الإسلام شريكا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإسلام شريكا
دراسات عن الإسلام والمسلمين

تأليف : فريتس شتيبات

ترجمة: د. عبد الغفار مكاوي

تمهيد

1- كان على قرائه وأحبابه وتلاميذه المنتشرين فى الغرب وفى الشرق العربي الإسلامى أن ينتظروا سنوات طويلة قبل أن يتلقفوا - بلهفة الممتن المشتاق- الكتاب الجامع الذى صدر فى عام 2001 ، وضم معظم بحوثه ومقالاته التى عكف على كتابتها وألقاها فى المؤتمرات طوال أكثر من خمسين عاما( من 1944 إلى 1996) .

والكتاب يحتوى على ثلاثين بحثا ومقالا بالألمانية والانجليزية بقيت مشتتة فى كتب ومجلات استشراقية لا حصر لها، منها أربعة عشر مقالا فى التاريخ الإسلامى، والباقي فى التاريخ العربي الحديث، وكلها تشهد على إنصافه وتعاطفه وموضوعيته التاريخية الدقيقة.

وقد ظهر الكتاب تحت عنوان يدل على هذه المعنى العلمية والإنسانية وهو " الإسلام شريكا" وعلى غلافه صورة الأستاذ " فريتس شتيبات" (1933) رائد الاستشراق الألماني منذ نهاية الحرب العظمة الثانية ، فى العدد السبعين من " سلسلة النصوص والدراسات البيروتية" التى أسسها بنفسه عندما كان يتولى رئاسة المعهد الشرقي الشهير فى بيروت ( من سنة 1963 إلى سنة 1968) وقبل عودته إلى موطنه فى مدينة برلين لتولى عمادة معهد العلوم الإسلامية بجامعتها الحرة (من سنة 1969 إلى سنة 1988) واستمرار رعايته للدراسات الشرقية والإسلامية ولأبناء البلاد العربية الذين تتلمذوا على يديه وما زالت تربطهم به وشائح المحبة والعرفان، مقرونة بالتمنيات الصادقة بالشفاء من المرض الشديد الذى ألم به قبل أكثر من ست سنوات ولم يمنعه من الحفاظ على جسور التواصل والرعاية والاهتمام بتلاميذه وعارفي فضله.

2- يعد " فريتس شتيبات " نموذجا رفيعا للعالم والباحث فى العلوم الإنسانية والتاريخ العربي الإسلامى بوجه خاص. فهو يجمع بين النظر والعمل ، ويؤلف بين العقلانية الدقيقة والتعاطف الدافئ والإنصاف الحكيم : ينخرط فى بحثه بكل طاقته .

ويتأمله كذلك من مسافة بعد كافية، يشارك فى موضوعه بقلبه ومشاعره واهتمامه الشخصي، كما يحلله تحليلا موضوعيا وتاريخيا نقديا من أكثر من منظور.

ولا شك فى أن تطور حياته وتقلب مراحلها بين نقديا فى وطنه والعمل خارجه – لا سيما فى القاهرة من سنة 1955 إلى سنة 1959 وفى بيروت من 1963 إلى 1968 – ورئاسته للعديد من اللجان المشرفة على دراسة الشرق الإسلامى ومناهجها على مدى سنوات عديدة امتدت حتى بدايات المرحلة التالية لإعلان الوحدة الألمانية ( 1992- 1993) ، مع مساهمته الفعالة فى تأسيس ورعاية المركز العلمي لدراسة الشرق الحديث الذى أصبح اليوم إحدى المؤسسات الثقافية المرموقة فى العاصمة الألمانية ( وقد أوصى له بمكتبته الخاصة التى لم أر فى حياتي أروع ولا أضخم منها..) – لا شك فى أن كل ذلك مع خصاله الإنسانية النادرة التى جعلت منه الأب والمعلم والراعي الأمين لكل من درس على يديه أو اتصل به من أبناء العرب ومن عشرات الباحثين الألمان الذين تعهدهم بتوجيهه وإشرافه – كل ذلك قد بوأه عن جدارة مكانة عميد المستعربين فى ألمانيا، وسكرتير جمعية المستشرقين الألمان، والصديق الكبير لعشرات من الإخوة العرب المتخصصين فى التاريخ العربي الإسلامى قديمه وحديثه.

3- قام " شتيبات" بدور كبير فى الاهتمام بدراسة الشرق العربي الحديث، وتنبيه الأجيال الجديدة من المستشرقين والمستعربين إلى أن لغات الماضي وحضاراته ما تزال واقعا ينبض بالحياة ويؤثر تأثيرا مستمرا فى ميادين الفكر والعمل والحياة اليومية، والأزمات والقضايا الملحة فى وقتنا الراهن.

ولا شك فى أن إقامته الطويلة فى القاهرة وبيروت قد أتاحت له فرصة التعرف عن كثب على مشكلات العالم العربي الإسلامى، وتوجيه أنظار شباب الباحثين إلى أن دراسة الواقع الحاضر بكل ظواهره لا تقل أهمية عن دراسة الماضي الذى طالما استغرق جهود المستشرقين.

وهو من أوائل الذين انتبهوا إلى خطورة الكذبة الكبيرة التى يروج لها على أقل تقدير منذ أوائل التسعينات ، على ألسنة وأقلام بعض الكتاب والعلماء المغرضين، وعبر وسائل الإعلام المزيفة والجاهلة، وهى الكذبة التى تشيع أن الإسلام- بعد تفكك الاتحاد السوفيتي- هو العقبة الكبرى أمام السلام العالمي، والخطر الأكبر الذى يهدد ما يسمى بالعالم الحر، وأنه هو العدو الذى تتنافس فى رسم صورته الإرهابية أقلام متحيزة وأدوات اتصال مريبة.

ولابد أن نذكر أنه كان فى طليعة الذين انتقدوا مقالة صمويل هنتنجتون التى نشرها سنة 1993 فى مجلة الشئون الخارجية، تحت العنوان نفسه الذى ظهر به بعد ذلك كتابه المشهور عن صدام الحضارات ، وأنه كان من أوائل الذين تصدوا لآراء هذا الباحث المغالط ففندها وكشف القناع العلمي الكاذب الذى تغطى به وجهها القبيح وأهدافها المسومة.

وقد دحض أفكار هنتنجوتون وبين أن الدين الإسلامى، وأي دين آخر، لا يمكن بحكم طبيعته أن يكون عدوانيا أو يصدر عنه العدوان أو يهدف إليه، وأن مسألة العداوة للغرب يجب أن تفهم من داخل السياق التاريخي الذى تعيش بتخلفها عن الدول الصناعية المتقدمة وتبعيتها لها. كما تسعى بالضرورة سعيا متعثرا للتخلص من ذلك التخلف وتلك التبعية.

ومن هنا يقرر بكل ما أوتى من شجاعة وحكمة أن الإسلام لا يمثل أي تهديد للعالم، بل إن العكس من ذلك هو الصحيح : فأكثر المسلمين يشعرون فى عصرنا الحاضر بأنهم مظلومون ومهددون .

وإذا كان هذا الشعور قد تسبب فى ظهور بعض الاتجاهات اللاعقلانية أو التصرفات المتطرفة- تجاه الأجانب والسياج بوجه خاص فى بعض البلاد العربية- فإن المسئول عن ذلك فى المقام الأول هو بعض القوى الغربية التى تهيمن على العالم، وتخون القيم والمثل العليا التى تتشدق بها( مثل حق الشعوب فى تقرير المصير، والديمقراطية وحقوق الإنسان...الخ) وتطبق معايير مزدوجة تضر بمصالح الشعوب العربية والإسلامية.

وأقرب دليل صارخ على الظلم الواقع على المسلمين والعرب هو مأساة البوسنة ومأساة فلسين وما نكبتا به من مجازر وتدمير وتخريب وتجويع.

وإذا كانت هذه المآسي وأمثالها قد ولدت ردود الفعل العنيفة عند بعض الحركات الأصولية المتشددة فلا يجوز أن تدفع الغربيين إلى رسم صورة مشوهة للإسلام كعدو للغرب، بل يجب أن تدفعهم للبحث عن أسباب هذه الحركات المتطرفة، وتحثهم على مراجعة موازينهم ومعاييرهم المزدوجة، وقنعهم بتغيير مواقفهم المتحيزة- التى ترجع لأسباب قديمة ومعقدة- ضد المسلمين والعرب، بحيث يبيتون لهم أنهم يريدون أن يفهموهم لا أن يحاربوهم .. ( راجع بحثه فى هذا الكتاب عن دور البحث العلمي فى حوار الأديان ومقاله عن الأصولية الإسلامية) .

وهكذا ينفى نفيا قاطعا أن يرجع الصراعات الكبرى فى عصرنا إلى الخلافات الدينية ، ويدعو إلى الحوار السمح بين الأديان، وتأكيد أوجه التشابه والتقارب والعناصر المشتركة بينها، وضرورة إسهام الباحثين العلميين فى هذا الحوار الذى لابد أن يعود بالخير على البشرية كافة..

4- والمستعرب والمؤرخ الكبير لا يمل التنبيه إلى تعدد الاتجاهات والتيارات والحركات السلامية، وتأكيد الفروق الشديدة بينها، واختلاف أهدافها ومشاريعها وتصوراتها لنهضة " الأمة" أو الجماعة الإسلامية.

وهو لا يمل كذلك دعوة الغربيين أن يبذلوا جهدهم لمعرفتها وتقدير الدوافع الكامنة وراءها، والشروط والمواقف التاريخية التى نشأ بعضها على الأقل كرد فعل لها.

وهو يلح فى كل مناسبة- كما سبق القول- على ضرورة تفهم هذه الحركات الإسلامية لا محاربتها، ولا يخفى تعاطفه مع التيار المعتدل الذى يدعو لاستقلال الأمة الإسلامية بهوية حضارية متميزة، ويشيد بمحاولات عدد كبير من المفكرين المجددين والدعاة المجتهدين لتأسيس مشروع حضاري يحمل الصبغة الإسلامية، ونموذج نهضوى يكون بديلا عن النموذج الغربي ويخرج العرب والمسلمين من حالة التبعية المهينة للغرب المتفوق ( راجع مناقشته المنصفة- فى المقال الرابع – لمحاولة تصنيف الجماعات الإسلامية والعلمانية ومساندته لضرورة الحوار بينها).

5- وهو ينوه فى مواضع كثيرة من دراساته ومقالاته بسماحة الإسلام، ومرونة الشرع واتساع صدره- على مدى التاريخ الإسلامى- للعديد من التفسيرات الخلاقة والاجتهادات المبدعة.

بل إنه ليرجع أحد أسباب الضعف والتخلف اللذين أصابا المسلمين ، فى القرون التى أعقبت ذروة مجدهم ونهضتهم الوسيطة وحتى وقتنا الحاضر، إلى إغلاق أبواب الاجتهاد فى تفسير النصوص المقدسة، والتشبث بآراء القدماء لمجرد قدمها- على رغم تغير الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية – والعجز عن التجديد والإبداع والمواءمة بين " المثال" الثابت والواقع والمتغير – ويكفى أن يراجع القارئ مقاله المهم عن " النائب عن الله" الذى يتتبع فيه تطور فهم المفسرين المختلفين لمعنى كلمة " خليفة" و " خلافة" وذلك من الطبري إلى على شريعتي ، ليرى كيف يرحب بالتفسيرات والتخريجات المختلفة لمعاني الكلمتين .

وكيف يؤكد أن النص القرآني نفسه يسمح بمرونة الاجتهاد فى التفسير إلى أقصى الحدود\ ، ما دام الاجتهاد والتفسير يقعان داخل إطار الإيمان الصادق والنظر العقلي الصائب.

6- من الطبيعي أن يهتم المستشرقون بوجه عام بجوانب من ديننا وتاريخنا وتراثنا وحضارتنا لا نعطيها نحن القدر الكافي من الاهتمام.

إن عين الآخر ترى ما لا نراه، وبحكم التعود والاطمئنان إلى المألوف والموروث تغيب عنا دقائق تاريخية وخفايا اجتماعية كثيرة ينتبه إليها الأجنبي الغريب بنظرة واحدة.

من ذلك موضوع " البدو" أو " الأعراب" الذين وصفهم القرآن الكريم بالذين " آمنوا ولم يهاجروا ".. فهم الفريق الثالث، إلى جانب المهاجرين والأنصار ، الذين كان لهم وضع ديني وقانوني واجتماعي يميزهم عن هذين الفريقين، كما كانت لهم مشكلات تستحق الاهتمام بها من وجهة نظر التاريخ الاجتماعي والطبقي للإسلام( راجع المقال الثامن عن الذين آمنوا ولم يهاجروا) .

ولعلهم كانوا يمثلون دور" الهامشيين" أو الغرباء" الذين لم يندمجوا – على الأقل فى فترة تاريخية معينة- فى الجماعة الإسلامية اندماجا كاملا، وظلوا متمسكين- حتى بعد دخولهم فى الإسلام- ببعض تقاليدهم وعاداتهم التى أخذوها، ابنا عن أب عن جد، من حياتهم القبلية وانتمائهم القديم الموروث للقبيلة الذى كان يفوق أي انتماء آخر.

وعلى الرغم من قصر هذه المقالة، فإنها فى تقديري يمكن أن تفتح الباب لبحوث أشمل عن أوضاع هؤلاء البدو المغتربين أو الهامشيين ، على الأقل فى المرحلة المبكرة من تاريخ الإسلام.

7- وتشهد الدراسات والمقالات المقدمة فى هذا الكتاب على عمق التعاطف العقلي والوجداني الذى يكنه المؤلف للإسلام والمسلمين( وربما يرجع أحد أسباب هذا المنحنى الفكري الموضوعي النزيه إلى انتمائه لبلد غير مثقل بتاريخ استعماري بغيض. ومن ثم لا تنطبق عليه الصورة التى رسمها إدوارد سعيد والعلامة محمود محمد شاكر للاستشراف المسخر لخدمة الاستعمار..).

وأوضح شاهد على هذا التعاطف المنصف والحكيم فى وقت واحد هو المقال القصير الذى كتبه فى سنة 1989 عن حاجة المسلمين الذين يعيشون فى وطنه إلى تنظيم موحد يجمع شملهم على اختلاف لغاتهم وأصولهم ويقرب الخلافات المذهبية التى طالما تسببت فى التفريق بينهم .

بل ودفعتهم فى أوقات كثيرة إلى تجريد السيوف من أغمادها وكأنهم أعداء لم يوحد بينهم دين السلام والإسلام لوجه الله الواحد الذى وجههم لقبلة واحدة.. وقد كتب هذا المقال أن تنخرط منظمات عديدة وتكتلات ضخمة من بعض العناصر اليهودية والمسيحية فى تشويه صورة الإسلام والمسلمين ، وتأليب القوى الغربية الغبية على شن الحرب عليهم وكأنهم أعدى أعداء السلام والنظام العالمي..

وأعتقد مخلصا أنه لو قدر للمؤلف أن يكتب هذا المقال بعد ذلك التاريخ المشئوم لما تغيرت لهجته الطيبة المتعاطفة- ولكن ماذا نفعل وقد أقعده المرض اللعين منذ حوالي سنة 1996 فحرمنا من نفثات قلم عالم إنسان يندر وجوده اليوم فى العالم الغربي؟

وتتجلى أمانة "شتيبات" فى عرضه الشامل للتطور السياسي والاجتماعي والحضاري الحديث فى بعض البلاد العربية والإسلامية.

وتدفعه هذه الأمانة إلى إلقاء الذنب فى " خيبة الأمل" – التى تلخص الشعور العام للعرب والمسلمين بعد فشل نظمهم الحديثة على اختلاف أشكالها فى تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وإنسانية حقيقية- على كاهل الدول الصناعية المتقدمة التى يرجع جزء كبير من " أزمة الوعي" فى العالم العربي الإسلامى إلى إحساس شعوبها بالتبعية لها والاعتماد عليها، سواء جاء ذلك مباشرة من خلال مخترعات تلك الدول المتقدمة وأفكارها وخططها التى استعارها العرب والمسلمون وجربوها دون نجاح يذكر، أو جاء بطريقة غير مباشرة من " المتغربين" من أبنائها الذين حصروا كل جهدهم فى نقل نموذج" الحداثة" الغربية أو الدعوة للاقتداء بالغرب. بدلا من مراعاة ظروفهم التاريخية والتراثية أو ظروفهم الحاضرة .

ومحاولة وضع نموذج مستقل تتحقق فيه الهوية الحضارية الذاتية بغير انغلاق عن الغرب ولا تهالك عليه . وهذه الشجاعة التى لم تمنعه من تحميل الغرب المتقدم، بتاريخه الاستعماري المجرم والظالم، مسئولية الأزمة وخيبة الأمل اللتين ذكرنا مدى حدتهما، هى نفسها التى جعلته يفسر الدوافع الحقيقية وراء حركات "الأحياء" أو "الصحوة " الإسلامية،

على اختلاف توجهاتها وأهدافها، وأن يبرر احتجاجها على التبعية للقوى الأجنبية ونموذجها الحضاري، وسعيها للبحث فى ا لدين والتراث الإسلامى عن " السند الخاص" والمنبع الأصيل لهويتها الحضارية ولا شك فى أن حيرة العرى والمسلم بين السندين والمنبعين- الخاص والأجنبي- هى أحد الأسباب الأساسية الكامنة وراء " وعيه الشقي" وخيبة أمله المريرة، بجانب أسباب أخرى ترجع- كما سبق القول- لفشل النظم المختلفة فى البلاد العربية والإسلامية وعجزها عن تحقيق التنمية والتحديث والتقدم والتنوير... إلخ.

بصور واقعية ملموسة ، وأشكال قادرة على التطوير والتغيير الحقيقيين بدلا من التخفي وراء الأقنعة الخطابية والبلاغية المكررة ( راجع بحثه المهم عن الدور السياسي للإسلام .

وتأمل تحليله لمسيرة الدولة الدينية فى كل من إيران وباكستان وليبيا، والمشكلات والعثرات التى ما زالت تقع فيها ، وسوف تشعر شعورا واضحا بأنه يميل إلى موقف " الحداثيين" الذين نجحوا – على رغم الاعتراضات المستمرة من جانب الأصوليين التقليديين وعلماء الدين- فى تأكيد أن وجود الدولة المرتكزة على الشرع لا يتعارض بأي حال من الأحوال مع التأثر الضحى بثقافة الغرب ومحاكاته- محاكاة حرة وخلاقة- فى علمه وتقدمه واحترامه للحقوق الإنسانية كافة لإقرار السيادة الشعبية وتبنى النظم الديمقراطية، كتداول السلطة.

وانتخاب رئيس الدولة ومثلى البرلمان انتخابا شعبيا..) أي أنه يقف- فى هذا المقال وفى غيره- فى صف التفسير الخلاق للنصوص الشرعية بما يلاءم الضرورات والحاجات المتغيرة بتغير الزمن وظروف الحياة، كما يعبر هنا وفى مواضع أخرى عن يقينه الراسخ بأن الإسلام يقدم للمسلم مجالا واسعا للاجتهاد وتقديم تفسيرات جديدة وشجاعة للنصوص الشرعية، واتخاذ قرارات خاصة قد تسير به غلى الأمام أو ترجع به إلى الوراء.

8- ويتضح المنهج التاريخي النقدي الذى يتبعه المؤلف بأجلي صورة فى بحثه عن " عمر الأول" – أي عمر بن الخطاب رضي الله عنه- الذى كان وسوف يبقى رمزا خالدا للعدل الخالص، وقدوة عالية لكل حاكم فى تاريخ هذه المنطقة التى ما فتئت تشتاق إلى العدل( منذ عهد " جلجاميش" طاغية أوروك- كما نعرفه من أساطير السومريين ومن الملحمة البابلية الشهيرة- حتى كبار الطغاة وصغارهم فى العصر الحديث) .

ويحلل المؤرخ الكبير الحكايات التى نشأ فيها وغيرته كما غيرها، أو أنتجته – كما نقول اليوم- وأنتجها: كيف تمت كبرى الفتوح الإسلامية بفضل حكمته وتوجيهه وصلابة عزيمته، وكيف "دون" الدواوين لمواجهة مقتضيات المد الإسلامى فى بلاد جديدة وحضارات عريقة، وكيف استطاع أن يدمج القبائل العربية النافرة فى موكب الإيمان الزاحف وتحت راية الرسالة الجديدة الموجهة للبشر كافة، وكيف أصر حتى النهاية على التوحيد بين العروبة وعالمية الإسلام فى كيان جوهري واحد.

هل نقول إن هذا التاريخ المجيد من صنع عمر أم أن عمر نفسه من صنعه؟

ولكن عمر لم يكن ليفهم هذا السؤال وأمثاله، ونظيرة البطل والبطولة فى صنع التاريخ- كما تبناها كارلايل والعقاد.

أو كما تصورها هيجل فى زعمه بأن " دهاء العقل" أو الروح المطلق يسخر الأبطال العظام لتحقيق أغراضه- هذه النظرية لا تصلح أيضا لتفسير عظمة هذه الشخصية التى جسدت المثل الإسلامى الأعلى فى الواقع أو قربته منه إلى أقصى حد تقدر عليه طاقة البشر.

لقد كان عمر نفسه يتخذ ما اتخذ من قرارات حاسمة وصارمة وهو يعلم أنه مجرد أداة لتحقيق خطة إلهية عهد إليه بتنفيذها، ومن ثم تجلت عظمته فى " اختراق التراث" واستلهامه وتفسيره على نحو خلاق للاستجابة للظروف التاريخية والحضارية الجديدة، وبذلك يبقى عمر نموذجا للحفاظ على التراث وتجديده فى آن واحد ، وصوتا محذرا من التمسك العبودى به من ناحية، ومن تجاهله والقفز فوقه عن جهل ورعونة من ناحية أخرى.

9- وتصل الرحلة إلى نهايتها مع البحث الطويل المهم عن " المسلم والسلطة" الذى يتناول قضية " تطبيق الشريعة" وتاريخ الدولة الإسلامية منذ أن كانت مثلا أعلى تحقق فى الواقع فى ظل الدولة الإسلامية الأولى التى أسسها الرسول عليه السلام فى المدينة، إلى أن ابتعد المثال بالتدريج عن الواقع، وتنكر شيئا فشيئا للمبادئ الإسلامية نفسها فى انتخاب الخليفة وتعيينه والمساواة بين الحكام والمحكومين أمام الله والشرع.

وذلك منذ أن أصبح الحكم فى عهد الأمويين ملكية دنيوية ووراثية، واضطر بعض علماء الدين فى العصر العباسي إلى تبرير وجود الأمير الغاصب والظالم والطاعة له درءا للفتنة، بعد أن أصبح الخليفة تابعا تبعية مطلقة للقواد المرتزقة فى عهد البويهيين والسلاجقة- وذلك عملا بالحديث المنسوب إلى الرسول: إمام ظالم غشوم خير من فتنة تدوم- وكيف أثر هذا على مر التاريخ فى موقف المسلم من السلطة بحيث أصبح- على الأقل منذ محنة ابن حنبل حتى يومنا الحاضر- هو موقف " التقية" أى تبرير الخضوع المطلق للسلطة التى يرى المسلم وجهيها فى وقت واحد: الوجه " الأبوي" الذى يتصور أنه يحميه ويكفل له أمنه ورزقه، والوجه الظالم الكريه الذى لا حيلة له معه وليس فى وسعه تغييره ولا التمرد عليه- على الأقل فى الأوساط السنية- خوفا على نظام الدنيا ووحدة الجماعة واتقاء للفتنة.

والمهم أن البحث يبين مدى صعوبة " تطبيق الشريعة" وفشل كل المحاولات التى بذلت – بعد دولة المدينة الأولى- عبر التاريخ الإسلامى لتقريب المثال من الواقع وتحقيق المبادئ الإسلامية فى السياسة العملية ، ولعل الباحث يريد أن يقول إن الدولة الدينية تنتمي إلى عالم المثل الذى يستحيل تحقيقه فى الدنيا وفى واقع البشر.

ولكن يمكن أن نعاين ظلمه على الأرض عندما نعيش فى حمى دولة " متدينة" تهتدي بأنوار الدين وتأخذ فى الوقت نفسه بالأساليب الحديثة المتفق عليها فى الديمقراطية أو الحكم بالشورى( كانتخاب رئيس الدولة ، وسيادة الشعب، وتعددية الأحزاب والمنابر، وتداول السلطة، وتحقيق المساواة بين الحكام والمحكومين أمام اشرع والقانون .

واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية فى التفكير والاعتقاد والتعبير والنقد). ولعل التجارب الأخيرة فى تأسيس الدولة الإسلامية – كما ناقشها فى بحث سابق عن الدور السياسي للإسلام وتمثلت فى باكستان وإيران وليبيا وغيرها من المحاولات العشوائية القصيرة العمر – لعل هذه التجارب ، التى لم يكتب لها الاستقرار حتى اليوم، أن تقنع المسلمين بأن تطبيق الشرع فى هذه الدنيا ممكن إذا استطاعوا تحقيق التوازن بين متطلبات الدين والمتطلبات التى تفرضها روح العصر وضروراته وحاجاته المتجددة كل يوم بل كل لحظة.

10- تلك هى البحوث والمقالات "الإسلامية" التى عرضناها فى هذا الكتاب عرضا أمينا ودقيقا بقدر الطاقة. وراعينا فى ترتيبها أن نبدأ بأحدثها- من حيث زمن كتابتها- وأشدها التصاقا بظروفنا وقضايانا المعاصرة ( وهى ترجع إلى سنة 1996) وصولا إلى البحوث المبكرة التى يرجع أحدها إلى منتصف السبعينات .

وقد رأيت من الضروري . لكي تكتمل رؤية المستعرب الكبير للتاريخ العربي الإسلامى أمام القارئ العرى، أن أقدم تلخيصا وافيا لأبرز بحوثه ومقالاته عن جوانب مهمة من تاريخ العرب الحديث، وبدايات حركة القومية العربية فى سوريا ولبنان، ونكبة فلسطين، ومشكلات النظام الثوري فى مصر بعد انهيار الوحدة مع سوريا، ونظام التعليم قبل الاحتلال البريطاني لمصر ومشروعات إصلاحه عند طه حسين ، فضلا عن عرض مقالين عن روايتين لهما أهميتهما الفكرية والفنية معا، وهما طواحين بيروت وأولاد حارتنا.

ونبدأ بمقال مبكر ( يرجع إلى سنة 1944 ) عن تحولات الاستقلال اللبناني، ويلاحظ الكاتب فى البداية أن لبنان بلد له وضعه الخالص، على رغم أنه كان على الدوام جزءا من الشام، وهو يتتبع مراحل تاريخه منذ أن فتح المسلمون سوريا وخلصوها من السيادة البيزنطية فى سنة 635 م ، ودعم فيها الخلفاء الأمويون ( من 660 إلى 750م) دولتهم ولم يفكروا فى الاستيلاء ، على لبنان ولا أكثرت كذلك الخلفاء العباسيون بالإمارات الصغيرة التى بدأت تتكون فيه، وعرف الصليبيون أهمية الموقع الاستراتيجي للبنان فأسسوا فيه " بارونيات" و" دوقيات" عديدة، مما ساعد الجماعات المسيحية على تأكد وضعها. لا سيما بعد انضمام المارونيين فى سنة 1182 إلى الكنيسة الكاثوليكية.

ويواصل الكاتب تتبعه لتاريخ لبنان من التخويين الذين خضعوا للدولة العثمانية فى بداية القرن السادس عشر، إلى الشهابيين الذين حاولوا تأسيس دولة لبنان مستقلة وتحالفوا مع محمد على فى تمرده على الباب العالي، ثم ذهبت ريحهم بعد أن منى بالهزيمة واضطر فى سنة 1840 للانسحاب من سوريا .

ثم يتحدث عن العلاقات الحميمة التى ربطت المارونيين اللبنانيين بفرنسا وذلك منذ الحروب الصليبية وحملة نابليون الفاشلة على سوريا فى سنة 1799 إلى أن أصبحت فرنسا حتى يومنا الحاضر هى سقف الحماية الذى يستظل به المسيحيون اللبنانيون الذين كانوا – من خلال اتصالهم بالغرب ، رواد النهضة العربية ثم رواد حركة القومية العربية بعد أن انتبهوا إلى خطر الهيمنة الغربية وأدركوا- بحكم اللغة والتراث والمصالح المشتركة- أنهم جزء لا يتجزأ من العالم العربي، وهكذا انتهت أولى مراحل الاستقلال بثورة اللبنانيين فى سنة 1916 على الحكم العثماني.

وبعد إعلان وصاية فرنسا على لبنان فى ابريل سنة 1920، طالب المارونيون باستقلال لبنان بمساعدة فرنسا وحمايتها، وأعلن المندوب السامي الفرنسي الجنرال جورو قيام دولة لبنان الكبير فى اليوم الأول من شهر سبتمبر سنة 1920- وبدأت خلافات الشعب اللبناني مع وصاته الذين لأخذوا يعوقون استقلاله الحقيقي بشتى الطرق.

ولما زحفت أمواج الفرنسيون إرضاء اللبنانيين ، وسمحوا لمجلسهم النيابي بوضع دستور الجمهورية اللبنانية الذى أعلن فى شهر مايو سنة 1926 وتكون فى أثره المجلس الوزاري والمجلس النيابي، وتولى رئاسة الحكومة الشيخ الماروني بشارة الخورى الذى لم يلبث أن استقال من منصبه، وأخذت تتداول كراسي السلطة شخصيات عديدة. مما أدى إلى حل المجلس النيابي وفشل أول دستور لبنان.

وتبنت دولة الوصاية سياسة جديدة اقتدت فيها بالسياسة التى اتبعتها انجلترا مع العراق ومصر. فأحلت معاهدتي التحالف والصداقة مع فرنسا ( نوفمبر 1936) محل الوصاية ، وسارع المفاوض اللبناني بإعلان استقلال لبنان على الرغم من بقاء قوات الاحتلال حتى اتفاق آخر، مما أثار دعاة الوحدة العربية وأشعل نيران الغضب والقلق. ولم تلتزم فرنسا لا بالمعاهدة التى أبرمتها مع سوريا ولا مع لبنان .

ودفعتها ظروف الحرب العظمى الثانية إلى حل البرلمان وإلغاء الدستور( سبتمبر 1939) وعجزت سياستها عن حمل السكان – باستثناء المارونيين – على التعاون معها، ونشب الصراع على القوة بين فرنسا وبريطانيا العظمى آنذاك على مراكز سلطاتهما فى الهلال الخصيب .

وتحت شعارات الاستقلال للبلدين زحفت القوات البريطانية وقوات ديجول فى صيف سنة 1941 على سوريا ولبنان فاحتلتهما ، وأعلنت الولايات المتحدة أيضا أنها تضمن هذا الاستقلال الوهمي... وتوالى الصراع بين الأحزاب اللبنانية المختلفة حتى كلف رياض الصلح – المعروف بحماسه للوحدة العربية وعروبة لبنان – بتأليف الوزارة.

وشرع فى تعديل الدستور وحذف كل المواد التى تشير فيه إلى الوصاية من قريب أو بعيد. وغضب مندوب فرنسا وأمر ( فى الحادي عشر من نوفمبر سنة 1943) باعتقال رئيس الجمهورية- بشارة الخورى- ورئيس الوزراء رياض الصلح.

وكان من الطبيعي أن يثور الشعب وتشتعل نيران الغضب، وأن يستمر الصراع بين الفرنسيين والانجليز على الهيمنة والسيطرة.

وبدأت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تشاركان فى اللعبة لأخذ نصيبهما من غنيمة الشرق الأوسط.

وأفلحت بريطانيا فى عرقلة أي تدخل من جانب واشنطن وموسكو فى شئون الشرق ، ونافقت العرب على طريقتها فمالأت أمانيهم وطموحاتهم، ووقفت فى ا لظاهر ضد سياسة ديجول، كما وقفت الشعوب العربية والإسلامية فى صف الكفاح اللبناني من أجل الاستقلال باعتباره جزءا لا يتجزأ من قضية الوحدة العربية الشاملة.

تلك كانت تجربة لبنان الصعبة فى سنة 1944، أي قبل ‘لان انتهاء الحرب العظمى الثانية بما يقرب من عام واحد، ولأن المؤلف ينتمي- كما سبق القول- إلى بلد لا تثقل ضميره ولا ذاكرته ذنوب تاريخ استعماري لأي بلد شرقي أو عربي، فليس غريبا عليه أن يتعاطف مع طموح لبنان وكفاحه فى سبيل الاستقلال عن فرنسا( بالرغم من حرص المارونيين حتى اليوم الحاضر على الحفاظ على العلاقات الثقافية وصلات الود معها) ، وفى سبيل الانضمام إلى صفوف الأمة العربية فى وقت كانت قد ارتفعت فيه الأصوات المنادية بإنشاء الجامعة العربية.

وبدأت فيه المشاورات والاجتماعات التى سبقت إعلان مولدها. ولعل أهم ما فى هذا المقال وأدله على تفهم " شتيبات" لقضية العرب الأولى والأخيرة أنه يؤكد ضرورة اندماج لبنا فى الكيان العربي الأكبر وتماهى مصالحه الذاتية مع المصلحة العربية العامة كما يعبر بصدق عن تطلعه لاستقلال العرب جميعا عن فرنسا وبريطانيا والغرب كله.

11- ونأتي إلى مقاله المبكر أيضا عن طريق الأمة الجزائرية ( 1961) الذى يشيد فيه بالكفاح الأسطوري للشعب الجزائري فى سبيل الاستقلال ( الذى كتب عنه فى مقالات سابقة نشرت فى " أرشيف أوربا" من سنة 1958 إلى سنة 1961) كما يخصص المقال لبيان المقدمات الروحية والاجتماعية التى عززت حركة التحرير المجيدة وزودت شعلة ثورتها بالوقود الضرورة.

ويبدأ المؤلف بالكلام عن الوعي القومي عند الجزائريين بين الذين يؤكدون وجوده والذين ينكرونه ( من دعاة الجزائر الفرنسية) .

ثم يتتبع نشأة هذا الوعي القومي وتكوينه نتيجة ردود الفعل الساخطة على فظائع الاستعمار الفرنسي وجرائمه السياسية والاقتصادية ، ويرصد بداياته الأولى بعد نهاية الحرب العظمى الأولى على يد علماء الدين المسلمين قبل غيرهم من " النخب" الجزائرية التى تربت فى المدارس الفرنسية التى زيفت وعيها فلم ينتبه لبشاعة " الفرنسة" إلا بالتدريج .

واندلعت شرارة التمرد الأول الذى تفجر فى ليلة الواحد والثلاثين من أكتوبر سنة 1954 فأيقظت الغافلين على صحوة الوعي القومي الجزائري ، كما أججت نيران التعصب والتشبث بشعارات الفرنسة عند المستعمرين من قصار النظر ومحدودي الأفق ، ولكن اكتشاف أول شبكة كبرى لجبهة التحرير الجزائرية فى السادس من فبراير سنة 1956، والحكم بالإعدام على بعض أعضائها وتنفيذ ذلك الحكم الأعمى فى التاسع عشر من شهر يونيو من العام نفسه، أديا إلى تصاعد لهيب ثورة التحرير من تلك الشرارة الأولى، وإلى تماهى الشعب مع الثوار، وتزايد القمع والاضطهاد من جانب المستعمرين الذين أخذوا يكتشفون مدى تجذر جبهة التحرير فى أرض الجماهير.

ويتتبع الباحث تطور" الثورة المنظمة" التى لم تكن مجرد تمرد فوضوي، ويتحدث عن قيادتها الوطنية والجماعية التى ينفى عنها أي تبعية لموسكو أو أي تأثر بالشيوعية ، كما يشيد بتصميمها المستمر على رفض أي نوع من التبعية لفرنسا أي بديل عن الاستقلال والاعتراف بحق الجزائر فى تقرير المصير، واعتراضهم القوى على اقتطاع الصحراء الكبرى بكنوزها الغنية وضمها إلى فرنسا لدى أي حل أو تفاهم منتظر، كل هذا يشرحه المؤلف بروح التعاطف والإنصاف لهذه الثورة المجيدة وقادتها، وذلك قبل حصول الجزائر على الاستقلال الكامل بعد كتابة المقال بعاد واحد.

12- ويعرض المؤلف فى مقاله عن " بداية مرحلة جديدة فى مسيرة الثورة الناصرية " ( 1962) للصدمة القاسية التى أدمت قلوب المؤمنين بالوحدة العربية على أثر انفصال " القطر السوري" فى الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1961 عن " القطر المصري" وتصدع ما كان يسمى بالجمهورية العربية المتحدة التى لم تكد تعمر ثلاث سنوات بعد إعلان قيامها فى الأول من شهر فبراير سنة 1958 .

ولكن قسوة الصدمة ومرارتها لم تثن عزيمة عبد الناصر عن التمسك بالوحدة العربية، ولا عن استكمال البناء الثوري فى مصر- قاعدة هرم الوحدة الكبرى- من خلال تطوير الاقتصاد لزيادة الإنتاج والدخل، والتوزيع العادل للثروة، وتعديل الدستور، والتوسع فى التصنيع- ابتداء من الخطة الخمسية التى بدأت سنة 1957- وإشراك الشعب فى تحمل مسئولية العمل الجماعي عن طريق الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي .

ويناقش المقال عناصر هذا البرنامج الثوري الذى كان يهدف- كما قال عبد الناصر فى الخطاب الذى ألقاه فى الخامس من ديسمبر سنة 1957- إلى خلق مجتمع اشتراكي وديمقراطي وتعاوني: إجراءات التأميم والمصادرة والتوسع فى القطاع العام، وتطبيق قوانين يوليو الاشتراكية الشهيرة، والعمل على تحقيق نوع من الديمقراطية " الموجهة" – التى لم يشارك فيها الشعب قط مشاركة حقيقية، لأن وعيه لم يبلغ بعد درجة كافية من النضج.

كما زعم بعض المسئولين آنذاك، بل لأن الإجراءات البيروقراطية والبوليسية كانت من التعقيد والجفاف والقسوة بحيث لم تجذب الناس لتطويق رقابهم بنير العمل السياسي الذى تمسك الدولة القمعية بكل خيوطه- والمهم بعد كل شيء أن الأهداف الكبرى للثورة الناصرية- كزيادة الإنتاج، وإقامة العدل الاجتماعي، ومشاركة المواطنين فى العمل العام- لم تكن لتتحقق، كما تمنى النظام الحاكم بالوسائل التى اختارها تحت إشرافه ورقابته.

ويبدى المؤلف فى النهاية مخاوفه من أن تؤدى الطرق التى اختار النظام الناصري السير فيها إلى كارثة تهدد عربة النظام والبلاد كلها بالسقوط فى هاويتها، ومع أنه يتمنى فى آخر المقال ألا يحدث هذا ، وأن يتكفل الزمن بنجاح التجربة، فإن النكسة الفاجعة التى حلت بالنظام وبالبلاد كلها بعد كتابة هذا المقال بست سنوات حققت مخاوفه ولم تصدق نبوءته الطيبة.

13- والجدير ذكره أن المؤلف كتب بعد مرور سنتين على المقال السابق ( أي فى سنة 1964) مقالا آخر مفعما بالمحبة والتقدير والبصيرة عن جمال عبد الناصر وجهوده فى بداية الثورة للبحث عن " طريق خاص" لم يلبث أن وجده- بعد تجارب مريرة من المحاولة والخطأ- فيما سم بعد ذلك بالاشتراكية العربية- وهو يتابع فيه مساعي عبد الناصر ورفاقه لتعبيد طريق التحديث العقلاني والإصلاح الجذري ( كما يتجلى فى قانون الإصلاح الزراعي ومحاربة الإقطاع واحتكار رأس المال وقانون الأحوال الشخصية وإلغاء المحاكم الشرعية.

وفى قانون إصلاح جامعة الأزهر وتحديثها بالدراسات العلمية المواكبة للعصر، والنهوض بأوضاع المرأة ومنحها حق الانتخاب، وتنظيم الأسرة للحد من الانفجار السكاني، والتخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على جميع المستويات وغير ذلك من القوانين الصادرة فى يوليو سنة 1961 وما نص عليه، "الميثاق" فى عام 1962) ، وكأنما يريد المؤلف ضمنا أن يقول إن ثورة عبد الناصر أصبحت هى اليد العسكرية التى تنفذ فى الواقع بعض أفكار الإمام محمد عبده وتلاميذه وأتباعه العظام من رواد حركة التنوير، وفى مقدمتها فكرة عدم التعارض ولا التناقض بين الوحي والعقل، ولا بين الشريعة والتقدم العلمي والاجتماعي.

ومع الاعتراف بكل هذه الجهود المخلصة، وبأن معظم تصورات الثورة ومفاهيمها عن الإصلاح لم تنبع من مصادر أجنبية بل من تاريخ مصر الحديث فى مواجهة العالم الغربي، فإن الثورة الناصرية لن تنجح فى رفع مستوى معيشة الشعب ولا فى تقريبه من الدولة- دع عنك تحقيق التماهى بينهما- وربما يرجع أهم أسباب ذلك الفشل إلى عجز الأدوات والوسائل التى استخدمها من ناحية، ومصادرة الحريات والاعتقال والتعذيب المخيف من ناحية أخرى) .

وعلى الرغم من ترديد الزعيم أن الثورة هى ثورة الشعب، وأنها تتعلم من حكمة الشعب، فإن هذا لم يمنع الشعب نفسه من الإحساس بخيبة الأمل فى كثير من الإجراءات " الثورية" التى زادت من سلبيته وسوء ظنه بالسلطة، وشدة وعيه بالانفصام بين الكلام والفعل، بين الشعار الرنان والواقع البائس- ولعل ذلك كله يرجع أيضا فيما يرجع إليه للقرارات الدكتاتورية المفاجئة والمتعجلة.

واللجوء للإجراءات العنيفة فى إدارة الثورة ( وفشل الإدارة هنا وفى كل مجال آخر قد كان وما يزال هو الطامة الكبرى ورأس المصائب كلها) ، أي يرجع للاستبداد الفردي الذى ألقى عبء التطوير الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي على عاتق جهاز بيروقراطي جاهل وفاسد- ومع ذلك فإن المقال فى مجموعه يقوم على فهم الثورة من داخلها وفى سياق ظروفها التاريخية المحددة، كما يقترب منها بكل التعاطف والإنصاف والتقدير لمبادئها ومثلها، مع الاحتفاظ بحقه فى نقدها نقدا موضوعيا ومشفقا فى الوقت نفسه من مغبة جموحها وعنفها...

وإذا كانت " النكسة" قد كشفت الغطاء- بعد كتابة هذا المقال بثلاث سنوات- عن أن التطوير والتغيير الحقيقيين مستحيلان فى غياب الحرية والديمقراطية الحقيقية، فإن ذلك لا يقلل أبدا من قيمة التعاطف والإنصاف اللذين يبديهما الأستاذ شتيبات، فى تناوله للثورة ومراحل تطورها وإيجابياتها وسلبياتها حتى تاريخ كتابة مقاله فى سنة 1964 برؤية المؤرخ الدقيق والمشارك معا...

14- وقد اهتم المؤرخ الكبير اهتماما خاصا بنشأة الوعي القومي العربي وبداية حركة القومية العربية فى السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر فى كل من سوريا ولبنان وهو يلقى الضوء على هذه القضية فى بحثه المنشور سنة 1969 عن " حركة الأعيان السوريين بين عامي 1877 و 1878 ".

وهو يبين فيه كيف بدأت هذه الحركة على يد خمسة من المسيحيين الشبان الذين ألفوا جمعية سرية التفت- مع بقية النخب المسيحية المثقفة- حول الكلية البروتستنتينية السورية( التى أصبحت فى وقت لاحق هى الجامعة الأمريكية فى بيروت) لبعث الوعي القومي العربي والدعوة للاستقلال سوريا ولبنان.

وفى الوقت نفسه قامت حركة أخرى لتحقيق الهدف ذاته وكتب لها أن تكون أكثر وضوحا وأقوى تأثيرا، وهى" حركة الأعيان السوريين" التى تكونت فى ثمانينات القرن التاسع عشر بعد هزيمة الدولة العثمانية فى حربها مع روسيا ( 1877- 1878) هزيمة ساحقة، وخوف العرب فى الشام من أن تستغل إحدى القوى الأوربية تلك الفرصة فتبدلهم بالاحتلال العثماني السوء احتلالا أوربيا أسوأ منه.

هكذا تألفت تلك الجماعة تحت قيادة اللبناني أحمد باشا الصلح ( 1818- 1893) وعقدت مؤتمرها الأول الذى ضم ثلاثين من أعيان المسلمين فى سنة 1878، وقرر المطالبة باستقلال البلاد الشامية وتتويج المجاهد الجزائري الأمير عبد القادر ملكا عليها( وكان يقيم فى ذلك الحين فى قصره فى " دمر" ، واشترط على أعضاء المؤتمر الإبقاء على " الرابطة الروحية مع الدولة العثمانية والحصول على مبايعة جميع السكان من مختلف الطوائف والمذاهب).

كتب المؤلف هذا البحث بمناسبة ظهور كتاب " سطور الرسالة" الذى وضعه " عادل الصلح" حفيد قائد جماعة الأعيان التى سبق ذكرها، وظهر فى بيروت سنة 1966 فلفت الأنظار إلى تلك الحركة التى كانت مجهولة وشبه منسية، وجمع فيه من فم والده " محمود منح لصلح" ( 1856- 1920) ومعلمه أحمد عباس الأزهري( 1853- 1927) مادة شفاهية غزيرة قام بوضعها فى سياقها التاريخي الأشمل، وناقش مدى دقتها واحتمالات صدقها وتطابقها مع الواقع.

ويتابع الباحث قصة هذه الحركة، والأخبار التى وردت عنها فى بعض كتب السير الشيعية والمارونية ، وأسماء أعضائها العاملين الذين ثبتت أسماء سبعة منهم على الأقل، مع أسماء عدد آخر من المنتمين للحركة من مختلف الطوائف والجماعات الدينية ( السنة والشيعة والعلويين والدروز، بجانب أحد القادة المسيحيين المنادين باستقلال " الجنس العربي" و" القبائل العربية " عن الدولة العثمانية " الظالمة والمهملة للشريعة" ، وهو الماروني " يوسف بك كرم" ( 1823- 1889) الذى ثبت أنه أجرى اتصالات مختلفة مع الأمير عبد القادر الجزائري بشأن استقلال الشام، وإن لم يثبت انتماؤه الفعلي للحركة سابقة الذكر).

ويتابع الباحث تأسيس جمعية المقاصد الخيرية فى بيروت ( 1878) فى صيدا ( 1879) بفضل لأحد أعضاء الحركة، وهو محمود منح الصلح، كما يتوقف عند نبأ النشرات الثلاث التى طالبت باستقلال الشام وعلقتها الحركة فى بيروت، ولما بلغ خبرها إلى أسماع الباب العالي فى اسطنبول أقيل مدحت باشا ( 1822- 1883) بسببها ونقل إلى أزمير.

ويستطرد الباحث فيتحدث عن تأسيس المحفل الماسونى السوري واللبناني فى دمشق وبيروت، ودورهما فى ا لجمع بين الطوائف الدينية المختلفة، والصلات القاتمة بينهما وبين المحفل الماسونى بالقاهرة والمحافل الأوربية، وعن انتماء بعض أعضاء حركة الأعيان السوريين والحركة الإسلامية الثائرة على الاحتلال البريطاني- مثل الأفغاني ومحمد عبده- إلى هذه المحافل السرية.

وذلك فضلا عن الأمير عبد القادر الجزائري نفسه، ومع ذلك فلم تزل حقيقة هذه العلاقات المتشابكة قيد البحث، كما أن حركة الأعيان نفسها التى أسست 1877 لم يكد يسمع لها صوت بعد زوال الأزمة التركية على أثر توقيع معاهدة الصلح مع روسيا ( 1878) ، وبعد تعرض أعضائها للنفي أو للعيش تحت الحصار.

والمهم بعد كل شيء أن الجمعيتين السريتين لشباب المثقفين المسيحيين وأعيان سوريا المسلمين قد تعاونا معا على المطالبة بالاستقلال عن الدولة العثمانية ، وأشرق معهما فجر الوعي القومي العربي فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وعبرا عن الرغبة القومية فى تأسيس دولة شامية مستقلة يتآخى فيها المسلم والمسيحي والدروزى، لا سيما بعد المذابح الدموية التى جرت سنة 1860 فى جبل لبنان وفى دمشق ، بسبب الصراع بين الدروز والمسلمين والمسيحيين .

ولا شك فى أن المناخ الذى ساد بعد هذه المذابح قد ساعد على تقارب أبناء جميع الطوائف الدينية والعلمانية فى سبيل الاستقلال وخوفا من التدخل الأوربي، ويكفى أن تلك الفترة الزمنية التى لا تزيد على ربع القرن قد شهدت تأسيس الجمعية العلمية السورية ، وجمعية المقاصد الخيرية ، والمدرسة الوطنية التى فتح بطرس البستاني أبوابها لأبناء الوطن الشام بغير تفرقة أو تمييز...

15- ونأتي إلى مقال طريف يلقى الضوء على عراقة الشعور بالوحدة الوطنية بين العرب من مسيحيين ومسلمين، وعلى بزوغ فجر الوعي الوطني بالاستقلال وبالوحدة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر ..

والمقال بعنوان : " عقد اجتماعي فى مدينة فلسطينية " ( ويرجع تاريخ كتابته لعام 1947) ويورد المقال نص وثيقة أو حجة مهمة ترجع إلى سنة 1854 ميلادية- 1270 هجرية وتحتوى على " عقد اجتماعي" جرى توقيعه بأيدي ممثلي الطوائف الدينية فى مدينة الناصرة وبعض القرى المجاورة لها، وقد وجد المؤلف هذه الوثيقة فى كتاب " تاريخ الناصرة للقس البروتستنتي أسعد منصور، ( طبع مطبعة الهلال، القاهرة 1924) ..

والموقعون على هذه الوثيقة النادرة ثلاثة وعشرون من سكان الناصرة وقريتين قريبتين منها( المشهد واكسال)، بجانب تسعة وثلاثين من الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والمارونيين والفرنسيسكان والبروتستنت ـ وكتب الوثيقة " العبد الفقير إلى الله محمد أمين الفاهوم " نائب الناصرة- أو قاضيها- فى ذلك الحين ..

وتنص الوثيقة على عدة بنود تؤكد تعهد أهالي الناصرة من شتى الطوائف الدينية على التعاون فيما بينهم لمواجهة الشر والفساد، وردع الطغيان والعدوان من جانب اللصوص وقطاع الطريق والأشقياء الخارجين عن طاعة " الدولة العلية " ومن لم يرتدع منهم بالتي هى أحسن يقتل وتوزع ديته على "المتعامين" (أي على المتعاقدين أو المتعاهدين الذين صاروا كأولاد الأعمام) من أهل الناصرة- وإن قتل ـ أحد المتعامين وأخذت ديته فثلث ديته إلى وارثه خاصة والثلثان إلى المتعامين . والجدير ذكره أن الحجة حفظت عند وكيل دير الناصرة لتكون سندا لهم إلى ما شاء الله ..

16- تلك هى وثيقة " المعامة" – أي عهد " العمومية" – أو العقد الاجتماعي الموقع بأيدي أولاد العمومة من الطوائف الدينية المختلفة لدرء الشر عنهم، ولعل أهل الناصرة قد أخذوا الكلمات التى تدل على وحدة أبناء العمومة من قبائل البدو التى كانت تحيط بهم أو كان بعضها يستوطن الناصرة، إذ يعتبر كل من ينتمي إلى القبيلة من أبناء العم، كما أن بعض التفاصيل الأخرى عن توزيع الدية وتوريثها مأخوذ عن القوانين المعمول بها لدى تلك القبائل.

وأهم ما يلفت النظر فى هذه الوثيقة أنها تضم مختلف الطوائف الدينية فى وحدة أو عصبة واحدة لمواجهة الشر والأشرار، وأنها تحاول أن تضفى على هذه الوحدة طابعا شرعيا بوضعها فى إطار الشريعة السلامية ( لاحظ أن كاتب الوثيقة قاض مسلم، وأنه يستخدم فيها مصطلحات ومفاهيم من الشريعة الإسلامية كما يذكر فى نهايتها أنها وقعت بشهادة أربعة شهود..). وأنها تلجأ إلى بعض التقاليد القبلية السائدة- كالثأر والدية- لحل المشكلات التى تعترض المجتمع عن طريق تقاليد قبلية أخرى- " كالمعاملة " التى تنص عليها الوثيقة ، وأنها أخيرا لا توحد بين عائلات أو قبائل ، وإنما توحد بين طوائف وجماعات دينيه مختلفة من حيث المذهب، ولكنها ذات مصلحة واحدة وهدف واحد.

ولكن ما الظروف التى أدت إلى توقيع هذه الوثيقة أو التى أحاطت بها؟ إن القس البروتستنتي أسعد منصور الذى وضع عنها كتابه المذكور من قبل ليس لديه إلا القليل الذى يقوله عن هذه الظروف: الاضطراب والفوضى اللذان عما البلاد بين عامي 1854 و 1855 وأديا إلى الاعتداءات على أهالي الناصرة، والقحط والجدري اللذان انتشر وباؤهما فى فلسطين فى الفترة نفسها، ووقوف الحكومة عاجزة عن مواجهة القلاقل والحيلولة دون سفك الدماء فى الجليل والخليل والمناطق الجبلية المحيطة بهما.

أضف إلى ذلك الخلافات القائمة بين الطوائف المسيحية ( التى بدأت تفد على المدينة وتثبت أقدامها فيها منذ بداية القرن السابع عشر ، بعد أن كان المسيحيون قد تركوها تماما إثر استعادة المسلمين لفلسطين فى أواخر الحروب الصليبية وتدمير الظاهر بيبرس لمدينة الناصرة سنة 661 للهجرة- 1263 ميلادية) .

إلى جانب الصراعات التى كانت تنشب بين العائلات الكبيرة على " مشيخة" الطوائف والجماعات الدينية المختلفة، إذ كان الوالي العثماني فى صيدا ينتخب من هذه العائلات "مختارام" وهى كلمة استبدلتها السلطة بكلمة " الشيخ" بعد انتهاء الاحتلال المصري للشام فى سنة 1840.

وأخيرا فإن من أهم ما يجذب الانتباه إلى هذه الوثيقة المصطلح الذى تستخدمه للدلالة على توحد أبناء الطوائف والجماعات الدينية ، كما يتوحد أبناء العم، فى مواجهة خطر مشترك( عهد عمومية، متعامين، تعاموا، المعامة) ولكن جذر الكلمة ومشتقاتها- لا سيما الاسم عم والفعل عم والصيغة المصدرية " المعامة" يمكن أن تنطوي أيضا على معنى" العامة" فى مقابل الخاصة، كما يمكن أن تذكرنا على نحو ما بالحركات " العامية" التى كانت تطلق فى العصر نفسه فى لبنان على هبات " العامة" أو ثوراتهم الشعبية للمطالبة بتغييرات معينة فى ظروف حياتهم الاجتماعية والسياسية والمعيشية .

وتحملهم على تجميع صفوفهم كما يفعل أبناء العم" المتعامون" وتجعلهم يتجاوزون كل الحدود الاجتماعية والدينية فى وعى جماعي منظم يطمح إلى التغيير بالحسنى والوسائل السلمية قبل اللجوء إلى وسائل الردع المذكورة فى الوثيقة.

وهكذا ارتبطت كلمتا العم والعام والعامة فى دلالات هذه " المعامة" التى وحدت مشاعر الفئات والطوائف المختلفة، وأطلقت فى فضاء النفوس تلك الشرارة التى سرعان ما اشتعلت نيرانها وتوهجت أنوارها فى وعى قومي ثائر على العثمانيين ثم على الفرنسيين ووضعت الأسس الضرورية فى أواخر القرن التاسع عشر للوعي العربي الحق، والوحدة العربية المأمولة...

وإذا كان مؤلف الكتاب الذى ورد فيه نص الوثيقة لا يخبرنا عن أي أثر مباشر أو ملموس لها فى واقع الحياة فى مدينة الناصرة، فربما تكمن أهميتها التاريخية فى أنها تعكس، أو على الأقل توحي، بملمح من تلك الوحدة التى ربطت بين الطوائف الدينية المختلفة فى مرحلة متأخرة، ومن المؤكد أنها تعطينا لمحة بديعة عن وحدة الوعي العربي الذى هب ثائرا فى وجه الطغيان الأجنبي، وما زال يسعى لتحقيق حلمه الأكبر بالوحدة العربية.

17- ونؤتى إلى دراسات المؤلف عن مشكلة التعليم فى العالم العربي ومصر بوجه خاص، ونكتفي منها بدراسته عن مشروعات التعليم فى مصر قبل الاحتلال البريطاني .

لقد ظل التعليم الإسلامى طوال العصر الوسيط وحتى بدايات العصر الحديث يحقق وظيفته فى تزويد النشء بالمعارف الدينية ( تحفيظ القرآن الكريم والإلمام ببعض العلوم الدينية وبعض المهارات العملية كمبادئ الحساب- وتأكيد وعيهم بالانتماء للأمة الإسلامية أو " لدار الإسلام" .

وقد حاولت بعض الحكومات استغلال هذا التعليم لتحقيق مصالحها وأغراضها- كما فعل السلاجقة السنيون بتأسيس " المدارس " لمكافحة التأثيرات الضارة لبعض المذاهب والقوى المناوئة. لم تكن هذه المدارس السلامية بوجه عام تمثل جزءا من نظام الدولة أو من جهازها الادارى، غير أن الأحوال تغيرت فى النصف الأول من القرن التاسع عشر عندما أنشأ محمد على " مدارسه" الحديثة لتدريب المهنيين والحرفيين على اختلافهم لخدمة " دولته" .

لم يهتم محمد على أدنى اهتمام بأن يكون التعليم " وطنيا " أو " شعبيا" أو لتحصيل المعرفة أو العلم لذاته، صحيح أن قرار تأسيس المدارس الأولية فى سنة 1836 قد جاء فيه أن أحد أهدافه هو " نشر مبادئ العلوم بين الأهالي ( ارجع للكتاب القيم المهمة لأحمد عزت عبد الكريم عن تاريخ التعليم فى عهد محمد على ، القاهرة ، 1938 ، ص 681، وكذلك ص 149 وما بعدها.. ) ولكن يبدو أن هذا كان مجرد كلام يردد صدى المثل المعمول بها فى أوروبا دون اقتناع حقيقي من الحاكم. يدل على هذا أن محمد على ينصح ابنه إبراهيم فى أحد توجيهاته المكتوبة فى الوقت نفسه على وجه التقريب بألا يتعدى التعليم حدود التدريب على خدمة الدولة ( المرجع السابق ص 30 – 40) ولكن إبراهيم نفسه كان فيما يبدو أكثر انفتاحا على القيم والمثل العليا للتعليم الأوربي، فقد صدق فى سنة 1847- عندما كان هو الحاكم الفعلي مكان أبيه- على مشروع مقدم من " إبراهيم أدهم" – ناظر المدارس الذى تلقى تعليمه فى انجلترا- بتأسيس عدد من المدارس الأولية الحكومية التى كان من المفترض فيها أن تعطى الطلاب ما يزيد على الحاجة لمجرد " تدريب خدام" للحكومة- والجدير ذكره أن أول محاولة لإدخال المناهج الغربية فى التعليم قد تمت فى هذه المدارس التى أطلق عليها اسم " مكاتب الملة" وكانت الكلمة الأخيرة فى أواخر القرن التاسع عشر تستخدم بمعنى مرادف لكلمة الوطن.

مهما يكن الأمر فقد أهمل مشروع هذه المكاتب بعد وفاة محمد على وابنه إبراهيم فى سنة 1848 .

وجاء حاكما مصر التاليان وهما عباس الأول ( 1848- 1854) وسعيد ( 1854 – 1863) فلم يقدما شيئا يذكر للنهوض بالتعليم – ومع ذلك فلابد من الإشارة إلى المشروع الموسع الذى قدمه إبراهيم أدهم لسعيد بعد توليه الحكم مباشرة ، بتأسيس نظام جديد للمدارس الشعبية التى تشرف عليها الحكومة وتأخذ بالمناهج الأوربية فى التعليم وتدمج فيها المدارس التقليدية بالتدريج.

وقد نص هذا المشروع على أن تقدم هذه المدارس للأطفال قدرا طيبا من التعليم العام الذى ينفعهم فى مختلف ميادين حياتهم، كما استبعد أساليب القهر التى اتبعتها المدارس فى عهد محمد على فنص كذلك على أن يكون الدخول فيها اختياريا، وألا يرغم التلاميذ على المبيت فيها، بل يصرح لهم بالبقاء مع عائلاتهم.

وعلى رغم أن عددا كبيرا من الآباء رحبوا بالنظام المقترح وبعثوا بالتماساتهم الحارة لقبول أبنائهم- وذلك بسبب الاهتمام المتزايد لدى المصريين بالتعليم الحديث الذى رأوا نماذجه فى ا لمدارس الأجنبية التى تزايد عددها منذ منتصف القرن التاسع عشر ( لا سيما فى عهد سعيد) ، وإن كان بعضها قد وجد منذ منتصف القرن السابع عشر ومنتصف القرن الثامن عشر ( المرجع السابق ص 670 ) – بعد ذلك أنه لم ينس تمام النسيان...

ولعل أحد أسباب تزايد اهتمام المصريين بالتعليم الحديث هو إعجابهم بنماذج المدارس الأجنبية الحديثة التى تصاعد عددها فى عهد سعيد كما سبق القول، بحيث بلغ عند وفاة سعيد تسعا وخمسين مدرسة، ثم قفز عدد المدارس التى أسستها الجاليات الأجنبية والأقلية القبطية ( افتتح كيروللوس الرابع بطريرك الأقباط أو لمدرسة قبطية حديثة فى سنة 1853) إلى 127 مدرسة فى عهد إسماعيل ( 1863- 1879) ووصل عددها فى سنة 1878 إلى 146 مدرسة فتحت أبوابها كذلك لأبناء المسلمين.

ولا شك فى أن تكاثر هذه المدارس يرجع، لحد كبير، إلى تصاعد أعداد المهاجرين الأوربيين إلى مصر منذ أن بدأت مع الحملة الفرنسية وفى عهد محمد على، إلى أن بلغت ذروتها أثناء حفر قناة السويس وازدهار التجارة فى القطن المصر- بعد توقف السفن الحاملة للقطن الأمريكي إبان الحرب الأهلية من 1861 إلى 1865- بحيث بلغ عدد الأجانب الأوربيين فى هذه السنة الأخيرة ثمانين ألف مهاجر.

وقد بدأ هؤلاء المهاجرون قصة تحكمهم الطويل فى تجارة البلاد وصناعتها ومصارفها المالية، وهو التحكم الذى يرجع فى جانب منه على الأقل إلى تفوق التعليم الذى تلقوه فى بلادهم أو فى المدارس الأجنبية المذكورة التى بدأ كذلك أبناء المصريين المسلمين من الطبقات الميسورة فى الإقبال عليها من أوسع الأبواب، لا لتحريك ألسنتهم بلغات أجنبية فحسب، بل لتعلم المهارات النادرة والمناهج الجديدة فى البحث والتفكير، على نحو ما فعل المبعوثون منذ عهد محمد على بعد عودتهم إلى البلاد .

وقد واكب هذا الإقبال المد المتصاعد للمشاعر الوطنية والإحساس المتزايد بالحقوق المدنية، ويكفى القول فى هذا الصدد بأن أول كتاب سياسي بالمعنى الدقيق فى تاريخ مصر الحديثة قد ظهر سنة 1869، وهو كتاب تلخيص الإبريز إلى تلخيص باريز أو الديوان النفيس بإيوان باريز ( القاهرة 1323 – هجرية – 1905 ميلادية، ص 79، 187، 188، 196 وبعدها) لإمام التنوير الحديث رفاعة الطهطاوي الذى سبق له أن ساهم فى مشروع إبراهيم أدهم السالف الذكر الذى قدمه سنة 1854.

كما قدم فى كتاب آخر ( وهو مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية) مشروعا متكاملا لتحقيق السعادة للوطن المصر يقوم فيه التعليم بالدور الحاسم عندما يبدأ تعليم الأطفال، قبل التدريب المهنئ والفني، بتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم المدنية.

وكان لهذا الكتاب تأثير هائل وغير مسبوق فى الفكر المصري فى القرن التاسع عشر، وانتشرت آراؤه فى " المجالس" التى كانت تعبر عن الرأي العام.

كما أخذت بها معظم الصحف السياسية التى أسست فى تلك الفترة،وعمل عمله فى تصاعد النقد الساخط على الحكم المستبد وسوء الظن بالأجانب المستغلين .

واشتدت الحاجة- تحت تأثير الدعوة الثورية لجمال الدين الأفغاني – إلى تعليم ثورا يعيد مجد الإسلامى القديم ويستخدم سلاح الغرب – أي علومه ومعارفه الجديدة- سلاحا يحارب به الغرب المستغل ، ويمكنه من الإطاحة بنظم الحكم الشرقية المستبدة، وازداد الاهتمام بالتعليم باعتباره الطريق الوحيد للتحرر- عند الجناح المعتدل من الإصلاحيين الوطنيين مثل الشيخ حسين المرصفى.

ويستعرض المؤلف أحوال المدارس فى عهد إسماعيل الذى رفع صوته- أمام قناصل الدول الغربية بعد توليه الحكم مباشرة( فى العشرين من شهر يناير سنة 1863) معبرا عن اهتمامه " بالمدارس التى هى أساس كل تقدم" – ثم لم يلبث بعد ذلك بأيام قليلة أن أعاد فتح ديوان المدارس الذى أغلقه سعيد فى سنة 1854، واهتم بإصلاح المدارس العسكرية.

وأمر بفتح مدرسة أولية وأخرى ثانوية فى كل من القاهرة والأسكندرية- والغريب أن البداية الحقيقية لهذه السياسة التعليمية الجديدة قد توافقت مع قيام أول برلمان مصري فى سنة 1866، وهو مجلس شورى النواب الذى كان من أبرز مهامه النظر فى مشكلة المدارس وتطوير التعليم، ففي أول دورة انعقاد لهذا المجلس ( من نوفمبر 1866 إلى يناير 1867) قدم اقتراح بإنشاء مدرسة أولية فى جميع المديريات ، وتحول الاقتراح إلى مشروع تبناه المجلس فى يناير 1867، وطالب فيه بقبول جميع التلاميذ بغض النظر عن ديانتهم أو طبقتهم الاجتماعية ، وبمجانية التعليم والغذاء والكساء أيضا عند اللزوم .

وسرعان ما صدقت الحكومة على المشروع، ودعت الشعب للمساهمة فى الدعم المالي له إلى جانب الدخل المخصص له من الأوقاف، وأسندت الإشراف عليه للمهندس الواسع الأفق والمربى الكفء على مبارك الذى عين ( فى الثامن عشر من أكتوبر 1867) وكيلا لديوان المدارس ثم ناظرا له، وشكل مجلس الشورى لجنة من العلماء والأعيان لإعداد قانون المدارس الأولية الذى صدر فى عام 1868.

وكان من أهم بنوده إصلاح الكتاتيب وإدماجها فى نظام المدارس الحديثة تحت إشراف الدولة، وإضافة مادة الحساب إلى تعليم القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم على يد الفقيه( أو المؤدب كما طولب بتسميته وكان فى الغالب كفيف البصر..) ويعاونه " عريف" يشترط فيه الالمام بالقراءة والكتابة.

أما الكتاتيب الكبيرة التى يزيد فيها عدد التلاميذ على السبعين فقد نص القانون على التوسع فى منهجها الدراسي بحيث يضم الاقتصاد والتاريخ والجغرافيا، بالإضافة إلى تعلم لغة أجنبية.

ومما يدل على انتشار مفهوم الأمة والوطن فى الوعي الجمع أن مشروع المدارس السابق الذكر قد نص على أن " جميع المسلمين والأقباط هم أبناء الوطن" .. ولذلك فتحت المدارس الأولية بجميع مستوياتها – لا سيما فى المدن والمراكز- لأبناء جميع المصريين .

وقد ذكر أحمد شفيق سنة 1870 ( فى كتابه مذكراتي فى نصف قرن- القاهرة 1934- 1937) أن الكتاتيب قبلت أبناء الأقباط ، كما أن البابا كيريللوس بطريرك الأقباط- الذى أسس أول مدرسة قبطية حديثة فى سنة 1853 كما سبق القول- فتح أبوابها لأبناء المسلمين ( أحمد عزت عبد الكريم، تاريخ التعليم الشبعى بمعناه الواسع.

والدليل على ذلك أنها بدأت – بعد التصديق على مشروع المدار الأولية فى سنة 1868 – فى تأسيس مدار البنات، وكلفت رفاعة الطهطاوي نفسه- الذى سبق أن دعا إلى تعليم البنات فى كتابه مناهج الألباب المصرية- بتأليف كتاب مدرسا للأولاد والبنات( وهو كتاب المرشد الأمين للبنات والبنين ، 1873 الذى احتوى على عدد الأولاد والبنات للحياة الزوجية...) وفتحت أول مدرسة للبنات أبوابها فى سنة 1873 ثم تبعتها مدرسة أخرى فى سنة 1874.

وتجلت الروح الوطنية أو الأهلية الجديدة فى السياسة التعليمية فى تأسيس مدرسة للصم والمكفوفين فى سنة 1875، وفى إدراك على مبارك أن النهوض بمستوى المدارس من ناحيتا الكم والكيف لا يتوقف على الموارد والمنح المالية فحسب، وإنما يعتمد قبل كل شيء على المدارس الكفء.

ولذلك أسس أول مدرسة عليا للمعلمين، وهى دار العلوم التى افتتحها فى القاهرة فى شهر يوليو سنة 1871 ، كما تجلت أيضا فى إقدام عدد من الأفراد ومن الجمعيات الخيرية فى القاهرة والسكندرية سنة 1878- بتشجيع من الخديو إسماعيل قبل انتهاء حكمه بعام واحد .

وبفضل الجهود التى بذلها خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم- بتأسيس عدد كبير من المدارس الأولية أو المكاتب " الأهلية" التى أشرفت الحكومة بعد ذلك على إدارتها والارتفاع بمستوى مناهجها، وعلى الرغم من الصعاب والمشكلات المالية والقانونية والعلمية التى واجهتها المدارس الأولية الحكومية والمكاتب الأهلية ( كالفشل فى إدماج الكتاتيب فى نظام التعليم الحديث، كما نص على ذلك قانون المدارس الأولية لسنة 1868، وبقاء الفجوة الواسعة بينهما إلى يومنا الحاضر) على الرغم من ذلك كانت هذه النهضة فى التعليم مؤشرا صادقا على بداية جديدة ووعى وطنا جديد.

ولما عزل إسماعيل بسبب تدخل القوى الأوربية وخلفه ابنه توفيق فى سنة 1879، بقيت النزعة الوطنية على حيويتها وعنفوانها فى السنوات الأولى من حكمه، كما ظل التوسع فى التعليم وتحسين مستواه من أهم هموم الوعي القومي.

ففي شهر مايو سنة 1880 قدم ناظر المدارس على إبراهيم لمجلس النظار مذكرة جدد فيها أهداف النهضة التعليمية بصورة واضحة، فهو يشير فى بداية المذكرة إلى الفوائد التى يحصلها الإنسان من التعليم العام، ويدعو إلى نشر " جو المعرفة" بين جميع السكان والتوسع فيها حتى تصل إلى أهالي الريف.

وذلك لخلق الرغبة فى المعرفة والتعليم فى أبنائهم، وحثهم على الشعور بحقوقهم جو المعرفة" بين جميع السكان والتوسع فيها حتى تصل إلى أهالي الريف.

وذلك لخلق الرغبة فى المعرفة والتعليم فى أبنائهم، وحثهم على الشعور بحقوقهم الأهلية وواجباتهم الإنسانية نحو أنفسهم وعائلاتهم وحكومتهم، ولهذا أكد – إلى جانب أهمية التعليم العام لتدريب الموظفين- ضرورة التوسع فى إنشاء المدارس الأولية فى عواصم المديريات وفى المدن والقرى المهمة، وتنظيم الدراسة بها ورفع مستوى المناهج، فضلا عن إنشاء كلية جديدة للمعلمين تدرس بها العلوم واللغات الحديثة... ( وقد أسست بالفعل فى شهر سبتمبر سنة 1880 .

وأدمجت مع دار العلوم بحيث أصبح اسمها مدرسة المعلمين المركزية) ، وتألفت لجنة من الخبراء قدمت- فى التاسع عشر من ديسمبر سنة 180 – تقريرها عن الموضوع، وأضافت اقتراحات جديدة إلى الاقتراحات السابقة ، منها إنشاء مدرسة للزراعة والإشراف الحكومي على المدارس الأجنبية.

واندلعت نيران الثورة العرابية .. ثم حل كابوس الاحتلال البريطاني فأوقف نهر التطور، وجمد المشروعات الطموحة لسنوات عديدة فى مشرحة اللورد كرومر الذى لم يكترث بنشر " جو المعرفة" الذى استهدفه المشروع السابق.

هكذا بذلت الجهود المخلصة ووضعت المشروعات الجادة قبل الاحتلال لنشر التعليم الأهلي بكل الوسائل الممكنة، ومهما يكن من قصور هذه الوسائل وعجزها عن تحقيق الطموحات الكبيرة، فإنها تدلنا من ناحية على يقظة الوعي بحرية الوطن ووحدته، ومن ناحية أخرى على الإيمان بضرورة إصلاح التعليم وتحديثه، والواقع أن ألأمرين لا ينفصلان، ويكفى لبيان ترابطهما وجود الرغبة الصادقة عند الحكام ورواد الإصلاح- الذين كان بعضهم موظفين أكفاء- فى نشر التعليم بين جميع المصريين وفى المدن والقرى على السواء، صحيح أن بعض الأسئلة الملحة قد بقيت حتى اليوم بغير جواب، من ذلك مثلا:

إلى أي مدى ينبغي أن تعتمد المدارس ومعاهد التعليم على دعم المواطنين ومساندتهم بالخبرة والهبات المالية والأوقاف ( مع العلم بأن فكرة التربح الاستغلالي من وراء إنشاء المدارس والمعاهد الخاصة لم تظهر على الإطلاق، ولم يكن من الممكن أن تظهر فى ذلك الوقت الذى أشرق فيه فجر الوعي الوطني وعمرت القلوب والعقول بالقيم الحية الباقية) .

ومن تلك الأسئلة أيضا: إلى أي حد ينبغي أو يمكن دمج المدارس التقليدية – الكتاتيب والمدارس الأزهرية- فى نظم التعليم الحديث، وهل يمكن أن يشارك الآباء فى دفع المصروفات أم يكون التعليم كله أو جزء منه على نفقة الدولة( كما نص على ذلك مشروع سنة 1868 بالنسبة إلى المدارس الأولية)؟ ثم إلى أي حد يمكن أو ينبغي إثارة اهتمام المواطنين بالتعليم وحماسهم لإشباع الفضول المعرفي، ومن ثم تحملهم لمسئولية المشاركة فى إصلاح التعليم وتحديثه؟

إن الجهود الأمينة الذى بذلت للرد على الأسئلة السابقة فى حدود الإمكانيات الضئيلة فى ذلك الحين، والمساعي التى تمت لتنمية الوعي الوطني وترسيخ البناء الاجتماعي السليم عن طريق إصلاح التعليم ونشره بين الجميع- كل هذا قد اصطدم بالمشكلة التى ما نزال تلقى بظلالها القائمة.

وهى مشكلة ازدواجية التعليم التقليدي والتعليم الحديث، إلى جانب تعدد الجهات الأجنبية التى تلقن الطفل والشاب المصري، بلغات غير لغته الأم، أصول العلم وفروعه وخطر ذلك على وحدة الوعي وعلى الهوية القومية.

تلك بعض الأسئلة التى سيناقشها المؤرخ والمستعرب الكبير فى بحثه الذى كتبه بعد البحث السابق بما يزيد على عشرين عاما عن طه حسين وديمقراطية التعليم ( 1990) .

18- والحق أن طه حسين ليس عميد الأدب العربي وحسب، وليس مجرد رائد جسور لثقافة الحرية والديمقراطية والاستنارة، بل له دور نظري وعملي كبير فى إعادة تنظيم التعليم الابتدائي والثانوي وتحقيق أهم تحول اجتماعي عرفته مصر منذ منتصف القرن العشرين إلى اليوم الحاضر.

كان دستور 1923 فى مادته التاسعة عشرة قد فرض التعليم الالزامى فى المدارس الأولية ( أو المكاتب العامة) على أبناء المصريين جميعا من الجنسين وجعله تعليما مجانيا، ولابد أن نذكر هنا أن النظام المدرسي فى ظل الاحتلال البريطاني كان يعانى الازدواجية الحادة بين التعليم الأولى- الذى كان صورة متطورة من الكتاتيب العريقة.

كما كان مجرد تعليم شعبي بلا طموح ولا مستقبل- وبين التعليم الابتدائى الذى كان يكفل للتلاميذ، مقابل مصروفات محددة، تعليما حديثا يتضمن بعض العناصر الأوربية كاللغة الانجليزية والعلوم، ويعدهم لمراحل تعليمية أعلى فى ا لمدارس الثانوية والمدارس والمعاهد العالية، بجانب إعدادهم للتعيين فى ا لوظائف الحكومية.

وهكذا ثبت قانون الالتزام بالتعليم تلك الازدواجية عندما حصره فى التعليم الشعبي أو ألأولى الضئيل القيمة، وحرم المترددين عليه من فرص التطور ومواصلة تحصيل العلم إلا فى أضيق الحدود، ومع ذلك فلابد أيضا من الاعتراف بأن نص الدستور على ذلك الإلزام كان فى حد ذاته خطوة متقدمة لا يصح الاستهانة بها.

وأنه جاء استجابة ليقظة الوعي الوطني المتصاعد وانتشار المثل والقيم والأفكار الديمقراطية كأشعة الشمس التى لم يكن فى استطاعة واضعي الدستور أن يتجاهلوا وجودها، والحقيقة أن أعضاء اللجنة المشكلة لوضع الدستور قد أبدوا رغبتهم فى أن تنص المادة التاسعة عشرة على تعميم المجانية على جميع المستويات المدرسية، ولكنهم عدلوا من تلك الفكرة التى كان تحقيقها فى حكم المستحيل.

استمرت المناقشات التى دارت حول مبدأ الإلزام بالتعليم الأولى ومدى تنفيذه وجدواه عشرات السنين، واختلفت حوله آراء المحافظين والعمليين ( أو النفعيين ) والتقدميين ، وكان أهم الناطقين بوجهة النظر الوطنية والتقدمية وأبلغ المعبرين عنها هو طه حسين فى كتابه الشهير مستقبل الثقافة فى مصر ( 1938) الذى قدم فيه- بجانب أفكاره عن دور مصر الثقافي وماهيته ومستقبله- برنامجا واضحا ومحددا عن إصلاح نظام التعليم فى المدارس والتخلص من الازدواجية التى سبق الحديث عنها.

وقد أكد طه حسين بكل حزم فى هذا الكتاب أنه يجب على ا لنظام الديمقراطي أن يكفل الحياة والحرية والسلام لكل أبناء الشعب، وأنه لن يحقق أى هدف من هذه الأهداف إذا تقاعس عن وضع القانون الملزم بالتعليم الأولى موضع التنفيذ، وحمل الجميع على الخضوع له بالرفق واللين أو بالشدة والعنف، والهدف الأول من التعليم الأولى يكمن فى أنه أبسط وسيلة يملكها الفرد فى يده لتمكنه من العيش، أما الهدف الثاني فيكمن فى أن هذا التعليم الأولى هو أبسط وسيلة ينبغي أن تكون فى يد الدولة نفسها لتحقيق الوحدة الوطنية وإيقاظ شعور الأمة بحقها فى الوجود الحر المستقل، وبواجبها فى الدفاع عن هذا الوجود.

وأما الهدف الثالث والأخير فيكمن فى أن هذا التعليم هو الوسيلة الوحيدة فى يد الدولة لتمكين الأمة من الاستمرار فى الوجود، لأنها تضمن عن طريقه وحدة التراث الذى يتحتم أن ينتقل من جيل إلى جيل، كما يتحتم على جميع أفراد كل جيل أن يشاركوا فى عملية نقله.

والملاحظ أن طه حسين كان فى هذه المرحلة من حياته لا يزال ينظر إلى المدرسة الأولية باعتبار أنها هى المدرسة الشعبية، كما كان من رأيه أن تقسيم التعليم العام إلى مدارس أولية لأبناء الشعب ومدارس ابتدائية وثانوية لأبناء النخبة إنما يجعل تربية الشباب على الشعور بالوحدة الوطنية أمرا وهميا، وقد حبذ – فى هذه المرحلة- إلغاء المدارس الأولية كشيء مرغوب فيه، ولكنه لم يصمم عليه تصميما جديا واكتفى باقتراح بعض " المهدئات" مثل إتاحة الفرص الممكنة للنقل من المدرسة الأولية إلى المدارس العامة( الابتدائية والثانوية)..

والواقع أن المدارس الأولية بدأت تتعرض مع مرور الزمن للإهمال الشديد، بينما تزايد نمو المدارس الابتدائية والثانوية تحت ضغط الرأي العام، كما كانت تعبر عنه( مع صمت الأغلبية الصامتة) الطبقة الوسطى الصاعدة ، والظاهر أن ديمقراطية الدولة المصرية فى ذلك الحين هى التى حكمت- بقصد أو بغير قصد- على المدارس الأولية أو الشعبية بنوع من " التمييز العنصري" لمصلحة المدارس الحكومية التى لم يكن يقدر على دفع مصروفاتها سوى أبناء الطبقة " البورجوازية".

وعلى الرغم من الاتجاه الرسمي الواضح لتمييز الطبقة الوسطى على غيرها، فلم تتوقف جهود المشرفين على التعليم عن إضفاء الطابع الديمقراطي عليه.

وقد استطاع واحد من أفضل وزراء المعارف، وهو أحمد نجيب الهلالي، أن يطرح من هذا المنظور فى سنة 1935 برنامجا لإصلاح التعليم بالمدارس طالب فيه بإلغاء المصروفات المفروضة على المدارس الابتدائية التى كانت أكثر عجزا من المدارس الأولية عن استيعاب جميع الأطفال .

كما نص على ذلك قانون الإلزام بالتعليم، والجدير ذكره أن طه حسين كان يشغل من سنة 1942 إلى سنة 1944 منصب المستشار الفني فى وزارة المعارف على عهد نجيب الهلالي، ومن ثم كان مشاركا فى المسئولية عن السياسة التعليمية .

ولما تولى طه حسين وزارة المعارف فى حكومة الوفد الأخيرة( من 12 يناير 1950 إلى 27 يناير 1952) لم يكتف بمواصلة الطريق الديمقراطي الذى بدأه الهلالي، بل خطا الخطوة الجريئة المفاجئة عندما أعلن أن التعليم المجاني من حق كل طفل مصري كحقه " فى الماء والهواء" .

كما أدمج المدارس الأولية فى المدارس الابتدائية( التى طالب بإلغائها فى " مستقبل الثقافة فى مصر "، بحيث أصبحت هى أداة تنفيذ قانون الإلزام السابق ذكره.

ولا يتسع المجال للحديث عن السياق التاريخ والسياسة الذى تمت فيه هذه الخطوة الشجاعة الحاسمة، ولا عن رياح الاعتراضات والانتقادات التى هبت عليها من جانب السياسيين- حتى من داخل حزب الوفد نفسه- أو الفنيين من صفوة علماء التربية وغيرهم، وذلك مع التسليم بأن معظمهم كانوا مؤمنين بمبدأ ديمقراطية التعليم مع اختلاف وجهات نظرهم فى أولوياته ووسائل تطبيقه...

فالمهم بعد كل شيء أن طه حسين صمم على المضي قدما فى مشروعه من دون أن يكترث بمشكلة التمويل الباهظ الذى تستطيع الدولة أن تدبره عن طريق الضرائب أو أى طريق آخر، وأنه رفض بكل قوة أن يؤجل إتاحة فرص التعليم لملايين الأطفال المصريين إلى مستقبل بعيد مجهول...

كان ذلك هو المنتظر من رائد الحرية والتجديد، صاحب " المعذبون فى الأرض" و" شجرة البؤس" وغيرهما، وشمس العقل العربي الحديث التى أشعت بأضواء الاستنارة فى كل اتجاه ، ولا عجب بعد ذلك أن نجد الفيلسوف وناقد الثقافة فؤاد زكريا يقول بحق فى كتابه" كم عمر الغضب؟" إن سياسة طه حسين التعليمية تمثل البداية الحقيقية للتحول الاجتماعي فى مصر، لا فى التعليم وحده، بل كذلك فى إيجاد فرص العمل ودفع عجلة التقدم والنهضة... .

19- معنى النكبة ( بيروت، دار العلم للملايين ، 1948 ) .. ومعنى النكبة مجددا ( بيروت 1967).

يعيد الأستاذ شتيبات فى سنة 1985 قراءة هذا الكتيب الذى صار " علامة" على ضرورة النقد الذاتي العربي، وما يزال دائم الحضور فى وجدان كل عربا اطلع عليه فى طبعته الأولى بعد نكبة 1948 أو فى طبعته الثانية بعد نكبة 1967 ( التى حاولنا التخفيف من قسوتها ومرارتها فسميناها " نكسة" ) والكتيب المشهور من تأليف المؤرخ العربي الكبير قسطنطين زريق الذى وضع فيه برنامجا عاما لنهضة " الحصان العربي" من كبوته الأليمة، وعير فيه عن فكره الليبرالي المتحرر من الأيديولوجيات التى كانت قد بدأت تصطخب على الساحة، والناطق بلغة العصر وحضارته العلمية وروحه الثورية ونزعته العقلانية النقدية. ومراجعة الأستاذ لهذا الكتيب تجرى على مألوف عادته فى وضع المشكلات التى يدرسها أو يناقشها فى سياقها التاريخي الأشمل.

ولذلك نراه يشير قبل حديثه عنه إلى كفاح البلاد العربية منذ الحربين العظميين فى سبيل الاستقلال، وتجاربها المحبطة مع القوى الكبرى- لا سيما فرنسا وبريطانيا- وتأسيس الجامعة العربية فى شهر مارس سنة 1945 لتوحيد كلمة العرب، والاستبشار بقيام منظمة الأمم المتحدة للاستماع إلى أصوات الدول الصغيرة ومساعدتها على تحقيق آمالها فى التحرر الوطني. ثم جاءت الطعنة القاضية على آمال العرب وثقتهم فى أنفسهم بإعلان قيام دولة إسرائيل فى الرابع عشر من شهر مايو سنة 1948 ، واستيلائها على جزء كبير من أرض فلسطين، وطردها للملايين من سكانها العرب.

كان زرع سكين الكيان الصهيوني التوسعي، والمتحالف مع الغرب الامبريالي والمسخر لخدمته، فى قلب الوطن العربي بمنزلة " قلب" للمسار التاريخي الذى كان العرب يتوقعون منه أن يؤدى بشكل طبيعي إلى الاستقلال الوطني والحصول على حق تقرير المصير. وكان تأييد معظم الأصوات فى الأمم المتحدة لقيام الكيان العدواني ضربة أخرى زلزلت إيمانهم بالحق والعدل وجاء فشل التدخل العسكري للدول العربية فى إيقاف العدوان الصهيوني أشبه بجرعة أخرى من السم الذى سرى فى الدم للدفاع عن نفسها وتأكيد وجودها وحقوقها.

وبدأ المفكرون والمثقفون العرب- كما حدث بعد النكبة التالية- فى مراجعة النفس والتاريخ والموقف من العالم، وتحليل أسباب الهزيمة المفجعة ووصف الأدوية الناجعة، وتحديد الوسائل الكفيلة بمواصلة السير على طريق التحرر والتقدم. وكان هذا الكتيب الخطير من أهم المساهمات فى هذا النقد الذاتي المؤلم والضروري فى آن واحد...

والمقدمة التى كتبها المؤلف لهذا الكتيب يرجع تاريخها إلى الخامس من شهر أغسطس سنة 1948، كما أن طبعته الأولى ظهرت فى الشهر نفسه، والثانية فى شهر أكتوبر ، أي أنه كتب أثناء اشتعال المعارك التى خاضتها بعض الجيوش العربية ضد العصابات الصهيونية وقبل توقيع اتفاقيات الهدنة فى سنة 1949.

لم يكن المؤرخ الكبير يعيش فى برج عاجي، بل إن عمله كسفير سوري فى الولايات المتحدة ومندوب لسوريا فى الأمم المتحدة قد ساعده على الانخراط فى صميم الأحداث الجارية، والوعي الحاد بالمشكلات الحاضرة والتنبؤ "اليمامي" ( نسبة إلى زرقاء اليمامة) بالمصائب القادمة.

وهو يقول إنه أمسك بالقلم لكي يوضح فكره الخاص ويزيل الغموض والاضطراب من عقول مواطنيه، لا سيما الشباب والطلاب، أي أنه كتب بصفته أستاذا ومعلما يجمع فى شخصه بين حياد العالم المتمكن وعقلانية المحلل القدير وعاطفة المواطن المشارك والمسئول.

وينطلق " زريق" فى تأملاته وتحليلاته من وعى مرهف بجدية الموقف وخطورته، ويكفى دليلا على ذلك أنه لا يسمى ما حدث فى فلسطين " نكسة" كما سيفعل غيره بعد ذلك، وإنما وصفه بأنه نكبة وكارثة.

لقد لقي العرب هزيمة عسكرية وسياسية أدت إلى انهيار معنوي تمثل فى تشككهم فى أنفسهم وفى حكوماتهم. وأول علاج يصفه للتعامل مع النكبة والأسباب التى أدت إليها هو تقوية الشعور بالخطر مع تقوية إرادة النضال (ص 19) .

فالعدو الذى هزم العرب هو الصهيونية ، بل ستهدد موارد البلاد العربية الأخرى ووجودها نفسه. ومع أنه يدرك تماما أن اليهود قد عانوا من الاضطهاد فى أوروبا فى فترات تاريخية مختلفة، وفى أيام هتلر والنازية على وجه الخصوص ، فإنه يرفض أن يكون هذا مبررا للاستيلاء على فلسطين وتشريد شعبها العربي.

ويتجلى تفاؤله- أو حسن نيته- وقت تأليف كتابه عندما يقول إن حل المسألة اليهودية مرهون بنشر التسامح واحترام الكرامة الإنسانية فى العالم كله، بل إنه يؤكد استعداد العرب للتعيش مع اليهود فى ظل نظام ديمقراطي ( ص 84).

ويستطرد زريق فى وصف أساليب العلاج المباشر لآثار النكبة بغية رفض الهزيمة وتقوية إرادة النضال : تعبئة الموارد العسكرية والاقتصادية والسياسية وتحقيق أقصى قدر ممكن من وحدة الدول العربية وتعاونها فى هذه الميادين ، وإبداء الاستعداد للدخول فى المساعي الدبلوماسية وقبول الحلول المعتدلة لكسب تأييد القوى العظمى، ولكنه يرتفع بعد ذلك إلى مستوى آخر من التحليل عندما يقول إن كسب المعركة القادمة لن يكفى لحل المشكلة الصهيونية والمسألة العربية فى مجموعها، إذ تحتم الضرورة إيجاد " كيان عربي قوما متحد وتقدمي" عن طريق ثورة أساسية فى نظم الحياة العربية ( ص 41) . ثم يرسم فى صفحات قليلة مشروع رؤيته لأمة عربية لم توجد بعد وما زلنا نحلم معه بوجودها : أمة ذات أهداف موحدة، وإمكانات متحققة، توجه وجهها صوب المستقبل، وتفتح عينيها على النور. كما تفتح صدرها للخيرين من اى مكان يجيئون.

ويبدأ مؤلف " معنى النكبة" فى تحديد معاني مصطلحاته- فأما القومي فلا ضرورة لتعريفه لأنه يستخدم عادة بمعنى" الوطني" كما أن كلمة الأمة فى العربية لا يمكن أن تشتق منها صفة مناسبة.

ثم يشرح كلمة " متحد" التى يتصف بها الكيان العربي المأمول فيقول إن الجامعة العربية قد ثبت ضعفها الشديد بحيث تحتم الضرورة تأسيس دولة " اتحادية" أي دولة " فيدرالية" ذات سياسات خارجية واقتصادية وقوات دفاعية موحدة ( ص 44) ، وأما الصفة الحاسمة التى تطلق على هذا الكيان العربي فهي " التقدمي" .

وهو يبدأ شرحه لهذه الكلمة التى طالما أسيء استخدامها لمجرد أنها تشيع على ألسنة وأقلام الاشتراكيين والشيوعيين ، لأن التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافة والعقلي شرط أساسا لقيام الكيان العربي الجديد، بل إن القومية نفسها مستحيلة بغير هذا التقدم المواكب لحركة التاريخ وقوانين المجتمع، ويحدد ؟ زريق" أربعة عناصر ضرورية لتحقيق التقدم: الميكنة والتصنيع، الفصل بين الدولة والمؤسسة الدينية ، التدريب العقلي على العلوم الوضعية والتجريبية ، تبنى أفضل القيم العقلية والروحية التى وصلت إليها الحضارات الإنسانية واختبرت صحتها التجربة البشرية.

ومن الوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف بذل الجهود الوطنية لاستغلال الموارد القومية، ونشر المعرفة والتعليم، والتوسع فى الحريات السياسية والاجتماعية والفكريةن والإصلاح الادارى ( ص 50) ، ثم يؤكد أهمية الدور الذى ينبغي أن تؤديه النخبة المثقفة المخلصة فى ريادة هذا التقدم، ويحبذ أن يتحد أعضاؤها فى أحزاب وتنظيمات "ذات أيديولوجيات "أو منظومات فكرية موحدة.

ويعبر " زريق" عن لب فكرته عن التقدم عندما يقرر أن الهدف منها هو أن تصبح فعليا وروحيا، لا اسميا وماديا فحسب، جزءا من العالم الذى تعيش فيه،وأن تتكيف مع نظمه فى الحياة والتفكير ، ونتكلم لغته، ونقتبس المدنية الحديثة بماديتها وروحانياتها دون التخلي عن هويتنا والعناصر الباقية من تراثنا، ونسعى للتعرف على منابعه ووصل مصيرنا بمصيره ( ص 47) . وإذا كان المؤرخ الكبير يدعو العرب للتواصل مع الحضارة والمدنية الحديثة، فلا يعنى هذا رفض التراث القومي أو التخلي عنه. صحيح أن جزءا من هذا التراث مصيره إلى الزوال والنسيان ، ولكن الجزء السليم والجدير بالبقاء هو الذى سيميزه العقل المتحرر المنظم الذى يجب علينا أن نأخذه من الحضارة الحديثة ونبنى عليه ثورتنا( ص 49).

تعرض " معنى النكبة" للنقد الشديد من جهتين على أقل تقدير: من الإسلاميين الذين احتجوا على مطالبته بالفصل بين الدولة والدين، متذرعين بالحجة المعروفة التى تقول بأن الإسلام، على العكس من المسيحية الأوروبية ، لم يعرف السلطة الكنسية والكهنوتية التى اضطهدت الشعب والدولة، والعلم والحرية، كما أن ذلك الفصل معناه القطع بين الناس وبين تراثهم الروحي، وهدفه تشكيك الشباب فى دينهم.

والحق أن " زريق" لا يدعو إلى علمانية تنكر الدين جملة أو تتجاهل تأثيره العميق فى حياة الإنسان، وإنما يعترف بالقوة الروحية التى يهبها الدين للمؤمن، كما سبق له أن أكد أهمية الإسلام والرسالة المحمدية فى تدعيم القومية والوعي القومي، وذلك فى كتابه " الوعي القومي" الذى ظهر سنة 1939 فى بيروت ( ص 111) صحيح أنه يرفض " الحرفية الدينية " على حد تعبيره، وهو كمؤرخ وأستاذ جامعي ليس فى حاجة إلى من يذكره بأن الإسلام لا يعرف الاحتراف أو الاحتكار الديني ولا الكهنوت ، ولكنه يرفض "الطائفية " الدينية التى تسببت – بعد الفراغ من تأليف كتابه بأربعة عقود- فى حرب أهلية لا تزال آثار حرائقها المدمرة فى لبنان ماثلة للعيان .

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى يمكن تلخيص النقد الموجه لـ " معنى النكبة" فى أنه لم يتعمق بحث المجتمع العربي للكشف عن أسباب النكبة، كما أن عناصر التقدم المختلفة التى يقترحها تشترط تغييرات اجتماعية لم يذكر عنها إلا القليل أو لم يذكر شيئا على الإطلاق . وهو – فى أي النقاد – يمكن تصنيفه مع المهادنين أو حتى مع الرجعيين لأنه بالرغم من تأكيده المستمر لضرورة الثورة، لا يجعل للصراع الطبقي أي مكان فى مشروعه عن التقدم.

والواقع أن هذه الانتقادات تبدو مشروعة لمن يقرأ الكتاب بعد أكثر من خمسين سنة من كتابته، إذ يدهش لافتقاره إلى التحليل الاجتماعي- الذى لم يكن قد عرف بعد بشكل علمي ومتهجى فى البلاد العربية- بقدر ما يعجب بملاحظاته الجريئة والنافذة البصيرة عن مختلف جوانب الموقف العربي، وبمشروعه " اليوتوبى" عن كيان عربي موحد وتقدمي ليس من المستحيل أن يتحقق لو صحت إرادة العرب على التوحيد فى مواجهة التهديدات المتصاعدة بإبادتهم على كل المستويات المادية والمعنوية.

ومهما يكن من قصور الكتيب الشهير عن تقديم تحليل واف للبناء الاجتماعي والطبقي وتناقضاته التى كانت أحد أسباب النكبة، ومهما يكن من نفوره من استخدام كلمة الثورة خوفا من ظلالها الأيديولوجية التى يكرهها، ( من المستغرب حقا فى نظر من يطلع عليه اليوم أنه يفضل عليها كلمة "انقلاب " التى لم يكن يدرى فى ذلك الوقت أنها ستكون أصل الكوارث المتلاحقة منذ منتصف القرن الماضي فى بعض البلاد العربية والأفريقية والآسيوية والأمريكية الجنوبية) .

وعلى الرغم من التعميمات الغامضة والمشروعات التى ما زالت إلى اليوم أشبه بالآمال المستحيلة، فلا شك فى أن الكتيب نفسه كان ولا يزال صرخة ضمير عربي عميق الجرح وصادق الرؤية والتنبؤ إلى حد مذهل بقلم عالم عربي حر شجاع وشديد الإيمان بالعقلانية والتقدمية وبالوحدة والقومية العربية القائمتين على العلم والقيم والاستنارة، وذلك كله عن طريق التغيير الجذري والثوري الحاسم فى كل ميادين الحياة والتفكير والعمل. وإذا لم يكن قد قدم برنامجا عمليا مفصلا للتغيير والاصطلاح، فقد رسم الإطار الصالح للتساؤل والحوار، وحذر من الأخطار الكبرى التى تهدد اليوم – فعلا لا قولا- بتصفيتنا واقتلاعنا من جذورنا، وفتح الأعين والضمائر والعقول على مشكلاتنا الكبرى المزمنة.

20- ونأتي أخيرا إلى ا لأدب الذى أعلم تمام العلم مدى شغف الأستاذ شتيبات بالاطلاع على الأعمال الكبرى فيه. سواء أدب بلاده أو من الأدب العربي، ذلك لأن المؤرخ لا يستغنى – كما يعلم الجميع- عن الرجوع للأعمال الأدبية ليزداد وعيا وبصيرة بحقائق الحياة ومشاعر البشر وأفكارهم، وبهمومهم وطموحاتهم فى حقب أو مواقف تاريخية معينة.

وقد اختار من الأدب العربي الحديث روايتين تعكسان مرحلتين مهمتين أو أزمتين حاسمتين فى مسيرتنا نحو مجتمع عربي متحد ومتقدم، إلى جانب ما تعبران عنه من قيم جمالية وإنسانية رفيعة.

والرواية الأولى ، وهى " أولاد حارتنا" لربان سفينة الرواية العربية نجيب محفوظ، ( ويرجع بحثه عنها تحت عنوان " الله والفتوات والعلم" إلى سنة 1975) ، والثانية للروائي اللبناني الكبير توفيق يوسف عواد ( ويعود بحثه عنها تحت عنوان " الطائفية فى الرواية اللبنانية " إلى سنة 1984) . ونبدأ بعرض هذا البحث قبل أن نختم هذا التقديم برواية محفوظ التى طالما أثارت حولها عواصف الجدل.

21- من المعروف أن التدين بمعناه الأصلي المباشر يعنى إيمان الإنسان بالله وبكل ما هو مقدس إيمانا باطنيا عميقا، كما يعنى انتماءه إلى جماعة دينية محددة،وقد ظل انتماء المسلم إلى جماعة دينية على مدى أكثر من أربعة عشر قرنا دليلا على هويته، ومبدأ يقوم عليه نظام حياته الاجتماعية والسياسية والوجدانية. وينطبق الشيء نفسه على سائر الأديان السماوية والبشرية، إذ يبقى الانتماء إلى جماعة أو ملة أو نحلة أو طائفة دينية أمرا حاسما وموجها لحياة الإنسان وتفكيره ووعيه بذاته وعالمه الاجتماعي والطبيعي.

وإذا كانت الكلمة الأخيرة، وهى الطائفة والمصدر المشتق منها وهو الطائفية ، قد اصطبغت عبر التاريخ الإسلامى وغير الإسلامى، لا سيما فى العصر الحديث وفى النصف الثاني من القرن العشرين، بظلال قاتمة توحي بالتطرف والتعصب، أو بالتزمت والمحدودية على حساب التسامح والمحبة والتعاون والتآخي الانسانى، فقد وصلت فى كوارث الحرب الأهلية اللبنانية وغيرها إلى حد الدخول فى دوائر الجنون والانتحار أو الاحتراق والتدمير الذاتي.

22- قدم توفيق يوسف عواد( الذى ولد سنة 1911 فى إحدى القرى المارونية فى لبنان ومات فى حادث مروع فى أثناء الحرب الأهلية) عدة مجموعات قصصية وروايتين هما الرغيف ) 1939) وطواحين بيروت ( 1972) ، قبل اندلاع نيران جحيم الحرب الأهلية بقليل) .

وقد تلقى العلم فى كلية القديس يوسف فى بيروت، ثم واصل دراسته للحقوق فى جامعة دمشق، مما أتاح له الاهتمام بقضايا العروبة وتجاوز دائرة الطائفة الدينية الضيقة( يدل على ذلك إشادته فى " الرغيف" بمشاركة المسيحيين اللبنانيين فى الكفاح العربي للاستقلال عن الدولة العثمانية) .

وقد عمل بعد إتمام دراسته أكثر من عشر سنوات بالصحافة والكتابة الأدبية، ثم دخل منذ سنة 1946 فى دائرة العمل الدبلوماسي، وعمل سفيرا للبنان فى عواصم عديدة، وظهرت الطبعة الأولى لروايته التى نتحدث عنها عن دار الآداب سنة 1972 وفى أثناء وجوده فى طوكيو.

والشخصية الرئيسية فى الرواية ( وهى تميمة) فتاة شيعية من قرية " مهدي" إحدى قرى الجنوب اللبناني، بدأت شجرة عائلتها فى التحطم والتفكك، فأبوها سافر إلى أفريقيا سعيا وراء رزقه فشاء سوء حظه أن يقبض عليه بتهمة التهريب. وشقيقها جابر الذى صار رب العائلة يستغل وضعه الجديد فى غياب أبيه ليحيا حياة ماجنة تنزلق به غلى حافة الجريمة. وتصمم تميمة، على غير رغبة شقيقها ، على استكمال دراستها العالية فى العاصمة.

وتصر بذلك على السير فى طريق التحرر الذى لا يقودها إلى السعادة بل إلى الدوران مع " طواحين بيروت" فالصحافي التقدمي " رمزي رعد" يفتنها بسحره الأيديولوجي ويغويها فتستسلم له: ثم تتبين أنها لم تجن إلا الشوك من حماسه الثوري وتجربتها الجنسية معه.

والمحامى الشيعي المرشح لدخول البرلمان " أكرم الجردى" يريد منها أن تكون عشيقته ويعدها بأن يتزوجها فيما بعد، لكنها ترفض أولا ثم تخضع لإرادته فى مقابل أن يدبر لها وظيفة سكرتيرة فى نقابة عمال الميناء.

ثم يأتي اللقاء الواعد مع طالب الهندسة هاني الراعي( وربما يرمز للمؤلف نفسه فى شبابه) الذى يحملها إلى المستشفى فور إصابتها بجراح فى إحدى مظاهرات الطلبة .

ويضم الحب الفتاة الشيعية والفتى الماروني تحت جناحه فتطل الطائفية بوجهها القبيح وتحرم عليهما الارتباط المقدس الذى يمكن أن يحققا فيه ذاتهما ويلمسا جوهر وجودهما. وفى النهاية ينكسر حلم الحب بسبب الظروف الخارجية من ناحية، وعجز الحبيب عن التحرر من التقاليد الموروثة من ناحية أخرى، وذلك بمجرد أن تعترف له- لتكون صادقه مع نفسها ومعه- بحقيقة علاقتها السابقة مع الصحافي التقدمي رمزي رعد.

وتدخل خيوط العلاقات بين الشخصيات فى نسيج الموقف التاريخي للبنان بين عامي 1968 و 1969 ، ففي هذه الفترة الزمنية بدأت حركة المقاومة الفلسطينية للاحتلال الاسرائيلى لفلسطين من الأرض اللبنانية.

كما أخذت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة ترغم لبنان على الانخراط فى صراع الشرق الأوسط وتؤجج جمرات الاختلاف فى وجهات النظر- فى صفوف الطلاب بوجه خاص- بين مؤيد لحركة المقاومة ومعارض لها- ويبدأ هذا الاختلاف بالاحتجاج على النسبة المحددة لأبناء كل طائفة للقبول بالجامعات، ثم تتسع دائرته فتشمل الزواج الذى ييسر عقد الزواج " المحرم" بين أبناء الطوائف الدينية .

كما تشتعل قبل كل شيء حول الموقف الواجب اتخاذه من الفدائيين الفلسطينيين الذين يعرضون سكان القرى فى الجنوب للمخاطر باستفزازهم لإسرائيل العدوانية بحكم طبيعتها وتاريخها، كما يصطدمون فى كثير من الأحيان مع السلطات اللبنانية .

وتتفاوت الآراء حول هوية الفدائي، فهناك " الفدائي" الذى يكافح فى فلسطين و" يبيع روحه" فداء لها ، وهناك" نصف الفدائي" الذى يطلق عدة أعيرة نارية عند الحدود ثم يسرع بالعودة إلى معسكره ليلوذ به،،وهناك الفدائي الذى ليس بفدائي، وإنما يتبختر فى الشوارع ببذلة الفدائيين والبندقية السوفييتية الصنع تتدلى من كتفه ( ص 277).

ويعبر توفيق يوسف عواد عن موقف من الفلسطينيين يتسم بالتفهم والحكمة، إذ كيف ينتظر من الفلسطينيين أن يحافظوا على القوانين بينما اغتصب وطنهم ضد كل القوانين ، ولم تفلح كل القرارات الشرعية الدولية فى إعادته إليهم؟

إن مجرد وجود الفلسطينيين فى لبنان فى رأيه الذى يحفز اللبنانيين على تطوير وعيهم بمشكلاتهم واتخاذ القرارات الحاسمة فى شئونهم العامة والخاصة، ويوضح عواد رأيه بطريقة فنية عندما يراوح بين سرده للمناقشات الطلابية التى يصرح فيها هاني بأن التوتر بين اللبنانيين والفلسطينيين يرجع إلى أن الزواج المزعوم بينهما هو " زواج نفاق" وبين الأفكار التى تراود حبيبته تميمة فى أثناء الاستماع لما يقول فتناجى نفسها قائلة" إن زواجنا لن يكون زواج نفاق" ، وتواصل حديث النفس التى تحثها على أن تعترف لهاني بحقيقة علاقتها السابقة مع الصحافي.

وهنا يستخدم عواد استعارة غريبة ذات دلالة عميقة على هدفه من كتابة روايته ، فقد كان العنوان الأصلي للرواية وقت إعداد تجارب طبعها هو " أرواح للإيجار" وهو يوضح ما يعنيه بهذه الاستعارة عندما يتهم معظم شخصيات الرواية على لسان الصحاف التقدمي بأنهم قد أجروا أرواحهم ( ص 264) ، وكان من المفروض أن يبيعوها لو كانوا صادقين .

فالحب ليس تأجيرا للروح، بل هو بيع نهائي لها فى سبيل المحبوب.

باع روميو روحه فى سبيل جولييت، كما باعت روحها فى سبيله، كذلك الملهمون بحق والمؤمنون بصدق. إنهم لا يؤجرون أرواحهم وإنما يبيعونا. والسيد المسيح عليه السلام هو إمام جميع الذين باعوا أرواحهم، أى ضحوا بها فى تفان خالص مطلق.

والفدائيون أيضا يصدق عليهم هذا الوصف، بشرط أن يوقعوا على عقد البيع بدمائهم من أجل الوطن السليب، ولعل مؤلف الرواية قد كتب هذا كله بينما تتردد فى سمعه وعقله الآية الكريمة: " ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد" (البقرة 207 ) أو الآية الكريمة :" إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتتلون وعدا عليه حقا فى التوراة والإنجيل والقرآن من أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم" ( التوبة 111).

هكذا أجرت " تميمة" روحها- كما يرى حبيبها رمزي- للمثل العليا على طريقة المثقفين، بينما أجر هو روحه لكلمات وكلمات وكلمات، إننا جميعا- على حد قوله – نؤجر أرواحنا لشيء ما، وهو يمضى مع الصورة الفنية فيحصى مجموعة من الحيوانات البشعة التى ترمز لرذائل بشعة وكلها فى رأيه قد أجرت أرواحها لأشياء تافهة أو لقوى شريرة.

وربما كان التفاني المطلق لإنسان محبوب، والالتزام غير المشروط بقضية عادلة، هى الرسالة التى يوجهها المؤلف لقراء روايته، وربما كان الفدائيون، أو بعضهم على الأقل ، هم فى تقديره النماذج الرفيعة للتفاني والالتزام والتضحية، وهم الذين يحققون رسالته الأخلاقية البعيدة عن أي برنامج سياسي أو أيديولوجي.

23- وتتجلى هذه المعاني الروحية فى النهاية التى ختم بها المؤلف روايته، فقد أحست " تميمة" بأن أسوار الحصار تطوقها من كل ناحية : شقيقها الفاسد جابر يحاول قتلها لإنقاذ شرف العائلة- الذى سبق أن لوثه أكثر من مرة- بعد أن سمع عن تجاربها مع الرجال.

ولكنه يخطئها ويقتل أعز صديقة لها، وهى الممرضة المسيحية مارى التى أوتها فى بيتها، ومن جهة أخرى لا يدرك " هاني" أن تميمة التى باحت له بسر علاقتها القديمة مع الصحافي رمزي قد قدمت له أصدق دليل على ثقتها فيه وجبها له، ولهذا يلطمها على وجهها لطمة قاسية، ولا تنتظر تميمة حتى يهدأ غضبه، ولا تترك نفسها نهبا لأي أمل فى أن يعتذر لها، بل تصمم على الخروج النهائي من حياته.

وتمضى تميمة فى سبيلها، بينما يصعد الإسرائيليون عدوانهم الغادر المتكرر على الجنوب اللبناني، وتزحف أنهار حشود اللاجئين نحو الشمال، وتزلزل المظاهرات العارمة أرض بيروت . لكن إلى أين تمضى تميمة؟

لقد تعرفت فى أثناء عملها فى نقابة عمال الميناء على عدد من الفلسطينيين الطيبين البسطاء، وها هو أحدهم يسقط شهيدا فى عز شبابه، فيسرع أبوه لشغل مكانه فى صفوف الفدائيين، وتلحق به تميمة لتنضم إليهم، وتكتشف أن مكانها الآن مع الذين يتحدون كل القوانين ، وتصمم على أن تصارع جميع الأعراف والمعايير التى باسمها حرمها المجتمع من حقها فى الحياة، وقتل صديقتها الوفية، وحطم حبها الوحيد ( ص 289) .

وتأكد لها أن كفاح الفدائيين هو نموذج الثورة الشاملة على ا لمجتمع الجامد المتعفن، وأن الثورة الاجتماعية المتجددة تبدأ بالثورة على النفس( أتسمع هنا أيضا صدى الآية الكريمة : إن الله ر يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؟) ولما كانت الشخصيات الفلسطينية التى يقدمها المؤلف شخصيات نقية بسيطة من العمال لا من المثقفين والمنظرين فإنه يجرى الكلمات المعبرة عن الاحتجاج على القوانين والتمرد على العراف والتقاليد على لسان تميمة المثقفة الحائرة المحبطة، وإن كان يبعدها كما يبعد نفسه عن اليأس والقنوط، إذ يجعلها تقول فى النهاية إنها لا تستطيع ف الحقيقة أن تتصور أن تكون هذه هى النهاية ص( 290).

والسؤال الذى يتحتم أن يكون قد دار فى عقلها وفى عقول القراء هو هذا السؤال : لماذا تصورت تميمة هذا ؟ وجوابه البسيط أن ثورة التغيير مستمرة ولابد أن تستمر، حتى تفتح الأبواب والنوافذ على أضواء الأمل فى لبنان، لبنان الموحد المتحرر من الطائفية والتعصب، وأمة عربية حية ومتقدمة بالعلم والحرية والاستنارة والوحدة والثورة المتجددة... إن توفيق يوسف عواد – رحمه الله وأرضاه- يقدم لنا فى هذه الرواية تحذيرا وبشارة ( لاحظ أن بطلة روايته اسمها تميمة..) تحذير من الطائفية والتفرق والتشرذم .

وبشارة بوجود عربي متماسك ومتطور وواثق بنفسه وبعمقه التاريخي والحضاري العريق، والمفارقة المذهلة والمحزنة معا هى أن الأديب الذى أطلق نفير تحذيره قبل اندلاع الحرب الأهلية بسنوات، قد سقط صريعا لهذه الحرب نفسها، وشاء له القدر أن يكون ممن باعوا أرواحهم ولم يؤجروها.

24- وأخيرا نصل إلى " أولاد حارتنا" .. وبحث المستشرق الكبير عن هذه الرواية الفريدة الشائكة تحت عنوان " الله والفتوات والعلم " يرجع إلى سنة 1975، ولابد أن أشير هنا وقبل عرض نبذة عن هذا البحث ( الذى كتبه صاحبه بقلم المؤرخ وصارت له مع الزمن قيمة تاريخية) إلى أنه، على مبلغ علمي، أول تقييم نقدي يتنبأ بأن الرواية جديرة بأن تضاف إلى الرصيد العقلي والروحي الذى تعتز به البشرية من ألدب العالمي.

وأن كاتبها يحقق تلك الفكرة التى كان أمير شعراء الألمان " جوته" ( 1749- 1832) أول من قال بها، وهى فكرته عن الأدب العالمي الذى رأى فى أواخر أيامه، وفى أحد أحاديثه الرائعة مع تلميذ " اكرمان" أن أوانه قد آن، وأنه لم يعد لما يسمى بالأدب القومي أو الوطني مكان، وأنه هو نفسه قد تعلم كيف ينظر فى آداب الشعوب المختلفة ويجد فيها ما يمتعه وينفعه من حق وخير وجمال.

ولعل الأجدر بالذكر مما سبق أن " شتيبات" لا يكتفي فى بحثه بتحليل الرواية والإشادة بروعتها، وإنما يوحى فى خاتمته بأنها ستحظى بأرفع قدر من الإعجاب والتقدير عندما تترجم إلى اللغات الأوربية الحديثة، لأن ترجمتها بعد رأيه " ستظل أملا نتطلع إليه ونتمناه " .

وربما لا يكون من قبيل المبالغة- بعد أن ترجمت هذه الرواية وأخواتها إلى معظم اللغات الحية- أن أفسر هذه العبارة والفقرة الأخيرة التى وردت فيها بأنها تنطوي على نبوءة صادقة ونافذة من حجب الغيب- بحصول صاحبها على أرفع جائزة أدبية عالمية، وأنه هو الذى شرف هذه الجائزة قبل أن تشرفه وتشرفنا معه.

ويبدأ البحث بسطور تشيد بواقعية نجيب محفوظ التى تجلت بأوضح صورة فى ثلاثيته" الشهيرة، وبتوقفه عن الكتابة بعد الانتهاء منها وقبل قيام ثورة يوليو 1952 بأشهر قليلة ، ثم عودته إلى الكتابة فى سنة 1957 بهذه الرواية التى أثارت احتجاج الدوائر المحافظة، ولم يقدر لها حتى اليوم أن تصدر فى مصر على شكل كتاب، وإن كانت طبعتها الأولى قد ظهرت ضمن مطبوعات دار الآداب البيروتية فى شهر يناير سنة 1967، ثم لدى الدار نفسها فى طبعتها الثانية سنة 1972.

يبدأ الباحث تحليله للرواية بهذه العبارات: " إن نجيب محفوظ يقدم فى الحقيقة عملا غير عادى. فهذه الرواية(...) تتناول موضوعا جبارا، وهو تاريخ البشرية من حيث هو تاريخ النجاة والخلاص الالهى، بدءا بخلق العالم وطرد آدم وحواء من الجنة ، ومرورا بظهور الأنبياء، وانتهاء إلى مشكلات العصر الحاضر، وهى فى تناولها هذا تنقل تاريخ النجاة إلى نطاق حي من أحياء القاهرة القديمة، وبهذا تخلصه من البعد الأسطوري لتقربه قربا مباشرا من جمهور القراء...".

ويقدم البحث وصفا مفصلا للحارة التى تقع فيها الأحداث، والشخصيات المحركة لها ، بدءا " بالجبلاوى" فى البيت الكبير وأبنائه من بعده: إدريس = إبليس، وأدهم = آدم، وولدي آدم همام = هابيل الذى يقتله شقيقه قدري= قابيل ، إلى الفتوات الذين يعيثون فى أرجاء الحارة ظلما وفسادا، والرجال الذين ينهضون من حين إلى حين لرفع البؤس عن الناس وقهر الظلم : جبل = موسى، ورفاعة = يسوع، وقاسم – محمد الذى ينجح فى تحطيم نفوذ الفتوات بالقوة.

ويأمر لأول مرة بتوزيع ربع الوقف- الذى وقفه الجبلاوى على أبنائه وذريتهم- على جميع سكان الحارة دون تفرقة بينهم فى العشيرة أو الجنس، ولكن الذى يحدث بعد موته، مثلما حدث بعد موت سلفه، هو عودة ناظر الوقف والفتوات إلى سلطتهما القديمة، ورجوع الظلم والبؤس سيرتهما الأولى، لأن البشر سرعان ما ينسون تعاليم روادهم الكبار...

ويستطرد الكاتب محللا بعض صور الرواية، ثم يتوقف عند الجزء الذى يعقب عصر الأنبياء لكي يصل إلى مرامي مؤلفها وأهدافه، ويسلط الضوء على شخصية الساحر عرفة الذى يرمز للعلم الحديث الذى لا ينتسب لدين أو وطن.

ويستأنف عرفة الصراع الذى بدأه جبل ورفاعة وقاسم مع الفتوات لكي يوفر لأولاد الحارة حياة لائقة بالبشر، إنه يريد أن يحقق الشروط، العشرة التى نصت عليها وصية الجبلاوى( الوصايا العشر؟) وإن لم يكن فى الواقع من رجال الجبلاوى، وعندما ييأس من بلوغ هدفه، يتسلل إلى بيت الجبلاوى الكبير لكي يكتشف سر وصية الوقف، ويتورط عن غير قصد فى قتل الخادم العجوز الذى يحرس الوصية ويلوذ بالفرار مذعور. .

ويتبين بعد ذلك أن الواقف المسن كان لا يزال على قيد الحياة، ولكنه مات متأثرا بالصدمة، ويطارد الفتوات عرفة فيتمكن من إنقاذ نفسه بإلقاء الزجاجة السحرية التى اخترعها على مطارديه، وهى سلاح متفجر يفوق كل ما عداه من أسلحة، غير أن الناظر- رمز الطاغية الشرقي- يسخره لخدمته، ويتخلص الناظر من الفتوات بفضل الزجاجة السحرية، ولكنه يفعل هذا لمصلحته، لا لمصلحة الحارة. بهذا يصبح عرفة فتوته الجديد، وفى النهاية يتمكن عرفة من الهرب، ولكن أتباع الناظر يلقون القبض عليه ويقتلونه قتلة فظيعة.

ويتجه أولاد الحارة فى البداية إلى إدانة عرفة فيتهمونه بقتل الجبلاوى وبأن سلاحه العجيب هو الذى جعل من الناظر طاغية لا يقهر، لكن بعد موت عرفة يشيع الأمل فى الصدور، فقد تمكن مساعده " حنش" من النجاة بنفسه، ولعله قد تمكن أيضا من إنقاذ كراسة عرفة السحرية، وكلما اشتدت حملة الناظر على عرفة وقوى اتهامه بقتل الجبلاوى مضى الناس يقولون : لا شأن لنا بالماضي، ولا أمل لنا إلا فى سحر عرفة، ولو خيرنا بين الجبلاوى والسحر لاخترنا السحر.

وهكذا أخذ بعض شبان الحارة يختفون تباعا لكي يتعلموا السحر على يد حنش استعدادا ليوم الخلاص الموعود..

لم يترتب على اقتحام عرفة ( العلم) لبيت الجبلاوى ( العالم فى الدين والميتافيزيقا) إلا أسوأ النتائج: مقتل الخادم العجوز، وموت الجبلاوى، وتسخير عرفة فى خدمة الناظر، وانتصار هذا الناظر انتصارا مطلقا فى القهر والجبروت، هنا تطل هذه الأسئلة الملحة برؤوسها: هل فشل عرفة لأنه لم يتحرر بعد من إيمانه بالجبلاوى؟ أم يرجع فشله إلى محاولته النفاذ فى عالم الميتافيزيقا الذى ليس للعلماء ( الطبيعيين) أن يبحثوا فيه عن شيء؟ أم يرجع فى النهاية إلى تجرئه على المساس بأقدس المقدسات؟

وعندما يصل عرفة فى خدمته للناظر إلى الدرك الأسفل، تظهر امرأة تحمل إليه الرسالة الوحيدة التى وجهها الجبلاوى إليه: " اذهبي إلى عرفة الساحر وأبلغيه عنى أن جده مات وهو راض عنه".

وتبقى حقيقة هذه الرسالة غامضة، ولا نستطيع أن نقطع بأنها لم تكن إلا حلما من أحلام عرفة، ولكنها هى التى تشجعه على اتخاذ قراره بالهرب من خدمة الناظر، كما تعهد للتحول النهائي الذى تسوده روح التفاؤل، لقد وثق من رضاء جده عنه، واطمأن إلى أنه لم يغضب لاقتحامه بيته وقتل خادمه ولكنه يفهم منها كذلك أن رضاه ينتوى على سخطه على عمله فى خدمة الناظر، وربما كان التفسير القريب لهذا أن عالم الدين والميتافيزيقا قد انتهى، ولكن العالم ( بكسر اللام) – وهو صاحب الحق فى المستقبل- يعترف بالقيم الروحية والمعايير الأخلاقية التى أخذها عنه.

25- لا شك فى أن الاشكالية التى أثارت النقد، بل الاحتجاج والثورة على الرواية ، تكمن فى نقل التاريخ المقدس- أي تاريخ النجاة والخلاص والهدى على أيدي الرسل والأنبياء عليهم السلام- إلى مستوى الحارة التى تزدحم بالفتوات، ويرزح أهلها تحت إثقال الفقر والقهر والجهل والمرض والقذارة ، ومن ثم " علمنته" أو إضفاء النزعة الدنيوية عليه وتصغير مقاييسه، وإطفاء هالات الجلال والقداسة التى تحيط به، وعرضه على جمهور القراء عرضا يقرب إليهم أحداثه، وإن كان فى الوقت نفسه يؤثر فيهم تأثير الصدمة.

ومع أن الرموز الحية فى هذه الرواية واضحة أكثر مما ينبغي للرموز الفنية ( لأن الرمز يتسم بالضرورة بقدر من الغموض ويشع دلالات ومعاني متعددة، بينما هو هنا أحادى البعد صريح الدلالة) فإن الكاتب يتعمق تحليل هذه الرموز التاريخية والمتعالية فى الوقت نفسه على التاريخ( مثل جبل ورفاعة وقاسم وعرفة الساحر أو العالم) ويناقش أفكار نجيب محفوظ الأساسية ومواقفه من الدين والميتافيزيقا والعلم والعقلانية، وشوقه إلى المجتمع العادل السعيد الذى يقهر الموت أو على الأقل ينسى الناس مأساة العدم الزاحف عليهم لا محالة: " إذا حسنت أحوال الناس قل شره- أي الموت- فازدادت الحياة قيمة وشعر كل سعيد بضرورة مكافحته حرصا على ا لحياة السعيدة المتاحة.. سيجمع الناس السحرة ليتوفروا لمقاومة الموت- بل سيعمل بالسحر كل قادر، هنالك يهدد الموت الموت ( ص 354 من الطبعة البيروتية) .

ويعلق المستعرب الكبير على العبارات السابقة قائلا: إن الثورة على الموت ليس لها طابع ميتافيزيقي فحسب، وإنما هى كذلك رمز متطرف على الكفاح العقلاني والواقعي من أجل حياة أفضل، وهو كفاح يعنيه نجيب محفوظ بكل ما فى هذه الكلمة من قوة، وليس " أولاد حارتنا" هم أبطال روايته، وإنما هم المقصودون بخطابها وحديثها إليهم، فلابد لهم أن يعرفوا أن الجهد المبذول لتأمين السلامة والعدالة تمهيدا لخلق الحياة الجديدة جهد يسعى إلى نجاتهم وخلاصهم، وأن نضال الموت نفسه- الذى يتحتم على كل إنسان أن يعانيه بمفرده – له من ناحية أخرى معنى اجتماعي .

ففي مقدور الفرد أن يستمد الشجاعة فى مناضلته ( أي الموت) وقهر أشكاله وصوره المختلفة- من فقر وجوع ومرض وجهل وتخلف... الخ، من خلال تضامنه مع الآخرين.

بهذا تنتهي الرواية نهاية واعدة تفيض بالأمل فى المستقبل – هذا إذا أمكن كسب الأغلبية لمتابعة الطريق الذى بين لهم عرفة معالمه...

ويختم الأستاذ بحثه بقوله إنه لا يعرف فى الأدب العربي الحديث عملا تناول مثل هذه المشكلات المهمة على هذا النحو المثير الذى تناولتها به " أولاد حارتنا" ( ويقصد بذلك مشكلات تأثير الدين والعلم فى الحياة، وإيجاد مجتمع عقلاني تختفي منه مآسي الفقر والذل والبطش...الخ، فتهون على الإنسان مأساة وجوده وعدم وجوده... إلى غير ذلك من المشكلات المهمة التى عالجها نجيب محفوظ بصور متعددة المعاني والإيحاءات، وبصدق وعمق وموضوعية تميز كل أعماله.

ولذلك يتمنى " شتيبات " فى السطرين الأخيرين من بحثه- كما سبق القول- أن تترجم الرواية الأوربية وتضاف إلى ذخيرة البشرية من الأدب العالمي، ولقد ترجمت مع غيرها من أ‘مال الأديب الكبير إلى ما يقرب من أربعين لغة حية، وحصل – كما نعلم جميعا- على الجائزة المرموقة التى شرفت به، وتحققت نبوءة المستشرق المنصف بعد كتابة بحثه بما يزيد على عشر سنوات ( يمكنك إذا شئت أن تطلع على النص الكامل لهذا البحث فى كتابي المتواضع " شعر وفكر" ، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1997 ، ص 355 – 372).

26- وفى النهاية يشرفني أن أضع بين يدي القارئ هذه الدراسات والبحوث العشرة للمستشرق الألماني الكبير عن الإسلام والمسلمين ، وإذا كنت لم أتقيد بترجمتها ترجمة حرفية، فقد التزمت غاية الدقة والأمانة فى عرضها، ولم أغفل فقرة واحدة ولا حقيقة واحدة وردن فيها. كما عرضت فى التمهيد لهذا الكتاب ملخصا وافيا لعشر مقالات أخرى تسجل اهتمام الأستاذ " شتيبات" بنشأة الوعي القومي وبداية النضال من أجل الوحدة العربية، وبحركات الاستقلال والتحرر وبعض النظم الثورية فى البلاد العربية وغير ذلك من المشكلات المتصلة بالتعليم ونكبة فلسطين.

بالإضافة إلى تقديم عملين روائيين من الأدب العربي الحديث يعبران عن مدى انشغال العقل والوجدان العربي فى النصف الثاني من القرن العشرين بالتقدم والاستنارة والتجديد والتغيير نحو الأفضل والأعدل.

وقد حرصت فى هذا التمهيد على أن أبدأ بعرض أقدم هذه المقالات والبحوث- من حيث زمن كتابتها- وانتهى بأحداثها، وذلك على العكس مما فعلت مع المقالات والبحوث عن الإسلام والمسلمين .

ولا شك عندي فى أن القارئ سيتعرف من خلال هذه البحوث والمقالات على موضوعية المنهج التاريخي وأمانته، وسيشهد بنفسه على الإنصاف والتعاطف العقلي والوجداني للمستشرق الكبير مع قضايا العرب والمسلمين ، كما سيشعر بأن سطوره تنبض فى مواضع عديدة بالتفهم والمشاركة، وتشف عن أمل كاتبها فى أن ينجح العرب فى تحقيق مشروعاتهم فى التنمية والتقدم، وحلمهم بالوحدة التى هى طوق النجاة الوحيد فى خضم أعاصير التحديات التى تهب عليهم من كل اتجاه...

ومن الطبيعي أن يختلف القارئ العربي مع المؤلف فى بعض أرائه، وأن يوجه النقد إلى جانب أو آخر من أفكاره ووجهات نظره.

ويقيني أن المؤرخ الكبير سيرحب بالاختلاف فى الرأي ما دام يقوم على أساس الحوار الحر النزيه ويتوخى الوصول إلى الحقيقة، فلا قوام لأي فكر أو بحث بغير النقد الذى يبعث فيهما أنفاس الحياة ويحولهما مع الزمن إلى فعل مؤثر ومغير... 27- وفى الختام أقول للقارئ الكريم الذى اطلع على شيء من إنتاجي السابق إننى قد حرصت فى كل ما قدمت من قبل على أن أحصر نفسي فى حدود الفلسفة الغربية والأدب العالمي- لا سيما الأدب الألماني- وأن أبتعد بها عن ميدان الدارسات الإسلامية والعربية، لإيماني من ناحية بضرورة تحديد الكاتب أو الباحث لحدوده.

ولعلمي ويقيني من ناحية أخرى بأن غيري من الإخوة الباحثين المتخصصين أقدر منى على الخوض فى بحار ذلك الميدان الشاسع، وقد أقدمت على العمل فى هذا الكتاب، وبذلت فى سبيل تحقيق نصوصه والتثبت من حقائق- بقدر ما استطعت – لسببين : أولهما أن أشارك بجهد شديد التواضع فى مواجهة حملاث التشويه والافتراء الضارية على الإسلام والمسلمين والعرب، وهى الحملات الكاذبة التى أرجو أن يفطن العقل الغربي نفسه ذات يوم قريب إلى أنها تخجله وتنفى عنه فضيلته الكبرى التى ميزته منذ عهد الإغريق، وهى فضيلة التمسك بالحقيقة والبحث عنها والإعلاء من شأنها فوق كل شيء ومهما تكن التضحيات.

والثاني هو إهداء زهرة حب ووفاء للأستاذ والمعلم الذى يغمرني برعايته وفضله منذ ما يقرب من نصف قرن، لعلها أن ترسم على وجهه الطيب الحنون ابتسامة رضي وسعادة، وتحمل إليه – وهو يرقد على فراش المرض فى برلين- أخلص تمنيات تلميذه وصديقه بالشفاء والهناءة.

أشكره- سبحانه- على عونه وتوفيقه، وأستغفره واسأله الصفح عن القصور والتقصير ، إنه نعم المولى ونعمن النصير، إليه الجأ وإليه المصير.

عبد الغفار مكاوي حياة فريتس

شتيبات وأعماله

ولد أوتو هيرمان فريتس شتيبات فى اليوم الرابع والعشرين من شهر يونيو سنة 1923 بمدينة كيمنتز ( بمحافظة سكسونيا) وانتقل مع أسرته بعد سنوات قليلة إلى برلين مع انتقال أبيه للعمل بها فى إدارة مطبعة " ريتشارد لود فيج" عاش الصبي مع أسرته فى حي " فيد ينج" والتحق بمدرسة ماكينزين- التى تغير اسمها بعد ذلك فصارت تحمل اسم الفيلسوف والناقد والكاتب المسرحي ليسينج- ولم يكد يحصل على شهادة إتمام الدراسة الثانوية فى سنة 1940 حتى بدأ أبوه فى إعداده لتولى شئون المطبعة، وأخذ يدربه على فنون الطبع وصف الحروف وتوزيع الأحبار والألوان، ولكنه سمح له فى الوقت نفسه – لحسن حظه وحظ الاستشراق، وتخفيفا من أعباء العمل اليدوي المؤلم والأبكم- بأن يلتحق بالجامعة لدراسة المادة التى يختارها.

ودفعه حبه للغات الغريبة والبعيدة إلى أن يبدأ بدراسة اللغتين الصينية واليابانية ، ثم لم يلبث أن تخلى عنهما وانصرف إلى الدراسات العربية والإسلامية فى " سيمنار اللغات الشرقية" الذى كان يقدم دروسا لغوية وعملية قبل أن يضم فى العهد النازي إلى جامعة برلين القديمة ويدخل فى إطار الدراسة الجامعية.

وهناك تعرف الطالب الشاب على أستاذه الذى لازمه حتى رحيله، وهو المستعرب الكبير فالتر براونه ( 1900- 1989) الذى أدى أمامه فى نهاية شهر أكتوبر سنة 1941 أول امتحان له فى اللغة العربية- وقد كان من حسن حظ المستشرق الشاب أن يعفى من سخرة التجنيد ولعنة القتال فى إحدى الجبهات التى فتحتها ألمانيا الهتلرية فى الحرب العالمية الثانية- غير أن الجيش سرعان ما استدعاه فى شهر يناير سنة 1942 للعمل مترجما فى قسم البحوث بوزارة الطيران فى برلين، واستفاد من فترة وجوده بالعاصمة فى مواصلة دراسته للعلوم الإسلامية، وذلك قبل أن ينقل القسم السابق الذكر إلى منطقة بافاريا فى الجنوب الألماني.

عايش " شتيبات" تجربة الاستسلام المطلق لبلاده وإعلان انتهاء الحرب ( فى الثامن من شهر مايو سنة 1945) وإن لم يذق نعمة الراحة أو السلام... فقد مضى ثلاثة أشهرة فى معسكر اعتقال أمريكي، واضطر إلى العمل مترجما فى سلاح الطيران الأمريكي لمدة ثلاثة شهور أخرى. وقد نشر الخراب أجنحته السوداء فى كل مكان وراح يفرخ صغاره البشعة- الجوع والفوضى والذل والدمار- فى العاصمة بوجه خاص وفى سائر المدن والقرى الألمانية .

وانكسرت كل الأحلام فلم يستطع حتى أن يفكر فى الرجوع إلى برلين للبحث عن مصير المطبعة التى كان يملكها ويديرها أبوه، دع عنك مواصلة دراسته فى جامعتها ، فلم يكن لطموح الكانسان فى ذلك الزمن العصيب أن يتجاوز محاولة البقاء على قيد الحياة.

ولم تكد محاكم الحلفاء تصدر قرارها- فى السادس عشر من شهر ديسمبر فى المنطقة المحتلة من قبل الأمريكيين ، حتى انخرط فى العمل الصحافي.

وأخذ يكتب منذ ذلك الحين مجموعة من التقارير عن أحوال الشرق الأدنى فى مجلة " أرشيف أوربا" وذلك بعد حضور بعض التدريبات المؤهلة للعمل الصحافي فى جامعة " ميونخ" – وواصل نشر هذه التقارير فى الأقسام الخاصة بالسياسة الخارجية فى عدد من الجرائد كالصحيفة الجديدة وميركور وغيرهما- ويكفى أن نذكر بعض عناوين تلك التقارير والتحقيقات التى لم يتوقف بعد ذلك عن كتابتها ونشرها على مدى سنوات طويلة تالية فى منابر مختلفة: وضع مصر فى الإمبراطورية البريطانية ( 19461947 ) .

تطور وضع الدردنيل ( 1947) ، قضية فلسطين أمام الأمم المتحدة ( 1948) إيران بين القوى العظمى( من 1941- إلى 1948 ) وغنى عن الذكر أن هذه التقارير الصحافية المبكرة قد اتسمت بكل ما يميز كتاباته ودراساته اللاحقة : بالموضوعية العلمية النزيهة.

ووضوح الأسلوب وبساطة العرض، والغوص إلى الجذور التاريخية للتطورات الحديثة والمشكلات والقضايا المعاصرة، والتعاطف الشديد مع بلاد وشعوب المشرق العربي الإسلامى، بعيدا كل البعد عن الاستعلاء على " الآخر الشرقي- والمسلم بوجه خاص- الذى وصم الكثير من بحوث المستشرقين والمستعربين وجعلها تدور فى فلك الأطماع الاستعمارية والتوسعية فى ذلك الوقت ومنذ بداية حركة الاستشراق الغربي نفسه.

بعد الحصول فى سنة 1951 على منحة من الحكومة الأمريكية وقضاء سنة دراسية والاستماع لمحاضرات بعض مشاهير المستشرقين فى جامعة ميونيخ( مثل بابنجر وشبيتالر) قرر شتيبان الرجوع إلى برلين لإتمام دارسته بجامعتها.

كانت الأحوال قد تغيرت بعد الاحتلال الروسي لشطر المدينة الذى تقع فيه الجامعة القديمة.

وكان على العالم الشاب أن ينتظر حتى تفتح " جامعة برلين الحرة- التى أسست عام 1948 فى الشطر الغربي للمدينة- أبوابها للطلاب ويستكمل بناء " المعهد الشرقي" التابع للجامعة الجديدة.

واستأنف شتيبات دراسته للعلوم الإسلامية والتاريخ الإسلامى فى هذا المعهد، وعلى يد الأستاذ نفسه الذى سبق أن أخذ العلم- مع الحب والرعاية – على يديه( وهو المستعرب فالتر براونه الذى سبق ذكره) .

وواصل دراسته حتى أتمها فى شهر يوليو 1954 برسالة الدكتوراه الأولى عن " الوطنية والإسلام عند مصطفى كامل- مساهمة فى التاريخ الفكري للحركة الوطنية المصرية، ( وقد ظهر ملخص لها من مائة صفحة فى العدد الرابع من مجلة عالم الإسلام لسنة 1956- ص 341 – 143).

واستبدت به الرغبة فى زيارة الشرق الأدنى والبقاء به فترة طويلة تمكنه من التعرف عن قرب على ثقافته وتراثه وأحواله وناسه، وجاءت الفرصة الثمينة عندما كلفته إدارة " معهد جوته" المركزية فى ميونيخ فى شهر نوفمبر سنة 1955 بالسفر لمدة أربع سنوات إلى القاهرة على رأس بعثة المعهد لتدريس اللغة الألمانية ببعض مدارسها الثانوية( بالإضافة إلى " مدرسة الألسن" التى كانت الدراسة بها فى ذلك الحين دراسة مسائية حرة) والمشاركة فى تأسيس فرع معهد جوته بالعاصمة المصرية.

لم يكن من الممكن أن يحلم المستشرق الشاب بفترة أنسب من هذه الفترة التى قضاها بالقاهرة ( من 1955 – إلى 1959) ولا أحفل منها بالأحداث الكبرى والطموحات والآمال العظمى فى تاريخ المنطقة العربية: من انسحاب القوات البريطانية من قناة السويس إلى العدوان الثلاثي الغادر فى سنة 1956، ومن تأسيس للجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا وسقوط الملكية فى العراق ( 1958) إلى إعلان استقلال المغرب وتونس ( 1956) وحرب التحرير الجزائرية التى بدأت بطولاتها ومآسيها فى سنة 1954 وانتهت بالتحرر المجيد فى سنة 1962، وكل هذا فى ظل المشروع الناصري الطموح لتحقيق الوحدة العربية، وصعود موجات الأمل والاستبشار الموارى بالحلم العربي الكبير الذى لم تكن قد خيمت عليه بعد كوابيس الهزيمة واليأس والإحباط.

كانت سنوات مفعمة بالنشاط والنجاح والرضا الموفور: مشاركة فعالة فى تأسيس معهد جوته، وإشراف على بعثة تدريس اللغة الألمانية المكونة من أكثر من أربعة وعشرين عضو هيئة تدريس، ومهمة التفتيش على تدريس اللغة فى بعض المدارس المصرية من قبل وزارة التعليم، مع الاهتمام المتزايد بنظام التعليم فى مصر وتاريخه وتطوره، والمشكلات والقضايا الاجتماعية والثقافية المتعلقة به التى صبت بعد ذلك فى نهر رسالته الثانية " لدكتوراه التأهيل" التى خصصها لدراسة نظام التعليم فى مصر منذ عصر محمد على .

لا شك فى أن السنوات التى عاشها شتيبات فى ظل العهد الناصرة كانت من أخصب تجارب حياته كعالم وإنسان. ومن يطلع اليوم على المقالات التى كتبها فى تلك الفترة ونشرها فى " أرشيف أوروبا" ( كالمساعي الأمنية فى ا لشرق الأوسط 1955، وطريق الأمة الجزائرية 1961، وثورة عبد الناصر والبداية من جديد 1962) أو فى الكتاب السنوي للجمعية الألمانية للسياسة الخارجية( مثل الدول العربية فى الشرق الأوسط، وقضية فلسطين وإسرائيل، وسياسة تركيا والدول العربية.

وحركات الاستقلال فى المغرب العربي، والدول العربية بين الشرق والغرب، والدول العربية قبل حرب 1967، وبين الحل السياسي والحرب المدمرة- وقد كتبت كلها ونشرت بين سنتي 1955 و1975) أقول إن هذه المقالات- التى لخصت بعضها فى التمهيد السابق- تقدم الشهادة الصادقة على عمق النظرة العلمية والإنسانية ، ففيها نلمس التعاطف الشخصي الذى لا ينفصل عن المنهج العقلي النزيه، والتوثيق الدقيق المقترن بالتحليل التاريخي الأمين.

وإذا كانت الأيام والأحداث قد كشفت بعد ذلك عن مصادر لم يتوصل إليها أو مواد تاريخية وشخصية لم يتيسر له الاطلاع عليها، فإنها- أي هذه المقالات- تظل محتفظة بقيمتها العلمية العالية، وتبقى مآثر طيبة لإنسان توحد فيه العلم الخالص مع لخلق المثاليالرفيع.

رجع شتيبات إلى برلين فى أواخر سنة 1959 وعين فى منتصف ديسمبر فى وظيفة معيد بقسم الدراسات الإسلامية بمعهد العلوم الدينية بجامعة برلين الحرة، وقد كلف- على مدى أربع سنوات- بتدريس اللغة العربية، فاستطاع أن يستغل وقت الفراغ الطويل فى إنجاز بعض المقالات التى سبقت الإشارة إليها.

بالإضافة إلى بحث عن جمال عبد الناصر ، نشرته لجنة اليونسكو فى فيينا سنة 1964، وبحث آخر مطول عن العالم العربي فى عصر القومية، نشر سنة 1964 أيضا ضمن كتاب للأستاذ فرانز تيشنر عن تاريخ العالم العربي.

وأخيرا قدم رسالته الكبرى لدكتوراه التأهيل التى سبقت الإشارة إليها عن " التراث والنزعة العلمانية فى نظام التعليم الحديث فى مصر حتى سنة 1952، مساهمة فى التاريخ العقلي والاجتماعي المشرق الإسلامى ".

ومن المؤسف حقا أن هذه الرسالة المهمة لم تنشر قط على صورة كتاب، وإن كان قد نشر منها بعد ذلك فصلان ضمن كتابين بالانجليزية والألمانية فى عامى 1968 و 199. عن مشروعات التعليم الوطني قبل الاحتلال البريطاني ،وعن طه حسين وديمقراطية التعليم فى مصر.

وعاوده الحنين للحياة مرة أخرى فى العالم العربي، وشاء له حسن الحظ أن يتولى إدارة المعهد الشرقي التابع لجمعية الاستشراق الألمانية فى بيروت من شهر أكتوبر 1963 إلى شهر سبتمبر 1968.

أتاحت له بيروت أن يعيش فى ظل التعددية السياسية والدينية ، والحرية الثقافية والفنية والأكاديمية والصحافية التى لا تظهر لها فى ا لعالم العربي كله.

ولم يكن لجمعية الاستشراق الألمانية أن تجد مكانا فى الشرق الأدنى أنسب من هذه المدينة لتأسيس المعهد الشرقي التابع لها والقائم بنشر رسالته الثقافية منذ سنة 1961 إلى اليوم- هذه المدينة التى يتجاوز فيها الشرق والغرب، ويتعايش المسلم والمسيحي ، ويتنافس عدد من أفضل الجامعات العربية على نشر الوعي والمعرفة، وتسرى روح الحرية الجسورة المتجددة فى كل عقل وكل شارع وكل ركن فيها.

كان هذا المعهد الشرقي قد أسس فى سنة 1961 بمبادرة من المستشرق هانز روبرت رمر ( 1915 – 1997) الذى تولى إدارته ورعاية شئونه لمدة عامين، استجاب بعدهما لدعوة من جامعة فرايبورج لشغل كرسي العلوم الإسلامية وتاريخ الشعوب الإسلامية بها.

ولم يترك الأستاذ بيروت إلا بعد أن رشح شتيبات لجمعية الاستشراق ليكون خلفا له، إذ لم ينس أنه قد أثار إعجابه الشديد بمواهبه الإدارية والعلمية عندما تعرف عليه بالقاهرة فى منتصف الخمسينات .

وواجه شتيبات بعد حضوره إلى بيروت أربع مهام جسام كان عليه أن ينهض بها: نقل المعهد من مقره القديم ( فى الدور الثاني من عمارة الصمدي فى شارع مدام كورى فى حي رأس بيروت) إلى المبنى الجديد الذى انتقل إليه منذ شهر يونيو 1964 ولم يزل يشغله إلى اليوم الحاضر( فى فيلا فرج الله بحي زقاق البلاط)، وشراء وتأثيث مقر صيفي للعاملين بالمعهد( دمر خلال الحرب الأهلية) .

وتزويد المكتبة بالمراجع والدوريات والأجهزة والمعدات الضرورية، وتنظيم خطة النشر التى توالى ظهور مجلداتها المهمة فى التراث الإسلامى والتاريخ العربي تحت عنوان : " نصوص ودراسات بيروتية" مع الاهتمام بمواصلة نشر سلسلة المخطوطات الشرقية التى كان قد بدأها المستشرق المعروف " هلموت ريتر" فى اسطنبول من سنة 1928 إلى سنة 1949 وعرفت بسلسلة " المكتبة الإسلامية" .

وليس من قبيل المبالغة أن نشيد بالدور الكبير الذى قام به هذا المعهد وما يزال يقوم به فى نشر التراث العربي الإسلامى، وتوثيق العلاقات العلمية والإنسانية بين الباحثين الألمان والعرب، وحفز المستعربين الشبان على المزيد من الاهتمام بالقضايا والمشكلات التى انعكست على بحوث صاحب هذه السيرة سواء فى أثناء وجوده فى بيروت أو بعد رحيله عنها بسنوات طويلة.

ويرجع شتيبات فى أواخر عام 1968 إلى الجامعة الحرة فى برلين ومعهد العلوم الإسلامية والدينية فيها- ويعين فى الثالث من سبتمبر من العام نفسه أستاذا مساعدا قبل أن يشغل فى الثاني من شهر يوليو 1969 كرسي الأستاذية خلفا لأستاذه " فالتر براونه" صاحب الكتاب المشهور فى الدوائر العلمية: الشرق الإسلامى بين الماضي والمستقبل، تحليل تاريخي ولاهوتي لوضعه فى العالم المعاصر( بيرن وميونيخ 1960) وسرعان ما أصبح هذا المعهد- بعد الإصلاح الشامل لنظام التعليم فى ألمانيا الاتحادية فى أواخر الستينات- مركزا متوهجا بالحوار الحي بين علماء الأديان والفلاسفة وعلماء الاجتماع والاستشراف .

بحيث تضافرت فى هذا الحوار المستمر نزاهة العلم الموضوعي الخالص والالتزام السياسي والاجتماعي، مع تزايد اهتمام الرأي العام بمعرفة الشرق العربي الإسلامى بعد نكبة يونيو 1967.

وتصاعد حركة المقاومة والتحرير الفلسطينية ، وتفجر أزمة النفط فى أوائل السبعينيات، ولابد أنتلك المحاورات والمحاضرات قد تأثرت من ناحية أبلغ التأثر بتراث التوجه الحضارة فى دراسة الشرق الإسلامى وعلومه- وهو التوجه الذى يرجع إلى المستشرق البرليني ك.

بيكر ( 1876- 1933) الذى تتلمذ عليه براونه أستاذ شتيبات – كما تأثرت من ناحية أخرى بتيار " الاشتراكية الدينية المناضلة " الذى اشتهر به الفيلسوف البروتستنتي العظيم بأول تليس ( 1886- 1965) الذى كان البيت الذى استقر به المعهد يحمل اسمه، والذي انطلق فى كل تجاربه الفلسفية والوجودية العميقة من الإيمان بالطابع الديني الجوهري للحضارة بكل ظواهرها وتجلياتها فى العالم الحاضر على اختلاف أنظمته وحركاته ومشكلاته " إذ من شيء فيه لا يعبر عن الوضع الديني".

هكذا انعكست تأثيرات هذا التراث الممتد فى دراسة الدين والتاريخ الحضاري على تفكير صاحب هذه السيرة وبحوثه، وتجلت فى اهتمامه بحاضر العالم الإسلامى ومستقبله، وحرصه على الرؤية التاريخية الكلية والشاملة لمجالات الحياة بلا استثناء.

والمعرفة الدقيقة بالتراث الديني والعقلي والاجتماعي والظروف التاريخية الكامنة وراء تحولاته الحديثة، مع الأخذ فى الاعتبار قبل كل شيء أن الشرق ليس مجرد موضوع عجيب جذاب، أو عالم مثير للغرابة وحب الاستطلاع، وإنما هو " جزء من عالمنا" وشريك للغرب فى رحلة الفكر والعمل والضمير والتحضر البشرى. ومن ثم جاء العنوان الدال للكتاب الذى نحن بصدده.

والذي يضم الدراسات والمقالات التى سنعرضها على هذه الصفحات وهو " الإسلام شريكا" فدراسة الشرق الإسلامى كشريك للغرب المسيحي تقوم على أساس من الوجود والسؤال والأمل الذى يوحد بينهما وحدة ضرورية: أضف إلى ذلك أن دراسة تاريخ هذا الشرق كطرف أو شريك فى مصير واحد تؤدى حتما إلى المعرفة النقدية بتاريخ الغرب نفسه.

وهكذا أسس فى برلين مركز مرموق لدراسات الشرق الأدنى الحديث مع كل ما يتصل به من علوم التراث والتاريخ والسياسة والاقتصاد فى جامعة برلين الحرة، وساعدت منحة سخية من مؤسسة فولكس فاجن منذ سنة 1976 على مده بالطاقات العلمية والمادية الكافية.

ولقد صمد هذا المركز العلمي وحافظ على هويته ورسالته العلمية والأخلاقية الرفيعة فى وجه رياح التغير العاصفة فى العالم الإسلامى منذ إطلاق صيحة الصحوة السلامية، وقيام الثورة الإسلامية فى إيران ( 1979- 1980) وهبوب أعاصير التطرف مع الحركة المسماة – خطأ وظلما – بالأصولية الإسلامية ، وتزايد أعداد المهاجرين من الدول العربية والإسلامية إلى أوربا الغربية، بحيث أثارت هذه التحولات اهتمام الرأي العام الغربي والعالمي ، وأزاحت إلى الظل معظم الجهود المخلصة التى بذلت فى سبيل الدرس المحايد والمتأني للشرق.

وانبرى شتيبات فى العديد من مقالاته ومحاضراته (ابتداء من محاضرته عن الدور السياسي للإسلام التى ألقاها فى المؤتمر الحادي والعشرين للمستشرقين الألمان الذى عقد فى التاسع والعشرين من شهر مارس سنة 1980 فى برلين) انبرى لمواجهة هذه التحديات، وراح يحذر من التبسيطات السياسية المتسرعة لموضوع " الإسلام" ، ويدعو هذا النص المقتبس من المحاضرة المشار إليها لتوضيح رؤيته السمحة ومنهجه التاريخي والحضاري المتكامل.

" ليس الإسلام هو القوة الأصلية الدافعة للموجات الإسلامية الجديدة التى نلاحظها اليوم فى العالم. لا شك فى أن الديانة المشتركة هى أساس الشعور بالتضامن بين جميع الشعوب الإسلامية.

ولكن الشيء المشترك بين الحركات الإسلامية الراهنة لهذه الشعوب لا يأتي من ديانتها، وإنما يأتي من موقفها التاريخي الذى تشاركها فيه شعوب كثيرة غير إسلامية، وهو موقف الاعتمادية أو التبعية للأمم الصناعية فى الغرب، وبحثها اليائس عن توجه خاص يمكن أن يساعدها على التحرر من تلك التبعية".

وواضح من هذا النص أن نظرته للشرق المسلم كشريك للغرب- تضمهما وحدة الوجود فى هذا العالم ووحدة المصير البشرى- لم تتغير عما كانت عليه، وأن إيمانه بقوة الدين وقدرته على تجميع البشر لم تتأثر بحملات التحيز والتشويه والإساءة للإسلام والمسلمين.

ولعل وقوفه فى صف المسلمين الذين يعيشون فى ألمانيا، ودعوته لقيام تنظيم موحد يجمع شملهم، لعله أن يكون أبلغ دليل على سماحته العلمية والإنسانية التى تجلت فى عدد كبير من دراساته عن الشرق الأدنى، وفى أحكامه المنصفة على بعض ردود الفعل من جانب المسلمين على افتراءات سلمان رشدي فى روايته المريبة " آيات شيطانية" ( ومن هذه الدراسات على سبيل المثال طبيعة الأمل فى نظر المسلم، وصورة الإنسان فى الإسلام أو خليفة الله على الأرض، والأيمان يقدم الأمل فى الخلاص والنجاة، والمناقشات الدائرة فى الكتابات الشعبية السلامية) .

وكلها دراسات تؤكد اهتمامه بالدين بالمعنى الضيق أو بمعناه "الوجودي" ومدى تأثيره وأهميته فى تاريخ الشعوب الإسلامية وأساليب مواجهتها للموت والعدم.

وأخيرا لا ننسى جهوده العملية بين سنتي 1992 و 1993 – أي بعد إتمام الوحدة الألمانية- التى توجت بإنشاء " مركز العلوم الإنسانية المختص بدراسة الشرق الحديث" ( وهو الذى يزهو به اليوم حي نيكولاسيه فى برلين) ، وحققت مساعيه السابقة لتجميع التخصصات العلمية المختلفة لدراسة الشرق دراسة تاريخية ودينية شاملة وقائمة على الأيمان بأن الشرق والإسلام شريكان لا غنى عن معرفتهما لكي يعرف الغرب نفسه وتاريخه، كما سبق القول.

وهكذا أثبت الرجل العظيم – حتى بعد إحالته إلى المعاش فى سنة 1988، وقبل أن يقعده المرض الشديد منذ سنة 1988- كيف يمكن أن يجمع الإنسان بين القدرة العلمية الخارقة والمهارة العملية الفائقة والاهتمام الدافئ الحميم بكل من اتصل به أو عرفه من الزملاء والأصدقاء والتلاميذ.

ولكم يشرفني ويسعدني فى ختام هذا التقديم أن أدلى بشهادتي عنه، بصفتي تلميذا سابقا تعلم على يديه فى القاهرة وبرلين، وصديقا لم ينقطع حتى الوقت الحاضر عن الاتصال به والاطمئنان عليه. هذه الشهادة تقول بكلمات مختصرة يمكن أن يفسدها أي إسهاب أو إطناب:" لم أعرف فى حياتي، ويقينا لن أعرف فى أيامي الباقية، من هو أطيب ولا أنبل منك، أيها الأخ الأكبر والمعلم المثالي الأكمل".

2- ملاحظات عن دور البحث العلمي فى حوار الأديان ( 1996)

ليس من قبيل المبالغة أن أقول إن هذا المعهد كان له تأثير هائل على الدراسات الشرقية، لا فى لبنان والعالم العربي وحدهما، بل كذلك فى ألمانيا ذاتها، لقد قدم تيسيرات فنية عديدة للباحثين الألمان والعرب على السواء .

وإذا كان المستشرقون الألمان يعتزون بتراث طويل وعريق فى دراسة اللغات والحضارات الشرقية، فلابد من القول إن معظم جهودهم قد اتجهت إلى الماضي .

وقد استطاع المعهد الشرقي فى بيروت أن يقدم للمستشرقين الألمان فرصة العمل فى بيئة شرقية، وأن يلفت أنظارهم إلى الشرق الحي، وينبههم إلى أن لغات وحضارات الماضي، كانت وما تزال واقعا ينبض بالحياة ويؤكد تأثيرها المستمر بأشكال وصور مختلفة – على ميادين الفكر والعمل والحياة اليومية والمشكلات والقضايا الملحة فى الوقت الراهن.

وهكذا يمكن القول إن المعهد الشرقي قد ساهم بدور ملحوظ فى الاهتمام المتزايد بدراسة الشرق الحديث من مختلف جوانبه وآفاقه المترامية.

والتوسع فى آفاق البحث والدراسة، لا سيما إذا تطرق لموضوعات معاصرة، لا يمكن أن يخلو من المخاطر والمآزق. والواقع أن حجة العلماء الذين يرفضون التعرض لمثل هذه الموضوعات تتلخص فى الغالب فى أن تناول الشئون المعاصرة يمكن أن يجر الباحث للانزلاق فى السياسة، تلك بالطبع حجة مشروعة.

فالحق أن جهد الباحث العلمي يمكن أن يفقد الكثير من قيمته، إن لم يفقد كل قيمته، إذا رجحت فى ميزان عمله كفة الأغراض السياسية كفة البحث الخالص عن الحقيقة، ولكن لا يمكن من ناحية أخرى أن ننكر أن على ا لعلماء والباحثين- شأنهم فى هذا شأن بقية المواطنين – واجبا يقتضى منهم خدمة الصالح العام من خلال المعرفة التى حصلوها فى تخصصاتهم المختلفة.

صحيح أن البحث عن الحقيقة لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يكون تابعا لأي اهتمام آخر غير البحث عن الحقيقة. أضف إلى هذا أنه لا ينبغي على هؤلاء الباحثين أن يدعوا الصدق المطلق لمعارفهم، وأن عليهم فى هذه الحدود أن يشاركوا بإرادتهم واختيارهم فى تكوين الرأي العام، ومن حسن الحظ أن عددا كبيرا من شباب الباحثين قد بدأوا السير فى هذا الاتجاه.

أود الآن أن أقدم بعض الملاحظات المتصلة بمجال تخصصي فى الدراسات الإسلامية عن قضيتين يدور حولهما النقاش العام بشأن الشرق الأوسط.

وأعتقد أن هاتين القضيتين من الأهمية بحيث ينبغي على الباحثين المتخصصين أن يدلوا فيها بدلوهم:

1- وصف الإسلام بأنه عقبة كبرى أمام السلام العالم فى عصرنا.
2- مشكلة الحوار بين الأديان، وبالأخص بين الإسلام والمسيحية .

ولست أضيف جديدا إذا قلت إننا نلاحظ منذ سنوات قليلة ميلا شديدا ومفاجئا فى الغرب إلى اعتبار الإسلام خطرا يهدد العالم الحر، بل اعتباره مصدر الإزعاج الباقي للسلام على الأرض .

لقد بدأت هذه الظاهرة مع تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار النظم الشيوعية فى أوروبا الشرقية.

وتفسير هذه الظاهرة يفرض نفسه بنفسه، فمن الناس من يشعر ببساطة بالحاجة الدائمة لمواجهة خطر أو عدو يهدده. وإذا كان الخطر الشيوعي قد انحسر ، فإن الإسلام والمد الإسلامى هما البديل المناسب.

ولدى يقين مؤكد بأن الدوافع الكامنة وراء هذا ا لموقف دوافع غير عقلانية.

ولهذا أعتقد أنه لا ينبغي أن نترك هذه الظاهرة بغير تفسير وتعليق دقيق، لا سيما إذا تبنتها جهات محترمة أو ارتفعت بها أصوات مؤثرة.

ولعل أهم المناقشات التى دارت فى هذا السياق على المستوى الأكاديمي قد افتتحتها مقالة نشرت فى مجلة " الشئون الخارجية" الأمريكية فى العام الماضي( 1993) وعنوان هذه المقالة هو " صدام الحضارات" ومؤلفها هو صمويل ب.

هنتنجتون أستاذ علم الحكومات ومدير معهد جون أولين للدراسات الإستراتيجية فى جامعة هارفارد .

ويسعى مؤلف المقال إلى وضع نموذج يساعد على فهم العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة، وذلك على أساس افتراض مؤداه أن " المصدر الرئيسي للصراع فى هذا العالم الجديد لن يكون فى المقام الأول أيديولوجيا ولا اقتصاديا.

وأن التقسيمات الكبرى بين أبناء البشر وكذلك المصادر الأساسية للصراع ستكون كلها حضارية" ( ص 22 من المقال المذكور) ويحدد هنتنجتون سبع أو ثماني حضارات كبرى ستشكل صورة العالم على نطاق واسع.

هذه الحضارات فى رأيه هى الحضارة الغربية، والصينية الكونفوشيوسية واليابانية، والإسلامية ، والهندية ، والسلافية الأرثوذكسية ، والأمريكية – اللاتينية ، وربما أمكن إضافة الحضارة الأفريقية إليها ويذكر صاحب المقال أن " أهم " العوامل التى تميز الحضارات بعضها عن بعض هو عامل "الدين" ( ص 25).

لن أستطيع الدخول فى تفصيلات المناقشات التى أعقبت نشر مقال هنتنجتون، ولا أن ألخص الانتقادات التى وجهت للفرض الذى طرحه.

يكفى القول فى هذا السياق إن هنتنجتون يؤكد نقطة مهمة بتشديده على أهمية تحديد الهوية الذاتية فى توجه البشر ومواقفهم من الحياة، وكذلك على أهمية الحضارة والدين بوصفهما عنصرين أساسيين فى تحديد تلك الهوية.

فلا شك فى أن الناس يشعرون بالحاجة الشديدة إلى الاعتماد على القوى التى لا تأتى من الخارج، وإنما تنبع من داخلهم وتعبر عن شخصيتهم الأصيلة المتفردة، ويستندون فيها إلى " سند من تراثهم الخاص" كما يقول أستاذي فالتر براونه.

وفى تقديري أن هنتنجتون يبالغ مبالغة شديدة فى حديثه عن تأثير هذين العاملين على الممارسة السياسية فى العالم. فمن الصحيح- فيما يتعلق بالإسلام- أن اقتناع المسلمين جميعا بأنهم يكونون جماعة أو " أمة" قد وحد بينهم على الدوام فى الشعور بالتضامن والتكافل .

ولكن من الصحيح أيضا أن العالم الإسلامى الرحب تعيش فيه شعوب وفئات اجتماعية مختلفة المشاعر والمصالح.

وأغلب الظن أن هذه الشعوب والفئات المتعددة ليست على استعداد للتضحية بمصالحها الحيوية فى سبيل وحدة إسلامية أعظم.

وليس هذا من قبيل المصادفة، لأن الدين الإسلامى يتيح للأفراد والجماعات مجالا واسعا واقفا رحبا للتفسير، ولا توجد كذلك فى الإسلام سلطة عليا لتقرير ما هو التفسير الصحيح- فليس فيه " بابا " ولا " دالاى لاما" ، لا مجمع كنسي ولا مجلس مسكوتى، والمؤمنون يتمتعون بحرية واسعة فى هذا الشأن ( أي فى حرية التفسير) ما داموا يسعون بإخلاص وصدق للوصول إلى الحقيقة.

ومن الممكن ، والحال كذلك، أن يتوصل المؤمنون إلى استنتاجات مختلفة عن الموقف الصحيح من قضية معينة، كأن تكون هذه القضية هى قبول أو رفض الحضارة الغربية أو أي حضارة غيرها .

وهنالك من جهة أخرى مشاعر الانتماء والتوحد فى مصير مشترك، وهى مشاعر تتجاوز حدود الجماعة الدينية ولها مع ذلك تأثير قوى لا يستهان به. واضرب لهذا مثلا واحدا من العلاقات القوية والحميمة التى تربط بين المسلمين والمسيحيين العرب- وهو مثل لا يفسح له نموذج هنتنجتون نقاده أن يقدموا نموذجا أفضل من نموذجه.

ويبدو لى أن تقسيم البشر إلى مجتمعات صناعية وأخرى غير صناعية أو فى سبيلها إلى التصنيع- وهو الذى تثار حوله المناقشات تحت شعار" الصراع بين الشمال والجنوب" أو غيره من الشعارات – يمكن أن يفي بهذا الغرض.

مجمل القول أن العيب الذى تؤخذ على حجة هنتنجتون عن الحضارات هو أن هذه الحضارات ليست متجانسة بل ولا محددة تحديدا كافيا للتمييز القاطع بينها.

والظاهر أن استخدام مفهوم الحضارة مع مفهوم الدين الملازم باعتبارهما يمثلان الخط الاساسى للتفرقة بين أطراف الصراع الكبرى فى عالم اليوم- الظاهر أن هذا لن يساعد كثيرا على تفهم هذه الصراعات. وينبغي أن نذكر وجها آخر من وجوه الاعتراض على نموذج هنتنجتون .

فإعطاء الدين هذا الوزن الكبير واعتباره العامل المحدد لتكوين الجماعات يمكن أن يؤدى إلى نتائج بالغة الخطورة، خصوصا أن هنتنجتون ينظر فى الأساس إلى الصراع على أنه يعنى الحرب: " إن خطوط الحدود الخاطئة التى تفصل بين الحضارات ستكون هى خطوط المعارك فى المستقبل ، والحر العالمية القادمة، إذا قامت مثل هذه الحرب، ستكون حربا بين الحضارات، ويبدو له ( أي لهنتنجتون) بوضوح من سيكون هو العدو الأول للغرب فى مثل هذا الصدام بين الحضارات، إنه فى نظره هو الإسلام الذى يملك " حدودا دمويا " بل إنه يرى أن الإسلام والصين الكونفوشيوسية " يشكلان ارتباطا عسكريا لمواجهة القوة العسكرية للغرب( راجع المقال السابق ذكره عن صدام الحضارات ص 22، 34، 35، 47).

أود الآن أن أكرر رأيى فى أن الحضارة والدين، وإن لم يكونا هما العاملين الوحيدين فى تكوين الهوية الجماعية للبشر، فلا شك فى أنهما يقومان بدور مهم فى تكوين الهوية.

ولو سلم الرأي العام فى الغرب " المسيحي" – وفقا لتصور هنتنجتون – بأن الإسلام هو عدوه الطبيعي ، لما استنتج المسلمون من ذلك سوى أن عليهم ألا يتوقعوا من الغرب غير العدوان عليهم.

ذلك على التحديد هو الذى يمكن أن يدفع المسلمين كافة، برف النظر عن الاختلافات القائمة بينهم فى المشاعر والمصالح، إلى اتخاذ موقف عدائي موحد ضد الغرب.

إن هنتنجتون ، حتى ولو أخذ حضارات أخرى فى الاعتبار، إنما يضع فى ا لواقع إطارا نظريا لاستنفار كل من الإسلام والمسيحية تجاه الآخر. وهكذا نجده يتنبأ بنبوءة يتوقع لها أن تتحقق.

ليس من الخطر الشديد فحسب أن نعطى للدين الدور الاساسى فى تحديد تكون الجماعات فى نظام عالمي مهيأ للحرب، إنني مقتنع كذلك بأن هذا ببساطة خطأ فادح فى التفكير .

ولكوى أكون أكثر تحديدا فإنني أقول إنه لا المسيحية ولا الإسلام، بحكم طبيعتهما وماهيتهما ، يريدان الحرب. ونحن نعلم من التاريخ أن كليهما قد استغل فى بعض العهود لتبرير الحرب وتعبئة جماهير المؤمنين بهما للقتال، ولكن لا ينبغي أبدا أن نعتبر أن ذلك كان هو هدفهما الحقيق ، ذلك أن ظاهرة الحرب الدينية يجب دائما أن تفسر فى إطار سياق تاريخي، وقد ذكرت من قبل أن ظهور عداوة عامه من جانب الغرب تجاه الإسلام يمكن كذلك أن يدفع المسلمين من جانبهم إلى اتخاذ موقف عدواني موحد ضد الغرب.

غير أن رد الفعل هذا لن يكون نابعا من نزعة عدوانية أساسية فى داخل الإسلام، بل سيكون نتيجة مترتبة على مجموعة من العوامل التاريخية وعلى الأفعال وردود الأفعال من كلا الطرفين.

إن هنتنجتون يبنى آراءه ، بقصد أو بغير قصد، على افتراض مؤداه أن الأديان يواجه بعضها البعض بطريقة لابد أن تؤدى بالضرورة إلى كل أنواع الصراع، بما فى ذلك الصراعات العنيفة، وأنا فى الحقيقة أرفض هذا الافتراض رفضا تاما: صحيح أن الأديان يمكن أن تقود إلى الصراع ، ولكن حدوث هذا ليس أمرا حتميا، وإذا أردنا للصراع ألا يتفجر ، فينبغي أن نفكر تفكيرا هادئا فى هاتين " الإستراتيجيتين ":

1- تجنب تكوين التكتلات السياسية التى تساعد على تفجر الصراعات المصبوغة باللون الديني.
2- وأن نعمل على زيادة التفاهم وإيجاد الأرض المشتركة بين اتباع الديانات المختلفة بغية التقليل من إمكانات الصراع.وقد سبق أن أبديت بعض الملاحظات عن الإستراتيجية الأولى، أما عن الثانية فأود أن أشير بصددها إلى النشاط الملحوظ فى تبادل المعلومات والخبرات والآراء الذى يطلق عليه فى هذه الأيام اسم حوار الأديان.

ويعد حوار الأديان فى نظر دوائر واسعة من الرؤى العام أمرا جديرا بالثناء، كما أن هناك من يقول إن مساندته " تصرف سياسي سليم".. ولكن هذه المواقف لا ينبغي أن تقودنا إلى ا لظن بأنه ليس فى حاجة إلى التشجيع.

فبينما يحمل مؤيدوه عن طريق الكلام فى أغلب الأحيان أفكارا سطحية عنه، نجد من ناحية أخرى مقاومة رهيبة له.

وهى مقاومة ترتكز على اقتناعات عميقة الجذور فى الوجدان. ونستطيع أن نميز فى أصحاب هذا الفريق بين مجموعتين، إحداهما ترى أن حوار الأديان عمل عقيم، والأخرى تخشى أن يؤدى هذا الحوار إلى تخريب الدين الذى تؤمن به.

ولنبدأ " حوارنا" معهما بالفريق الأول.

يمكننا أن نميز، بين أصحاب الرأي القائل بعقم الحوار بين الأديان ، مجموعتين اثنتين .

فالمجموعة الأولى تزعم أن الدين بما هو دين- شيء لا وزن له، ومن ثم فإن رفض أصحابها للدخول فى حوار الأديان هو نتيجة منطقية لموقفهم الذى لا يمكن قبوله من الناحية التاريخية ولا يستحق مجرد مناقشته.

أما أصحاب المجموعة الثانية فيحترمون الدين، أو على الأقل دينهم، أشد الاحترام، ولكنهم يرفضون الدخول فى حوار مع أصحاب الأديان الأخرى.

وقد قام أحد زملائي المستشرقين منذ وقت قريب بنشر كتاب عن تاريخ العقيدة الإسلامية.

وهو كتاب بالغ الأهمية يصف المؤلف فى مقدمته الحوار بين الأديان بأنه ظاهرة دالة على " روح العصر" .

وإن كان هو نفسه لا يحب أن ينخرط فيها أو يلتزم بها.

وهو يشرح أسباب هذا الموقف الرافض بقوله: إنه لشيء " مرعب" أن يحاول: معلمو الدين " أن يجدوا ، أو يخترعوا ، أقصى ما يمكنهم إيجاده أو اختراعه من سمات مشتركة بين أديان العالم، وذلك رغبة منهم فى إلغاء أسباب التوتر عن طريق الافتعال السطحي للتجانس بينها- ولهذا نجده يقول عن نفسه " إنه يحجم عن التسرع باكتشاف أوجه تناظر أو تشابه بين كل من الإسلام والمسيحية ".

لأن مثل هذه المحاولة تقود، من حيث المبدأ ، إلى الضلال.

يتضح من هذه النصوص المقتبسة أن الآراء التى يعبر عنها أصحاب هذه المجموعة تمتد جذورها فى موقفهم الذى ربما لا ينكر وجود سمات مشتركة بين الأديان، ولكنه يعتبر هذه السمات أقل أهمية بكثير من الخلافات القائمة بينها.

إن من الواضح أن الأديان يختلف بعضها عن بعض من وجوه كثيرة اختلافات مهمة، ولكننا لو أمعنا النظر فيها عن قرب لتأكد لدينا كذلك أنها تتحد فى عدد من السمات المشتركة ذات الأهمية البالغة.

وتصدق هذه الملاحظة على مستوى البشرية بوجه عام، ولكنها تصدق بدرجة أكبر على الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وهى اليهودية والمسيحية والإسلام.

إن الدين يستجيب لحاجة عميقة فى الإنسان. ولو شئنا أن نعبر عن هذا بمصطلحات الفلسفة الوجودية لقلنا إنها هى الحاجة لقوة الوجود التى تهزم اللا- وجود الذى نلقاه ونعانيه فى تجارب الموت، والعذاب، والإخفاق، والظلم، والإثم، وفقدان المعنى. ولو شئنا أن نعبر بلغة بسيطة مألوفة لقلنا إن الدين يستطيع أن يمدنا " بالمعنى الأخير للحياة".. بمصدر وجودنا وغايته، اى بالإجابة عن السؤالين الخالدين: من أين ؟ وإلى أين؟ وهو يستطيع أيضا أن يضمن لنا" قيما عالية ومعايير غير مشروطة.. أي علة مسئوليتنا والهدف منها" .

والأديان " حريصة على سعادة الكانسان" وذلك بتقديم التوجه الديني الاساسى- أي السند ، والعون، والأمل، ومنحنا الكرامة الإنسانية، والحرية الإنسانية، والحقوق الإنسانية... أي الأساس الذى يرتكز عليه العمق النهائي.

والنصوص الأخيرة قد صاغها " هانز كينج" وهو عالم لاهوت كاثوليكي، يؤمن بأن الديانات العالمية تشارك فى المبادئ السابقة، وينطلق من هذا الإيمان لوضع مشروعه العظيم عن " أخلاق كوكبية" يمكن أن يتفق على مبادئها جميع المؤمنين فى جميع الأديان- بل وأصحاب النزعة الإنسانية من غير المتدينين – ويكونوا تحالفا مشتركا لخير البشرية.

ومن فكرة كينج هذه خرج " الإعلان عن الأخلاق العالمية" الذى أقره برلمان الأديان العالمية الذى انعقد فى شيكاغو سنة 1993، وهذا البرلمان ليس مؤسسة رسمية، كما أن أعضاءه لا يمثلون سلطات دينية رسمية. ولكن هذا لا يجرد الإعلان من أهميته، وإنما يؤكد أن أفكار " كينج: تلقى ترحيبا واسما وتقدم إمكانية حقيقية للتفكير بصورة تتفق اتفاقا كاملا مع المبادئ التى تقوم عليها الأديان المختلفة.

ولو رجعنا للحديث عن الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وهى اليهودية والمسيحية والإسلام، لتأكدنا من وجود أرض مشتركة بينها، تقوم على العلاقة التاريخية التى تربط الأديان الثلاثة، وتدعمها حقيقة كونها ديانات تنتسب إلى أبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام، كما تتفق جميعها على الإيمان بعقيدة التوحيد إن المسيحية تعترف بالكتاب المقدس لليهودية، والإسلام يعترف بالكتب المقدسة لليهودية والمسيحية .

وقد قامت على مر التاريخ علاقات وثيقة وعميقة بين المؤمنين بالأديان الثلاثة، أدت إلى مناقشات مستفيضة لأفكارهم وإلى تبادل الخبرات والتجارب بينهم. ولا يعنى هذا عدم وجود اختلافات أساسية كثيرة بين الديانات الإبراهيمية الثلاث، فالمتوقع منهم أيضا أن يبينوا أوجه التشابه والتناظر المشتركة بينها.

والواقع أن الاختلاف والتشابه كثيرا ما يكونان متداخلين . ومسألة العلاقة بين الإنسان والله هى أحد الأمثلة الواضحة على هذا التداخل.

فاليهودية والمسيحية تسلمان بما جاء فى التوراة ( سفر التكوين 1، 26، 27) من أن الله قد خلق الإنسان على صورته ( أي على صورة الله سبحانه).

ومن المستحيل على الإسلام الذى يتحاشى النزعة التشبيهية بالإنسان ( الأنثروبومورفيزم) ويفزع منها، أن يسلم بالعبارة السابقة. ومع ذلك فقد عرف المسلمون العبارة على صورة حديث شريف ورد فيه ما معناه أن الله خلق آدم على صورته.

ولكنهم ( أي المسلمين) فهموا النص بطريقة مختلفة، إذ قالوا إن الله سبحانه قد اختار أن يسوى آدم على إحدى الصور التى فى علمه جل شأنه. وهكذا بقيت الآية الكريمة " ليس كمثله شيء وهو السميع العليم" ( الشورى ، 11) فوق كل نقاش.

هل نستنتج من هذا ، فيما يتصل بالعلاقة بين الله والإنسان، وجود فجوة سحيقة بين الإسلام والديانتين الإبراهيميتين الأخريين؟ ربما يبدو الأمر كذلك. ولكننا لو عرفنا أن خلق الإنسان على صورة الله ، كما يتصوره اليهود والمسيحيون ، لا يمكن أن يفهم منه التشابه فى الشكل، بل يجب أن يفسر بوصفه استعارة تدل على علاقة وثيقة وحميمة هى علاقة القرب من الله فإن المسلمين لن يختلفوا على ذلك.

وآية ذلك أن الإمام الغزالي العظيم يذهب إلى وجود " مناسبة باطنة" بين الإنسان والله، أي علاقة قرب لا يصح أن تختلط مع التشابه فى المنظر أو الشكل. ويذكرنا الغزال فى هذا السياق بوصية الصوفية:" تخلقوا بأخلاق الله" بما يفترض فيمن يأخذ بهذه الوصية الاستعداد والشوق للقرب من الله.

بيد أن أهم استعارة تشير إلى قرب الإنسان من الله تنطوي على فكرة أن الله قد جعل الإنسان خليفته على الأرض .

والجدير بالملاحظة أن هذه الفكرة لا تستند إلى نص حرفي من القرآن الكريم، وإنما تعتمد على تفسير النص.

وقد جاء فى آيات كثيرة أن الله قد جعل البشر خلفاء على الأرض.

وكلمة " الخليفة" تعنى" اللاحق" أو " النائب" . ومن المعروف أنها قد أطلقت على من رأس الجماعة الإسلامية الكبرى بعد انتقال محمد ( عليه الصلاة والسلام) إلى الرفيق الأعلى، وذلك على معنى " خليفة الله" .

وربما وجب فهم الاستخدام القرآني لكلمة " خليفة" بمعنى مشابه: فالله قد جعل آدم أو داود على سبيل المثال، أو غيرهما من البشر، " خلفاء" لأشخاص، أو جماعات، أو أجيال عاشت قبلهم.

ولا يوجد فى القرآن الكريم أي نص يوجب فهم كلمة " الخليفة" بطريقة لا لبس فيها بأنه " نائب" عن الله- إذ إن من الواضح أن الله جل شأنه لا يمكن أن يخلفه أحد أو أن يكون له " خليفة" . ومع ذلك كله فإننا نجد لدى بعض العلماء المسلمين اتجاها واضحا.

تزايد نموه مع الزمن، لتفسير كلمة " الخليفة" كما وردت فى القرآن الكريم بحيث تدل على " نائب الله" فى أرضه، وفى الوقت الذى كانت فيه الكلمة لا تشير فى البداية إلا على " خليفة رسول الله" .

تزايد الميل مع مرور الزمن إلى الاستناد للقرآن الكريم فى تفسيرها بحيث تعنى أن الله سبحانه قد جعل بعض الناس، أو بعض المسلمين ، " خلفاء" أو نوابا له على الأرض.

لا شك فى أن المجال يتسع لفهم وضع" خليفة" أو " نائب" الله على معان مختلفة. وقد تساءلت من قبل عما إذا كانت الكلمة تشير إلى البشر عامة أو إلى المسلمين فحسب.

وأعود إلى الغزالي الذى ذهب إلى أن " المناسبة الباطنة" أو علاقة القرب الحميم- بين الإنسان والله التى تؤهل الإنسان لكي يكون نائبا لله على الأرض تتضمن بوضوح معنى البشر عامة.

وفى العصر الحديث نجد مفكرين مرموقين .

مثل محمد عبده ومحمد إقبال ، يتخذون موقفا مشابها، حين يؤكدون تفوق الإنسان على سائر المخلوقات، غير أننا نجد " أبو الأعلى المودودى " ينسب صفة " نائب الله" لجماعة المسلمين الذين يلتزمون التزاما صارما بشريعة ثابتة لا تترك لهم سوى قدر ضئيل من حرية تشكيل العالم.

كذلك نجد أن أحمد مصطفى المراغى يوجه الأنظار إلى أن إمكان تعيين نائب الله أمر مقصور على فرد واحد أي إلى حاكم معين.

ومن جهة أخرى نرى المفكر التركي " زيا جو كالب" يعلن أن "الشعب" ( أو الناس) هم ممثلو الله على الأرض.

ويذهب " على شريعتي" إلى حد اعتبار أن "الناس" والله فى القرآن الكريم مترادفان، وأنهما مصطلحان يمكن أن يحل أحدهما محل الآخر فى كل ما يتعلق بقضايا المجتمع.

إن عبارة " الحكم لله" تعنى فى رأيه أن الحكم للشعب. كما أن عبارة "الملك لله" ( اى الملك أو الثروة" معناها أنه ملك للشعب.

يتبين لنا الآن أن التفسيرات السابقة تختلف من مفكر إلى آخر حسب مواقفه الدينية والسياسية، وأن الذى يجمع بينهم هو فكرة أن الإنسان يحتل منزلة أسمى بكثير من سائر المخلوقات، وأنه شديد القرب من الله جل شأنه، وحتى إذا كان وصف الإنسان بأنه على صورة الله أو أنه يشبهه لا يزال أمرا غير مقبول لدى المسلمين، فإن صورة الإنسان عندهم لا تبدو مختلفة تمام الاختلاف عن صورته فى اليهودية والمسيحية .

وليس صحيحا، كما ذهب البعض إلى ذلك أحيانا، أن الإسلام يرى أن الله سبحانه بعيد بعدا لا متناهيا عن الإنسان ( لأن ذلك قد نتج عن فهم متطرف لفكرة تعلى الله أو علوه) وليس من الصحيح كذلك أن الإسلام لا يفتح الأبواب واسعة أمام أساليب التفكير ذات النزعة الإنسانية.

وأود الآن أن أقدم مثلا آخر يمكن أن يساعدنا على تبين السمات المشتركة بين الديانات الإبراهيمية الثلاث. ولذلك أطرح هذا السؤال ثم أحاول الإجابة عنه: ما الذى يعطى الإنسان الأمل فى الخلاص أو النجاة؟ ما الذى يحرره من الخطيئة والإثم ومن اللعنة والعذاب الأيدي؟

ربما نتوقع من علم العقيدة الإسلامى- على أساس أن الإسلام دين جاء بشريعة منزلة- أن يعتبر أن أعمال الإنسان هى أهم معيار يحتكم إليه فى تقرير خلاصه أو نجاته، غير أن الحال يختلف عن ذلك، كما بينت فى دائم للتعلم ، أن نستمر فى تغيير أنفسنا على طريقتنا، وأن نسمح لأنفسنا بأن ننصلح من خلال ما نتعلمه من الأديان الأخرى، بحيث لا يؤدى ذلك إلى تدمير إيماننا العريق، بل إلى إثرائه" ( ص 103).

ومن الطبيعي ألا تكون هذه المطالب موجهة إلى المسيحيين وحدهم، فهي توجه بالمثل إلى غير المسيحيين ، ويعلم الأستاذ كينج مدى الاختلاف الشاسع بين موقف المسيحية المتماهية على نطاق واسع مع الغرب المهيمن والعدواني، وبين موقف " عالم ثالث لم ينس على الإطلاق تاريخ الاستعمار وتاريخ حركات التبشير التى امتزجت به.

وإذا توقع البعض أن يتخلى الناس هناك ( أي فى العالم الثالث) عن شيء من معتقداتهم الإيمانية القديمة، فلا شك فى أن ذلك سينظر إليه بحق على أنه تهديد لهويتهم الحضارية والدينية " ( ص 97) .

والمهم فى نهاية التحليل أن كينج، الذى يتكلم كمسيحي، تحركه دوافع مستمدة من ظروفنا التاريخية المعقدة: " فى عصرنا الجديد – عصر ما بعد الكولونيالية ( الاستعمار) وتعدد المراكز، وما بعد الحداثة- حان أوان إقامة الحوار بين المسيحية والأديان العالمية على أساس عريض وعلى نطاق واسع" ( ص 104).

إن حوارا يتم بهذه الروح السمحة يبدو أمرا ممكنا ومفيدا. ومع ذلك فلا يجوز أن نطالبه بما هو فوق طاقته فالصراعات الكبرى فى عصرنا لا ترجع فى الواقع لخلافات دينية ، ولذلك فإن الأديان ستجد نفسها فى موقف يتعذر معه أن تتمكن من حلها بصورة فعالة.

ومع ذلك فإن الحوار بينها يمكن أن يصلح الأجواء ويمهد لإيجاد الحلول وإزالة العقبات.

ولعل أهم نتيجة يمكن أن تتمخض عن مثل هذا الحوار هى فى تقديري أن تتأكد جميع الأطراف المشتركة فيه من أن ألأطراف المتعارضة لا تريد أن تدمرها أو تؤذيها، وأنها لا تهدف إلى الصدام معها، وإنما تسعى إلى تفهم الآخرين والتوصل إلى أسس مشتركة يقوم عليها التعايش البناء والتعاون المثمر ومثل هذا الحوار ينبغي أن يتم على جميع المستويات الممكنة ، كما ينبغي بطبيعة الحال أن يدور بين الممثلين الرسميين للجماعات الدينية المختلفة( ولذلك أعتقد أن الجهود الأخيرة التى بذلت بهذه الروح بين أئمة الجماعات الدينية فى لبنان تستحق الثناء العظيم والمساندة القوية) وينبغي أخيرا على رجال السياسة والاقتصاد أن يضعوا الحوار بين الأديان فى تقديرهم ويجعلوه أحد اهتماماتهم فى أثناء اللقاءات التى تتم بينهم، لا سيما عندما يلتقون لحل المشكلات الدولية، بل ينبغي أن يدور الحوار بين كل شعوب العالم بأسره.

وفى جميع المناسبات الممكنة، فى الزيجات المختلطة والمشروعات الاجتماعية المشتركة، فى الاحتفالات الدينية أو فى المبادرات السياسية . ( ص 138).

وأعتقد أخيرا أن هناك دورا خاصا يقع عبء القيام به على أكتاف الباحثين- ولا يقتصر الأمر فى ذلك على علماء اللاهوت.

بل يشمل المتخصصين فى الأديان المختلفة والمعنيين بالدراسات المقارنة. صحيح أن الأمر يقتضى ، حين تظهر الحاجة إلى الحصول على معلومات دقيقة عن أحد الأديان، أن يتوجه الناس فى المقام الأول إلى أصحاب هذا الدين الذين يمكنهم أن يتحدثوا عنه " من داخله" غير أن الخبراء الذين يتحدثون " من الخارج" لهم كذلك أدوار ووظائف يمكنهم القيام بها.

ومن الطبيعي ألا ننتظر الموضوعية الكاملة من كلا الفريقين، فتفكير الباحثين، شأنهم فى هذا شأن جميع البشر ، يتأثر بالضرورة بالبيئة المحيطة بهم وبمعتقداتهم( التى يمكن أن تكون ديانة أخرى يعتنقونها أو اقتناعا بأن الأديان فى مجموعها لا قيمة لها أو أنها ضارة ومؤذية) ، ولكن إذا كان هؤلاء ا لباحثون على درجة طيبة من الكفاءة، فإنهم سيسعون على الأقل للوصول إلى قدر من الموضوعية، وسيمارسون النقد الذاتي على أفكارهم وآرائهم، وسيكونون قادرين عل التعبير عن معارفهم بلغة بسيطة يمكن أن تفهم بسهولة بدلا من اللغة التقليدية التى يستخدمها أبناء ديانة معينة يتحدثون عنها" من داخلها".

ويستطيع الباحثون فضلا عن ذلك كله أن يستخدموا المناهج المتبعة فى أنظمة معرفية أخرى، وبذلك يتمكنون من وضع كل ظاهرة فى سياقها التاريخي الخاص. ومن تصحيح الطرق غير التاريخية فى ا لنظر والإدراك كما فعل هنتنجتون فى كتابه عن صدام الحضارات.

وأخيرا أذكر بأن ما قلته عن دور الباحثين العلميين يجب ألا يفهم منه أنه يسير فى اتجاه واحد.

فالمستشرقون الغربيون ليسوا هم وحدهم المطالبين بالمساهمة فى حوار الأديان بدراستهم لأديان الشرق وحضاراته ولغاته.

دائم للتعلم ، أن نستمر فى تغيير أنفسنا على طريقتنا، وأن نسمح لأنفسنا بأن ننصلح من خلال ما نتعلمه من الأديان الأخرى، بحيث لا يؤدى ذلك إلى تدمير لإيماننا العريق، بل إلى إثرائه" ( ص 103).

ومن الطبيعي ألا تكون هذه المطالب موجهة إلى المسيحيين وحدهم، فهي توجه بالمثل إلى غير المسيحيين .

ويعلم الأستاذ كينج مدى الاختلاف الشاسع بين موقف المسيحية المتماهية على نطاق واسع مع الغرب المهيمن والعدواني، وبين موقف "عالم ثالث لم ينس على الإطلاق تاريخ الاستعمار وتاريخ حركات التبشير التى امتزجت به.

وإذا توقع البعض أن يتخلى الناس هناك( أي فى العالم الثالث) عن شيء من معتقداتهم الإيمانية القديمة، فلا شك فى أن ذلك سينظر إليه بحق على أنه تهديد لهويتهم الحضارية والدينية "( ص 97).

والمهم فى نهاية التحليل أن كينج، الذى يتكلم كمسيحي ، تحركه دوافع مستمدة من ظروفنا التاريخية المعقدة:" فى عصرنا الجديد- عصر ما بعد الكولونيالية ( الاستعمار) وتعدد المراكز، وما بعد الحداثة- حان أوان إقامة الحوار بين المسيحية والأديان العالمية على أساس عريض وعلى نطاق واسع" ( ص 104).

إن حوارا يتم بهذه الروح السمحة يبد أمرا ممكنا ومفيدا. ومع ذلك فلا يجوز أن نطالبه بما هو فوق طاقته.

فالصراعات الكبرى فى عصرنا لا ترجع فى الواقع لخلافات دينية ، ولذلك فإن الأديان ستجد نفسها فى موقف يتعذر معه أن تتمكن من حلها بصورة فعالة. ومع ذلك فإن الحوار بينها يمكن أن يصلح الأجواء ويمهد لإيجاد الحلول وإزالة العقبات.

ولعل أهم نتيجة يمكن أن تتمخض عن مثل هذا الحوار هى فى تقديري أن تتأكد جميع الأطراف المشتركة فيه من أن الأطراف المتعارضة لا تريد أن تدمرها أو تؤذيها، وأنها لا تهدف غلى الصدام معها، وإنما تسعى إلى تفهم الآخرين والتوصل إلى أسس مشتركة يقوم عليها التعايش البناء والتعاون المثمر.

ومثل هذا الحوار ينبغي أن يتم على جميع المستويات الممكنة، كما ينبغي بطبيعة الحال أن يدور بين الممثلين الرسميين للجماعات الدينية المختلفة( ولذلك أعتقد أن الجهود الأخيرة التى بذلت بهذه الروح بين أئمة الجماعات الدينية فى لبنان تستحق الثناء العظيم والمساندة القوية) وينبغي أخيرا على رجال السياسة والاقتصاد أن يضعوا الحوار بين الأديان فى تقديرهم ويجعلوه أحد اهتماماتهم فى أثناء اللقاءات التى تتم بينهم، لا سيما عندما يلتقون لحل المشكلات الدولية، بل ينبغي أن يدور الحوار بين كل شعوب الديانات المختلفة الذين يلتقون ويتناقشون كل يوم وكل ساعة على مستوى العالم بأسره، وفى جميع المناسبات الممكنة، فى الزيجات المختلطة والمشروعات الاجتماعية المشتركة، فى الاحتفالات الدينية أو فى المبادرات السياسية ( ص 138).

وأعتقد أخيرا أن هناك دورا خاصا يقع عبء القيام به على اكتاف الباحثين- ولا يقتصر الأمر فى ذلك على علماء اللاهوت. بل يشمل المتخصصين فى الأديان المختلفة والمعنيين بالدراسات المقارنة.

صحيح أن الأمر يقتضى ، حين تظهر الحاجة إلى الحصول على معلومات دقيقة عن أحد الأديان، أن يتوجه الناس فى المقام الأول إلى أصحاب هذا الدين الذين يمكنهم أن يتحدثوا عنه" من داخله" .

غير أن الخبراء الذين يتحدثون " من الخارج" لهم كذلك أدوار ووظائف يمكنهم القيام بها.

ومن الطبيعي ألا ننتظر الموضوعية الكاملة من ذلك الفريق، فتفكير الباحثين ، شأنهم فى هذا شأن جميع البشر ، يتأثر بالضرورة بالبيئة المحيطة بهم وبمعتقداتهم( التى يمكن أن تكون ديان أخرى يعتنقونها أو اقتناعا بأن الأديان فى مجموعها لا قيمة لها أو أنها ضارة ومؤذية) ، ولكن إذا كان هؤلاء الباحثون على درجة طيبة من الكفاءة، فإنهم سيسعون على الأقل للوصول إلى قدر من الموضوعية، وسيمارسون النقد الذاتي على أفكارهم وآرائهم.

وسيكونون قادرين على التعبير عن معارفهم بلغة بسيطة يمكن أن تفهم بسهولة بدلا من اللغة التقليدية التى يستخدمها أبناء ديانة معينة يتحدثون عنها" من داخلها"، ويستطيع الباحثون فضلا عن ذلك كله أن يستخدموا المناهج المتبعة فى أنظمة معرفية أخرى، وبذلك يتمكنون من وضع كل ظاهرة فى سياقها التاريخي الخاص، ومن تصحيح الطرق غير التاريخية فى النظر والإدراك كما فعل هنتنجتون فى كتابه عن صدام الحضارات.

وأخيرا أذكر بأن ما قلته عن دور الباحثين العلميين يجب ألا يفهم منه أنه يسير فى اتجاه واحد.

فالمستشرقون الغربيون ليسوا هم وحدهم المطالبين بالمساهمة فى حوار ا لأديان بدراستهم لأديان الشرق وحضاراته ولغاته.

إن الباحثين " الشرقيين" ينبغي عليهم أيضا- بوصفهم مستغربين أو دارسين للغرب- أن يعكفوا على دراسة المسيحية والحضارة الغربية بحيث يمكنهم، من الخارج أن يتعرفوا على مشكلات الغرب ويشاركوا على هذا الأساس بدورهم فى الحوار. والواقع أن هذا التطور قد حدث منذ وقت طويل، والدليل على هذا أن عددا غير قليل من الباحثين العرب قد دبجوا بحوثا قيمة وجديرة بكل التقدير عن التاريخ الأوربي والآداب الغربية... الخ. ومن الواجب أن تجد مثل هذه البحوث الأخيرة المزيد من الالتفات والتشجيع.

وأخيرا فسوف يسعدني كل السعادة أن يجد أعضاء المعهد الشرقي فى بيروت، وأصدقاؤه وضيوفه، فى هذه الملاحظات التى عبرت عنها شيئا يدفعهم إلى البحث والمناقشة- مع أطيب تمنياتي القلبية للمعهد ومشروعاته العلمية المقبلة.

3- عشر قضايا عن الأصولية الإسلامية( 1991)

يلاحظ منذ وقت غير بعيد أن الحركات الأصولية قد استفادت أكثر من غيرها من مناخ الديمقراطية الذى أخذ ينتشر فى بعض البلاد الإسلامية ويقطع خطوات طيبة إلى الأمام.

وهذه الظاهرة تلزمنا بأن نتدبرها ونفكر فى المواقف التى ينبغي علينا أن نتخذها:

1- إن " الأصولية" لا توجد فى الإسلام وحده، وإنما هى موجودة فى غيره من الديانات والأيديولوجيات، وتندرج تحت هذا المصطلح حركات متفرقة تجمع بينها الاتجاهات الثلاثة التالية:

أ‌- الشمولية: وهى مفهوم مأخوذ عن الكاثوليكية ، وتعبر عن وجهة النظر التى تقول بأن جميع الأسئلة التى تطرحها الحياة الخاصة والعامة تتوافر الإجابات عنها فى العقيدة أو بالأحرى فى تعاليم الدين أو الأيديولوجية .
ب‌- النصوصية : أي الرأي القائل بأن النصوص المقدسة ينبغي ألا تمس، وينبغي أن تفهم فهما حرفيا أو لفظيا.
ج‌- الانحياز المطلق: أي رفض اى مناقشة للمبادئ التى يعتنقها الأصولي والتعصب تجاه اى وجهة نظر أخرى مخالفة .

2- إن الإسلام ، كظاهرة تاريخية ، ليس بحكم طبيعته أصوليا على الإطلاق- صحيح أنه ديانة ذات شريعة ويقدم للإنسان التعاليم التى توجه حياته بأكملها، ولكنه كان يضطر على الدوام للدخول فى حوار مع الواقع التاريخي.

ونصوصه المقدسة- وهى القرآن الكريم والسنة المشرفة- قد احتاجت على الدوام إلى ا لتفسير ، ومن أجل ذلك طورت الشريعة الإسلامية عددا من القواعد التى تتسم بمرونة شديدة، وذلك مثل الضرورات تبيح المحظورات، والتعاليم الشرعية تتغير بتغير الزمن، مع التأكيد المستمر بأن الشرع يجب أن يكون فى خدمة المصلحة العامة، إلى جانب صياغة مجموعة كبيرة من "مقاصد الشرع": كحماية الحياة، والعقل ، والذرية ، والملكية. وهكذا سمح الإسلام، فى كل العصور، بالتفكير فى مبادئه تفكيرا عقلانيا مع وضع الواقع دائما موضع الاعتبار.

3- إن الأصولية تنشأ فى وضع تاريخي محدد.

وقد قام الأستاذ مارتن ريزنبروت ، المتخصص فى علم الاجتماع الديني، ببحث مقارن بين الأصولية المسيحية والأصولية الإسلامية ، توصل منه إلى هذه النتيجة: " إن الفكر الأصولي يعبر عن تجربة عميقة بالأزمة ، وهو يرى أن سبب الأزمة التى يمر بها المجتمع هو الانحراف عن المبادئ الخالدة التى نزل بها الوحي الالهى ودونت فى الكتب المقدسة وتحققت بالفعل فى جماعة مثالية، والطريق الوحيد للخلاص من الأزمة الراهنة هو الرجوع إلى هذه المبادئ والتعاليم الإلهية" ، لا شك أن ما جاء فى العبارات السابقة ينطبق تماما على الأصولية الإسلامية.

4- لم تكن ردود فعل المجتمعات الإسلامية فى العصر الحديث على تفوق الغرب وأطماعه التسلطية، فى كل الأحوال، ردود فعل ذات طابع أصولي، فقد بذلت معظم المجتمعات الإسلامية جهودا متصلة لمواجهة هذه التحديات ، وما زالت تبذل مثل هذه الجهود، ولم تبدأ الجماعات الأصولية فى القيام بدور مؤثر إلا فى القرن العشرين، كما لم تظهر على الساحة ظهورا بارزا إلا منذ منتصف القرن العشرين، ويترتب على ذلك ضرورة البحث عن أسباب الأزمة التى يشعر بها المسلمون الآن شعورا واعيا.

5- إن الشعور الحالي بالأزمة عند المسلمين قد نجم عن مجموعة الاحباطات التى فجرته وغذته، وسوف نجعلها فى العناصر التالية:

أ‌- محاولات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التى بقيت حتى الآن قاصرة وعاجزة.
فقد ظهر أن الاندماج فى السوق العالمية لم يجلب معه غير الإضرار بالسوق المحلية، والاقتصاد القومي لم يستطع أن يتغلب على حالة التخلف ، والإنتاج القومي لا ينمو نموا كافيا ولا يوزع توزيعا عادلا، والشباب يكاد لا يرى فى الأفق أي أمل فى حياة طيبة ووجود جدير بكرامة الإنسان.
ب‌- السخط على ا لحكومات المسئولة عن تعثر مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعن حرمان الشعب من المشاركة فى القرارات السياسية المهمة. وفى تبادل السلطة أو السماح له بذلك فى أضيق الحدود.
ولابد أن نقرر ، بغير الدخول فى موضوع التقاليد الديمقراطية وتاريخها فى البلاد الإسلامية ، أن الشعوب فى هذه البلاد تشعر اليوم بأن الخضوع لهذه الحكومات الفاشلة يمثل عبئا ثقيلا عليها، وأنها لا تكف عن التطلع إلى المشاركة فى تحديد مصيرها.
ج‌- النظام العالمي الظالم: لقد روجت القوى الغربية التى تهيمن على العالم لعدد من القيم والمثل العليا، مثل حق الشعوب فى تقرير مصيرها، والشرعية التى يقوم على أساسها النظام العالمي الجديد، غير أن الواقع يدل على أن هذه القوى لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها الأنانية، وأنها تلجأ عند تطبيق هذه المثل إلى معايير مزدوجة تضر بمصالح الشعوب الإسلامية والعربية، والدليل الواضح على ذلك هو موقفها من مشكلة الصراع فى الشرق الأدنى، أو مشكلة الصراع بين ا لعرب وإسرائيل، ولو أمكن التوصل إلى حل لهذا الصراع لكان ذلك الحل بداية تحول نفسي عام.
ولا مراء فى أن المآسي التى عاناها مسلمو البوسنة تقدم دليلا جديدا على أن العالم يعامل المعتنقين للإسلام معاملة ظالمة.

6- إن عناصر الإحباط الثلاثة السابقة ليس لها أدنى علاقة مباشرة بالدين، فجو اليأس والقنوط الذى تخلفه يؤثر فى المسيحيين العرب تأثيره فى المسلمين سواء بسواء.

ولكن من الطبيعي أن يعبر المسلمون عن ردود أفعالهم من خلال المفاهيم المألوفة لديهم والمستمدة من ديانتهم.

7- لا يمكن الحديث عن حركة متجانسة للأصولية الإسلامية .

فالواقع أن هناك اتجاهات وتنظيمات عديدة تكمن وراءها دوافع مختلفة بحيث نستطيع أن نميز بينها ثلاثة اتجاهات رئيسية:

أ- فالمتطرفون بشكل مطلق يطالبون بنظام إسلامي لإنقاذ العالم .
وهم يرفعون شعار التكفير والهجرة ليعلنوا أن المخالفين لهم فى الرأي ملحدون، وجميع الدول الراهنة فى رأيهم " كافرة" لأنها جميعا لا تطبق شرع الله، وينبغي، فى نظرهم، على جميع المؤمنين أن يوحدوا صفوفهم فى جماعة نشطة ويقضوا على الكفر عن طريق " الجهاد" أو الحرب المقدسة.
وقد قامت هذه الجماعة سنة 1981 باغتيال الرئيس المصري أنور السادات.
والواقع أن هذا الاتجاه المتطرف ليس له أنصار كثيرون، كما أن الآراء ووجهات النظر التى يتبناها مرفوضة من جانب عدد كبير من المسلمين ذوى التفكير الأصولي، ومع ذلك فإن جرأتهم وصراحتهم تضمنان لهم قدرا من الاهتمام والتأثير الذى يتخطى الدائرة المحدودة لأعضائهم العاملين.
ب-والاتجاه الثاني يمثله المطالبون بتطبيق الشريعة الإسلامية، فهذا هو الاسم المشترك الذى يطلق على عدد كبير من جماعات الأصوليين وأنصارهم الذين لا يرتبطون فى الحقيقة بأيديولوجية واضحة وموحدة، إن الشريعة ، فى نظرهم هى التى توفر للمؤمنين نظاما ثابتا ومحددا يهديهم إلى الحق فى مواجهة المشكلات الحاضرة، لأنها نظام نابع من مصادر إلهية ، ولا يشغل أصحاب هذا الاتجاه أنفسهم كثيرا بأن النصوص المقدسة كانت تحتاج دائما إلى التفسير، كما أنهم يرفضون المناقشات المتحذلقة للفقهاء المتقدمين، ومع لك فقد تشتعل المجادلات العنيفة فى بعض الأحيان حول ماهية الحل الإسلامى الصحيح.
ويتفق جمهور الأصوليين فى إحساسهم المشترك بأن الإسلام مهدد من الأعداء الذين يريدون القضاء عليه. ومن هؤلاء الأعداء اليهود والمسيحيون ( على الرغم من أن هؤلاء من أهل الكتاب ومن ثم فهم قريبون من الإسلام بحكم انتمائهم لديانة سماوية منزلة) ومنهم كذلك الشيوعيون ، وأحيانا الرأسماليون ، والعلمانيون ، بل إنهم يضمون الوطنيين أيضا فى صفوف الأعداء.
ج- أما الاتجاه الأصولي الثالث، فيمثله أولئك الذين يمكن تسميتهم بالباحثين عن الهوية .
وهم لا يعتبرون مخالفيهم فى الرأي من الأعداء لمجرد أنهم قد تنكبوا طريق الله، بل لأنه يطالبون بالتبعية العقلية الحضارية للغرب.
وفى غمرة الشعور القاهر بضرورة التكيف مع نظام عالمي تهيمن عليه المجتمعات الصناعية الحديثة الغريبة عنهم، نجدهم يحسون بالحاجة الشديدة إلى نظام خاص بهم.
يميزهم عن كل ما هو أجنبي، ويمدهم بالقدرة على تأكيد ذواتهم، وتشتد هذه الحاجة ويزداد هذا الإحساس لدى المسلمين الذين تضطرهم ظروف حياتهم للحياة بعيدا عن أوطانهم ووسط مجتمعات أجنبية، ولهذا ليس من المستغرب أن ينضم الكثيرون من هؤلاء المسلمين إلى صفوف الحركات الأصولية.

8- إن الإسلام لا يمثل أي تهديد للعالم، بل العكس من ذلك هو الصحيح: فالكثير من المسلمين يشعرون فى عالمنا الحاضر بأنهم مهددون .

ربما يتسبب هذا الشعور فى ظهور بعض الاتجاهات اللاعقلية أو التصرفات العدوانية، ولكننا إذا اعتبرنا أن الأصولية الإسلامية هى رد فعل لموقف تاريخي محدد ، فلا يجوز أن نتوقع لها أن تفقد أهميتها وتأثيرها قبل أن يتغير الموقف تغيرا جذريا.

9- إذا انسقنا تحت تأثير ظواهر الأصولية الإسلامية إلى رسم صورة الإسلام كعدو لنا: فسوف تترتب على ذلك ثلاث نتائج وخيمة العواقب:

أ‌- إن هذه الصورة ستحول بيننا وبين البحث فى الأسباب التى أدت إلى الأصولية الإسلامية وتدبر الوسائل التى تساعدنا على استبعاد هذه الأسباب.
ب‌- وإذا روجنا هذه الصورة عن الإسلام كعدو فسوف يؤكد ذلك شعور المسلمين بأنهم محاطون بقوى معدية تتربص بالإسلام وتسعى للقضاء عليه، إننا بذلك ندفع المسلمين دفعا إلى الأصولية.
ج‌- إن تصوير الإسلام فى صورة العدو سيكون بطبيعة الحال أشبه بصب مياه جديدة فى طواحين العداء للأجانب الذى تقاسى منه مجتمعاتنا .

10- إن أهم شيء يجب علينا أن نراعيه فى تعاملنا مع الأصوليين الإسلاميين هو أن نتفهم الدوافع التى تحركهم تفهما عميقا، وأن نبين للمسلمين بوجه عام أننا نريد أن نفهمهم، لا أن نحاربهم.

4- العلمانيون والإسلاميون ..محاولة مصرية لتصنيفهم ( 1991)

الأصولية، التكاملية أو الشمولية ، الصحوة الإسلامية، البعث أو الإحياء الإسلامى... كثيرة هى المصطلحات التى تطلق على الحركات التى ظهرت فى العقود الأخيرة وأخذت تؤكد دور الإسلام وأهميته المتزايدة فى التوجيه الروحي والعقلي للبشر، ولكن تعدد المصطلحات والأوصاف يوحى بقدر غير قليل من الاضطراب فى ا لتعريف، بالإضافة إلى قدر أكبر من الغموض الذى يصعب معه أن نتبين حقيقة الأمر فى هذه الحركات، وهل نحن بصدد ظاهرة موحدة أم نواجه فى الواقع حركات مختلفة ومتفرقة.

لهذا تستحق محاولة تصنيف هذه الحركات التنويه والإشادة بها، لا سيما حين تجيء بقلم كاتب إسلامي معروف، ومفكر غير نمطي ولا تقليدي.

ويتعلق الأمر فى الحقيقة بمقال نشره محمد عمارة تحت عنوان " الحوار بين العلمانيين والإسلاميين " فى عدد شهر سبتمبر سنة 1990 من مجلة الهلال الشهرية المعروفة التى تصدر بالقاهرة ( من صفحة 94 إلى صفحة 105) ، وقد أسس هذه المجلة الأديب المسيحي جورجي زيدان فى سنة 1892 ، ويمكن القول بوجه عام إنها تتبع منذ بداية ظهورها قبل قرن من الزمان اتجاها تنويريا متميزا.

والرئيس الحالي لدار الهلال، وهو مكرم محمد أحمد . هو كذلك رئيس تحرير مجلة المصور، وقد توجهت إليه الأنظار وتحدثت عنه الصحف ووكالات الأنباء عندما تعرض فى سنة 1987 لحادث اعتداء فاشل على حياته من أحد الإسلاميين.

وقد نشر المقال المذكور فى " الهلال" فى باب دائرة الحوار" وربما يوحى هذا بأن المجلة لا توافق على مضمونه تمام الموافقة.

قلنا إن محمد عمارة كاتب إسلامي مرموق، ولد سنة 1931 فى إحدى القرى المصرية، ولم يدخل المدارس الحكومية بل التحق بكتاب لتحفيظ القرآن الكريم ، ثم واصل دراسته فى المدارس الأزهرية وتخرج من دار العلوم التى أصبحت إحدى كليات جامعة القاهرة منذ عام [[1946]].

كان عمارة فى سنوات الطلب قريبا من الاتجاهات اليسارية، ثم اشتهر بعد ذلك بعد كبير من مؤلفاته فى الفلسفة الإسلامية- لا سيما عن المعتزلة وابن رشد- من ناحية، ولابد هنا من الإشادة بفضله فى نشر مجموعة كبيرة من الأعمال الكاملة لعدد من رواد التنوير مثل رفاعة رافع الطهطاوي وعلى مبارك وجمال الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وعبد الرحمن الكواكبي.

يلاحظ من عنوان المقال نفسه أن المؤلف يضع الإسلاميين فى مقابل العلمانيين .

وهو يشير فى البداية إلى أن مصطلح " الإسلاميين " مصطلح قديم الاستخدام فى الفكر الإسلامى، وقد ورد فى عنوان الكتاب الشهير لأبى الحسن الأشعري" مقالات الإسلاميين " ، وفى كتاب آخر، بالعنوان نفسه. لواحد من أئمة المعتزلة وهو أبو القاسم البلخى، وكلاهما يتحدث عن الفرق الإسلامية والجماعات التى تمثل تيار الفكر الإسلامى، ويتبنى المؤلف المعنى المحدد لهذا المصطلح الذى شاع، ويشيع، استخدامه فى الأدبيات الحديثة عنونا على طلائع وتنظيمات ومؤسسات وعلماء ومفكري الصحوة الإسلامية، أولئك الذين يجتهدون ويجاهدون على مختلف جبهات الاجتهاد فى سبيل " إعادة الصبغة الإسلامية والمعايير الإسلامية لتحكم تصورات الفكر وحركة الواقع فى حياة المسلمين" ( ص 95).

ومن جهة أخرى يعرف عمارة مصطلح" العلمانيين" فى نشأته الغربية بأنه عنى ، ويعنى ، أولئك الذين رفضوا تدخل الكنيسة ، أو سيطرتها، فى شئون الدولة ، وجعلوا ويجعلون " العالم والواقع والدنيا" المنطلق الوحيد والمصدر الأوحد للفكر والممارسات الدنيوية ( ص 95) ، ومعنى هذا بوضوح أنه – كما يدل التاريخ اللفظي للمصطلح المسيحي العربي" علماني" – لا يقصد به بالضبط أولئك الذين ليسوا خبراء مختصين فى شئون الدين.

وإنما يقصد به " العلمانيون" بالمعنى الواسع لهذه الكلمة. يضع عمارة نفسه فى صفوف " الإسلاميين " ( ص 96) ولكنه يعبر عن إيمانه بأن التناقض الرئيسي والحاد والملح فى ظروف الصراع، الذى تعيشه أمتنا ( هكذا بغير تحديد دقيق) ، ليس هو التناقض بين الإسلاميين والعلمانيين من أبنائها، وإنما ه الصراع بين الأمة، بتياراتها المختلفة والمتعددة من جهة ، وبين الهيمنة الغربية بصورها المتعددة: الحضارية ، والسياسية ، والاقتصادية ، والعسكرية... الخ، من جهة أخرى .

والواقع إن الهدف الحقيقي الذى يسعى عمارة إلى تحقيقه هو " وضع مشروع حضاري لاستقلال الأمة ونهضتها، وهو هدف لابد أن يخدمه الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين .

وهو يلجأ – فى سبيل إنجاز هذا الحوار – إلى إقامة تفرقة دقيقة بين الشرائح أو الفصائل المختلفة داخل التيارين الأساسيين .

ولهذا نجده يميز داخل العلمانيين بين ثلاث جماعات :

أ‌- العلمانيون الثوريون: وهم لا يقفون عند حدود المطالبة بالفصل بين الدين والدولة، وإنما يريدون – على أساس فلسفة مادية ذات نزعة إلحادية – اقتلاع الدين والتدين من المجتمع بأسره. ومعنى هذا أن الخلاف بينهم وبين الإسلاميين هو خلاف فى " الأصول" وليس فى " الفروع" ، ويترتب على هذا أن هذه الشريحة من شرائح العلمانيين يمكن أن تكون طرفا فى عمل مشترك حول نقاط متفق عليها فى برامج تطبيقية، ولكنها غير مؤهلة على الإطلاق لأن تكون طرفا فى حوار فكرى مع الإسلاميين حول معالم المشروع الحضاري الذى سبق ذكره.
ب‌- الداعون بوعي لتبعيتنا للغرب: وهؤلاء قد يدعون إلى الاستقلال السياسي أو إلى قدر من الاستقلال الاقتصادي، لكنهم يعادون " الاستقلال الحضاري" أي استقلال الهوية المتميزة عن هوية الغرب ، بل إن الاستقلال الذى يدعون إليه هو فى حقيقته استقلال " الوطن – الإقليم" عن ماضيه وتراثه ومكوناته الإسلامية ومحيطه الإسلامى، وذلك لإلحاقه بدلا من ذلك " بالمركز الحضاري الغربي" .
هؤلاء " عملاء" لحضارة الغرب، وهم فى الأساس من غير المسلمين ، ويكنون العداء للإسلام ولرابطة الجامعة الإسلامية.
ويذكر عمارة كمثال لهم الجنرال يعقوب الذى قاد فرقة من الأقباط فى خدمة نابليون والحملة الفرنسية على مصر، وكذلك بعض المثقفين الموارنة. والمهم أن هذه الشريحة من شرائح العلمانيين غير مؤهلة أيضا لأن تكون طرفا فى الحوار.
ج- دعاة فصل الدين عن الدولة من العلمانيين الوطنيين والقوميين : وهذا الفصيل من فصائل العلمانيين هم ، فى جملتهم، مسامون يتدينون بعقائد الإسلام، وهم عندما يدعون إلى الفصل بين الدولة والدين إنما يختلفون عن الإسلاميين فى " الفروع" لا فى " ألصول" ، وهم لا يجحدون الشريعة ولا يدخلون فى إطار الكافرين، إنهم ينطلقون من الاعتقاد- الذى كونه لديهم الفكر الغربي- بأن نهضة الأمة لا تتم إلا على النحو العلماني الذى تمت عليه حضارة الغرب.
ويفسر عمارة موقفهم بأن " الخيار الحضاري الغربي" بتقدمه العلمي وازدهاره الفكري والأدبي والفني هو فى الواقع أكثر جاذبية وادعى للانبهار به من الخيار الحضاري فى صورته المملوكية- العثمانية، وهو الذى حسبوه الخيار الإسلامى الوحيد. ومع ذلك فهناك عدد متنام من أعلام المفكرين والعلماء فى هذا التيار الذين انتقد بعضهم موقف الانبهار بالغرب وعادوا إلى تبنى الخيار الإسلامى مثل محمد حسين هيكل ومنصور فهمي.
وينبغي على الإسلاميين أن يدخلوا فى حوار مع هذه الشريحة من العلمانيين الوطنيين والقوميين لا مع " العائدين" وحدهم.

ويقسم عمارة التيار الإسلامى على الجانب المقابل إلى أربع مجموعات:

أ‌- النصوصيون : هنا يبدو أن استخدام مصطلح " ألأصوليين" أمر ممكن ومشروع، لأن صاحب المقال يعرفهم بأنهم لا يرون أبعد من ظواهر النصوص وحرفيتها، كما أنهم يتعاملون مع " التراث" بالقدسية التى يتعاملون بها مع الوحي الالهى المنزل والسنة النبوية الثابتة، إنهم فى رأيه يعيشون فى الماضي أكثر مما يعيشون فى العصر، ويهملون نعمة العقل أو يغضون من شأنها.
ولما كانوا لا يعترفون بالآخر حتى من الإسلاميين ، فلا سبيل إلى حسابهم كطرف من أطراف الحوار.
ب‌- فصيل الغلو: وهم الذين علا صوتهم بحركة الصحوة الإسلامية، ورفعوا شعارات من مثل " التكفير " و" الجاهلية" وحكموا بهما على الأمة الإسلامية أو على دولها ونظمها ومجتمعاتها، ويفسر عمارة اتجاه هذا الفصيل بأنه يمثل رد الفعل المغالى والغاضب على تيار التغريب، ويرى أنه عاجز عن تقديم البديل العملي للنموذج الغربي، وعن صياغة المعالم الحقيقية لخلاص الأمة من المأزق الذى يأخذ منها بالخناق.
والواقع أن هذا الفصيل الذى لا يعترف " بالآخر" حتى من فصائل الإسلاميين ، لا يصلح بسبب غلوه وغضبه ، للدخول فى الحوار.
ج- الحركات الإسلامية الكبرى: يرى عبارة أن هذه الحركات- فى أغلبها- حركات اعتدال تقترب فى أغلب مواقفها من موقع "الوسطية الإسلامية" التى تمثل منهج الإسلام وحقيقته الجوهرية _( مصداقا للآية الكريمة من سورة البقرة:" وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " الآية 2، 143) وهو يعترف بوجود مفكرين لامعين ومتميزين فى بعض هذه الحركات هم فى طليعة علماء المسلمين المؤهلين لتمثيل الطرف الإسلامى فى هذا الحوار المرجو. ولكن الالتزام التنظيمي أو الحزبي لأعضاء هذه الحركات الإسلامية فى يمثل عائقا دون توافر المرونة اللازمة على الأقل للمراحل الأولى فى الحوار، كما أن " الثارات السياسية" – بين عدد من هذه الحركات وكثير من العلمانيين – سوف تسمم جو الحوار.
ولهذا لا يحبذ مؤلف المقال- على الأقل فى المراحل الأولى- أن يترك لممثلي هذه الحركات إدارة الحوار.
د- فصيل الاجتهاد والتجديد لحضارة الإسلام: وهو الفصيل الذى تشهد عبارات المؤلف عنه شهادة واضحة بأنه ينتمي إليه، كما يرى أنه أكثر فصائل الصحوة الإسلامية قدرة وصلاحية ليكون الداعي والبادئ لهذا الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين .
وإذا كان هذا الفصيل لم يتبلور بعد، كتيار واحد أو متحد، فقد استطاع – من خلال نشر الكثير من الأعمال الجادة والمتميزة فى العقود الأخيرة – أن يثبت إبداعه واجتهاده وتجديده فى ميدان الفكر الإسلامى، وأن يبدأ محاولة صياغة الإسلام نموذجا وخيارا حضاريا بديلا للنموذج الغربي.

لا شك فى أن الاقتراح الذى يقدمه محمد عمارة لإقامة حوار بين الإسلاميين والعلمانيين هو اقتراح جاد غاية الجد وليس مجرد تمرين بلاغي أو خطابي.

ومن الواضح أيضا أنه يرسم الحدود التى ينبغي أن يتم الحوار فى إطارها بحيث لا يتجاوزها فيفقد معناه.

واحد هذه الحدود- وهذا أمر غير مستغرب- يمثل موقف الفصيل أو الجماعة التى يطلق على أعضائها اسم العلمانيين الثوريين وهو اقتلاع الدين والتدين من المجتمع وتبدو القضية أكثر إشكالية عندما يرفض الحوار مع دعاة التبعية للغرب، لأنه يضع أعضاء هذه الجماعة فى صفوف غير المسلمين بل ويسوى بينهم وبين أعداء الإسلام.

والواقع أن تبادل الخبرات مع غير المسلمين ، الذين يواجهون كذلك مشكلة العلمانية والعلمنة. يمكن أن يكون أمرا مفيدا على الرغم من اختلاف المنطلقات عند طرفي الحوار.

أما بالنسبة للمسيحيين من أهل البلاد فإن الحدود التى يضعها يمكن أن تؤدى إلى استبعادهم من الجماعة أو إلى اختزال وجودهم وحصره فى نطاق الأقلية التابعة.

وربما يؤكد هذا أن هدف التصور الإسلامى عند عمارة يهدف فى الأساس إلى تحقيق الاستقلال الحضاري والازدهار والنهضة " للأمة" وذلك دون تحديد نوعى دقيق لمعنى هذه الكلمة التى يتكرر استخدامها فى ا لمقال، أي بدون توضيح كاف لما يقصده منها، وهل يريد بها " الجماعة الإسلامية" أم " الأمة العربية" أم " الأمة المصرية" .

مهما يكن الأمر فإن عمارة لا يتحدث عن إصلاح ديني " للأمة" وإنما يتحدث بصراحة وبصورة متكررة عن " مشروع حضاري" يحقق استقلال الأمة وازدهارها ويضمن حماية هويتها.

وهو يقول صراحة إن شروط هذه النهضة وعلومها وموادها" ليست كلها دينا خالص" ، وإن الإسلاميين الذين تعد علوم الشريعة هى " أغلب بضاعة أغلبيتهم" لا يملكون وحدهم كل حقائقه ( أي حقائق المشروع الحضاري الكبير) وعلومه وفنونه وخبراته ومهاراته ( ص 82) ويترتب على هذا ألا يقتصر الأمر على قبول العلمانيين الوطنيين كأطراف مشاركين فى الحوار، لأنهم لم يغادروا أرض الإسلام على الرغم من تصورهم الدنيوي للدولة، بل إنهم – بوصفهم علمانيين – سيشاركون فى الحوار ويساهمون فى العمل المشترك فى المشروع الحضاري للأمة ، والواقع أن هذا يبدو نوعا من " الاجتهاد" الذى ييسر قيام الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين بشكل بناء.

يضاف إلى ما سبق أن تقسيم المعسكر أو الجناح الإسلامى إلى فصائل وجماعات مختلفة يمكن من ناحية أخرى أن يكتسب أهمية خاصة.

فالأصوليون " النصوصيون" وكذلك المتطرفون من " فصيل الغلو" لا يمكنهم فى رأى عمارة أن يساهموا بشيء فى المشروع الحضاري، لأن استنكارهم ورفضهم لأي وجهة نظر مخالفة لوجهة نظرهم تجعلهم غير جديرين ولا صالحين للدخول فى الحوار، ويعنى هذا ضمنا أن جماعة الاجتهاد وتجديد حضارة الإسلام التى ينتمي إليها عمارة تعتبر أن مواقف العلمانيين الوطنيين قابلة للنقاش، وأن العمل المشترك معهم أمر نافع ومفيد.

والنصيحة التى يقدمها عمارة بألا يترك للإسلاميين الملتزمين تنظيميا أو حزبيا أي دور رئيس فى الحوار مع العلمانيين ( وهو اقتراح ربما يقصد به الإخوان المسلمون فى مصر) تعتبر فى الحقيقة نصيحة يمررها العقل العملي.

ولا شك فى أن التصنيف الذى قام به محمد عمارة للعلمانيين والإسلاميين يمكن أن يكون أكثر دقة ورهافة مما هو عليه، كما أن تطبيق معايير أخرى للتقسيم يمكن أن تكون له فائدته. ولكن يبدو من الجدير بالملاحظة أن يجد كاتب، يصف نفسه بأنه إسلامي، أن هذا التقسيم أمر ضروري ، كذلك يلفت النظر أن تصوره للنزعة الإسلامية لا يضفى أهمية كبرى على فكرة تطبيق الشرع التى كثيرا ما تبرز إلى المقدمة ويلح عليها معظم الإسلاميين ، بل يعلن أن هدفه الاساسى هو تأكيد المجتمع لذاته والحفاظ على هويته الحضارية.

من الطبيعي ألا تعبر وجهة النظر هذه عن موقف جميع الاتجاهات الإسلامية. ولكنها توضح على كل حال مدى اتساع مجال العمل أمام الحركات الإسلامية . والواقع أن المناقشات الدائرة فى الوقت الحاضر بين المسلمين عن الدور المنوط بدينهم فى العالم المعاصر تتم بصور أكثر دقة وعقلانية مما تتصور وسائل الإعلام وخبراؤه الذين يتعرضون للكلام عنها.

وتشير الشواهد العديدة إلى أن الحركات الإسلامية تكتسب شعبية متزايدة فى تلك البلاد الإسلامية التى يسودها جو ديمقراطي يسمح كثيرا أو قليلا بحرية التعبير.

وإزاء هذه الحقيقة الواقعة فإن المتأمل من الخارج لما يجرى فى بلاد المسلمين يحسن صنعا بتجنب التعميمات السطحية المتسرعة التى تصور الإسلام فى صورة العدو. وتقدير الاختلافات فى وجهات النظر وفى الدوافع والمصالح التى تكمن وراء الحركات الإسلامية والنظر إليها بعين الاعتبار.

5- " الإيمان يعطى الأمل فى النجاة" ( مناقشات معاصرة فى الكتابات الإسلامية الواسعة الانتشار)( 1989)

هناك أعداد هائلة من الكتب، والكتيبات، والدوريات التى تقدم لجمهور القراء فى البلاد الإسلامية وتنتشر بكثرة فى المكتبات وعلى منصات بيع الصحف والمجلات، وكلها تتناول موضوعات دينية بأسلوب شعبي مبسط.

وقد وضع معظم هذه المطبوعات لتعريف المؤمنين بأمور دينهم، كما كتب بعضها للدفاع عن العقيدة أو للبحث فى موضوعات يمكن للقارئ غير المسلم- الذى تعود أن يفصل الدين عن السياسة- أن يعتبرها من الكتب السياسية، ولكن هناك أيضا عددا لا يستهان به من الكتب التى تعالج موضوعات دينية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، أي القضايا الكبرى المتعلقة بعلاقة الإنسان بالله.

وإحدى هذه القضايا يمكن صياغتها فى هذا السؤال المهم: ما الذى ينقذ الإنسان من العذاب المقيم فى النار ويؤدى به إلى الجنة والنعيم الأبدي؟ أو بصيغة أخرى مجردة لمفكر مسيحي معاصر: ما الذى يجلب الخلاص من السلب المطلق، من فقدان الغاية الباطنة من وجود الإنسان، وما الذى يحقق الهدف النهائي الأسمى للحياة الخالدة؟ ويعبر الكتاب الإسلاميون الواسعة الانتشار عن هذا بكلمات بسيطة وبليغة حين يسألون:

ما الذى يعطى الأمل، بل ربما اليقين، فى أن الإنسان سيصبر فى النهاية لا إلى الخلود فى النار ، بل إلى جنة الخلد؟

إن القرآن الكريم يكرر على الدوام وعد الله بالجنة لأولئك " الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ومعنى هذا أن إجابة السؤال السابق تعتمد على الإيمان والعمل معا. ولكن هل الواحد منهما يعادل الآخر فى أهميته؟ وما هو الإيمان على وجه التحديد؟ وما هو مبلغ اليقين فى وعد الله بالجنة إذا كان لا يجوز عليه سبحانه أن يتقيد بأي وعد، لأنه جل شأنه " يهدى من يشاء ويضل من يشاء"؟

لقد بدأت المناقشات الحامية لهذه المشكلة فى فترة مبكرة من التاريخ الإسلامى. وتنوعت تعاليم المدارس والفرق الشرعية والكلامية المختلفة بطرق وأساليب مركبة تمخضت عن صيغ شديدة التعقيد. ونحن نشعر من كتابات المحدثين بأنهم يكرهون تلك المجادلات المدرسية القديمة ويحذرون من تكرارها .

ويشارك فى هذا الموقف كتاب إسلاميون ينتمون إلى معسكرات أخرى مختلفة . فها هو ذا الشيخ محمد الغزالي- الذى يتكلم باسم الإخوان المسلمين فى مصر- يعلن سخطه الشديد على الخصومات المفتعلة التى تدور على هامش المجتمع لأسباب تتعلق بالطموح الشخصي أو التآمر السياسي، ويحذر المسلمين المعاصرين من الوقوع مرة أخرى فى شراك هذه الخصومات والمنازعات ( راجع كتابه عقيدة المسلم ، ص 221 وما بعدها) .

وفى الوقت نفسه نجد الشيخ محمود شلتوت- شيخ الأزهر من سنة 1958 إلى سنة 1963 – يتناول الموضوع من الناحية المنهجية ويتخذ موقفا وضعيا صارما حين يفسر ذلك بقوله إن النقاط المعرفية التى لا تصاغ بطريقة واضحة لا لبس فيها، أو التى تسمح بفهمها بطرق مختلفة بحيث يمكن أن يختلف العلماء حولها، هذه النقاط ليست من مواد الإيمان التى فرضها الدين( راجع كتابه إسلام عقيدة وشريعة، ص 51).

وفى الوقت الذى تعتبر فيه المجادلات القديمة غير ذات قيمة أو تعتبر ضارة ، فإن بعض موضوعاتها- على الأقل- ما زالت تبدو مهمة، كما أن الصيغ التى طورتها المدارس والفرق القديمة ما زالت تؤثر بوضوح فى الكتابات المعاصرة عن تلك الموضوعات، بل إن هذه الكتابات كثيرا ما تشير إلى المدارس القديمة وإن كانت تفعل ذلك بطريقة مسرفة فى التبسيط. والكتاب المعاصرون. فيما يتصل بالمشكلة التى نحن بصددها، يبدءون عروضهم عادة بذكر وجهتي نظر متطرفتين .

ووجهة النظر الأولى هى الرأي القائل بأن الأعمال جزء من الإيمان، بحيث إن كيف الأعمال التى يقوم بها الفرد وكمها يحددان درجة الإيمان التى وصل إليها ، فمرتكب الكبيرة لا ينظر إليه باعتباره مؤمنا، بل يعتبر مرتدا إلى الكفر بحيث يحق عليه العذاب الأبدي فى النار، وهذا هو موقف جماعتين قديمتين هما الخوارج والمعتزلة، وأصحاب الرأي المضاد يقولون إن الأعمال ليست جزءا من الإيمان على درجات، لأنه حالة مطلقة يشعر بها الإنسان أو لا يشعر بها.

ومرتكب الكبيرة يمكن أن يبقى على إيمانه، وأصحاب هذا الموقف المتطرف يزعمون أنه " حيث يكون الإيمان، فإن الفاحشة أو الإثم لا ضرر منه" وينسب هذا الموقف إلى المرجئة .

ويعد المرجئة ، مثلهم مثل الخوارج والمعتزلة ، خارج نطاق الإسلام السني، ولذلك فلا عجب أن ترفض آراؤهم.

ولكن يوج بين مواقفهم باعتبارها آراء سنية. وقد تسنى لي أن أفحص عدة أقوال عن أهمية الإيمان وعدة كتب لمؤلفين معاصرين مختلفين ذكرت أسماءهم فى نهاية هذا المقال.

ولا أزعم بالطبع أنهم يمسكون جميع الآراء التى قال بها أهل السنة. ولكنهم يعبرون عن وجهات نظر تختلف اختلافا ملحوظا فى أمور أخرى.

لكن الأمر الجدير حقا بالتنويه هو أنهم يجمعون على نقطة واحدة، وهى أن الإيمان وحده هو الذى يضمن النجاة فى نهاية المطاف.

ونبدأ الأمثلة التى ستذكرها على الصفحات التالية بمتابعة تفكير الدكتور محمد نعيم ياسين فهو مؤلف مصري يبدو أنه يتخذ موقفا معتدلا بوجه عام، كما أنه يعتمد اعتمادا واضحا على العلماء الأقدمين ، وهو يقتبس فى رسالته " الإيمان" أركانه- حقيقته – نواقضه " .

صيغة مهمة من الفقيه الحنفي أحمد بن محمد الطحاوى ( من 239 إلى 321 للهجرة ، ومن 853 إلى 923 للميلاد) يفرق فيها تفرقة واضحة بين الموقف السني والمواقف غير السنية: " إننا لا نكفر أحدا من أهل القبلة ( اى الذين يدينون بدين الإسلام) بسبب إثم ارتكبه ما لم يعلن أنه أمر مسموح به ونحن لا نذهب إلى أن المؤمن إذا ارتكب إثما لا يضار بسببه" ويفسر المؤلف ذلك بإيراد فقرة من شرح الفقيه الشافعي يحيى بن شرف النواوى (631 – 676 للهجرة / 1233 – 1277 للميلاد ) على صحيح مسلم يقول فيها إن كل من يموت موحدا فسوف يدخل الجنة فى كل الأحوال.

ويصدق هذا فى حالتين : ( أ ) كل شخص بريء من الإثم، كالصغير والمجنون وكل من تاب عن إثمه توبة نصوحا، أو أنعم الله عليه بفضله فلم ينوه الإثم على الإطلاق ، سيدخل الجنة مباشرة. ( ب) كل شخص ارتكب الكبيرة ومات بغير أن يتوب عنها فهو خاضع لمشيئة الله ، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة (مثل أعضاء الفئة أ) وإن أراد عاقبة كما يشاء، ثم أدخله الجنة بعد ذلك، وهكذا لا يخلد فى النار من مات على دين الإسلام، مهما تكن الفواحش والآثام والكبائر التى ارتكبها فى حياته الدنيا ومن جهة أخرى لا يدخل الجنة من مات وهو كافر ،مهما تكن الأعمال الصالحة التى قدمها ( ياسين، المرجع السابق الذكر، ص 123، والنواوى ، المرجع السابق، الجزء الأول ، ص 217 وبعدها) .

نلاحظ هنا وجود إجماع عام على العقاب الأبدي للكفار، مع استثناء واحد يمثله الشيخ محمود شلتوت فى كتابه" الإسلام عقيدة وشريعة" الذى يتابع النهج الوضعي الذى أشرنا إليه من قبل، فيؤكد أنه لا يوج فى القرآن الكريم نص واضح عن خلود النار، فإذا كان من الواضح أن الكفار لن يغادروا جهنم ما بقيت نيرانها مشتعلة، فليس من الواضح أن عقابهم سيكون عقابا أبديا " ( ص 19 ).

ونرجع إلى الدكتور ياسين فنجد أن تقديره الكبير للإيمان فى مقابل الأعمال يخفف منه اعتباره للجدل القديم حول العمل بالجوارح، وهل هو جزء من الإيمان أو هو- كما قال أبو حنيفة- مجرد مقتضى ولازمة من لوازمه – اى نوع من الجدل اللفظي الذى لا نفع فيه ( المرجع السابق ص 85 ) ونجده من ناحية أخرى يذهب إلى حد اعتبار بعض الأعمال والمواقف من الأمور التى تبطل إيمان الإنسان وتجعل منه كافرا( راجع نواقص الإيمان، ص 100 وبعدها) ومع ذلك فإنه يظل حريصا على اعتناق المبدأ القائل بأن الإيمان، لا الأعمال، هو الذى يقرر نجاة الفر وخلاصه.

وثمة مثل آخر يقدمه الشيخ محمد الغزالي فى موقفه الذى يؤكد فيه أهمية الأعمال تأكيدا شديدا.

فهو يصف العمل فى عنوان أحد فصول كتابه " عقيدة المسلم" بأنه أساس الإيمان ( ص 153) ، وهو يهاجم الرأي القائل بأن " حسن الصلة بالله قد يجبر النقص فى بقية الواجبات المفروضة، وأن مجرد الإيمان يغنى عن أداء هذه الفرائض ( ص 160 وبعدها) .

إن هناك فى رأيه صلة وثيقة بين الخير الذى يفعله الإنسان فى هذه الدنيا وبين الثواب فى الآخرة ، بين الشر الذى يرتكبه والعقاب الذى سيلقاه ( ص 285 وبعدها ) ، والاعتقاد الخاطئ بأن الأعمال يمكن إهمالها، بما يتضمن قطع هذه الصلة الوثيقة بين العمل والجزاء، هو فى رأى الشيخ الغزالي علة الأزمة التى وقع فيها الدين فى أيامنا، والقوة التى اكتسبها الإلحاد( ص 157، 161، 294) .

وعلى الرغم من القيمة العظيمة التى يضفيها الغزالي على الأعمال، فإنه يعترف بأن الإيمان لا يفترض التحرر من الإثم. فقد يرتكب المؤمن الإثم دون أن يفقد الإيمان، ولكنه إذا تفاخر بإثمه وخطيئته، واستهزأ بإهماله للفروض الواجبة عليه، فإنه يتخلى فى هذه الحالة عن الإسلام ( 1 187 وبعدها وص 192) .

ومن الواضح من هذا أنه يرفض مذهب الخوارج فى أن مرتكب الكبيرة يبطل إيمانه ( ص 207 ) ، إن المسلمين سيساقون إلى النار بسبب أعمالهم السيئة .

ولكن رحمة الله يمكن أن تنقذهم منها ( ص 289 وبعدها) ، ومعنى هذا كله فى رأى الغزالي ، أن الإيمان- بعد العقاب والشفاعة.

ومع التسليم بحرية الله المطلقة فى قراراته 0 هو الذى يؤدى إلى النعيم الخالد، بينما يقود الكفر- الذى يترتب على الإصرار على ارتكاب الفواحش والآثام- إلى اللعنة الأبدية.

ويتفق هذا مع قول حسن البنا ( 19061949 ) فى إحدى رسائله : " إن العقيدة هى أساس العمل، وفعل القلب أهم بكثير من فعل الجوارح. وبلوغ الكمال فى كليهما مطلوب بحكم الشرع، حتى ولو تفاوتت الرتب والدرجات".

إذا اعتمد المؤمن الآثم فى نجاته من النار على إرادة الله، فإن المشكلة القديمة عن العلاقة بين قدرة الله المطلقة ومسئولية الإنسان ستظل قائمة، وهناك إجماع تام على أن الله سبحانه يخلق أعمال الإنسان، وأن الإنسان " يكتسب " أعماله بعد ذلك ( عنا تستخدم الصيغة الأشعرية القديمة) بإرادته الحرة بحيث يحاسب عليها ويصبح مسئولا عنها، ولكن هل ثمة دلائل تهدينا إلى التنبؤ بما سوف يقرره الله جل شأنه – بقدرته وحريته اللذين لا حد لهما- فى مصير المؤمن الآثم؟

إن الإجابة عن هذا السؤال متفاوتة الظلال والأبعاد ، فالشيخ محمد الغزالي، الذى يؤكد على الصلة التى تربط بين العمل والجزاء، يصر على أن حساب الله الأخير لن يغفل- مصداقا للآية القرآنية الكريمة – مثقال ذرة من خير ولا مثقال ذرة من شر فى أعمال الإنسان ( المرجع السابق ص 93) ، بل إنه يتحدث عن " قواعد " أو " قوانين " الجزاء ( ص 288 ) – فهل يمكن أن يخضع سبحانه لأي قاعدة أو قانون ؟ إن الغزالي يتجنب الخوض فى مثل هذا التناقض الواضح، ويقرر أن رحمة الله تنقذ المؤمن الآثم، وإذا لم تكن آثامه من الكبائر ، فإن شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام يمكن أن تساعده.

ويضع عبد الرحمن حبنك الميداني – مدير التعليم الشرعي فى وزارة الوقف السورية ، فى كتابه العقيدة الإسلامية المؤلف من جزأين – يضع الأمور وضعا آخر، فهو يتحدث أيضا عن " قوانين " أو " قواعد" أقامها الله سبحانه ويتبعها فى خلقه، ولكنه – فيما يتصل بالمشكلة التى نحن بصددها- يضع قانون العدل الالهى جنبا إلى جنب مع قانون الفضل الالهى ( الجزء الثاني ص 310 وبعدها) ويرى الميداني أن دين الإنسان بالشكر لله على نعمه التى أسبغها عليه يبلغ من العظم حدا يجعله عاجزا كل العجز عن رده بما يعمله طوال حياته، بل إنه لأعجز من ذلك عن ادعاء أي حق فى مطالبته بأي ثواب أو مكافأة عنها، فالله سبحانه إذا وعد الإنسان بأن يكافئه على إيمانه وأعماله الصالحة، فإنما يفعل ذلك وفقا لقانون المثوبة الذى وضعه بفضله ورحمته، ومن جهة أخرى سيعاقب الإنسان على كفره وعصيانه وفقا لقانون العدل الالهى.

ويقتبس الميداني الآية الكريمة: " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون" . ( ألنعام 160) ثم يقول إن الحد الأعلى لهذا الجزاء مكافئ للعمل السىء ولكن ليس له حد أدنى لأننا ندخل هنا فى دائرة فضل الله .

ولما كان فضل الله بلا حد، فيمكننا القول إن المرتبة الوسطى فى هذه الدائرة هى مرتبة التفضل بالعفو الكامل التى يمكن بعدها أن يسبغ بفضله وكرمه على الإنسان المزيد من آلائه ونعمه .

وهكذا يمحو الفضل الالهى ما يقتضيه العدل الالهى ( المرجع السابق ، ص 312 ).

والواقع أنني لم أجد فى أي كتاب من الكتب الأخرى، التى رجعت إليها . مثل ما وجدت فى كتاب الميداني من تأكيد قوى لرحمة الله وفضله، ربما يكثر غيره من الكلام عن رحمة الله وغفرانه، ولكن الفكرة التى تقول إن الله قد أسبغ على الإنسان من النعم ما لا يستحقه، وآخرها وأسماها هى النجاة من عذاب الآخرة ، هذه الفكرة تتلاءم أيضا مع أفكارهم وتصوراتهم، وهذا فى الحقيقة هو معنى الفضل الإلهي.

وهنالك أيضا إجماع تام، على الأقل بشكل عام ، على وضع المؤمن والكافر والمواقف التى ينبغي أن تتخذها الجماعة الإسلامية منهما.

فيجب فى المقام الأول عدم التسرع بتكفير أي إنسان. صحيح أن مظاهر الكفر ينبغي أن تسمى باسمها- ولكن الحرص والحذر الشديدين مطلوبان تجاه الشخص المقصود، إذ يجب ألا يعلن أنه كافر حتى تتوافر جميع المقتضيات الشرعية فى الشهادة، وهى الوفاء بالشروط وغياب الموانع، وقد تكون هناك أعذار تبرر سلوك الشخص أو أسباب كافيه تجعله يستحق عفو الله ، ولذلك كان الزعم بأن الله سيعاقبه بالعذاب فى النار خرقا خطيرا لقوانين العدل والرحمة الإلهية ( ياسين : المرجع السابق ، ص 120 وبعدها) .

وهناك من جهة أخرى إجماع على وجوب التفرقة بين معاملة الشخص المشتبه فى كفره فى هذه الدنيا ومعاملته فى الآخرة، فلا يجوز بطبيعة الحال أن يدعى أحد أنه مطلع على أسرار القلوب ، لأن هذا من حق الله وحده، ولابد أن يترك له سبحانه الحكم على هذا الشخص فى الدار الآخرة، ولكن الأحكام التى تتعلق بهذا العالم هى شأن من شئون الناس يبطل إيمانه، فيتحتم عليهم أن يطبقوا عليه قوانين الشرع ليمنعوه من ممارسة " بدعه" التى تستلزم تكفيره ( ياسين ص 88 – 98 – 121 وبعدها).

هذا المبدأ العام، وإن يكن مهما فى ذاته، إلا أنه لا يوضح طبيعة الإجراءات المرتبطة بتنفيذه، وتلك مسألة اهتمت بها التيارات المتطرفة والمعتدلة على اختلاف مواقفها من قضية التكفير، وقد ذكر ياسين – الذى تتبعنا عرضه لهذا المبدأ – مثلا ملموسا لتطبيقه على الشخص الذى يشتبه فى ارتداده عن الدين : فلابد أن يطلب منه التوبة، فإذا لم يفعل وجب قتله( المرجع السابق ، ص 121 – 122 ) ويبدو أن هذا الكاتب يريد أن يحول دون الوصول إلى هذه النتيجة المؤلمة أو يجعل الوصول إليها أمر صعبا، فهو يضيف إلى ما سبق أن مثل هذه الأمور لا ينبغي أن يبت فيها عامة المسلمين ، بل أولئك الذين يملكون وسائل الحكم واتخاذ القرار فى الدولة الإسلامية، وفى حالة الحكم بالإعدام ينبغي أن يترك الأمر للإمام ( أو رئيس الدولة) نفسه ( ص 122) .

ويظهر كذلك الميل إلى الرفق واللين عندما يتم التوسع فى حدود ما هو مقبول من المؤمن . فالدكتور محمد شامة ، وهو أستاذ بجامعة الأزهر وأتم دراسته فى ألمانيا ، يصرح بأن الإسلام لا يقع فى الكفر إذا أعطى نفسه حرية تفسير دلالة القرآن ، لأن النص وحده هو الذى يؤخذ به ويرجع إليه كشيء نهائي ( ص 31 من كتابه الذى جمع فيه أحاديه فى الإذاعة تحت عنوان : الإسلام كما ينبغي أن نعرفه) ويقلب الشيخ محمود شلتوت الموقف لصالح المرتد حين يعلن أن الشخص الذى تخلى عن دين الإسلام لا تجرى عليه أحكام المسلمين فى هذه الدنيا، أي أنه يطالب بالعبادات ولا يحظر عليه شرب الخمر وأكل لحم الخنزير أو التجارة فيهما.

ومن ناحية أخرى لا يغسل المسلمون جثمانه حين يموت ولا يصلون عليه، كما أن قريبه المسلم لا يرثه ولا هو يرث قريبه( المرجع السابق ص 12 ) والمهم على كل حال أن هذا الرأي يتفق أيضا على أن الإيمان لا يشمل الفرد وحده وعلاقته بربه، بل يمتد كذلك إلى عضويته فى جماعة المؤمنين.

وهناك ظلال اختلاف أوضح حول الموقف من غير المسلمين فى مقابل المرتدين، فثمة شبه إجماع على أنهم أيضا من الكفار ، وعلى الرغم من حرصه الشديد فى مسألة التكفير، فإن " ياسين" يقرر أن اليهود والنصارى قد عرفوا بأنهم كفار ، وأن من الكفر إنكار ذلك ( المرجع لسابق، ص 106) وشروحه فى هذا الموضوع مصبوغة صبغة قوية بتجارب المسلمين فى العالم الحديث مع غير المسلمين.

فهو ينتقد أي موالاة لهم انتقادا حادا، لأن هذه الموالاة تعنى بالضرورة العداء للإسلام، وينبغي على الحكام المسلمين بوجه خاص ألا يستعينوا بهؤلاء الكفرة كمستشارين لهم، ولا يشجعوا الجماعة الإسلامية على تقليدهم فى أمور الحياة، ولا يتبنوا قوانينهم ومناهجهم ( والخوف من القوى العظمى ليس مبررا للانصياع لهم ( ص 106 وبعدها) .

ويبدو بوضوح أن " محمد شامة" يفكر فى أمثال هؤلاء من غير المسلمين عندما يذهب إلى النجاح المادي للكفاح فى هذه الدنيا لا يعنى أن الله راض عن موقفهم من العقيدة الإسلامية ، ولكنه يجد نفسه مضطرا إلى التفرقة بين فئات مختلفة من الكفار، والاعتراف بأن بعضهم يعمل أعمالا صالحة لخير مواطنيه وللبشرية، ولما كان الإيمان هو الأمر الحاسم فى النهاية، فإن هذا لن ينجيهم من النار، ولكن النار كالجنة فيها مراتب ودرجات، والأخيار من الكفار سيوضعون فيها بحيث يقاسون من العذاب أقل مما يقاسيه الأشرار ( المرجع السابق ص 55 وبعدها).

ويبدى " حبنك الميداني" الذى يبين أيضا أن الكفار ينبغي تصنيفهم حسب مواقفهم من الإيمان وحسب أعمالهم ( المرجع السابق، المجلد الثاني، ص 410) يبدى قدرا من الرفق واللين نحو اليهود والنصارى حين يؤكد أن الديانات السماوية كانت منذ البداية ديانة واحدة، بحيث يمكن أن تطلق عليها جميعا صفة الإسلام، ومع أنه يضطر إلى ا لتسليم بأنها قد أصبحت ديانات منفصلة بسبب التغيير والإفساد اللذين أصاباها، فإنه يتجنب وصف أصحابها بالكفار ( المجلد الأول، ص 84 وبعدها).

ويعود الشيخ شلتوت فيذهب إلى أبعد مدى فى نفوره من الحكم على أصحاب الديانات الأخرى بأنهم كفار، وفى ذلك يقول إن الشعوب النائية التى لم تبلغها عقيدة الإسلام، أو بلغت إليهم بصورة سيئة منفرة، أو لم يفهموا حججها وأدلتها على الرغم من الجهود التى بذلوها فى دراستها، هذه الشعوب النائية آمنة من عقاب الكفار فى الآخرة، ولا يطلق عليها اسم الكفار (المرجع السابق، ص 12).

وأخيرا فعلى الرغم من وجود خلافات كبيرة بين الاتجاهات العديدة فى الفكر الإسلامى، فلا يملك القارئ إلا أن ينبهر بالقدر الكبير الذى توصلت إليه من الاتفاق على مجموعة من المسائل المهمة، ونخص بالذكر منها اليقين بأن المسلم يضمن نعمة الخلود فى الجنة بفضل إيمانه، والواقع أن الأحكام التى يصدرها أحيانا بعض المجادلين المسيحيين بأن الإسلام يؤمن بالتبرير عن طري الأعمال، أو أن الأخلاق الإسلامية لا تمد جذورها فى قلب الإنسان، هى أحكام بعيدة كل البعد عن الحقيقة ، وأن النتائج التي توصلت إليها هذه النخبة الكبيرة من المفكرين الإسلاميين لتتجاوب بكل تأكيد مع النزوع الديني العميق الكامن فى الإسلام .

الكتب التى ناقشها البحث

- محمد الغزالي عقيد المسلم – القاهرة ، 1965 ( وقد ذكره ر . ب ميتشيل فى كتابه جماعة الإخوان المسلمين ، لندن 1969 ، ص 332 وظهرت طبعته الثالثة فى سنة 1952

عبد الرحمن حبنك الميداني ، العقيدة الإسلامية وأسسها- فى مجلدين دمشق 1966 - محمود شلتوت ، الإسلام عقيدة وشريعة ، القاهرة 1959.

- محمد شامة ، الإسلام كما ينبغي أن نعرفه، القاهرة 1983.

- محمد نعيم ياسين ، الإيمان، أركانه – حقيقته - نواقصه. الأسكندرية ، دون تاريخ حوالي 1980.


6-خليفة الله :قراءات عن صورة الإنسان فى الإسلام( 1989)

إن السؤال الأنثروبيولوجى عن وضع الإنسان فى الكون والتاريخ لا يمكن الإجابة عنه فى ديانات التوحيد إلا بالرجوع إلى الله، فالإنسان مخلوق لله. ولكن ليس معنى هذا – بالنسبة لله جل شأنه – أنه مجرد شيء أو موضوع، فقد رفع منزلة الإنسان فوق سائر المخلوقات عندما تجلى له ودخل التاريخ معه. ويدل هذا – فى اللاهوت المسيحي – على أن الله قد جعل الإنسان " شخصا".

وهذه العبارة ينبغي أيضا أن تكون مقبولة فى علم العقيدة الإسلامية ، لأن الإنسان، بما هو فرد، مسئول عن أفعاله أمام الله، والتاريخ، كما يصفه القرآن الكريم ، يتكون من مجموع من " العهود والمواثيق " بين الله والبشر، وهذه العهود والمواثيق تفرض واجبات على البشر، ولكنها تتضمن فى الوقت نفسه أن الله سبحانه يعتبرهم مشتركين معه، وهذا يصدق أيضا على الديانتين الأخريين.

هل يمكننا أن نحدد منزلة الإنسان فى الإسلام بالنسبة إلى ا لله تحديدا أكثر دقة ؟ إن هذه المنزلة تختلف اختلافا كبيرا عما هى عليه فى اليهودية والمسيحية ، ذلك أنهما تصدقان بما جاء فى الكتاب المقدس ( سفر التكوين 1، 26 – 27 ) من أن الله قد خلق الإنسان على صورته. ويستحيل على الإسلام أن يقبل هذه الصيغة، وذلك بسبب نفوره الشديد من أي نزعة تشبيهية بالإنسان( أي النزعة الأنتروبومورفية) .

وقد عرف المسلمون الصيغة أو العبارة السابقة فى صورة حديث شريف يقول" خلق الله آدم على صورته " ولكنهم غيروا معناها، ففي رأى ابن حزن على سبيل المثال أنها ( أي العبارة) لا تقول إن آدم قد خلق على صورة الله ، وإنما تقول إن الله سبحانه قد اختار لآدم إحدى الصور الكثيرة التى فى الآية الكريمة الآتية بصدقها المطلق: " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير". ا( الشورى 11).

ونجد فى القرآن الكريم كلمة تعد مفتاحا مهما لتحديد منزلة الإنسان أو مرتبته فى العقيدة الإسلامية ، ويؤكد هذا ما نلاحظه من تغير وتطور فى تفسير معناها: تلك هى كلمة " خليفة" بمشتقاتها ، وذلك حين تطبق على آدم وغيره من البشر ، ويرد على الذهن معنى كلمة " خليفة" فى صيغتها الأصلية الكاملة، وهى " خليفة رسول الله " أو فى اللقب الذى كان يحمله بعض الخلفاء الأمويين وهو " خليفة الله " . ويجب فى هذه الحالة أن يترجم بعبارة " النائب عن الله " لأن الله سبحانه لا يمكن أن يخلفه أحد. وفى الحالتين السابقتين يكون المقصود بتلك الصيغة هو الرئيس الأعلى للأمة الإسلامية .

غير أننا لا نعثر فى القرآن الكريم على معنى واضح عمن يخلفه هذا الإنسان الذى يطلق عليه اسم " الخليفة" .

وقد توصل المستعرب الألماني "رودى باريت" فى ترجمته الدقيقة لمعاني القرآن الكريم إلى أن القرآن يشير فى كل الأحوال التى ترد فيها كلمة " خليفة " أو مشتقاتها إلى " الخلفاء" أو " اللاحقين" للأجيال السالفة أو الجماعات السابقة.

وفى رأيه أن الآية الكريمة ( فى سورة البقرة 30 ) التى يخاطب فيها رب العزة الملائكة : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " – فى رأى باريت- أن هذه الآية الكريمة يجب – على الأرجح- أن تفهم أن آدم ( ومعه البشر ) سيخلفون فى المستقبل الملائكة ( أو الكائنات الروحية بوجه عام ) ويسكنون الأرض.

وليس من الضروري هنا أن نختبر مدى صحة رأى باريت فى جميع النصوص التى وردت فيها كلمة " خليفة" ولكن لعلى أذكر أن هذه الكلمة تظهر مرة واحدة على الأقل بجوار إشارة إلى وظيفة الحكم التى يتولاها إنسان.

ففي سورة ص – 26 نجد أن الله سبحانه يطلب من داود، بعد أن جعله خليفة فى الأرض ، أن يحكم بين الناس بالحق : " يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى ..." ( الآية) ، ويترجم باريت الكلمة بمعنى يقضى بالحكم أو يصدر حكما بين الناس بالحق، ولكن الفعل " حكم" يعنى كذلك " الحكم" بالمعنى السياسي الذى تأتى منه كلمة الحاكم.

والمهم فى هذا السياق أن الطبري، وه والحجة فى التفسير ، يؤيد رأى باريت فى معنى كلمة " خليفة" كما ترد فى القرآن الكريم، مع بعض الإضافات الشيقة.

يقرر الطبري فى تفسيره الكبير أن كلمة " خليفة" بمعنى " اللاحق" " إذا قام مقامه فيه بعده" أي اللاحق للأفراد والقرون ( أو الأجيال) أو الجماعات السابقة.

ومن ثم يستبعد معنى " النائب" وهو يذكر استخدام كلمة " خليفة" للدلالة على السلطان الأعظم مع شرح الكلمة بمعنى " اللاحق للسابق" وذلك دون أن يشير إلى أصلها الوارد فى صيغة " خليفة رسول الله " ثم إن الطبري – فى شرحه للآية الكريمة التى يخاطب فيها الله الملائكة ( البقرة 30) ويخبرهم أنه سيجعل آدم فى الأرض خليفة ، يثبت شرحين يسمحان بتأويلهما على أن الله جعل على الأرض " خليفة " له أو " خليفة " ينوب عنه فى الحكم بين خلقه، أي على حد تعبير الطبري نفسه " خليفة " منى يخلفني فى الحكم بين خلقه بحكمه. ومع ذلك كله فإن الطبري يتمسك بفهمه لكلمة " الخلافة " بمعنى تتابع الأجيال أو " القرون".

ربما يمكننا الآن أن نستخلص هذه النتيجة : إن استخدام كلمة " الخليفة" للدلالة على حاكم الدولة الإسلامية العالمية كان أمرا مألوفا وشائعا فى عصر الطبري ( القرن الثالث الهجري والتاسع الميلادي) ولعل علماء الدين فى ذلك العصر كانوا يتذكرون محاولات الخلفاء الأمويين لتفسير لقبهم- وهو خليفة الله – بأنه " النائب عن الله".

وربما بدا طبيعيا – بسبب استخدام الكلمة بهذا المعنى – أن يضفى على كلمة " خليفة " المعنى نفسه الذى وردت به فى بعض نصوص القرآن الكريم.

ومن ناحية أخرى نلاحظ أن الوعي الشديد بالمسافة الشاسعة التى تفصل الإنسان عن الله ، قد جعل أغلب العلماء ينفرون من أن يعطوا للإنسان مثل هذه المنزلة الرفيعة ( أي منزلة النائب عن الله) ولذلك أصروا على فهم كلمة " خليفة" كما جاءت فى القرآن الكريم بمعنى " التالي أو اللاحق للسابقين".

ربما يجدر بنا الآن أن نتتبع تطور معاني الكلمة بشيء من التفصيل . وسوف أمثل لذلك- على سبيل المصادفة- بتفسير كلاسيكي متأخر هو تفسير البيضاوى ، الذى يرجع إلى القرنين السابع الهجري والثالث عشر الميلادي، أي إلى أربعمائة سنة بعد الطبري .

ونحن نجد منذ البداية أن البيضاوى يفسر كلمة " خليفة" على المعنيين معا، أي اللاحق والنائب، حين يقول بوضوح:" من يخلف غيره وينوب منابه" وهو يقدم عدة احتمالات لتفسير المعاني الممكنة للكلمة كما ذكرت فى مواضع مختلفة من القرآن الكريم من دون أن يفضل – فيما يبدو – أحدها على الآخر:

1- اللاحق للجماعات والأجيال السابقة.
2- من يخلف الحكام السابقين.
3- خليفة الله فى أرضه ( أي نائبه) ،وإن كان يضيق المعنى بحيث يدل على الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- الذين يتوسطون بين الله والناس، بحيث يصبح آدم هو أول الأنبياء ، لا أول البشر فحسب.
4- خلائف الأرض ( كما جاء فى سورة الأنعام، 165 : " وهو الذى جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات..." ( الآية ) ويمكن أن ينصرف معناها إلى " خلفاء الله فى أرضه يتصرفون فيها".
5- وهكذا يجوز لنا الآن أن ننظر فيما إذا كان من الممكن اعتبار البشر نوابا على الأرض، حتى ولو لاحظنا استمرار النفور من نسبة هذه المرتبة إلى البش عامة وقصرها على الأنبياء عليهم السلام، والاتجاه الذى سار فيه تطور معاني الكلمة تؤيده حقيقة أن حجة الإسلام الغزالي- الذى سبق البضاوى بقرنين من الزمان- قد ذهب غلى أبعد مما ذهب إليه الأخير عندما تصور وجود " مناسبة باطنة" بين الإنسان والله ، وهى مناسبة لم تقتصر على جعل الإنسان يحب الله ، بل جعلت وضع الإنسان كنائب عن الله – فى أرضه أمرا معقولا وقابلا للتصديق، وبهذا لم يفكر الغزالي فى قصر هذه المرتبة- أو العلاقة مع الله – على الأنبياء وحدهم .
أضف إلى هذا أنه وجد فى " المناسبة الباطنة " تفسيرا للحديث المنسوب للرسول ( صلى الله عليه وسلم) أو للقول المأثور بأن الله خلق آدم على صورته، أي على صورته الباطنة لا صورته الظاهرة، مما يدل- فيما يدل عليه- على قرب الإنسان من مولاه وبارئه فى الصفات التى فرض عليه تقليدها، وفى قبول الفضائل الخلقية التى يوصف بها جل شأنه.
والصوفية وحدهم هم الذين يمكنهم أن يجدوا ويسموا عناصر أخرى فى هذه العلاقة ( إحياء علوم الدين ، الموضع السابق) .
ومن الواضح أن تصور الغزالي للإنسان كان أسبق بكثير من أغلب فقهاء عصره من أهل السنة، وإن كان يرجع إليه الفضل فى تمهيد الطريق لهم.
ولو قفزنا فوق عصر الغزالي والبيضاوي ووصلنا إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، لاكتشفنا أن تصور الإنسان باعتباره النائب عن الله فى أرضه قد حاز الاعتراف العام به، طبيعي أن الفهم القديم لكلمة " خليفة" كما وردت فى القرآن الكريم بمعنى " اللاحق للجماعات أو الأجيال السابقة قد ظل قائما، إذ لا يستطيع أي مفسر للقرآن الكريم أن يتجاهل الطبري ... ولكن المدهش حقا – فى تقديري على الأقل- أن هذا الفهم القديم قد أزيح جانبا ، وأن التفسير الجديد هو الذى أصبح يستخدم كأساس تبنى عليه المناقشات والنتائج.
6- ويصدق هذا على المصري العظيم الشيخ محمد عبده ( 1849 – 1905 ) الذى سجل تلميذه محمد رشيد رضا محاضراته التى ألقاها فى الأزهر الشريف عن القرآن الكريم من سنة 1899 حتى وفاته فى " تفسير المنار " .
فهو فى شرحه للآية الكريمة رقم 30 من سورة البقرة يلفت الأنظار إلى المعنيين السابقين لكلمة " خليفة" دون تفضيل واضح لأحدهما على الآخر، ولكن من الجلي أنه يضفى على التفسير الأحداث قيمة أكبر. والواقع أن النظر على هذا النحو إلى منزلة الإنسان أمر يتسق مع التصور الديني لمحمد عبده بوجه عام .
لقد زود الله سبحانه عند بدء الخلق جميع الكائنات الحية . سواء كانت فيزيقية أو ميتافيزيقية ( أي ملائكة) باستعدادات محدودة، ومعرفة محدودة، ووظائف محدودة ، وذلك باستثناء الإنسان وحده، والحق أن الله تعالى قد خلق الإنسان كذلك ضعيفا وجاهلا .
ولكنه عندما ينمو فإن إحساسه وشعوره ينموان معه أيضا ، كما أنه قد وهب ملكة العقل التى تمكنه من استغلال الملكتين السابقتين لمد سلطانه على سائر الكائنات. وقد شاء الله أن تكون قدرة الإنسان على التصرف بلا حدود .
والأحكام والشرائع التى سنها الله للبشر إنما تهدف لتقييد أعمالهم وأخلاقهم بحيث لا يسيء بعضهم إلى بعض، وبحيث يساعدهم على بلوغ الكمال بهداية عقولهم وتنميتها .
وفى هذا السياق تعطى أهمية خاصة لما جاء فى الآية الكريمة ( 31) من سورة البقرة من أن الله قد علم آدم الأسماء كلها " وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة" (الآية ) ويقول الشيخ محمد عبده إن الله سبحانه قد أتاح لنا من خلال هذه القصة أن نعرف قيمتنا وما جبل فى طبيعتنا بحيث يميزها عن طبائع سائر المخلوقات.
وينبغي علينا إذن أن نسعى لبلوغ الكمال عن طريق العلوم التى هيأنا لها عند بدء الخلق وقدمنا على الملائكة وسائر المخلوقات لكي تتجلى فينا حكمه الله .

فى مثل هذا التصور عند محمد عبده وتلاميذه ( قارن تفسير أحمد مصطفى المراغى) يعنى جعل الإنسان نائبا عن الله أن الإنسان يملك قدرة غير محدودة على التصرف فى كل ما هو مخلوق. قدرة ترتكز أساسا على المعرفة، أي على الإحساس والعقل .

لا شك فى أن الإنسان، وهو يمارس سلطانه، إنما يتبع مشيئة الله وتدبيره، ولكنه إذا ظل مهتديا بشرع الله فإن هذا يلعب دورا ثانويا فى توجيهه ( إلى السيطرة عن طريق العلم والمعرفة).

ونلاحظ وراء هذا التصور موقفا شديد التفاؤل ، وشعورا حيويا تحدده الانجازات الثقافية والحضارية الكبرى للبشرية ، وقد سبقت هذه التصورات والأفكار نشوب الحرب العالمية الأولى بوقت غير قصير.

ويلاحظ أيضا أن تفسير المنار لا يثير السؤال عما إذا كانت هذه الانجازات قد تمت على أيدي المسلمين أم غير المسلمين . ولكن يبدو أن " النيابة عن الله " لم توهب لأتباع دين معين ، بل للبشرية فى مجموعها.

ويترجم محمد إقبال ( 1873 – 1938 ) – وهو الممثل المرموق للتحديث الإسلامى فى الهند، والأب الروحي للدولة الإسلامية فى باكستان- يترجم مطلع الآية الكريمة ( رقم 30 من سورة البقرة) على هذه الصورة : حقا إنني سأضع من ينوب عنى على الأرض .

وهو يربط بين هذه الآية الكريمة وبين الآية رقم 72 من سورة الأحزاب التى جاء فيها أن الإنسان قبل ،ن يتحمل " الأمانة" التى عرضها الله سبحانه على ا لسماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان .

ويفسر إقبال هذه الأمانة على معنيين . فهي من ناحية تدل دلالة دقيقة على وظيفة النائب عن الله . وقد كتب على الإنسان أن يشكل مصيره ومصير الكون، سواء بالتلاؤم مع قواه أو بتوجيه كل طاقته نحو استغلال هذه القوى لتحقيق أغراضه وغاياته.

وعندما يأخذ هذه المبادة " يصبح الله شريكا له" ولكن هذا التعبير عن الثقة الشديدة للإنسان فى نفسه لا يعنى الغرور ولا الغطرسة التى لا حد لهما ، لأننا نجد من ناحية أخرى أن إقبال يفسر " الأمانة" التى عرضها الله سبحانه على الإنسان بأنها هى عبء الشخصية التى تمنحه حرية الاختيار بين الخير والشر.

وتفتح أمامه آفاق تحقيق الخلود الشخصي عن طريق الجهد الذاتي ( تجديد الفكر الديني، 119 وما بعدها) والواقع أن المنزلة العظيمة التى يرفع إقبال الإنسان إليها هى ثمرة تطور روحي هائل وتحتاج إلى الكفاح المستمر للوصول إلى الكمال ( شيميل . المرجع السابق الذكر، صفحة 108، 111، 113، 253) .

والمهم أن تصور إقبال ينطوي على رؤية اجتماعية بناءة فوظيفة الإنسان كنائب عن الله سبحانه يفترض أن تتحقق فى دولة إسلامية مثالية، تكون فيها الأرض كلها( أي وسائل الإنتاج) ملكا لله ، فى الوقت الذى يكون فيه واجب الإنسان أن ينتج الثروة لمصلحة البشرية كلها ( أحمد ، المرجع السابق، ص 159).

لو اتجهنا الآن من التحديثيين إلى الأصوليين – أو من يسمون أحيانا بالشموليين ، وهم الذين يرون أن الدين فيه الإجابة عن كل أسئلة الحياة الخاصة والعامة- فسوف يدهشنا أن نجدهم كذلك يعتبرون أن الإنسان هو النائب عن الله فى أرضه.

ويقرر سيد قطب ( 19061966) ، ولعله أهم علماء الدين فى جماعة الإخوان المسلمين ( فى تفسيره للآية الكريمة " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل فى الأرض خليفة..." ( الآية 30 من سورة البقرة) يقرر أن الإرادة العليا قد سلمت مقاليد الأرض للإنسان وأعطته حرية التصرف، ووكلت إليه إبراز مشيئة الخالق فى الإبداع والتكوين والتنويع والتركيب ".

ومنحته الملكات والقدرات التى يحتاجها لأداء هذه المهمة، بذلك تمت الوحدة والتنسيق بين نواميس الكون وبين القوانين والأحكام المفروضة على الإنسان. وبذلك أيضا بلغ الإنسان منزلة رفيعة فى نظام الكون فى مجموعه.

ويواصل سيد قطب شرحه للآية الكريمة السابقة الذكر، ولكنه – على العكس من محمد عبده ومحمد إقبال – لا يتعمق فى مسألة تشكيل الإنسان للعالم بعقله وإرادته الحرة المستقلة، إذ يبدو أن الأهم فى نظره هو التوفيق بين جعل الإنسان نائبا عن الله فى الأرض، وبين حقيقة أن الله سبحانه قد ترك آدم وحواء يقعان فى الخطيئة قبل إرسالهما إلى ا لأرض، وأن الملائكة تتنبأ – بحق – بأن الإنسان سيفسد فى الأرض ويسفك فيها الدماء.

ويذهب سيد قطب غلى أن العقل البشرى محدود، وأنه لا يستطيع أن يدرك هذه الحقائق الميتافيزيقية . ومع ذلك فإن المؤمنين مدعوون لقبول البيان القرآني – كما يتجلى فى الآية الكريمة السابقة- ليكون مرشدا لهم ويهديهم فى سلوكهم واعتقادهم.

ويصبح موقف الأصوليين – أو الشموليين- فى تضييق حدود القدرات والإمكانات البشرية أكثر وضوحا عند أبى الأعلى المودودى ( 1903 – 1979) زعيم " جماعتي اسلامى" فى الهند وباكستان. وهو فيما يبدو أيضا أن من الأمور البديهية أن يكون الإنسان هو نائب الله على أرضه.

غير أن الإنسان الذى يقوم بهذه الوظيفة لا يبقى ، فحسب ، خاضعا للقانون أو الشرع الالهى، ولكن هذا القانون ثابت ثبوتا مطلقا وصادق صدقا أبديا.

صحيح أن المودودى يعترف نظريا بالقياس والاجتهاد والاستحسان ، بل يعترف كذلك بالتأويل ولكن المجال الذى يفسحه لتطبيق هذه المناهج على القانون ( الشرع) الإسلامى يبلغ من الضيق حدا يجعلها عديمة التأثير من الناحية العملية.

ومن الإنصاف أن ننوه بالدولة الإسلامية التى تقوم- فى تصور المودودى – على أسس ديمقراطية : فهو يفترض أن النيابة عن الله لا ينهض بأمانتها فرد ولا دولة ولا طبقة ، بل تتولاها الجماعة الإسلامية المهيأة للوفاء بشروط هذه الرتبة الرفيعة، كما أن كل عضو من أعضاء هذه الجماعة مشارك فى تحمل تلك الأمانة وحملها. وتستطيع الجماعة أن تعهد بأمانه هذه النيابة لشخص يتمتع بثقتها، ولكنه إذا فقد هذه الثقة فلابد أن يستقيل من مهمته.

وإذا أمعنا النظر فى هذه الجماعة التى يتصورها المودودى وجدنا أنها لا يمكن أن تتألف إلا من مسلمين خاضعين للقانون ( أو للشرع) كما يفهمه. فالديمقراطية فى نظره ديمقراطية إسلامية .

وكل من يتصور أن التعاليم الإلهية يمكن أن تعدل أو تبدل أو تنبذ بحكم بشرى، سواء كان فرديا أو جماعيا فلن يكون له مكان فى الجماعة الإسلامية ، ولن يكون مهيأ للمواطنة فى الدولة الإسلامية .

وطبيعي أن غير المسلمين سينحصر وضعهم فى هذه الحالة فى الوضع الذى بينه الشرع لأهل الذمة: سيكون عليهم أن يدفعوا الجزية، وسيكون من حقهم أن يصلحوا أماكن عبادتهم دون أن يصرح لهم ببناء أماكن أخرى جديدة، كما لا يحق لهم أن يمثلوا فى البرلمان .

بذلك لا تكون النيابة عن الله من شأن البشر عامة، بل تقتصر على المسلمين ، وحتى هؤلاء لن يترك لهم الفهم الضيق للشرع سوى حرية محدودة لتشكيل العالم .

والواقع أن الاعتراف بالديمقراطية يصبح موضع شك عندما يأتي من جانب حركات منظمة تنظيما صارما من حيث تراتب وظائفها وقيادتها، كما هى الحال فى " جماعتي إسلامي" فى الهند وباكستان، وفى جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، على الأقل فى المرحلة الأولى من تاريخها.

مهما يكن الأمر فإننا نصادف حتى العصور الحديثة، تصريحات بأن تعيين نائب عن الله يمكن أن يقتصر على فرد واحد، أي على حاكم معين. ويقول أحمد مصطفى المراغى، على سبيل المثال، بأن تعيين إنسان فى هذا المنصب يعنى أن الله سبحانه يختار طائفة من الناس ليبلغ قوانينه وأحكامه على لسانهم، وبذلك يرفعهم إلى مرتبة الخلافة فوق غيرهم من البشر.

ومن جهة أخرى يشعر المرء بأن هناك عددا محدودا من المفكرين المحدثين الذين لا يهتمون بموضوع النيابة عن الله إلالهى يستمدوا منها أفكارهم الديمقراطية فى السياسة والمجتمع.

وقد أعلن المفكر التركي ظيا جوكالب- وسط معمعة المناقشات التى دارت حول إحلال دولة وطنية حديثة محل الإمبراطورية العثمانية،واستبدال النظام الجمهوري بالسلطنة والخلافة- أعلم فى عام 1922 أن " الشعب هو النائب عن الله فى الأرض، وأن السلطة للشعب وليست للسلطان... فله السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية ".

كذلك نجد خلال المناقشات التى دارت جول الدستور الباكستاني أصواتا تذهب إلى أن الخلافة القائمة على القرآن الكريم يجب أن تكون هى حكومة الشعب. ولست أدرى إن كان محمد إقبال قد صاغ هذه الفكرة ، ولكنها تتسق قطعا مع أفكاره.

ويلاحظ الوقوف فى صف الديمقراطية عند " على شريعتي" ( 1933- 1977) ، الذى ساهمت أفكاره مساهمة كبيرة فى التمهيد لقيام الثورة الإسلامية فى إيران سنة 1978- 1979 ، حتى ولو كانت الجمهورية الإسلامية التى أعلنت بعد ذلك لم تتأثر بأفكاره تأثرا يذكر.

والحقيقة أن شريعتي يضع النزعة الإنسانية الإسلامية – التى وجد أسسها فى القرآن الكريم.

فى مواجهة النزعة الإنسانية الأوربية التى نمت- فى تقديره- حتى أصبحت هى أساس الحضارة الغربية الحديثة بسبب معارضتها لمسيحية العصر الوسيط. لقد خلق الله الإنسان من طين مهين.

وهو أحط رموز التعاسة والحقارة والخسة . ولكنه سبحانه نفخ من روحه فى هذا الطين فخلق الإنسان وجعله نائبه على الأرض.

ويفسر شريعتي " ألأمانة" التى عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأشفقن منها وحملها الإنسان تفسيرا يذكرنا بإقبال : فالأمانة عند شريعتي- هى حرية الإرادة التى تميز الإنسان عن سائر المخلوقات جميعا: فى إمكان الإنسان أن يختار بين أن يكون شبيها بالطين أو بالله .

بذلك لا يكون الإنسان فى الإسلام محتقرا عند الله ، وإنما هو شريكه وحبيبه. كذلك يذكرنا شريعتي مرة أخرى بإقبال ودولته الإسلامية المثالية ( التى تكون فيها جميع وسائل الإنتاج ملكا لله وينبغي أن تستغل لمصلحة البشرية بأسرها كما سبق القول) أقول يذكرنا به عندما يعهد إلى الإنسان بإقامة جنة بشرية على الأرض أو فى الطبيعة.

ويمضى شريعتي فى تأملاته إلى أبعد من هذا حيث تتبع ازدواجية التاريخ الاجتماعي للبشرية بين قطبي هابيل وقابيل .

فهابيل يرمز إلى الاقتصاد الزراعي والاشتراكية البدائية قبل ظهور الملكية، إلى بناء اجتماعي فيه ا لجماعة سيدة نفسها ويكون العمل كله للمصلحة العامة.

أما قابيل فيرمز إلى الزراعة ، وللملكية الفردية أو الاحتكارية ، أي إلى بناء اجتماعي يكون فيه الأفراد هم سادة المجتمع . هكذا يمثل قابيل قطب الحاكم، والمالك، والطبقات المستغلة أما هابيل فيمثل قطب الشعب – والله ...

ويرى شريعتي أن كلمتي " الناس " و" الله" فى القرآن الكريم وفى الإسلام مترادفان، وأن إحداهما تقوم مقام الأخرى عندما يتعلق الأمر بقضايا المجتمع.

وعبارة " لحكم الله " معناها عنده أن " الحكم للشعب" كما أن عبارة " الملك لله" تعنى أن الملكية للشعب، لا للأفراد، أي أنها للمجتمع فى مجموعه وسواء استطاع هذا التفسير أن يصمد للاختبار اللغوي والدلالي أم لم يصمد، فإنه يعيدنا مرة أخرى إلى تصور يتساوى فيه- بمعنى خاص- الله والبشر، ولكن بشرط أن نفهم من هذا أن المقصود بالبشر ليسوا هم الأفراد، بل هو المجتمع العادل والمنظم وفقا لمشيئة الله ، بهذا يصبح تعيين الإنسان نائبا عن الله هو أساس الاشتراكية الإسلامية.

وأخيرا فإن النصوص السابقة قد جمعت- بشكل أو آخر- بطريقة عشوائية ن إنها لا تصف التطور المباشر أو المستقيم لصورة موحدة عن الإنسان فى الإسلام فى العصر الحديث . ولكن الجدير بالتنويه أن المسلمين على مر العصور.

وفى العصر الحديث بوجه خاص ، قد اتجهوا إلى تصور للإنسان يزيد فيه عن أن يكون ( بالنسبة إلى ا لله ) مجرد شيء أو موضع، فهو مخلوق مكلف بأداء وظائف إلهية معينة، ومن ثم فهو شبيه بالله من بعض النواحي، أي أنهم اتجهوا إلى تصور الإنسان نائبا عن الله سبحانه فى أرضه.

ولا شك فى أن اللافت للنظر فى تكوين هذا التصور وتطوره هو إعادة تفسير مصطلح قرآني بما يخالف معناه الأصلي. ولابد أن المسلمين قد شعروا بحاجة ملحة إلى بلوغ هذه المرتبة الرفيعة.

وحتى لو سلمنا بهذا التفسير الجديد للنص القرآني ، فإن التصور العام للإنسان فى القرآن قد سمح بمثل هذا التغير والتطور فى الفهم والتفسير .

ولا نزاع فى أن الفحص الدقيق للاتجاهات التى سيسير فيها المسلمون، بعد أن أعطوا لأنفسهم حرية إعادة تفسير كلمات الوحي الالهى، سيكون أمرا بالغ الضرورة والأهمية .

7-نحو تنظيم موحد للمسلمين فى ألمانيا( 1989)

يبدو أن الوقت قد حان للتفكير الجدي فى اتخاذ خطوات ملموسة على الطريق إلى تكوين تنظيم موحد للمسلمين فى ألمانيا الاتحادية وبرلين الغربية.

والمشكلة واضحة ومعروفة : فلا يمكن أن يتوقع المسلمون أن تعترف بهم الدولة اعترافا كاملا ما لم يواجهوها باعتبارهم مؤسسة أو تنظيما موحدا.

وبصرف النظر عن هذه المهمة القانونية، فهناك مهام موضوعية عديدة لا يستطيع المسلمون أن يحققوها- أو لا يستطيعون أن يحققوها بصورة مرضية- بغير وجود مثل تلك المؤسسة أو ذلك التنظيم الذى يجمع شملهم.

وأول ما يخطر على بالى من هذه المهام هو التعليم الديني الذى يستحب على المدى الطويل أن يرسخ وجوده فى المدارس العامة، والذي لن يستغنى عن الاستعانة بالمعلمين الناطقين باللغة الألمانية ، ومن الأمور الطبيعية أن يكون إنشاء هذا التنظيم من شأن المسلمين أنفسهم.

ولكنى أرجو ألا يعد تعبير صديق من غير المسلمين عن خواطره حول هذا الموضوع نوعا من التدخل المزعج فى شئونهم .

ويبدو لي أن الأمر يحتاج إلى تأكيد مبدأين أساسيين هما:

1- يجب أن يكون التنظيم دوليا أو بالأحرى متجاوزا للحدود القومية. والواقع أن هذا لا يمثل من الناحية النظرية أي مشكلة، لأن الإسلام لا يعترف بوجود أي حدود أو حواجز قومية بين المؤمنين .
ولكن المشكلة الكبرى ، من الناحية العملية، هى كيفية تجميع مسلمين أتراك، وأكراد ، وإيرانيين ، وعرب من مختلف البلاد العربية مع مسلمين ألمان فى تنظيم واحد.
فمجرد اللغة يمثل عائقا لا يستهان به فى سبيل التفاهم بينهم. هذا إذا تغاضينا عن أن الناس فى كل مكان قد تعلموا على الدوام أن يحددوا هوياتهم من خلال انتمائهم لأوطان معينة، وأن يضعوا مصالحهم فى إطارات وطنية أو قومية، ولما كان الدين الإسلامى بطبيعته دينا عالميا .
فلن يتعذر إيجاد أشكال عملية وعادلة لإطار دولي يضم فى داخله جميع الأطراف.
2- يجب أن يكون التنظيم متسامحا، وذلك بمعنى أن يجعل التجاور والتعاون بين التصورات والاتجاهات والمذاهب الإسلامية المختلفة أمرا ممكنا. ربما كان هذا على المستوى النظري أمرا عسيرا.
فالمؤمن الواثق من إيمانه يميل على الدوام إلى الاعتقاد بأن تصوره عن الدين هو وحده التصور الصحيح ، وأن التصورات المختلفة عنه باطلة .
وتوجد فى صميم الجوهر الخاص بالأديان حدود يعتبر كل من يتخطاها منفصلا عن جماعته الدينية . والمسلمون وحدهم هم القادرون على تعيين هذه الحدود التى لا يجوز للمسلم أن يتعداها.
ولكن العظمة التاريخية للإسلام ترتكز إلى حد كبير على توسيعه لهذه الحدود إلى أقصى درجة ممكنة وضم مختلف الاتجاهات والتصورات والمذاهب داخل إطاره الرحب.
وربما لا ترجع عبارة " اختلافهم رحمة" إلى النبي عليه السلام نفسه، ولكنها تعبر عن الروح الحقيقية السمحة للإسلام .
ولهذا ينبغي على جميع المسلمين على اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم أن يتقبلوا بعضهم بعضا، ويتناقشوا بعضهم مع بعض، ويشتركوا معا فى التعبير عن مصالحهم.
وفى اعتقادي أن المسلمين من الألمان ستقع عليهم مسئولية كبيرة وسيؤدون دورا رئيسيا داخل التنظيم الذى يناط به تحقيق المهام السابقة.
ولا اقصد بطبيعة الحال أن يقوم هؤلاء المسلمون الألمان بإضفاء الطابع " الجرماني" على التنظيم المقترح، وإنما أقصد أنهم سيكونون مؤهلين للقيام بدور الوسيط بين الدولة الألمانية والرأي العام الألماني من ناحية ، وبين الجماعة الإسلامية من ناحية أخرى، وربما أمكنهم أيضا أن يتوسطوا بين الاتجاهات والمذاهب المختلفة لإخوانهم فى العقيدة والإيمان .
وأخيرا فإن لهم دورا خاصا فى تعليم الدين الإسلامى بالمدارس باللغة الألمانية. وتأهيل المعلمين الأكفاء للقيام بهذه المهمة الجليلة وينبغي على المؤمنين بديانتي التوحيد الأخريين أن يقفوا مع المسلمين فى كل هذه الأمور ويمدوهم بالرأي والعون.
ولعل إبداء الرأي والمشورة هو الأهم فى هذا السياق. فلا ينتظر من أحد أن يقدم للمسلمين وصفة خاصة من عنده تضمن لهم النجاح الأكيد ( لا ننسى أن المسيحية قد انتظمت فى كنائس عديدة، وأن فى اليهودية اتجاهات مختلفة ذات تنظيمات متباينة) ولكن المأمول أن ينتفع المسلمون من معرفة التجارب التاريخية التى مر بها المسيحيون واليهود، ومن متابعة المناقشات التى تدور فى هذه الأيام بين المسيحيين واليهود واستخلاص الدروس المفيدة منها.

8-الذين آمنوا ولم يهاجروا..البدو كجماعة هامشية فى المجتمع الإسلامى( 1986)

من بين الفريقين اللذين تكونت منهما الجماعة الإسلامية فى المدينة ، نجد تعريفا واضحا للأنصار بأنهم سكان المكان الذى وقف أهله مع الرسول صلى الله عليه وسلم وساندوه. أما الفريق الآخر، وهم المهاجرون، فقد كان يتألف من أصحابه فى الهجرة من مكة إلى المدينة. ولكن المشتكين فى الهجرة المبكرة إلى الحبشة ينبغي أيضا أن يحسبوا من المهاجرين .

وقد سمح بعد ذلك للمؤمنين الجدد بأن ينضموا لفريق المهاجرين، وإن لم يشترط فيهم جميعا القيام بالهجرة من " دار الشرك" إلى دار السلام، إذ عرف بعضهم باسم المهاجرين مع السماح لهم بالبقاء حيث كانوا يعيشون .

وهكذا نجد أن كلمة " مهاجر" أو " مهاجرى" أصبحت صفة لوضع قانوني ، بعد أن كانت مجرد وصف تاريخي .

وقد كان " المهاجرون من قريش" – طبقا لدستور المدينة- يظهرون فى مجموعهم ( كما أوضح مونتجومرى وات) فى وضع شبيه بوضع عشيرة دخلت فى حلف مع عشائر المدينة.

وعلى هذا الأساس كانت الجماعة الإسلامية ، أو " الأمة" تحالفا بين عشائر . ولم تكن تجمعا لأفراد .

صحيح أنه كان هناك اتجاه للمضي إلى أبعد من ذلك. فمن خلال " المؤاخاة" ألف النبي صلى الله عليه وسلم بين كل مهاجر وواحد من الأنصار . ويرى " وات" أن هذا قد تم على الأرجح قبل غزوة بدر .

ولكن يبدو أن هذه المؤاخاة كانت تنطوي على شيء أكبر من مجرد التزام الإخوة بالوقوف معا فى القتال .

فقد قام بين أولئك الإخوة- كما يفهم من بعض الأحاديث الشريفة- نوع من " الخلافة" المتبادلة .

ومع ذلك فقد أثبتت صلة الدم والرحم على ا لمدى الطويل أنها كانت أقوى من الروابط الجديدة فى داخل الأمة.

ويقال إن " الخلافة المتبادلة " بين المهاجرين والأنصار قد أبطلها القرآن الكريم وذلك كما جاء فى سورة النساء: " ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا" ( ألآية 33) . أ

و كما جاء فى سورة الأحزاب:" وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك فى الكتاب مسطورا" ( الآية 6 ) .

وفضلا عن ذلك فقد بقى الزواج من بين الفريقين أمرا " نادرا".

وإلى جانب المهاجرين والأنصار نجد فريقا ثالثا عرف بهم القرآن الكريم ولم يجدوا الاهتمام الكافي من قدامى المؤرخين.

فالقرآن الكريم يقابل ( فى سورة الأنفال ، الآية 72) بين " الذين آمنوا ولم يهاجروا " وبين " الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله " – أي المهاجرين- و" الذين آووا ونصروا " – أي الأنصار- وتصف الآية الكريمة كلا الفريقين ( أي المهاجرين والأنصار ) بأنهم " أولئك بعضهم أولياء بعض" ثم يخاطب عز وجل المهاجرين والأنصار) معا ويبلغهم أنه لا ولاية لهم على الفريق الثالث.

أي على " الذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا" ولكنهم إن سألوكم العون واستنصروكم فى الدين فعليكم أن تناصروهم، إلا أن يكون ذلك ضد من يكون بينكم وبينهم حلف أو ميثاق :" وإن استنصروكم فى الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق" ( الآية ).

من الواضح أن الآية الكريمة تشير إلى فريق من الناس الذين يحسبون من المؤمنين وإن لم يكونوا من المهاجرين ولا من الأنصار. والعلامة التى تميزهم من غيرهم هى أنهم لم يهاجروا ( مع النبي وأصحابه رضي الله عنهم) أو لم يقوموا بأي هجرة.

وإذا نظرنا فى سياق الآية الكريمة وعرفنا أن الهجرة أصبحت تدل على وضع قانوني، فلن يكون لدينا أي شك فى أن تعريف الفريق الثالث قد أصبح له كذلك طابع قانوني، والكلمتان الأساسيتان فى الآيات الكريمة هما أولياء ( جمع ولى) وولاية ( بفتح الواو وكسرها) وكلاهما مشتق من ولى .

وتستخدم الكلمة الأخيرة بمعان مختلفة. ولكن معناها الأصلي هو " القريب أو المقرب" والطبري فى تفسيره يعطى للكلمة معنى النصير والمعين وابن العم والنسيب ( أي القريب) والوريث، وإن كان يستبعد المعنى الأخير فى حالتنا هذه .

وهو المعنى الذى لا نستطيع – فى تقديري – أن نستبعده إذا تذكرنا ما سبق قوله عن " الخلافة المتبادلة " بين المهاجرين والأنصار .

وقد سبق أننبه ريتشارد بيل، فى ترجمته الانجليزية للقرآن الكريم ، إلى أن معنى " ولى" ينصرف إلى القريب الحميم الذى يلقى على كاهله واجب الأخذ بالثأر ، وذلك وفقا لما جاء فى " دستور المدينة" ( ولى ا لمقتول) – والمهم على كل حال أن الحد الأدنى للمعنى الذى يمكننا أن نأخذ به هو أن " ولى " و" ولاية " تفيدان الإلزام بالعون والمساعدة.

وما يجدر ذكره أن مثل هذا الإلزام للمهاجرين والأنصار نحو أفراد الفريق الثالث لم يتم إنكاره كل الإنكار، بل لقد فرض عليهما فى حالة طلب العون أو الاستنصار فى أمر من أمور الدين، اللهم إلا إذا كان المهاجرون والأنصار مقيدين بحلف أو ميثاق مع أولئك الذين يستنصرون عليهم.

ولكن من هم أولئك " الذين آمنوا ولم يهاجروا "؟ يبدو أن الطبري والمفسرين الأوائل الذين استشهد بهم فى تفسيره يجمعون على أنهم كانوا من البدو أو الأعراب. أضف إلى هذا أن مفسري القرآن الكريم- وذلك بقدر ما أعلم- لا يذكرون حادثة تاريخية محددة وراء نزول الوحي بالآية الكريمة السابقة، كما أن الباحثين المحدثين من الأجانب قد اختلفت آراؤهم إلى حد التناقض عن توقيت نزولها، فينما يضعها " بلا شير" و" باريت" بعد الهجرة مباشرة، نجد" نولدكه" يجعل تاريخها بعد غزوة بدر، ويوافقه بيل على ذلك وإن كان يرجح أن تكون عبارة " الذين آمنوا ولم يهاجروا " قد أضيفت فى وقت لاحق.

والواقع أن الآية الكريمة تتسق مع موقف حتم على القيادة الإسلامية أن تشعر بنوع من التوزيع بين العمل على تحقيق الهدف الديني، وهو بناء الجماعة الجديدة على أساس من العقيدة الخالصة والتوجه السليم من ناحية ، وبين الضرورة السياسية التى تقتضى كسب أكبر عدد ممكن من الحلفاء من بين القبائل العربية من ناحية أخرى، مع العلم بأن معظم هذه القبائل لم يكن لديهم الاستعداد الكافي للتجاوب مع ذلك الهدف الديني أو حتى مجرد فهمه.

ولعل هذا الذى يفسر المحاولات العديدة لتصنيف البدو بطريقة تبين أن من الممكن ، على الرغم من أن الحياة القبلية القديمة كانت مع الدين الجديد والانضمام إلى جماعته.

ولا عجب أن تؤدى تلك المحاولات لتصنيف البدو حسب مواقفهم من الإسلام إلى بعض النتائج التى لم تكن مقنعة، بل كان بعضها يتسم بقدر غير قليل من التناقض. خذ على سبيل المثال ذلك الحل الوسط الذى كان يرى إضفاء الوضع القانوني للهجرة على جماعات قبلية لم تقم فى الواقع بأي هجرة حقيقية .

وخذ كذلك الوعد بالجنة ( فى سورة التوبة الآية 10) لا للسابقين الأولين من المهاجرين الأنصار فحسب، بل كذلك. " للذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار" .. إلى آخر الآية الكريمة التى يقال عنها إن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه – لم يكن يشعر بالارتياح لمد رحمة الله وفضله عل أولئك " الذين اتبعوهم بإحسان" .

أو خذ أخيرا الآية الكريمة من سورة الحجرات التى تنكر على أعراب البدو إيمانهم وتبين أنهم لم يؤمنوا ولكن قالوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان فى قلوبكم..." إلى آخر الآية، فى الوقت الذى تصف فيه الآية الكريمة ( 72 من سورة الأنفال) أولئك الأعراب الذين لم يهاجروا بأنهم " الذين آمنوا".

ويزيد من غموض أوضاع هؤلاء " الذين آمنوا ولم يهاجروا" أننا لا نكاد نعرف شيئا عن حقيقة تلك الأوضاع أثناء حياة الرسول عليه الصلاة والسلام.

ومبلغ علمي أن هذه المحاولة تنسب لواحد من أهم المفسرين للقرآن الكريم وهو ابن عباس رضي الله عنهما، ولأحد أتباعه وهو " الضحاك" وقد أثبتها الطبري فى تفسيره .

وتقول هذه الرواية المنسوبة لابن عباس إن المؤمنين على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا مقسمين إلى " منازل" ثلاث أو أربع: المهاجرين ، والأنصار، والأعراب المؤمنين أو الأعراب المسلمين الذين آمنوا ولم يهاجروا ، إلى جانب أصحاب المنزلة الرابعة الذين يتألفون – إذا ذكروا أصلا- من "التابعين بإحسان"( وفقا للآية الكريمة رقم 10 .

من سورة التوبة التى سبق ذكرها) . ولما لم يكن هناك ذكر لأي واقعة تاريخية محددة عنهم . فيبدو من الممكن القول إن هذا التصنيف لا يعدو أن يكون مجرد اجتهاد فى تفسير نصوص الآيات القرآنية الكريمة.

مهما يكن الأمر فإن البدو المسلمين يظهرون مرة أخرى فى وقت متأخر.

وذلك فى سياق مناقشة دارت بين الفقهاء المتقدمين وتعكس فيما يبدو واقعة تاريخية جرت بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام .

ولعل أهم ما فى هذه المناقشة هو الحديث الشريف المنسوب إلى بريدة بن الحصيب الأسلمى الذى يذكر فيه بعض توجيهات النبي عليه السلام لقواد الحملات التى أرسلها لقتال الكفار، وأمرهم فيها بأن يخيروا أعداء الدين بين أمور ثلاثة:

(1) أن يدخلوا فى الإسلام ويهاجروا إلى دار المهاجرين.
(2) أو يدخلوا فى الإسلام بدون أن يهاجروا.
(3) أو أن يدفعوا الجزية فى حالة رفضهم الدخول فى دين الله.

فإذا اختاروا الأمر الثاني، أي الدخول فى الإسلام بغير هجرة، فإنهم يكونون كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله الذى يجرى على ا لمؤمنين ولا يكون لهم فى الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين وقد عثرت على حالة واحدة نسب فيها الحديث السابق إلى زيد بن أرقم لا إلى بريدة، كما وجدت حديثا آخر به توجيهات مماثلة للرسول عليه الصلاة والسلام وذلك برواية سلمان الفارسي .

وهناك فقرة من كتاب الخراج " لأبى يوسف" ترد بها تلك التوجيهات بصورة مبسطة ولا تنسب للرسول برواية بريدة بل برواية ابنه سليمان الذى يذكر اسمه فى بعض الروايات الكاملة لتلك التوجيهات بعد اسم أبيه مباشرة .

والرواية المنسوبة غلى عمر بن الخطاب تعرض على ا لكفار الخيارات الثلاثة المذكورة نفسها فى الحديث الذى تنسب روايته لبريدة . وذلك دون ذكر للبدو.

ومن المرجح أن رواية أبى يوسف تقدم النص الأصلي، الذى نسب فيما بعد إلى النبي عله الصلاة والسلام لإضفاء المصداقية عليه، كما أنها تلقى الضوء على أولئك الذين دخلوا فى الإسلام ورفضوا الهجرة حينما تقارنهم بالبدو المسلمين .

والواقع أن المناقشة الفقهية التى يثار فيها الجدل حول وضع البدو المسلمين لا تتطرق للتوجيهات الخاصة بالجهاد، وإنما تهتم بمناقشة الحق فى الحصول على نصيب من ذلك النوع من الغنيمة الذى يطلق عليه اسم الفيء أي الموارد التى تأتى من البلاد التى فتحها المسلمون وتوزع عليهم فى صورة " عطاءات" منتظمة.

وقد كان أول من نظم توزيع هذه العطاءات هو الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذى أمر بإثبات أسماء المستحقين لها فى قوائم سميت بالدواوين ( جمع ديوان) ومع أن عمر بن الخطاب ينسب إليه أنه وضع المبدأ القائل بحق جميع المسلمين فى تلك العطاءات. فمن السهل أيضا القول إن ذلك المبدأ لم يدخل أبدا حيز التنفيذ.

والتعبير العام عن هذه المناقشة الفقهية يمكن أن تلتمسه فيما قيل فيها عن المعيار الذى حل محل الهجرة لبيان أحقية شخص فى أن يكون عضوا كاملا فى الجماعة الإسلامية أو فى " الأمة" .

وذلك بعد أن أبطل فتح مكة معيار الهجرة مصداقا للعبارة المشهورة: لا هجرة بعد الفتح.

ومن ثم كان من السهل على من يريد أن يكون عضوا كاملا فى الأمة أن يعلن أن إسلامه كاف لتحقيق ذلك الغرض، بينما طالب الجانب المقابل بتعهد أو ضمان بالمشاركة فى الجهاد.

ليس من الممكن الدخول هنا فى تفصيلات هذا التطور. ولكن يمكن أن نستنتج من الحديث الذى رواه وسبق أن تناولناه بالبحث، أن هناك جماعة مهمة سرعان ما استبعدت استبعادا نهائيا من فئة المستحقين " للعطاءات " وهى جماعة البدو الذين لم يشاركوا فى الجهاد.وقد وجد الفقهاء بعد ذلك تفسيرا متسقا لهذا القرار- فيقول الماوردى الشافعي إن المسلمين بعد فتح مكة انقسموا إلى فئتين هما المهاجرون والبدو.

وهاتان الفئتان هما " أهل الفيء" – أي أصحاب الحق فى المشاركة فيه- و" أهل الصدقة" أي المستحقون لضريبة الصدقة وحدها.

وهو يعرف أعضاء الفئة الأولى بأنهم " ذوو الهجرة الذابون عن البيضة والمانعون عن الحريم والمجاهدون للعدو" – بينما يوصف العضو فى الجماعة الأخرى ، أي أعراب البدو، بأنه " من لا هجرة له وليس من المقاتلة عن المسلمين ولا من حماة البيضة" .

ولا شك فى أن لهذه التفرقة منطقها، لأن ضريبة الصدقة تحصل من جميع المسلمين وتخصص قبل كل شيء لإنفاقها على الجماعة المحلية. بحيث لا يمكن أن يحرم منها البدوي المسلم.

أما " الفيء" فهو غنيمة حرب مخصصة للمقاتلين فى سبيل الله أو للأمة فى مجموعها ، وطبيعي أن تحرص الأمة من جانبها على إنفاقها على المقاتلين.

والحق أن تعبير الماوردى متسق غاية الاتساق، وأن غيره من الفقهاء لم يذهب إلى الحد الذى ذهب إليه. فأبو حنيفة لم يقصر إنفاق " الفيء" و" الصدقة" على الفئتين السابقتين من المسلمين .

أما أحمد بن حنبل فقد اعتبر أن " الفيء" ليس من حق جماعة مخصوصة ، بل هو من حق المسلمين أجمعين .

وأما الفقيه الذى فحص المسألة فحصا دقيقا وشاملا فهو أبو عبيد ( المتوفى سنة 228 للهجرة – 838 ميلادية) وقد أقر بصحة الحديث الشريف الذى رواه بريدة وتضمن استبعاد البدو المسلمين من غير المهاجرين لفترة زمنية محددة من أن يكون لهم نصيب فى الفيء .

ولكنه وجد أن كلا من الحديث والأوامر والتعاليم المرتبطة بالهجرة قد بطل العمل بهما بعد ذلك بحيث أصبح من حق المسلمين جميعا.

بما فيهم غير المهاجرين، أن يحصلوا على أنصبتهم من مال " الفيء" ولكن " أبو عبيد" قصر حق البدو فى الحصول على هذا المال على الحالات الطارئة والمفاجئة المترتبة على هجوم المشركين وعلى المجاعة والأخذ بالثأر ، كما قرر أن " أهل الحاضرة" من السكان المقيمين الذين دافعوا عن الإسلام هم وحدهم الذين يستحقون العطاءات المنتظمة.

ويبدو أخيرا أن الإمام الشافعي ( المتوفى سنة 204 هـ - 820م) كان محقا كل الحق عندما قال : لم يختلف أحد ممن قابلتهم على أن البدو الذين يستحقون الصدقة لا حق لهم فى العطاءات.

هكذا كان من المهم لأغراض عملية ، وبعيدا عن صيغ الفقهاء وتعبيراتهم الدقيقة ، أن يستثنى البدو من حق الحصول على العطاءات- لا بالفعل فحسب، بل كذلك من الناحية القانونية أو الشرعية- وذلك بحكم كونهم لم يشتركوا مع الجيوش الإسلامية فى الجهاد. وهذا يتسق تماما مع الموقف التاريخي .

فقد حارب الإسلام النزعة القبلية لدى البدو الأعراب، وطالب المؤمنين ، على المستوى الفكري ، بالخضوع لأوامر الإله الواحد بدلا من السعي وراء تحقيق الحياة والذات عن طريق المشاركة فى أمجاد القبيلة، كما طالب البدو- على المستوى الاجتماعي- بترك القبيلة والانضمام إلى الجماعة الإسلامية العالمية- وإذا كان بعض البدو قد منحوا الوضع الشكلي للهجرة بغير القيام بهجرة حقيقية ، فإن مثل هذه الحالات بقيت مجرد حلول وسط استثنائية .

فالواقع أن غير المهاجر قد نظر إليه بوجه عام بوصفه مسلما من الدرجة الثانية . وعندما بدأ المد الإسلامى .

حلت المشاركة فى الجهاد محل الهجرة وأصبحت هى المعيار الذى يقاس عليه إيمان المسلم الصحيح. والواقع أن هذا لم يكن شيئا متعارضا مع أسلوب الحياة البدوية، فالمحاربون- الذين يفترض فيهم أن يكونوا دائما على أهبة الاستعداد وتحت الطلب- كانوا ملزمين بالعيش داخل " الأمصار" أو " مدن العسكر".

وعندما تحولت العطاءات التى كانت تمنح لكل مسلم صحيح الإسلام مع مرور الزمن إلى أجور الجند. فقدت التفرقة الشكلية بين المسلم الصحيح والبدوي الكثير من أهميتها.

وقد تزامن ذلك التطور مع بروز ظاهرة أخرى، وهى خضوع أعداد ضخمة من سكان الريف للحكم الإسلامى، الأمر الذى جعل فقهاء المدن يعتبرون من وجهة نظرهم أن العلاقة بين هؤلاء الريفيين أو الفرحين وبين الجماعة الإسلامية شبيهة بعلاقة البدو بها. وقد لاحظ أبو عبيد على سبيل المثال ،فى سياق المناقشة السابقة الذكر، أن " من سكن القرى والسواد ( أي الأرض الزراعية ) والجبال، ينطبق عليهم الوضع الشرعي نفسه الذى للبدو. ومع ذلك فقد استمر عزل البدو واعتبارهم الجماعة الهامشية بالذات داخل المجتمع الإسلامى.

9-الدور السياسي للإسلام ( 1983)

إن الحركة الإسلامية الكبيرة فى هذه الأيام، وأقصد بها الموجة التى يطلق عليها اسم " البعث أو الإحياء الإسلامى" أو " الصحوة الإسلامية" تتكون فى حقيقة الأمر من مجموعة متنوعة من الحركات الفردية التى تحددها الظروف المختلفة فى ا لبلاد الإسلامية، وليس من شك فى أن العنصر الإسلامى الكامن فى هذه الحركات، بل المصطلح الذى تعبر به عن أفكارها وأهدافها، يمثل بعض السمات المشتركة بينها، ومن أبرز هذه السمات ذلك الشعور المتجدد بالتضامن أو التكافل الإسلامى الذى يجمع بينها.

ومع ذلك فلو نظرنا نظرة أعمق، لوجدنا أنها تشترك أيضا فى عنصر أهم وأخطر، يتجاوز دائرة الشعوب الإسلامية ليشمل الشعوب النامية- وذلك هو الموقف التاريخي العام لكل الشعوب التى ما زالت متخلفة بالقياس إلى الأمم الصناعية الحديثة، وما زالت تجد نفسها معتمدة عليها وتابعة لها، وإن كانت تسعى اليوم بكل السبل للتحرر من هذه التبعية.

ولست فى حاجة للحديث عن الأسباب التى عملت على ظهور هذا الموقف: كيف الدول الأوربية . وتبعتها بعد ذلك الولايات المتحدة الأمريكية ، بقية دول الأرض تحت سيطرتها الاقتصادية والحضارية ، وكيف أحكمت هذه السيطرة بعد ذلك بفرض هيمنتها السياسية على معظم هذه الشعوب.

ويجب أن نكون على وعى تام بأن هذه السيطرة السياسية الأجنبية على معظم أجزاء الأرض لم تنته إلا منذ وقت قصير نسبيا . وأن التخلف الاقتصادي والحضاري، الذى يعنى التبعية، لم يزل قائما كما كان، بل لم يزل من الصعب أن نتبين معالم الطرق التى يمكن أن تؤدى إلى تجاوز ذلك التخلف وتلك التبعية.

والواقع أن الشعوب المقصودة على وعى كامل بهذا الموقف، ويرجع هذا إلى أن معظمها لم يتخلص من السيطرة السياسية الأجنبية إلا منذ عهد قريب، ومن الطبيعي أن تتفاوت الأشكال التى يظهر بها هذا الوعي وأن تختلف من شعب إلى شعب.

لننظر، على سبيل المثال ، غلى الشعوب العربية- فق تصورت، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أنها قد وجدت الطريق إلى الاستقلال الحقيقي فى القومية العربية الشاملة تحت زعامة جمال عبد الناصر، ولكن خيبة الأمل سرعان ما نشرت ظلالها الكئيبة بعد حقبة غمرتها فيها نشوة وطنية عارمة.

إن دولة إسرائيل ، وهى جسم غريب زرع فى المنطقة العربية ( وقد كان ولا يزال هو أقوى حافز لتحقيق القومية العربية) لا تزال قائمة، ولا يبدو فى الأفق أي فرصة واقعية للخلاص منها وتجنب خطرها. بل إن الجبهة العربية الموحدة ضد إسرائيل قد تمزقت بعد خروج مصر منها .

أضف غلى هذا أن الوحدة العربية قد أصبحت اليوم فى وضع أكثر إشكالية من أي وقت مضى، كما أن حركة المقاومة الفلسطينية – قد عجزت عن تحقيق الأمل أن تكون نواة تجديد شامل للكيان العربي، وأما حزب البعث العربي- الذى كان مهيأ قبل غيره من الأحزاب لتولى زمام الحركة القومية العربية بعد وفاة عبد الناصر- فهو عاجز حتى عن تحقيق الوحدة بين القطرين اللذين يحكمهما وهما سوريتا والعراق.

ووصلت الأزمة فى لبنان إلى حد نشوب حرب أهلية طاحنة لم تطفأ نيرانها إلى اليوم . وها هى الصراعات العربية تشتعل فى الشمال الافريقى حول الصحراء الغربية كما تتفجر الخلافات بين تونس وليبيا.

ويرجع جزء من هذه الظواهر المقلقة فى علاقات بعض الدول العربية ببعضها ، بصورة مباشرة للتأثيرات الأجنبية ، ولكن من الواضح أن جزءا كبيرا منها( أي من تلك الظواهر المقلقة) قد نجم عن تعثر خطوات التنمية والتقدم داخل تلك المجتمعات، وإن كانت أسباب ذلك غير مقطوعة الصلة بالتبعية للقوى الأجنبية .

ويصدق هذا أيضا على ا لتطورات السياسية والاجتماعية فى تلك الدول. صحيح أن معظم البلاد العربية قد مرت بفترات ليبرالية تحكمت فيها قوانين السوق الحرة فى الاقتصاد، وعرفت فيها الحياة السياسية النظام البرلماني والنظم الحزبية.

ولكن الاقتصاد الليبرالي إلى أدى تفاقم حدة الفروق الاجتماعية، والنظام الليبرالي أثبت فشله وعجزه عن توجيه خطط التنمية ومشروعات التطوير لمصلحة المجتمع بأكمله.

وكانت نتيجة ذلك أن حلت محل النظم الليبرالية نظم عسكرية ارتكزت على نظام الحزب الواحد وتبنى معظمها الأهداف الاشتراكية، ومع ذلك بقيت النجاحات الاقتصادية لهذه النظم موضع شك من جوانب كثيرة، كما أنها عجزت عن التغلب بصورة فعالة على ا لفروق الاجتماعية، وذلك فضلا عن تولد الانطباع بأن تلك النظم العسكرية مرتبطة ارتباطا شديدا بسيطرة البيروقراطية ، وقمع الحريات المدنية ، والإجراءات البوليسية المخيفة .

ويبدو اليوم أن ذكرى تلك الوصمات ما زالت تجثم بثقلها على عهد عبد الناصر الذى يمثل ذروة القومية العربية .

وما دمنا نواصل الكلام عن الحالة فى مصر، فيمكن القول إن نظام أنور السادات – الذى يحاول أن يجمع بين السلطوية والليبرالية- لا يمثل بديلا مقنعا عن النظام الناصري.

والواقع أن هذه الأحكام السلبية عن التاريخ المعاصر للبلاد العربية لم تأت نتيجة تحليل موضوعي يمكن أن يكون أكثر دقة وتفصيلا .

فهي تكتفي بتقديم فكرة موجزة عن الوعي العام لدى العرب، وتستند هذه الفكرة إلى الشواهد العديدة المستمدة من الأدب والصحافة.

ومنها ذلك الحوار المستفيض الذى دار فى الفترة الأخيرة عن " ربع قرن من حركة التحرر العربي" منذ استيلاء الضباط المصريين على دفة الحكم فى سنة 1952.

ولا يختلف عن ذلك حال ا لبلاد الإسلامية الأخرى التى سادها مثل هذا الوعي العام الذى وصفناه. صحيح أن عناصر هذا الوعي قد تشكلت بصورة أخرى، ولكنها بقيت فى مجموعها قائمة .

لقد بدأ العصر الحديث فى تركيا تحت ظل الروح الكمالية( نسبة إلى الثورة العلمانية لمصطفى كمال أتاتورك) باقتصاد الدولة وحزب الدولة.

ثم ما لبثت أن أعقبتها حقبة تبادلت فيها الأحزاب الرأسمالية والأحزاب الاجتماعية الديمقراطية مقاليد السلطة تحت رقابة العسكريين ، وذلك دون أن تنجح فى حل مشكلات التنمية حلا مرضيا" .

وكان من نصيب المبادرات الأولى لبناء نظم برلمانية فى إيران أن تقضى عليها الحكومات الملكية المستبدة التى فشلت سياسات التحديث التى شرعت فيها- وكان من الممكن بفضل الدخول الضخمة من بيع النفط أن تحقق تقدما ملحوظا- فشلا ذريعا فى التأثير فى جماهير الشعب العريضة وتحسين أوضاعها.

والواقع أن خيبة الأمل المريرة- التى يسهل أن تتحول إلى ا لتمرد والثورة- لم توجه فى الأساس إلى التحدي فى ذاته. بل إلى نوع من التحديث الذى لم يجلب على الناس نفعا ولم يشعرهم بأي تقدم ملموس، وإنما جلب عليهم الضرر الشديد وزاد من إحساسهم بالضياع.

ويرتبط بخيبة الأمل فى مثل ذلك النوع من التحديث الفاشل والثورة عليه شعور بالتمرد والاحتجاج على مصادره والممثلين له، أى على القوى الصناعية الغربية التى لم تكتف بجعل الشعوب الأخرى تابعة لها، بل إن مخترعاتها ، وأفكارها، وخططها فى التنمية قد جرت عليهم الشقاء والتعاسة، ويقترن بهذا شعور آخر بالتمرد والاحتجاج على الطبقات، "المتغربة" داخل المجتمعات الإسلامية ذاتها، وهى الطبقات التى سعت- سواء بحسن نية أو مدفوعة بأطماع أنانية- إلى إدخال تلك المخترعات والأفكار والخطط إلى بلادها وإغراء الشعوب بتبنيها.

ومن الطبيعي- إزاء تلك التبعية للقوى الأجنبية وخيبة الأمل فى التصورات والأفكار الأجنبية- أن يتوجه الناس إلى المألوف لديهم.

ويستمدوا القوة من منابعهم، ويلتمسوا " السند" فى ما هو خاص لديهم. وذلك على نحو ما عبر المستشرق فالتر براونه فى كتابه عن الشرق الإسلامى بين الماضي والمستقبل .

هذا المألوف وهذا السند الخاص- بالنسبة للشعوب الإسلامية – هو الدين الإسلامى.

وليس هذا شيئا جديدا على الجماهير العريضة ، إذ كان الإسلام دائما هو العلامة الأساسية المميزة لهويتها الجماعية، وكان الانتماء للجماعات الدنيوية الأخرى، كالوطن أو الطبقة، أمر ثانويا يضاف للانتماء الإسلامى.

أما الشعوب التى لا توجد بها أقليات دينية تستحق الذكر، فيلتقي عندها الوعي الوطني والهوية الدينية فى وحدة واحدة، ويصدق هذا أيضا على الوعي الطبقي، خصوصا عندما تبدو الطبقات العالية متغربة ومنبتة عن الإسلام.

وتنشأ الصراعات بين الهويات المختلفة عندما يعلن أبناء الديانات الأخرى انتماءهم الصريح للوطن أو للطبقة. ولكن هذه الصراعات ظلت تكبت بوجه عام، بحيث لا يتم حسمها بوضوح ولا توجهها وجهة جديدة.

وتختلف الظروف عن ذلك بالنسبة للمثقفين ، إذ تميل هذه الفئة بحكم طبيعتها للتأمل فى إشكالية التطورات الحديثة، لذلك سرعان ما أدرك المثقفون ضرورة التعلم من الأجانب المتفوقين والتكيف مع نظامهم العالمي الجديد ولو فى حدود معينة، بينما أحسوا فى الوقت نفسه بالحاجة الشديدة للجوء إلى " السند الخاص" .

وقد أدى ا لوعى بهذه المعضلة إلى مناقشات وخلافات فى الرأي يمكن أن نميز فيها أربعة اتجاهات رئيسية ، وإن لم يكن من المستطاع الفصل بينها فى الحالات الفردية فصلا قاطعا".

(1) الاتجاه الأول هو اتجاه أصحاب " النزعة التراثية" أو النزعة التقليدية الذين يسعون بكل ما فى وسعهم للحفاظ على النتائج التى توصل إليها العصر الوسيط الإسلامى. وهذا الموقف المحبب إلى أصحاب التدين الفطري من أبناء الطبقات الشعبية العريضة بمثله علماء الدين بصور متفاوتة فى فاعليتها.
وهذه الفئة التى شغل أصحابها مراكز مرموقة وقوية التأثير فى المجتمع التقليدي، تجد نفسها فى الوقت الحاضر وقد زحزحت عن أماكنها، ويكفى لكي نفهم موقفها أن نفكر فى النظام القانوني والقضائي وفى نظام التعليم، والواقع أن كل ما يهم هذه الفئة هو استعادة تأثيرها القديم.
(2) أصحاب " النزعة الأصولية" وينبغي أن نفرق بين أصحاب هذه النزعة وبين الممثلين للنزعة السابقة ( التراثية أو التقليدية) لأن الأصوليين بوجه عام ينفرون من علماء الدين التقليديين ، بل ويحملونهم إلى حد كبير مسئولية الأوضاع المتردية للمسلمين، ويرجع السبب فى هذا إلى أن الأصوليين يرفضون التاريخ( الإسلامى) الوسيط، ويرون أنه يمثل عملية تدهور مستمر للإسلام، ولهذا يدعون للرجوع إلى " الإسلام الأصلي" كما بلغ النبي ( عليه الصلاة والسلام) رسالته وأدى أمانته وحققه فى عهده.
ولما كانت الأصولية تعد الناس بتغييرات حاسمة ، فقد عملت فى أحيان كثيرة على تكوين منظمات نشطة وحركات شعبية ذات تأثير واسع.
ويتميز الاتجاه الأصولي بتقديره لدور التعليم الحديث، ولذلك نجد بين أنصاره عددا كبيرا من المهندسين والأطباء والضباط والمعلمين... الخ وقبل كل شيء من طلاب الجامعات الحديثة.
(3) أصحاب الاتجاه " الحداثى" يتفقون مع أصحاب الاتجاه الأصولي السابق فى رفض التاريخ الإسلامى الوسيط، ولكنهم لا يرفضونه رغبة منهم فى إحياء " الإسلام الأصلي" والرجوع إليه، بل للتحرر من عبثه التاريخي الضخم، ومحاولة تحقيق مبادئ الإسلام المتعالية على التاريخ فى العصر الحاضر.
ويكافح أفضل ممثلي الاتجاه الحداثى لتفسير الإسلام تفسيرا جديدا ونابعا من المعارف المكتسبة فى العصر الحاضر ومن حاجاته الملحة. لا شك فى أن هذه المهمة صعبة وأنها تقابل فى كثير من الأحيان بالسخط والنفور من جانب الشعب.
ويكتفي بعض السطحيين من الحداثيين بنوع من التنوير الرومانسي للإسلام، فيؤكدون – بنبرة دفاعية- أن الإسلام ينطوي منذ نشأته على العقلانية ، والعلم الحديث ، والديمقراطية ، والاشتراكية ... إلخ.
بحيث لا يحتاج المسلمون إلا لإحياء هذه العناصر الكامنة فى دينهم وبعث النشاط فيها لكي يثبتوا وجودهم فى العالم.
(4) وهناك عدد لا يستهان به من المثقفين المسلمين الذين يتبنون " الاتجاه العلماني" ويؤمنون بأن على الإنسان فى العالم الحديث أن يهتدي فى كثير ن مجالات العمل والحياة بالأطر الدنيوية والعلمانية ويرى عدد كبير من العلمانيين ألا تناقض بين الدعوة لهذا الاتجاه وبين إيمانهم الشخصي بالإسلام- فهم يفصلون مجال الدين على مجال العلم والعالم، على نحو ما تعلمنا، نحن المسيحيين . أن نفعل منذ زمن طويل. ولكن من الطبيعي أن نجد بين العلمانيين من لا يعنيهم الدين فى شيء، أو من يرفضونه وينكرونه تماما .
إن العلمانيين والحداثيين يبذلون جهودهم لتقديم أفكار وتصورات تؤدى إلى التماهى مع الجماعات العلمانية كالوطن والطبقة .

ولكن المثقفين والسياسيين من أصحاب الاتجاهين السابقين قد أصبحوا اليوم ضحايا خيبة الأمل الكبيرة فى النتائج التى تمخضت عنها التطورات الحديثة ، ولذلك يتهمون – باعتبارهم يمثلون النخب المثقفة ثقافة غربية- بتحمل قدر كبير من الذنب أو من المسئولية عما حدث من فشل أو تراجع وانتكاس.

ولهذا يميل اليوم عدد كبير من ممثلي هذه النخب إلى مداراة العناصر العلمانية فى أفكارهم ومشروعاتهم وتأكيد العناصر الإسلامية بصورة متزايدة- إما كإجراء " تكتيكي" وإما عن اقتناع بضرورة الاقتراب من الجماهير وبأن لا سبيل لتحقيق أي تقدم ملموس إلا بالوقوف مع الشعب لا ضده، وإما أخيرا بسبب شعورهم أيضا بخيبة الأمل الكبيرة فيما أسفرت عنه التطورات الحديثة من نتائج، ومحاولتهم البحث عن طريق أو توجه جديد.

والواقع أن المشاركة المتزايدة للنخب الحديثة تمثل العنصر الجديد بحق فى الحركات الإسلامية المعاصرة كما تضفى عليها دون شك قدرا كبيرا من النشاط والفاعلية.

إن اتخاذ مواقف مؤيدة لسياسة إسلامية أمر يتفق مع التصور التقليدي بأن الدين والسياسة فى الإسلام لا ينفصلا.

والواقع أن الجماعة الإسلامية لم تكن منذ البداية- أي منذ هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة فى عام 622 م الذى يبدأ به التاريخ الهجري- جماعة دينية وحسب، وإنما كانت دولة كذلك ( على العكس من المسيحية التى لم تصبح ديانة للدولة إلا بعد ثلاثة قرون ونصف القرن من نشأتها) .

ولكن كيف يكون شكل الدولة الإسلامية ؟ إن المصادر الأولى للدين الإسلامى لا تقول إلا القليل فى الإجابة عن هذا السؤال. أما القرآن الكريم فلا نجد فيه إلا الأمر الالهى بطاعة أولى الأمر العادلين " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم" ( سورة النساء الآية 59) وكذلك ألأمر الالهى بأن يتشاور المؤمنون فيما بينهم :" وشاورهم فى الأمر " ( سورة آل عمران الآية 159) ، " وأمرهم شورى بينهم" ( الآية الكريمة 38 من سورة الشورى) والمؤسسات "الحكومية " التى أوجدها الرسول عليه الصلاة والسلام فى أثناء حياته، مرتبطة أشد الارتباط بالظروف التاريخية بحيث لا يمكن- إلا بصورة عامة جدا- أن تكون نموذجا لدستور دولة حديثة.

لذلك فلا مفر من أن تكون الإجابة عن السؤال عن شكل الدولة الإسلامية فى العصر الحاضر من شأن الناس أنفسهم. والحركات الإسلامية نفسها هى وحدها التى يمكنها تقديم الجواب لمن يسألها عن أهدافها. ولكن سيتضح لمن يطرح السؤال- كما سبق القول- أنه لا توجد حركة واحدة بل عدة حركات.

بيد أن هناك نقطة واحدة يبدو أن الإجماع ينعقد عليها، وهى أن مهمة الدولة الإسلامية هى تطبيق الشريعة. والواقع أن الشريعة ذات أهمية عظمى فى الإسلام إلى حد أن التعريف التقليدي ( أو الكلاسيكي) للمسلم هو أنه ذلك الإنسان الذى يتمسك بالشريعة الإسلامية .

والشريعة تطمح إلى أن تكون شمولية ، أي أن تنظيم حياة الإنسان بأكملها، سواء فى ذلك صلاته أو سلوكه فى المجتمع.

ويلاحظ من جهة أخرى أن الدول الحديثة فى العالم الإسلامى قد عمدت – متأثرة فى ذلك بالغرب- فى مجالات قانونية كثيرة إلى إدخال قوانين معتمدة كل الاعتماد على نماذج غريبة، ولا يستثنى من هذا سوى قوانين الأسرة والميراث( أي قوانين الأحوال الشخصية) التى بقيت فى جوهرها قوانين إسلامية.

وهكذا يعتبر الرجوع إلى الشريعة الإسلامية – بطموحها الشمولي- مشروعا بالغ الضخامة والأهمية ، ومع ذلك فمما ييسر الأمر أن الشريعة الإسلامية ليست نظاما جامدا، صحيح أن الله وحده هو المشرع.

وأن التعاليم الشرعية التى نزل بها الوحي الالهى فى القرآن الكريم تعاليم أبدية ثابتة: ولكن المسلمين ، وعلى الرغم من ذلك سرعان ما وجدوا أنفسهم مضطرين بحكم الضرورة للتوسع فى هذه التعاليم، وذلك عن طريق الاقتداء بالسلوك الأمثل للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن خلال الإجماع واللجوء، فى كثير من الحالات ، إلى قياس الشبيه وبذلك أحسوا بالحاجة الشديدة إلى الاجتهاد فى تفسير التعاليم التى جاء بها القرآن الكريم ، ووجدوا الطرق والوسائل التى تعينهم على ذلك.

لنأخذ ، على سبيل المثال، مسألة قطع اليد عقابا للسارق. فالآية الكريمة تقول بوضوح: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم" ( سورة المائدة 38) ولكن علماء الشريعة حددوا مجموعة من الشروط التى تجعل تنفيذ تلك العقوبة القاسية أمرا عسيرا. وهم يرجعون فى ذلك- فيما يرجعون إليه- إلى قول الخليفة عمر بن الخطاب ( وهو الرمز المجسد للعدالة الإسلامية) بألا تقطع يد فى مجاعة ، ثم يتخلصون القاعدة العامة التى تنص على إعفاء المحتاج من تلك العقوبة.

والمثل السابق يلقى الضوء على المستوى الرفيع لعلم الشريعة فى الإسلام، وعلى قدرته الفائقة على أخذ الظروف الفردية والاجتماعية الخاصة بعين الاعتبار. وقد أكد هذا العلم على مقاصد الشرع والمصلحة العامة وجعلهما معيارين لتفسير النصوص، كما وضع مبادئ قيمة.

مثل مبدأ التعاليم الشرعية وفقا لتغير العصور والأزمان ، بما يعنى وضع الشريعة فى التاريخ أو الإقرار " بتاريخيتها" بذلك أصبح التوصل- على مستوى آخر لا يقل أهمية، ومع الإجماع الكامل من حيث المبدأ على ثبات الأسس القرآنية وعلوها على الزمن- إلى تشريعات خلاقة وشديدة التنوع أمرا " ممكنا" وضروريا .

كما نشأت فى الوقت نفسه مشكلة كبيرة تتعلق بتحديد أولئك الذين يملكون الكفاءة والصلاحية لإصدار مثل هذه التشريعات الخلاقة.

كان الحل التقليدي المألوف لهذه المشكلة هو إسناد هذه الصلاحية لعلماء الشرع. والإسلام لا يعرف نظام الكهانة ، ولكنه يعرف العلماء الذين يملكون العلم المطلوب لتفسير الشرع، صحيح أنهم فقدوا إلى حد كبير تلك المكانة المرموقة التى حظوا بها على مر التاريخ. ولقد كانوا فى بعض الأحيان يجندون علمهم لوضع حد لسلطة الحكام والتدخل بذلك فى أمور السياسة ، ولكنهم صاروا فى العهود المتأخرة تابعين للحكام الذين استغلوهم لتأييد مصالحهم، وفى العصر الحديث كما سبق القول، أدت " علمنة" الحياة إلى انكماش تأثيرهم. ومع ذلك فما زال علماء الإسلام، فى نظر الجماهير الشعبية العريضة التى تستمد هويتها من الإسلام ، يتمتعون بقدر كبير من الهيبة والاحترام والتأثير الذى قد يستغل أحيانا لأغراض سياسية .

مهما يكن الأمر فهناك دولة إسلامية واحدة قامت فى إيران على أساس تلك الهيبة وذلك الاحترام. ويمكن تفسير هذا من خلال الظروف الخاصة السائدة هناك.

فالاتجاه الشيعي المهيمن يتيح لعلماء الشريعة وضعا أسمى بكثير من وضعهم فى البلاد التى يسودها الاتجاه السني. والواقع أن السلطة العليا عند الشيعة يمثلها الإمام المعصوم الذى وهبه الله المعرفة العميقة بالمعاني الخفية للقرآن الكريم .

وهذا الإمام المعصوم هو وحده الذى يمكنه أيضا أن يتولى مقاليد الحكم لدولة شرعية. غير أن هذا الإمام الثاني عشر والأخير قد اختفى، فى نظر المذهب الشيعي، ولن يعود مرة أخرى لكي يحكم الأرض إلا فى آخر الزمان وحتى يحين ذلك الوقت فلا يمكن ، أولا : أن توجد دولة شرعية كما يجب ثانيا : على المؤمنين أن يسترشدوا فى سلوكهم بعلماء الشرع الذين ينوبون عن الإمام المعصوم، بل يجب على كل مؤمن أن يتبع أحد علماء الشرع الأحياء ويجعله مرجعه وحجته .

بذلك استطاع علماء الشيعة أن يحتلوا مكانة مرموقة، ويمارسوا تأثيرا غير عادى. وقد استطاعوا أيضا أن يحافظوا على تلك المكانة ويثبتوا ذلك التأثير بنجاحهم فى الاستقلال عن الدولة القائمة التى اعتبروها- بصورة قبلية- دولة غير شرعية، وبتحصيلهم لضرائب خاصة بهم، ووضعهم كل ثروتهم تحت إشرافهم ورقابتهم.

وهكذا أمكنهم- وهم فى ذلك يمثلون الجماعة الوحيدة فى الاسم- أن يقيموا ما يشبه الكنيسة أو المؤسسة الدينية التى ت حافظ على استقلالها فى مواجهة الدولة.

ولما ازداد اغتراب الجماهير العريضة عن الدولة واتخذ صورا عنيفة، تقدمت هذه "المؤسسة الدينية الشيعية " لقيادة الحركة الشعبية الثائرة على الدولة التى كان رئيسها الأعلى، وهو الشاه، يعد عدوا " للدين ومن ناحية أخرى خرجت من بين صفوف علماء الدين شخصية زعيم مقنع هو آية الله الخميني الذى نجح نجاحا مذهلا فى معارضته للشاه.

وقد استطاع الخميني، من خلال وعيه برسالته. أن يصبغ التصور الشيعي عن مهمة علماء الشرع بصبغة جديدة. فلم تقتصر مهمة العلماء على إصدار التعليمات الشرعية، بل امتدت إلى تولى مهام الحكم. وقد عبر دستور الجمهورية الإسلامية فى إيران عن هذا التصور الجديد تعبيرا واضحا فى المادة الخامسة التى تقول:

" فى زمن غياب الإمام المعصوم( أي الإمام الثاني عشر فى ترتيب الأئمة المعصومين) – عجل الله تعالى بعودته- يعهد بسلطة الحكم فى جمهورية إيران الإسلامية وبقيادة الجماعة لواحد من علماء الشرع يتصف بالعدل، وتقول الله ، والشجاعة، والحكمة والبصيرة، بحيث تعترف به الجماعة وتقبله زعيما لها.

وإذا لم يوجد عالم شرعي توافق عليه الأغلبية ، يتولى مهمته زعيم أو مجلس زعماء مكون من صفوة علماء الشرع، وذلك وفقا للمادة 107 من الدستور"هكذا يكون عالم الشرع قد وصل إلى أعلى سلطة، وتولى رئاسة الدولة وأضفى عليها الشرعية التى كانت تفتقدها .

والواقع أن التركيب الملفت للنظر لهذه الدولة يعتمد اعتمادا مباشرا على لمذهب الشيعي- أو بالأحرى على صورة خاصة من هذا المذهب- ولكنه كذلك يضم الشعب الذى يتحتم أن يعترف بالزعيم الديني، حتى لو كان ذلك الاعتراف بشكل غير رسمي، إذ يقتصر إجراء الانتخاب للزعيم أو لمجلس الزعامة على الحالات المشكوك فيها.

ويعد صوت الشعب هنا بمثابة صوت الله ، وتلك فكرة يبدو أنها تملكت وجدان آية الله خمينى بحيث جعلته يهتم أعظم اهتمام بالانتخابات والمظاهرات الشعبية أو بالطلاب الذين قاموا باحتلال مبنى السفارة الأمريكية فى طهران.

وقد أثبت الدستور- فى المادة 56 – مبدأ السيادة الشعبية – وينتظر كذلك تشكيل نظام من المستشارين على المستوى المحلى والمستوى الوطني بحيث يشارك السكان فى تنظيم الشئون العامة وفى رئاسة المجلس الوطني الذى يملك الحق فى تشريع القوانين ( وذلك حسب المادة 71) وإذا بدا هذا مناقضا للمعتقد الإسلامى الذى يقرر أن الله وحده هو المشرع، فإن المشكلة تحل بوضع جميع القوانين التى أقرها المجلس الوطني أمام " مجلس مراقبين" مكون من علماء الشرع الذين يفحصون هذه القوانين ويحكمون بمطابقتها للشرع أو مخالفتها له ( المادة 91)

من الواضح أن تركيب الجمهورية الإسلامية لا يخلو من مشكلات . فماذا يحدث مثلا لو اختلفت آراء أغلبية الأعضاء المنتخبين من الشعب عن آراء علماء الشرع؟

والمشكلة الأعقد من ذلك تأتى من تدخل الزعيم الديني تدخلا " مباشرا" فى المسئولية السياسية- إذ يجب عليه – بحكم الدستور- أن يقر تعيين رئيس الدولة بعد انتخابه من قبل الشعب وكذلك إعفاءه من منصبه، إذا اقتضت الضرورة.

كما يجب عليه أيضا أن يشغل أعلى المناصب التشريعية والعسكرية بل أن يتولى وظيفة القائد الأعلى للجيش ( المادة 110) وفى هذه النقطة بالذات لا يتوفر الإجماع بين علماء الشيعة.

وقد جاءت أقو الاعتراضات على أفكار آية الله خمينى من جانب الزعيم الشيعي اللبناني محمد جواد مغنية .

فهو يعتقد أن صلاحية العالم الشرعي- وذلك على العكس من الإمام المعصوم- تقتصر على أمور شرعية محددة تحديدا دقيقا ، وليس لأي إنسان من سلطان على أي إنسان آخر فيما يتجاوز هذه الأمور والواجب على المسلمين أن يتخذوا قراراتهم السياسية بأنفسهم، بشرط أن يتم ذلك بطبيعة الحال فى إطار الشرع.

ويبدى آية الله شريعة مدارى- وهو يمثل القطب الديني المعارض للخمينى- آراء مشابهة لرأى الزعيم اللبناني- وإذا غضضنا الطرف على المبررات الدينية لهذه الاعتراضات ، أمكننا القول بأنها تنطلق من الخوف من أن يؤدى انخراط علماء الدين فى الأحداث السياسية الجارية إلى ضياع هيبتهم وسلطتهم، والواقع أننا نلمس لدى الخميني نفسه ميلا واضحا " للاعتكاف بعيدا عن القضايا والأحداث اليومية ، وذلك على الرغم من إصراره على ترك الباب مفتوحا للتدخل بنفسه فى أي وقت يشاء.

يتضح مما سبق أن الجمهورية الإسلامية تجمع بين العناصر التقليدية والأصولية والحداثية. وهى تمد جذورها فى الأفكار والتصورات الشيعية القديمة عن عدم شرعية الدولة الدنيوية وعن الوظيفة الأساسية لعلماء الشرع.

ولكنها طورت تلك الأفكار والتصورات الشيعية القديمة عن عدم شرعية الدولة الدنيوية وعن الوظيفة الأساسية لعلماء الشرع.

ولكنها طورت تلك الأفكار والتصورات وأضافت إليها- ولو فى حدود معينة- فكرة السيادة الشعبية ، والتمثيل النيابي والمشاركة الشعبية.

ونحن لا نعثر على الخطوات التمهيدية لهذه الإضافات الجديدة إلا فى الدستور الفارسي الذى يرجع لعام 19061907 – ويتضح من هذا الدستور الأخير أننا بصدد تصورات ليبرالية مأخوذة عن أصول غربية، بل إن هذا ليتضح أيضا فى الشكل الذى كتب به ذلك الدستور. وأيا كان الأمر فالمؤكد أننا أمام تطور إيرانى – شيعى – من نوع خاص.

وقد يجدر بنا أن نتوقع وجود النموذج الأمثل للدولة الإسلامية فى باكستان . وهو النموذج الذى انبثق عن رغبة مسلمي الهند فى أن يحددوا مصيرهم فى دولة خاصة بهم. ولكن يظهر هنا أيضا للعيان مدى صعوبة الاتفاق على ماهية الدولة الإسلامية وما ينبغي أو ما يمكن أن تكون طبيعتها فى ظل الظروف الواقعية الملموسة فى عصرنا الحاضر.

لقد نشأت الحركة الباكستانية فى الفترة الملموسة فى عصرنا الحاضر. لقد نشأت الحركة الباكستانية فى الفترة الزمنية الواقعة بين الحربين العالميتين كرد فعل على محاولات إضفاء الطابع الهندوسي على الروح الوطنية وبين الديانة الهندوسية.

ولقد خرجت الطليعة الداعية للحركة الباكستانية من صفوف الطبقة الوسطى المثقفة ثقافة غربية.

وقد تصوروا أن الجماعة التى يمكن أن تضم جميع مسلمي الهند لا يمكن أن تتحقق أو أن يكتب لها البقاء إلا فى إطار دولة وطنية حديثة- غير أن الجماعات الإسلامية الأخرى وقفت ضد هذا التصور واعتبرته شكلا "من أشكال" العلمانية " ونوعا " من التخلي عن التصور القديم للجماعة الإسلامية العالمية.

وقد كان من بين أعضاء هذا الاتجاه المعارض مثقفون أصوليون وبعض علماء الدين التراثيين أو التقليديين الذين تخوفوا من أن تؤدى مثل هذه الدول الحديثة إلى إضعاف تأثيرهم وتهديد مكانتهم، واستمرت الخلافات والصراعات بين الطرفين دون أن يجرى تجاوزها أبدا.

وتسببت هذه الصراعات فى أن تغير باكستان حتى الآن ثلاثة دساتير ، وأن تنشق بنجلاديش عنها. وأن لا تعرف الدولة الباكستانية المتبقية بعد ذلك الانشقاق أي شكل من أشكال الاستقرار.

إن التصورات السياسية للحداثيين – فى باكستان وفى غيرها- تستحق وقفة تأمل عن كثب، لأنها تبني – بصورة أوضح مما حدث فى الجمهورية الإسلامية فى إيران- أن الإيمان الثابت بالإسلام يتسق مع السيادة الشعبية والديمقراطية ولا يتعارض معهما.

والواقع أن هؤلاء الحداثيين أو المحدثين ينطلقون من تصور عن الإنسان يقوم على أساس أن البشر جميعا متساوون أمام الله سبحانه، كما يؤكد بالإضافة إلى ذلك- ووفقا للآيتين الكريمتين اللتين سبق الحديث عنهما ( " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل فى الأرض خليفة... إلى آخر الآية 30 من سورة البقرة" و " هو الذى جعلكم خلائف فى الأرض .. إلى آخر الآية 165 من سورة الأنعام) – أن الله جل شأنه قد جعل الإنسان خليفته أو نائبه على أرضه، يضاف إلى ذلك أيضا فهم جديد لأحد مصادر التشريع القديمة الثابتة، وهو الإجماع، فلا يمكن أن يتسق مع الإيمان بعدالة الله أن يسمح سبحانه بأن يجتمع المسلمون على ضلال أو خطأ. ويترتب على هذا أن يكون التشريع الذى تجمع عليه عامة المسلمين جزءا "من التشريع الالهى .

وإذا بحثنا الأمر من منظور التصور التقليدي وجدنا أن مثل هذا الإجماع ينبغي من ناحية أن يتوصل إليه علماء الشرع وحدهم. وأنه من ناحية أخرى أبدى ثابت مثله فى ذلك مثل الشرع فى مجموعه.

ويعترض الحداثيون على هذين المبدأين فيفترضون أن كل إنسان يملك الحق والقدرة على المشاركة فى تكوين الإجماع، وأن الإجماع نفسه محدد بزمن معين، بحيث لا يكون على الأجيال المقبلة أن تتقيد به، بل ينبغي عليها أن تجد الإجماع الخاص بها، بذلك ينطبع الإجماع بالطابع التاريخي والديمقراطي . ومن ثم تكون المؤسسة الكفيلة بتحقيق الإجماع هى البرلمان.

استطاع الحداثيون الباكستانيون فى البداية ومن حيث المبدأ أن يروجوا لهذا التصور. ولكن الأصوليين والعلماء التقليديين عارضوهم معارضة مريرة وتوصلوا إلى بعض التنازلات التى لم يرضوا عنها فى النهاية رضاه تاما.

صحيح أن الدساتير الباكستانية قد أقرت ضرورة اتفاق جميع القوانين مع تعاليم الإسلام، كما تشكل مجلس من علماء الدين مهمته فحص هذه القوانين والتأكد من شرعيتها ، غير أن هذا المجلس لم يكن يتمتع - على العكس من نظيره فى إيران – بحق الاعتراض ( الفيتو) لذلك لم يكن غريبا أن يبدو التنويه بالإسلام فى منطوق القوانين مجرد زخرف جمالي خال من أي مغزى أو مضمون فعلى. ولذلك انهالت الاتهامات على الحداثيين بأنهم لا يختلفون فى شيء عن العلمانيين .

بل إن هؤلاء يستغلونهم فى إخفاء رغبتهم الحقيقية فى فصل الدين عن الدولة . أضف إلى هذا أن البرلمان لم تكد تقوم له قائمة. إذ دأبت الحكومات على ا لتدخل فى شئونه لتحقيق أغراضها، بل طالما لجأت إلى إلغائه. ومن تعذر أن يصبح التمثيل النيابي تجسيدا للإجماع الذى يمكنه أن يضيف إضافات خلاقة للتشريع الالهى.

وفى عام 1977 استولت جماعة من الضباط على مقاليد الحكم وسارت على نهج أصولي واضح لكسب القاعدة الشعبية، التى كانت تفتقر إليها ، إلى صفوفها .

وقد استند القائمون بهذا لانقلاب قبل كل شيء لـ " جماعتي إسلامي" أي الجماعة الإسلامية التى تعبر أهم منظمة إسلامية فى باكستان. وقد سار الأصوليون إلى حد ما على المبادئ الدينية نفسها التى يسير عليها الحداثيون ، ولكنهم توصلوا إلى نتائج مختلفة.

فالمؤسس الأول لجماعتي إسلامي والمفكر الرئيسي فيها. وهو أبو الأعلى المودودى. يعتقد أيضا أن الإنسان هو خليفة الله على أرضه ويبرر بذلك إقامة شكل برلماني وانتخاب الحاكم انتخابا شعبيا. ولكنه يخضع الوظيفة التشريعية للبرلمان لحدود الشرع الالهى وتعاليمه بصورة أكثر صرامة مما يفعل الحداثيون .

كما يرفض فكرة إمكان التوسع فى هذا الشرع عن طريق الإجماع. أما عن الحاكم المنتخب فإن المودودى يجعل له من الناحية الفعلية سلطة مطلقة.

ويرى أنه ليس فى حاجة إلا إلى استشارة البرلمان، وأن قراراته يجب أن تطاع.

وأما عن مطالبة الحاكم بضرورة التخلي عن منصبه إذا فقد ثقة الشعب، فإنها تظل مسألة نظرية بحتة. والواقع أن تصورات المودودى تلتقي فى نقاط كثيرة مع تصورات الجهورية الإسلامية فى غيران، والفارق الاساسى بينهما هو أن الدور الذى يقوم به علماء الدين عند المودودى ليس دورا مهما.

والجدير بالذكر أن المودودى نفسه لم يكن من علماء الدين. وأنه يعارض مع الأصوليين – الذين يعد واحدا منهم- التأثير الكبير لعلماء الدين. وهكذا تصبح المحاكم سلطة يصعب وضع حدود لها أو الرقابة عليها والتحكم فيها.

وفى ليبيا نجد صورة جذرية متطرفة للأصولية عند العقيد معمر القذافى .

إنه يذهب فى مراجعته للمصادر الإسلامية الأولى إلى حد عدم الاعتراف إلا بالقرآن الكريم وإهمال كامل لما عداه حتى السنة النبوية الشريفة.

وليس فى وسع القذافى من حيث المبدأ أن ينكر السنة كمعيار ومصدر أساسي للتشريع ولحياة المسلمين . وإلا اعتبر ذلك نوعا من الإلحاد.

ولكنه يرى أن المأثور السني لا يمكن الاطمئنان إليه، ولا يمكن اعتباره مصدرا أساسيا للتشريع.

والواقع أن شكوكه حول المأثور من الأحاديث النبوية قد يكون لها ما يبررها، وعلماء السنة أنفسهم يعرفون حق المعرفة أن هناك عددا كبيرا من الأحاديث والأخبار المكذوبة من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام وعن حياته وأعماله. ولكنهم ( أي علماء السنة) قد وجدوا الحل لهذه المشكلة.

إذ اعترفوا بأصالة عدد محدد من المجموعات التى تضم تلك الأخبار والأحاديث الصحيحة الإسناد واعتمدوا عليها- وقد أدى تجاهل القذافى للسنة إلى أن يعلن أن تفسير العلماء التقليديين للسنة غير ملزم، وبذلك أعطى لنفسه مجالا واسعا لتفسير القرآن الكريم تفسيرا خاصا.

والجدير بالذكر أن القذافى بدوره يعتبر أن الشعب هو خليفة الله فى أرضه.

وقد أقام على هذه الفكرة تصورا عجيبا للديمقراطية : فهو يستنكر النظام النيابي بأعضائه وأحزابه وبرلمانه ويشيد بدلا منه نظاما للديمقراطية التى يحرص المشرفون عليها على أن يبقى المسئولون الكبار فى الدولة خاضعين للإرادة الشعبية.

وقد بدأ ، إلى جانب ذلك ، تغيير الأبنية الاقتصادية والاجتماعية تغييرات ذات صيغة اشتراكية: فنظام الأجور والمرتبات يستبدل به نظام تعاوني مشترك. وعلى الرغم من عدم المساس بالملكية الخاصة، فقد أمر بألا يملك أحد أكثر مما يحتاج إليه حاجة ضرورية .

وهو يع برنامجه الاصلاحى فى مقابل الرأسمالية والشيوعية " كنظرية ثالثة" والواقع أن أهداف القذافى تستحق الاهتمام، ولكن جهوده لجعل نظريته أو برنامجه نموذجا لبلاد أخرى تظل جهودا محدودة التأثير بدرجة كبيرة، ويرجع ذلك إلى أن المصلح الليبي- بفضل الثروة النفطية لبلاده – لا يكترث بأي عائد يمكن فى الظروف العادية أن يجنيه من وراء أهدافه الطموحة. ولذلك يتعذر على غيره أن يجاريه .

ثم إن من الصعب أن نعرف مدى تجذر أفكار القذافى فى الدين الإسلامى. وأخيرا فمما لا شك فيه أن وعى هذا القائد والمصلح برسالته يحمل صبغة إسلامية. ولابد أن حرصه على وصف أفكاره وتصوراته- بأنها إسلامية- يضمن شرعية طموحه للزعامة وتعبئة الجماهير الشعبية العريضة.

إن الدول الثلاث التى رصدنا أحوالها، وهى إيران وباكستان وليبيا. تطمح كل على طريقتها إلى أن تمد جذور أنظمة حكمها فى العقيدة الإسلامية .

ولا يسرى هذا على الدول الأخرى التى تتألف غالبية سكانها من المسلمين ، وإن كل عليها أن تحسب حساب هذه الأغلبية وتأخذها بعين الاعتبار. ذلك أن الرغبة الملحة فى التمسك بأشكال الحياة الإسلامية، وربما أكثر من ذلك برموز الهوية الإسلامية .

هى رغبة قوية وملحوظة فى كل وقت وفى كل مكان على وجه التقريب من العالم الإسلامى ولقد طالما حاول المسلمون وبصور متكررة أن ينظموا أنفسهم لكي يحولوا تلك الرغبة إلى واقع فعلى.

وأشهر تلك المنظمات هى جماعة الإخوان المسلمين التى نشأت فى مصر فى أواخر العشرينيات وتحولت فى خلال الأربعينيات إلى حركة جماهيرية واسعة.

ثم دخلت فى صراع مع عبد الناصر الذى ضربها بقوة، ولكنها انتشرت فى بلاد أخرى وما زالت قائمة فى مصر على عهد السادات.

ومع ذلك فلم يعد الإخوان المسلمون يمسكون بزمام الحركة الإسلامية، إذ يوجد إلى جانبهم عدد كبير من الحركات الصغيرة التى تفوقهم عنفا وتطرفا ، مثل الحركة التى عرفت باسم " جماعة التكفير والهجرة" وهى تكفر المجتمع القائم وتدعو إلى الهجرة بعيدا عنه .

وقد تحولت الأصولية عند هذه الجماعة إلى " نحلة" أو " فرقة" فأعضاؤها لا يتزوجون إلا من داخل الجماعة، إذ لا يعترفون بوجود مسلمين إلا فى جماعتهم ، ويعتبرون كل من عداهم من الكفار.

وهم يرفضون قبل كل شيء أن تكون لهم أي علاقة مع الدولة المصرية، ويحظرون على أبنائهم دخول المدارس الحكومية أو الالتحاق بالخدمة العسكرية .

وهدفهم هو تدمير الدولة وتدبير الخطط ووسائل العنف اللازمة لذلك، بل لقد قاموا بالفعل بتنفيذ بعض الهجمات الإرهابية. وحركة المقاومة الدينية التى دخلت فى سوريا فى صراع شديد مع الحكومة تحت اسم" الإخوان المسلمين" تدل على وجود مثل هذه الظاهرة وارتباطها فى عدد من البلاد الإسلامية بحركات مشابهة.

ومن الواضح أن خيبة الأمل الكبيرة وراء هذه التطورات تتمثل فى ثورة الغضب على أسلوب الحياة الحديث كله، والسخط على " المجتمع الاستهلاكي " الذى لا يقوم على أسس أخلاقية، والبحث عن " حياة بديلة" أصبحنا نبحث عنها أيضا فى أوروبا وأمريكا.

وتبقى لهذه الأشكال المتطرفة أهميتها كأعراض مرضية قبل كل شيء، لأنها لم تكن لتظهر أصلا لو لم توجد مواقف وحركات أخرى مقاربة لها- وإن تكن أقل منها تطرفا- فى دوائر شعبية واسعة، لا سيما بين الشباب.

وتحاول حكومات الدول " الدنيوية " بطبيعة الحال أن تقمع الحركات المتطرفة، كما تحاول فى الوقت نفسه أن تستجيب لحاجة الطبقات الشعبية العريضة إلى تحقيق هويتها الإسلامية، وذلك لإبعادها عن التطرف وتقريبها من الدولة. ويتضح هذا بالفعل فى نصوص الدساتير ، وذلك باستثناء الدولة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة وهى تركيا التى ينص دستورها على أنها علمانية ولا تفسح للدين أي مكان فى مؤسساتها الرسمية.

وأما فى إندونيسيا فنجد الدستور ينص على نوع من الارتباط العام بالدين، وذلك عندما يعلن أن الإيمان بالله هو الأساس الذى تقوم عليه الدولة.

ونلاحظ باستثناء هاتين الدولتين أن القاعدة العامة هى النص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة- وذلك حتى فى البلد المصبوغ بصبغة ماركسية واضحة.

وهو اليمن الجنوبي( راجع دستور الجمهورية الشعبية اليمنية الذى يرجع لعام 1970 المادة 46) أما فى سوريا ، التى يحافظ فيها عدد كبير من السياسيين على التراث العلماني.

فقد تحاشى الدستور منذ وقت طويل الإعلان عن دين الدولة، وإن كان قد اشترط أن يكون رئيس الدولة المنتخب مسلما، كما نص على أن الشريعة الإسلامية هى مصدر، أو أحد مصادر التشريع الأساسية.

وقد مر وقت على سوريا منعت فيه الإشارة فى الدستور إلى دين رئيس الدولة ( دستور 1969) وفى مصر لم ينص على دين الدولة ( دستور الجمهورية العربية المتحدة لعام 1958) . ولكن الدولة اضطرت بعد ذلك فى كلتا الحالتين إلى النص على أن دين الدولة هو الإسلام، وذلك ترضية للشعب واستجابة لمشاعره.

وطبيعي ألا تقنع الحركات الإسلامية بالاكتفاء بالنص على الإسلام فى الدساتير ، فمطالبتها " بأسلمة" المجتمع والسياسة والدولة( أو صبغها بالصبغة الإسلامية ) تذهب إلى ابعد من ذلك- وعلى الرغم من تفرق أهدافها وعدم وضوحها، فإنها تمارس على الحكومات ضغوطا شديدة.

ومع ذلك فهناك حدود تقف عندها هذه الضغوط مهما كان تأثيرها. وثمة حقائق واقعية تصد محاولات الأسلمة أو تعمل على الأقل على لتصرف معها بطرق مختلفة.

لنلق الآن نظرة أخرى على مصر. فبعد وفاة عبد الناصر ساد جو بدا مناسبا " للأسلمة" صحيح أن دستور سنة 1971 قد أعلن – بشكل حذر نسبيا- أن " مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الاساسى للتشريع" ( المادة رقم 2 ) ولكن ذلك فتح الباب أمام المطالبة الملحة بجعل الشريعة الإسلامية نفسها ه أساس التشريع بأكمله.

ولما بلغت الإثارة ذروتها فى سنة 1977 ، وساد الانطباع بأن الحكومة ستنظر فى تلك المطالب، أعلن الأقباط احتجاجهم بكل حزم .

وقد اعترضوا بوجه عام على أسلمة التشريع وبوجه خاص على المناقشات التى دارت حول تنفيذ عقوبة الإعدام فى حالة الارتداد عن الإسلام.

وهو إجراء لم يكن فى الحقيقة موجها ضد المسلم المرتد عن دينه ، لأن هذا أمر لا وجود له من الناحية العملية .

بقدر ما تصور الأقباط أنه موجه ضد المسيحيين الذين كانوا لأسباب شخصية بحتة يتحولون بصورة مؤقتة إلى الإسلام، وذلك – على سبيل المثال- لتيسير أحوال الطلاق، وسرعان ما نبه الاحتجاج القوى للكنيسة القبطية كبتار المسئولين فى الدولة إلى وضع حد لأي إثارة لهذه النقطة.

ومع أن حركات الإثارة من جانب الإسلاميين المتطرفين لم تتوقف. فإنهم لم يستطيعوا فى سنة 1979 منع إصدار مجموعة من التعديلات المهمة فى قانون الأحوال الشخصية لتحسين أوضاع المرأة فيما يتعلق بتعدد الزوجات، والطلاق، وسلطة الزوج... الخ ( وهى التى صدر بها قانون رقم 44 لسنة 1979) وقد أكدت الحكومة تأكيدا قاطعا أن التعديلات الجديدة لا تتعارض مع تعاليم الشرع، وطالبت أكبر علماء الدين بتأييدها. ومن الواضح أن جميع الاجتهادات الحديثة فى التفسير قد طبقت بغية الوصول إلى حلول متطورة.

لعل المثل السابق من مصر يوضح لنا كيف أنه لم يعد من الممكن ، فى الأوطان ذات التاريخ الحضاري العريق، تجاهل مصالح الأقليات غير المسلمة أو إغفالها عند اتخاذ القرارات والمواقف السياسية الحاسمة.

وربما كانت الحقيقة الأهم من كل ما سبق هى أنه توجد اليوم أكثر من أي وقت مضى مجالات حيوية واسعة لا يقدم فيها الدين توجيها كافيا " للحسم فى قضايا ومشكلات جزئية لا حصر لها وتفرضها ضرورات الحياة اليومية .

وهنا يكون ربط هذه القضايا والمشكلات بالدين أمرا ممكنا عندما يتوسع أصحاب القرار فى تفسير المبادئ الدينية توسعا شديدا.

وإذا كان من الأمور الطبيعية والمفهومة أن يجد المسلمون فى الإسلام " السند الخاص" الذى يلجئون له ويطمئنون إليه، فمن الخطر الشديد عليهم أن يتوهموا أنهم سيجدون الحل المناسب لمشكلات العصر كبيرها وصغيرها فى الانصياع بلا تدبر كاف لتعاليم كساها القدم برداء الجلال والوقار.

ولن ينصف الإسلام من يزعم أنه يطالب المؤمنين بمثل هذا الخضوع الأعمى.

فالواقع أن الإسلام لا يسلب الإنسان حق البحث عن القرار الصحيح والكفاح فى سبيل التوصل إليه.

وأخيرا فقد حاولت أن أقدم بعض التأملات فى الدور السياسي للإسلام فى عصرنا الحاضر.

وإني لأتمنى أن أكون قد وفقت على الأقل فى توضيح نقطتين :

1- ليس الإسلام هو القوة الأصلية المحركة لموجة البعث الإسلامي التى نلاحظها اليوم فى العالم. صحيح أن الدين المشترك هو أساس الشعور بالتضامن بين الشعوب الإسلامية كافة.
ولكن العامل المشترك بين الحركات الإسلامية الراهنة لا يأتي من الدين.
وإنما يأتي من الموقف التاريخي الذى تجد نفسها فيه مع كثير من الشعوب غير الإسلامية : وهو موقف التبعية للدول الصناعية الغربية، والبحث اليائس عن توجه يعينها على التحرر من تلك التبعية.
2- وبصرف النظر عن هذا العامل المشترك الذى يجمع بين الشعوب الإسلامية والشعوب غير الإسلامية ، فلا يمكن الحديث عن حركة إسلامية واحدة.
إن العقيدة الإسلامية ليست على الإطلاق نظاما جامدا متصلبا يقسر المؤمنين به على سلوك محدد- كان يقسرهم مثلا على الرجوع للعصور الوسطى كما يقول أحد الأحكام المتحيزة المنتشرة لدينا- إن العكس من ذلك تماما هو الصحيح، فأمام المسلم مال واسع لتقديم تفسيرات خاصة للعقيدة والشريعة.
ولاتخاذ قرارات خاصة قد تتقدم به إلى الأمام أو ترجع به إلى الوراء. ولقد تكونت لدى الشعوب المختلفة كما تكونت لدى الجماعات المتباينة حركات واتجاهات شديدة التنوع، وكلها تجد فى الإسلام الثقة بالذات ، والهداية والشرعية ، والقوة الدافعة لها على حل مشكلاتها وتحقيق مصالحها .
وهى جميعا تستحق من الغرباء عنها أن ينظروا إليها بعين الاحترام ويبذلوا الجهد الكافي لفهمها.

10-عمر الأول( 1972)

ولد ثاني الخلفاء الراشدين عمر الأول ( عمر بن الخطاب بن نوفل، الملقب بالفاروق عمر، أي الذى يفصل بين الحق والباطل) حوالي سنة 590 ميلادية فى مكة، ودخل فى الإسلام حوالي سنة 618 ، وهاجر مع الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه سنة 622 إلى المدينة حيث أسست الدولة الإسلامية الأولى، كان عمر رضي الله عنه أقرب الصحابة إلى النبي عليه السلام وإلى أول خلفائه أبى بكر الصديق الذى توفى سنة 634 فتولى عمر الخلافة من بعده، وخلال السنوات العشر التى قضاها فى الحكم فتحت جيوش المسلمين مناطق واسعة من الدولتين المجاورتين، وهما الدولة البيزنطية والدولة الفارسية، وبذلك وضعت حجر الأساس للدولة الإسلامية العلمية.

وقد سقطت دمشق ، التى احتلت لأول مرة سنة 635 لفترة قصيرة، بعد الانتصار الحاسم على البيزنطيين فى معركة اليرموك سقوطا نهائيا فى يد المسلمين بعد ذلك بسنة واحدة.

ومع احتلال القدس وأنطاكية تم فتح سوريا فى سنة 638 ، وفى أثناء ذلك مهد الانتصار على الفرس فى القادسية لفتح بلاد الرافدين . ثم تم فتح بلاد فارس بعد معركة نهاوند حوالي سنة 640 .

وفى سنة 639 دخل أحد جيوش المسلمين مصر البيزنطية. وتم الاستيلاء على الإسكندرية سنة 642، وعلى طرابلس الليبية سنة 643 ، ترك عمر إدارة هذه المعارك لقواده، بينما أمسك بيده مقاليد السلطة المركزية وطبع شخصيته الحازمة على الدولة الإسلامية بأسرها. وفى سنة 644 قتل عمر لأسباب غير معروفة بيد عبد مسيحي ، وانتقلت الخلافة بعده إلى عثمان بن عفان.

تتعرض الديانات والدول لامتحان قاس عندما يموت مؤسسوها الأوائل وقد قامت السلطة التى بلغ بها النبي محمد رسالته واتخذ قراراته الحاسمة على الوحي الالهى، ولذلك كانت بالنسبة للمؤمنين بالإسلام سلطة مطلقة ومؤكدة.

ولم يكن لأحد من الخلفاء الراشدين أن يزعم لنفسه سلطة تقاربها أو تقارن بها. وذلك لأن الوحي الالهى نفسه قد وصفه بأنه " خاتم النبيين: " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما" ) سورة الأحزاب 40).

ما الذى كان يمكن أن تستند إليه الجماعة الإسلامية بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى؟ كان الوحي الذى أنزل على محمد، وهو القرآن الكريم، موجودا بطبيعة الحال.

ولكنه لم يكن قد دون بعد، كما كان يحتاج إلى التفسير والتطبيق على المشكلات المتجددة للحياة اليومية لقد تضمن تعاليم عامة جدا لهداية الجماعة وتنظيمها. ولكن الجماعة . كوحدة اجتماعية وسياسية كانت منذ البداية عنصرا أساسيا من عناصر الدين الإسلامى.

لقد نشأت المسيحية قبل ذلك بستة قرون ونمت فى إطار النظام السياسي العلماني للدولة الرومانية التى كانت تفسح المجال لديانات مختلفة ولا تشترط عليها إلا أن تعطى لقيصر ما لقيصر .

أما فى البنية الاجتماعية لبلاد العرب فقد بقيت العوامل الدينية والسياسية متداخلة ومتشابكة بحيث لا يمكن الفصل بينها.

وهكذا أتيحت لمحمد الفرصة واقتضت الضرورة أيضا أن يجعل من الإسلام نظاما دينيا وسياسيا متكاملا.

وقد تحقق له هذا عن طريق الارتفاع بالإسلام والجماعة الإسلامية " فوق الوحدات القائمة فى بيئته، أي فوق القبائل العربية. كانت الجماعة هى التجسيد الأرضي للدين.

وكانت أي محاولة للفصل بينهما- على أساس نظرية الدولتين مثلا- أمرا مستحيلا . فقد كان حل الجماعة معناه القضاء على الدين.

وكان أخطر الأمور التى واجهت المسلمين أن محمدا عليه السلام لم يترك وراءه خليفة ولا تعليمات بكيفية تحديد خليفة بعده، وكان على الجماعة أن تتولى هذه المهمة بنفسها.

وكان من الطبيعي أن يرجع المسلمون إلى الإجراء الذى كانت تتبعه القبائل العربية لاختيار رئيس القبيلة: أي إلى اختيار الرجال الأحرار من أبناء القبيلة، ولم تكن جميع الأصوات بطبيعة الحال ذات وزن واحد، فنتيجة الانتخاب كانت تعكس التفاوت فى نفوذ الناخبين.

تبين بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فى سنة 632 أن الجماعة الإسلامية منقسمة إلى أحزاب مختلفة. وكان أحد هذه الأحزاب يتكون من " المهاجرين" أي من المسلمين الأوائل الذين آمنوا بالرسول والتفوا حوله فى مكة، ثم هاجروا معه إلى ا لمدينة فى سنة 622 حيث أسس هناك أول دولة إسلامية.

وكان الحزب الثاني يتألف من " الأنصار" وهم من قبائل المدينة الذين شاركوا فى وضع الأسس الأولى للدولة، ثم ظهر ، فى البداية على الأقل، حزب ثالث من بنى هاشم ، أي من أقرب أقارب الرسول ، سواء منهم من هاجر معه أو من لم يهاجر .

كان مرشحهم هو على ، ابن عم الرسول الذى كان بغير شك يتمتع بقدر عظيم من الهيبة والاحترام، ولكن يبدو أن نفوذ الهاشميين فى ذلك الوقت لم يكن كافيا لإشراكه فى المنافسة بشكل جدة. وأعلن الأنصار، الذين آزروا النبي على مدى عشر سنوات، عن رغبتهم فى أن يكون واحد منهم هو خليفته.

غير أنهم عجزوا عن تحقيق هذه الرغبة ، لا سيما وأنهم لم يستطيعوا التغلب على الخلافات القبلية التى كانت لا تزال محتدمة بينهم. وهكذا انحصر مجال الاختيار بين زعيمي المهاجرين ، وهما أبو بكر وعمر.

وتنازل عمر لأبى بكر الذى يكبره فى السن، فبايعه المسلمون أول خليفة لرسول الله . ولما توفى أبو بكر بعد ذلك بسنتين ، تولى عمر بن الخطاب الخلافة دون أي صعوبة تذكر.

وصفت أجيال المسلمين اللاحقة أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب بالخلفاء الراشدين ، واعتبر بعض المتشددين أن هؤلاء الأربعة هم الخلفاء الحقيقيون وكل من عداهم ممن جاء بعدهم مجرد ملوك دنيويين. ,لكن حتى عثمان وعلى بن أبى طالب كانا، فى أثناء حياتهما، موضع خلاف بين أنصارهما والخارجين عليهما، ولهذا يحتل أبو بكر وعمر فى الوعي التاريخي للمسلمين مكانة فريدة، بل إن عمر يتفوق على سلفه بكثير، ربما بسبب طول فترة حكمه التى امتدت عشر سنوات وثبتت فيها دعائم الدولة الإسلامية العالمية.

وتزخر مؤلفات المؤرخين المسلمين، بل كذلك كتب علوم الدين والشريعة والأدب، بأخبار مستفيضة عن أعماله وأقواله وقراراته الحازمة.

ومع ذلك فليس من السهل تكوين صورة عن عمر يمكن أن تصمد أمام الشروط التى يتطلبها المؤرخ النقدي الحديث.

فلم تكن الأخبار التاريخية عند الرواة المسلمين الأوائل غاية فى ذاتها، بل انحصرت قيمتها فى تكوين صورة تاريخية دالة ومتسقة مع معتقداتهم وتوقعاتهم، أو صورة تتوافق فيها الوقائع مع هذه المعتقدات والتوقعات.

لذلك كان قدر كبير من الأخبار والمعلومات التى وصلتنا عن عمر نوعا من " حكايات الخوارق" أو الروايات التى تروى عن الأبطال والعظماء وتهدف لاستخلاص العبرة والموعظة منها.

أضف غلى ذلك أن الكثير من تلك الأخبار لا يخرج عن كونه مجرد تهيؤات أو تخيلات تشريعية تلبى حاجة المسلمين إلى معايير يقينية يهتدون بها فى سلوكه. لقد كانوا يستندون عن طيب خاطر للنموذج والقدوة العالية للخليفة العظيم وذلك فى الأحوال التى يصعب عليهم فيها أن يجدوا نصا واضحا فى الكتاب الكريم أو فى السنة المشرفة.

بل إننا لنكتشف فى بعض الحالات ن القاعدة أو التنظيم الذى ينسب إلى عمر ( رضي الله عنه) ليس سوى نوع من التنظيم المنهجي ومن التثبيت أو التأكيد لممارسة عملية ظهرت وتطورت فى عصر لاحق، وإن كان عمر هو الذى وضع أسسها الأولى.

بذلك، أدى هذا " الحجاب " المنسوج من الحكايات الخارقة والتخيلات التشريعية إلى حجب الصورة " الحقيقية " لعمر وجعل الوصول إليها أمرا بالغ الصعوبة، ومع ذلك فلا شك فى أن الصورة التى كونها المسلمون عنه صورة شديدة التأثير ومن ثم على قدر كبير من الواقعية.

كان عمر بن الخطاب بن نوفل ينتمي إلى نفس القبيلة التى ينتمي إليها النبي عليه السلام وهى قريش وإن لم يكن من ذوى قرباه. وقد كان واحدا من زعماء عشيرة " عدى" كما كان يشارك مثل الكثيرين من أثرياء مكة فى تجارة القوافل مع سوريا.

ولم يكن عمر من أوائل المؤمنين بالإسلام، بل يقال إنه ساهم فترة غير قصيرة فى اضطهادهم. ولما دخل الرجل المرموق فى الإسلام- وكان ذلك قبل الهجرة بسنوات قليلة- كان ذلك كسبا كبيرا للجماعة الإسلامية الصغيرة ودفعة قوية لها. كانت قوته الجسدية وقوامه الطويل الفارع تظهرانه فى صورة المحارب المهاب.

وقد شارك بالفعل فى بعض المعارك الإسلامية المبكرة، ولكن دوره الرئيسي يقوم على كونه هو الصحابي المقرب من الرسول عليه السلام وموضع مشورته، ومع ذلك فقد تقدم عليه- وفاقه فى الاضطلاع بهذا الدور – أبو بكر الصديق الذى نشأ فى الظروف نفسها- كما كان أكبر منه سنا وأسبق منه فى الدخول فى الإسلام، وقد اتخذ النبي عليه السلام من بنتيهما زوجين له.

ومما يشهد على قدرة النبي عليه السلام على القيادة وموهبته الفذة فيها، كما يدل كذلك على الخلق الرفيع لأبى بكر وعمر ، أنه لم يقم بينهما أبدا أي نوع من المنافسة .

وبعد تولى أبى بكر أمر ا لخلافة ، استمرت الصلة الوثيقة بينه وبين عمر الذى كان له حتى فى ذلك الوقت- بفضل شخصيته القوية- تأثير كبير فى تدبير شئون الدولة. وربما يكون هذا الرجل العنيف، الذى لم يخل فى بعض الأحيان من فظاظة، قد تعلم الكثير من أبى بكر الأهدأ منه طبعا والأكثر حكمة.

وليس من شك فى أن الاثنين كانا هما الخلفين الطبيعيين للنبي عليه السلام، كما كانا أفضل وأقدر من كل منافسيهما على تسيير شئون الجماعة الإسلامية على نفسه الطريق وبالمعنى نفسه الذى أراده الرسول.

لم يستطع القرار السريع الناجح- فى حسم موضوع الخلافة بعد وفاة النبي- أن يحل جميع مشكلات الجماعة الإسلامية، كانت أكثر القبائل العربية، فى العامين الأخيرين من حياة النبي عليه السلام، قد اعترفت اعترافا كليا أو جزئيا بنبوته وقيادته وانضمت إلى صفوف الدولة الإسلامية .

ولكن الالتزامات والواجبات التى ترتبت على ذلك، من تنفيذ للأوامر وتحمل للنفقات، بدت للكثيرين بمنزلة عبء ثقيل الوطأة عليهم.

فلما انتقل محمد إلى الرفيق الأعلى، انتهز عدد من القبائل الفرصة للخروج على الإسلام، وقامت سلسلة من حكات الردة تحت قيادة بعض الأنبياء الكذابين وقد زخرت الفترة القصيرة لحكم أبى بكر ( من 632 إلى 634) بالجهود الشاقة التى استهدفت سحق هذه الحركات والقضاء على مدبريها. ولم يتطلب ذلك قوة عسكرية متفوقة فحسب.

وإنما تطلب كذلك حنكة دبلوماسية عظيمة، إذ كان من أ÷م الأمور ألا تدفع القبائل للسير فى طريق العداوة الأبدية، بل أن تعود مرة أخرى – أو لأول مرة- إلى الإسلام، وقد نجح كل من أبى بكر وعمر فى ذلك نجاحا رائعا.

وعلى المدى الطويل أصبح من الأمور الضرورية .لإدماج القبائل فى صفوف الجماعة الإسلامية ، أن تلبى مطالبها، وتروض طاقتها وقد تم هذا بالفعل عن طريق الفتوح الإسلامية التى بدأت فى ذلك الحين.

والواقع أن عقيدة التوحيد لا ترتبط بالضرورة بالطموح الديني العالمي، ويتضح هذا فى الديانة اليهودية التى اتسمت بصفة دائمة بالتوتر والصراع بين المبدأ العالمي " لإله السماء والأرض" وبين المبدأ الخاص بالديانة الشعبية " إله إسرائيل" ونحن نجد فى الإسلام عناصر من كلا المبدأين .

فمن ناحية أرسل الله محمدا عليه السلام إلى البشر كافة " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" ( الأنبياء 107) كما أنه عليه السلام هو خاتم الأنبياء الذين أرسلهم الله سبحانه بوحي إلهي موحد- وفى الحالين تتضح عالمية الرسالة المحمدية.

ومن ناحية أخرى لا نجد أبدا فى الإسلام أي ذكر " لإله عربي" أو " إله للعرب" ولكن القرآن الكريم هو الوحي الالهى الذى أنزله الله باللغة العربية: " إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" ( يوسف 2) كما أن محمدا عليه الصلاة والسلام قد اتجه بطبيعة الحال برسالته إلى شعبه .

إذا كان التوسع العربي- الإسلامى قد بدأ بعد وفاة الرسول وزلزل الأرض كلها. فقد كان أهم الدوافع لذلك هو الشعور بالتفوق والوعي بالرسالة اللذين استمدهما العرب من الديانة الجديدة، كما استمدوا منها القوة والقدرة على التنظيم.

وينبغي مع ذلك ألا نغفل عن أن قسما من الجيوش الإسلامية لم يحركها الإيمان وحده، بل كذلك الرغبة فى الحصول على الغنائم. لقد عرفت القبائل العربية منذ القدم الحروب المستمرة فى سبيل المرعى الشحيح.

وملأت هذه الحروب حياة الرجال وحدت من النمو السكاني. فلما أراد الإسلام أن يجمع هذه القبائل فى دولة واحدة، وجد نفسه مضطرا لإنهاء الحروب المشتعلة بينها وإقامة " سلام إسلامي" تستظل بظله. بذلك نشأت الحاجة الملحة لإيجاد عمل جديد يشغل المحاربين من رجال القبائل .

والاهتمام بتوفير الغذاء الكافي للعدد المتزايد من سكان شبه الجزيرة العربية. وكان أبسط حل لهذه المشكلة هو فتح بلاد أخرى عن طريق الحرب.

ربما يكون محمد عليه الصلاة والسلام قد سبق إلى التفكير بهذا المنطق، فقد بدأ سياسة التوسع نحو الشمال- أي فى المنطقة التى تقع تحت نفوذ الدولة البيزنطية- قبل فتح مكة بقليل .

وقد منى بالفشل أول زحف كبير على شرق الأردن فى عام 629 ، ولكن الحملة التى أرسلت فى العام التالي استطاعت الاستيلاء على أجزاء من تلك المنطقة ووضعت مدينة " ايلياء" ( إيلات) الواقعة على خليج العقبة تحت سيطرة المسلمين .

وحشد النبي عليه السلام قبل وفاته مباشرة جيشا آخر للزحف نحو الشمال ، ولم يكد أبو بكر يأذن له بالانطلاق حتى اضطرته الحرب مع القبائل المرتدة إلى استدعائه على وجه السرعة. وفى خلافة أبى بكر- رضي الله عنه- بدأت المعارك الأولى للمسلمين مع الفرس، كما بدأ الإعداد المنظم لفتح سوريا البيزنطية .

ولكن الفتوح الإسلامية لم تبلغ ذروتها إلا فى عهد عمر رضي الله عنه ( 634- 644) ولدى وفاة عمر، كانت تقع فى أيدي المسلمين – بالإضافة إلى شبه الجزيرة العربية- سوريا والعراق بأكملها والمناطق الغربية من بلاد فارس من ناحية. ومصر وليبيا من الناحية الأخرى وبذلك وضعت أسس الدولة الإسلامية العالمية.

هكذا واجه الإسلام تحديا تاريخيا كبيرا بالمعنى الذى قصده توينبى . فانتصاراته العسكرية المذهلة على الدولتين العالميتين المتفوقتين عليه فى المدنية والقوة، وهما بيزنطة وفارس، يمكن تفسيرها من خلال الظروف المواتية آنذاك.

ولم تكن هاتان الدولتان قد استهلكت قواهما فى الحرب المدمرة بينهما فحسب، بل كانت عوامل الضعف بسبب الصعوبات والمشكلات الداخلية قد دبت فيهما. والأهم من ذلك أن سكان الأقاليم والولايات التى بدأ المسلمون بالزحف عليها. لم يكونوا يحسون بأي ولاء تجاه الحكومات المحلية للدولتين الكبيرتين .

فالجماعات المسيحية فى سوريا ومصر كان ينظر إليها من جانب الكنيسة الرسمية فى بيزنطة على اعتبار أنها جماعات ملحدة أو آبقة. كما كانت تتعرض للقمع والاضطهاد.

وسكان سوريا والعراق كانوا يشعرون، من خلال لغتهم الآرامية السامية، بأنهم أقرب إلى العرب منهم إلى الإغريق والفرس. ولهذا لم تستطع الدولتان القديمتان الاعتماد على قواتهما المحلية فى حربهما مع الجيوش الإسلامية، كما أن السكان نظروا فى أكثر الأحيان إلى المسلمين نظرتهم إلى المحررين لهم من قهر السلطة الكريهة التى كانت تحكمهم.

لو كان المسلمون اقتصروا على إحلال حكم عربي أجنبي محل حكم بيزنطي وفارسي لظل انتصارهم العظيم بالتأكيد محدودا وقصير الأجل.

ولكن فى اللحظة نفسها التى تخطى فيها الإسلام حدود شبه الجزيرة العربية ، نشأ وضع حاسم تمت فيه الغلبة منذ ذلك الحين للعناصر العالمية على العناصر العربية والقومية. وكانت الإجابة عن مشكلة التحدي التاريخي تتلخص فى إيجاد مجتمع جديد وحضارة جديدة لا يقتصران على عرب شبه الجزيرة ، بل يشملان شعوبا وحضارات أخرى. ومن الطبيعي أن الطريق المؤدى لتحقيق هذا الهدف لم يكن منذ البداية واضح المعالم.

فقد ظلت المصلحة القومية العربية، التى كان لها دور حاسم فى تحقيق التوسع الإسلامى، قوة مؤثرة دخل معها مبدأ عالمية الإسلام فى صراع مستمر، وبين التطور التاريخي اللاحق أن المستقبل قد أثبت صدق هذا المبدأ ، وذلك إلى أن ظهر وضع جديد مع ظهور القومية العربية فى العصر الحديث.

بعد القضاء على حركات الردة وانتشار الإسلام فى شبه الجزيرة العربية بأكملها، بدأ المر وكان الدين الجديد قد أصبح هو والعروبة شيئا واحدا.

وقد عمل على تأكيد هذا أن عمر – رضي الله عنه- أبعد الجماعات غير الإسلامية عن شبه الجزيرة العربية ، وهى الجماعات التى كان النبي عليه السلام قد اقر صراحة بوجودها. كان النبي قد دخل فى صراع مع اليهود بعد أن أخلفوا وعدهم بالاعتراف بنبوته، وكان قد طردهم من المدينة، واحتل مساكنهم فى بعض الواحات وصادر أراضيهم، ولكنه تركهم يعيشون فى أراضيهم القديمة ليزرعوها ويعطوا المسلمين نصف المحصول.

أما عمر فأمر بتهجيرهم إلى سوريا وكانت تعيش فى نجران التى تقع إلى الجنوب من بلاد العرب جماعة مسيحية كبيرة أعلنت خضوعها للنبي وعقدت معه معاهدة تضمن لها حماية استقلالها وأملاكها فى مقابل دفع الجزية وتقديم المساعدة فى وقت الحرب. ولكن عمر أمر بتهجير هذه الجماعة أيضا إلى العراق وسوريا.

والأخبار التى وصلتنا عن هذا الموضوع توحي بأن المؤرخين الذين جاءت هذه الأخبار على لسانهم لم يكونوا مستريحين لمخالفة عمر للقرارات الواضحة التى اتخذها النبي عليه السلام بشأن هذه الجماعات من " أهل الكتاب" .

ومن الواضح أن اهتمام عمر كان موجها قبل كل شيء نحو حماية وتأمين وحدة بلاد العرب الدينية والسياسية التى تم التوصل إليها بعد جهود مضنية ، والتي كانت فى نظره هى الشرط الأساسي لوجود الإسلام، وذلك عن طريق استبعاد العناصر الدخيلة بشكل نهائي.

والواقع أنه لم يكن هناك أي وجود لسياسة كسب أنصار جدد للإسلام. فقد تم تهجير اليهود المسيحيين الذين كانوا يعيشون فى بلاد العرب، ولكنهم لم يكرهوا أبدا على الدخول فى الإسلام.

لقد كان من الممكن الترحيب بدخولهم فيه طواعية ، كما حدث فى بعض الحالات التى بلغتنا أخبارها، ولكن إكراههم على ذلك كان أمرا مستبعدا تماما.

وأما عن الكفار فكان فرض الإسلام عليهم يعتبر أمرا واجبا، وإذا كان ذلك لم يتبع بوضوح فى عهد الرسول، فقد أصبح هو القاعدة منذ حروب الردة.

ذلك أن الإسلام دخل منذ بدايته فى صراع مع الكفار العرب، أما اليهود والمسيحيون فقد شعر النبي على الدوام بالعلاقة الوثيقة التى تربطه بهم، وذلك من خلال وحدة الوحي الالهى التى يشاركون فيها. لقد كانوا من " أهل الكتاب" أي أصحاب كتب منزلة، كما كانوا موحدين مثل المسلمين .

وقد أضيفت غلى ذلك مع مرور الزمن اعتبارات سياسية عملية : فلما تبين أن أي محاولة لإكراه الزرادشتيين فى الدولة الفارسية على ا لدخول فى الإسلام ستكون عقيمة، شأنها فى ذلك شأن أي محاولة مع المسيحيين فى ا لدولة البيزنطية ، فقد وضع الزرادشتيون – مع الاستشهاد بالنبي ولكن عمليا منذ عهد عمر- على قدم المساواة مع "أهل الكتاب" ( وكذلك مع مشركى الهند فى مرحلة لاحقة).

وإذا كان الإسلام قد جعل لـ " أهل الكتاب" وضعا خاصا، فلم يكن معنى ذلك طمس الحدود القائمة بينه وبينهم. وحيثما أرادت جماعات أهل الكتاب أن تعيش فى ظل الحكم الإسلامى، كان عليها أن تخضع لشروطه وأحكامه.

وكان النظام المعبر أوضح تعبير عن هذا الوضع هو نظام دفع الجزية للدولة الإسلامية. وعند هذه المرحلة تبين منذ البداية بأجلى صورة أن الإسلام والعروبة ليسا شيئا واحدا.

كانت الجزية تطلب أيضا من المسيحيين العرب، وكان هذا مبدأ جديدا لم يستطع الذين طبق عليهم أن يفهموه فهما تاما.

فالأمير جبلة بن الأيهم- الذى كان آخر أمراء دولة الغساسنة العربية الذين حكموا منذ نهاية القرن الخامس دولة مسيحية صغيرة على الحدود السورية للدولة البيزنطية – هذا الأمير أثبت فى صراعه مع المسلمين أنه خصم خطر، على الرغم من الهزيمة التى كان قد منى بها أمامهم مع حلفائه البيزنطيين .

وقد كان على استعداد لإعلان خضوعه للخليفة لو وافق على إعفائه من الجزية ولكن عمر أصر على موقفه، وصمم على التمسك بالمبدأ حتى ولو رجع جبلة للانضمام إلى صفوف البيزنطيين .

كذلك رفضت التمسك بالمبدأ حتى ولو رجع جبلة للانضمام إلى صفوف البيزنطيين كذلك رفضت قبيلة بنى تغلب المسيحية أداء الجزية المفروضة على غير المسلمين . كما هددت هى الأخرى باللجوء إلى البيزنطيين . ولما كان بنو تغلب قد اشتهروا بأنهم محاربون أشداء ، فقد عمد عمر إلى نوع من التنازل الشكلي.

إذ أمر بأن تعتبر الجزية زكاة شبيهة بالزكاة المفروضة على المسلمين وإن جعل قيمتها مساوية لقيمة الجزية. ونحن لا نعلم إن كانت هذه الأخبار تتفق فى تفاصيلها مع الوقائع التاريخية ، ولكنها تعبر على كل حال عن الصعوبات التى واجهها التصور الإسلامى الجديد الذى لا يحدد الوضع القانوني بالانتماء إلى الشعب بل بالانتماء للدين.

أما عن معاملة السكان غير المسلمين فى المناطق التى تم فتحها فقد أوجدت الدولة الإسلامية نظاما بسيطا وعمليا، وهو نظام ظل متبعا حتى العصر الحديث، بل ما زال محتفظا ببعض ملامحه حتى يومنا الحاضر.

فكما أن المسلم لم يكن فى البداية يواجه الدولة بوصفه فردا، بل يتوسط القبيلة ومن خلال انتمائه إليها، فكذلك لم يتوجه الإسلام لسكان البلاد المفتوحة باعتبارهم أفرادا.

بل توجه إلى المجموع أو إلى الجماعة الدينية . وقد تم هذا بشكل طبيعي بسبب لجوء المسئولين عن السلطة فى أغلب الأحوال إلى الهرب.

بينما بقى رجال الكنيسة المحلية- الذين عاشوا فى ظل الدولة البيزنطية فى حالة صراع مع الدولة الأرثوذكسية- مع جماعاتهم الدينية وكانوا هم الممثلين لها فى التعامل مع الفاتحين الجدد. وقد عقد المسلمون مع الجماعات الدينية معاهدات تضمن حمايتها.

ويتعهد فيها المغلوبون بدفع الجزية للدولة الإسلامية فى مقابل عدم المساس بممتلكاتهم ولا التدخل فى شئونهم الخاصة.

وكان رجال الدين مسئولين أمام الدولة عن الالتزام بنصوص المعاهدة، كما أصبحوا بذلك هم الرؤساء المدنيين لجماعتهم. كان القانون الديني هو المعمول به داخل هذه الجماعات.

وفى القرون اللاحقة اتخذت سلسلة من القرارات والتعليمات التى أكدت الوضع المتدني لغير المسلمين تمييزا له عن المسلمين .

وعلى سبيل التمحك فى السلطة التى كان يتمتع بها الخليفة العظيم سمت هذه التعليمات " شروط عمر" ولكن الأمر الثابت المؤكد هو أن الخليفة العادل لم يكن له أي شأن بها لا من قريب ولا من بعيد.

صحيح أن المسيحيين واليهود لم يكونوا متساوين فى الحقوق تماما مع المسلمين ، ولكنهم فى العهود السابقة لم يتمتعوا فى معظم الأحيان بأي مساواة فى الحقوق مع البيئة التى كانت تحيط بهم، ولذلك شعروا فى ظل الدولة الإسلامية بتحسن أوضاعهم نتيجة عدم تدخلها فى شئونهم .

أما بالنسبة للفرس فقد سار التطور فى مسار آخر مختلف، إذ لم تلجأ طبقة النبلاء أو الكبراء من ملاك الأراضي إلى الهرب من المسلمين ، وإنما أعلنت خضوعها لهم وأسرعت بالدخول فى الإسلام لكي تحتفظ بسلطتها ونفوذها.

بذلك اندمجت بلاد فارس بسرعة نسبية فى المجتمع الإسلامى. والجدير بأن يذكر أن التنظيم القبلي العربي ظل قائما فى هذا المجتمع. فالمسلم العربي كان بطبيعته ينتمي إلى الإسلام عن طريق قبيلته، أما غير العربي الذى دخل فى الإسلام فلم يكن ليستطيع أن يفعل ذلك إلا من خلال انتمائه أو بالأحرى تبعيته لإحدى القبائل العربية.

ومع ذلك فلم يكن هذا سوى إطار تمت فيه مع مرور الزمن تغييرات جوهرية. كان معنى الإسلام هو الخلاص من الشرك والوثنية ومن الصراعات القبلية، أي كان معناه الخروج من المجتمع البدوي والرعوي على الإطلاق.

وفى ظل الإسلام توجه العرب بعيدا عن الصحراء وفى اتجاه المدينة. وكلمة الهجرة، التى تدل على هجرة النبي عليه الصلاة والسلام وصحبه من مكة إلى المدينة، سرعان ما استخدمت بعد ذلك للدلالة على تخلى إنسان عن الحياة القبلية ودخوله فى الجماعة الإسلامية ، وكان هذا يحدث له بوجه عام بصفته محاربا، ولم تكن الحياة فى أثناء الحملات العسكرية لتختلف كثيرا عن حياة البدو خلال الغارات التى اعتادوا أن يشاركوا فيها سعيا وراء الغنائم. ولكن الفرق بين الحالتين كان يتضح بعد الانتهاء من الحرب.

وقد أمر عمر رضي الله عنه الجيوش الإسلامية أن تؤسس مدنا جديدة فى المناطق المفتوحة وتقيم فيها. وبهذه الطريقة نشأت مدة البصرة والكوفة والموصل فى العراق، كما نشأت فى مصر مدينة الفسطاط التى صارت بعد ذلك نواة القاهرة. ومن المحتمل أن القوات الإسلامية كانت تقوم فى أثناء الحملات العسكرية بإطعام نفسها بنفسها، ولكنها عندما كانت تضطر إلى لزوم المدن العسكرية كانت الدولة هى التى تتولى مهمة إمدادها بالمؤن التى تحتاجها.

وقد طور عمر نظام توزيع الغنائم- الذى كانت الدولة قد أخذته عن شيوخ القبائل- وجعل منه نظاما ضريبيا شديد الإحكام: إذ كانت الدولة تقوم بدفع هبات من دخولها للمستحقين للإعالة والرعاية.

وكان من حق كل مسلم حر من حيث المبدأ أن يكون واحدا من هؤلاء المستحقين.

ولكن هذه الهبات كانت من الناحية العقلية مقصورة على المحاربين المقيمين فى المدن العسكرية وعلى عائلاتهم.

بالإضافة إلى سكان العاصمة التى كانت فى المدينة المنورة، وقد أمر عمر- رضي الله عنه- بإعداد قوائم تسجل فيها أسماء المستحقين لإعالة الدولة، وكانت هذه القوائم منظمة تنظيما دقيقا حسب أسماء القبائل.

وقد أدت إعالة الدولي للمسلمين وتركيزهم فى المدن الجديدة المعسكرة إلى عزلهم عن المجتمعات المحلية. وكان هذا أمرا ضروريا عندما كان يتحتم وضعهم على أهبة الاستعداد وتحت تصرف الدولة.

وينسب إلى عمر إصدار قرار يحظر على المسلمين الاستيلاء على أراض زراعية فى المناطق التى فتحت ، بل يحظر عليهم الاشتغال بحرفة الزراعة.

وإذا كان من المحتمل أن مثل هذا القرار لم يصدر أبدا، فمن المؤكد أن عددا كبيرا من المسلمين من بين القادة والجنود البسطاء قد استولوا على أراض زراعية كبيرة وصغيرة وقاموا بفلاحتها.

والمهم أن هذا الخبر يدل على وجود بعض المناقشات التى كانت تدور حول سياسة الحكومة.

وقد كان من حق الدولة تبعا للتقاليد البدوية، أن تحتفظ بنصيب محدد من الغنائم، وأن تقوم بتوزيع الأنصبة المتبقية. ولكن الدولة اتجهت بدلا من ذلك إلى تعظيم مواردها لتتمكن من الوفاء بمهامها وواجباتها المتنامية.

ومن هنا نشأت بعد ذلك النظرية التى تقول إن كل الأراضي التى فتحت ملك للدولة، وذلك لكي تستطيع أن تفيد جميع المسلمين – بما فيهم الأجيال التالية – من خراجها، وقد ارجع هذا التنظيم أيضا إلى عمر رضي الله عنه.

كانت أقل التنظيمات التى أقامتها الدولة الإسلامية المبكرة قدرة على البقاء هى تلك التى استهدفت عزل العرب.

وكانت المزايا التى تعود على المرء من الدخول فى الإسلام قد شجعت الأعداد الكبيرة من الفرس والسوريين والمصريين على الإسراع بالدخول فى الإسلام واندفع سكان المناطق المحيطة بمدن العسكر الجديدة للإقامة فيها، كما وجد العرب من مصلحتهم أن يعيشوا فى المدن العريقة بالأقاليم المفتوحة .

وبعد وفاة عمر بوقت قصير انتقل مركز الثقل للدولة من المدينة إلى دمشق ذات التاريخ التليد. ونما المجتمع الإسلامى الجديد وازدهرت حضارته فى مراكز المدن الواقعة خارج شبه الجزيرة العربية.

والواقع أم جذور هذا التطور ممتدة فى السياسة التى انتهجها عمر ، كما هى موجودة بشكل خاص فى تلك الحقيقة التى تقول إنه فى حقبة الفتوح الإسلامية التى بدأت على يديه لم يسمح أبدا- بالرغم من حرصه على المصالح العربية- بأن يوحد بين الإسلام والعروبة، بل تمسك بالطابع العالمي الشامل للإسلام. ولعل شيئا لم يؤثر فى تطور الإسلام منذ ظهوره مثل هذه السياسة التى يرجع الفضل فيها لعمر بن الخطاب.

من المشكوك فيه أن يكون الخليفة العظيم قد فكر فى النتائج المترتبة على سياسته، وقد نجد هنا مادة جديدة تصلح لمناقشة السؤال القديم عن التاريخ وهل هو من صنع الأفراد أو الأبطال؟ والمؤكد أن عمر لم يكن ليتابع مثل هذه المناقشة أو يفهمها.

فهو فى القرارات الحاسمة التى أصدرها لم يكن مجرد فرد حر، وإنما كان يشعر بأنه مجرد أداة لتنفيذ خطة إلهية. ولكنه اتخذ قرارات فاصلة.

وعندما اتهم ذات مرة بضعف الإيمان لأنه رفض أن يذهب غلى مكان انتشر فيه وباء الطاعون أجاب قائلا: أجل إني لأهرب من مشيئة الله – إلى مشيئة الله ، وهذه العبارة تلخص جهود علم الكلام عند المسلمين فى التوفيق بين ضرورة الفعل الانسانى من ناحية، وبين الإيمان بالقدرة الإلهية المطلقة من ناحية أخرى.

وكون عمر هو الذى نطق بهذه العبارة لهو دليل كاف على شخصية هذا الخليفة القدوة والنموذج الصانع للمعايير . وسواء صدقت نسبة العبارة إليه أو لم تصدق- فإنها تتسق مع شخصيته التاريخية.

لقد كان من أهم عوامل ضعف الإسلام فى العصور المتأخرة أنه تشبث بالتراث بشكل عبودى. وربما كانت القدرة الفائقة على استلهام المواقف والقرارات الجديدة الحاسمة من التراث .

وعلى ضوء المصلحة العامة للجماعة – أي على ضوء العقل وحده – ربما كانت هذه القدرة الفائقة هى أعظم خصال هذا الخليفة العظيم.

وربما كان هو الذى أطلق الدفعة الأولى لجمع الوحي الالهى فى القرآن الكريم.

وإن كان يروى عنه فى الوقت نفسه أنه اعترض على تدوين الأخبار المتعلقة بأعمال النبي عليه السلام وأقواله لكي يحول دون وجود شيء ينافس القرآن الكريم.

وقد كان قرار عمر بتهجير غير المسلمين خارج شبه الجزيرة العربية- وذلك على خلاف التعاليم المأثورة عن النبي عليه السلام- دليلا تاريخيا آخر على تلك القدرة على اتخاذ القرار الحر.

وليس من قبيل الصدفة أن نجد خلال التاريخ الممتد للشريعة الإسلامية أن أولئك الذين يستشهدون بعمر أو يهيبون به هم دائما الذين يبحثون عن طرق جديدة لاختراق التراث الذى تزايد جموده مع الزمن،والذين يعطون الصدارة لمتطلبات التطور التاريخي، والمصلحة العامة والعقل.

11-المسلم والسلطة( 1965)

إن البحث عن العوامل التى تحدد علاقة المسلم بالسلطة يستلزم منا أن ننطلق من الحقيقة التى تقول إن تأسيس الدين الإسلامى كان يعنى منذ البداية تأسيس دولة.

وثمة دلالة بالغة العمق فى حقيقة كون التوقيت( أو التاريخ) الإسلامى يبدأ بالهجرة، أي بهجرة الجماعة الإسلامية الصغيرة من مكة إلى المدينة ، حيت تولى محمد عليه الصلاة والسلام رئاسة كيان سياسي دنيوي ( يمثل أول دولة إسلامية).

وفى السنوات المكية التى بدأ الدين الجديد يتشكل فيها بالتدريج ، غلبت على الرسالة المحمدية الأفكار التى تؤكد خضوع الإنسان للخالق العلى القدير واعتماده الكامل عليه، بحيث بدأ العالم نفسه كأنه عديم الأهمية.

ولكن بعد الهجرة أخذ النبي عليه السلام فى الاهتمام بالعالم والسعي إلى تشكيله. ولم يكن هذا الاهتمام بالتدخل فى أمور الدنيا، مجرد استجابة لضرورة إيجاد حياة طيبة للجماعة.

فقدرة الله تعالى وقضاؤه يظلان فى نظر الإسلام هما المقصد والغاية الأخيرة، ولكنه يعترف كذلك بالدنيا( أو بالعالم) ، ويعرف أن واجبه ومهمته هى تنظيمه وتوجيهه نحو هذه الغاية.

بهذا تكون الدولة الإسلامية الأولى هى أول مؤسسة اجتماعية وأول تجسيد واقعي أو دنيوي للدين الإسلامى.

ولا نزاع فى أن هذا قد خلق موقفا مختلفا اختلافا مبدئيا عما نجده، على سبيل المثال فى المسيحية التى لم ترتبط بدولة إلا بعد تأسيسها بثلاثة قرون.

والمسيحي يمكنه لفصل بين الدين والدولة، وهو يستطيع أن " يدع لقيصر ما لقيصر، عندما يدع كذلك لله ما هو لله" ( إنجيل متى- إصحاح 32 – آية 21) أما المسلم فلا يمكن أن يقوم بهذا الفصل.

إننا نجد بطبيعة الحال فى الإسلام اتجاها للهروب من العالم، والانصراف عن الدنيا الدنية، وقد تبنت هذا الاتجاه فى بعض الأوقات فئات عريضة من المؤمنين بالإسلام .

وليس فى الإسلام جهة عليا تختص بتقرير ما يتفق مع الدين وما يخرج عليه. ولكن هناك مجالا وسطيا واسعا يمكن وصفه بأنه " سني" لأنه استقطب مع الزمن أغلبية المسلمين. هذا الاتجاه أو المذهب السني فى الإسلام يدين الهروب من العالم والانصراف عن الدنيا وهو يفعل هذا لأسباب دينية معقولة.

والأمر الأهم هو أن للإسلام شريعة ينبغي تحقيقها أو تطبيقها فى العالم. من أجل ذلك يجب تنظيم العالم وفق مبادئ الإسلام.

وكل من لا يسلم بذلك يترك أرض الدين الإسلامى كما أسسه محمد عليه الصلاة والسلام.

والإمام الغزالي- فى كتابه الاقتصاد فى الاعتقاد- يبرر ضرورة وجود السلطة بكلمات شديدة الوضوح:" إن السلطان ضرورة فى نظام الدنيا ونظام الدين ضروري فى نظام الدين ونظام الدين ضروري فى الفوز بسعادة الآخرة" إن مهمة إقامة وإدارة دولة تتفق مع مبادئ الدين تضع الإسلام فى معضلة من نوعه خاص- فمثل هذه الدولة تنتمي لمملكة المثل العليا التى قد يتاح للإنسان أن يرى ظلها فى هذا العالم، ولكن ليس فى وسعه تحقيقها فى ا لواقع. إن الدين الإسلام يفرض على المؤمن مهمة سياسية تتخطى حدود طاقته.

والحق إن النهوض بهذه المهمة يصبح منذ البداية أمرا سهلا وصعبا فى آن واحد، والسبب فى ذلك أنه لا توجد لها صيغة واضحة.

والوحي الالهى الذى أنزل على محمد فى القرآن الكريم لا يحتوى على مشروع دستور مفصل، كما أن علماء الدين والشريعة المبكرين لم يهتموا بالتفكير فى بنية الدولة تفكيرا منهجيا منظما.

إن الشريعة الإسلامية تنظم علاقات الفرد بالله وعلاقته بغيره من الناس، ولكن ميدان القانون العام لا يحظى منها بالاعتبار. ومطالب الدين من الدولة مطالب ذات طابع عام.

وتتطور الأفكار المتعلقة بكيفية تشكيل الدولة فى توتر مستمر بين هذه المطالب العامة والمطلقة للدين من ناحية ، وبين الواقع التاريخي من ناحية أخرى.

ويصدق هذا على الدولة التى أسسها محمد عليه الصلاة والسلام وتولى تسيير أمورها بنفسه، ونظرت إليها الأجيال التالية نظرة الإجلال والتمجيد بوصفها تحقيقا للدولة الإسلامية المثالية والواقع أن تلك الدولة تنطوي بوضوح على بعض السمات المستمدة من البيئة التاريخية التى أحاطت بها: من مجتمع القبائل البدوية العربية، ومن المدن الزراعية والتجارية، ومن مظاهر التكيف مع المتطلبات العملية للسياسة فى ذلك الحين.

لنبدأ الآن بالنظر فى العناصر الأساسية التى تعبر عن متطلبات الدين: فالمشرع هو الله ،وقد أنزل الشريعة مرة واحدة وإلى الأبد فى القرآن الكريم وليس فى استطاعة البشر أن يغيروها، ولكنهم يستطيعون فحسب أن يفسروها.

ولا يقتصر الحق فى هذا التفسير للشريعة على فئة خاصة، وإنما هو حق لكل مسلم يمتلك المعارف العلمية والمواهب العقلية المطلوبة لذلك، وبهذا يمكن من الناحية المبدئية لأي إنسان حائز الشروط السابقة أن يكون قاضيا يحكم بين الناس .

إن السلطة كلها فى يد الله العلى القدير. وهو يفوض فيها إنسانا يتوسط بينه وبين الناس، وهو النبي الذى يخلفه بعد وفاته الإمام أو الخليفة ( أي خليفة رسول الله) ويترتب على عقيدة التوحيد وعلى عالمية الإسلام أنه لا يمكن أن توجد إلا دولة واحدة، ولا يمكن أن يوجد فى زمن محدد إلا خليفة واحد، ولا يمكن تصور وجود سلطات شرعية أخرى إلا إذا استمدت سلطتها من الخليفة الذى استمدها بدوره من الله .

ويصف لوى ماسينيون هذه الدولة الإسلامية بأنها دولة العلمانيين الدينية القائمة على المساواة. فهي دولة دينية ( ثيوقراطية) لأن القوة كلها والسلطة كلها لله وحده، وهى دولة دينية للعلمانيين لأن الإسلام لا يعرف نظام الكهنوت ولا يعترف بوجود أحد يستأثر أو ينفرد بالتعمق فى أسرار الدين.

وهى أخيرا دولة دينية قائمة على المساواة لأن الناس جميعا، حتى الخليفة نفسه ، متساوون أما قدرة الله وأمام شرع الله.

هذه المساواة بين الناس جميعا أمام الله والشرع، ومن ثم فى النظام السياسي والاجتماعي، هى فى الحقيقة فكرة ثورية جاء بها الإسلام إلى العالم، وهى تقوم بغير شك على أساس مثل أعلى متضمن فى " دستور" القبيلة العربية القديمة، حيث كان لجميع الرجال الأحرار من الناحية المبدئية حقوق متساوية.

ولكن الإسلام يذهب إلى أبعد من ذلك حين لا يقصر المساواة على قبيلة معينة ولا على فئة الرجال الأحرار داخل القبيلة، وإنما يمدها لتتسع لجميع المؤمنين .

وتتجلى ثورية مبدأ ا لمساواة الإسلامى بشكل أعظم بالنسبة لبنية الدول الشرقية العظمى القديمة بتفرقتها الحادة لبين وضع الحاكم ووضع الرعية.

وعندما يضع الإسلام الحاكم والرعية داخل نظام واحد من الحقوق والواجبات، فإنه يكاد يجعل أفراد الرعية أو المحكومين مواطنين بالمعنى الذى نفهمه اليوم من كلمة المواطن.

ويبدو أن هذا الطابع الديني، إلى جانب طابع المساواة اللذين يميزان الدولة الإسلامية، يضعان حدودا ضيقة تقيد قوة السلطة وتحكمها.

لا شك فى أننا نقرأ فى القرآن الكريم قول الله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم ( النساء 59) كما نقرأ كذلك قوله عز من قائل :" .. ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا" ( الكهف 28).

وهناك أحاديث شريفة تضع واجب الطاعة وحدودها جنبا إلى جنب، وذلك فى حديث شريف يقول ما معناه: على المسلم شاء ذلك أو لم يشأ أن يسمع ويطيع إلا فى معصية الله، كما فى حديث آخر لا طاعة لمن عصى الله" .

من الأمور البديهية الواضحة إذن ، أنه ليس من الواجب على المسلم طاعة السلطة إلا إذا كانت أوامرها فى إطار الشرع، بل ربما لا تجب عليه هذه الطاعة إلا إذا كانت هذه السلطة مطيعة لله بوجه عام لا فى الأحوال الخاصة فحسب. أما ما هى الطاعة لله وما هى المعصية. فذلك ما يستطيع كل مؤمن أن يحدده.

ومن أهم الواجبات الاجتماعية للمسلم أن يراقب مدى الالتزام بالشرع، وأن " يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر" صحيح أن هذه هى فى المقام الأول مهمة السلطة . ولكن السلطة أيضا، ووفقا للمبدأ نفسه، تخضع لرقابة الجماعة وتصحيحها لها.

ويقيم علماء الدين على هذه الأسس العقائدية كيانا مثاليا يثبت – من الناحية النظرية- اعتماد السلطة على الجماعة بشكل قانوني. والواقع أن التصور الملتزم بالدين التزاما حرفيا لم تتم صياغته أبدا بشكل موحد.

ومع ذلك يمكننا أن نبين معالمه على الوجه التالي: إن الخليفة ، وهو رمز السلطة ، يتبوأ منصبه بناء على تعاقد منظم. ويحدد علماء الدين الشروط التى يجب توافرها فى المرشح لمنصب الخلافة: فلابد أن يكون حائزا خصالا أخلاقية وعقلية وجسدية عالية ، وأن يكون من قريش .

ومن بين الذين يلبون هذه الشروط يكون تعيين الخليفة عن طريق الانتخاب. ويشترط كذلك فى الناخبين أن تتوافر فيهم بعض الصفات البسيطة: الأهلية الشرعية الكاملة.

معرفة شروط منصب الخلافة والحكمة الضرورية لانتخاب المرشح الصالح له. وبعد انتخاب الخليفة يكتمل التعاقد بإعلان الجماعة بيعتها له. ويكون على الخليفة فى هذه الحالة أن يؤدى عددا من المهام المحددة: المحافظة على الدين، تنفيذ الشرع والأحكام الشرعية . حماية النظام والأمن .

التنظيم الداخلي للدولة، الدفاع عن أراضى الدولة والتوسع فيها. وعليه فى كل هذه المهام ألا يتخذ قراراته بمفرده، بل يستشير فيها أهل الرأي والمشورة- ومن جهة أخرى يجب على المؤمنين طاعته وتأييده، فإن لم يفعلوا كان من حقه إجبارهم عليهما .

ويلزم عن مبدأ التعاقد أن يسقط التعاقد عندما يخل أحد الطرفين بالالتزام بشروطه، أى أن الخليفة يمكن إعفاؤه من منصبه إذا فرط فى واجبات منصبه أو قام بها بصورة غير مرضية.

لا شك فى أن مبدأ الانتخاب والتعاقد يمد جذوره التاريخية فى ممارسات القبائل العربية التى كانت تقضى بأن يقوم أعضاء القبيلة المرموقون بانتخاب شيخ القبيلة أو رئيسها الأعلى الذى كان يكلف كذلك بمهام محددة.

أضف إلى ذلك الأساس الاعتقادى الذى تقوم عليه المساواة بين جميع المؤمنين أمام الله والشرع.

وخضوع الخليفة خضوعا مطلقا للشرع مع الرقابة المفروضة عليه من الجماعة.

وانتخاب الخليفة، وقيام منصبه على أساس التعاقد مع إمكان خلعه، والتزام الخليفة بأخذ مشورة أهل المشورة المستقلين- كل هذا لا يعنى أبدا أن الدولة الإسلامية المثالية كانت ديمقراطية بالمعنى الحديث الذى نفهمه من هذه الكلمة.

فالخليفة لا يصبح عن طريق الانتخاب ممثلا للشعب ، والمنتخبون هم فى الحقيقة أدوات لله ينفذون مشيئته بانتخابهم للخليفة ، كما أن الخليفة فى حكمه لا ينفذ بدوره إلا إرادة الله ومشيئته، ومع ذلك كان من الممكن على أساس المبادئ المذكورة أن تقوم دولة ذات سلطة مقيدة ومحدودة القوة، وتخضع أيضا لتأثيرات لا يستهان بها من جانب المواطنين.

لكن هذا المثل الأعلى للدولة لم يكن من الممكن أن يتحقق فى الواقع التاريخي ، فالضرورات المترتبة على حكم دولة إسلامية شاسعة الأرجاء ، وطموحات القوة وأطماع السلطة عند من تولوا أمورها، قد حالت دون تحقيقها.

ولما كان هذا المثل الأعلى يستند إلى الوحي الالهى، فلا يستطيع المؤمنون أن يسلموا بعدم إمكان تحقيقه.

ولما كانت دولة الخلافة هى التجسيد الاجتماعي الوحيد للدين. وكان من الضروري أن يطبق فيها الشرع الالهى .

فلابد من أن تكون تلبية الدولة لمطالب الدين، وتحقيقها لتعاليمه، وشرعية السلطة الحاكمة.

من القضايا الملحة عند المسلمين . ومن هنا كانت الاتجاهات السياسية المختلفة فى العصر الإسلامى المبكر ذات طابع دينا على الدوام. كما ارتبطت الاتجاهات الدينية المختلفة باستمرار بحركات سياسية متنوعة.

ومن هنا يتضح أيضا أن مثال الدولة يجب أن يفسر منذ البداية من خلال الممارسة العملية. وأن العلماء الذين عهد إليهم القيام بهذه المهمة ، وجدوا أنفسهم منذ البداية أيضا مضطرين لإنقاذ المثال عن طريق التوفيق بينه وبين الواقع.

والمثال الذى يتغير بهذه الصورة يؤثر بدوره من خلال وعى الناس على التاريخ السياسي.

والواقع أن تطور الدولة الإسلامية من الناحيتين العملية والنظرية لا يمكن أن يفهم إلا عن طري هذا التأثير المتبادل.

لقد انطلق أول وأكبر انقسام فى الإسلام من النزاع حول الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين .

ومما يؤكد بوضوح أن الأمر لم يكن مجرد خلاف سياسي خالص، أن هذا النزاع قد أدى إلى نشأة حركتين غير ملتزمتين بالسنة( أو بالروح المعتدلة والملتزمة بحرفية النص وظاهره وبجوهر التدين الأصلي) وهما الشيعة والخوارج، ولكل من هاتين الحركتين تصورها الديني والسياسي للدولة.

فالشيعة تلتف حول الإمام الروحي الذى تجلله هالة من السحر والكرامة. ولابد أن يكون من سلالة الرسول عليه السلام، كما أن الله سبحانه قد وهبه العصمة.

ويفترض مونتجومرى وات افتراضا لا يخلو من جاذبية آسرة، عندما يرجح أن يكون هذا التصور مستمدا من القبائل العربية الجنوبية التى كان لديها تراث عريق من تقديس الملكية والملوك.

وعلى العكس من ذلك يرى الخوارج أن الجماعة أكثر أهمية من الإمام. وأنها هى حاملة السحر والكرامة والجلال والعصمة.

وهناك فريق من الخوارج الذين لا يرون أي ضرورة على الإطلاق فى وجود خليفة، كما يتفق جميع الخوارج فى أن الانتماء لقريش ليس شرطا لازما للتعيين فى منصب الخلافة، وأن الأهم من ذلك هو اختيار أصلح الناس له أيا كان الأصل الذى ينحدر منه.

والواقع أن هذا الرأي يتفق أتم اتفاق مع مبدأ المساواة فى الإسلام وعندما يعلن الخوارج أن الثورة أو الخروج على الخليفة الظالم ليس مجرد حق بل واجب حتمي على الجماعة، وعندما يصل الأمر بهم إلى حد المطالبة بإعدامه، فإن هذا كله يعد تطورا منطقيا ، وإن يكن حاسما ومتطرفا. للمثل الإسلامى الأعلى للدولة ولما كانت هذه الآراء تتعارض بسبب تطرفها الشديد مع واقع الحياة السياسية الإسلامية تعارضا شديدا.

فقد اتهمت كذلك بالخروج على الدين، وبأنها من البدع، شأنها فى ذلك شأن التصور الشيعي الأغرب منها.

وقد سبق ذلك الانقسام إلى شيعة وسنة انقسام ديني وسياسي خطير فى أوساط المسلمين المعتدلين الذين يوصفون بأهل السنة .

وقد بدأت بوادر هذا الانقسام بعد عودة النبي عليه السلام من المدينة إلى مكة وإدماجه لمدينته وموطنه الأصلي ( مكة) فى ا لدولة الإسلامية الجديدة، وكانت هذه خطوة مهم على الطريق إلى الدولة الإسلامية الكبرى.

بمعنى أنها أدخلت فى بنية الدولة عناصر عملت بالتدريج على طبعها بالطابع الدنيوي أو العالمي.

ومن المسلم به أن أثرياء مكة الأرستقراطيين لم يعلنوا إيمانهم بالإسلام عن دوافع انتهازية فحسب، بل لأنهم كذلك قد تأثروا تأثرا حقيقا بالدين الجديد وأخذوا بحيويته الرائعة.

وإذا كانوا قد اهتموا قبل كل شيء بانتشار الإسلام فى العالم. فإنما أكدوا بذلك عنصرا قائما فى الدعوة المحمدية .

ولكنهم وضعوا أنفسهم بذلك فى مواجهة دينية وسياسية حادة مع الصحابة الأولين أو أهل الورع الذين كانوا يعيشون فى المدينة ويوجهون أبصارهم إلى ا لآخرة فيشتد حرصهم على الشرع واهتمامهم بالمحافظة على الشريعة.

استطاع محمد عليه الصلاة والسلام ومن بعده أبو بكر وعمر أن يحافظوا على تماسك هاتين القوتين المتعارضتين .

وذلك بوضع فضائل كل منهما فى خدمة الدولة الإسلامية الفتية: فبينما كان أثرياء مكة- ولا سيما أبناء بنى أمية- يعملون خارج شبه الجزيرة كقادة للجيوش وولاة على الأقاليم التى تم فتحها، كان الصحابة وأهل الورع يحرصون على الاستنارة برأيهم ومشورتهم.

والحقيقة أن الانقسام والتوتر كان قد بدأ منذ وصول الأموي عثمان إلى الخلافة ومحاباته الشديدة لعشيرته، ثم قام بعد ذلك بدور كبير فى الاضطرابات اللاحقة، وذلك بجانب الخلافات القبلية والعشائرية القديمة والصراعات المستمرة مع الشيعة والخوارج.

وإذا كان الأمويون قد عادوا للاستيلاء على الخلافة بعد وفاة على رابع الخلفاء الراشدين فى سنة 661 م، فإن ذلك كان معناه انتصار الاتجاه " الدنيوي" بين أهل السنة.

كان على بن أبى طالب قد ترك العاصمة القديمة فى المدينة، ونقل الأمويون مقر الخلافة والحكم طوال القرن التالي إلى دمشق . وبذلك ابتعدوا بأنفسهم وبإدارة الدولة عن تأثير أهل الورع فى المدينة.

وتمثلت المعارضة بعد ذلك ى الأتقياء الورعين من ناحية ، والثوريين المتهمين بأنهم من أهل البدع( أي الشيعة والخوارج) من ناحية أخرى، وذلك بعد أن شعر الطرفان بأنهم قد فقدوا وزنهم السياسي. ووصلت المعارضة إلى حد الحرب الأهلية.

ولم يقتصر الخوارج والشيعة على إعلام خلفاء منافسين ينازعون الحكم الأموي بكل الوسائل ، بل شاركهم فى ذلك قدامى الصحابة وأهل الورع. اتهم الخلفاء الأمويون من جانب خصومهم بأنهم قد حولوا " خلافة رسول الله " إلى ملكية دنيوية ، بل وثنية. والصحيح أنهم خلعوا على الدولة الإسلامية طابعا جديدا.

فقد ساروا على سياسة الأسر الحاكمة التى يتعذر التوفيق بينها وبين مبدأ انتخاب الخليفة . ونقلوا مقر حكمهم إلى دمشق بعيدا عن تأثير أهل الورع، واستلهموا التراث البيزنطي الذى تجاوب تصوره عن الدولة العالمية تحت حكم الملك الشامل مع طموحهم للقوة والسلطة ، كما بدءوا أيضا فى التعليم من التقاليد القديمة للدولة الفارسية الكبرى.

غير أنهم بالرغم من كل ذلك لم يفكروا أبدا فى التنكر للإسلام .

بل كان العكس من ذلك هو الصحيح: فقد شعر الخلفاء الأمويون بأنهم حملة رسالة أو أمانة تفرض عليهم أن يثبتوا دعائم قوة الإسلام فى الأرض ويبسطوا نفوذه ويتوسعوا فيه.

لذلك كان عليهم أن يعتبروا أي معارضة وأي محاولة للتمرد على حكمهم معارضة للإسلام نفسه وتمردا عليه وتهديدا لوحدة الجماعة التى تقع تحت قيادتهم.

ومن هنا وقفوا فى وجه خصومهم – سواء كانوا من أهل السنة الورعين أومن فرق الشيعة والخوارج- بكل حزم وحاربوهم بكل قسوة .

بل أنهم لم يتورعوا عن فرض الحرب على المدينة ومكة، ومما له دلالة على وحشيتهم الدموية أن القائد الأموي الحجاج بن يوسف لم يتردد ، أثناء حصاره لمكة فى عام 72 بعد الهجرة، عن ضرب الحرم المكي بالمقاليع الحجرية الضخمة، وذلك للقضاء على الخليفة المنافس عبد الله بن الزبير.

كشفت الصراعات المريرة التى خاضتها جميع الأطراف عن مدى اهتمام المؤمنين بمشكلة شرعية السلطة.

وقد لعبت المشكلة دورا أساسيا فى الحفز على الشروع فى المناقشات الدينية ، وبذل الجهود المضنية فى صياغة العقيدة الإسلامية .

وإذا كان العلماء قد بدءوا فى ذلك الوقت فى جمع الحديث النبوي الذى سيصبح مصدرا أساسيا لعلوم الدين والشريعة، فقد كانت المواقف المختلفة فى الصراعات السياسية عاملا حاسما فى ذلك.

وكان من الطبيعي أن يجد كل طرف من الأطراف المتصارعة، أو يوجد أحاديث تتفق مع وجهة نظره.

فالجناح الورع من أهل السنة ينشر فى المقام الأول أحاديث تبين حدود الالتزام بواجب الطاعة.

ومن هذه الناحية يوصف المؤمن الذى يسقط خلال الصراع مع الحاكم الظالم. بأنه شهيد ومن ناحية أخرى يروج أنصار الخليفة الأموي أن من خرج على البيعة فقد خرج على الجماعة وهدد أمن المؤمنين .

ولذلك يستحق أن يعتبر كافرا. بل لقد نشأت فرقة كلامية تؤيد الأمويين وتبرر الطاعة والإخلاص للخلفاء تبريرا دينيا ، وهى فرقة المرجئة.

والفكرة الأساسية لهذه الفرقة تذهب إلى أن المسلم لا يمكن أن يفقد إيمانه بسبب وقوعه فى الإثم، وأن الحكم على ا لخارج على الجماعة الإسلامية ينبغي أن يؤجل إلى يوم الدين.

وهكذا يبقى الحاكم مسلما حتى ولو ارتكب الكبائر، كما تبقى الجماعة مدينة له بالطاعة.

هذا التصور الذى ذهبت إليه المرجئة سرعان ما امتد تأثيره وتعاظم. فقد تبناه من الناحية العملية الاتجاه الوسطى والتوفيق بينها. وهو الاتجاه الذى يسعى غلى التوسط بين وجهات النظر المتطرفة والتوفيق بينها. وهذا الاتجاه لا يتجاهل آثام الحكام وخطاياهم.

ولا ينكر المبادئ القديمة التى تقوم عليها الدولة الإسلامية الشرعية ، ولكنه يعلن أن نظام الدولة ووحدة الجماعة يتطلبان أن يطيع الناس فى كل الأحوال صاحب السلطة الفعلي، حتى ولو كان من الناحية الشخصية أحط الناس وأحقرهم.

"سلطان ( إمام أو أمير) ظالم غشوم خير من فتنة تدوم" هكذا يقول نص حديث شريف نشره أصحاب هذا الاتجاه الوسطى.

أو كما يقول نص آخر ( ينسب – فى رأى السيوطي- يلاحظ من المؤلفات السابقة الذكر أن أصحابها قطعوا أشواطا لا بأس بها فى محاولة التوفيق بين المثل الأعلى للدولة الإسلامية وبين الواقع الفعلي. أنهم يحافظون من الناحية المبدئية على مبدأ انتخاب الخليفة.

ولكنهم يعترفون للخليفة إلى جانب ذلك بحقه فى تحديد خليفته، وهو ما يعد تبريرا للحكم الوراثي.

ولما وجدوا أن هذا كله لا يكفى لتفسير الإجراءات السائدة فى " صناعة الخلفاء" فقد أمكنهم العثور على حلول أخرى : ففي موضوع الانتخاب كان الشك يحيط دائما بإمكان مشاركة الشعب فيه، ولذلك تم التغاضي عنها لأسباب عملية، وقصر حق الانتخاب على " أهل الحل والعقد"- وهو فى الحقيقة تعبير غامض، قصد به علماء الدين بوجه عام، بل عدد محدود منهم.

والغريب أن الماوردى يذهب إلى حد القول إن شخصا واحدا" يكفى لانتخاب الخليفة. أما ابن حزم فيرى أن يقتصر الحق فى تحديد الخليفة على أقل عدد ممكن من الأشخاص .

وأخيرا يصر أبو يعلى على تدخل" أهل الحل والعق" جميعا فى هذه الأمر، ولكنه يخفف على الفور من إصراره عندما يقول إن انتخاب الخليفة وتعيينه بموجب التعاقد يمكن الاستغناء عنهما معا، صحيح أنه يطالب بحق " أهل الحل والعقد" فى الموافقة على تعيين الخليفة، ولكنه يوجب عليهم ألا يتأخروا فى إعلان هذه الموافقة .

وهكذا يبرر كلا الرأيين فى النهاية أي شكل من أشكال تعيين الخليفة فى منصبه ، حتى ولو تم ذلك عن طريق القوة والقهر. أما عن الشروط الواجب توافرها فى الخليفة، فإن المؤلفين المذكورين يتمسكون بما قال به السابقون عن الخصائص والخصال المؤهلة لتولى الخلافة.

ولكن " أبو يعلى" وحده يبدى استعداده للاستغناء عن جميع الشروط باستثناء شرط واحد هو ضرورة الانتماء لقريش- أما تفوق الخليفة وتميزه فى العلم أو التقوى والورع أو حتى فى السلوك فى حياته سلوكا لا غبار عليه – فإن كل ذلك لايبدو أمرا ضروريا عند " أبو يعلى". ويرى العلماء الذين وضعوا الكتب السابقة أن خلع الخليفة أمر ممكن.

وهم متفقون على ذلك فى الحالات التى يصاب فيها الخليفة بعيب جسدي أو مرض عقلي يجعله عاجزا عن أداء مهام منصبه- والواقع أن أقوالهم فى ذلك لم تكن مجرد أقوال علمية أو نظرية خالصة، إذ طالما اعتدى المغتصبون للسلطة على بعض الخلفاء وسلموا أعينهم.

ويتحدث الماوردى والبغدادي وابن حزم عن ضياع هيبة الخلافة إذا كان الخليفة فاجرا فى حياته وسلوكه أو بدر منه ما يدل على الإلحاد أو الخروج عن الشرع . ولكن " أبو يعلى" يرى على العكس من ذلك أن هاتين الحالتين لا تمنعان الخليفة من الاستمرار فى منصبه .

أما فى الحالات التى يفقد فيها الخليفة حريته، فإن الماوردى وأبو يعلى يرجعان لوجهة النظر نفسها: فإذا وضع الخليفة تحت وصاية أحد " معاونيه" – أي أحد القواد أو الوزراء – دون أن يظهر هذا علانية، فإن الخلافة لا تضار من ذلك . وإذا تماشت أعمال " الوصي" مع تعاليم الدين ومقتضيات العدل. فعلى الخليفة أن يقر هذه الأعمال حتى لا يضار الشرع فتضار الجماعة.

أما إذا لم يتيسر ذلك فيجب على الخليفة أن يلتمس العون والمساعدة للتخلص من " الوصي" عليه، بهذا يكون خضوع العباسيين للبويهيين قد تم تبريره، كما ينبه البويهيون فى الوقت نفسه بوضوح إلى أن وصايتهم على الخلافة لا يمكن أن يعترف بها اعترافا غير مشروط، فالحبس المستمر فى يد الأعداء يؤدى إلى فقد منصب الخلافة.

ويستثنى من ذلك أن يكون هؤلاء الأعداء من المسلمين الثائرين الذين لم يعينوا عليهم خليفة بعد، فالأمر فى هذه الحالة مشابه للحالة السابقة التى يكون فيها الخليفة " تحت الوصاية" أي أن على الخليفة أن يقر بشرعية الأعمال فيها الخليفة " تحت الوصاية" اى أن على الخليفة أن يقر بشرعية الأعمال التى يقوم بها قاهروه ولا تتعارض مع الدين.

واللافت للنظر حقا هو رأى الماوردى وأبو يعلى فى أن من واجب الخليفة أن يقر بالإمارة للغاصب( أي مغتصب السلطة) الذى ينجح فى السيطرة بالقوة على بلد ما، وذلك مرة أخرى للحفاظ على القانون والشرع، ولسبب آخر كذلك، وهو حفز الغاصب على إعلان الطاعة. وإذا تصادف أن كان الغاصب لا يصلح لتولى الإمارة، فينبغي أن يعين له معاون كفء يقوم بالممارسة الفعلية للسلطة .

والغريب أن الماوردى أبو يعلى لا يقولان لنا كيف يمكن الحد من سلطة الغاصب أو معاونه . فالواقع أن القاعدة السارية هنا هى أن " الضرورات تبيح المحظورات".

هكذا سار أهل السنة- فى سبيل حماية الجهاز الادارى والنظام الشرعي والقانوني من أي اضطراب- على طريق يؤدى إلى التضحية بالشرعية الحقيقية للرئيس الأعلى للدولة ، ثم استمر السير على هذه الطريق.

فعندما حل السلاجقة السنيون بعد ذلك بنص قرن محل البويهيين الشيعيين لعلى ابن أبى طالب رضي الله عنه لا إلى النبي عليه السلام) : حتى مع الأمير الآثم يؤمن الله الطرق . ويقاتل الأعداء فى الجهاد. ويحصل الضرائب.

وتحت حكم الأمير آثم تنفذ الحدود. ويتم الحج غلى مكة، ويستطيع المسلم حتى وفاته أن يؤدى شعائر دينه" .

وإذا وجد المسلم أن هذا الموقف يتعارض مع واجبه فى النهى عن المنكر، فإن الحديث الشريف ينصفه ويعطيه الحق فى الوقوف مع الواجب ولو كان ذلك بقلبه وحده: "من رأى منكم منكرا فليغيره ( أو فلينكره) بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان " وأخيرا فإن السلطة من الله.

وإذا أثمت كان الأمر فى ذلك بينها وبين الله: " لا تسبوا الولاة: فإنهم إن أحسنوا كان لهم الأجر وعليكم الشكر، وإن أساءوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، وإنما هم نقمة ينتقم الله بها ممن يشاء ، فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية والغضب، واستقبلوها بالاستكانة والتضرع" والمعنى منكل ما سبق أن علماء الدين يحرمون على المؤمن الخروج على الحاكم أو التمرد عليه، ويفرضون عليه الطاعة لأوامر السلطة بغير أن يسأل عن شرعية هذه السلطة.

صحيح أننا يمكن أن نفترض أن واجب الطاعة لا ينسحب على الأوامر بالسيئات، ولكن هذا الجانب من جوانب المشكلة كاد أن يسكت عنه. بل يبدو إلى حد كبير وكأنما أزيح عن الوعي، وهكذا نشأ فى الإسلام السني اتجاه واضح للخضوع للسلطة خضوعا يكاد أن يكون غير مشروط، أي نشأت حالة " التقية" المبررة من الناحية الدينية .

وتعاظم الاتجاه السني على مر التاريخ من خلال الجهود التى بذلها علماء الدين للتوفيق بين النظرية والواقع، وذلك حرصا منهم على إنقاذ النظرية وبالتالي إنقاذ المثل الأعلى للدولة الدينية ذلك أن الواقع لم يقترب من المثال ، بل أخذ يبتعد عنه بصورة مستمرة .

كانت المشكلة فى البداية تتمثل فى اصطدام الخلفاء الأمويين مع متطلبات المثل الأعلى القديم للدولة الإسلامية ودخولهم فى صراع مع " أهل الورع" من علماء الصحابة الذين شعروا بأنهم حفظة ذلك المثال والحراس عليه.

ولما أسقط العباسيون الدولة الأموية وانتزعوا الخلافة، حاولوا جاهدين- عن قصد ووعى- أن يضفوا عليها الطابع الديني، وأن يتقربوا من أهل الورع ويقربوهم من دولتهم.

غير أنهم لم يرجعوا إلى المثل الأعلى القديم ، بل تخلوا عن مبدأ المساواة الإسلامى بأكثر مما فعل السابقون عليهم، إذ ولوا وجوههم نحو التراث الفارسي القديم عن الدولة العظمى وتقاليدها، ففصلوا بين الحكام وجعلوهما طبقتين منفصلتين : أضف إلى ذلك تمزق الدولة وضياع وحدتها ، فقد هرب أحد الأمويين غلى أسبانيا وأسس هناك خلافة منافسة لم يكن من الممكن قهرها، إذ أثبتت قدرتها على البقاء، وفى وقت لاحق أقام الفاطميون خلافة شيعية .

ونشأت فضلا عن ذلك فى أرجاء العالم الإسلامى إمارات مستقلة بالفعل، وإن لم يمنعها ذلك من الاعتراف الشكلي بالسلطة العليا للخليفة، وأخيرا أصبح الخلفاء العباسيون أنفسهم فى عاصمتهم بغداد تابعين تبعية صريحة للقواد الأجانب من المرتزقة الذين كانوا قد لجئوا إليهم واستدعوهم لحمايتهم .

وهكذا لم يكد يبقى شيء من فكرة الدولة العالية التى يفترض أن " خليفة " الله مكلف بحكمها بشرع الله.

وقد بدأت الصياغة المنهجية للقانون الدستوري الإسلامى فى غمرة هذا التدهور التاريخي للدولة الإسلامية .

وفى منتصف القرن الخامس للهجرة حوالي سنة 1030 م – كتب القاضيان البغداديان الماوردى وأبو يعلى كتابين شاملين عن قواعد الحكم أو على حد تعبيرهما – عن الحكام السلطانية.

فى هذا الوقت الذى وضع فيه الكتابان كان قد مضى على العباسيين ما يقرب من قرن كامل تحت وصاية البويهيين الذين كانوا من الشيعة، ولم يكن لديهم أي مسوغ ديني مباشر للاعتراف بسلطة الخليفة السني، حتى ولو كان ذلك على سبيل الاعتراف الشكلي. ولعل الخليفة كان يحاول من جانبه التخلص من وصاية أولئك القواد والحكام الشيعة أو على الأقل الحد من سلطانهم.

وقد بين المستشرق الانجليزي " هاملتون جيب" أن الماوردى ألف رسالته السابقة الذكر بناء على رغبة الخليفة أما رسالة " أبو يعلى" التى لم يهتم بها البحث العلمي حتى الآن اهتماما كافيا، فيبدو من الواضح أنها قد وضعت فى السياق التاريخي نفسه، وهى تتفق مع رسالة الماوردى اتفاقا كبيرا ، وغن كانت تؤكد فى بعض المواضع وجهة نظر المذهب الحنفي- الذى ينتمي إليه أبو يعلى- حيثما وجد اختلاف بينه وبين وجهة نظر المذهب الشافعي الذى يعبر عنه الماوردى.

وهناك أفكار مشابهة يمكن أن نجدها فى كتابين تم تأليفهما فى التوقيت نفسه تقريبا.

وهما كتابا عبد القاهر البغدادي وابن حزم الذى كان يعيش فى الطرف الآخر من العالم الإسلامى وعاصر بنفسه تفكك الدولة الأندلسية.

وسوف نحاول فى الصفحات التالية أن نستخلص من الكتب السابقة الموقف العام لأهل ا لسنة فى تلك الحقبة المهمة.

بحيث توافرت العناصر السنية التى يمكن أن تقوم بالوصاية على الخليفة، نجد الإمام الغزالي نفسه يعترف بأن خليفة رسول الله ( أو خليفة الله كما يصفه الغزالي أحيانا) قد أصبح فى حالة تبعية كاملة لقوى أرضية أو دنيوية أخرى، ولهذا يعلن أن افتقار الخليفة ( أو الإمام) للشروط المطلوبة فيه يمكن أن يعوضه معاونون أكفاء، وأن حرمانه من الحميمة والقدرة على القتال يعوضه قائد شجاع، وقلة خبرته بفن الحكم والسياسة يعوضه وزير محنك ، وجهله بأمور الدين يعوضه من يقدم له الرأي والمشورة من أهل العلم والورع وفى هذا كله يقول الغزالي فى " الإحياء" ( ما معناه):

" إن سلطة الحكم تعتمد الآن على القوة العسكرية وحدها. ومن يقف قائد القوات فى جانبه فهو الخليفة.

ومن يملك زمام القوات فى يده ويعترف، فى صلاة الجمعة وفى صك النقود، بالخليفة اعترافا مبدئيا فهو سلطان يمارس الحكم والقضاء حسب الشرع"، ":ولكن الغزالي يستطرد إلى العسكر بحيث يصعب خلعه، وإذا أدى تغيير الحكم غلى ا لفتنة الفظيعة فيجب تركه فى مكانه والإقرار له بالطاعة".

ولما أطاحت عاصفة المغول- بعد ذلك بقرنين من الزمان- بخلفاء بغداد وطردتهم إلى القاهرة ليعيشوا فيها حياة بائسة. وجدنا الفقيه " ابن جماعة" يسلم مقاليد الخلافة بغير قيد ولا شرط لأصحاب القوة. ويقول فى ذلك ما معناه:

" عندما يطمع فى لخلافة من لا يستحقها، ويقهر الناس بقوته وقواته. وذلك بغير اعتراف شرعي ولا دليل على خلافته فينبغي الاعتراف بشرعيته ووجوب الطاعة له. وذلك للحفاظ على نظام الجماعة الإسلامية ووحدتها.

وعندما يأتي شخص آخر ويقهر الأول بقوته وقواته، فإن الأول يخلع ويكون الثاني هو الخليفة. وذلك على أساس ما بيناه من مصلحة الجماعة.

ويحرص ابن جماعة من الناحية النظرية على ا لمطالبة بأن يكون من حق الخليفة تعيين الأمير الدنيوي. ولكنه بوجه عام يعتبره مسئولا أمام الله مسئولية مباشرة.

هكذا يكون الاتجاه السني الاساسى فى نظرية الدولة الإسلامية قد أفرغ تصورها القديم من مضمونه، وهل بقى هناك معنى للقول إن الخليفة يحافظ على شريعة الهش إذا كان هذا الخليفة تابعا تبعية تامة للقوة المسيطرة ؟

الواقع أنه قد أصبح من الممن الاستغناء عنه من الناحية العملية وتكليف القائمين على السلطة الفعلية- مع ما فى ذلك من تضحية بالوحدة السياسية للإسلام- بالمحافظة على الشريعة.

ولابد أنه قد وجد- تحت حكم المغول- من يرى أن الأمير الكافر العادل خير من الأمير المسلم المستبد بطغيانه ، أي أن الشريعة الإسلامية قد صارت مهددة بأن تحل محلها شريعة غير إسلامية، بيد أن المسلمين لم يتعرضوا لهذا الخطر، لأن المغول دخلوا فى الإسلام، وقد بذل بعض مفكري الإسلام، بعد أن فقدت الفكرة القديمة عن الخلافة قيمتها، ما فى وسعهم للإبقاء على ارتباط الأمراء بالشريعة، كما أن المسلمين لم يكفوا أبدا من الناحية العملية هن قياس السلطات المهيمنة عليهم بهذا المقياس.

ولكن النتائج الملموسة التى ترتبت على ذلك قد خيم عليها فى معظم الأحيان ظل الفكرة الراسخة بأن من الواجب إطاعة السلطة دون سؤال عن شرعيتها كيف أمكن أن تتحول الصراعات السياسية العنيفة فى صدر الإسلام إلى هذه " التقية"؟ ... من الممكن بطبيعة الحال أن نرجع ذلك لسباب تاريخية .

فالصراعات العنيفة التى دارت فى العصر الإسلامى المبكر بعثت فى النفوس الخوف من تفكك الجماعة الإسلامية وانتشار الفوضى والاضطراب، كما جعلت النظام والوحدة هدفين جديرين بالسعي إلى تحقيقهما .

ولم توجد فى داخل الدولة المنظمة والموحدة مؤسسات أو تنظيمات يمكم أن يلجأ إليها الناس وتكون أداة لإرادتهم السياسية. ولما كان الإسلام منذ البداية دولة .

فقد حال هذا دون قيام تنظيم ديني، كالكنيسة المسيحية التى كانت فى العصور الوسطى، تواجه الدولة القائمة كقوة مضادة تراقبها وتعارضها فى وفت واحد.

أضف غلى هذا أن الدولة الإسلامية لم توجد التنظيمات الكفيلة بتحقيق المبادئ التى ارتكز عليها التصور القديم للدولة المثالية، فتتولى على سبيل المثال تنظيم انتخاب الخليفة.

وتعيين الأشخاص الذين يستشيرهم ، أو تتولى خلعه عند الضرورة من منصبه. وكان الجيش فى البداية يمثل حلقة الوصل بين الشعب والدولة.

ثم جاء العباسيون وأقاموا جيشا من المرتزقة الأجانب الذين زادوا من انفصال الشعب عن الدولة ولما كانت أغلبية الأمراء والسلاطين قد خرجت من صفوف هذا الجيش، فقد كان لذلك أكبر الأثر على الرعية التى فقدت بالتدريج اهتمامها بالسلطة الحاكمة. وقد تأثر العباسيون كذلك بالتقاليد الفارسية القديمة عندما أوجدوا طبقة بيروقراطية من الموظفين الذين سعوا إلى تحقيق مصالحهم، وعملوا على فصل الخلافة عن الشعب بدلا من أن يعملوا على الربط بينهما.

وينبغي علينا فى هذا الموضع أن نقول كلمة عن تلك الفئة التى كتب عليها فيما يبدو أن تكون حلقة وصل دائمة بين الشعب والحاكم.

وأعنى بها فئة " العلماء" أو علماء الدين الذين يملكون الخبرة والقدرة على تفسير الشرع، وهو حق ثابت لكل مسلم .

والذين كان لهم الفضل – باعتبارهم أهل الحل والعقد- فى أن تؤثر " النظرية" فى الواقع الفعلي وتقوم بدور مهم فى الحياة العامة وقد رأينا كيف وقفت أغلبية " أهل الورع" أو العلماء المبكرين موقف المعارضة للدولة الأموية.

ولما حاول العباسيون بعد ذلك أن يضفوا على دولتهم طابعا دينيا صريحا، بذلوا كل جهدهم فى تقريب العلماء منهم .

وقد اهتموا قبل كل شيء بتأسيس دور القضاء يشغل فيها العلماء مناصب القضاة وينطقون فيها باسم الشرع، لكن هذا القضاء لم يكن مؤسسة مستقلة تمام الاستقلال عن الخلافة، إذ كان القضاة خاضعين لتعليمات السلطة. كذلك كان من عادة الخلفاء العباسيين أن يتدخلوا فى الخلافات والمناقشات الدينية والكلامية، ويحددوا ما يتفق مع الشرع وما يخرج عليه، ويكافئوا الأتقياء الصالحين ويضطهدوا الزنادقة وأهل البدع.

صحيح أن هذا قد اجتذب الغالبية من فئة العلماء إلى صفوف الدولة، ولكنه جعل منهم موظفين خاضعين وتابعين لإرادتها وأدوات لتحقيق أغراضها.

ومع ذلك كان هناك عدد كبير من " أهل الورع" الذين ابتعدوا بأنفسهم عن الدولة ولم يقبلوا أن يكونوا أدوات لها. وعندما ضعفت الدولة وبدأت بالتدريج تفقد قوتها ويبحثون بأنفسهم عن رزقهم .

وهكذا لم تؤد " السياسة الكنسية" – كما يصفها جولدتسهير – التى انتهجها العباسيون إلى الاقتراب من المثل الأعلى للدولة الإسلامية .

بل مهدت لتلك الحقبة المتأخرة من العصر الوسيط التى حاول فيها العلماء أن يحققوا هدف الإسلام ومطلبه الثابت- وهو المحافظة على الشرع وعلى وحدة الجماعة بعيدا عن الانخراط فى السياسة.

وقد رأى " جب" أن فشل العباسيين فى إقامة دولة قوية حية على أساس فكرة الخلافة هو السبب الرئيسي فى فشل التصور الإسلامى القديم عن الدولة بوجه عام وفى انتصار نزعة التقية بوجه خاص فى الإسلام ، مما جعل معظم العلماء وأهل الورع ينضوون تحت سقف كل سلطة، حتى ولو كانت هى تلك التى لا تفكر فى تحقيق المثل الأعلى للدولة الإسلامية.

ومع ذلك فلم يخل الأمر أبدا من علماء أتقياء وشجعان لم يترددوا عن توجيه النقد للسلطة، ولا عن التمسك ببسالة برأيهم وعقيدتهم ولو أدى الأمر إلى استشهادهم، وأشهر الأمثلة على ذلك هو الموقف الصامد لأحمد بن حنبل عندما وقف فى وجه" محكمة التفتيش" العباسية التى حاولت أن ترغمه على الاعتراف بأن القرآن الكريم مخلوق وليس قديما.

ومع ذلك فإن أحمد بن حنبل نفسه، الذى لا ينكر أحد شجاعته فى تلك المحنة قد رفض أن يعلن غضبه على الخلفاء الذين اضطهدوه أو حتى أن يمتنع عن الاعتراف بهم، وذلك على الرغم من أنهم كانوا فى رأيه على ضلال.

والواقع أن السياق التاريخي لا يكفى وحده لتفسير هذا الموقف الذى يعد سابقة خطيرة أسهمت بدور كبير فى تطور النزعة إلى " التقية" فى الإسلام، لذلك ينبغي علينا الرجوع مرة أخرى إلى النظر فى بعض العناصر الأساسية فى الدين الإسلامى.

وأول هذه العناصر هو عقيدة التوحيد الصارمة التى نشأ عنها النزوع الاساسى فى الإسلام إلى الوحدة والعالمية الشاملة، وهو عنصر متكامل مع جوهر الإسلام نفسه بوصفه الدين الذى جاء معه بشريعة تنظم كل أعمال الإنسان المؤمن وتحدد بذلك علاقته بالله.

والجماعة الواحدة ترتبط بالإله الواحد برباط نظام قانوني واحد هو الشريعة التى يفترض فى الخليفة وفى الدولة الدينية المثالية أن يحافظا عليها.

هذه الدولة- كما سبق القول- تمثل التجسيد الدنيوي للدين الإسلامى. والواقع أنه لم يكن أمام العصر الإسلامى المبكر- على حد تعبير جب- سوى اختيار احد البديلين: فإما الدولة التى تحتكر السلطة، وإما الفوضى واضطراب. ومن ثم كان أي تهديد لدولة الخلافة تهديدا مباشرا للدين.

وإزاء هذا الموقف رأى الكثيرون من أهل الورع أن من الضروري تحمل كل شيء تجنب مثل ذلك الخطر المهدد.

وهذا الموقف مع موقف الأتقياء منم أهل الورع الذى ترتب عليهن قد تعاونا معا فى الحيلولة دون التوصل من الناحية العملية إلى تقسيم السلطات والفصل بينها، كما أنهما قد حالا فى وقت لاحق دون إقامة مؤسسات أو تنظيمات مستقلة بجانب دولة الخلافة ، أو حتى الاعتراف بالتنظيمات المحلية وما شابهها من منظمات كانت قائمة بالفعل وكان من الممكن أن تصبح نقط انطلاق مهمة لتكوين بناء سياسي فعال.

بيد أن التأثير الأعظم على الموقف السياسي للمسلم يأتي من فكرة القوة فى الإسلام . فالله هو القادر على كل شيء من عنده. ولهذا لا يحتاج إلى التفرقة بين القوة والسلطة: من يملك القوة يملكها بإرادة الله ومن ثم فهو يملك السلطة أيضا. والقوة هى علامة ودليل على السلطة .

ربما يذكرنا هذا إلى حد ما بفكرة السلطة عند مارتن لوثر. ولكن المسيحية تفصل بين الدنيا والدين، أي أن المسيحي يمكنه أن يفهم بسهولة أن السلطة الدنيوية ظالمة.

وذلك على الرغم من أن السلطة- كسلطة- إنما ترجع لإرادة الله ومشيئته. أما الإسلام فإنه يتدخل فى العالم ويريد أن يتحقق فيه سياسيا ، ولهذا يعتبر المسلم أن الدولة والدين شيء واحد، أو ينبغي أن يكونا كذلك.

وحين لا تجد مفرا من اعتبار السلطة ظالمة، فلابد أن يبدو نظام العالم فى نظره شديد الاضطراب. وهكذا يدفعه هذا الموقف إلى البحث عن تبرير لوجود السلطة لأطول مدة ممكنة.

لا شك فى أن العرض السابق لموقف الإسلام " الكلاسيكي" من السلطة قد لحقته تغييرات كثيرة على مر التاريخ، ولكنه لا يزال يحتفظ بأهميته ومعناه بالنسبة للعالم الإسلامى المعاصر.

وهل على أي حال يبين لماذا تنظر الجماهير المرتبطة بالتراث فى العالم الإسلامى إلى الدولة نظرتها إلى سلطة أبوية فى بعض الأحيان، أو إلى قوة معاد\ية فى أحيان أخرى . وذلك دون أن ترى بصيص أمل فى قدرتها على تغييرها.

وربما يفسر العرض السابق أيضا لماذا تخضع هذه الجماهير للدولة على الرغم من أنها لا تلبى مصالحهم. ولماذا يقابلون الثورات والانقلابات بعدم اكتراث، ونرجو من هذه الدول الحديثة فى الشرق الإسلامى، وربما يساعد أيضا على فهم مشكلة هذا التركيب والأسباب التى جعلته شديد التعقيد والصعوبة.