إرادة الأمة.. بين التزوير والتعذيب

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
إرادة الأمة.. بين التزوير والتعذيب
رسالة من: أ. د. محمد بديع - المرشد العام للإخوان المسلمين

بقلم:الدكتور محمد بديع

مقدمة

الدكتور محمد بديع المرشد الثامن للإخوان المسلمين

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن والاه..

كثير من الحضارات سادت ثم بادت، فأصبحت حصيدًا كأن لم تغنَ بالأمس, وكل حضارة سيطر عليها نوع بارز من الانحراف الذي جرَّ عليها الوبال والدمار بعد أن أعرضت عن هدي الله, ولا يحدث ذلك إلا إذا انحرفت الأنظمة والأفراد عن هدي الله، واتبعوا أهواءهم، وطغوا وتكبَّروا، وسعوا في الأرض فسادًا، يقول الله عزَ وجلَّ: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم: 41).

ولمَّا كانت أيدي الناس هي الأساس في الظلم والزور والتزوير؛ كان العقاب الإلهي بإذاقتهم بعض عملهم؛ حتى يعودوا إلى ربهم، ويمتنعوا عن الفساد والظلم والتزوير.

ألا وقول الزور

شهادة الزور هي أن يشهد الإنسان بغير الحق, فشهادة الزور سببٌ لزرع الأحقاد والضغائن في القلوب؛ لأن فيها ضياعَ حقوق الناس وظلمهم وطمس معالم العدل والإنصاف، ومن شأنها أن تعين الظالم على ظلمه، وتعطي الحق لغير مستحقيه، وتقوِّض أركان الأمن، وتعصف بالمجتمع وتدمِّره, ولذلك فقد ورد ذمَّها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ (الفرقان: 72)، ويقول تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ (الحج: من الآية 30)، ويقول تعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا﴾ (المجادلة: من الآية 2).

ويحذِّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الزور وقوله والعمل به فيقول: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" (رواه البخاري)، وعن أبي عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنهما عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متَّكِئًا فجلس، ثم قال: ألا وقول الزور, ألا وشهادة الزور, فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت" (رواه البخاري).

التزوير وقلب الحقائق

وشهادة الزور تؤدي إلى قلب الحقائق, ولذلك جاء في الحديث الشريف: "سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّنُ فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة"، قيل: وما الرويبضة؟! قال: الرجل التافه في أمر العامة" (رواه ابن ماجة).

ولعل هذه الصفات تنطبق أشدَّ الانطباق على أيامنا هذه؛ التي صار فيها الحق باطلاً والباطل حقًّا، وصار الزيف والزور خُلُقًا شائعًا، وصار التافهون يتحدثون في عظائم أمور المسلمين, بل تُقلب الحقائق جهارًا نهارًا في كثير من المواقع، ولا يُستجاب للمخلصين الذين لا يبغون إلا الخير، فهل هذا إلا الزور بعينه؟! وإذا كانت شهادة الزور تعدل الإشراك بالله في حال كانت القضية تمس الفرد فما بالنا بتزوير إرادة الأمة؟!

إن الدول التي تزوِّر لا تبحث عن رضا الشعوب؛ حيث الشعوب لا وزن لها في حساباتها، وإنما تبحث عن رضا المزوِّرين الذين وقفوا بجانبها وساندوها، فهؤلاء يقومون بالتزوير، ثم تفتح لهم خزائن الدولة بعد ذلك للنهب والسلب, وفي كل الانتخابات التي تتم في بلدان العالم الحر إذا لم يفِ الحاكم بوعوده فإنهم ينتظرونه في الانتخابات التالية ليسقطوه, ولذلك فالحاكم يعمل لناخبيه ألف حساب، بينما في بلادنا لا يعبأ الحاكم بشعبه؛ لأنه لا يستمد منه شرعيته، وإنما يستمدها من المزوِّرين.

التزوير وشرعية النظام

على الرغم من أن مصر عرفت الانتخابات البرلمانية وتداول السلطة في ظل دستور 1923م فإنه منذ ثورة يوليو 1952م وحتى الآن لم تُجرَ انتخابات نزيهة ولو مرةً واحدةً، بل كانت جميعها مزوَّرةً، ولا تعبر عن هيئة الناخبين، ولا تسفر إلا عن التأييد الساحق لمرشحي الحكومة، سواءٌ كانت الانتخابات رئاسيةً أو تشريعيةً أو محليةً.

واللجوء إلى التزوير عادةً يسبقه انحراف تشريعي بإصدار تشريعات تنظِّم الانتخابات، وتخالف الدستور، وتهدف إلى استمرار الحزب الحاكم في السلطة، كما حدث في تعديل المادة 76، ونتج من ذلك إهدار إرادة الناخبين، وإهدار مبدأ تكافؤ الفرص، ومنع المواطنين من إبداء الرأي، واستئثار الحاكم بكل السلطات، وانتشار النفاق والكذب في مجتمع المثقفين، وسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية, وانتشار السلبية واللجوء إلى العنف، ومن ثم عدم شرعية المجالس المحلية والشورية والشعبية، بل الرئاسية؛ ما يطعن في شرعية النظام الحاكم بل النظام السياسي بأكمله.

القتل والتعذيب من أعراض التزوير

فمن أجل تزوير انتخابات 2005م قُتل 14 مواطنًا ولم يحرِّك أحدٌ ساكنًا، ولو كنا في بلد آخر لقامت الدنيا ولم تقعد، وفي أعقاب تزوير انتخابات الشورى قُتل الشاب خالد سعيد بالإسكندرية, وحين استخدمت السلطة أبواقها الإعلامية لمحاولة إقناع الرأي العام بأن القتيل مجرم وليس شهيدًا فتمَّ تشويهه وهو ميت بعد أن هُشِّمت رأسه وتمَّ تشويهه وهو حيٌّ، لكن يأبى الله إلا أن يفضح هذه السلطة بعد أن انتشرت أصداء الفضيحة في الداخل والخارج، وانتقدها المتحدث الأمريكي فأمرت بإعادة التحقيق مرةً أخرى.

ومن الغريب أن أمريكا التي انتقدت التعذيب في مصر هي نفسها التي أقامت سلخانات التعذيب في أفغانستان والعراق وفي سجون جوانتانامو.

الإسلام سبق العالم في مناهضة التعذيب

في 26 يونيو الحالي سيحتفل العالم باليوم العالمي لمناهضة التعذيب، وقد سبق الإسلام ذلك كله عندما حرَّم الله تعالى الاعتداء على نفس المسلم، فالحياة هبة من الله يحرم الاعتداء عليها ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ (الأنعام: من الآية 151).

بل إن الله اعتبر من قتل نفسًا واحدةً كأنه قتل الناس جميعًا، وقد شرع الإسلام القصاص عقوبةً رادعةً لمن يقدم على حرمان شخص من هبة الحياة التي وهبها له الخالق، فيقول تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: من الآية 179).

والكرامة حق للشعوب كفله لها الخالق وليست كما قال يومًا أحد الحكام المستبدين لشعبه: أنا الذي خلقت فيكم الكرامة، فالمجتمع العزيز الكريم هو المجتمع القوي المنتج المدافع عن أرضه.

وحرَّم الإسلام إيذاء الإنسان دون ذنب ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ (الأحزاب: 58).

وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" (رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" (رواه مسلم)، وقد صان الإسلام كل حقوق غير المسلمين بشكل قاطع، وقال صلى الله عليه وسلم: "من آذى ذميًّا فأنا حجيجه يوم القيامة".

الإسلام وحرية الرأي

رغم أن أمريكا عاشت تجربة التفرقة العنصرية في الستينيات؛ فإن السود استطاعوا أن يحصلوا على حقوقهم، بل استطاعوا أن يكون لهم أول رئيس أسود في تاريخ أمريكا؛ لأن هناك آليةً للوصول إلى الحق، وهي الانتخابات، كما أن هناك حرية الاختيار بدون تزوير أو تزييف.

وإذا كانت الحرية في الغرب تتحلل من كل القيود فإن الحرية في الإسلام تعني الحرية الملتزمة بالشرع والمرتبطة بالفطرة السليمة؛ حتى إن المرأة في الجاهلية كانت تسأل في دهشة: أوتزني الحرة؟!

إن الحرية السياسية ليست إلا فرعًا لأصل إسلامي عام هو حرية الإنسان؛ من حيث هو إنسان، والمقررة بنصوص قطعية في الكتاب والسنة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لا يكن أحدكم إمَّعة؛ يقول أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت".

وما أرسل الله من رسل وما شرع لهم الشرع إلا ليَحيَوا أحرارًا، وليعرفوا كيف يأخذون بأسباب الحياة والحرية وما انتشر الإسلام في الأمم إلا لما شاهدت فيه من تعظيم للحياة والحرية وتسوية بين الناس فيهما مما لم تعرفه تلك الأمم من قبل.

فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشدِّد على عمرو بن العاص وينهره قائلاً: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!"؛ دفاعًا عن ابن أحد أقباط مصر آذاه ابن الأمير.

وللأمة حرية اختيار حاكمها، ومن حقها أن يشاورها فيما يريد تنفيذه فيما يتعلق بشئونها، ولا تكون قرارات الحاكم فردية أو غير موافقة لرأي الأمة، وللأمة الحق في مراقبة الحاكم، ومحاسبته على أعماله وأعمال معاونيه "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم".

هكذا خاطب الصديق أبو بكر المسلمين عند ولايته، وكما يحق للأمة تولية الحاكم يحق لها عزله إذا أخل بالتزاماته.

إننا نهيب بالأمة أن تبادر بالذَّود عن حقوقها التي قررها الله تعالى لها، واستعادتها من أيدي مغتصبيها، وأن يقوموا على حراستها من المتربِّصين بها، ويعلموا أنها ليست منحةً من بشر يحق له أن يسلبها منها أو يهبها إياها وحينئذٍ نكون قد وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح للقيام بدورنا الذي اختصَّنا به سبحانه في قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...﴾ (آل عمران: من الآية 110).

والله من وراء القصد.