهم ؟ وما هي أسمائهم ؟ وأنظر إلى الشباب وأقول سائلة : متى رأيتكم ؟ هل التقيتم بي حقاً ؟ هل تعرفونني قبل اليوم ؟ ما أسماؤكم ؟ ويصرخ وكيل النيابة معترضاً مدعياً أنني أوجههم بأسئلتي ، فأرد عليه طالبة منه أن يسألهم متى التقوا بي لا أن يسألني متى التقيت بهم ؟ ويسألهم الواحد بعد الآخر وتكون الإجابة واحدة لم نلتق بها .

فيقول القناوي : ولكنكم قلتم في التحقيقات انكم التقيتم بها . فيجيبون : تحت سياط التعذيب كنا نقول أي شئ . ثم نعاد جميعاً إلى المكاتب !! مكاتب التعذيب !! عشرات وعشرات المرات عرض عليّ الشباب الصابر ما بين خيام النيابة ومكاتب الألم والعذاب والقهر .


عودة إلى المكاتب

لقاءات جديدة في مكاتب شمس بدران وأعوانه . كانوا يأخذونني ليلاً إلى مكتب شمس بدران أو أحد زبانيته ، ويهددوني أولاً بإعادة التعذيب ، ثم يعرضون عليّ شباباً في سن الزهور ورجالاً وشيوخاً ويسألونني متى : التقيت بهم ؟ ويكون الجواب : من هؤلاء الذين تسألونني أين التقيت بهم ؟ اسألوهم هم إن كانوا قد التقوا بي ؟ اسألوهم إن كانوا يعرفونني ؟ . وتنتهي المواجهة بصورة جديدة من التعذيب : كالوقوف في مكان مظلم وأحد العساكرخلفي يضرب بالكرباج على الأرض ويأمرني أن أستمر في خطوة "مكانك سر"، فإذا بلغت الإعياء ولم أستطع الاستمرار في تلك الحركة ، وأقدامي ممزقة ومربطة بأربطة الشاش عاجلني بعشرة أو عشرين سوطا على جسدي كيفما اتفق . . ثم إلى زنزانة المستشفى!

وسأضرب أمثلة للتعذيب بعد انتهاء النيابة من التحقيق لتعرفوا ماذا كان عبد الناصر وماذا كان أنصاره وأعوانه .


التعذيب

أخذوني في منتصف ليلة من لياليهم السوداء إلى مكتب مجاور لمكتب شمس بدران ، كان يجلس فيه أحد شياطينه "جلال الديب "

الذي أخذ يسألني..قال: اشرحي يا زينب يا غزالي اتصالاتك بخالدة الهضيبي وأحمد ثابت زوجها وما دورهما في التنظيم ؟

قلت : نشاط خالدة الهضيبي معي كان محصورا في مساعدة أسر المسجونين .

قال : أي نوع من المساعدات ؟

قلت : مساعدات مالية أو عينية ، وشرحت له نوعية العينية – بعد سؤاله – أنها كالأقمشة والدقيق والقمح والأرز والسمن والفاصوليا . وعاد يسألني عن زوجها أحمد ثابت . ولما أوضحت له أنه لم يكن له من عمل إلا الحضور إلى المركز العام للسيدات المسلمات ليوصل الأشياء التي أرسلها لخالدة لتسلمها للأسر – دون أن ينزل من العربية – رفض تصديقي وأسلمني إلى صفوت فأوقفني ليتصرف ، وتصرف صفوت فأوقفني ووجهي للحائط مكررا السؤال عن صلة خالدة الهضيبي بالتنظيم .

ولما مضت ساعة دون أن أغير من موقفي بدأ يهددني بالكلاب وبالضرب وأصررت على أقوالي . ودخل حمزة البسيوني فطلب منه جلال الديب أخذى إلى الكلاب . وأخذوني إلى حجرة مظلمة وأدخلوا كلبا معي وتركوني اكثر من ساعتين مع الكلب ثمأعادوني إلى المستشفى . وفى الليلة الثانية أعادوا استجوابي عن علاقة خالدة بالتنظيم وأصررت على موقفي السابق ، وتركني جلال الديب في الغرفة ، وخرج ليرسل لي صفوت فيضربني بقدميه وبيديه حيثما اتفق ، ثم يغلق على الحجرة ويخرج ليعود بعد ساعتين فيعيدني إلى المستشفى!


المال

ومرة أخرى طلبوني لمكتب شمس بدران وقال شمس : لقد أتينا بالزيني من غزة . وقد تعرف عليه المرشد ومأمون الهضيبي . وهو الذي أتاك بالمال وإذا لم تتعرفي عليه سيتم إعادتك للتحقيق من الألف للياء! إنت فاهمة؟ والمهم يا بنت يا زينب أن الزيني قد اعترف . وأخذوني إلى حجرة وجدت فيها رجلا في صورة لا يمكن معها أن يتعرف عليه أحد ، وأخرجوني وأعادوني إلى شمس .

وقال شمس : من هذا؟ قلت : لا أعرفه .

قال : لقد تعرف الكل عليه . . إنه صادق الزيني، يا بنت الـــ . . وتدخل جلال الديب ليطلب من شمس أن يسألني عن المال لأي غرض هو؟ وسألني شمس وأجبته بأنه للأسر: للأكل ، للتعليم ، للعلاج . لأسر الأسود خلف قضبان سجونكم .

وجن جنون شمس فصاح بحمزة : خذها وألقها للثعابين لا للكلاب .

وخرجت مع حمزة وصفوت ، وأخذوني إلى المستشفى وطلب حمزة كرسيا فجلس عليه ثم قال :

إنت صعبانة على يا زينب ، لن آخذك إلى الثعابين ، قولي لي لأي غرض كان المال ؟

قلت : لقد حققتم معي بخصوص هذا الموضوع .

وكان جلال الديب قد وصل ليسأل : هل اعتدلت أم لا؟ وكان جواب حمزة : اتركها لي يا جلال يبدو أنها اشتاقت للكلاب .

الكلاب ، لقد كانت في نظري أرق منهم شعورا وأسمى واكثر إدراكا. كنت كلما حبسوني مع الكلاب أحسست عمق بشاعتهم وازداد احتقاري ، وأصبح الأمر لا يشغلني كثيرا . بل أصبحت أفضل أن أظل مع الكلاب على أن أبقى ثواني مع شمس أو حمزة أو جلال . .

وذات ليلة أخذوني إلى مكتب شمس بدران بعد العشاء جلست لا أدرى كم ، ولكنى أغمى على، فأسعفوني بالحقن وأعادوني إلى المستشفى وبعد ثلاثة أيام أخذوني ثانية إلى مكتب شمس بدران الذي أقسم برأس عبد الناصر إنه سيعيد تعذيبي من رقم 1إلى رقم 34 إن لم أجب بصراحة على ما يوجه إلى من أسئلة .

وكانت هذه الأرقام قد مرت على بصنوف من التعذيب مختلفة الصور، متعددة الألوان . وابتدأ حديثه بقوله : يا بنت يا زينب ، أنا سأذكر لك حادثتين حصلوا معك : حادثة فيها محمد قطب و الهضيبي وأخوات محمد قطب وكان فيها على عشماوي ومأمون الهضيبي.

وبنقول لك إن هذه الحاجات اعترف بها حسن الهضيبي ومحمد قطب . . راح تكذبينا لكن من أين كنا سنعرفها؟. . الحادثة التي فيها على عشماوي ستقولين : إن على كذاب . . لكن الثانية ليس فيها على . . قال شمس بدران : في يوم كلمت محمد قطب ونزل لك من حلوان بالليل ، فأعطيته مصاغك وخمسمائة جنيه ، وقلت له : الخمسمائة جنيه سلمهم للوالدة "تقصد حرم الهضيبي" ومصاغي هذا أنا متبرعة لأسر الإخوان ، خذهم يا محمد . . أعطهم للست الوالدة في الوقت المناسب .

قلت : نعم ، هذه الحادثة حصلت وما الذي يصيبني فيها؟ مصاغي أتبرع به كما أشاء، وقد تبرعت إلى اكرم وجه للخير، لجماعة الإخوان المسلمين إعانة للأسر. أما المال فقد كان للإخوان وكان على أن أرده لأصله عندما أخشى عليه . قال شمس : الخمسمائة جنيه كانوا للتنظيم لا للأسر. قلت : لا، للأسر. قال : على عشماوي قالي : إنها للتنظيم . قلت : على عشماوي كذاب .

قال : محمد قطب قال إنه لا يعرف الغرض من الخمسمائة جنيه . لكن أنت بعثت بها مع المصاغ . وقلت له : أعطها لحرم الهضيبي . قلت : واجهوني بمحمد قطب . لقد قلت له : إن الخمسمائة جنيه مساعدة للأسر . قال : طيب ، وكيف جاءت هذه الخمسمائة جنيه ؟

قلت : في يوم جاءني على عشماوي يطلب منى ورقة لأخ من السعودية ليتمكن من مقابلة المرشد أو مأمون ، وأفهمته أن الأخ مأمون لا يحتاج إلى واسطة وان المرشد في الإسكندرية، إلا أن مأمون موجود وبإمكانه أن يقابله . وعاد إلى عشماوي بعد ذلك

وقال لي : إن هذا الأخ قابل مأمون وتبرع بهذا المبلغ وإن مأمون طلب منه إعطاء المبلغ للحاجة زينب الغزالي ، فكلف الأخ الذي من السعودية - حسب رواية على عشماوي - أن يوصل على عشماوي المبلغ إليك وأن المبلغ مساعدة للأسر .

قال شمس بدران : المبلغ لم يكن للأسر، لأن محمد قطب قال ذلك . فقلت مؤكدة : إنني وحدي القادرة على تقرير الحقيقة، وإنه لابد أن يكون الأمر قد التبس على الأستاذ محمد قطب إن كان قد قال ذلك . قالوا: سنعيدك للتعذيب . . هتتكلمي ولا يأخذك صفوت ؟!

قلت : واجهوني بمحمد قطب . ولما واجهوني بالأستاذ محمد قطب ، قال : إنني سلمته المال والمصاغ ليوصله إلى الوالدة وحاولت أن أذكر حضرته بما قلته له من أن المبلغ كان للأسر وكان عندي أمانة ، لم يستطع أن يتذكر، إلا أنه قال : ما دامت الحاجة متأكدة أنها قالت لي هذا فإن قولها صحيح . وأوقفوني إلى الصباح ووجهي للحائط ثم أعادوني للمستشفى . وبعد يومين أخذوني إلى مكتب شمس بدران الذي بادرني بقوله : نحن نريدك يا زينب أن تعترفي بالتنظيم الذي كان محمد قطب قد أسسه .

وأجبت : لقد سئلت من قبل في هذا وأجبت بان محمد قطب لم يؤسس تنظيما.

فقال لصفوت : علقها يا صفوت ! وعلقني صفوت وجلدوني على قدمي! . . ثم أخذت لمكتب مجاور لمكتب شمس بدران ، وقال لي رجل من رجاله - لا أعرف اسمه - كان يجلس بجانب حسن خليل دائما: ووجهي يا بنت يا زينب : إنت عبيطة ! أنت لا تعرفي تخلصي نفسك ؟! الإخوان كذبوا عليك كثيرا، فلماذا لا تتفاهمي معنا وتعطينا بعض المعلومات عن محمد قطب ؟ ونحن سنحفظ لك هذا الجميل ونبدأ نتفاهم معاك ! قلت : كيف أتفاهم معكم ؟ أنا أحتقر طرقكم وباطلكم ! أنتم عملاء للشيطان ، لن تستطيعوا أن توقعوا بيننا نحن عباد الرحمن ! نحن لا يصدق الأخ منا في أخيه شيئا مهما حاولتم الوقيعة والدسيسة . . أريحوا أنفسكم .

قال : سنعيد التعذيب من جديد . وستحقق النيابة معك مرة أخرى .

قلت : النيابة منكم وأنتم منها.. أنتم جميعا لا تعرفون طريق الله . أنتم من الضالين المغضوب عليهم . .

ودخل حمزة البسيوني وفى يده ورقة وضعها أمامه وسأله : هي لسه مغلباك يا باشا؟ وخرج حمزة وابتدأ هو يتكلم في موضوع محمد قطب ثانية. وخرج وجاء صفوت وضربني بالسوط حيثما اتفق ثم خرج ووجهي للحائط . . بعد ساعة تقريبا دخل شيطان آخر أخذ يشرح لي ما سيترتب على تعاوني معهم بإعطائهم معلومات عن التنظيم الخاص بمحمد قطب من نتائج في صالح زوجي وأشقائي وصالحي شخصيا. ولما لم يتغير معي أخذوني إلى حجرة الكلاب . وفى هذه المرة كان مع الكلب في الزنزانة رجل قال له حمزة البسيوني : إن لم يأكلها الكلب فكلها أنت يا ولد! وأغلقت الزنزانة لساعتين لم اكف فيهما عن قول "حسبنا الله ونعم والوكيل " أما الرجل والكلب فكأن خرسا لحق بهما حتى فتح الباب وأخذت إلى المستشفى .

وفى اليوم التالي أخذت إلى مكتب رياض إبراهيم الذي سألني عمن قابلت من كرداسة .

أجبت : أنا لا أعرف شيئا عن كرداسة هذه . قال : ألم يقابلك أحد منها أبدا؟ أجبت : لا. . فذكر أن أحمد عبد المجيد من كرداسة. ثم قال مهددا بأنه ذاهب إلى الباشا ليرسل لي من يتفاهم معي وخرج . ودخل عسكري أمرني بالوقوف وأن أدير وجهي إلى الحائط وضربني على ظهري بالسوط ! وبعد مرور وقت طويل أخذوني إلى المستشفى .

كل هذا أيها القارئ العزيز بعد تحقيق النيابة .

وبعد أيام طلبوني لمكتب رياض - ثانية - وواجهني بسيدات لم أرهن من قبل ، وسألني عمن تكون زوجة السيسي من بينهن قلت لا أعرفها، وإذا بهم يدخلون شابا صغير السن والعسكري خلفه بالسوط ويسألون : أين هي زينب الغزالي ؟ فنظر الشاب وقال : لا أعرف

ولما سألوه ثانية عن زوجة عباس السيسي أجاب ثانية : لا أعرف . فسألوه عمن قابلته من السيدات الموجودات فأجاب : لم يقابلني أحدها فأخرجوه كما أدخلوه بالسوط يلسع ظهره .

ثم فوجئت بحميدة قطب تدخل وخلفها صفوت . وسألوها عن زوجة السيسي قالت : "لا أعرفها" .

ثم أخرجوا السيدات الأربع وأخرجوا حميدة وبقيت مع رياض . قال : اسمعي يا بنت يا زينب . . ألا تعرفين واحدا من الإخوان متزوجا من أربعة ؟ قلت : لا. . قال : هل تعتقدين أنى أقول لك فزورة ؟ ! هناك واحد من الإخوان متزوج أربعة . إن لم تقولي من هو ستضربين . قلت : افعل ما تشاء. أمروا أن أضع وجهي في الحائط وقام وضربني عدة كرابيج وتركني في الحجرة وخرج . . وبعد ساعتين عاد ومعه صفوت الروبي الذي أخذني إلى المستشفى .


علبة اللحم المفروم !

قرر الأطباء أن حالتي الصحية متدهورة، وان لم يسمحوا لي بأكل من المنزل فإن حياتي يخشى عليها، ولا أستطيع الذهاب إلى المحكمة . فسمحوا لي بدخول الأكل وكان عبارة عن فاكهة ولبن زبادي فقط . وفى يوم احتالت أختي لتدخل لي لحما، فأفرغت علبة لبن جافة وملأتها لحما مفروما وأدخلتها على أنها لبن جاف . ولم يكشفها أحد حتى أنا . وكان معها بعض الزبادي والبرتقال . . أخذت نصيبي وأخذ عبد المعبود التمرجي يوزع الباقي على الإخوان المرضى في المستشفى . وكان معنا الأستاذ عبد العزيز على – وزير البلديات السابق – وكنا نتقاسم كل واحد برتقالة وكل اثنين سلطانية زبادي . وبعد التوزيع ناديت الممرض ورجوته أن يوزع هذه العلبة على الإخوان ، كل واحد كوب لبن فخرج بها ثم عاد إلى مرة ثانية وهو يقول : هذا ينفعك أنت يا حاجة، دي فيها لحم مفروم ، فرجوته أن يوزعها : كل واحد يأخذ ملعقة. ففعل وعاد وفى العلبة اللحم المفروم ، ورجوته أن يوصله إلى الأستاذ عبد العزيز ومعه علبة زبادي، وسأل عبد المعبود لم أختص بهذا؟ فأجبت من زنزانتي :

الحمد لله الذي يرزق عباده ! فأجابني : الحمد لله ، إنه هو الرزاق ذو القوة.

ولما انصرف الممرض سألني : كيف صرح بدخول الطعام ؟ وأوضحت له ما فعله الطبيب ونصحته أن يطلب من الطبيب أن يدخل له طعام . وطلب فعلا من الطبيب .

وكان الإخوان يدخرون من ضرورياتهم القليلة ما يعاونون به إخوة لهم تمزقت أجسامهم من التعذيب ، فهم يحتاجون إلى غذاء خاص وعناية خاصة، مما جعلنا نفرح لأي شيء يصلنا من الخارج ؟ ولو كان ذلك شيئا عاديا في حياة الناس .


التجويع حتى في المستشفى!

مر ما يقرب من عام على اعتقالي ولم يسمح لي بالأكل من الخارج إلا قبل المحاكمة بثلاثة أشهر؟ خوفا من أن أموت قبل أن يحاكموني بأباطيلهم. وتلك كانت طريقتهم في الحياة : الخداع والبهتان .

أبشع من هذا ما عرفته بعد ذلك عندما زارتني أختي ووالدتي قبل المحاكمة بأيام وقالت لي : إن صفوت الروبي كان يطلب منهم في الأيام الأولى لاعتقالي أكواما من الطلبات من الأدوية والفاكهة والملابس . وكان يشترط أن تكون الملابس جديدة .

لقد كانت خطة مدبرة لاستنزاف قدراتنا - معاشر المجاهدين - بإرهاق أسرنا في الخارج . أرادوا أن يقولوا للناس الذين سيسمح لهم بدخول محكمتهم : إن معاملتنا للمتهمين على أحسن ما يرام بدليل أنهم بصحة جيدة وأن الأكل دخل لهم من الخارج وهكذا من مفترياتهم التي لا تنتهي . .

أما التعذيب والتنكيل والتهديد فحدث ولا حرج ، لئن لم يكن فيما ذكرته الكفاية مما لقيت فإني سأضرب لك - أيها القارئ - بعض الأمثلة على ما كان يعانيه المسجونون من الجوع وخاصة المرضى . ذات يوم دخل شاب من الإخوان ، جسمه ممزق من التعذيب ، وحضروا به إلى المستشفى لعلاجه وأخذ الطبيب يبحث عن قطعة سكر. ولكنه لم يجد في المستشفى وسمعت الهرج والسؤال عن قطعة السكر . فطرقت باب زنزانتي ولما فتحوا رجوتهم أن يأخذوا برطمانا صغيرا كان به عسل نحل جاءني مع الطعام من الخارج ، أخذ الممرض العسل وأمره الطبيب أن يعطى ملعقة للمريض . . وهذا يحدث بطبيعة الحال بعيدا عن أعين الزبانية؟ فمثل هذا من الممنوعات في المستشفى! ! .

ومرت الأيام . ووصلت بهم الحال إلى تعذيبنا بمنع الماء عن المريض . فيظل طوال الليل لا يشرب نقطة ماء – ونحن في أشهر الصيف – حتى أصبح الحصول على نصف كوب ماء من المعجزات ، كنت مريضة جدا وحالتي الصحية سيئة، فسمحوا لي بدخول بعض الماء، وكان بجواري أخ كريم في الزنزانة المجاورة فكنت أقسم معه هذا القليل من الماء ، ولن تصدق أيها القارئ إذا ذكرت لك الطريقة التي كنت أوصل بها الماء إليه ، لن تصدق أنني كنت أضع الماء في كيس نظارتي وأناوله إياه من فرجة بين الحائط الورقي وجدار الزنزانة، ليطفئ ظمأه ولو قليلاً ! كان جسمه ممزقة من سياطهم وكان أحوج ما يكون إلى هذا القليل ! . .

لقد تفنن الظالمون في وساثل التعذيب . . لم تبق طريقة قديمة أو حديثة إلا استعملوها وأضافوا إليها . . .


وتاب الوحش

وسأقص عليك ، أخي القارئ ، قصة حدثت وأنا بالمستشفى تجعلك تزداد يقينا بأن في هذا الشعب خامات طيبة وقلوبا طاهرة لو وجدت التوجيه السليم لأتت ثمارها وعبدت ربها، ودافعت عن عقيدتها بكل ما تملك من جهد ومال . . كان معنا في المستشفى عسكري ممرض اسمه : صلاح وكان مكلفا بإعطاء الحقن للمرضى ومراقبة الزنزانات . وذات يوم كنت ذاهبة إلى دورة المياه، وإذا بالهواء يرفع بطانية كانوا يستعملونها بابا لزنزانة الأستاذ الإمام الشهيد سيد قطب ، لأنها كانت بغير باب خشبي، وتصادف مع رفع البطانية مروري أمام الزنزانة ، وقامت الدنيا في المستشفى، كيف تحدث هذه الجريمة البشعة ، وترى زينب الغزالي سيد قطب وهو جالس في زنزانته ! وقام المدعو صلاح يشتم ويسب .

ومما زاد الموضوع بشاعة أن صفوت الروبي كان داخلا إلى المستشفى في هذه اللحظة فأراد العساكر أن يثبتوا له أنهم حريصون على تنفيذ الأوامر، ولا يسمحون لأحد أن يرى أخاه ؟ ولو كان ذلك صدفة بسبب بطانية رفعها الهواء ! كان صلاح أشبه بوحش كاسر لا إنسانية ولا عقل ولا دين ، وكان الأستاذ سيد قطب يلاطفه ويخبره بأنه لا دخل له ولا ذنب في رفع البطانية، وظل يكلمه بكلام هادئ حلو حتى جعل هذا الوحش يلين ويستحي. . ثم يأتيني بعد أيام نادما يقول : إنه يريد أن يسلم من جديد، يسألنى ماذا عليه أن يعمل حتى يكون مسلما صحيحا. . وسألته : هل تستطيع أن تحتمل مثل ما ترى مع الإخوان ؟

قال : إذا أسلمت إسلامهم فسيصبرني الله إن شاء ويقويني . سألته تقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ؟

قال : نعم ، ثم رددها أمامي . . فقلت : إذن ، لا تفعل إلا ما يأمرك الله به ولا تطع أمر الطواغيت من البشر؟ مادام ذلك في معصية الله .

قال : أنا أريد أن أفهم الإسلام الحقيقي، الإسلام الذي جعلكم تتحملون كل هذا العذاب بصبر لا يستطيعه بشر.

فطلبت منه أن يرجو الأستاذ سيد قطب أن يفهمه الإسلام حين يذهب إليه ليعطيه الحقن وأرسلت معه تحية للأخ العزيز. .


وقرب موعد المحاكمة

وانقضت أيام ، وجاءت عريضة الاتهام بموعد المحاكمة، وكانت مهزلة لم يشهد لها التاريخ مثيلا، ولقد اخبرونا أن الأحكام في درج شمس . وقد حرمونا حق الدفاع ومقابلة المحامين ، فحين طلبت انتداب الأستاذ أحمد الخواجة قيل لي: إنه ممنوع من الدفاع في هذه القضية . فقلت : إذن لا أريد محاميا، سأدافع أنا عن نفسي .

فانتدبوا لي محاميا مسيحيا ليتولى الدفاع عنى وصرحوا لأهلي بزيارتي قبل المحاكمة . فجاءت والدتي وأختاي اللائى كدن يغمى عليهن لما رأين من تغير صورتي وضعفى الشديد، وشجعتهن وجلست معهن ، ومعنا صفوت وحمزة البسيوني مشرفين على الزيارة .

وطلبت من أهلي ألا يوكلوا محاميا عنى، ولكنى علمت منهم أنهم وكلوا الأستاذ حسين أبو زيد واتفقوا معه على ألف جنيه نصفها قبل المحاكمة . فأوصيتهم بعدم إنفاذ الاتفاق ، إلا أنى فوجئت يوم المحاكمة بالمحامى أبو زيد يدافع عنى . وفى مساء اليوم السابق للمحاكمة أخذت إلى مكتب شمس بدران الذي قال لي : المطلوب منك ألا تعترضي على أي شيء جاء في التحقيقات ، وأن تصدقي على كل كلمة وردت في الأوراق ، وإذا اعتذرت إلى المحكمة بان الإخوان خدعوك وأظهرت ندمك على ما فعلت فان المحكمة ستخفف عنك الحكم . . إياك أن تعترضي على أي كلمة جاءت في التحقيقات ، نحن نريد أن نخدمك . فإذا قررت أنك تتبرئين من الإخوان المسلمين وأنهم خدعوك فإننا سنخدمك خدمة عظيمة . قلت له : (يفعل الله ما يشاء ويختار. ما كان لهم الخيرة من أمرهم . قال : كلميني بالعربي . . ما " ترطنيش ". . أنا لا أفهم ما تقولين . . الظاهر أنك لا تنوين الخير، نحن نريد أن نخدمك . قلت له : "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ".

قال : خذها يا حمزة وهى حرة تفكر في مصلحتها أولا تفكر. قال حمزة : اتركها يا بيه ، أنا سأتفاهم معها وخرجت من مكتب شمس بدران إلى مكتب مجاور له ، وأخذ حمزة البسيوني يقنعني بان يكون موقفي في المحكمة البراءة من الإخوان المسلمين ، ويعيد على مسمعي ما سبق أن كرروه مرات ومرات من أن الهضيبي وسيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل قد غرروا بي .

وبذل لي الوعد بأنهم سيسلموني النقود التي صودرت منى كهدية بسيطة أولى لي . على قدر كلامي في المحكمة عن تغرير الإخوان بي ستكون هدية جمال عبد الناصر لي ! ونصحني أن أتعقل وأعود معه إلى شمس باشا لأعده بتنفيذ رغباته ويكفيني ما حدث .

سمعت كل ما قاله ولم أجب ، لم املك حين كرر أنه يريد تخليصي من الحكم بالإعدام إلا أن قلت له : أنت لا تستطيع أن تستخرج من جسمك البول إذا أتحبس منك يا مسكين ! . . أرجعني إلى الزنزانة . . وأخذت أفكر في أمر هؤلاء الطواغيت وفى استعداد المحكمة لتنفيذ كل ما يريدون ! !

ولم أستطع أن افهم - والأمر بيدهم والمحكمة بيدهم - هذا الحرص على ألا نتكلم في المحكمة أو نغير أقوالنا ! يبدو لي - يا عزيزيالقارئ - أن التمثيلية لا تتم إلا بهذا الفصل الأخير وهو مهزلة المحكمة التي يريدون عرضها أمام الشعب المكبل بالقيود وكأنهم يريدون أن يقولوا له : انظر، ها هم الإخوان يريدون قتل الرئيس وفد شهدوا على أنفسهم بذلك ، ولكن خيب الله ظنهم فجاءت النتيجة عكس ما يتوقعون . . لقد كانت مهزلة. وأي مهزلة اكبر من أن يأتوا بأمثال الفريق الدجوي ليجلس في منصة القضاء؟!


بشرى

وفى غمرة تلك الأحداث رأيت – فيما يرى النائم – أنى أقف في ساحة قيل إنها المحكمة التي سنحاكم فيها، وبينما أنا واقفة إذا بالحوائط تزول وإذا بي وسط ساحة كبيرة مساحتها الأرض كلها، وإذا بالسماء تظلل الأرض وتنطبق عليها كأنها خيمة أطبقت على الأرض لي وإذا بالنور يغمر الأرض كلها ، نور يصل ما بين السماء والأرض ، وإذا بي أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف أمامي وأنا خلفه وأسمعه يقول : استمعي يا زينب لصوت الحق ، وسمعت صوتا يخترق أقطار السماوات والأرض يقول : ستنعقد هنا محاكم الباطل وستصدر أحكام الطواغيت وسيحكم عليكم ظلما وعدوانا أنتم حملة الأمانة ورواد الطريق ( فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) .

كانت هذه بعض الكلمات التي سمعتها تخترق أقطار السماوات والأرض ببلاغة لم أستطع أن أعيها لقوتها وشدة تأثيرها وأخذها بالنفس والقلب والجوارح.

وعندما انتهى هذا الصوت ، التفت إلى حضرة النبي صلى الله عليه و سلم وأشار إلى جهة اليمين ، نظرت فإذا بجبل تقارب قمته عنان السماء، غير أنه كالبساط الأخضر تكسوه أرض خضراء.

فقال لي حضرة النبي (صلى الله عليه وسلم) : يا زينب ! اصعدي هذا الجبل فستجدين عند القمة حسن الهضيبي، بلغيه هذه الكلمات . ونظر إلى نظرة عميقة أخذت بكل كياني غير أنه صلى الله عليه وسلم يتحدث بكلمات منطوقة، ولكنى أحسست أنى حملت الكلمات فعلا، وفهمت ما يريده منى ، ورفع الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه يده إلى الجبل ، فوجدت نفسي وأنا صاعدة التقيت في طريقي بخالدة الهضيبي وعلية الهضيبي فسألتهما: هل أنتم معنا في الطريق ؟ أجابتا : نعم . وتركتهما وواصلت السير وعلى بعد أمتار التقيت بأمينة قطب وحميدة قطب وفاطمة عيسى فسألتهن : "أنتم معنا على الطريق ؟

قلن : نعم.

وأخذت طريقي في الصعود حتى وصلت إلى القمة . فوجدت أرضا مبسوطة فوق قمة الجبل وفى وسطها ساحة مفروشة بالبسط وعليها الأرائك والمساند والهضيبي يجلس في الوسط . فلما رآني وقف وأقبل على يحييني وهو فرح بقدومي عليه ، فلما صافحته قلت له : أنا مكلفة من حضرة الرسول أن أبلغك كلمات أمانة من الرسول . أمانة منه عليه الصلاة والسلام . قال لي : إنها بلغتني والحمد لله . وجلسنا وكأن هذه الكلمات تنقل عن طريق الأرواح لا عن طريق لفظ مصور في كلمة منطوقة . ولما جلست إلى الهضيبي رأيت على الأرض في سفح الجبل قطارا فيه امرأتان عاريتان ، فنبهت الهضيبي، فنظر إلى ما في القطار. وكنت متألمة جدا لما أرى فقال لي : أتعترضين عليهما؟

قلت : نعم .

قال : هل تعتقدين أن الذي وصلنا إليه بأيدينا وبأنفسنا . إنه بفضل الله علينا فلا تشغلي نفسك بهما.

قلت : علينا أن نقاوم حتى نقومهما!

قال : هل بنفسك تستطيعين ؟ قلت : بالله .

قال : فلنحمد الله على ما أعطانا. ورفع يديه وكأنه يحمد الله ، ورفعت يدي وحمدت الله معه .

ونحن نكرر الحمد لله استيقظت من النوم . ولم يعد هناك ما أخشاه .

وأكاد أحس ببرد وسلام وراحة واطمئنان ، وغسلت تلك الرؤية ما بي من ألم وأذهبت ما بقلبي من حزن ( فالذين هاجروا واخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ) . . ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) . . . . ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) آل عمران.


اليوم الموعود

القضية الأولى من سبع قضايا قدمت للمحاكمة

استيقظنا يوم المحاكمة وأخرجونا إلى المكاتب في انتظار العربات التي ستقلنا إلى المحكمة . وفى حوالي الثامنة امتلأت ساحة السجن الحربي برجال البوليس ضباطا وجنودا وكأنهم ذاهبون إلى ساحة القتال ، وجاءت عربة وصعدنا فيها وتكدس حولنا الحراس من ضباط وجنود وذهبنا إلى المحكمة وهناك أدخلونا القفص : كنا (43) ثلاثة وأربعين :

1 - سيد قطب إبراهيم .

2 - محمد يوسف هواش .

3 - عبد الفتاح عبده إسماعيل .

4 - أحمد عبد المجيد عبد السميع .

5 - صبري عرفة إبراهيم الكومي .

6 - مجدي عبد العزيز متولي .

7 - عبد المجيد يوسف عبد المجيد الشاذلي .

8 - عباس سعيد السيسي.

9 - مبارك عبد العظيم محمود عياد .

10 – فاروق أحمد على المنشاوى .

11- محمد إسماعيل يوسف .

12 - ممدوح درويش مصطفى الديري .

13 - محمد أحمد محمد عبد الرحمن .

14 – جلال الدين بكرى ديساوي .

15 - محمد عبد المعطى إبراهيم الجزار .

16 - محمد المأمون يحيى زكريا .

17 - أحمد عبد الحليم السروجي .

18 - صلاح محمد محمد خليفة .

19 – السيد سعد الدين السيد شريف .

20 - محمد عبد المعطى عبد الرحيم .

21 – إمام عبد اللطيف عبد الفتاح غيث .

22- عبد العزيز العرفي سلام .

23 - فؤاد حسن على متولي .

24 - محمد أحمد البحيري .

25 - حمدي حسن صالح .

26 - مصطفى عبد العزيز الخضيري .

27 - السيد نزيلي محمد عويضة .

28 - مرسى مصطفى مرسى .

29 - محمد بديع عبد المجيد محمد سامي .

30 - محمد عبد المنعم شاهين .

31 - محمود أحمد فخري .

32 - محمود عزت إبراهيم .

33- صلاح محمد عبد الحق .

34 - حلمي محمد صادق حتحوت .

35 - إلهام يحيى عبد المجيد بدوي .

36 - عبد المنعم عبد الرءوف يوسف عرفات .

37 - محمد عبد الفتاح رزق شريف .

38 - زينب الغزالي الجبيلي .

39 - حميدة قطب إبراهيم .

40 - محيى الدين هلال .

41 – عشماوي سليمان .

42 - مصطفى العالم .

وليعلم القارئ أن المكمل للعدد هو "على عشماوي" الذي اعتبر شاهد ملك ببيعه دينه بحياة ذليلة . فلما دخلنا القفص وحضر من يسمونهم القضاة، نادى الدجوي أسماءنا واحدا واحدا سائلا كلا منا : هل لك اعتراض على المحكمة؟ .

ويجيب الأخ : ليس لي اعتراض على الأشخاص ، ولكنى أعترض على القانون الذي نحاكم به لأنه قانون جاهلي، ونحن لا نحتكم إلا لشرع الله .

ولما فرغ من سؤالنا جميعا، قال : قررت المحكمة أن تحاكم زينب الغزالي وحميدة قطب محاكمة خاصة فأخرجونا من القفص ، ثم أشرنا إلى بعض أهالينا الموجودين بالقاعة بالتحية، ثم أدخلونا حجرة أغلقوها علينا حتى انتهت الجلسة فأخرجونا إلى العربة ومنها إلى السجن الحربي . كان ذلك يوم 10/4/1966 ومكثنا في الزنزنات حتى يوم 17/5/1966 . لتعاد مسرحية المحكمة . كما سبق أن ذكرت من أن تلك " المحاكمة " هى الفصل الأخير الذي يريدون عرضه أمام الشعب .



الباب السادس : محكمة !!

في يوم 17/ 5/ 1965 , أخذونا إلى المحكمة ، وأدخلونا القفص . هيئة المحكمة يتقدمها الفريق الدجوي منتفخ الأوداج ، وجلس أعضاء النيابة في مكان عن يمينه . تلي منصة النيابة منضدة عليها عدد من الصحفيين ، كانوا قد حضروا قبل هيئة المحكمة، وأخذوا يصوروننا . وكان معهم صحفي يدعى عبد العظيم ؟ طالما جاء ليلتقط بعض الصور لنشاط المركز العام للسيدات المسلمات فقلت له : يا عبد العظيم احتفظ بهذه الصور لعلنا نحتاجها يوما ما، ولعله أن يكون قريباً . قال : حاضر. وكانت هذه شجاعة منه ولكنه ارتعش واصفر وجهه وتغير لونه وهو يجيب .

وبعد دقائق لم أره في القاعة ، والتفت إلى الصحفيين أسألهم : ماذا تفعلون ؟ وابتدأ الدجوي المحاكمة بأن نادى اسمي فخرجت من القفص لأرد على أسئلته ، وكانت كل الأسئلة التي وجهها لا تمت بصلة لكلامي في التحقيق . فكنت أقول له : هذا الكلام لم أقله في التحقيق . .

وأكتفي هنا بسؤالين أجبته عنهما :

قال لي : إن حسن الهضيبي قال : إن الأربعة آلاف جنيه التي أعطيته إياها سرقتها من زوجك . قلت : الأربعة آلاف جنيه اشتراكات وتبرعات من الإخوان المسلمين ؟ لحساب أسر المسجونين لإطعامهم وكسوتهم وتعليمهم . آلاف الأسر التي شردها جمال عبد الناصر بعد محاكمات 1954 وهو ما قلته في التحقيق .

فارتبك وارتعد وكأن عقربا لدغه وسأل : عندما كسرت رجلك كنت خائفة على هذا المبلغ فلماذا؟! ولما جاءك عبد الفتاح إسماعيل في المستشفى أرسلته ليأخذ المبلغ من الخزنة في منزلك ويسلمه للهضيبي فلماذا؟ قلت : لأنها أموال الدعوة الإسلامية، حق المسجونين المجاهدين الذين شردتم أسرهم وخفت عليها ولو مت سيأخذها الورثة وهى ليست ملكي، لكنها ملك الدعوة.

قال : هي ملك التنظيم حتى تشتروا بها سلاحا. والهضيبي قال إنه لا يعرف مصدر هذه الأموال ، إلا أنك أخذتها من زوجك .

وتدخلت النيابة وقال . سيد قطب يقول إنه قال لحميدة . بأن الضربة تكون شاملة وعلى أوسع مدى . أجبت : هذا لم يحدث . قال وكيل النيابة : وهل يكذب سيد قطب ؟ قلت : حاشا لله أن يكذب .

فانفتح وكيل النيابة كالمجرور القذر، وأخذتني الدهشة فلم اكن أتوقع أن أسمع هذه الألفاظ القذرة من النيابة في قاعة المحكمة . وهكذا استطاع الطاغوت أن يقضى على الكرامة والأخلاق في مصر؟!

انتهى الدجوي من سؤالي ومناقشتي فعدت إلى القفص ، وخرجت حميدة لتجيب على أسئلته . ولما فرغت من الأجوبة وعادت إلى القفص . ابتدأت مرافعة النيابة ولست أدرى إذا كان يجوز أن أسميها مرافعة . فقد هبطت فيها النيابة إلى درك أسفل من انحطاط اللفظ وقبحه ، وشنيع ما نطقت به من عبارات القذف في الأعراض والسباب للأبرياء . وكانت ظلمة تخيم على وجه المتكلم باسم النيابة وتمتد لتطمس المحكمة كلها. . وضاق صدري بالباطل المجسم في النيابة والمحكمة، فرفعت يدي أطلب الكلمة . فظن الدجوي المدعى أنه قاض ، وأني سأعتذر خوفا من باطلهم وتهديدهم وما طلبته النيابة من إعدامي لأن الأشغال الشاقة المؤبدة لا تكافئ جريمتي . . ونظر الدجوي نحوي والجهل يغطى وجهه وقال : تكلمي .

وقفت وقلت : "بسم الله الرحمن الرحيم . . نحن أمناء أمة وورثة كتاب وحماة شريعة، ولنا في رسول الله أسوة حسنة . وإننا لثابتون على الطريق حتى نرفع راية لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، وحتى تلتزم بها الأمة . وحسبنا الله ونعم الوكيل فيما افترى الظالمون . وأشرت إلى النيابة والمحكمة معا وأنا أردد : حسبنا الله ونعم الوكيل في هذا الباطل والبهتان والإثم المبين " . وأخذت الدجوي نوبة هستيرية فصار يصرخ : "أسكتي أسكتي هي بتقول إيه ؟ يعنى إيه (أسوة). إيه معناها الكلمة دي؟! ويكرر هذا . . وهنا ضجت القاعة بالضحك على ذلك الذي حكموا عليه أن يكون قاضيا وهو لا يفهم معنى كلمة "أسوة" وهكذا كان عبد الناصر ينتقي رجاله ! ! وهل يكون أعوانه الخاسرون إلا خاسرين ؟! !

جلست وأنا أقول : ما الجهل إلا مفسدة ولكل سوء مجلبة . ليشهد التاريخ على من يحاكموننا ويحكموننا. .

وانتهت الجلسة وعدنا إلى السجن وعاد كل منا إلى زنزانته بعد أن حاسبوني على ما قلت في المحكمة. .

أجهل من الجاهلية

واعتقدت أنه بمحاكمتي انتهت المتاعب بالنسبة لي، ولكنى فوجئت بأنهم يستدعونني للتحقيق مرة أخرى في المكاتب ، ويسألونني عن أشخاص ، فإذا أجبت بأني لا أعرفهم بدءوا معي التعذيب من جديد والوقوف ووجهي للحائط . وهكذا استمر التعذيب رغم انتهاء المحاكمة، فهل وقع هذا من محاكم التفتيش أو أي محاكم أخرى في التاريخ ؟ هل وقع في بداية الدعوة وفى ظلام جاهلية قريش ؟ اللهم لا ! ! والتاريخ يشهد .


النطق بالأحكام

جاء اليوم الموعود للنطق بالأحكام ، أخرجونا أنا وحميدة في عربة خلف عربة الرجال ومعنا الحرس ، وذهبنا لنستمع إلى الأحكام . أجلسونا في حجرة وانتظرنا إلى أن انتهى الحكم على الرجال فأدخلونا القاعة وكان أحد الضباط يجلس فيها، نادى اسمي ثم قال : زينب الغزالي الجبيلي أشغال شاقة مؤبدة25 عاما مع مصادرة المضبوطات . قلت : الله اكبر ولله الحمد، في سبيل الله وفى سبيل دعوة الحق ، دعوة الإسلام ، ! ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) آل عمران

ثم نادى حميدة قطب وقال : عشر سنوات أشغال شاقة، فضممتها إلى صدري وأنا أردد : الله اكبر ولله الحمد، في سبيل دولة القران ، الحاكمة بالقرآن والسنة إن شاء الله.

وصرنا نردد هذا حتى وصلنا إلى حوش المحكمة ، فوجدنا الإخوان في العربات ، وكنا قلقين نريد أن نطمئن على أحكامهم ، فلما رأونا صاحوا سائلين : إيه يا أخت زينب ؟!

قلت :25 سنة أشغال شاقة مؤبدة في سبيل دولة الإسلام الحاكمة بالقرآن والسنة إن شاء الله .

عادوا يسألون : والأخت حميدة؟ قلت : عشر سنوات أشغال في سبيل الله ودعوة الإسلام .

وسألتهم عن أحكام الأخ سيد قطب والأخ عبد الفتاح إسماعيل ويوسف هواش وبقية الإخوة.

فقالوا: شهداء في سبيل الله ! ففهمت أنه إعدام وقلت : اللهم تقبل في سبيل دولة الإسلام الحاكمة بالقرآن والسنة إن شاء الله .

وجاء صفوت الروبي ومعه عساكر من السجن الحربي وعساكر من البوليس فأخذوني وحميدة بالقوة إلى عربة صغيرة وجاء الصحفيون ليصورونا، وهجمت على آلة تصوير أحدهم أريد تكسيرها. . صائحة فيهم : يا مصفقون لكل ظالم ' يا آكلي السحت على موائد الطواغيت ، ماذا تفعلون ؟

وعدنا إلى السجن وجرت المحاسبة على ما صدر. ومنذ هذا التاريخ بعد صدور الأحكام جمعونا أنا وحميدة قطب في زنزانة واحدة .


لحظات في رضوان الله

وبعد الحكم بخمسة أيام طرق باب الزنزانة وفتح ودخل علينا الأخ سيد قطب ومعه الضابط أركان حرب السجن – ويدعى إبراهيم – وصفوت الروبي . وانصرف الضابط وبقى صفوت والأخ سيد قطب . قلت : مرحبا يا أخ سيد، هذه مفاجأة سارة وغالية علينا جدا، إنها لحظات من رضوان الله أن تجلس إلينا .

وجلس يتحدث إلينا عن الآجال ومواعيدها وأنها بيد الله ولا أحد يتحكم فيها إلا الله ، وأمرنا بالرضا والتسليم ، وكان الحديث عن الرضاء بقضاء الله ، وأسر إلى حميدة ببعض كلمات ، كما أسر لي ببعض كلمات أيضا .

وهنا غضب صفوت وزمجر وأنهى المقابلة . وهكذا الطغاة لا يستطيعون ممارسة الخير في أي لحظة من حياتهم . ونظر إلينا الإمام الشهيد وقال : ما علينا. . فلنوطن أنفسنا على الصبر. . وسلم علينا وانصرف . .


المساومة الأخيرة قبل الإعدام

طلب الطغاة حميدة ليلة تنفيذ الحكم بالإعدام . وسأتركها تقص علينا ما جرى .

قالت: استدعاني حمزة البسيوني إلى مكتبه ، وأراني حكم الإعدام ، والتصديق عليه . ثم قال لي : إن الحكومة مستعدة أن تخفف هذا الحكم إذا كان شقيقي يجيبهم إلى ما يطلبون ، ثم أردف قائلا : إن شقيقك خسارة لمصر كلها وليس لك وحدك ، إنني غير متصور أن نفقد هذا الشخص بعد ساعات ، إننا نريد أن ننقذه من الإعدام بأي شكل وبأي وسيلة. إن بضع كلمات يقولها ستخلصه من حكم الإعدام . ولا أحد يستطيع أن يؤثر عليه إلا أنت ، أنت وحدك مكلفة بأن تقولي له هذا. . أنا مكلف بأن أبلغه هذا ولكن لا أحد أفضل منك في تبليغه هذا الأمر. بضع كلمات يقولها وينتهي كل شيء! نريد أن يقول : إن هذه الحركات كانت على صلة بجهة ما، وبعد ذلك تنتهي القضية بالنسبة لك ، أما هو فسيفرج عنه بعفو صحي .

قلت له : ولكنك تعلم - كما يعلم عبد الناصر - أن هذه الحركة ليست على صلة بأي جهة من الجهات .

قال حمزة البسيوني: أنا عارف وكلنا عارفون أنكم الجهة الوحيدة في مصر التي تعمل من أجل العقيدة، نحن عارفون أنكم أحسن ناس في البلد، ولكننا نريد أن نخلص سيد قطب من الإعدام .

قلت له : إذا كان سيادتك عاوز تبلغه هذا فلا مانع !

فنظر إلى صفوت وقال : خذها يا صفوت إلى أخيها. وذهبت إلى شقيقي وسلمت عليه وبلغته ما يريدون منه ، فنظر إلى ليرى أثر ذلك على وجهي، وكأنه يقول : "أنت التي تطلبين أم هم ؟ واستطعت أن أفهمه بالإشارة أنهم هم الذين يقولون ذلك .

وهنا نظر إلى وقال : "والله لو كان هذا الكلام صحيحا لقلته ولما استطاعت قوة على وجه الأرض أن تمنعني من قوله . ولكنه لم يحدث وأنا لا أقول كذبا أبدا" . سأل صفوت : يعنى ده رأيك ؟ أجاب بقوله : نعم . فتركنا صفوت وقال : على العموم تقدروا تقعدوا مع بعض شويه . . وانصرف وأفهمت أخي الحكاية من أولها، وقلت له : إن حمزة استدعاني وأراني تنفيذ حكم الإعدام. وطلب منى أن أطلب منك هذا الطلب . سال : وأنت ترضين ذلك ؟ قلت : لا. قال : إنهم لا يستطيعون ضرا ولا نفعا. إن الأعمار بيد بالله ، وهم لا يستطيعون التحكم في حياتي ولا يستطيعون إطالة الأعمار ولا تقصيرها، كل ذلك بيد الله . والله من ورائهم محيط .


ونفذ الطاغوت أحكامه

وبعد أيام سمعنا عن تنفيذ الأحكام بالإعدام في الإمام الشهيد سيد قطب والشهيد عبد الفتاح إسماعيل ، والشهيد محمد هواش . ووقع علينا إعدام سيد قطب وأخويه موقع الصاعقة، فالكل كريم عزيز مجاهد" وشقيقة سيدة تقيم معي في الزنزانة، كيف أواسيها؟ كيف أخفف عنها؟ ما الذي أستطيع أن أفعله ؟ بل كيف أخفف عن نفسي؟ وبماذا أواسى نفسي في هذا المصاب ؟ إن الحادث جلل ،والمصاب فادح ، فإعدام سيد قطب وأخويه في الله والجهاد ليس بالأمر الهين ! . .

سيد قطب مفسر القرآن، الداعية الإسلامي، الحكيم في فهمه وبيانه وصفاء منهجه ، وقوة حجته ، المتمسك بدينه ، الواثق بنصر الله !

أليس هو صاحب التفسير العظيم "في ظلال القران ) الذي فتح بابا جديدا للتفكير في كتاب الله والوقوف عند أحكامه ، وبين كيف يكون الالتزام ؟! سيد قطب الذي وضح في مقدمة سورة الأنعام : أين الطريق ؟ سيد قطب . . صاحب : هذا الدين ، والعدالة الاجتماعية، والمستقبل لهذا الدين ، والتصوير الفني في القرآن ، ومشاهد القيامة ، وما يربو على العشرين كتابا في كل معرفة من علوم القرآن ! إن الكلمات لا تسعف في المواساة في مثل هذا الحادث .

اقرأوا "المعالم التعرفوا لماذا حكم عليه بالإعدام !

إن البعث الإسلامي في القوتين العظميين هو ما يركز عليه الشهيد سيد قطب . ومعنى ذلك أن تنتهي دولة القوتين العظميين وأن تحكم الشريعة العالم ' لا تلك الهمجية الجاهلية. نعم . إن بعث الإسلام معناه إنهاء قوة الأمريكان والروس وأن تقوم القوة الشرعية صاحبة الحق الشرعي في حكم هذا العالم ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) آل عمران : 110 . . وستقوم بإذن الله ( والله متم نوره ولو كره الكافرون ) الصف : 8 .

الأيام الأخيرة بعد الأحكام في السجن الحربي

يوم تنفيذ الأحكام رأيت سيد قطب في سنة خفيفة بعد صلاة الفجر. فقال لي : إعلمي أني لم أكن معهم ، أنا كنت في المدينة مع حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وتنبهت فحكيت لحميدة .

وفى صبيحة اليوم الثاني لتنفيذ أحكام الإعدام ، أخذتني سنة من النوم كذلك بعد صلاة الفجر، وأنا أتلو أذكار ختم الصلاة، فسمعت صوتا يقول لي: سيد في الفردوس الأعلى ورفقته في عليين .

تنبهت وحكيت لحميدة فانهمرت دموعها وقالت : أنا على ثقة من فضل الله علينا وبأنه إن شاء الله في الفردوس الأعلى .

قلت لها: وهذه الرؤى تثبيت من الله سبحانه وتعالى ومواساة . نعم ونفذ أمر الله وعشنا في شدة قل أن يحتملها بشر، وظننا أننا سنعيش في صمت نضمد الجراح لا تلاحقنا فيه قسوة الاستجوابات والتحقيقات . فقد انتهت المعركة الفاجرة بعد الأحكام وتنفيذها. ولكن كيف ! ! فما زال الفجار يطلبونني للمكاتب وأترك حميدة نهبا للألم والقلق والانتظار الخائف القلق حتى أعود إليها فتسألني، فأحكي لها أن الطغاة قبضوا على مسلمين جدد وأنهم يسألونني عن أسماء لا أعرفها، ويريدون أن يلفقوا لي قضية أخرى فحكم المؤبد لا يكفيهم . نعم عشنا بعد الأحكام وتنفيذها في السجن الحربي مهددين ، لم ترتفع عن حياتنا ظلال التهديد والتعذيب . لكنا وجدنا في القران خير سكن فعشنا معه وصدق الله ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) الرعد : 128 ، وطلبنا أن يصرحوا لنا بقراءة الجرائد وأمر حمزة بإحضارها لنا على حساب أماناتنا في السجن ، وجاءتنا الجرائد فخففت من قسوة الانقطاع ووصلتنا بأخبار الأحياء خارج الأسوار ! .

عشنا في السجن الحربي نلوك شدة قسوة الأيام وتهديدات المكاتب ، فلم تنقطع المؤامرات على حكم عبد الناصر وكلما وجدوا مشتركا في مؤامرة عسكرية سألوا زينب الغزالي هل تعرفه ، وتكررت صور الإرهاب والتهديد ، فلم تكن تمر أيام إلا ومؤامرة عسكرية جديدة ، والويل لزينب الغزالي إذا كان بالمؤامرة مدني! ! .


ومات زوجي

عقب رجوعي من سماع الأحكام طلبت من حمزة البسيوني أن يرسل لزوجي لأنني أريد مقابلته ، ولما لم يحضر كررت طلبي، فطلبوني في المكتب وسألوني عن سبب إلحاحي فقلت : لقد حكم على بالسجن 25 سنة وأنا أريد أن أبلغه أنني أعفيه من التمسك برباط الزوجية ليكون حرا بعد ذلك في تصرفه . أجاب حمزة في غلظة : سيعملها جمال عبد الناصر، ما أعدمكيشي . لكن حا يموتك بالتدريج ! . . . قلت : الله الفعال ، وعبد الناصر وأنتم والدنيا كلها مجتمعة لا تستطيع أن تسقط ورقة من شجرة إلا بإذن الله .

قال : نحن سنأتي لك قريبا بورقة الطلاق . خرجت وأنا أقول : أنتم وحوش .

وعدت إلى الزنزانة ، ومرت أيام قاسية ، وفى يوم كنت أصلى الفجر وأتلو القرآن فأخذتني سنة من النوم ، فرأيت فيما يرى النائم صورة زوجي في صفحة الوفيات وأنا أقرأ نعيه ، انتبهت وأنا أردد : اللهم لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه !

ووجدت حميدة تردد نفس الدعاء، دهشت لكنى كتمت عنها ما رأيت ، وتكررت الرؤيا .

ووصلتنا الجرائد صباح يوم جمعة فأخذت أتصفحها، وإذا بي أجد نعى زوجي . قلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد! رسول الله ، إنا لله وإنا إليه راجعون . في الجنة إن شاء الله يا حاج محمد! .

توفى زوجي . . ولقي ربه ، يحمل بين يديه سجلاً حافلاً بفجور الطغاة، يعرضه عليه سبحانه ، الحي القيوم ، الديان ، مالك السماوات والأرض . لقد حمله الطغاة، وهو على فراش المرض ومصابا بالذبحة الصدرية، إلى السجن ، وقد ساوموه على حريته نظير أن يدلي بأقوال معينة ضدي . . أنا زوجته ! ! فلما رفض نقلوه إلى سجن انفرادي، فيا للعار! ! لقد آثر أن يلقى سالم محمد سالم فوق إسفلت الزنزانة، وأن يظل كذلك حتى تهددت حياته بالخطر، وطلب طبيب السجن الحربي "دكتور ماجد" ضرورة الإفراج عنه لخطورة الحالة .

وقد شاء الله له أن يفرج عنه ، وأن يعيش ، حتى يسمع الأحكام التي تصم العهد بالوحشية والظلم والبربرية . . فعاوده المرض ولقي ربه ، يشكو إليه في أعلى سماواته ظلم الطغاة وفجورهم على أرضه . ومرت أيام وجاءت الأسرة لزيارتي، ومنها علمت أن جمال عبد الناصر وجنده خيروا الرجل الطيب الإنسان الفاضل زوجي المرحوم الحاج محمد سالم سالم بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يطلق زينب الغزالي الجبيلي أو أن ينقل إلى السجن الحربي، وطلب منهم مهلة أسبوعين يفكر . فأصروا على الاختيار فورا، وكان معهم المدعو أبو الوفا دنقل يهدد الحاج محمد بتنفيذ أمر عبد الناصر، بل إن الفجور بلغ برجال المباحث أنهم أحضروا المأذون معهم ليجري الطلاق .

وقع زوجي على ما كتبوا له وهو يقول : اللهم اشهد إنني لم أطلق زوجتي زينب الغزالي الجبيلي . كما قال لهم : أنا سأموت ، اتركوني أموت بكرامتي، أنا سأموت وهى على عصمتي، حصل ذلك ولأن زوجي مريض ، أصيب بعد سماع الأحكام بشلل نصفي، وكان من قبل مصابا بذبحة نتيجة استيلاء عبد الناصر على شركاته وأمواله وأرضه وبيته . . فحسبنا الله ونعم الوكيل .

ولم يطل به الأمر، فقد توفى رحمه الله بعد توقيعه على الطلاق . وسمعت الأسرة وقالت شقيقتي : إنها لما سمعت بما حدث غضبت ورفعت صورة للحاج كانت في حجرة الصالون .

وغضبت منها وطلبت أن تعاد الصورة . فزوجي كان أخي في الله قبل أن يكون زوجي، وبيتي سيبقى بيته مادمت على قيد الحياة. لقد جمعت بيننا العقيدة قبل أن يجمع الزواج ، والزواج عرض من أعراض الحياة ، ولكن الأخوة في الله باقية خالدة لا تزول ولا تقاس بها الدنيا وما فيها، وعرفت أيضا من الأسرة أنها قد حضرت منذ اللحظة الأولى للوفاة واشتركت في تشييع الجنازة والعزاء قامت بما عليها من واجب وأحسست بشيء من الراحة لذلك .

وحين خلوت إلى نفسي تذكرت رؤيا من الله على بها إذ رأيت حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وأرخت لها بين سطور المصحف الذي كنت أقرأ فيه ، وعدت إلى التاريخ فوجدته مطابقا لتاريخ حادث الطلاق . نعم رأيـت حضـرة النبي عليه الصلاة والسلام يمشى بملابس بيـضاء وخلفه مباشرة حسن الهضيبي بملابس بيضاء وعلى رأسه طاقية . وأنا أقف ومعي السيدة عائشة ومعها عدد من النساء، وقع في نفسي أنهن وصيفاتها، وكانت السيدة توصيني بكلمات ، فلما أصبح الرسول عليه السلام في محاذاتنا نادى عائشة، وقال لها : صبرا يا عائشة، صبرا يا عائشة، صبرا يا عائشة، وكانت حقا عائشة رضى الله عنها تشد يدي كل مرة وتوصيني بالصبر! .

قمت وحكيت الرؤيا لحميدة ، وأخذت أسال الله أن يرزقني الرضا والاحتمال ، وتيقنت أن اختبارا جديدا في طريقه إلى ، فأخذت أضرع إلى الله أن يمنحني عونه وصبره وثباتا منه سبحانه وتعالى، إنه مجيب الدعوات .

وانضم إلينا جيران جدد وفى ليلة من ليالي الشتاء الباردة سمعنا ضجة وجلبة في الزنزانة المقابلة. وفتحت زنزانتنا ودخل صلاح التمرجي وطلب منا دواء ضد القيء كان قد أدخله لنا في الصباح ، وأعطيناه الدواء .

وعلمنا منه في اليوم التالي أن المسجون في الزنزانة المقابلة رئيس وزراء اليمن ومعه عشرون آخرون من رجال الحكم هناك ، وأن الشيخ الإريانى في الزنزانة المجاورة، لم ندهش لذلك ، فليس ثمة شيء يدهش ، وكما يقال من يعش رجبا يرى عجبا!!

هل حرر عبد الناصر اليمن بما فعل كما قالت أبواق دعايته ؟

هل سمعتم أن إنجلترا عندما استعمرت مصر، أخذت عشرات من رجالها إلى سجون لندن ؟ هل حملت بوارج بونابرت إلى سجون باريس رجال مصر بعد حملتها عليها؟


يجب أن يحاكم عبد الناصر

هل لي أن أتساءل لما لم يحاكم عبد الناصر على ما ارتكب من جرائم لتستطيع مصر أن تواجه التاريخ وتقف ورأسها مرفوع ؟ .

إن الأمر لجد خطير إن لم تبرأ مصر من جرائم وقعت في عهد عبد الناصر .

والى أن يأتي ذلك اليوم فستظل مصر كلها مسئولة عن جرائمه ؟ اللهم إلا الجماعة الإسلامية – جماعة الإخوان المسلمين – التي برئت إلى الله ورفعت صوتها عاليا باستنكار جرائمه ، لقد خدعها في أيام الحركة الأولى فأيدته ، ولما علمت من هو، ولمن عمالته قررت في عزمة الإيمان أن تقاومه ، وكانت معركة الشرف بين الحق والباطل سنة 1954 ، ثم معركة المجد سنة1965 ، نعم كانت معركة65 معركة مجد وشرف ، لبعث الإسلام شامخا قويا، بعد أن خيل للطاغوت أن دعوة الإخوان أصبحت تاريخا يروى وعملا سدلت عليه الأستار، وقصصا تلوكها الألسنة وبعض رجال خلف قضبان السجون .

كانت معركة1965 وثبة الأشبال ونهضة الشباب من الجيل الذي ولد في أيام انقلاب عبد الناصر وصب به كل ما يملك من سموم إعلامه وصناع حكمه . نعم ذلك الجيل الذي استوعبناه وبنينا به بعثتنا للدعوة ونظمنا به صفوفنا من جديد، فجن جنون عبد الناصر؟ فقد سلبته امرأة ورجل جيله كما كان يصيح فيمن حوله ، كانت المرأة أنا وكان الرجل عبد الفتاح عبده إسماعيل .

نعم أخذنا من جيله ذلك الفخار من شبابنا فبنيناه للإسلام ، وكانت معركة دفعنا فيها أغلى رجال الدعوة: سيد قطب الإمام الفقيه ، وعبد الفتاح إسماعيل رجل في أمة وأمة في رجل ، ومحمد هواش ذلك العملاق في الدعوة وفقهها .

وانتهت أيام السجن الحربي ، والإخوان المسلمون كالطود الشامخ شرفا ورجولة ومجدا . أما عبد الناصر فسجل خزيه يوم حملتنا عرباته وعساكره في الخامس من يونيه من السجون الحربية إلى السجون المدنية لتفسح المجال لمن امتلأت بهم السجون من طغمته ، يستر بهم عاره ويخفى بهم عمالته ، ليستطيع أن يكمل المشوار إلى حيث يتم تنفيذ خطة الأسياد نعم جاء الخامس من يونيو بخزيه وعاره اللذين سيكبلان فرعون القرن العشرين ذلك "الذي طغى في البلاد . فأكثر فيها الفساد" سيكلله بخزيه وعاره يوم يبعث للحساب .



الباب السابع : الانتقال إلى سجن القناطر 5 يونيو

قبل هذا اليوم لن ينساه أحد. في يومي 3، 4 يونيو تكرر فتح الزنزانة علينا بغير سبب وبدون مناسبة . وليوجه إلينا سؤال إن كنا نريد شيئا. . ثم تدور أحاديث موجهة عن الحرب والحديث عن عظمة المنادى بتحرير فلسطين والعرب ! !

وكنا نظل في صمتنا وسكوتنا . . وذات مرة كان المتحدث هو الطبيب . فتساءلت : هل سنحرر فلسطين ؟! فاحمر وجهه غضبا لغير الله وسأل : يعنى إيه ؟ قلت : ما دامت الصهيونية العالمية توجه أساليب الحكم للقوتين العظميين فلن يكون على الحاكمين بأمر هاتين القوتين إلا التنفيذ. . ولن تحرر فلسطين إلا بالإسلام ، يوم يحكم بالإسلام ستحرر فلسطين ! .

وجاء صباح الخامس من يونيو ولم تفتح الزنزانات . . وفجأة فتح باب الزنزانة مارد أسود من العساكر وصاح : لقد انتصر عبد الناصر يا ولاد الـــــــــ . وخرج كما دخل ليأتي غيره بعد مهلة يشتمنا وينقل إلينا أخبار الانتصار وإسقاط الطائرات بأعدادها ، ويخرج ليدخل ثالث بعد فترة فيروي أخبار الزعيم الهمام وانتصاراته . . ورابع . . وخامس . . ونحن في صمت لا نجيب . ومع أذان العصر فتحت الزنزانة ودخل صفوت الروبي في وحشية وأخذ يضربني بحذاء غليظ فقد كان بملابس الميدان ، كان يأخذني بيديه ويرميني إلى الحائط ثم ينزل بحذائه الغليظ على جسدي ركلا وهو يقول : إحنا انتصرنا يا بنت الـ . . . ووقفت حميدة وهى تقول : ليه. .؟! والمجرم لا يكف عن ضربي حتى الإغماء فتركني وأخذ يأمر العساكر المصاحبين له برمي حاجياتنا خارج الزنزانة، ثم عاد إلى ضربي . بعد ذلك أخرجنا من الزنزانة وساقنا وهو يكيل لي السباب قائلاً : انتصرنا . انتصرنا غصب عنك وموتك حل دلوقت (كان ذلك عصر 5 يونيو سنة 1967 ) وأصعدوني وحميدة عربة جيش مصفحة مملوءة بالحرس من ضباط وعسكر . وخرجت السيارة من السجن الحربي، وكان أركان حرب السجن بجانب سائق السيارة، وصرت في غير وعى ومن غير تفكير من قسوة الضرب أردد : حسبنا الله ونعم الوكيل ، كنت أرددها بصوت مرتفع جدا. وأحسست أن السماء والأرض وكل الكون ينطق معي ويشكو إلى الله . وكنت كلما نبهتني حميدة لأصمت أخذتني غيبوبة وصرت أردد: حسبنا الله ونعم الوكيل . وكنت أحس وأسمع الكون ينطق بها معي . .

كنت على يقين من أنني مسوقة إلى الإعدام كما ذكر صفوت وهو يفهمني في الزنزانة، فانصرفت إلى الله بكل مشاعري وأنا أتلو ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) التوبة ، وقوله تعالى : ( وما جعل لبشر من قبلك الخلد ) الأنبياء: 34

وأتمثل قول القائل :

ولست أبالي حين أقتل مسلما

على أي جنب كان في الله مصرعي

وقول القائل :

أقول لها وقد طارت شعاعا

من الأبطال ويحك لن تراعى

فإنك إن طلبت بقاء يوم

على الأجل الذي لك لم تطاعي

فصبرا في مجال الموت صبرا

فما نيل الخلود بمستطاع

وفجأة وقفت العربة وأخذت حميدة تهزني وفتحت عيني، فإذا نحن أمام سجن القناطر للنساء.

ليلة عذاب نفسي وابتلعتنا بوابة السجن وأدخلنا حجرة المأمور . وفتشت حقائبنا تفتيشا دقيقا . كان الوقت ليلا . وأخذتنا امرأة يقال لها (باش سجانة) تدعى عنايات إلى حجرة بجوار حجرة المأمور، وهناك فتشونا مرة أخرى وألبسونا ملابس السجن وأدخلنا حجرة ليس لها باب غير أعمدة حديدية متفرقة، بها سرير من طابقين : الطابق الأول تالف ، والثاني عليه وسادة مهلهلة . وكانت الحجرة مطلة على صالة بها ثلاثة عنابر فيها نساء، علمت بعد ذلك أن أحكاما قد صدرت عليهن بسبب السرقة وتجارة المخدرات والسلوك المنحرف . . والقتل . . وكان النوم يداعب جفوننا وما يكاد يلامسها حتى يفارقها . . الليل ضارب أطنابه . . والظلام يكسو المكان بوحشته ، والنفوس أشربت الرذيلة ، والعنابر أغلقت بما فيها من سوء، فظهر الانحطاط الخلقي وظهرت المستنقعات الآسنة بالرذائل ، فهوت البشرية إلى أبعاد سحيقة انحدرت بالإنسان عن آدميته . وهكذا مر الليل بساعاته الطويلة ونحن نرى ونسمع ما يؤذى النفوس ويجرح المشاعر . وقضينا تلك الساعات الطويلة في ذكر الله تعالى نذكره ونسبحه ونتلو آياته ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) الرعد : 128.

وما كاد يبزغ ويشرق النهار بضوئه حتى سرت طمأنينة إلى نفوسنا، وتضرعنا إلى ربنا سبحانه سائلين متوسلين أن يجعل لنا فرجا ومخرجا.

ولن أنسى هذه الليلة فقد كانت ليلة شديدة وقاسية وان لم يكن بها سياط . وظلت ابنتي حميدة تبكى حتى أغمي عليها وكنت أحاول التخفيف عنها. وأقول لها إننا حملة أمانة، وأصحاب رسالة، فلابد من الصبر والتحمل . . تحمل مشاق الطريق والصبر على ما نرى وما يجرى علينا، وأجرنا على الله . .

إن كل ما أصابنا في السجن الحربي من إهانة للنفس ، وضرب بالسياط وتمزيق الأبدان ، وتنكيل وبطش بل وقتل وتجويع وعطش و . إن كل ذلك لا يساوى ما رأينا وسمعنا في هذه الليلة التي عشناها وأمامنا ذلك القطيع الضال من عالم البشر التائه في سراديب الجاهلية . ذلك القطيع من عالم المرأة المسكينة التي يقال لها إنها تحررت ، فصارت عبدا للشهوات والأهواء وأصبحت الجريمة حرفتها فأغرقتها، فنسيت إنسانيتها وطهرها وعفافها ومكارمها فغدت حيوانا لا يعرف معنى للحياة إلا لشهوة الفم والفرج !!

كبهيمة عمياء قاد زمامها. . أعمى على عوج الطريق ، فضلت وأصبح هواها يقودها إلى مهاوي الرذيلة وساعدها في ذلك المفسدون في الأرض أهل الباطل والإلحاد . وقوى الشر والإجرام . . وفى هذا الجو المشحون بالأهواء والمفاسد والظلم والظلمات ، انطلق نداء الفجر، فبدد بإشراقة الصباح تلك الغيوم السوداء فتوجهنا إلى الرحمن الرحيم فصلينا ودعوناه راجين فرجه ورضوانه . . !


صراع من نوع جديد

وجاء وقت فتح العنابر بعد ساعات وطلبت من السجانة مقابلة المأمور وعادت بعد ساعة تدعونا إلى مكتب المأمور . . صراع من نوع جديد دخلت أنا وحميدة على المأمور فقال لنا : الكانتين ممنوع والزيارة ممنوعة، وليس لكما أي حق من حقوق المساجين . أنتما (تكدير) حتى نؤمر بأوامر أخرى . فاهمين !

قلت له : إننا لم نطلب مقابلتك لهذا الأمر ولكن جئنا لنسألك . . فقال مقاطعا: أنتم طلبتم مقابلتي؟ قلت : نعم ، إننا نطلب تغيير الزنزانة.

وطلبت حميدة : حجرة لها باب لا قفص حيوانات .

قال : إيه الكلام ده ؟ حا نرجعكم إلى السجن الحربي تاني وتشوفوا اللي شفتوه ؟! قلت : نحن لا نستطيع البقاء في هذا المكان الذي لا يليق بالحيوان . قال المأمور: أنا مأمور وده سجن. وأنتم مسجونون . وما فيش غير كده . ثم وقف وصاح اتفضلوا اخرجوا!

قلت : سنظل في فناء السجن ولن نعود إلى هذه الحجرة أبدا . . وليكن ما يكون . .

قال : السجن سجن وإذا ما كنتوش حا تنفذوا الأمر سنطلق عليكم الرصاص فورا. قلت : القتل أهون من هذا العيش والآجال بيد الله سبحانه ، وقتلكم لنا شهادة . فأخرجنا من مكتبه وتركنا في حوش السجن . وبعد فترة نادى المأمور الباش سجانة قائلا لها : وديهم يا سعاد على الملاحظة .

وقالت سعاد : ألف مبروك حا تقعدوا في الملاحظة. وصعدنا درجات لسلم الملاحظة، ودخلنا إلى عنبر واسع به عشرون سريرا للسجينات ، وبعد ساعة جاءت السجانة المختصة بالملاحظة وقالت تعالوا، الإيراد جه ، ولم نفهم مقصدها، غير أنها أخذتنا وأوقفتنا في صف من النساء يسمى الإيراد . والإيراد هو قطيع من البشر الحائر في مجتمع ضاعت فيه القيم والمعاني فهوى إلى الرذيلة، إلى هوة سحيقة ، فجيء به إلى السجون . . وسمعت السجانة تقف على باب حجرة وتصيح : الإيراد النهاردة خمسة وأربعين ، خمسة وعشرين تسول ، خمستاشر دعارة ، وثلاثة سرقة واثنين سياسيين . . تعنى بالسياسيين أنا وحميدة .

خرجنا من ذلك الطابور ، وأخذت حميدة معي فقالت السجانة رايحين فين ؟! انتظروا لما ييجي دوركم . قلت لها : سنقف وحدنا، ولسنا من هذا الإيراد قالت : بتقولي إيه يا ادلعدي؟ قلت : سنقف وحدنا. قالت : معلهش ، ودول مش خلق الله زيكم ؟! لم أجبها ولزمنا الصمت ، أخذت السجانة في إدخال البشرية الضالة إلى حجرة ثم جاءت إلينا تقول : الست الدكتورة أمرت أن تجلسوا حتى تنتهي وتدخلوا إليها . ولما فرغت الطبيبة استدعتنا ودخلنا فسألتنا عن الاسم والسن وما نشكو منه ، ثم أخذونا إلى حجرة وأغلقوا علينا بابها . ولم يمض وقت طويل حتى ارتفع الصراخ وعلا البكاء وساد الجميع حزن ووجوم وتحسسنا الخبر حدث ؟! قالوا : النكسة !

وحدثتني نفسي حديثا طويلا: وأي نكسة تلك يا ترى ؟! من لك أيها الشعب المسكين ! ما اكثر نكساتك ! لقد تعددت فما أعظمها ! وما أعمقها وما أقساها! لقد أصابت شعبنا نكسات ونكسات : نكسة في الخلق . نكسة في الرجال . نكسة في . . ، وأخيرا نكسة 5 يونيو!!!

وكانت طامة كبرى ، جعلت عبدة القردة والخنازير وأذلاء الأرض المغضوب عليهم من السماء إخوة الشياطين ، جعلتهم النكسة يستعمرون أرضا عربية ويحكمون أهلها ويذيقونهم من العذاب أصنافا، ومن ألوان البطش والتنكيل ما تمتلئ به نفس يهودية حقيرة ذليلة . . واستطرد حديث نفسي : ما هذا الذي نعيشه ونحياه ؟! الإسلام – القوة والعزة والكرامة – يقتل ، ويقتل أبناؤه ولا يسمح لهم بالحياة ولا حتى أن يتنسموا نسيمها أو ينبتوا ولو رويدا رويدا . قتلوا الإسلام وأصحابه فقتلوا الرجال والعزة والمنعة. هؤلاء الرجال . حقا هم الذين بفضل الله تعالى يقهرون الباطل وأهله ، مهما تعددت أنواعه وتغيرت أشكاله واختلفت صوره وأسماؤه . بهم تعلو الأرض العزة والكرامة، وتغدو البشرية لربها خاضعة عابدة تتنسم عبير الطاعة وتسلم البشرية لربها راضية، تسلك طريق العبودية ذللا، وتستجيب لنداء الحق مهما كانت تكاليفه ومهما كانت تضحياته . أسمع من حولي يتهامسون ، لا تتهامسوا ولا تتناجوا وكونوا صرحاء أقوياء .

إن النكسة بما كسبت أيديكم ، واتخذتم كتاب الله تعالى وراءكم ظهريا . والله لو نصرنا الله لنصرنا . . لو نصرناه بإسلام وجوهنا وقلوبنا إليه ، لو نصرناه باتباع شرعه القويم ونهجه المستقيم ، لو نصرناه بالمسارعة إلى محابه ومراضيه واجتناب نواهيه . لو نصرناه . . والله لو نصرناه لنصرنا : لنصرنا برضوانه علينا. لنصرنا بالتمكين في الأرض والخلافة عنه سبحانه . لنصرنا على قوى الأرض الباطلة الحائدة عن طريقه المستقيم ، فبكتاب الله وسنة رسوله تنصرون وتمكنون في الأرض ، وتسعدون في الدارين دنيا وآخرة . ففي طاعة الله العزة والسعادة والنصر والغلبة والتمكين وجنات النعيم في الفردوس الأعلى عند رب العالمين . ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) محمد : 17 . . ومن قول سيدنا عمر: ". . وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله . ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم ، ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة . .". وببعدكم عن الكتاب والسنة : تهزمون وتشقون ، وتزلون وتكون النكسة . بل ونكسات . ففي معصية الله الذل والبؤس والهوان والضعف والجحيم والعذاب المقيم . ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ) . .

وتجول نفسي في معان كثيرة، ويساعدها على ذلك الواقع المر والحاضر الأليم يساعدها على استرسالها ويحز ذلك في نفسي إشفاقا ولوعة، وحزنا و أسى.

وتستيقظ نفسي من حديثها على نداء ابنتي حميدة، فأجد نفسي أجلس بجوارها في حجرة مغلقة علينا، ويصل إلى سمعي ذلك الصياح والبكاء على حامى الإسلام ! عشنا في هذه الحجرة مغلقا بابها إلا لماما، لا ندرى شيئاً مما حولنا. وفى ذات يوم استطعنا أن نحصل على حين غفلة من الحارسة على علبة سجائر، فكانت هذه العلبة مفتاحا سحريا لقلب السجانة الغليظة القلب .

وبها فتح لنا باب الزنزانة مدة أطول فتمكنا أن نتبين ما يدور حولنا . . كان بجوار حجرتنا حجرة تسكنها امرأة مع طفلها الذي لا يعلم له أبا، وأمامنا امرأة أخرى تقضى أيامها الأخيرة في مرض السل نتيجة سلوكها المشين ، وبجوار هذه الحجرة عنبر فسيح يحوى ألوانا من الأمراض المزمنة المعدية، وفى نهاية المبنى من ناحية تقع دورة مياه صرح لنا بالذهاب إليها مخالطين لهذه البشرية المريضة بمرض الجاهلية والأمراض البدنية المعدية . وفى الناحية الأخرى من المبنى توجد بعض النساء اللائى لم نعرف جنسيتهن في حجرات نظيفة مفروشة مزينة وتوجد في هذه الناحية أيضا دورة مياه صحية .

علمنا ذلك كله لأن كل من هنا يسمون ذلك الجانب "الهيلتون " .

كان الجوع قد أخذ منا مأخذا شديدا حين أهدتنا إحدى المسجونات قليلا من الطعام ، كان لإهدائه أثر جميل جدا في قلوبنا. فقد أحسسنا بأن الغابة على وحشيتها وحيوانيتها لم تخل من إنسانية. طلبنا من السجانة السماح لنا بالذهاب إلى دورة المياه الثانية لنظافتها وخلوها من الألفاظ الجارحة والعبارات النابية، فقالت السجانة : دورة المياه الثانية خاصة بالست الدكتورة واليهود . . فسألها متعجبة مستفسرة تقولين : يهود؟

قالت : نعم ستات يهود. مدام مرسيل ، مدام لوسي، وهم كثير . . قاعدين ومتنزهين ، لا أحد يقول لهم كلمة ولا يؤخر لهم طلبا. زي البيت وأحسن شوية، كلهم جايين في تجسس . ثم قالت : كلموا الست الدكتورة يمكن يسمحوا لكم بالذهاب إليها .

وبعد أخذ ورد في هذا الأمر بيننا وبين المأمور انتهى برفض طلبنا متعللا بأن ذلك خاص باليهود! . .

رأينا من ألد الأعداء . . إنسانية !

أسلمنا أمرنا لله تعالى وانشغلنا به سبحانه وبتلاوة آياته الكريمة . وبينما أعيش مع ابنتي حميدة تلك اللحظات الربانية دخلت سيدة طويلة القامة شقراء، وألقت علينا التحية فرددنا التحية، ثم قالت حضرتك زينب الغزالي قلت : نعم ، قالت : أنا مرسيل مسجونة سياسية وطبعا - بيننا وبينكم خلاف في العقيدة، فأنا يهودية وأنتم مسلمون ، ولكن النفس لا تخلو من إنسانية، خاصة وقت الشدائد والمحن - فلا مانع أن تكون بيننا وبينكم معاملة طيبة في السجن . أما خارجه فبيننا الحرب والقتال أو الخلاف في الأهداف ، أما الآن فنحن جميعا في شدة وقسوة . ولقد جئت إليكم في غفلة من المسئولين لأعرض عليكم تعاوني لخدمة بعضنا لبعض . فشكرناها على ذلك ثم قالت : نحن لدينا إمكانيات للأكل وان كانت قليلة فسنقتسمها معكم وسأتحرى أن لا يكون في الأكل ما هو محرم عندكم ، ونحن اليهود لا نأكل لحم الخنزير مثلكم . ومرت أيام كانت مرسيل اليهودية تحضر لنا بعضا من المأكولات. وكان أهم من ذلك كله أن هذه اليهودية دبرت لنا أمر استعمال دورة المياه الخاصة بهم . .. أحست ابنتي حميدة الحرج من تلك الأمور فقلت : إن الله سبحانه وتعالى يسوق الخير لعباده على يد من يشاء، والله تعالى لا يعنت عباده ولا يديم عليهم العسر، وليس لنا حيلة إلا أن نتعايش مع الإنسانية أينما وجدت ما دام ذلك في دائرة الإسلام .

ورأينا في تلك الغابة الموحشة والصحراء الجرداء القاحلة إنسانية متمثلة في طبيبة مسيحية تقدم لنا عونها بين الفينة والفينة، فعجبنا لهذا الطابع الإنساني . . النادر وجوده في مثل هذه الظروف . . . وقدمت لنا أيضا مسجونة لم تخل من قلب رقيق كيف نعيش ونتعامل في هذا المكان مع تلك الإنسانية المهدرة . كل شيء يشترى بالمال ، فتح باب الزنزانة لمدى أطول بالمال . . وكذلك نسمة الهواء ولقمة العيش وما يستر الجسد. ! ! . . . كل شيء هنا فاغر فاه ليبتلع ، الكل هنا سواء في ذلك . . المسجونات والسجانات . وذلك يتطلب من الإنسان المال والجهد . فهل كان ذلك أمرا ميسورا ! .

الموت . . والطغاة

قد ينسى الطواغيت المستبدون أو يتناسون أنهم لابد سيشربون من الكأس : كأس المنية . كأس الرجوع إلى الله تعالى، يتناسون ذلك فيتجبرون ويطغون ويبطشون ويعذبون ، والزمن عجلته تسير بمشيئة الواحد القهار، وبتعاقب الليل والنهار، وتولد أجيال وتنقضي أعمار ، وتبلى أجساد وتنزع أرواح انتزاعا فلا يستطاع ردها.( فلولا إذا بلغت الحلقوم ، وأنتم حينئذ تنظرون ، ونحن اقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ، فلولا إن كنتم غير مدينين ، ترجعونها إن كنتم صادقين ) الواقعة .وفى وسط حياتنا المزدحمة بما نرى ونشاهد من صور تعكس حقيقة البشرية من حولنا ، وانحدارها وهبوطها إلى أعماق سحيقة من الرذيلة والانحطاط ، تناقل الناس في سجن القناطر نبأ موت عبد الناصر وهم حزانى يبكون . والله يعلم أننا ما كنا يوما شامتين في موت أحد . . فهذه آجال وأعمار مقدرة مقدار، فلا يعدو إنسان أجله ولا يستبقى من عمره شيئا . ولكن الموت نذير البشرية وناقوس فنائها : أن أفيقوا من سباتكم ودعوا طغيانكم وجبروتكم ، فذلك لا يغنى شيئا، ستتركون قوتكم وبطشكم ، ومالكم وسلطانكم ، وجندكم وحزبكم والأهل والأولاد، ستتركون كل ذلك وراءكم ظهريا وتحشرون إلى الله تعالى حفاة عراة كما ولدتكم أمهاتكم!

( . . ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ، ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) الأنعام : 93-94.

( وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب ، وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ، إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود، وما نؤخره إلا لأجل معدود، يوم يأت لا تكلم نفسن إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ، فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ، خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ، وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ) . فموت إنسان وذهابه إلى ربه تعالى لا يشغل بال المخلصين الداعين إلى ربهم سبحانه فالموت حق فلا ينشغلون به . وكل ما يشغلهم العيش في طاعة الله تعالى وكنف رضوانه ، وبذل الجهد من النفس والنفيس في سبيل رفع راية التوحيد . وعندما يأتي الأجل لهم أو لغيرهم ينتقلون إلى دار الحساب حيث الثواب والعقاب .

ومعركة الإسلام ليست معركة فرد أو أفراد، ولكنها معركة الحق مع الباطل معركة الإيمان مع الكفر، ومعركة العبودية لله تعالى ضد قوى الشرك والإلحاد والوثنية .

يموت من يموت ويقتل من يقتل . ولكن قتلى المؤمنين في رحاب الجنة، في الفردوس الأعلى في مقعد صدق عند مليك مقتدر في جنات ونهر، شهداء أحياء ( يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا انتم تحزنون ، الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ، ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ، يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ، وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ، لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون ) الزخرف 68-73 .

وأما قتلى وموتى الكفر والباطل والإلحاد ففي سقر وما أدراك ما سقر لا تبقى ولا تذر ، تشوى الوجوه والأبدان ، كلما نضجت جلودهم بدلهم ربهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ، لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ، أحاط بهم سرادقها، وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا . . .

ليس لهم طعام إلا من ضريع ، لا يسمن ولا يغنى من جوع . . .

( . . لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ، وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير) فاطر :36-37 .

وتسير الأيام سيرها كما شاء الله وقدر، وتنتهي آجال وأعمار ولا يستطع إنسان رد المشيئة الربانية . ويتناقل الناس نبأ موت عبد الناصر والبكاء والعويل والصراخ والنحيب يملأ الدنيا، وأحاديث الرثاء ليل ونهار لا تنقطع ، لا يمل قائلها من بكاء أو تملق أو رياء.

ووصل إلى سمعي كلمات شيخ ينعى الفقيد حامى حمى الإسلام . . ! ولقد أقسم هذا الشيخ نفسه في بيتي قبل ذلك بسنين إن من يسمى عبد الناصر حامى حمى الإسلام هو كافر، قد خلع ربقة الإسلام من عنقه ، خسر الدنيا والآخرة . وفى وسط هذه الظروف التي شحنوها بالحزن والأسى على الفقيد العظيم ، استقبلنا نبا انتقاله إلى الواحد القهار كما يستقبله من كان في قلبه ذرة من إيمان ، وغدا سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .

تناقل الناس هنا في سجن القناطر أننا لم نبك ولم نصرخ ولم نحزن ولم نتألم على بطل الأبطال !

وحرك ذلك في نفوس الأذناب الشائهة قلوبهم المريضة ونفوسهم التي تعهدت ألا تكون إلا في خدمة سادتها ومطامعها وهواها، وتحركت لتصب جام غضبها علينا : كيف لا نحزن على . . عبد الناصر!

وتحرك الغثاء( أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) الرعد : 117 تحرك الأتباع من رجال النفاق والرياء والزلفى، وبذلوا المشقة والجهد . جهد العبيد لإرضاء سادتهم ولو في تافه الأمر، فقاسينا من غلظ المعاملة وسوء الأخلاق ما جاد به الأذناب . وفى صبيحة يوم عقب موت عبد الناصر فتح علينا باب الزنزانة وإذا بسجانة تمسك بعصا غليظة وتهجم بسرعة وكادت تحطم رأسي لولا أن الله سلم ونجانا من كيد المجرمين ، وعجزت إدارة السجن عن مجازاتها أو حتى لومها أو شئ من هذا القبيل ، وتركت وشانها تجرى هنا وهناك وكأنها لم تصنع شيئا! وفى أثناء زيارة أهلي لي أخبرتهم بحادث الاعتداء هذا، فبذلوا جهدهم بالاتصال بالمسئولين صغيرهم وكبيرهم وإرسال برقيات إليهم ، فتحركت النيابة وأخذت تحقق مع السجانة على أنها هي المدبر الوحيد وأنها مصابة بمرض نفسي!

طلبت لذلك عدم إكمال التحقيق وأبلغت النيابة أن المدبر والمخطط لذلك ليست هي السجانة ولكنها قوى الإلحاد و الباطل ومعتنقو البطش والإجرام ، فلا معنى لمعاقبة من لا يملك من أمر نفسه شيئا، ويتحرك بأمر مسئول كأداة لتنفيذ ما يدبر في الخفاء لإرهاب أصحاب الدعوات واستئصالهم ، ولكن الله غالب على أمره ، وهذا نوع جديد من التعذيب المعنوي لم يخطر بالبال ، ابتكره تحت ظروف غير متوقعة ، قوم أضلهم الله فما لهم من هاد .


ابتلاء جديد

كان يوم 9 أغسطس سنة 1971يوما مشهودا ، إذ حمل صباحه إلينا أخبارا جديدا حين جاءت سجانة مهرولة تدعوني بسرعة لمقابلة المأمور في مكتبه . شدتنا المفاجأة وجعلتنا نذهب بفكرنا في الأمر . . ماذا يكون وماذا يدبر الطواغيت والظلمة؟ ! أهناك بلاغ كيدي بأننا ننشر الإسلام في هذا المكان ، أم هناك خبر عن الأهل والديار، أم هناك مخالفة ولا ندرى بها أم . . . . ؟! عشرات من علامات الاستفهام ؟؟ لم يخطر ببالنا ما تأتى به الأقدار، فذهبت إلى مكتب المأمور فوجدت أمرا بالإفراج عنى وحدي . وكان شيئا مذهلا فأنا صاحبة الحكم المؤبد بالأشغال الشاقة أخرج لتبقى ابنتي وحيدة في هذا المستنقع الآسن ، تقاسى ما تقاسى، فانزعج قلبي من أعماقه وسيطر على نفسي حزن عميق وحيرة بالغة وبدون شعور صرخت قائلة : لا . . لا. لن يكون هذا أبدا . . لن أخرج وأترك ابنتي، إنكم أصحاب فتنة وتخطيط مظلم ! . .

وثارت ثورتي وشعرت بتعب وإجهاد واضطراب في النفس والمشاعر وبعد دقائق قليلة وجدت ابنتي حميدة أمامي في حجرة المأمور . استدعاها لتهدئتي ولتخفف عنى ما أنا فيه ، كانت محنة هائلة قاسية كيف ذلك ؟ كيف أخرج وأترك ابنتي وحدها ووجهها المطمس المشرق لا يفارق قلبي وصوتها بكلماتها الندية يهز أوتار نفسي؟! كيف أتركها وحدها في هذا المكان المظلم الموحش ، تواجه بمفردها قسوة المعاملة . . ومشاعري في نفسي وفؤادها تصرخ بشدة : كلا . . كلا لن أتركها، ويطول في قلبي الصراع ويمتد وهى تدعوني : يا أماه يا أماه هذا فضل الله ورحمة منه والأمر كله لله والله لا ينسى عباده . وطال الموقف وامتد المشهد فقال المأمور لابنتي حميدة : اتفضلي سلمى عليها وارجعي إلى الزنزانة . وفى لحظات مضت كالبرق ، فريدة في نوعها، وحيدة في مشاعرها . تعانقنا والدمع يخط مجراه على الوجوه والقلب ينبض بسرعة والنفس يتردد، وكأنه يسابق الزمن وفى وسط لحظات خالدة من المشاعر وخلجات النفوس . وجدت نفسى وحيدة في حجرة المأمور الذي أتم إجراءات الخروج وانفطرت نفسي وتمزق قلبي والدمع ينهمر، وأنا أخطو الخطوة الأولى إلى بيتي .


مساومة أخيرة

اخترقت العربة الطريق إلى بيتي ، ولكن غيرت طريقها فجأة ، ووجدت نفسي أمام مبنى المباحث العامة . ودخلت حجرة أغلقوا على بابها من الساعة الثانية عشرة ظهرا إلى التاسعة مساء حتى أخذوني إلى مكتب به ضابطان ، أخذا يسألان أسئلة تدور حول الإسلام وهل أنت ستقومين بزيارة الإخوان بعد ذلك ؟!

كنت مشغولة بابنتي حميدة فقلت لهما: ليس من العدل أن أخرج – وأنا المحكوم عليها بالمؤبد – وتبقى ابنتي وحيدة . إنكم تريدون فتنة ولكن الله لن يحقق لكم ما تدبرون . قال : اهدئي يا حاجة. قلت : إنكم تكيدون كيدا والله من ورائكم محيط ، والله غالب على أمره ولكن اكثر الناس لا يعلمون . قال : يا حاجة دي أوامر من فوق لا نقدر على أن نخرج حد وليس لنا كلام .

ثم أخذوني إلى مكتب أحمد رشدي الذي كان يستخدم سياطه ونفسه المريضة ليكيد رجالاً ربط الله على قلوبهم برباط الإيمان ولكن هيهات . . هيهات . ولما دخلت عنده طلب منى الجلوس على مقعد أمامه وقدم لي التهنئة بالخروج . ثم دار بيني وبينه حديث كان عبارة عن جملة أوامر وجهها لي كان ملخصها أن لا أمارس النشاط الإسلامي، وأن لا أتزاور بيني وبين إخواني ومعارفي في الله ، ولا تعاون بيننا ولا تواد، وأن أتردد على مكتبه بين الحين والحين .

فقلت له لما فرغ من حديثه : الكلام الذي وجهته إلى أرفضه جملة وتفصيلا، بل أرفض قرار الأمر بالخروج وبلغ المسئولين بذلك وأطلب عودتي فورا إلى سجن القناطر. أنهى أحمد رشدي الحديث ، وابتسم قائلا : "على أي حال فيه كثير من الإخوان تفاهموا معي على ذلك " فقاطعته قائلة : والله لا أعلم عن الإخوان إلا خيرا وأما ما تقوله أنت بالنسبة لبعض الإخوان فلا أستطيع أن أبدى رأيا . . لا أصدق صدوره منهم . إن الإخوان المسلمين ورثة حق يعملون له ليل نهار حتى يأتي الله بنصره أو يهلكوا دونه .

ودق جرس التليفون وأجاب أحمد رشدي قائلا : دعه يكلمني. ثم قال : أهلا وسهلا يا أستاذ عبد المنعم اتفضل . نحن محتاجون إليك .. ووضع سماعة التليفون ثم قال لي أحمد رشدي : الأستاذ عبد المنعم الغزالى جاى هنا. وبعد قليل حضر شقيقي عبد المنعم وسلم على وهو يبكى . قال له أحمد رشدي : أنا أريد أن تحكم بيني وبين الحاجة لأننا مختلفان . فأجاب شقيقي : الحاجة اكبر منى وأنا شقيقها الأصغر، وليس من عادتي أن أناقشها في شيء. أضف إلى ذلك - لو سمحت لي- أنها تمتاز بقوة منطقها وصحة حجتها فقال أحمد رشدي : طيب يا حاجة مبروك بس ملكيش دعوة بعمل تنظيمات مسلحة للإخوان . قلت : التنظيمات السرية أنتم الذين تلفقون قصصها وتخرجون تمثيلياتها .

إن قيام الدولة الإسلامية واجب على المسلمين وعدتهم في ذلك الدعوة إلى الله تعالى كما دعا رسوله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام . وهذه رسالة كل مسلم سواء كان من الإخوان أو غيرهم .

ثم انصرفت مع شقيقي إلى بيتي وكان ذلك في الساعة الثالثة صباحا في اليوم العاشر من أغسطس سنة 1971.

انتهى الكتاب . . وجزى الله خيراً كل من ساهم في مراجعة وتدقيق ونشر وتوزيع الكتاب .

ونسأل الله العلي القدير أن يزيل الغمة عن الأمةبزوال الطواغيت الذين يحكمون مصر بالحديد والنار وكان الله في عون شعب مصر وحسبنا الله ونعم الوكيل .


.