الإصلاح الاجتماعي عند البنا (نظرات في التربية والتعليم- الحلقة الرابعة)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإصلاح الاجتماعي عند البنا (نظرات في التربية والتعليم - الحلقة الرابعة)


إعداد: طارق عبد الرحمن

بعد حديث الإمام البنا عن وسائل المحافظة على القرآن الكريم، نتناول في هذه الحلقة رأيه في إصلاح منهج التعليم الديني في المدارس والمراحل المختلفة، وفيها رسالة الإمام البنا إلى فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر والمقترحات التي تقدَّم بها والمذكرة التفسيرية لها.


رأي في إصلاح منهج التعليم الديني في المدارس المصرية

لسنا في حاجةٍ إلى أن نبين الفوائد الحقيقية التي تعود على الطلبة من دراسة الدين دراسةً صحيحةً في المدارس، فذلك أمر مفروغ منه، ولسنا في حاجةٍ إلى أن نقول: إن هذه الدراسة إذا أُريد بها أن تأتي بهذه الفوائد فلا بد من أن تجعل خطة الدراسة تعليم الدين مادةً أساسيةً، وأن تعمم دروسه في كل مراحل التعليم، ولكنا نتقدم بهذه الكلمة الوجيزة لنلقي بها بعض الضوء على تكوين المنهج خاصةً، ونسأل الله أن يلهم لجان المناهج ما فيه الخير لهذه الأمة.


في المدارس الابتدائية

الإمام حسن البنا

السنة الأولى والثانية:

يكون منهجهما وطريقتهما على النحو الحالي مراعاةً لسن الأطفال ومداركهم، أي: يكون في كل منهما ثلاث حصص تُوزَّع على القرآن والفقه والتهذيب.


السنة الثالثة:

تزاد فيها حصة القرآن الكريم فيكلف التلميذ فيها حفظ جزء من القرآن، وتختصر موضوعات منهج التهذيب الخلقية ويزاد في موضوعات التراجم بضع ترجمات لعظماء الإسلام كالخلفاء الأربعة مثلاً، وتستمر حصصها أربعًا: واحدة للقرآن، وأخرى للتهذيب، واثنتين للفقه، أو تقتصر على واحدةٍ في الفقه فتكون الحصص ثلاثًا فقط.


السنة الرابعة:

تقرر لها حصة للعقائد، وحصة للقرآن، وحصة للتهذيب يدرسون في الأولى مبادئ العقائد الصحيحة، ويحفظون في الثانية جزءًا من القرآن مع استعادة ما تقدَّم، ويدرسون في الثالثة بقية عنوانات التهذيب التي حذفت من السنة الثالثة، مع تحفيظ كثيرٍ من الأحاديث الواردة في الأخلاق.


وهذه المحفوظات الدينية هي خير ذخيرةٍ ينتفع بها التلميذ في حياته المستقبلة، وفي هاتين السنتين يجب أن يكون الامتحان في هذه المادة تحريريًّا كبقية المواد يتوقف عليه نجاح التلميذ، أو رسوبه، ويسأل المدرس عن نتيجته فيها كما يسأل عن نتيجة اللغة العربية، ويعامل القرآن معاملة المحفوظات.


وبذلك يتخرَّج التلميذ في المدرسة الابتدائية وقد حفظ ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم، وشدا(2) شيئًا في الفقه والأخلاق، وعرف قدوةً صالحةً من سلفه يأخذ بها.


في المدارس الثانوية والخصوصية والفنية

يخصص في كل سنة من سنواتها ثلاث حصص للدين: إحداها: لتصحيح القرآن واستظهاره كحصة المحفوظات في اللغة العربية كما في مدارس المعلمين الأولية الآن، ويحفظ التلاميذ في هذه الحصة كل سنة جزءًا من القرآن، ويدرسون في الثانية العقائد بصورةٍ أوسع في النظر والتدليل، مع العناية بدراسة السيرة النبوية في هذا الدرس، ويدرسون في الثالثة الأحكام الفقهية التي تناسب سنهم كالغسل وصلاة المسافر، مع البحث عن الأسرار والمزايا والأدلة مشفوعًا ذلك بشيء من الأحاديث النبوية في فضائل هذه العبادات.


وبذلك يغادر التلميذ هذه المدارس وقد علم بها من العقائد ما يزعه عن مقارفة الشرور والآثام، ومن أحكام الفروع ما يصحح به عبادة ربه على الوجه المطلوب، ومن كتاب ربه جزءًا لا بأس به.


في المدارس العالية والجامعة

تخصص حصتان للعقائد وحصة للفقه يبحث في الأولين عن فلسفة العقائد ورد الشبهات الواردة عليها وتمحيص الأدلة العقلية والنقلية لها، ويبحث في الثانية عن أدلة الأحكام وعلل اختلافها وكيفية استنباطها بطريقةٍ مجملة.


وتترك العناية بتحفيظ القرآن وتفهم أسراره لمقدرة الطالب على أن يؤدي امتحانًا شفهيًّا في مقرر معلوم آخر العام.


ذلك أساس المشروع الذي نريد أن تعمل وزارة المعارف على إنفاذه في المدارس.


ولا ينتج الثمرة المطلوبة إلا بمراعاة الملاحظات الآتية:

1- للقدوة والروح العام في المدرسة أبلغ الأثر في نفوس التلاميذ، ومتى شعر المدرسون باهتمام الوزارة ببث روح الدين بادروا إلى تحقيق هذه الغاية؛ لأن شعور المدرس بضعف هذه الرغبة عند الرؤساء والمفتشين يجعله متساهلاً متهاونًا، ويجعل مجهوده قاصرًا قليل الفائدة.

2- العناية باختيار الكتب الدينية وصرفها للتلاميذ ليشعروا بأهمية هذا العلم، ويستفيدوا بمطالعة هذه الكتب المختارة في الفقه وفي التهذيب وفي السير وفي العقائد وفي الأحاديث النبوية.


تلك خطة نقترحها معترفين بالعجز والقصور، على أن تفتح بها الباب للمفكرين والنوابغ من رجال التعليم الذين هم أولى بهذا منا وأقدر، راجين أن ينال هذا الأمر من عنايتهم ما يستحقه من الاهتمام والتقدير والتنفيذ المشمول بالشجاعة الأدبية والإقدام.


في الإصلاح الأزهري

صورة المذكرة التي رفعها إلى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر فضيلة الأستاذ المرشد العام للإخوان المسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


"وبعد" فأشرف بأن أرفع إلى فضيلتكم مقترحات بشأن الإصلاح الأزهري الذي عقدت عليكم الآمال في إنفاذه بطريقة تحفظ للأزهر صبغته وتعيد للإسلام مجده، وعلم الله أنه ما حدا بي إلى ذلك إلا اعتقادي أن من واجب كل مسلم أن يتقدَّم بالنصح في هذا الأمر الخطير الذي يؤثر أبلغ الأثر في مستقبل الشرق والإسلام، والله أسأل أن يسدد في الإصلاح خطاكم، وأن يؤيد الإسلام بجهودكم، وأن ينهض مصر ومن ورائها العالم الإسلامي على أيديكم وهو ولي التوفيق.


مقترحات إدارية

‌أ- تعمل مشيخة الأزهر على ضمِّ مراقبة التعليم الأولي بكل اختصاصاتها إلى الناحية الأزهرية، على أن يتبع ذلك إلغاء مدارس المعلمين الأولية والاستعاضة عنها بقسم إعدادي بعد شهادة (الكفاءة- أو البكالوريا الأزهرية) لتخريج المدرسين بالمدارس الأولية.


‌ب- ضم شعبة البلاغة والأدب الحالية للتخصص الأزهري إلى دار العلوم، والمطالبة بضم قسم اللغة العربية بكلية الآداب بالجامعة المصرية إليهما، ثم يضم الجميع إلى ناحية الأزهر حتى يتوحَّد المعهد الذي يتخرج فيه أساتذة الدين واللغة العربية بالمدارس المصرية.


‌ج- المطالبة بتقرير تدريس الدين في كل مراحل التعليم، وبأن يكون مادةً أساسيةً في كل المدارس المصرية.


‌د- العمل الدائب على إعادة التشريع الإسلامي وجعله القضاء السائد في الأمة، وتبعًا لذلك يضم قسم التخصص الأزهري الحالي في كلية الشريعة إلى كلية الحقوق بالجامعة المصرية، ثم يضمان معًا إلى الأزهر.


مقترحات فنية

‌أ- العناية باختيار مواد الدروس الدينية وجعلها أساسًا في المناهج الأزهرية، مع جعل حفظ القرآن الكريم مادةً أساسيةً يمتحن فيها الطلبة امتحانًا صحيحًا في كل مرحلةٍ من مراحل التعليم الأزهري بحيث يتوقف نيل الطالب الشهادة على إجادة الحفظ.


‌ب- تحرير المناهج الأزهرية من تقليد غيرها من المناهج، والاقتصار في العلوم الرياضية والحديثة مما لا بد منه للأزهري، مع الإلمام بها جميعًا على طريقة التوزيع بين الأقسام والفرق.


‌ج- العناية باختيار المدرسين وترك الحرية للطلاب في الأقسام العالية وفي التخصص في الحضور على من يريدون من الشيوخ.


‌د- ملاحظة أن يكون مدرسو الرياضة والعلوم الحديثة ممن يميلون بفطرتهم إلى البيئة الأزهرية، مع إنشاء قسم إعدادي يلتحقون به مدة معينة يلمون فيها بما لا بد منه من المعلومات الدينية التي تتصل بدروسهم، والتي تحفظ كرامة المدرس وعقيدة الطالب.


العناية بإختيار الكتب المدرسية

‌و- الاقتصار في اللغات الأجنبية في الأزهر على ما لا بد منه، وذلك بأن تكون في مناهج الكلية المخصصة بنشر الدعوة في البلاد الأجنبية بقسميها العالي والتخصص فقط لا في كل الكليات ولا في الأقسام الأولية والثانوية، وجعلها بقدر الإمكان في أماكن غير أماكن الدراسة الأزهرية، ويجب أن يقوم بتدريسها على أية حال مدرسون مسلمون.


‌ز- مراعاة القصد في البعوث الأزهرية إلا أن يكون ذلك بين الشعوب الإسلامية التي يريد أهلها أن يتعلموا الإسلام عن طريق الأزهر.


‌ح- العناية بالتربية والإصلاح الخلقي الذي يقوي في الأزهري خلق الرجولة الكاملة، وذلك بأن تكون دراسة الدين في الأزهر علمية وعملية.


‌ط- الزي الأزهري يجب أن يبقى كما هو، أو يتقرب أكثر من ذلك إلى الشكل العربي، أما إدخال الأزياء الإفرنجية بالأزهر فجريرة لا يعلم مدى سوء أثرها إلا الله.

ذلك بعض ما أردنا أن نتقدم به من مقترحات فنية وإدارية، وفيما يلي كلمة تفسيرية نلم فيها بالغاية من ذلك والله ولي التوفيق.


مذكرة تفسيرية لهذه المقترحات

مهمة الأزهر ومنزلته: الأزهر أقدم جامعة في العالم الإسلامي بل في العالم كله، وقد أكسبته الحوادث صبغة جعلت منزلته في القلوب سامية، وأثره في توجيه الفكر الشرقي بالغًا، ينفر الطلاب إليه من كل فرقةٍ ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.


وهو لهذا أصبح مظهرًا من مظاهر الإسلام وشعيرة من شعائر الله، لها من الأثر والقداسة ما يجعل رفعتها وصلاحها رفعةً للإسلام وصلاحًا له، كما أن تدهورها واندحارها تدهورًا له كذلك، فنحن حين نغار على الأزهر ونعمل في سبيله نعتقد أننا نعمل للإسلام في شخص الأزهر، وقد أدرك خصوم الإسلام هذه الحقيقة فجعلوا في برامجهم النيل من الأزهر والكيد له بقدر ما جعلوا فيها من النيل من القرآن الكريم ومكة المشرفة وتعاليم الإسلام وشرائعه والكيد لها؛ إذ إنها جميعًا شعائر الله ومقدسات المسلمين الغالية.


ومهما قال الناس عن المهمة التي وكل إلى الأزهر أداؤها والقيام بها في مختلف الأعصار والحوادث، فقد انتهت هذه المهمة في العرف وفي الحقيقة الواقعة إلى أمرين لا نزاع في أنهما مهمة الأزهر (أولهما): تعليم المسلمين أحكام الإسلام ونشرها بينهم. (وثانيهما): تعميم الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين.


لهذا يجب أن يكون الإصلاح في الأزهر قائمًا على أساس الوصول إلى أداء هذه المهمة حق الأداء، وإنما يكون ذلك بتقوية الطلبة إلى أقصى حد في علوم الدين الغايات منها والوسائل، وتجهيزهم بكل المعدات اللازمة للمعلم الداعية، مع إيجاد الميادين اللازمة لأداء هذه الوظيفة.


التنافس بين الأزهر وبين بقية المعاهد

ولقد أتى على الشرق حينٌ من الدهر كان الأزهر هو المعهد الوحيد لتخريج رجال العلم الدينيين والمدنيين، ليس في مصر وحدها بل في الشرق كله، ثم اقتضت الحوادث أن تنشأ مدرسة الحقوق حين عدلت مصر عن التحاكم إلى الشريعة الإسلامية- وهي بضاعة الأزهر- إلى القوانين الوضعية، وحينئذٍ وجد معهد ينافس الأزهر ويقوم ببعض مهمته، وجاءت دار العلوم على أنها جزءٌ من الأزهر يتخصص طلبته بتدريس اللغة العربية في المدارس، وبعد حين صارت مدرسة برأسها لها صبغتها وحقوقها وامتيازاتها، وتبعتها مدرسة القضاء الشرعي على هذا الغرار، فصار الأزهر بين معاهد ثلاثة تجاذبه مهمته الأولى وتضيق من اختصاصه.


ونشأت بعد ذلك مدارس ومعاهد تختلف مهمتها وتبعيتها باختلاف الغايات التي أُنشئت من أجلها، ومنها المكاتب الأولية التي يستمد الأزهر منها طلبته وتكاد تكون هي المعين الأول لتغذيته بما يحتاج إليه من الطلاب.


وكل هذه المعاهد صغيرها وكبيرها، لم تحدد صلتها بالأزهر حتى هذا النوع الوحيد الذي هو أمس أنواع التعليم به، ونعني به التعليم الأولي، فإنها جميعًا تابعة في كل شئونها لوزارة المعارف.


وانتهى الأمر بإنشاء الجامعة المصرية التي أخذت تجاذب الأزهر حبل قيادة الفكر والسيطرة على شئون التعليم والثقافة، وكل ذلك جعل الميادين الخالية للأزهر محصورةً في الإمامة والخطابة والتدريس في الأزهر خاصة والمأذونية والقضاء الشرعي (ولا ننسى تلك الدعوة الجريئة التي ينادي بها قومٌ من مرضى القلوب بين الفينة والفينة يريدون بها تعديل نظم القضاء الشرعي، بحيث يندمج في القضاء الأهلي، وحينئذٍ يقفل باب القضاء جملةً في وجه الأزهر والأزهريين، وتنقطع صلة الأمة بالبقية الباقية من تشريعها السماوي).


بهذا التصوير نرى أنفسنا أمام أنواع كثيرة مختلفة متضاربة من أنواع التعليم في مصر، فهناك:

‌أ- التعليم الأزهري بفروعه وكلياته، وتمده أقسامه من: ثانوية وابتدائية، وتنتهي إلى غير أساس يتبعها وتهيمن عليه من المدارس الأولية.


‌ب- والتعليم الأولي الذي تنقطع الطريق بسالكه بعد فترة قصيرة ولا يتاح له أن يتم تعليمه وإن ساعدته الظروف على ذلك؛ إذ ينتهي هذا الطريق إلى غير نهاية يحسن الوقوف عندها.


‌ج- التعليم الجامعي الذي يستمد من المدارس الثانوية والابتدائية ومن دار العلوم ومن الأزهر أحيانًا كما في كلية الآداب في الجامعة.


‌د- التعليم العالي ويلحقبه معهد التربية ويستمد كذلك من المدارس الابتدائية والثانوية.


ه- التعليم الخصوصي والفني ويستمد من المدارس الثانوية والابتدائية على اختلافٍ في تقدير المؤهلات بحسب مطالب كل مدرسة.


و- دار العلوم التي ينتهي قسمها التجهيزي في هذا العام فتظل واقفةً في مفترق الطرق.


وسواء صح ما يُشاع من ضم المدارس العالية إلى الجامعة وضم دار العلوم إليها أو إلى الأزهر أو لم يصح، فإن الذي نقصد إليه في كلمتنا هذه هو توطيد طريق التعليم الأزهري توطيدًا يصل حلقات سلسلته بعضها ببعض اتصالاً وثيقًا، أما النظر فيما عدا ذلك- وإن كان يمت إليه بأقوى صلة- فلسنا نعرض له هنا وإن اضطرنا البحث إلى الإلمام ببعضه.


كيف يكون الارتباط بين حلقات السلسلة الأزهرية؟

أولاً:

يجب أن يضم التعليم الأولي بكل فروعه إلى ناحية الأزهر، وتجهز مناهجه بكيفية تجعلها وثيقة الرابطة بالمناهج الأزهرية، فتضم المكاتب الإلزامية إن بقيت والأولية إن عادت إلى ناحية الأزهر، وتلغى مدارس المعلمين الأولية وتحضيريتها ويستعاض عنها بحملة شهادة الدراسة الثانوية القسم الأول أو الثاني بالأزهر، بعد أن تكون هناك فترة يعدون فيها للقيام بمهمة التدريس بالمدارس الأولية، ويمنحون بعدها إجازة تخولهم هذا الحق وتقوم مقام كفاءة التعليم الأولي الحالي، وبذلك تتحول كل اختصاصات مراقبة التعليم الأولي إلى الناحية الأزهرية، ونكون قد استكملنا بذلك النقص الحالي في كل منهما، فجعلنا للتعليم الأزهري أساسًا متينًا من هذه المدارس الأولية، وجعلنا للتعليم الأولي نهاية طيبة لمَن شاء أن يتم دروسه من التعليم الأزهري.


ثانيًا:

تعتبر كل كلية في الأزهر إعدادًا للمرحلة التي تليها من مراحل الأزهر، فكلية اللغة العربية تجهز للتخصص الذي يقوم بدراسة اللغة العربية في كل المعاهد المصرية بعد أن تضم دار العلوم إلى هذه الشعبة، وتقتصر كلية الآداب بالجامعة المصرية على الأقسام الحالية بها غير قسم اللغة العربية حتى لا يكون هناك تضارب بين نظام الجامعتين الأزهرية والمصرية، وتكون كلية الشريعة إعدادية لشعبة التخصص الذي يوكل إليه أمر القضاء، وعلى الأزهر أن يسعى سعيًا حثيثًا في إقناع السلطات المختصة بوجوب العودة إلى التشريع الإسلامي، وحينئذٍ تضم إليه كلية الحقوق وتمتزج بكلية الشريعة، وتحديد مهمة كل جامعة من الجامعتين تحديدًا دقيقًا، وتكون كلية أصول الدين إعدادية لقسم التخصص، وهو القسم الخاص بالإمامة والخطابة والوعظ والإرشاد في البلاد الإسلامية وبالدعوة الإسلامية خارج البلاد.


وتتميمًا لهذا الوضع يجب أن ينادي الأزهر بتعميم تدريس الدين في المدارس المصرية، وجعله مادةً أساسيةً في كل مراحل التعليم يقوم بتدريسها مدرسو اللغة العربية.


وقد يبدو هذا الوضع بعيدًا أمام الذين يتناسون الحقائق ويغفلون صالح الأمة، أما الذين يضعون نصب أعينهم أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام كما ينص عليه دستور الأمة، وأن الواقع يؤيد هذا النص، فمصر بلد مسلم، بل هو زعيم الشرق الإسلامي كله، والمصريون أمة تعتز بدينها وتحافظ عليه، وأن الأزهر هو محط آمال المسلمين في الإصلاح الإسلامي، الذي يعتقد هذا يرى هذا الوضع هو ما يجب أن يعمل له كل مسلم غيور.


ذلك إلى ما فيه من توحيد الثقافات وتقريبها، وتحديد الاختصاصات والقضاء على التضارب الذي أوجده الاضطراب في سياسة التعليم، والذي من أمثلته أن الوزارة تكل التعليم الأولي إلى المتخرجين في مدارس المعلمين الأولية، وتجيز مزاولته للذين نالوا شهادة الدراسة الثانوية الأزهرية، وهنا يقع التضارب والتفاضل، وكذلك تدريس اللغة العربية في المدارس المصرية مهمة يتنازعها رجال دار العلوم وهم أساتذتها الأصليون، ورجال كلية اللغة العربية بالأزهر لما لهم من قدمٍ في دراسة العربية، ورجال كلية الآداب لما يدلون به(4) من نظام جامعي، وكل ما تراه من جدلٍ بين هذه الطوائف فمحوره التنازع حول هذه الغاية، وإذن فالخير كل الخير في وضع حدٍّ لذلك، وتحديد الاختصاص على النحو الذي أسلفناه.


إصلاح المناهج في الأزهر

ننتقل بعد ذلك إلى ناحية إصلاح المناهج في الأزهر الشريف؛ وذلك إنما يكون بحسن اختيار المواد الدراسية، وبحسن اختيار المدرسين وإعدادهم، وحسن اختيار الكتب الدراسية.


فأما من الناحية الأولى فقد أجمع المربون على أنَّ أولَ أساسٍ يجب أن ينظر إليه في اختيار المواد الدراسية الغاية التي يُجهَّز لها الطالب.


والغاية التي يجهز لها الطالب في الأزهر لا مشاحة في أنها تعليم الناس الدين ونشر دعوة الإسلام بينهم، وعلى هذا يجب أن يلاحظ في مواد الدراسة الأزهرية هذه الملاحظات:


‌أ- العناية بالدروس الدينية عناية تجعل الطالب الأزهري ضليعًا فيها، ملمًّا بأصولها، جيد الملكة في تذوقها، وبذلك نحرص على كرامة الأزهر وصبغته الإسلامية التي يجب أن تظل خالدةً فيه.


‌ب- تحرير مناهج الأزهر من تقليد المدارس المدنية الذي خضعت له في العهد الأخير، والذي نجم عنه شحن المناهج بالعلوم المدنية على طريقة تحول بين الطالب وبين هضم إحدى الناحيتين، بل يجب أن يكون تدريس هذه العلوم في الأزهر بقدر وكيفية تجعلها لا تطغى على الصبغة الأزهرية، ولا تعوق الطلبة عن التضلع في الناحية الدينية، مع الإلمام بأكبر قدر ممكن منها، ليس الأزهر مدرسة للهندسة ولا للزراعة ولا للتجارة ولا للطب ولا للرياضيات، ولكنه مدرسة التعليم الديني قبل كل شيء ولا نمانع في أن يدرس الأزهريون كل المواد، وأن يأخذوا من المعارف العامة بالنصيب الأوفى الذي يؤهلهم لفهم بيئتهم، ودراسة العصر الذي يعيشون فيه دراسةً تمكنهم من حسن الاتصال بالناس وإفادتهم، وتقرب بين ثقافتهم والثقافات الأخرى، ولكن الذي نمانع فيه أن تحول هذه الدراسة دون المقصد الأول وتصبغ الأزهر بصبغة غير صبغته ولون غير لونه.


وإنما نصل إلى الجمع بين تدريس العلوم الرياضية في الأزهر وعدم طغيانها على صبغته الصحيحة بأن تكون هذه العلوم في المناهج على سبيل التوزيع، ففي الأقسام الأولى مثلاً تدرس مبادئ الرياضة من حساب وهندسة ورسم وما إليه، وفي الثانوي يزاد عليها ما يمت إليها بصلة كالطبيعة والكيمياء والجبر، ويضاف إلى ذلك مبادئ التربية وعلم النفس، وكل ذلك بقدر شامل موجز، وفي الإعدادي لإجازة التعليم الأولي يتوسع في دراسة المواد التي تتصل بصناعة التعليم كالتربية علمًا وعملاً، والمنطق وعلم النفس، وتدبير الصحة وهكذا، وفي كل كلية يتوسع في دراسة ما يمت إلى مهمة هذه الكلية بصلة، وبذلك نجمع بين التعميم والاختصاص.


وإذا كنا لمسنا ناحية حاجة الأزهري وهو طالب الإسلام إلى هذه العلوم، فأحرى بنا أن نلمس حاجة غيره من طلبة المعاهد الأخرى المدنية إلى تعلم الإسلام، فمما لا شك فيه أن حاجة الأزهري إلى هذه العلوم المدنية أقل من حاجة طالب الطب وطالب الهندسة وطالب الزراعة وطالب التجارة وطالب الرياضة إلى الدين، ولهذا كان من أوضح العدل أن يلح الأزهر في وجوب تعميم دراسة الدين في كل هذه المعاهد.


جـ- الاقتصار في اللغات الأجنبية على الضروري: إن إدخال اللغات الأجنبية في مناهج الأزهر ضرورة اقتضتها مهمة الأزهري في تعميم دعوة الإسلام، فنحن لا ننكر على المناهج الأزهرية اشتمالها على هذه اللغات، ولكن الذي نريد أن نحرص عليه الاقتصار في دراستها على القدر الضروري الذي دعت إليه الحاجة، بحيث لا تكون هذه اللغات في أقسام الأزهر كلها، إذ لا ضرورة تدعو إلى ذلك، ولكن تكون في القسم الذي يخصص للدعوة وهو كلية أصول الدين، وبذلك نحفظ للأزهر صبغته الإسلامية الشرقية، أما إذا عممت في أقسام الأزهر فستزاحم قطعًا المواد الأساسية التي هي مهمة الأزهر الأولى، وتصبغه بصبغة ليست منه في شيء، وتكون وسيلة إلى أن يتسرب إلى الأزهر مدرسون أجانب عن بيئته حقيقة أو مجازًا، فيكون لذلك في نفوس أبنائه أسوأ الآثار.


وحبذا لو كانت دروس اللغات في ناحية غير الناحية الأزهرية، بأن ينشأ قسم خاص يلتحق به من توكل إليه مهمة الدعوة، ويتفرغ فيه لدراسة اللغة التي سيقوم بالدعوة بين أبنائها، أو بأن يكون ذلك في فصول ليلية، وكل ذلك حرصًا على الصبغة التي لزمت الأزهر منذ أكثر من ألف سنة.


وأما عن الناحية الثانية وهي إعداد المدرسين وحسن اختيارهم فأمامنا لذلك عدة وسائل، فأما من حيث المدرسين الحاليين فإن إصلاح شأنهم يكون في ترك الحرية للطلاب في الكليات وأقسام التخصص في الحضور على الشيخ الذي يريدون حضور درسه، وإذن فسيكون هناك تنافس بين الشيوخ في الإجادة والإفادة ويكون البقاء للأصلح، وأما من حيث المدرسين في المستقبل فإن إصلاح المناهج كفيلٌ بإصلاح شأنهم بعد الوقت المناسب.


وأما مدرسو المدنية: الرياضة والعلوم، فمن واجب إدارة الأزهر الاهتمام بشأنهم فقد لوحظ أن كثيرًا منهم لا يتصل بالبيئة الأزهرية إلا بصلة الارتزاق فقط، وهو مع ذلك متبرم بها، ولذلك أثره بالغ في التقصير في أداء مهمته، كما لُوحظ أن كثيرًا منهم يجهل البسائط في الدين، ويجيب على ما يوجه إليه من أسئلة في الموضوعات الدينية التي قد يكون لها مساس ببعض موضوعات فنية إجابةً مضحكةً أو مشككة، مما يجعل منزلته في نفس الطالب الذي يتلقى عنه ضئيلة هزيلة، ولإصلاحهم يجب أن تعنى الإدارة باختيارهم ممن يميلون بفطرتهم إلى بيئة الأزهر، ثم ينشأ قسم إعدادي يلتحقون به فترة قبل مزاولتهم التدريس يلمون فيه بما لا بد منه للمدرس من المسائل الدينية، على أن يكون هذا نظامًا مؤقتًا حتى تثوب المدارس المدنية إلى الرشد وتعنى بشأن الدين.


أما الناحية الثالثة وهي العناية باختيار الكتب، فقد ألمَّ بها باحثون كثير على أثر ما لوحظ من عناية الكتب المتداولة بالألفاظ والجدل أكثر من عنايتها بالعلم والملكات، وإنما يكون إصلاح هذا النقص بالعودة إلى بعض كتب المتقدمين الدسمة المليئة بالعلم في سهولة ودقة بحث، وبأن تؤلف لجان فنية مهمتها الانتقاء والاختيار وإمداد الأقسام الأزهرية بالمصنفات التي تنتج دراستها غزارة العلم وقوة الملكة.


ملاحظات عامة

‌أ- البعوث الأزهرية التي يقصد منها تثقيف أبناء الأزهر يجب أن تضيق دائرتها وتقتصر فيها على قدر الحاجة، على حين يجب الاهتمام كل الاهتمام بتوسيع دائرة المبعوثين إلى الشعوب الإسلامية لتعليم أبنائها الإسلام.


‌ب- هناك بوادر خلقية ونفسية تنتاب الأزهريين في هذا العصر يجب أن يبادر بعلاجها علاجًا سريعًا حاسمًا، من أمثلتها: انتشار فكرة التحرر من قيود البحث الصحيح إلى ما تمليه الأهواء ويمت إلى الزراية على السلف تحت عنوان حرية الفكر أو الانتصار للاجتهاد أو غير ذلك من المزاعم، ومنها: التهالك في حبِّ الدنيا والخنوع للمادة والاستهانة بكرامة العلم، ومنها:


التهاون في أداء الفرائض وعدم الاحتفاظ بالمظاهر الإسلامية أخذًا بالرخص الفقهية وجريًا وراء التيار، وإنما كان منشأ ذلك في الأزهر أن نظمه الجديدة جعلت منه مدرسة علمية فقط الغرض منها تدريس المواد ومعرفة العلوم بعد أن كان دارًا للتربية والعلم معًا، ففقدان روح التربية الصحيحة بالأزهر جر إلى نفوس أبنائه كثيرًا من الضعف، وعلاج ذلك إنما يكون بالقدوة الحسنة، وبأن يؤخذ الطلبة بأداء الفرائض والاستمساك بحبل الدين عمليًّا، وبأن يستعان على ذلك بدراسة كتب التربية الإسلامية التي تمت إلى التصوف الصحيح بصلة كإحياء الغزالي دراسة عملية لا علمية فقط.


‌ج- الزى الأزهري يجب أن يبقى عربيًّا، وإن كان ولا بد من تعديله فإلى ما يقربه من ناحية العروبة أقرب مما هو الآن، فكلما تعمق الزي الأزهري في عروبته زادت مهابة أبنائه وصلحت بذلك نفوسهم، أما أن يصرح للأزهريين بارتداء الملابس الإفرنجية أو خلع العمائم فتلك جناية كبرى على الشرق وعلى الإسلام وعلى الأزهر تعقب أسوأ الآثار.


‌د- مما يشرف الأزهر ويرفع من شأنه في العالم الإسلامي أن يعنى بشأن ضيوفه من الطلبة غير المصريين عناية تسهل عليهم الاستفادة منه من جهة، وتجعل الأزهر يجني من وجودهم بمصر أطيب الثمرات من حيث الارتباط المنشود بين مصر وبقية الأقطار.


بقيت بعد ذلك مسألة تبعية الأزهر، وكل ما نرجو أن يلاحظه أولو الأمر فيها وجوب استقلال الأزهر استقلالاً تامًا عن مهاب الزوابع والأعاصير، وإبعاده كل الإبعاد عن التورط في الشئون السياسية والحزبية التي ليست من مهمته.


ولعلي بذلك أكون قد أديت أمانتي وقدمت نصيحتي، والدين النصيحة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(5).


في مناهج التعليم

من عيوب المناهج المصرية فقدان الغاية أو خفاؤها وعدم تقديرها، للتربية والتعليم في كل أمة غاية من الغايات هي المحور الأول الذي يدور عليها اختيار المناهج والمواد الدراسية، وبدون ملاحظة هذه الغاية تكون المناهج قاصرةً مضطربةً قد تؤدي إلى الإضرار بالأمة وناشئتها. لما أراد المفكرون أن ينهضوا بأممهم في الغرب أهابوا بها أن تحدد الغاية من التربية والتعليم، وأن تخضع المناهج الدراسية لهذه الغاية، وبين أيدينا من هذه النماذج رسالة التربية لهربرت سبنسر التي وجهها نداء حارًا قويًّا إلى الأمة الإنجليزية بوجوب تحديد قيمة المعارف الإنسانية، وتحديد غاية التربية والتعليم في الأمة الإنجليزية، واختيار ما يوافق هذه الغاية من تلك المعارف ويؤدي إليها.


وغاية التربية- وإن كان فيها عناصر أساسية تنحو نحوها الأمم جميعًا- فإنها تختلف باختلاف الظروف والبيئات والأفكار والمعتقدات التي تسود الأمة إلى حد كبير، لهذا كان أول الواجبات على الذين يريدون أن يضعوا للأمة مناهج نافعة أن يقدروا هذه الظروف حق قدرها ويحددوا غاية التربية بحسبها.


وقديمًا وحديثًا اختلفت غاية التربية والتعليم في الأمم وربما تنوعت في الأمة الواحدة إلى نواحٍ كثيرة، فهي عند أمة تنحو منحى الارتزاق، وعند أخرى تنحو نحو الفضيلة، وعند أخرى تكون التوفيق بين الشخص وبيئته أو الزهادة والتقشف والاستبحار في الحياة الروحية وقد استحسنوا أن يجملوا التعبير عن هذه الغاية في المعيشة الكاملة.


لسنا نريد أن نحاكم هذه الغايات ونمحصها ونبين الكامل منها والقاصر، فذلك له موضع آخر، ولكن نريد أن يكون بحثنا حول هاتين النقطتين: هل للتعليم والمناهج عندنا غاية تؤدي إليها؟ وهل هذه الغاية توافق الظروف التي تحيط بالأمة الآن؟


قبل هذا العصر بفترة قصيرة انحصرت الغاية من التربية العلمية في المدارس المصرية في أمر واحد (هو تخريج آلات كتابية تقوم بأعمال الوظائف الحكومية) لهذا تأثرت مناهج التعليم بهذه الغاية تأثرًا كبيرًا، وكانت العلوم في المدارس لا تعدو قشورًا يتعرف منها الطالب كيف يقوم بهذه الأعمال.


وجاء دور النهضة فربت في نفوس رجال التربية والمعارف في مصر روح الإصلاح، وأخذوا يتلمسون الغاية الصحيحة للتربية والتعليم في هذه الأمة، وعمدوا إلى تعديل المناهج بين الفينة والفينة بما يتفق مع الوصول إلى الغاية التي تخيلوها صالحةً.


هذه نهضة مباركة من غير شك ومجهود مشكور كذلك. ولكن الذي نلاحظه أن هذه الغاية لا تزال مجهولةً خفيةً متذبذبةً لا يستقر لها حال، ولا تتضح فيما يوضع من مناهج وما يلقى من آراء وما يتخذ من وسائل.


وقد أنتج هذا كثرة التغيير والتبديل وأن يلقى اليوم ما كان مقررًا بالأمس القريب، ولذلك عدة عوامل فإن تأثر كثير من رجال التربية والمعارف بالغاية القديمة غاية الاحتفاظ بالمظاهر القشرية والهياكل التي جرى عليها العرف، مضافًا إلى ذلك التأثر بروح عصر الانتقال التي حالت دون اتحاد أفكار حضراتهم أو كثير منهم في وجهة واحدة، مضافًا إلى ذلك العقبات التي توضع في طريق المنهاج الصحيح، كل ذلك جعل الغاية خفيةً مذبذبةً، وجعل سياسة التعليم ضعيفةً مضطربةً، وجعل المناهج لا تكاد توضع هذا العام حتى تتبدل في العام الذي يليه.


إننا في حاجة إلى جرأة نمسك معها مبضع الجراح الماهر نقتطع به الزوائد التي يضر بقاؤها، ونطهر الجروح التي تفاقم خطرها، لا بد من تضحية، ولا بد من صيحة قوية، ولا بد من تحوير مجرى النظام الحالي في التعليم من وثبة قوية متزنة يسبقها تحديد الغاية تحديدًا صحيحًا، أما هذا التردد والتهاون فلا تكون نتيجته إلا الانتكاس الدائم والتجارب الفاشلة.


فلتحدد غاية التربية والتعليم، إن مصر أمة شرقية، بل هي زعيمة الشرق الإسلامي علمًا وعرفانًا وحضارةً وأدبًا تسير نحو النهوض والرقي والتقدم بخطوات واسعة، وتريد أن تجاري غيرها من الأمم فيما وصلت إليه من درجات في هذا السبيل.


وهي من هذا المعقل الأول للإسلام دين الله الخالد، وقد أذاها الاحتلال الأجنبي- الذي تحاول بكل قواها التحرر من قيوده ورفع نيره- أذى كثيرًا سياسيًّا واقتصاديًّا، هذه اعتبارات صحيحة ترسم لنا الغايةَ التي يجب أن تكون هدفًا ترمي إليه المناهج الدراسية، ولن تكون هذه الغاية إلا (تخريج رجال أقوياء النفوس يعتزون بدينهم وقوميتهم، ويعملون على إحياء حضارة الشرق وتحريره من القيود الأجنبية الاقتصادية والسياسية)، ولأجل أن نصل إلى هذه الغاية لا بد من تغيير جوهري في الحياة الدراسية: روحها وموادها وأنواعها.


وأهم ما يجب أن يقصد إليه هذا التغيير الجوهري: العناية بالتاريخ الشرقي والإسلامي في المدارس وصبغه بالصبغة التي تجعل الطالب يعتز بأسلافه الأمجاد، وتتجلى أمامه مفاخرهم ومظاهر بطولتهم، والعناية بناحية التربية الخلقية في المدارس، بأن نترك للمدرس والطالب الفرصة الكافية للتهذيب الخلقي إلى جانب التهذيب العلمي، ولا يكفي في هذا تقرير دروس للأخلاق، فإن الناحية العملية أجدى بكثير في هذا المعنى من الناحية العلمية، والاهتمام بشئون الدين في المدارس مادة ومظهرًا وتقديرًا فإن الدين هو الإصلاح الخلقي الصحيح، بل هو أقرب الوسائل وأجداها في إصلاح الخلق.


والإكثار من التعليم الصناعي والزراعي والتجاري، والعمل في كل الفروع، وتوجيه الطلبة إلى ناحية الحرية في الأعمال لا التقييد بالوظائف الحكومية، والعناية بأن تكون هذه المناحي في مدارس المعلمين أوضح ما تكون، فإن المعلم هو القدوة الأولى لتلاميذه، وهو المنهج الحي الناطق الذي يطبعهم بطابعه ويصبغهم بصبغته.


ذلك بعض ما أردنا أن نشير إليه في هذه الناحية، وأن نلفت إليه نظر حضرات الأساتذة المربين أعضاء لجان المناهج راجين أن يكون له في نفوسهم الأثر المنشود.


في مناهج التعليم

سلسلة التعليم في مصر مضطربة متفككة فأنت أمام عدة أنواع لكل وجهة، وكثيرًا ما تتضارب وتختلف، وكثيرًا ما تنقطع إلى غير غاية، وكثيرًا ما تتعدد في غير حاجة، وقد كان من أثر ذلك أن اختلفت الثقافات اختلافًا واضحًا كان له أثر كبير في اضطراب حياة الأمة الفكرية والخلقية والاجتماعية، وتضارب عقائدها وأفكارها وطرائق فهمها للحياة، فأنت ترى أنواع التعليم في مصر على النحو الآتي:

1- التعليم الأولي: ويشمل المدارس الإلزامية، وتحضيرية المعلمين، والمعلمين الأولية.

2- التعليم الابتدائي، ويليه التعليم الثانوي.

3- التعليم الفني والخصوصي: ويشمل مدارس الزراعة، والتجارة، والفنون، والصناعات، والزخارف ونحوها، ولا صلة لها ألبتة بالتجارة العليا والزراعة العليا والهندسة.

4- التعليم العالي: ويشمل الجامعة والمدارس العليا بأنواعها.

5- التعليم الأزهري: ويشمل الأزهر بأقسامه وكلياته وتخصصه.

6- دار العلوم: وتستمد طلبتها من الأزهر، وتخرج أساتذة اللغة العربية والدين بالمدارس المصرية.


والذي يتأمل هذه الأنواع جميعًا، ويفتش عن صلتها بعضها ببعض، يجد أنها مفككة الأوصال تمامًا، وأن الصلات بينها عمليًّا وعلميًّا على أضعف ما يكون.


فطالب المعلمين الأولية لا يجد مدرسةً ينتمي إليها ويتم تعليمه فيها إذا أحب ذلك، ومثله في هذا مثل طالب الزراعة المتوسطة، أو التجارة المتوسطة، أو الفنون، والتعليم الأزهري كله لا يعتمد على أساس ثابت من التعليم الأولي ولا يتصل به صلةً رسميةً، ودار العلوم لا تجد لها موردًا بعد انتهاء تجهيزيتها إلا الأزهر، وتتضارب مهمتها مع مهمة تخصص البلاغة والأدب فيه ومع المهمة المزعومة لمتخرجي قسم اللغة العربية بكلية الآداب، وهذه نماذج من الصعوبات التي نشأت عن تفكك سلسلة التعليم يضاف إليها تباعد في المناهج يجعل الفكرة العامة مختلفة تمام الاختلاف عند أبناء كل معهد عن غيره.


وفي وسع وزارة التعليم أن تتلافى كل ذلك بسهولة وتربط أنواع التعليم بعضها ببعض على النحو الآتي:

الحلقة الأولى:

حلقة التعليم الأولي أو الإلزامي أو العام أو ما شئت من هذه الأسماء.

الحلقة الثانية:

وهي التي تلي الحلقة الأولى، وهي حلقة التعليم التحضيري، وهذه تنقسم المدارس فيها إلى شعبتين: التحضيرية للأقسام الأزهرية، والتحضيرية للأقسام الثانوية.

الحلقة الثالثة:

وهي حلقة التعليم الثانوي، وتنقسم المدارس فيها إلى شعبتين كذلك: ثانوية الأزهر وثانوية التعليم العالي، ومن هذه الحلقة تتفرع شعب مدارس المعلمين الأولية بعد القسم الأول الثانوي في الأزهر، وشعب المدارس الفنية والخصوصية بعد القسم الأول الثانوي للتعليم العالي.

الحلقة الرابعة:

وهي حلقة التعليم الإعدادي، وتقوم مقام القسم الثاني في التعليم الثانوي الحالي، ويجهز الطلبة فيها وفقًا للمعاهد التي يلتحقون بها، فيكون هناك الإعدادي الأزهري والإعدادي الجامعي والإعدادي العالي بحسب كل معهد من المدارس العالية، وتعتبر مدارس التعليم الفني والخصوصي السابقة إعدادية لما يماثلها من المدارس العالية لمن يشاء أن يتم سلسلة التعليم.

الحلقة الخامسة:

وهي حلقة التعليم العالي، وتشمل: الكليات الأزهرية، وكليات الجامعة، والمدارس العليا.

الحلقة السادسة:

وهي حلقة التخصص وتشمل: دكتوراه الجامعة، وتخصص الأزهر، ويتصل به دار العلوم.


على هذا الترتيب تجعل معاهد العلم مرتبطة متصلة يأخذ بعضها بحجز بعض، ويجعل للطالب مجالاً للاقتصار إن أراده، وللتتميم إن استطاعه. أما ناحية تقريب الثقافة فتكون بأن يعمل الأزهر على العناية بالعلوم المدنية(9) بأن يأخذ أبناؤه منها بنصيب على شريطة ألا يخرجه ذلك عن صبغته وتجعله نسخة مكررة من المدارس المدنية تتسم موسم الدين، وبأن تعمل المعاهد المدنية على العناية بالعلوم الدينية بحيث تأخذ منها بنصيب لا يدع أبناءها في غمرةٍ من الجهل بكل أصول الفكرة الدينية وفروعها.

وكل ذلك ممكن لو توجهت إليه العزيمة واقتنع أولو الأمر بما ينتجه هذا التوحيد والتقريب من خير لهذا البلد الأمين.


في مناهج التعليم

تعلم اللغات الأجنبية عنصر حي من عناصر التعليم، ولاسيما وظروفنا وحاجتنا إلى أن ننهل من مناهل الثقافة الأجنبية فيما لا بد لنا منه في نهضتنا شديدة ماسة؛ كل ذلك مسلم لا يختلف فيه اثنان، ولكن الذي نراه غريبًا أن نتغالى في تعليم اللغات، وأن نجعلها أسسًا في المناهج المصرية في كل أدوار التعليم حتى الدور الابتدائي، وإن أية أمة من الأمم مع شعورها بالحاجة إلى تعلم لغة أجنبية لم تغال هذه المغالاة، وفي البلاد الراقية التي تنقل عنها وزارة المعارف كثيرًا من نظمها لا يبدأون تعلم لغة أجنبية إلا بعد مرحلة طيبة من التعليم الثانوي، أعنى في الفرقة السادسة أو السابعة من مراحل التعليم، وأساطين(11) المربين تواترت وصاياهم في وجوب تأخير تعلم اللغة الأجنبية إلى سن متأخرة وبعد مرحلة كبيرة، ولكن وزارتنا لم تأخذ بهذا ولا بذاك وهي ماضية في خطتها من المغالاة باللغة الأجنبية إلى حد ينتج أسوأ الآثار. قد يقال: إن للناحية السياسية وللوضع الحالي تأثيرًا في ذلك، ولكنا ونحن نبحث الأمر بحثًا علميًّا كل غرضنا منه الوصول إلى الحقيقة لا يسعنا إلا أن نقرر الواقع، ولاسيما ونحن نسمع الدفاع عن فكرة المغالاة باللغات الأجنبية من أفواه مصرية، ونرى آثار ذلك في المدارس بلجان مصرية.


إن اللغات لم تعد أنها وسائل ثقافة فهي غير مقصودة لذاتها، ولكن لما تؤهل له من صلة بثقافة أهلها ونتائج أفكارهم، وليس من الحكمة أن تضيع الغاية في سبيل الوسيلة وأن ننسى التثقيف الصحيح؛ لأننا مشغولون بوسائل التثقيف، وقد دلتنا التجارب ونادى بذلك المربون المصريون على سوء أثر المغالاة باللغات الأجنبية في كل أدوار التعليم، وقد وضح ذلك في مظاهر ثلاثة:


أولها:

ضعف الطلاب في اللغة العربية- وهي لغتهم الوطنية- ضعفًا مخجلاً مريعًا، فطالب البكالوريا عندنا لا يكاد في المستوى العادي يصحح قراءة الجريدة، ولا يحسن التعبير كتابةً أو كلامًا عما يقصد، وهو أعجز ما يكون عن الاستمرار في التزام اللغة بضع دقائق، بل إنه لا يكاد يدرك كثيرًا من التراكيب العادية في لغته، وهذا قصور غريب أهم أسبابه- فيما نعتقد- تكليفنا الطالب أن يحذق لغتين وثلاثًا في وقت يجب أن يكون كله وقفًا على لغته الوطنية.


وثانيها:

ضعف الطلاب في اللغة الأجنبية نفسها، وذلك أن الطالب الغريب على اللغة لا يمكنه إدراك تركيبها ولا سر جمالها ولا تذوق عذوبتها إلا في سن كبيرة بعد نضوج فكره نوعًا من النضوج، وبعد معرفته بأساليب تذوق عذوبة اللغة وجمالها في لغته هو أولاً، لهذا نحن نضع حدًا فاصلاً وسدًّا منيعًا بين الطالب وبين اللغة الأجنبية بتكليفه تعلمها في سن باكرة ويلازمها هذا الشعور في كل أدوار تعلمها، فيخرج من المدرسة قاصرًا في نفس اللغة التي استنفدت معظم جهوده، ولو أننا انتظرنا عليه قليلاً حتى يتم نضوج فكره بعض الشيء ثم قدمنا له هذه اللغة لتناولها بفهم وشغف، ولكان ذلك أكبر مساعد له على النبوغ والتبريز فيها والانتفاع بها.


ولقد أشار إلى ذلك الأستاذ إسماعيل القباني(12)- الذي مارس شئون التربية والتعليم في مصر طويلاً، وله فيهما بحوث قيمة- في كلمته التي ألقاها في مؤتمر المعلمين الذي عقد للنظر في توحيد التعليم الأولي والابتدائي بالقاهرة، وهي نظرة حكيمة يجدر بوزارة المعارف أن تفكر في نتائجها تفكيرًا جديًا.


وثالثها:

طغيان اللغات على المواد الأخرى وسلبها نصيبها من حصص التدريس، ففي الوقت الذي تكون فيه حصص التدريس بالمدارس الثانوية أربعًا وثلاثين حصةً تستأثر اللغات بتسع عشرة حصة ويبقى للمواد كلها خمس عشرة حصة في الأسبوع، فانظر أي إجحاف يقع على هذه المواد من المغالاة في شأن اللغات، ولعلك تقول: إن معظم هذه الحصص للغة العربية كلا بل إن تسعًا منها للإنجليزية وأربعًا للفرنسية وستًا للعربية، فانظر بأي مقياس تقيس وزارة المعارف اللغات التي يجب أن يحذقها الطالب المصري.


وقد يقول قائل: إن الوزارة مضطرة إلى هذا؛ لأن التعليم العالي يحتاج من طالبه إلى حذق ومهارة للغة الأجنبية التي تكون بها معظم كتب المواد في المدارس العالية وفي الجامعة فكيف يجمع بينها، وقد نادى بذلك فعلاً ناظر مدرسة الهندسة؟.


والجواب على ذلك: أن هذا لن يكون أبدًا بأن تتخم المناهج الثانوية باللغات، فقد علمت خطأ معاجلة التلميذ بلغة لم يألفها، وإنما تكون بإنشاء أقسام إعدادية للمدارس العالية يدرب فيها الطلبة على اللغة التي يكثر استخدامها في مدرستهم، وبذلك تجمع بين الفائدتين: فائدة العناية بالمواد الدراسية وإفساح المجال لها في وقت التلميذ، وفائدة التقوية اللازمة للطالب في المدارس العليا.


ذلك بعض ما أردنا أن نعرض له فيما يختص باللغات الأجنبية في مناهج التعليم، ونحن نعلم أن وزارة المعارف ماضية في خطتها، وأن لجان المناهج لا تحب أن تعلن في ذلك رأيها، وإنما تسير في حدود خطة تقيد أعضاءها، ولكنه الحق يقال، والحق أحق أن يتبع.

وعن رأي الإمام البنا في مستقبل الثقافة في مصر يكون الحديث في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.



المراجع

(1) الإخوان المسلمون الأسبوعية، العدد (12)، السنة الثالثة، غرة ربيع الآخر 1354ه/ 2 يوليو 1935م، ص(14-15).

(2) الشَّدو: أن يُحسنَ الإنسانُ من أمرٍ شيئًا، تقول: هو يشدو شيئًا من العلم والغناء، ونحو ذلك. [العين، مادة (شدو)].

(3) جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (13)، السنة الثالثة، 8 ربيع الآخر 1354ه/ 9 يوليو 1935م، ص(3-10).

(4) أي: يعتبرون لهم الفضل والمنزلة.

(5) أرخت هذه المذكرة بـ: 28 ربيع الأول 1354 الموافق 29-6-1935.

(6) جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (14)، السنة الثالثة، 15 ربيع الآخر 1354ه/ 16 يوليو 1935م، ص(3-5).

(7) في الأصل: والعناية.

(8) جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (15)، السنة الثالثة، 22 ربيع الآخر 1354ه/ 23 يوليو 1935م، ص(3-4).

(9) في الأصل: "الدينية"، وهي لا تؤدي المعنى الذي يقصده الإمام.

(10) جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (16)، السنة الثالثة، 29 ربيع الآخر 1354ه/ 30 يوليو 1935م، ص(3-4).

(11) أي: أعمدة.

(12) كان المرحوم "إسماعيل القباني" من رواد التربية في مصر، وله جهد كبير في تطوير التعليم، عمل مستشارًا فنيًّا لوزارة المعارف، ثم وزيرًا للمعارف، أصدر صحيفة "التربية" وترأس تحريرها منذ عام 1948، حصل على درجة البكالوريوس من إنجلترا. (13) في الأصل: تنجم.


للمزيد عن دور الإخوان في الإصلاح

كتب متعلقة

من رسائل الإمام حسن البنا

ملفات وأبحاث متعلقة

مقالات متعلقة

الإصلاح السياسي:

الإصلاح الإجتماعي ومحاربة الفساد:

تابع مقالات متعلقة

رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة

قضايا المرأة والأسرة:

الإخوان وإصلاح التعليم:

موقف الإخوان من الوطنية:

متفرقات:

أحداث في صور

.