أ."جمعة": الإمام البنَّا الرجل الذي علمنا (1/2)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
أ."جمعة": الإمام البنَّا الرجل الذي علمنا (1/2)

بقلم: أ. جمعة أمين عبد العزيز

الأستاذ جمعة أمين

الكتابة عن الإمام "البنَّا"- تاريخه وخلقه وعلمه وعمله وشخصيته كعالمٍ عاملٍ وعابدٍ فقيه- هي من السهل الممتنع، خاصةً لمن عايشوه وخالطوه وشاركوه، ومَنْ تتلمذوا على يديه، وصاروا أتباعًا له يحملون الفكرة، ويصرون على التطبيق، ويتحملون المشاق والأهوال في سبيل تحقيقها، وإنزالها واقعًا على الأرض، يُرى بالعين كنموذج لمنهج حياة ربانية، ويدعون الناس- كلَّ الناس- في مشارق الأرض ومغاربها إليها، مهما كلفهم ذلك من تضحيات، فلا يبالون لأنهم يعيشون للعمل وبالأمل، للعمل الصالح الذي يُرضي الرب- سبحانه وتعالى- وبالأمل المتيقن من وعد الله لهم بالنصر التمكين: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور: 55).

والذي يريد أن يتعرَّف على حقيقة هذه الدعوة الربانية، ويقف على أثرها وآثارها في الأفراد والمجتمعات، في الرجال والنساء، في الشباب والشيب؛ بل في مناحي الحياة من اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وخلقية، وتعليمية وكل منحى من مناحي حياتنا، لن يتذوق حلاوة هذه الدعوة، ويعرف قيمتها وأثرها المادي والروحي إلا إذا درس حال الدنيا في هذه الفترة بوجهٍ عامٍّ، وحال المجتمعات العربية والإسلامية بوجهٍ خاصٍّ؛ بل وحال مصر على وجهٍ أخصَّ، قبل أو إبَّان هذه الدعوة المباركة؛ ليعقد مقارنةً بين حال الأمة الإسلامية قبل وبعد، ليرى أيَّ تغيير حدث عند الملتزمين بالإسلام؛ بل وغير الملتزمين من حيث تجديد الفهم، وتثبيت المعاني، وتوضيح الأهداف، وتعدد الوسائل، وتحديد منهج التغيير والذي دعى إليه وسلكه الإمام "البنا"، فقديمًا قال "عمر"- رضي الله عنه: "لا يَعْرِف الإسلامَ مَنْ لا يعرف الجاهلية"، فإذا تحقَّقت هذه المقارنة قبل وبعد سينصف الرجلَ الربانيَّ المناوئون له قبل المحبون له، إذا نُظر إليه نظرة موضوعية.

ولا تحسب أن هذا كلام تشوبه العاطفة، وتنقصه الموضوعية في العرض، فاقرأ -إن شئت- ما قاله عنه غيرُ الإخوان المسلمين من المسلمين وغير المسلمين، ولقد سجلنا ذلك في كتابٍ بعنوان (قالوا عن الإمام البنا) فعُد إليه -إن شئت- فسترى صدق ما نقول.

إن ذكرى استشهاد الإمام "البنَّا" ليست ذكرى رجل من الرجال عاش ورحل عن الدنيا كما يرحل الناس فحسب، فتكون ذكرى تاريخ أشخاص؛ ولكنها ذكرى فكرة لم تَمُتْ، ومنهجٍ دام واتصل، ودعوةٍ اتسمت بالشمول والعموم والسموِّ والدوام والكمال، ورجالٍ يحملونها ومازالوا يعيشون لها حتى يومنا هذا- ليس في مصر وحدها؛ بل في مشارق الأرض ومغاربها- حتى تحققت عالميتها، وأجيالٍ ترث هذه الدعوة تبدأ من الطفل والصبي، والرجل والمرأة إلى أن يكونوا شبابًا وشيبةً..﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: من الآية23)، وما (فلسطين) و(أفغانستان) وكل أرض يجاهد فيها رجال منَّا ببعيد.. يشهدون بكمال الفهم وحسن التربية لمنهج الإمام "البنَّا".

إنها تاريخ عقيدة حررها الإمام "البنَّا" من الجمود الذي أصابها، بعد سقوط الخلافة فلم يهتم بقالبها- وهو علمها فحسب- بل اهتم بقلبها وهو أثرها في بناء الرجال الذين يتميزون بأخلاق هذه العقيدة وعبادتها؛ كي يتحقق فيهم ما قاله الإمام "البنَّا" لهم: "كونوا عبادًا قبل أن تكونوا قوَّادًا، تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة" فأعادوا الروح إلى الجسد الذي كاد يموت فتحرك وصحا واستيقظ بعد أن سلب أعداء الإسلام من المسلمين هذه الروح التي كانوا يحيَون بها سنين طويلة، حتى جاءت دعوة الإمام "البنَّا" فأعادت الحياة والفهم السليم للمسلمين.. ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام: 122) فأعادوا للجسد روحه التي بها يحيا.

إنه تاريخ فهم للإسلام تجدد، وأظهره الله على أرض الواقع، في فترة من فترات التاريخ، خاصةً بعد سقوط الخلافة الإسلامية، وكانت فترةً شديدةَ السواد أحاطت بالأمة واستعمرها مستعمر غاشم لا يُبقي ولا يذر شيئًا من جوهر الإسلام، ولا من مظاهره، ولا يرضى إلا بالتبعية الكاملة له، وأصبح له أتباع وتلاميذ يدعون بدعوته ويسيرون بمنهجه شِبرًا بشبر وذِراعًا بذراع، حتى إذا دخَل جُحرَ ضبٍّ دخلوه اتباعًا له، ودعاةً لمشروعه الاستئصالي، فإذا بدعوةِ الإمامِ "البَنَّا" ومنهجه الذي يدعو إلى تربية جيل يؤمن بالفهم السليم، والإيمان العميق، والحب الوثيق، والعمل المتواصل، والوعي الكامل؛ لينشِئ مجتمعًا متحابًّا تجمعه أخوة الإسلام، وجهاد طويل شاقٌّ في سبيل الله لاسترداد ما ضاع من أمة الإسلام- تربيةً ربانيةً صحيحةً لتكوين لبنات قوية يضمُّ بعضها إلى بعض لشد الأزر، والمشاركة في الأمر، وتكوين جماعة تضع ما تؤمن به موضع التنفيذ؛ لأن العمل في جماعة من كمال التصور وتمامه؛ بل ومن ثوابت الإسلام.

فأي النواحي والمناحي نذكرها له، ونحن نعيش ذكرى استشهاده بعد أن ظن أعداء الإسلام أنه خطرٌ عليهم، وأدركوا أن سرَّ قوة هذه الجماعة التي أنشأها تكمُن في فهمها السليم للإسلام، حين دعت إلى شمولية الإسلام التي تُعيد للمسلمين قوتهم في عقيدتهم وشريعتهم وأخلاقهم، وأن هذه الشريعة لا تستكمل مقوماتها إلا في ظل الأخوة والوحدة، كما قال الإمام "الغزالي": الشريعة أصل، والحاكم حارس، ومَنْ لا أصل له فمهدوم، ومَنْ لا حارس له فضائع، فكانت هذه الجماعة- وهي تحمل هذا الفهم السديد- هي أصل، وهي في نفس الوقت الحارس على الفكرة.

لقد ظن أعداء الإسلام أنهم بقتلهم المؤسس والقائد والمربي؛ بل والرأس ينتهي الأمر وينهدم البناء وتفنَى الفكرة، وهذا فهم سقيم، ومنهج قديم أثبته القرآن؛ ليكُون من معالم الطريق للدعاة، وحتى يكون المسلمون على بصيرة، وذلك حين قال فرعون: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ (غافر:26)، فكان هذا التفكير تفكير كل فرعون الذي علا في الأرض وأضلَّ قومه وما هدى، وبقيت الدعوة وهلك فرعون.

لقد نسي أو جهل هؤلاء أن أصحاب المبادئ والقيم والعقائد السليمة لا يموتون، بل هم شهداء عند ربهم وفي نفس الوقت تبقَى ذكراهم حيةً دائمًا بتوارُث الأجيال والرجال ما دعوا إليه، ولئِنْ تأخَّر تحقيق الأهداف في عمرهم المحدود، فالقافلة تسير ولا يعوقها هذا الزبد الذي يهذب جُفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، والتاريخ أصدق شاهد على ما نقول، فاسألوا أين الذين وقفوا في وجه هذه الدعوة.. ابتداءً من استشهاد مؤسسها إلى قتل قياداتها وسَجن أتباعها، ومحاربة محبيها، فما زالت الدعوة حيةً والمؤمنون بها ألسنتهم تقول ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ (طـه: من الآية 72) وقلوبهم مفعمة بالإيمان تردِّد "إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي".

لقد أوضح الإمام "البنَّا" دعوة (الإخوان المسلمون) منذ خطواتها الأولى.. إنها دعوة الإسلام ولا شيء غير الإسلام والتي فيها صلاح البشرية، بل دعوة العزة والسلام، يقول- رضي الله عنه- لأتباعه وتلاميذه: "ومن الحق- أيها (الإخوان)- نذكر أننا ندعو بدعوة الله وهي أسمى الدعوات، وننادي بفكرة الإسلام وهي أقوم الفكر، ونقدم للناس شريعة القرآن وهي أعدل الشرائع".

ألم أقل لك إن الكتابة عن الرجل والفكرة لا تنتهي، فهذا هو الرجل الذي عُرف بدماثة الخلق وعمق الفهم وإحاطته بأحوال المجتمعات حوله.. لقد عرف تاريخ الأمم والنهضات، وتاريخ الدعوات والرسالات، وعرف من قراءة التاريخ أن نهضات الأمم ورسالات النبيين ودعوات المصلحين لا تنجح ولا تنتصر إلا بالرجال المؤمنين الأقوياء، الذين يكونون بمثابة البناء والحماس الدافع للسير مهما كانت الصعوبات؛ ولذلك فهو يعتبر بناء الرجال أهم ما ينبغي أن يُعنى به المصلحون وأن له الأولوية على ما سواه، ومنهج التغيير عنده يبدأ بالفرد المسلم أولاً، وهو منهج النبوة المستمد من قول الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).

ومن هنا تآلبَ الأعداء على هذه الدعوة، وتآمَرتْ حكومةُ ذلك العهد معهم، وضيَّقوا الحصار عليهم، وتمَّ ذلك بعد طلب سفراء الدول الغربية منها ذلك، وعندما قتلوه نُقل إلى المستشفى وتركوه ينزِف حتى صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها، وظنوا أن الأمر قد انتهى لهم بموته، ولكن خاب ظنهم وهم لا يدرون أن الجسد هو الذي فنى وانتهى وبقيت الفكرة وستبقى ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ (الشعراء: من الآية 227).

وبذلك نال أعداء الدعوة الخزي والعار في الدنيا، ويبقى جزاء الآخرة وهو أخزى وأمرُّ، ونال الإمام "البنَّا" الشهادة، وهي الأمنية التي كان يطلبها طوال حياته، وبقيت ذكراه خالدةً، وصدق الله إذ يقول: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران: من الآية140، 141).. الله نسأل أن يجزيَه عنا خيرَ الجزاء، ويلحقنا به في الصالحين.