الإخوان المسلمون والفلاحون
مقدمة
منذ أن قامت جماعة الإخوان المسلمين عام 1928م وعلى مدي تاريخها وهي تنهض بالدعوة إلى الإسلام - العقيدة والشريعة ونظام الحياة ومنهاجها- من خلال إيمان عميق وفهم صحيح وتطبيق وعمل يقترنان بالإيمان والفهم، مستعينين بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، وكما كان وما زال من عظيم غاياتهم وأهدافهم أن يؤلفوا بين القلوب من خلال رباط الحب والإخوة، وأن يؤكدوا أهمية العدل والإنصاف والمساواة، والإيثار والبذل والعطاء.
ومن خلال هذا الفهم، وفي هذا الإطار، ومن هذا المنطلق نهضت الجماعة وتنهض بالدعوة إلى الله على كل الساحات وبين كل القطاعات.
وكانت ساحة العمل والعمال والفلاحين من الساحات التي أولاها الإخوان المسلمون – ولا يزالون - اهتماما كبيرا وعناية عظيمة انطلاقا من تأكيد الإسلام على أهمية العمل والعطاء، وتعمير الأرض، والبذل والتضحية ... ومن منطق تكريمه للأيدي العاملة، ودفعه الناس للسعي في الأرض يبنون ويشيدون، وينشرون الخير والنور، ويبذلون العرق والجهد وصولا للعيش الكريم الحلال، ويعطون البشرية المثال والقدوة ويجمعونها على البر والتقوى.
الفلاح المصري
مصر بلداً زراعياً يعتمد اقتصادها أساساً على إنتاج وتصدير القطن ويعيش الغالبية من سكانها في الريف. وتعرض الاقتصاد المصري لظروف كارثية في نهاية العشرينات ومطلع الثلاثينات. فقد انخفضت أسعار القطن المصري في الأسواق العالمية بنسبة 70% بين عامي 1927 و1933. حدث ذلك نتيجة للأزمة الحادة التي واجهتها صناعة النسيج البريطانية والتي كانت في ذلك الوقت المستورد الرئيسي للقطن المصري.
ويجب الانتباه هنا إلى أن القطن كان يشكل العمود الفقري للاقتصاد المصري في ذلك الوقت. كان القطن يمثل حتى بداية الأربعينات ما بين 40 و50% من إجمالي الإنتاج الزراعي وما بين 80 و90% من إجمالي الصادرات. وقد أدى انهيار أسعار القطن إلى موجة واسعة من الطرد للفلاحين من الأرض من قبل كبار الملاك المصريين والأجانب. وأدى أيضاً إلى تضخم عبء الضرائب والإيجارات والديون للمرابين والتجار.
كانت إحدى النتائج المباشرة لأزمة أسعار القطن أن عشرات الآلاف من الفلاحين لم يعد بمقدورهم تسديد الديون. واستغلت البنوك والشركات الأجنبية الوضع، وقامت بطرد الفلاحين من أراضيهم بسبب الديون التي لم يسددوها. وقد بلغت مساحات الأرض التي تم إخلاؤها بقوة القانون من الفلاحين: 22.600 فدان عام 1929 و21.900 فدان عام 1930 و36.000 فدان عام 1931 و30.000 فدان عام 1932.
وقد وصل تركيز ملكية الأرض في أيدي عدد قليل من الملاك إلى أقصاه خلال فترة الثلاثينات حيث أصبح 96.5% من مالكي الأرض يملكون 46% فقط من الأراضي الزراعية، في حين يملك 3.5% من أصحاب الأرض 54% من الأراضي. لم يكن الفلاحين الفقراء وحدهم ضحايا تلك التطورات فقد كان لها تأثيراً مدمراً على الطبقة الوسطى الريفية. ففي الأعوام الثلاثون الأولى من القرن العشرين انخفض عدد الملكيات الزراعية المتوسطة (بين 10 و30 فدان) من 891.425 إلى 817.324، في حين زاد عدد الملكيات الزراعية الصغيرة جداً (أقل من فدان) من 780.789 في 1910 إلى 1.428.271 في 1928.
إلى جانب انهيار أسعار القطن والعبء المتنامي للإيجارات، كان عذاب الفلاحين الرئيسي له مصدرين:
- الضرائب والديون. فالفلاحون كانوا يدفعون ما بين 25 و30% من دخلهم كضرائب، مما شكل عبئاً رهيباً على الغالبية العظمى منهم. أما الديون فصارت لعنة لا تحتمل بسبب فوائدها المرتفعة وعواقب عدم الدفع قاسية. وقد وصل متوسط دين العائلة الفلاحية في منتصف الثلاثينات إلي 40.5% في حين لم يتعدى متوسط دخلها سبعة جنيهات في الموسم.
- وقد انعكست تلك الأوضاع بالطبع على الصراع الطبقي في الريف في شكل انفجارات عفوية وهجمات فردية. وقد وصل عدد مخازن الغلال التي تعرضت للحرق على يد الفلاحين إلى 5.760 مخزن عام 1928/1929 و7.820 مخزن عام 1931. ووصل عدد العمد الذين تم قتلهم في الفترة من 1931 إلى 1933 لـ 2200 عمدة.
- ولخروج المجتمع المصري من أزمته الطاحنة يستلزم تحقيق عدد من الخطوات الضرورية: أولاً التحرر من الاستعمار وتحقيق الاستقلال الوطني، وثانياً القضاء على سيطرة الملكيات الكبيرة في الريف بتنفيذ إصلاح زراعي يحرر الفلاحين من قيودهم الخانقة، وثالثاً إنهاء السيطرة الاحتكارية لرأس المال الأجنبي على مراكز الاقتصاد المصري. (1)
الفلاحون في نظر البنا
لم يهمل الإمام البنا قضية الفلاح في أية وقت، بل كان أول من نادى بإنصافه قبل أية حزب أو مؤسسة، وكان الإمام البنا قد كتب سلسلة مقالات في مجلة جريدة الإخوان المسلمين في الثلاثينيات تحت عنوان: "صوت من الريف" شخص فيها أوضاع الريف حيث التناقض الرهيب بين حياة الفلاحين البؤساء المعدمين وحياة العمد والأعيان المترفين، وأكد أن المسئول عن هذه الأوضاع الحكومات والوزراء.
فكتب يقول:
ففي عام 1935م كتب يقول":
- "في القرية المصرية فقرٌ وبؤسٌ وفيها جهلٌ وغفلة وفيها مرضٌ وعاهاتٌ وفيها جرائمُ ومفاسدُ وفيها عاداتٌ سيئةٌ وخرافاتٌ فاشيةٌ.. وكل ذلك في حاجةٍ إلى الإصلاحِ الحاسم السريع، فهل يعمل على هذا الإصلاح من بيدِهم الأمر من سادتنا المترفين أم أنساهم جمال الشواطئ ولين الحياة من وراءهم أمر هؤلاء البائسين، فهم يشيرون عليهم بأن من الخير أن يأكلوا "البسكويت" ما داموا لا يَجِدون الخبز القفار (2)
ويضيف في عدد أخر تحت نفس العنوان:
- وفى القرى فقر وفاقة، فالفلاح المصرى كثيرًا ما يكون أدمه خبزه، وكثيرًا ما تكون الغبراء فراشه والسماء غطاءه، وإن كان ثم فراش فحصير بال أو حشيّة من القش، وإن كان ثم مأوى فالكوخ الذى هو بحجرات السجون أشبه منه بمساكن الناس، وثياب بالية رثة تبدو مزقًا ويبدو منها هذا الهيكل الآدمى الذى ألح عليه الشقاء فصار أشبه بكل الموميات
- وحسبك أن تعلم أن إحدى القرى تعطل مسجدها الوحيد وهو منتدى أهلها ومطهرتهم العامة من جراء خمسة جنيهات تنقل بها بئر المياه من مكان إلى مكان آخر صحى، فلم تستطع القرية - وفيها ألفان من الرجال - أن تقوم بهذا العمل، ووزارة الأوقاف نائمة قريرة، وحسبك أن تعلم أن بعض القرى توزع أرضها على الأهلين بنسبة فدانين لكل أسرة لا تقل عن عشرة أشخاص
- وحسبك أن تعلم أن الفتى القروى والفتاة القروية يرحبان بالعمل فى بلد يبعد عن بلدهما مسافة قد تزيد عن ساعتين بالسيارة ليعمل كل منهما يومه لقاء أجر لا يزيد على خمسة عشر مليمًا، هذه حقائق واقعة مؤلمة رأيناها فى الريف ولا ندرى أيعلمها أولو الأمر ويهملون أمرها، أم لا يعلمونها فيقصرون بذلك فى أقدس الواجبات الوطنية المفروضة عليهم؟
- وفى القرى جهل وخرافة، فكثير من أبناء الريف لا يفقه ما يلقى إليه فضلاً عن أن يستطيع هو أن يبين عما يريد، وهم لا يعلمون شيئًا من أمر دينهم فلا يحسنون صلاة ولا طهارة ولا يؤدون عبادة على وجهها، وكم كان مؤلمًا منظر المدارس الإلزامية وهى إما خالية من الطلبة إلا قليلاً، وإما مثال واضح لما عليه أطفال الريف من شقاء وبؤس
- ومع هذا ترى كثيرًا من علماء الدين وأئمته والمتفقهين فيه من الموظفين فى المدائن والحواضر ينتهز فرصة إجازته الصيفية فيقضيها فى الشواطئ والمصايف يلتمس الراحة من عناء الأعمال، ولست أدرى أية أعمال هذه التى أرهقته وهو يعمل وقتًا محدودًا، وينعم بما شاء فى المدينة من المناعم والمتع، أوليس من حق هذا الريفى عليه أن يفقهه فى دينه، ويرشده إلى سواء السبيل
- أوليس من الظلم أن يبالغ هذا الموظف فى المتعة على حين أن يبالغ ذلك الريفى فى الشقاء وهما أبناء وطن واحد وبلد واحد؟ ما أشبه أمة الريف فى مصر بطفل طيب القلب زكى الفؤاد حسن الاستعداد أضاعه أبوه وأهملته أمه وتركته أسرته للكوارث والحادثات.
- أيها الوزراء والزعماء والمصلحون والمتعلمون، حقوق هذا الريف وديعة فى أيديكم وتبعة فى أعناقكم تحاسبون عليها حسابًا عسيرًا بين يدى الله، وأمام التاريخ، فأريحوا أنفسكم، وأسعدوا ضمائركم بأداء هذه الحقوق قبل أن تفكروا فى إراحة الأجسام بنسيم الشواطئ وهواء البحر العليل وشمس (البلاج) المشرقة، ووداعًا أيها الريف ممن يود أن لو استطاع إسعادك ولو كلفه ذلك الحياة (3)
وكان لشدة اهتمام الإمام حسن البنا بالفلاحين أن سعى للوقوف على عددهم في القطر المصري، ومعرفة المساحات التي يتم زرعتها وعقد مقارنة بينها وبين الفلاحين وأوجد النتائج التي لا تكفي الفلاح فذكر في خطابه في رسالة المؤتمر السادس عام 1941م حيث ذكر أن عدد الفلاحين في ذلك التوقيت بلغ 8 ملايين فلاح، وأن الأرض المنزرعة تقدر بحوالي 6 ملايين فدان
إلا أن التوزيع في الواقع كان يشير إلى أن 4 ملايين فلاح لا يملكون أية مساحة من الأرض ويعملون أجراء، ومليونين من الفلاحين لا تزيد ملكية الواحد منهم عن نصف فدان، وغالب المليونين الباقيين لا تزيد ملكيتهم عن 5 أفدنة، الأمر الذي يوضح جليًا ما يعانيه الفلاحون، وإلى أي مدى بلغ انحطاط مستوى المعيشة بينهم لدرجة مخيفة، وعلى هذا الاعتبار يخص الفرد الواحد نحو ثلثي فدان.
إن أربعة ملايين من المصريين لا يحصل أحدهم على ثمانين قرشًا في الشهر إلا بشق النفس، فإذا فرضنا أن له زوجة وثلاثة أولاد وهو متوسط ما يكون عليه الحال في الريف المصري، بل في الأسر المصرية عامة، كان متوسط ما يخص الفرد في العام جنيهين
وهو أقل بكثير مما يعيش به الحمار؛ فإن الحمار يتكلف على صاحبه (140 قرشًا خمس فدان برسيم، و30 قرشًا "حملاً ونصف الحمل من التبن"، و150 قرشًا إردب فول، و20 قرشًا أربعة قراريط عفش ذرة، ومجموعها 340 قرشًا)، وهو ضعف ما يعيش به الفرد من هؤلاء الآدميين في مصر، وبذلك يكون أربعة ملايين مصري يعيشون أقل من عيشة الحيوان. (4)
وهو ما جعله يطالب بتحديد الملكيات الكبيرة مع مراعاة تعويض أصحابها ومعاونة الفلاحين في زراعتها حتى لا تبور منهم أو يعجزوا عن زراعتها
فقال:
- توجب علينا روح الإسلام الحنيف، وقواعده الأساسية فى الاقتصاد القومى، أن نعيد النظر فى نظام الملكيات فى مصر، فنختصر الملكيات الكبيرة، ونعوض أصحابها عن حقهم بما هو أجدى عليهم وعلى المجتمع، ونشجع الملكيات الصغيرة، حتى يشعر الفقراء المعدمون بأن قد أصبح لهم فى هذا الوطن ما يعنيهم أمره، ويهمهم شأنه.. وأن نوزع أملاك الحكومة حالاً على هؤلاء الصغار كذلك حتى يكبروا (5)
جهود الإخوان مع الفلاحين
لم تفرق دعوة الإخوان المسلمين بين الطبيب والفلاح، ولا بين المهندس والعامل، ولا بين الغني والفقير، بل كانت دعوة جامعة لجميع الفئات وذلك لعنايتها بمشاكل جميع الفئات والعمل على رفع الظلم عنها وإقرار حقوقها وواجباتها ومنها فئة الفلاحين – وهم السواد الأعظم من الشعب المصري.
ولا يخفى على قارئ أو دارس لتاريخ النصف الأول من القرن العشرين ما وصلت إليه حال الفلاح المصري من فقر ومرض وذل واستعباد وتهميش، رغم أن الريف المصري يعد من أخصب بقاع الأرض، وأعذبها ماءً، وأعدلها هواءً، وأكثرها خيرًا، وأقدمها مدنية وحضارة وعلمًا.
وفي إطار رؤية الإخوان لنهضة الأمة حرصوا على الاهتمام بالفلاح الذي يعتبر الدعامة الأساسية التي تقوم عليها الزراعة والصناعة والتجارة، لاسيما وأن الاقتصاد المصري آنذاك كان يقوم على الزراعة، وكان انتشار شعب الإخوان في القرى والنجوع عاملاً أساسيًّا في رفع وعي الفلاح وإدراكه لقيمته وعزته.
لقد أنشأ الإخوان قسم خاص بالفلاحين لمتابعة شئونهم قبل أن ينضم مع قسم العمال أوائل الأربعينيات، كما تزايد الطلب على إنشاء نقابات خاصة بالعمال الزراعيين.
وكان من مظاهر اهتمامهم تكوين قسم خاص بالفلاحين يقوم بنشر الفكرة الإسلامية في أوساطهم ووضع برنامج عملي لحل مشكلة الفقر بين الفلاحين وما يتصل بها من مشكلات الملكية الزراعية والعلاقة بين المالك والمستأجر
كما أن من مهام القسم دراسة نواحي الإصلاح الريفي صحيا وزراعيا واقتصاديا وتوجيه الفلاحين إلى إتباع الأصول الفنية في ذلك كما يتولي القسم الدفاع عن الفلاحين وحمايتهم من الاضطهاد ومطالبة الدولة بإصدار التشريعات الاقتصادية والاجتماعية الكفيلة بضمان حقوقهم من جميع النواحي وقد اعتمد مركز الإرشاد العام بجلسته بتاريخ 22 من ذي القعدة 1370هـ لائحة قسم الفلاحين.
وقد حدّد الإخوان المسلمون أوصافا قانونية للمشرفين على أعمال قسم الفلاحين بالأقاليم منها أن يكون على اتصال مباشر بالفلاحين قادرا على الابتكار وحسن التصرف فاهما لطبيعة دعوته. (6)
وقد اهتم قسم العمال والفلاحين بقضايا الفلاح وأحوال القرية المصرية ومحاربة الإقطاع ومواجهة الظلم الواقع على الفلاحين وقد تم نشر هذه القضايا على صفحات جريدة الإخوان وكان أهمها قضايا الإقطاع في تفتيش سخا بكفر الشيخ وميت فضالة مركز أجا وكفور نجم بالشرقية. بل إن الإخوان لشدة اهتمامهم بالفلاحين طالبوا بالتأمين الاجتماعي الشامل على العامل والموظف والفلاح، حيث يعود كثيرًا من أمراض الفلاحين إلى سوء التغذية. (7)
وقد كتبت صحف الإخوان عن أحوال الفلاحين فقالت:
- ومن أسباب انتشار الفقر أيضًا -ولعله من أهمها- هو النظام السياسي السائد، خاصة الحكومات المتعاقبة والناتجة عن الحزبية المتناحرة التي كان همها تحقيق مكاسب سياسية دون النظر إلى بؤس الفلاحين والعمال وباقي أفراد المجتمع. (8)
كما رأى الإخوان أن إصلاح القرية يتطلب إصلاحات أساسية منها:
- تحديد الملكيات الزراعية الكبيرة بوضع حد أعلى للملكية الزراعية -تتراوح بين مائة إلى ثلاثمائة فدان- ويوزع الزائد على ذلك على المعدمين وصغار الملاك بأسعار معقولة تؤدى على آجال طويلة، وتكون الدولة مسئولة عن ذلك لإعادة التوزان، كما تكون مسئولة عن توزيع جميع الأطيان المستصلحة والتي تستصلح على صغار الملاك والمعدمين خاصة، وأن توزع أملاك الدولة -فورًا- عليهم.
- كما رأوا ضرورة تحديد العلاقة بين المالك الزراعي والمستأجر بما يحقق العدل بين الطرفين، واقترح الإخوان في ذلك نظام المزارعة، وطالبوا باستكمال التشريعات العمالية لتشمل العمال الزراعيين، ولتكفل للعامل الزراعي وأسرته التأمينات ضد البطالة والعجز والوفاة، إضافة إلى تشجيع الإرشاد الزراعي، وعمل نقابات للعمال الزراعيين. (9)
وفي إطار القيام بدور عملي إيجابي في تنمية الريف قام الإخوان في كل شعبة في الريف بتكوين رهط على الأقل للجوالة، والذي كان له أثر واضح في المجتمع الريفي، ففي عام 1943م على سبيل المثال بدأت الجوالة مشروعًا اجتماعيًّا في محيط القرية كان يتضمن عدة خدمات: عقد اجتماعات لشباب القرية للتعارف، وبث روح السمر الموجه للرجولة والوطنية في صورة تمثيلية تربوية، وتشجيع شباب القرية للتفكير في خدمة مجتمعهم
كما قاموا بمشروعات خدمية لأهالي القرية، وحملهم على التفكير المستقبلي لنهضة قريتهم، وبث وسائل الثقافة والتهذيب فيها، كما عمل الإخوان على تشجيع الإرشاد الزراعي وعمل نقابات للعمال الزراعيين، والعناية بشأن القرية من حيث تنقية مياهها ونظافتها، والإكثار من المستشفيات بها، وأن يكون للفلاح حق في التأمين الصحي. (10)
وقد تبنت صحف الإخوان بعض قضايا الفلاحين، لاسيما التي تسبب ضررًا لقطاع كبير منهم، والتي يظهر فيها ظلم واضطهاد للفلاحين، ومن هذه القضايا: التعسف الذي قامت به شركة السكر ضد صغار الفلاحين الذين يزرعون القصب لحسابها، حيث قامت الشركة بعمل عقد بينها وبين هؤلاء الفلاحين ينص على أن من حق الشركة أن ترفض أي عود قصب أعوج، أو أن يتم تحديد سعر معين للقصب الذي يدر نسبة محدودة من السكر فإن أعطى أكثر من هذه النسبة جوزي بالشكر
وإن أعطى نسبة سكر أقل اقتطع من المزارع ما يساوي هذا النقص، كما ينص على تحديد كمية معينة من القصب الذي يزرع في مساحة معينة فإذا نقصت كمية القصب عن الكمية المحددة غرم المزارع أيضًا، واعتبر الإخوان أن هذه الشروط التعسفية الظالمة هي شروط مستبدة لا تتناسب مع القرن العشرين ويجب إلغاؤها وحماية حقوق الفلاح. (11)
ومن جرائم اليهود في مصر والتي أثارتها صحف الإخوان ما تعرض له الفلاحون من مآس وخسارة بسبب شركة الصناعات الكيماوية الإمبراطورية، ومقرها القاهرة، ومكتبها الرئيسي بلندن، ومديرها العام اللورد روتشيلد، أحد زعماء الصهيونية العالمية، حيث احتكرت سماد النتروشوك، ثم قامت بفصل كافة العمال المصريين ما عدا اليهود
ثم تلاعبت بمكونات السماد وأخذت ترشي الموظفين وبنك التسليف الزراعي، ولم تقف في التعامل بالرشوة عند حد فصارت تتعامل بها وتبذلها في سخاء، ثم تعود فتحاسب عليها الفلاح بإضافتها إلى ثمن الأسمدة التي تحولت فيما بعد إلى سموم أتلفت تربة البلاد، وبذلك أضرت بالثروة الزراعية وبمنتجات الفلاح، واستخدمت الرشوة ضد الشركات المنافسة مثل سماد ثابت، وبذلك كان الفلاح يدفع أسعارًا مضاعفة في سماد فاسد (12)
استمر الإخوان في الدفاع عن الفلاحين وصغار الموظفين والعمال، وعملوا على رفع الظلم عنهم، فتحت عنوان " غريق الدموع" دافع الإخوان عن مشاكل الفلاح، والحياة البائسة التى يحيها، حيث ذكر المقال أن الكل يتكلم عن مشاكل الفلاح ويخطب وده وقت منفعة يرغبها لكن لا يسعى لحل مشاكله ولذا طالب الإخوان المسئولين بالعناية بالفلاح وناشدت المجلة الأغنياء برعايتهم قائلة: " ياقوم إن الفلاح يموت ويشقى من أجلكم فهيئوا له ما يحييه حياة سعيدة وأنقذوه من حياته التعسة فهو ينشأ على الجهل ويتربى على الفقر ويعيش على الأمراض" (13)
وفى العدد 123 كتبت مجلة الإخوان تحت عنوان "هؤلاء – متى يتحررون" وفى العدد 125 كتبت تحت عنوان "العدالة الاجتماعية" تطالب بانصاف هؤلاء. كما كتبت سلسلة مقالات بعنوان "النواحي الإسلامية في قضية الفلاح" - صبري أبو المجد في مجلة النذير.
وسلة مقالات بعنوان "في سبيل المستضعفين" - محمد فتحي عثمان في مجلة الإخوان نصف الشهرية. وركن ثابت للفلاحين يشرف عليه الأخ عبد البديع صقر (أخو الفلاحين) في مجلة الدعوة الخمسينيات.
كما تبنى الإخوان قضية كفر البرامون،وما حدث فيها من إضطهاد من أصحاب الأملاك ضد الفلاحين البؤساء وطالبوا بزيادة أجورهم وإرغام تفتيش أفيروف الذي يقع بزمام القرية على تأجير أراضيه مقسمة على الأهالي بإيجار معتدل، مما عرضهم لاضطهاد عمد القريتين، حتى أنهم قدموا شهيدا من إخوان القرية لدفاعه عن الفلاحين وقضايا فما كان من بعض العائلات الغنية سوى التربص له وقتله (14)
وهي الحادثة التي سجلها عبد الرحمن عمار – وكيل وزارة الداخلية – في أسباب حل الجماعة، حيث قال: وقد وقع شجار بعد ذلك بنفس القرية في يوم 13 مارس سنة 1948م بين جماعة الإخوان المسلمين ومن إليهم وبين خصوم لهم فأسفر عن قتل أحد الأشخاص وإصابة آخرين.. ولم يذكر أن القتيل هو واحد من الإخوان المسلمين.
وهو ما جعل الإمام البنا يرد عليه بقوله:
- أما ما يتصل بحوادث كفر بدارى ومنية البرامونى: فالثابت والمعروف أن أساس النزاع وأصل الاتهام فيها أن عمدة كل منهما يريد ألا تقوم فى القرية أية جماعة يكون لها مظهرًا وكيانًا وكلا العمدتين صهر للآخر وخطتهما فى ذلك واحدة، وقد كان الإخوان هدفًا لاضطهادهما اضطهادًا قاسيًا ولولا ما فى أنفسهم من إيمان لما ثبتوا له ساعة من نهار. (15)
بل إن الإخوان تعاونوا مع فلاحي كفر الشيخ في المطالبة بحقوقهم وهي الحادثة التي حاولت عبد الرحمن عمار إيهام الرأى العام أنها كانت شغب من الإخوان حيث قال: وفي يوم 26 يونيو سنة 1948م حرض الإخوان المسلمون عمال تفتيش زراعة محلة موسى التابع لوزارة الزراعة على التوقف عن العمل مطالبين بتملك أراضي هذا التفتيش، الأمر الذي سجلته تحقيقات القضية رقم 921 سنة 1948م جنح مركز كفر الشيخ.
مما دفع الإمام البنا بالرد عليه مفندا ذلك ومجليا الحقيقة بقوله: وحادثة تفتيش محلة موسى:
- مأساة تستحق الدراسة والرثاء، فقد كان الإخوان عامل تهدئة لنفوس هؤلاء المظلومين المجروحين الذين يستغيثون ولا مغيث، فاتهموا بالإثارة والتحريض وقبض على أربعة منهم من خيرة الشباب، واستمروا فى الحبس أربعين يومًا تحت التحقيق دون مبرر مكبلين بالحديد بين طنطا وكفر الشيخ. وماذا كانت النتيجة بعد ذلك؟ أفرجت عنهم النيابة بلا ضمان، فهل هذه إحدى الحجج التى يريد سعادة وكيل الداخلية إدانة الإخوان بها ووصفهم بالإجرام (16)
كما اعترضت صحف الإخوان عما حدث لعمال تفتيش زراعة محلة موسى يوم 26 أبريل 1948م واعترضت أيضا على قرار النيابة بحظر نشر أية أنباء أو بيانات بشأن التحقيق. (17)
وأيضًا الشهيد عناني أحمد عواد (نائب شعبة الإخوان من كفور نجم - شرقية)؛ الذي ذكره الأستاذ عبدالحليم الكناني بقوله:
- كانت أوضاع الفلاحين في قرية كفور نجم كشأنها في باقي ريف مصر المنكوب، بل كانت أشد وأنكى، إذ كانت لحظها العاثر تقع في زمام تفتيش سمو الأمير محمد علي، الذي عهد بإدارة التفتيش إلى بعض محترفي الظلم والاستعباد للفلاحين الفقراء المستضعفين يساندهم بطبيعة الحال رجال البوليس المرتبطين معهم لا مع الفلاحين المستضعفين مصالح وروابط، فلجأ عناني للأستاذ أحمد حسين لرفع قضية على التفتيش وإدارته فكانت عملية القتل المدبرة في وضح النهار وأمام نقطة الشرطة (18)
ونشرت صحيفة "منبر الشرق":
- روعت قرية كفور نجم بحادث مؤسف هو الأول من نوعه إذ وجد الشهيد عناني أحمد عواد قتيلاً بجوار نقطة البوليس، ففي ليلة الخامس عشر من رمضان تهاوت عدة "بلط" وفؤوس ومسدسات في اتجاه الشهيد عناني أفندي أحمد عواد داعية التحرر من الظلم والاستبداد والتخلص من ربقة العبودية والاستعباد.
وتفصيل الحادث كما يلي:
- كانت بين الشهيد وتفتيش الأمير محمد علي مشاحنات نتيجة رغبة التفتيش في معاملة الأهالي معاملة العبيد والأغنام، فأبى ذلك الشهيد وأصر على أن يعيش الفلاح في سلام، موفور الكرامة مهاب الجانب لا يستعبده أحد ولا يظلمه. وكان يصيح في الصاوي مفتش كفور نجم والحاكم بأمره هنالك مرددًا قول عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا" وكان من جراء ذلك أن اضطهده المفتش.
- ولم يكتف الصاوي بذلك بل استعدى البوليس على الشهيد الكريم فأخذوا في اضطهاده واستغلال سلطة وظيفتهم في معاملته بعنف، وكم قامت بينهم من مشادات انتصر فيها الشهيد لكرامته وأنصاره مما أوغر عليه نفوس المأمور وضابط المباحث.
- ولم يخرج من إجماع أهل القرية إلا أشخاص جبناء أذلاء يوالون التفتيش ويشتغلون لحسابه. وقد تمت المؤامرة الرهيبة في النهار فانهال المجرمون الآثمون على الشهيد الأعزل ببلطهم الحديدية ومسدساتهم حتى قضوا على حياته. (19)
وتمر السنين وما زال عمل الجماعة من أجل الفلاحين
ومع مرور السنين وعنت السلطة العسكرية مع طوائف الشعب المصري عامة والفلاحين خاصة وبروز أصحاب رؤوس الأموال مرة اخرى في شكل إقطاع جديد تحت قيادة الدولة العسكرية، غير أن الإخوان ظلوا يعملون جهد استطاعتهم من اجل العمال والفلاحين وطوائف المجتمع المصري، حتى أن الجماعة أعلنت عن إنشاء نقابة عامة لفلاحى مصر، يرأسها عبدالرحمن شكرى، يوم 8 مايو 2011م، والغريب أن الجماعة أعلنت عن إنشاء النقابة، خلال احتفال قسم العمال فى الجماعة بعيد العمال، أمس الأول، فى قاعة مؤتمرات الأزهر بمدينة نصر.
كما انتهت الجماعة من إنشاء 16 نقابة فرعية لاتحاد فلاحى مصر، ورغم الإعلان عن أول نقابة للفلاحين فى مصر قبل أسابيع، فإن عبدالرحمن شكرى، نقيب الفلاحين "الإخوان"، أكد أنهم تقدموا، أمس، بأوراق إشهار النقابة لوزارة القوى العاملة، باعتبارها أول نشاط تنظيمى للفلاحين فى مصر، وقال: صحيح أن الجماعة نظمت إنشاء النقابة، لكنها متاحة للجميع، وتضم فلاحين من خارج الإخوان، وتهدف إلى إعادة حقوق كثيرة للفلاحين. (20)
أخيرا
لقد أثرت التركيبة الطبقية للمجتمع المصري، على نشأة وتطور جماعة الإخوان المسلمين، حيث نشأت الجماعة بين عمال الإسماعيلية، وكان لشعورهم بالظلم والبؤس دور دافع لستة من العمال بالتوجه إلى الشيخ حسن البنا لمفاتحته في تكوين جماعة تعمل للتخلص من ذلك الوضع.
وبالطبع كان لهذه الأوضاع الاجتماعية تأثير مباشر في أهداف وفكر وحركة حسن البنا وجماعة الإخوان فجعلوا من أهدافهم تحقيق العدالة الاجتماعية والتأمين الاجتماعي لكل مواطن، ومكافحة الجهل والمرض والفقر، وتناول الإخوان قضية العدالة الاجتماعية والصراع الطبقي بالتنظير الفكري والتوعية، كما اهتموا عمليا بقضايا العمال والفلاحين.
ولذا أدرك الفلاحون أهمية دعوة الإخوان المسلمين واهتمامها بهم وبقضاياهم ولذا سارع كثير من الفلاحين للانضمام لهذه الدعوة والسير في ركابها والانتشار وسط الفلاحين للتصدي لكل إقطاعي، حتى أنه وصل واحد منهم لمنصب المرشد العام وهو الأستاذ محمد حامد أبو النصر، بل إن كثيرًا منهم تم اعتقاله بسبب التحاقه بجماعة الإخوان، واستشهد بعضهم داخل السجون مثلما حدث لهم في مذبحة طره في 1 يونيو 1957م في عهد عبد الناصر.
ومع ذلك لم تتوقف الجماعة يومًا ما عن نصرة الفلاحين وقضاياهم سواء في عهد السادات أو مبارك وظلت قضية الفلاح على رأس أولويات الإخوان المسلمين حتى الآن.
المراجع
- سامح نجيب: الإخوان المسلمون .. رؤية اشتراكية، مركز الدراسات الاشتراكية، مصر، 2006.
- حسن البنا: "صوت من الريف، جريدة "الإخوان المسلمين" العدد 19 الموافق 20 أغسطس 1935م
- حسن البنا: صوت من الريف، مجلة الإخوان المسلمون، العدد 21، السنة الثالثة، 4 جمادى الثانية 1354هـ، 3 سبتمبر 1935م.
- حسن البنا: رسالة المؤتمر السادس، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2006، صـ484. بتصرف
- حسن البنا: رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي، صـ800.
- مجلة الدعوة: العدد 31
- حسن البنا: رسالة المنهج، رجب 1357ه - 1938م.
- مجلة التعارف: العدد (14)، السنة الخامسة، 18 ربيع الآخر 1359ه - 25 مايو 1940م، صـ3
- عثمان عبد المعز رسلان: التربية السياسية عند الإخوان المسلمين في الفترة من ٨٢٩١ الى ٤٥٩١ م في مصر : دراسة تحليلية تقويمية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، مصر، طـ1، 1990، صـ211-214.
- المرجع السابق: صـ213.
- مجلة الإخوان المسلمين : العدد (63)، السنة الثالثة، 3 شعبان 1364ه - 12 يوليو 1945م، صـ17.
- مجلة النذير: العدد (1)، السنة الثانية، غرة المحرم 1358ه - 21 فبراير 1939م، صـ 20-21.
- مجلة الإخوان الأربعينيات: العدد 103 السنة الرابعة، 23 جماد ثان 1365هـ، 25 مايو 1946م، صـ13، 12.
- مجلة الإخوان الأربعينيات: العدد 190، السنة السادسة، 2 جماد أول 1367هـ، 13 مارس 1948م، صـ9.
- رسالة قضيتنا: مجموعة رسائل الإمام البنا، صـ 462 ، 482
- المرجع السابق.
- مجلة الإخوان المسلمون: العدد 86، السنة الرابعة، 15 صفر 1365هـ، 19 يناير 1946م، صـ20.
- عبد الحليم الكناني: عناني أحمد عواد .. شهيد الإخوان دفاعا عن الفلاحين، 13 أكتوبر 2012
- كيف سقط أول شهيد في معركة التحرير بكفور نجم؟: منبر الشرق، 29 يونيو 1951، صـ11.
- «الإخوان» تحتفل بعيد العمال بإنشاء نقابة للفلاحين: 10 مايو 2011