الإخوان المسلمون وأسباب الصدام مع الأنظمة المتعاقبة (ما قبل الثورة)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان المسلمون وأسباب الصدام مع الأنظمة المتعاقبة (ما قبل الثورة)
Ikhwan-logo1.jpg

ثمانون عاما هي عمر جماعة الإخوان المسلمين، والتي نشأت عام 1928م على يد الأستاذ حسن البنا، فعلى مدار هذا التاريخ أحدثت الجماعة تغييرات كثيرة ليس في المجتمع المصري فحسب، بل المجتمع العالمي، وأصبحت أكبر فصيل سياسي في الحياة السياسية بمصر، وتعاقب عليها منذ نشأتها عدة أنظمة كالملكية والجمهورية بمختلف رؤسائها وحكوماتها، وخلال ذلك حدث بين هذه الأنظمة والجماعة صدامات عنيفة أدت إلى توجيه عدة ضربات من قبل هذه الأنظمة إلى الجماعة.

وهذا يدفعنا بل دفع الكثير من الباحثين والمؤرخين أن يتساءلوا:

  • هل السبب في هذه الصدامات والضربات التي تتعرض لها جماعة الإخوان المسلمين هي بسبب الأهداف والأفكار والمبادئ التي تعيش عليها الجماعة؟
  • أم أن عدم تحور الجماعة وسيرها في فلك النظام وخدمته هو الذي عرضها للاضطهادات المتتالية؟
  • أم أن الخطأ متبلور في طبيعة الأنظمة والحكم الفردي الذي عاشت وتعيش فيه مصر، وهو ما يجعله لا يقبل الآخر؟
  • أم أن ديناميكية الجماعة هي التي لم تتطور وسايرت المتغيرات التي حدثت على الساحة والمستجدات التي أحدثها الزمن؟
  • من السبب في هذه الصدامات؟؟؟؟

في هذه الدراسة سنلقي الضوء على علاقة الإخوان بالنظام الملكي.. والأسباب التي أدت إلى الصدام بينهما... ثم نعقبه في الحلقة القادمة بالحديث عن علاقة الإخوان بحكومات النظام الجمهوري المختلفة منذ عبد الناصر حتى مبارك.. ومن خلالها سنلقي الضوء على عدد من الحوادث التي أثرت على تاريخ جماعة الإخوان المسلمين كحادث مقتل النقراشي وحل الجماعة والنظام الخاص وطبيعته؟

لقد تعرضت مصر بسبب موقعها الفريد للغزو المتتالي من قبل الدول الخارجية، وفي كل مرة كانت تفرض الدولة الغازية سياستها ومنهجها على الدولة المحتلة، وانتهت هذه الحملات الاستعمارية بالغزو البريطاني لمصر في سبتمبر عام 1882م، والذي سعى منذ اللحظة الأولى على تشكيل سياسة البلاد بما يتراءى لمصالحه، فسخر مقوماتها لخدمته وخدمة أهدافه الاستعمارية، وللأسف ساعده بعض المصريين الذين افتتنوا بحضارته، فارتموا في أحضانه، وسخروا كل جهودهم لتمكينه من السيطرة على كل مقومات البلاد واستعباد أهلها.

وفرض الإنجليز سياستهم منذ اللحظة الأولى على كل مصري، فأصبحت السياسة والقرارات السياسية تصدر من قصر الدوبارة، ومن مقر المندوب السامي البريطاني، حتى وصل الأمر بتدخلهم في عزل خديوي وتولية آخر على العرش، بل عملوا على عزل ونفي الملك فاروق في الحادثة الشهيرة في 4 فبراير 1942م إن لم يستجب لرغباتهم، فنزل لهم في مشهد مهين على هذه الرغبات وحققها لهم، كما أن الإنجليز فرضوا على السياسة المصرية مبدأ مصاحبة من يصاحب الإمبراطورية البريطانية ومعاداة من يعاديها، بل وصل الأمر لأخطر من ذلك عندما سيطرت بريطانيا على كل المقومات الاقتصادية للبلاد، فأصبح الجنيه المصري يسير في ركاب الجنيه الإسترليني، وأصبحت الخامات المصرية لا تصدر إلا إلى بريطانيا، وأصبحت المنتجات المصرية تساق لخدمة الجيش البريطاني، وحرم منها أبناء الوطن، فتفشت الأمراض والفقر والتسول والبطالة، وظهرت الطبقية، فعاش غالبية الشعب المصري حياة أشبه بالحياة التي تحياها المواشي، فحرم أبناؤهم من التعليم، ومن الترقي للوظائف العليا والتي أصبحت حكرًا على أبناء الأثرياء الذين يدورون في فلك المستعمر الإنجليزي ويخدمونه، وتقضي مصالحهم فعل ذلك على حساب أبناء الشعب الفقير.

كما تعرضت الحياة الاجتماعية لضربات قوية وزلازل عمت أركان الأسر بعد دخول المحتل، فسن البغاء بقانون وأصبح مشروعا في بلد دينه الأول الإسلام، كما فشت الرشوة والمحسوبية والانحلال الخلقي، واغتصبت الحرائر على يد ضباط وعساكر الجيش البريطاني، ولم يحرك ذلك حكومة ولا ملكًا، فباتت البلاد في فوضى، وساعد على ذلك شيوع ثقافة الغرب وسط أبناء الأمة، وهي الثقافة التي كان يقصد من ورائها شيوع الانحلال، والسعي وراء هذه الشهوات، وخدمتها على حساب التصدي لهذا المحتل، والتصدي لسياسته التدميرية.

وفي ذات الوقت لم يكتف الاستعمار بالسيطرة على الأمور السياسية والاقتصادية والفكرية، ونشر الفساد وسط الطبقات الاجتماعية، بل عمل على تدمير البنية التحتية لشعوبنا، وضرب الأخلاق في محرابها، فوجه سهامه إلى حصن الأمة الحصين وهم العلماء فأنقص من شأنهم، وعمل على شرائهم، فانساق وراء كلماته الزائفة نفر من العلماء، ودمر مناهج التعليم، ولقد اعترف القس زويمر في مؤتمر عالمي عام 1925م بهذا حين قال: "إن السياسة التي انتهجها "دانلوب" في مصر نحو التعليم ما تزال مثار شكوى لاحتوائها على شوائب كثيرة ضد مقاصد الدين والوطن"، كما حصر الاحتلال التعليم في أبناء الطبقة العليا، وفرّق بين التعليم الأزهري والتعليم العام.

كل ذلك أحدث تغييرات في تربية وتنشئة أبناء الوطن المحتل، فخرج منهم رجال تصدوا بكل طاقتهم إلى فكره المعوج الذي أراد به السيطرة على أبناء الأمة ورجالاتها، بل حملوا السلاح في وجهه وأذاقوه الويلات بين زقاقات وحواري الأحياء، حتى دفعوه إلى الخروج والتمركز في مدن القنال.

في هذا الزمن نشأت دعوة الإخوان المسلمين عام 1928م، وعمل حسن البنا منذ اللحظة الأولى على إيجاد جيل يعرف حق وطنه، وحدد مهمة الإخوان المسلمين في رسالة: "رسالة بين الأمس واليوم" والتي صدرت أوائل الأربعينيات فقال: "شهد الله أننا لا نريد شيئًا من هذا وما لهذا عملنا ولا إليه دعونا، ولكن اذكروا دائمًا أن لكم هدفين أساسيين:

1 - أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي وذلك حق طبيعي لكل إنسان، لا ينكره إلا ظالم جائر أو مستبد قاهر.
2 - أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة، تعمل بأحكام الإسلام، وتطبق نظامه الاجتماعي، وتعلن مبادئه القويمة، وتبلغ دعوته الحكيمة الناس، وما لم تقم هذه الدولة فإن المسلمين جميعًا آثمون مسئولون بين يدي الله العلي الكبير عن تقصيرهم في إقامتها وقعودهم عن إيجادها. ومن العقوق للإنسانية في هذه الظروف الحائرة أن تقوم فيها دولة تهتف بالمبادئ الظالمة وتنادي بالدعوات الغاشمة، ولا يكون في الناس من يعمل لتقوم دولة الحق والعدالة والسلام".

بهذه الأهداف حدد الأستاذ البنا مهمة جماعة الإخوان المسلمين، وأخذ يعمل على تحقيق ذلك في كل المراحل التي مرت بها الدعوة من مرحلة التعريف بالدعوة لمرحلة التكوين، ثم أراد أن يختمها بمرحلة التنفيذ، واستطاعت الجماعة تحقيق المرحلتين الأولتين: التعريف من عام 1928م حتى عام 1938م، ثم كانت مرحلة التكوين من عام 1939م حتى استشهاد حسن البنا وإن كانت كل المراحل متداخلة في بعضها البعض، وبدأت في تحقيق أهدافها وإصلاح المجتمع فحاربت التبشير والبغاء وكل ما يهدم الدولة، كما طالبوا بإصلاح مجال التعليم، عملوا على إصلاح الناحية الاقتصادية، فأنشئوا الشركات والمصانع كشركة المعاملات الإسلامية سنة 1939م، والشركة العربية للمناجم والمحاجر عام 1946م، وشركة الإعلانات العربية والتي تأسست عام 1947م واشتغلت بالدعاية والإعلان والإخراج، وشركة الغزل والنسيج عام 1948م وهم بعيدون في البداية عن الأمور السياسية.

وقامت الجماعة بإنشاء دار التائبات بالإسماعيلية، وساعدت الجمعيات التي طالبت بإلغاء البغاء، ونتيجة لهذه الجهود التي بذلها الإخوان والشرفاء من هذه الأمة ألفت لجنة لبحث موضوع البغاء الرسمي بموجب قرار مجلس الوزراء الصادر في 12 أبريل سنة 1932م، وقد عقدت تلك اللجنة أول اجتماع لها يوم 8 يونيو سنة 1932م برئاسة الدكتور محمد شاهين باشا وكيل الداخلية للشئون الصحية لدراسة هذا الأمر.

وفي المجال السياسي لم يرغب حسن البنا في بداية الدعوة أن يصطدم بالواقع الذي تحياه البلاد من كونها واقعة تحت الإستعمار.

وحاول قدر المستطاع تجنب الدخول في مهاترات سياسية حزبية مما كانت معروفة وشائعة في تلك الفترة، وحتى لا تعد جماعته حزبًا من الأحزاب القائمة فينصرف عنها الناس، وقد كتب حسن البنا خطته في النهوض بالأمة فقال تحت عنوان: "في سبيل النهوض": "يجب أن تكون دعامة النهضة "التربية"؛ فتربى الأمة أولاً وتفهم حقوقها تمامًا، وتتعلم الوسائل التي تنال بها هذه الحقوق، وتربى على الإيمان بها، ويبث في نفسها هذا الإيمان بقوة، أو بعبارة أخرى تدرس نهضتها درسًا نظريًّا وعمليًّا وروحيًّا، وذلك يستدعي وقتًا طويلاً؛ لأنه منهج دراسة يدرس لأمة، فلابد أن تتذرع الأمة بالصبر والأناة والكفاح الطويل، وكل أمة تحاول تخطي حواجز الطبيعة يكون نصيبها الحرمان".

لكنه كان مع ذلك يربي أفراد جماعته على معنى السياسة، وأنها إصلاح، وليست حربًا بين كل حزب وآخر، أو صراعًا على الكرسي، فلم تلتفت أية حكومة للإخوان المسلمين إلا على أنهم جماعة دينية تربي أبناءها على معاني الدين، غير أن الجماعة لم تكن بعيدة عن السياسة منذ نشأتها -كما يقول به بعض المؤرخين- لكن السياسة التي كان يقصدها حسن البنا في البداية هي السياسة الحزبية التي لا تجني سوى الصراعات والمهاترات، حتى إنه دفع العمال المنتمين للجماعة لاستقبال الملك فؤاد في الإسماعيلية؛ حتى يري الغرب كيف أن المصريين يحترمون ملكهم.

وأوضح حسن البنا ذلك في رسالة "إلى أي شيء ندعو الناس"، والتي صدرت في مايو 1934م حينما قال: "يا قومنا، إننا نناديكم والقرآن في يميننا، والسنة في شمالنا، وعمل السلف الصالحين من أبناء هذه الأمة الصالحة قدوتنا، وندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام وهدي الإسلام، فإن كان هذا من السياسة عندكم فهذه سياستنا، وإن كان من يدعوكم إلى هذه المبادئ سياسيًّا فنحن أعرق الناس -والحمد لله- في السياسة، وإن شئتم أن تسموا ذلك سياسة فقولوا ما شئتم، فلن تضرنا الأسماء متى وضحت المسميات وانكشفت الغايات.

يا قومنا: لا تحجبنكم الألفاظ عن الحقائق، ولا الأسماء عن الغايات، ولا الأعراض عن الجواهر، وإن للإسلام لسياسة في طيها سعادة الدنيا وصلاح الآخرة، وتلك هي سياستنا لا نبغي بها بديلاً، ولا نرضى سواها دينًا، فسوسوا بها أنفسكم، واحملوا عليها غيركم تظفروا بالعزة الدنيوية، والسعادة الأخروية، ولتعلمن نبأه بعد حين".

إذًا .. لم يكن الإخوان كما ذكر البعض قد تجاهلوا السياسة منذ نشأة الدعوة، وأنهم تغيروا عن مبادئهم، لكنهم ساروا بمرحلية دعوية حتى يستطيعوا تربية المجتمع تربية إسلامية، حتى يكون مؤهلاً للحكم على الوضع بما يرى.

إذًا.. ما السبب في صدام الإخوان مع الحكومات في النظام الملكي؟

لقد تعاقب على الحياة السياسية بعد وفاة الزعيم مصطفى كامل ثم محمد فريد زعماء أحزاب لا يهمهم سوى مصالحهم الشخصية ورضى الإنجليز ونيل الحظوة لدى المندوب السامي البريطاني، ومن ثم اشتد التنافس بينهم على الوصول إلى الكرسي بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة فلم يكن في خلدهم مصلحة البلاد أو الشعب، بل كانت مصالحهم ومصالح ذويهم هي المحرك لهم، وقد كان كل حزب يسعى للحصول على تعضيد مكانته عند الملك والإنجليز، فقد تم إنشاء حزب الأحرار الدستوريين فى عام 1922 بعد الخلافات الشديدة بين سعد زغلول وعدلى يكن وتولى يكن رئاسة حزب الأحرار، كما ألف إسماعيل صدقي حزب الشعب ليكون عضدا للملك، كما انشق عن الوفد أيضا حزب الهيئة السعدية تحت رئاسة أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي، بسبب الخلافات بينهم، كما انشق مكرم عبيد عن حزب الوفد أيضا وكوم حزب الكتلة الوفدية، كل ذلك أضعف الحياة السياسية وأصبح الصراع سمة الأحزاب للوصول إلى كرسي الوزارة.

كما أن هذه الأحزاب لم يكن لديها برنامج محدد تسير على نهجه، كما لم يكن في أجندتها ما يدل على محاولتها في تحرير البلاد، وممل يدل على ذلك عدم اتفاق هذه الأحزاب على حكومة ائتلافية إلا نادرا، وكان كل حزب في غير ذلك يسعي إزاحة خصومة وتولي الحكم، هذا ناهيك عن الولاء الذي كان يكنه كل حزب للاستعمار كان قصر الدوبارة ملاذ الأحزاب لنيل الحظوة والوصول للحكم، والتاريخ يذكر الاتهامات المتبادلة بالفساد مثل الكتاب الأسود الذي أخرجه مكرم عبيد.

كان هذا حال الحياة السياسية والحزبية التي كانت تحكم مصر، والسبب يوضحه وصف عبد اللطيف البغدادي في مذكراته ص (31) عندما قال: «لقد كانت الأحزاب تتطاحن من أجل الثراء وكان أغلب السياسيين يسعون حثيثًا إلى التقرب من المسئولين في دار المندوب السامي ليكونوا لهم سندًا وطريقا سهلا للوصول للكرسي ولم يكن يهم الكثير منهم أمر العمال أو الفلاحين».

ويتضح أن السياسة كانت تسير وفقًا لرغبة المحتل الإنجليزي، وعدم رغبته في وجود جماعة أو مؤسسة أو هيئة تعرف كل معاني الجهاد وطرق طرد المحتل، وتعمل على زلزلة أركانه، بل كان يريد إيجاد مثل هذه الأحزاب التي كان لا يهمها سوى الثراء ومصلحة أفرادها الخاصة، ومن ثم حدث الصدام مع جماعة الإخوان المسلمين عندما أدرك أهدافها خاصة بعدما اتضح له مدى تربية أفراد هذه الجماعة، ومدى فهمهم الواسع والشامل، ومدى إدراكهم لمرامي خططه التي تهدف إلى السيطرة التامة على الدولة، وعدم رغبته في إعطاء الشعب حقه في الاستقلال.

ويقول الإمام البنا في رسالة (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي): « لقد انعقد الإجماع على أن الأحزاب المصرية هي سيئة هذا الوطن الكبرى، وهى أساس الفساد الاجتماعي الذي نصطلي بناره الآن، وأنها ليست أحزابا حقيقية بالمعنى الذي تعرف به الأحزاب فى أي بلد من بلاد الدنيا، فهي ليست أكثر من سلسلة انشقاقات أحدثتها خلافات شخصية بين نفر من أبناء هذه الأمة، اقتضت الظروف والحوادث فى يوم ما أن يتحدثوا باسمها وأن يطالبوا بحقوقها القومية، كما انعقد الإجماع على أن هذه الأحزاب لا برامج لها ولا مناهج، ولا خلاف بينها فى شيء أبدا إلا فى الشخصيات، وآية ذلك واضحة فيما تعلن من بيانات خارج الحكم وفيما تطلع به من خطب العرش داخل الحكم، وبما أن الأحزاب هي التى تقدم الشيوخ والنواب، وهى التى تسيّر دفة الحكم فى الحياة النيابية، فإن من البديهي ألا يستقيم أمر الحكم وهذا حال من يسيّرون دفته».

ومن ثم عمل الإحتلال منذ تبين له الأمر على عرقلة مسيرة الإخوان المسلمين بالاستعانة بهذه الوزارات الضعيفة بطرق عدة منها:

  • أولاً: قام بالإيعاز إلى رئيس الوزراء حسين سري باشا بأن يأمر بنقل حسن البنا إلى قنا، وتم ذلك الأمر فأصدر محمد حسين هيكل وزير التعليم قرارًا بنقل حسن البنا إلى قنا، كما تم نقل وكيل الجماعة الأستاذ أحمد السكري إلى دمياط، وفي ذلك يقول محمد حسين هيكل في مذكراته (في السياسة المصرية الجزء الثاني، ص177): "كان الإنجليز يومئذ شديدي الحساسية، وبخاصة إزاء ما يبديه بعض ذوي الرأي من المصريين من ميولهم المحورية، وإزاء بعض العناصر ذات النشاط بين سواد الشعب، وكانت جماعة الإخوان المسلمين تدعو للتخلق بالأخلاق الإسلامية، وللأخذ بقواعد التشريع الإسلامي في النظام المصري، وكان الشيخ حسن البنا مرشدها العام، وكان معلمًا للغة العربية في مدرسة المحمدية الابتدائية الأميرية. وقد أبلغت السلطات البريطانية رئيس الوزراء حسين سري أن هذا الرجل يعمل في أوساط جماعته لحساب إيطاليا، ورغبت إليه العمل على الحد من نشاطه، ورأى حسين سري أن نقل الرجل من القاهرة إلى بلد ناءٍ بالصعيد يكفل هذا الغرض، فحدثني في الأمر وطلب إليَّ نقله لقنا، ولم أجد بأسًا بإجابة طلبه، فنقل مدرس في مدرسة ابتدائية ليس أمرًا ذا بال؛ إذ يقع مثله خلال العام الدراسي في كل سنة ولا يترتب عليه أي أثر"، وصدر قرار النقل في 19 مايو 1941م، غير أن النائب محمد عبد الرحمن نصير تقدم في جلسة مجلس النواب المسائية بسؤال عن هذا القرار، وقد جاء ذلك في مضبطة الجلسة الحادية والأربعين لمجلس النواب، والمنعقدة في أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء 22، 23، 24 من ربيع الآخر 1360هـ الموافق 19، 20، 21 مايو 1941م يستفسر فيه عن سبب نقل الأستاذ حسن البنا، وطالب بعودته، وتحت الضغط الشعبي وبعض نواب حزب الأحرار الدستوريين صدر قرار بعودة الأستاذ حسن البنا في يوليو 1941م، وأوضح هيكل باشا ذلك في مذكراته بقوله في صفحة (178): "ترى أأحسن حسين سري باشا في تراجعه هذا أم أساء؟ لعله خشي أن يزداد ضغط النواب جسامة حين رأى سؤالاً يقدم للبرلمان في هذا الشأن، فأراد اتقاء ما قد يجر إليه ذلك من نتائج الأمر".
  • ثانيا: لم تتوقف مؤامرات المحتل الإنجليزي، فقام "المجلس العسكري البريطاني" بطنطا عن طريق أحد عملائه بتلفيق قضية خطيرة ضد الإخوان المسلمين باتهام أخوين من خيرة أفراد الإخوان هما محمد عبد السلام فهمي وكان مهندسًا في مصلحة الطرق والكباري بطنطا، وجمال الدين فكيه وكان موظفًا ببلدية طنطا بأنهما يعدان جيشًا للترحيب بمقدم الألمان، وأنها يحدثان بلبلة في الأفكار، ويعدان عناصر معادية للحلفاء، فتم القبض عليهما وقدما للمحاكمة العسكرية، وكانت أول محاكمة عسكرية للإخوان، وسميت هذه القضية بالجناية العسكرية العليا (883) لسنة 1942م قسم الجمرك، غير أن القضاء برأهما من هذه التهمة.
  • ثالثًا: عمد إلى اعتقال الأستاذ البنا ووكيل الجماعة الأستاذ أحمد السكري وسكرتير الجماعة في أكتوبر 1941م، وأمام الضغط على الحكومة من الطلبة والشعب، وخوف الحكومة من انتقال الأمر مرة ثانية إلى البرلمان مما سيساعد على زيادة السخط العام ضدها تم إرسال حامد بك جودة "سكرتير حزب السعديين، ووزير التموين في وزارة حسين سري" إلى الإمام البنا في المعتقل بعد مضي حوالي عشرين يومًا على اعتقاله؛ وذلك للتفاوض معه على خروجه، وتم الإفراج عنه في 13 نوفمبر 1941م.

عندما أدرك الإمام البنا مرامي وأهداف الإنجليز ومماطلتهم في الانسحاب من البلاد قام بتكوين جهاز النظام الخاص الذي أنشأه عام 1941م، وكان يهدف من نشأته إلى:

1- محاربة المحتل الإنجليزي داخل القطر المصري.
2- التصدي للمخطط الصهيوني اليهودي لاحتلال فلسطين.

فقد دعا الإمام البنا خمسةً من الإخوان، وهم: صالح عشماوي، وحسين الدين كمال، وحامد شريت، وعبد العزيز أحمد، ومحمود عبد الحليم، وعهِد إليهم بإنشاء النظام الخاص وتدريبه، ورتَّب القيادة، بحيث يكون صالح عشماوي الأول، ويليه حسين الدين كمال ، وقد وضعوا برنامجًا للدراسة داخل النظام، مثل:

1- دراسة عميقة ومستفيضة للجهاد في الإسلام من خلال القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي.
2- التدريب على الأعمال العسكرية.
3- السمع والطاعة في المنشط والمكره.

ولم يكن النظام الخاص هو النظام العسكري السري الوحيد في مصر فقد كانت هذه هي سمة العصر فتشكلت تنظيمات علنية وسرية عسكرية عديدة، فقد كان لكل حزب مثل الوفد ومصر الفتاة عناصر عسكرية متمثلة في القمصان الزرقاء والخضراء، كما كانت جماعة اليد السوداء والتي كان يرأسها أحمد ماهر وكان نائبه النقراشي هي الجمعية السرية لحزب الوفد، وقامت بعمليات اغتيال كثيرة مثل السير لى ستاك، وحسن عبد الرازق باشا وإسماعيل زهدي بك عضوين من حزب الأحرار، كما اشترك إبراهيم عبد الهادي (رئيس الوزراء فيما بعد)، وعبد الرحمن فهمي بك بجرائم اغتيال سياسية فلم يتهمهم أحد بالخيانة، ومن أهم الأحداث والاغتيالات السياسية حادث مقتل أمين عثمان، والذي قام به حسين توفيق ومحمد أنور السادات والذي كان يعتبره السادات عملًا بطولياًّ وكان يفتخر به؛ فلم يستطع أحد أن يصفه بأنه قاتل.

لقد قام النظام بعدة عمليات ضد الإنجليز، كما قام بدور كبير نحو فلسطين من جمع السلاح والمال وإرساله للمجاهدين في فلسطين أثناء الحرب العالمية الثانية.

وإن كان حدث منه بعض الأخطاء الفردية الخطيرة مثل مقتل الخازندار أو النقراشي، فقد كان للحادثين ظروف خاصة حيث كانت البلاد تقع تحت الاحتلال، وقد حكم أحمد الخازندار على شابين من مصر الفتاة بالحبس عشرة سنوات لكونهم ألقوا قنابل على النادي الإنجليزي في الإسكندرية، ولم يكتف بذلك بل عنف محام المتهمين عندما قال المحامي: إنهم لم يرتكبوا جرمًا؛ لأن بريطانيا دولة معتدية، فرد عليه الخازندار بقوله: كيف تقول هذا الكلام يا أستاذ؛ فبريطانيا دولة حليفة وصديقة.

ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل إنه حكم على أحد المقاولين وكان يدعى حسن قناوي والذي أتهم بممارسة الشذوذ مع بعض الشباب، ثم قتلهم بعد كل عملية، وقد شغلت قضيته الرأي العام وانتظر الجميع أن ينفذ فيه حكم الإعدام خاصة بعد أن أثبتت النيابة يقينًا قتله لثلاثة فما كان من الخازندار باشا إلا أن حكم عليه بسبعة أعوام، فكان لهذا الحكم صدى في أركان البلاد.

وما زاد من رصيد الكراهية لدي الشعب أنه حكم على امرأة قذفت مخدومتها في موضع العفة فماتت فحكم عليها بعام مع وقف التنفيذ، ومما ذاد الأمر نقمة عندما انتقل إلى القاهرة قدم له اثنان من الإخوان بتهمة إلقاء القنابل على النادي الإنجليزي ليلة عيد الميلاد فحكم على أحدهم ويدعى حمدي النفيس بثلاثة أعوام وتبرئة الآخر، فصاحب هذا الحكم استياء لدى الشعب، ما دفع عبد الرحمن السندي لاتخاذ قرار بقتله دون الرجوع للإمام البنا أو المجلس الاستشاري للنظام، وكلف اثنين بذلك واللذان قبض عليهما بعد الحادث مباشرة وقدموا للمحاكمة التي حكمت عليهم، وكان أكبر دليل أن الحادث فردي ولا شأن للجماعة به أن المحكمة لم تدن الجماعة، بل أن النقراشي بعد الحادث أقدم على حل الجماعة غير أنه تراجع بسبب أن الحادث فردي.

غير أن الإمام البنا لم يدع الحادث يمر دون تقصى للحقائق واستبيان للأمر فعقد محاكمة داخلية للسندي لمعرفة الأسباب التي دعته لاتخاذ قرار مثل هذا -وهو مخالف لشرع الله ولمبادئ الإخوان- وكاد الأمر يتطور بسبب استياء الإخوان من تصرف السندي غير أن فتح باب التطوع وذهاب متطوعي الإخوان لفلسطين أجل الأمر بعض الشيء.

لم يتوقف اضطهاد الجماعة، بل ظل الإنجليز يحاولون ذلك بكل وسائلهم، وزاد هذا الاضطهاد بعد ظهور قوة الإخوان في حرب فلسطين عام 1948م؛ حيث أثبتوا أنهم قوة ضاربة تستطيع أن تزعزع أركان المحتل الإنجليزي، وهذا ما دفع اللواء فؤاد صادق قائد الجيش المصري في فلسطين طلب النياشين لبعض الإخوان، فصدر الأمر الملكي بمنح كلاًّ من كامل الشريف وحسن دوح وسيد عيد وعويس عبد الوهاب نوط الشرف العسكري من الطبقة الأولى من المتطوعين غير العسكريين، هذا غير الضباط وعساكر الجيش الذين حصلوا على نوط الشرف العسكري ..(ورد ذلك في الصفحة الثالثة من جريدة الأهرام الموافق 4 مارس 1949م).

لقد كان هدف الإمام البنا الثاني من النظام الخاص هو الدفاع عن فلسطين ضد عصابات اليهود وانطلاقا من هذا الهدف وقبل تشكيل النظام الخاص قام بدعم الانتفاضة الفلسطينية منذ اندلاعها على يد عز الدين القسام عام 1936م، بل لقد قام بتوزيع كتاب يكشف الجرائم التي ارتكبها الإنجليز ضد العزل الفلسطينيين كان تحت عنوان: (النار والدمار في فلسطين الشهيدة) في يوليو 1938م، كما أنه أخذ في جمع التبرعات وإرسالها للفلسطينيين، وعندما أعلنت بريطانيا أنها ستنسحب من فلسطين في 15/ 5/ 1948م عقد الإمام البنا مع باقي القوى السياسية مؤتمرًا في الأزهر أعلن أنه سيرسل عشرة آلاف مقاتل من الإخوان إلى فلسطين للتصدي لعصابات اليهود، فكانت ضربة قوية أفزعت الإنجليز والأمريكان واليهود عن كون هذه القوى موجودة ولا يعلمون بها، وأنها ستكون سببًا في عرقلة المخطط الصهيوني لتوطين اليهود في فلسطين، وذاد فزعهم بعدما تحركت كتيبتان من متطوعي الإخوان، الأولى اتجهت إلى قطنة في سوريا، والثانية عسكرت في معسكر البريج، وكانت تحت قيادة الشيخ محمد فرغلي ويوسف طلعت وكامل الشريف، وهذا يرد على من يشكك بأن الإخوان لم يشتركوا في حرب فلسطين، فشهداؤهم وشهادة قادة الجيش المصري والأوسمة الشرفية التي حصلوا عليها كفيلة بالرد، ولقد استطاع الإخوان أن يكبدوا اليهود هزائم شديدة مما كانت سببًا في فزعهم.

لقد أدرك اليهود ما ينطوي عليه هذا التدخل من خطر شديد على أهدافهم وخططهم فقاموا ينشرون المقالات الطوال في صحف أوروبا وأمريكا ويفعمونها بالتهم الخطيرة عن الإخوان المسلمين، وحقيقة خطرهم على الولايات المتحدة وبريطانيا، وكانوا يحاولون بذلك استعداء الحكومة الأمريكية لتقوم بعمل حاسم وسريع، وتستأصل هذا الخطر الإسلامي الذي يهدد مصالحها بالزوال، وليس أدل على ذلك من مقال كتبته فتاة صهيونية تدعى «روث كاريف» ونشرته لها جريدة« الصنداى ميرور» في مطلع عام 1948م ونقلته جريدة« المصري» لقرائها في حينه، ونحن ننقل بدورنا أهم ما جاء به من التهم ليرى القارئ مدى النجاح الذي أحرزته الدعاية اليهودية حين أقنعت حكومات أوروبا بخطورة حركة الإخوان، ودفعتها لمحاربتها بشده، قالت الكاتبة في مقالها :إن الإخوان المسلمين يحاولون إقناع العرب بأنهم أسمى الشعوب على وجه البسيطة، وأن الإسلام هو خير الأديان جميعًا، وأفضل قانون تحيا عليه الأرض كلها» ثم استطردت تصف خطورة حركة الإخوان إلى أن قالت: والآن وقد أصبح الإخوان المسلمون ينادون بالاستعداد للمعركة الفاصلة التي توجه ضد التدخل المادي للولايات المتحدة في شئون الشرق الأوسط، وأصبحوا يطلبون من كل مسلم ألا يتعاون مع هيئة الأمم المتحدة، فقد حان الوقت للشعب الأمريكي أن يعرف أي حركة هذه، وأي رجال يتسترون وراء هذا الاسم الرومانتيكي الجذاب اسم «الإخوان المسلمين».

وقالت -وهذا هو بيت القصيد: إن اليهود في فلسطين الآن هم أعنف خصوم الإخوان المسلمين، ولذلك كان اليهود الهدف الأساسي لعدوان الإخوان، وقد قام أتباعهم بهدم أملاك اليهود ونهب أموالهم في كثير من مدن الشرق الأوسط، ويعدون الآن العدة للاعتداء الدموي على اليهود في عدن والبحرين، وقد هاجموا دور المفوضيات والقنصليات الأمريكية، وطالبوا علنًا بانسحاب الدول العربية من هيئة الأمم المتحدة.

الإخوان المسلمين في مظاهرات شعبية أمام قصر عابدين ضد قرار تقسيم فلسطين

وبعد هجوم عنيف على سماحة المفتى الأكبر وعلى فضيلة الإمام الشهيد حسن البنا ختمت مقالها قائلة: «وإذا كان المدافعون عن فلسطين –أي: اليهود- يطالبون الآن مجلس الأمن بإرسال قوة دولية لتنفيذ مشروع التقسيم الذي أقرته هيئة الأمم المتحدة، فإنهم لا يطالبون بذلك؛ لأن الدولة اليهودية في حاجة إلى الدفاع عن نفسها، ولكنهم يريدون إرسال هذه القوة الدولية إلى فلسطين لتواجه رجال الإخوان المسلمين وجهًا لوجه، وبذلك يدرك العالم كله الخطر الحقيقي الذي تمثله هذه الحركة، وإذا لم يدرك العالم هذه الحقيقة في وقت قريب فإن أوروبا ستشهد ما شهدته في العقد الماضي من القرن الحالي إذ واجهتها حركة فاشية نازية فقد تواجهها في العقد الحالي إمبراطورية إسلامية فاشية تمتد من شمالي إفريقيا إلى الباكستان، ومن تركيا إلى المحيط الهندي»، وهذا المقال يوضح جليا السبب الرئيسي للصدام وحل الإخوان عام 1948م.

ومن ثم اجتمع سفراء الإنجليز وأمريكا وفرنسا في مدينة فايد في 11 نوفمبر 1948م وطلبوا من النقراشي باشا إصدار قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين، فكما جاء في الوثيقة الممهورة بإمضاء الماجور (أوبريان ماجور) السكرتير السياسي للقائد العام للقوات البرية البريطانية في الشرق الأوسط والتي جاء فيها أنها مرسلة إلى رئيس إدارة المخابرات رقم (13) تحت رقم قيد: (1843 /أى/ 48) يعلمه فيها باجتماع السفراء واتخاذ قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين عن طريق السفارة البريطانية، فرفع الكولونيل (أ. م. ماك درموث) رئيس المخابرات البريطانية هذا الأمر تحت رقم قيد (1670/ أ ن ت/ 48) إلى إدارة: ج . س . 3 بتاريخ 20/ 11/ 1948م ليعلم حكومة الملكة بذلك، وفعلًا كلف السفير البريطاني النقراشي باشا باتخاذ الإجراءات اللازمة للحل.

-ولقد صدرت أوامر حل قبل هذا الحل كما ورد في صحيفة روزا ليوسف العدد (1035)، 4جمادى الآخرة 1367هـ / 13 أبريل 1948م، منها ما حدث عام 1941 في وزارة حسين سري عندما أراد الإخوان عمل احتفال في السيدة زينب بالقاهرة فأعدوا لذلك سرادقًا كبيرًا حضره كثير من الإخوان عام 1941م، الأمر الذي أزعج السفارة البريطانية في وقت كان الإنجليز يعانون فيه من الهزائم المتوالية أمام الألمان، فقدمت السفارة البريطانية احتجاجًا لدولة سرى باشا لتهاونه في السماح للإخوان بمزاولة نشاطهم العدائي للإنجليز وتهديدهم لسلامة الإمبراطورية البريطانية، وطلبت منه حل هذه الجمعية، ولكن سرى باشا رفض ذلك -حيث إن الأمر لا يستدعي- فاضطرت السفارة أن تنشئ جمعية "إخوان الحرية" لمناهضة الإخوان، كما طلب اللورد كيلرن من النحاس باشا حل جمعية الإخوان المسلمين، وقد دهش النحاس لاهتمام الإنجليز بهذه الهيئة الناشئة، وتكرر طلب اللورد كيلرن، وفى هذه المرة أضاف طلبًا جديدًا، وهو الحيلولة دون فوز الإمام البنا في دائرة الإسماعيلية التي تعسكر فيها قوات الإنجليز، وفي وزارة أحمد ماهر (ديسمبر 1944م- فبراير 1945م ) طالب الشيخ المراغي بحل الهيئات الدينية كلها بما فيها الإخوان بسبب استصدار هذه الهيئات للفتاوي، غير أنه توفي قبل تنفيذ القرار، كما طالب السيد علي المؤيد مندوب اليمن في الجامعة العربية حل جمعية الإخوان المسلمين بعد حادث اليمن غير أن الطلب قوبل بالرفض-.

ونعود إلىللنقراشي باشا الذي سرعان ما أخذ القرار من السفير وبدأ في تطبيقه بأن حل جمعيتي الإخوان في الإسماعيلية وبورسعيد، ثم قام بعد ذلك في 8 ديسمبر 1948م بإصدار قرار بحل جمعية الإخوان المسلمين ومصادرة أموالها واعتقال أفرادها (كما ورد في صحيفة الأهرام العدد 22750 الموافق 9/12/ 1948م ص(1)، حتى إن عبد الرحمن الرافعي باشا كتب في كتابه (في أعقاب الثورة المصرية، الجزء الثالث، دار المعارف، الطبعة الأولى، 1989م) قوله: "لعمري إن النقراشي لم يكن موفقًا في إصدار هذا الأمر؛ فإنه ليس من العدل أن تأخذ الجمعيات والأحزاب بتصرفات أو جرائم وقعت من بعض أعضائها، بل يقتصر الجزاء على من ارتكبوا هذه الجرائم".

والسؤال: لماذا وافق النقراشي باشا على الاستجابة للإنجليز وحل الجماعة مع إدراكه أن سري والنحاس رفضا هذا الطلب من قبل؟

الأمر يتضح في حياة النقراشي، فقد انضم للوفد منذ نشأته، غير أن الإنجليز رفضوا توليه منصب وزير من عام 1924م حتى 1929م بسبب اتهامه في قضايا الاغتيالات، لكنها وافقت أوائل عام 1930م فتولى وزارة المواصلات ثم الداخلية في وزارة محمد محمود باشا، وكانت أهم الملاحظات عليه (كما ذكر الدكتور سيد عبد الرازق يوسف عبد الله في رسالة الدكتوراه تحت عنوان محمود فهمي النقراشي ودوره في السياسة المصرية 18881948م): أن النقراشي اشترك في الاعتداء على الدستور والحرية الشخصية للأفراد، كما تخلى عن العمل الوطني منذ أن اشترك في الوزارات، فأصبح يتطلع لنصرة الإنجليز، كما أنه أصدر قانون رقم 597 في 4/ 7/ 1945م بصفته وزيرًا للداخلية بمنع الاجتماعات المقررة لحزب الوفد ببورسعيد، كما أصدر قرارًا بمنع الاحتفال بعيد الجهاد فى نفس العام، كما أصدر قرارًا بمنع ارتياد المرضى لمستوصف الإخوان الخيري، وذلك كما ورد في محفظة رقم 561 الإخوان المسلمين محفظة عابدين دار الوثائق ص (364)، كما كان الصدام دائمًا بينه وبين الوفد ومصر الفتاة واليسار المصري.

كما أصدرت حكومة النقراشي في 12 يوليو عام 1945م القانون رقم (49) لسنة 1945م لتنظيم عمل البر بالجمعيات الخيرية، وقررت المادة الأولى من القانون أنه «تعد جمعية خيرية كل جماعة من الأفراد تسعى إلى تحقيق غرض من أغراض البر، سواء أكان ذلك عن طريق المعاونة المادية أم المعنوية، وتعد مؤسسة اجتماعية كل مؤسسة تنشأ بمال يجمع كله أو بعضه من الجمهور لمدة معينة وغير معينة، سواء أكانت هذه المؤسسة تقوم بأداء خدمة إنسانية دينية أو علمية أو فنية أو صناعية أو زراعية... أم بأي غرض آخر من أغراض البر أو النفع العام» كما ورد في الوقائع المصرية العدد 110 بتاريخ 16/ 7/ 1945م.

وقد أعطى القانون للجمعيات القائمة مهلة ثلاثة أشهر لتوفيق أوضاعها وفقًا للقانون، وإلا جاز لوزير الشئون الاجتماعية طلب حلها.

وجاء في عدد الأهرام 21577 ص (2) بتاريخ 27/ 2/ 1945م أن الإنجليز استقبلوا وزارة النقراشي بالترحاب وأن اللورد كيلرن أرسل رسالة تهنئة وترحيب للنقراشي لتوليه الوزارة، فرد عليه النقراشي كما ورد في مجلة الدستور العدد 235 ص(2) بتاريخ 28/ 2/ 1945م يشكره على هذه المعاني، وأنه سيظل يعمل على التعاون مع صاحبة التاج البريطاني، كما أن أول عمل قام به إعلانه دخول الحرب بجوار إنجلترا في 26/ 2/ 1945م، كما نوه في خطاب العرش الذي ألقاه في 12/ 11/ 1945م بالصداقة مع بريطانيا، ولا يخفى على أحد ما قام به في 9/2/1946م من مذبحة كوبري عباس ضد الطلبة، كما أنه عرض القضية المصرية عرضًا هزيلًا ضيع البلاد كما أضاع السودان.

وعندما اندلعت حرب فلسطين رفض أمام مؤتمر عالية في أكتوبر 1947م دخول الجيوش النظامية، وإمداد المتطوعين بالمساعدة، غير أنه رضخ لأوامر الملك عندما أمر بدخول الجيش المصري رغم ما فيه من ضعف، فطالب النقراشي البرلمان بالانعقاد وعرض عليهم الأمر عاريًا من الصحة، وكذب عليهم في أمر الجيش، وأنه قوي وسيهزم اليهود مما دفع النواب للموافقة، وتبين لهم بعد ذلك كذب ما قال، وذلك كما ورد في مجلة آخر ساعة العدد 969 ص(13) بتاريخ 20/ 5/ 1953م، غير أن الأسباب الحقيقية التي دفعت النقراشي للزج بالجيش المصري هي خشيته من الإخوان ومحاولة منافستهم وتنفيذ أوامر الملك، كما أنه قبل الهدنة في 4 ديسمبر 1948م استجابة لنداء اليهود ومن خلفهم الإنجليز والأمريكان بالرغم من وصول المجاهدين وقوات الجيش لمناطق هامة، حتى إنهم كانوا على مقربة من تل أبيب، كما أنه أثناء الهدنة لم يقم بإمداد القوات بالسلاح، بل منع السلاح في الوقت التي كانت العصابات اليهودية تحصل على السلاح وتقوم بخرق الهدنة بين الحين والآخر.

وأصدر أمرًا بمنع باقي المجاهدين من السفر، بل وطالب بعودة المجاهدين الموجودين في أرض المعركة، بل أصدر أمرًا للواء فؤاد صادق باعتقال كل المجاهدين الموجودين في فلسطين، غير أن الرجل رفض اعتقالهم حتى يتموا مهمتهم.

وعندما وقع الجيش المصري تحت الحصار في الفالوجا لم يمده بالإمدادات ولم تصل له أية إمدادات إلا عن طريق المتطوعين تحت قيادة الضابط معروف الحضري، وظل الجيش تحت الحصار حتى عقدت معاهدة رودس في مارس 1949م، مما زاد من حنق وغضب الجيش على الملك والوزارة.

وبعد وصول المتطوعين من الإخوان إلى فلسطين واشتباكهم مع عصابات اليهود أثبتوا جدارتهم في إدارة المعركة مما أقلق اليهود بسبب هذه الفئة.

ثم رضخ لأوامر الأمريكان والإنجليز والفرنسيين بحل جماعة الإخوان المسلمين فحلها كما ذكرنا في 8/ 12/ 1948م، وصادر أموالها واعتقل رجالها مما دفع بعض الشباب -في غياب قيادات الجماعة خلف السجون وحلها وتجمع الأسباب السابقة- أن يبادروا بالإقدام على قتله دون الرجوع لأحد من قيادة الجماعة، مما دفع الإمام البنا أن تستنكر هذه الفعلة التي لا تنم على فهم مبادئ الإخوان المسلمين ولا تتماشى مع روح الإسلام، يقول الباحث القانوني إسماعيل تركيٍٍ في بحث تحت عنوان: «الوجود القانوني للإخوان المسلمين»: في 8 ديسمبر عام 1948م، وبناءً على تعليمات سفراء إنجلترا وأمريكا وفرنسا أصدر «النقراشي رئيس وزراء مصر والحاكم العسكري» القرار العسكري رقم (63) لسنة 1948م بحلِّ جماعة الإخوان المسلمين، ومصادرة أموالها، واستند في إصدار هذا الأمر إلى البند الثامن من المادة الثالثة من القانون (15) لسنة 1923م الخاص بالأحكام العرفية، وقد تجاوز في هذا القرار الصلاحيات الممنوحة له بموجب ذلك القانون، والذي لا يتحدث إلا عن فضِّ الاجتماعات أو منع حدوثها، ولو بالقوة، ولكنه لا يشمل حلَّ الجمعيات وإعدامها وإنهاء حياتها القانونية أو مصادرة أموالها، ويعدُّ إصدار «النقراشي» هذا القرار تجاوزًا للسلطة المخولة له، واعتداءً على القانون والدستور قبل أن يكون اعتداء على هيئة الإخوان المسلمين، ولم يكن ذلك كله إلا تنفيذًا لرغبات الدول الأجنبية، وخضوعًا للاحتلال.

غير أن الجماعة في ظل الحل واعتقال قادتها دخلت في طور المحنة الشديد على يد إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء الذي نكل بالجماعة تنفيذا لرغبة الملك والإنجليز واستكمالا لسياسة القضاء على الإخوان والتي بلغت ذروتها باغتيال الإمام البنا في 12/ 2/ 1949م.

واستمر الوضع كذلك حتى أقال الملك إبراهيم عبد الهادي في يوليو 1949م، وشكل حسين سري الوزارة فأفرج عن الإخوان وبعدها دخلت الجماعة في سباق إعادة كيانها إلى الوجود فطالبت بإلغاء الحل ورفعت القضايا، فقد أقام الإمام البنا وسكرتير الجماعة الأستاذ «عبد الحكيم عابدين» دعوى أخرى في 13يناير 1949م، وهي الدعوى (190) لسنة 3 قضاء إداري، وقد طالبا فيها بوقف تنفيذ القرار العسكري رقم (63) لسنة 1948م، والأوامر المترتبة عليه، وذلك على سبيل الاستعجال، أما في الموضوع فالحكم بإلغاء تلك الأوامر.

واستمر الأمر يتداول في القضاء الإداري، وبعد سقوط حكومة الأحرار الدستوريين، فاز الوفد في الانتخابات البرلمانية بمساعدة الإخوان؛ فقامت حكومة الوفد بالإفراج عن المعتقلين، ولكنها أرادت عدم الاعتراف بالجماعة باعتبارها هيئة إسلامية جامعة، وجعلها جمعية خيرية كغيرها من الجمعيات؛ فأصدرت حكومة الوفد القرار بقانون رقم (50) لسنة 1950م الذي مدَّ العمل بالأحكام العرفية لمدة عام، أو للمدة التي تنتهي فيها الحكومة من إصدار قانون الجمعيات؛ لأن إلغاء الأحكام العرفية كان يعني سقوط القرار بحلِّ الإخوان، الصادر من الحاكم العسكري مستندًا فيه لتطبيق الأحكام العرفية، كما حاول «فؤاد سراج الدين» بيع المركز العام في المزاد العلني، وحوَّله إلى قسم شرطة الدرب الأحمر، ثم أصدرت حكومة الوفد بعد ذلك قانون الجمعيات في 26 أبريل من عام 1951م، وهو القانون (66) لعام 1951م بشأن الجمعيات ذات الأغراض الاجتماعية والدينية والأدبية، وكان الغرض من هذا القانون تحويل الإخوان إلى جماعة دينية بعيدة عن السياسة، إلا أن قرار محكمة القضاء الإداري الصادر في 17 سبتمبر 1951م لم يمكِّن حكومة الوفد من تنفيذ مخططها؛ إذ قرر أن جمعية الإخوان المسلمين تكوَّنت في ظلِّ الحقِّ الأصيل في تكوين الجمعيات الذي أعلنه دستور 1923م، وقرر قيامه، فاكتسبت صفتها القانونية، كما تمتعت بشخصيتها المعنوية من تكوينها وفق المبادئ المقررة من إسناد هذه الشخصية إلى كلِّ هيئة استوفت عناصرها، وتوافرت لها مقوماتها من إرادة خاصة ونظام تبرز به هذه الإرادة وتظهر.

وجاء الحكم في الموضوع في القضية (190) لسنة 3 قضاء إداري ليؤكِّد الحكم السابق، ويؤكِّد أن الإخوان هيئة إسلامية جامعة، وأن الإخوان وفقوا أوضاعهم وفقًا للقوانين المعمول بها، ومما يجدر الإشارة إليه أن الحكم اعتبر أن جماعة الإخوان المسلمين تستند في وجودها إلى ما تستند إليه الأحزاب السياسية، وهو المادة 21 من دستور 1923م.كما ذكر صاحب بحث الوجود القانوني.

وعادت الجماعة للعمل مرة أخري حتى قامت الثورة واشترك الإخوان فيها وطرد الملك وتحولت البلاد إلى نظام جمهوري.

ومما سبق يتضح أن:

1- الصدام مع الإخوان المسلمين في العهد الملكي كان بسبب وجود المحتل الإنجليزي الذي رفض وجود قوة كالإخوان تزعزع استقرار دولته في مصر.
2- دور المنظمات الصهيونية في القضاء على الإخوان بسبب قوتهم في حرب فلسطين وتهديد الدولة اليهودية.
3- كانت الحكومات التي تولت حكم مصر تسير في ركاب الإنجليز وكانت تنفذ طلباته.
4- كثير من الذين تربوا في أحضان الإنجليز لم يرضوا بما جاء به الإخوان من فكر جديد ومبادئ تنادي بالعودة إلى المعين الأصلي للإسلام، والتصدي للمستعمر، وإخراجه من مصر، بما يضر بمصالحهم الشخصية وعلاقاتهم بالإنجليز.
5- الإخوان حتى وإن صدر منهم بعض الأخطاء فهم بشر يجري عليهم ما يجري على البشر، ولابد أن يقبل خطؤهم، على أن يحاول الجميع التضافر نحو مجتمع أفضل.
6- لابد من تقبل الإخوان كطرف آخر موجود في الوطن، والتعامل معه على أنه شريك في إصلاح هذا الوطن، وليس غريبًا أو خصمًا لهذا الوطن، وأن ينظر المؤرخون والكتاب إلى الإخوان من جميع جوانبهم، وليس من بعض الجوانب، أو الترصد لبعض أخطائهم، وتجاهل جهودهم في إصلاح المجتمع، والتي أدركها الجميع ولمسها.

هذه هي بعض أسباب الصدام -من وجهة نظرنا- في العهد الملكي، ولا نرى أنها بسبب الإخوان كجماعة، بل بسبب ما حمله الإخوان من فكر ومنهج، والذي رآه المحتل وأعوانه أنه سيكون سببًا في زوال دولتهم، فكان لابد من اضطهادهم وإفنائهم.

  • وفي الحلقة القادمة -إن شاء الله- سنلقي الضوء على علاقة الإخوان بالأنظمة الجمهورية، وأسباب الصدام بينهم، وهل هي بسبب الإخوان أم بسبب هذه الأنظمة وحكمها الفردي؟
إقرأ الجزء الثاني
الإخوان المسلمون وأسباب الصدام مع الأنظمة المتعاقبة (الثورة وما بعدها)