الإمامان المجددان المودودي والبنا (3/4)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
الإمامان المجددان المودودي والبنا (3/4)
الجهاد السياسي

مقدمة

الإمام المودودى

البداية في العمل السياسي بمحاولة إصلاح الحكومات ومواجهة الاحتلال.

نجح الإمامان في تحويل المطالب الإسلامية إلى مطالب شعبية عامة.

دعوا للإفادة من منجزات الحضارة الغربية ورفضًا أن تكون بديلاً عقديًّا.

قدما النموذج العملي بمواجهة الاستبداد السياسي والجهاد في فلسطين.

تناولنا في الحلقة الماضية كيف آثر الإمامان أبو الأعلى المودودي وحسن البنا – رحمهما الله- العمل الجماعي على الفردي، وتوجها بالخطاب للجماهير البسيطة، وشاركا في العمل العام، من خلال إنشاء أكبر جماعتين إسلاميتين في بلديهما، وتحديد أهدافهما، ومراحل العمل بهما؛ إذ تشابهت مراحل العمل في جماعتيهما، وأكدا مرجعية القرآن والسنة لهما، وحددا مراتب العمل في إصلاح النفس والبيت والمجتمع والحكومة والعالم، كما حذرا من التعجل واستبطاء النصر وعنيا بالتربية عناية كبيرة.

وفي هذه الحلقة نتناول كيف كان اهتمامهما بإصلاح المجتمع الإسلامي دافعًا لهما من أجل العناية بالعمل الخدمي التطوعي، الذي يستهدف بذر بذور الخير في المجتمع، وتعهدها بالرعاية والحدب، والخلطة بالناس لتقديم الأسوة الصالحة، ومخاطبتهم ليس فقط بالخطب والمؤتمرات، والكتب والبيانات والندوات؛ وإنما بتعرف مواطن معاناة الناس، والسعي من أجل التخفيف عنهم، ومد يد العون لهم، وبذلك كانت لهم الجهود البارزة في بناء المدارس والمعاهد، والمشافي والمصحات، والجمعيات الخيرية، وإعانة المحتاجين، وغوث المضطرين، بل امتد نشاط الجماعتين ليشمل قطاعات عريضة من الجماهير، من الطلاب والعمال والمثقفين؛ سواء كانوا رجالاً، أو نساء، أو ناشئة... إلخ.

إسقاط الخلافة:

كان إسقاط الخلافة الإسلامية- نتيجة احتشاد التآمر الدولي والكيد الداخلي- صدمة مريعة هزت المسلمين حيثما كانوا، وسرّبت اليأس إلى نفوس كثير منهم، وقد رأينا أن الإمام المودودي تفاعل في صدر شبابه مع حركة "إحياء الخلافة الإسلامية" في الهند، تلك الحركة التي استهدفت محاولة الإبقاء على الخلافة قبل سقوطها.

أما الإمام "البنا" فقد أسس جماعة (الإخوان المسلمين) عقب سقوط الخلافة بنحو أربع سنوات، ومضى يفكر في كيفية استعادتها، والشكل الذي يمكن أن تعود عليه لتمارس دورها المرجو كممثل للنظام السياسي الإسلامي.

قال الإمام "البنا": "إن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز للوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها، والاهتمام بشأنها.. والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم مع ذلك يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات، التي لا بد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات".

وقد لخص الإمام "البنا"- رحمه الله- تلك الخطوات في "زيادة التعاون بين أمم الإسلام، وعقد الأحلاف والمعاهدات والمجامع والمؤتمرات بينها، ثم تكوين عصبة الأمم الإسلامي".

(مجموعة رسائل الإمام "البنا"، رسالة المؤتمر الخامس - 195).

التوجه إلى الجهاد السياسي:

كانت البداية الواضحة إذًا في العمل السياسي العام هي إصلاح الحكومات القائمة في بلدي الإمامين المجاهدين، وكانت العقبة الأبرز هي أن كلتا البلدين تئن تحت احتلال إنجليزي بغيض.. وقد قضى المودودي شبابه يناهض الاحتلال الإنجليزي للهند، فلما استقلت الهند واصل المودودي سعيه لتحقيق استقلال باكستان ذات الأغلبية المسلمة عن الهند، ورفض دون هوادة فكرة القومية الهندية الواحدة بديلاً عن القومية الإسلامية لمسلمي الهند، وكانت إقامة دولة إسلامية على جزء- ولو يسير من الأرض- أحب إليه من أن يبقى المسلمون أقلية

كبيرة تخضع لسيطرة الأغلبية الهندوسية، ولما استقلت باكستان كانت تمثل له (بيت الإسلام) المرجوّ، وقد عبر عن ذلك بقوله: "إني لا أعتبر هذه البلاد بلادنا، بل هي بيت الإسلام، لقد واتتنا الفرصة لأول مرة بعد قرون لنقيم دولة الله في صورتها الحقيقية، ونقدم للعالم أجمع المثال العملي لفلاح هذا الدين ونجاحه، إنها نعمة كبرى أنعم الله بها علينا".

لكن هذه الآمال العراض ما لبثت أن تلقَّت صدمةً أليمةً نتيجة الاستبداد السياسي الذي خيم على باكستان بعد نحو عام من استقلالها؛ حيث توفي رئيسها الأول "محمد علي جناح" سنة (1367هـ= 1948م)، ولم يكد يمر شهر على وفاته حتى أمر الرئيس الجديد "غلام محمد" بإلقاء القبض على المودودي وجماعة من إخوانه، فكان أول معتقل سياسي يدخل سجون باكستان؛ وهو الذي لم يسجن من قبل أيام الاحتلال الإنجليزي والسيطرة الهندوسية (د. محمد عمارة: أبو الأعلى المودودي والصحوة الإسلامية،دار الشروق، ط1، 1987م).

إنها الدكتاتورية وتاريخها المظلم.. وقد أمضى الرجل حياته بعد ذلك يجاهد من أجل أن تكون باكستان إسلامية بحق، يحكمها دستور إسلامي، وفي سبيل ذلك تعرض للسجن، وفي سبيله حُكم عليه بالإعدام، وهو الحكم الذي لم يُنفذ، وقد استمد جهاد المودودي في ذلك السبيل جلاله من كونه قد حوّل المطالب الإسلامية إلى مطالب شعبية عامة، ولن يضيره في شيء أن المستبدين من الحكام لم يلقوا لها بالاً، وحاولوا مواجهتها بالقهر والطغيان.

وقد وصل الحال إلى أن الجماعة الإسلامية صاغت محضرًا يطالب بالحريات العامة، وأن يصبح اسم باكستان "جمهورية باكستان الإسلامية"، ويكون ذلك شعارًا واجب التطبيق، وجمعت التوقيعات الشعبية على ذلك المحضر، فبلغ طوله تسعة أميال، وتقدمت به إلى البرلمان، فجاء الرد الحكومي بحظر نشاط الجماعة، واعتقال المودودي وثلاثة وستين من قادة الجماعة في سنة (1383هـ= 1964م)!

أما الإمام "حسن البنا" فجهاده واضح في سبيل الحرية والاستقلال من خلال منظور إسلامي مسطور بدم الشهادة القاني، وقد خاطب (الإخوان المسلمين) يذكرهم بأهدافهم فقال: ".. اذكروا دائمًا أن لكم هدفين أساسيين:

1- أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي، وذلك حق طبيعي لكل إنسان؛ لا ينكره إلا ظالم جائر أو مستبد.

2- أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة، تعمل بأحكام الإسلام، وتطبق نظامه الاجتماعي، وتعلن مبادئه القويمة، وتبلغ دعوته الحكيمة للناس، وما لم تقم هذه الدولة، فإن المسلمين جميعًا آثمون، مسئولون بين يدي الله العلي الكبير عن تقصيرهم في إقامتها، وقعودهم عن إيجادها".

ويحمل الإمام "البنا" في كثير من المواطن على الاستعمار، ويحرض المؤمنين على الجهاد، وساحة الجهاد عنده تمتد لتشمل كل قطر إسلامي يتهدده خطر أجنبي، فيقول: "وأريد أن أستخلص من هذا، أن الوطن الإسلامي واحد لا يتجزأ، وأن العدوان على جزء من أجزائه عدوان عليه كله، هذه واحدة.

والثانية أن الإسلام فرض على المسلمين أن يكونوا أئمة في ديارهم، سادة في أوطانهم، وليس ذلك فحسب، بل عليهم أن يحملوا غيرهم على الدخول في دعوتهم، والاهتداء بأنوار الإسلام التي اهتدوا بها من قبل".

ويستعرض "البنا" جرائم الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والإيطالي في ديار الإسلام، ثم يقول: "إن الإسلام لا يرضى من أبنائه بأقل من الحرية والاستقلال، فضلاً عن السيادة وإعلان الجهاد، ولو كلفهم ذلك الدم والمال، فالموت خير من هذه الحياة؛ حياة العبودية والرق والاستذلال" (مجموعة رسائل الإمام البنا، رسالة المؤتمر الخامس،).

قدَّم الإمام "البنا" النموذج العملي لذلك بالجهاد في فلسطين، وقدم إخوانه من بعده نموذجًا آخر بقتال الإنجليز في مدن قناة السويس، وقدموا في ذلك قوافل الشهداء.

أما في مجال الكفاح من أجل إصلاح نظام الحكم بأسلمة الدستور والقانون، فإن الدستور المصري كان ينص- في عصر الإمام "البنا"- على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، وكانت مواده تنظم العلاقة بين السلطات، وتحترم الحريات العامة والخاصة، على نحو لا تبعد به عن روح الإسلام، وإن ظل أحيانًا نصوصًا ينقصها التنفيذ، أو يلفها الغموض، وتذهب بها التأويلات مذاهب شتى، وفي ذلك يقول الإمام "البنا": ".. لهذا يعمل الإخوان جهدهم حتى تتحدد هذه النصوص المبهمة في الدستور المصري، وتعدل الطريقة التي ينفذ بها الدستور في البلاد".

أما نظرة "البنا" إلى القانون، فتختلف إلى نظرته إلى الدستور، فقد كانت قوانين وضعية؛ تصطدم بأحكام الدين في مواضع كثيرة، وقد جاءت من منظومة فكرية واجتماعية تخالف الإسلام، فيقول الإمام "البنا": "أما (الإخوان المسلمون) فهم لا يوافقون على هذا القانون أبدًا، ولا يرضونه بحال، وسيعملون بكل سبيل على أن يحل مكانه التشريع الإسلامي العادل" ( المرجع السابق: 190).

الموقف من الأحزاب السياسية:

يتصل بقضية التشريع موقف الإمامين من الأحزاب السياسية في بلديهما، فقد اتخذ "المودودي" موقفًا مناوئًا تجاه حزب الرابطة الإسلامية، الذي أدى دورًا بارزًا في استقلال باكستان، وكان ذلك الدور موضع اتفاق بين المودودي والحزب، لكن موضع الخلاف البارز كان في رؤية الحزب لباكستان بعد الاستقلال؛ إذ كان يراها دولة للقومية الإسلامية، وليست دولة إسلامية صرفة، وكانت قياداته شديدة التأثر بالحضارة الغربية والنزعة العلمانية؛ وهو الحزب الذي حكم باكستان بعد الاستقلال فترات متعددة، وعانى "المودودي" منه السجن والتشريد.

أما الإمام "البنا" فقد نظر إلى الأحزاب المصرية في عصره على أنها سبب في تعويق المصالح الوطنية والإسلامية، وأن هذه الأحزاب "قد وجدت في ظروف خاصة، ولدواعٍ أكثرها شخصي لا مصلحي"، وأنها "لم تحدد برامجها ومناهجها إلى الآن، فهم قد اتفقوا في هذا الفراغ، كما اتفقوا في أمر آخر؛ هو التهالك على الحكم، وتسخير كل دعاية حزبية، وكل وسيلة شريفة وغير شريفة في سبيل الوصول إليه".. لذا فقد طالب بحلها، واجتماع كل القوى السياسية في هيئة واحدة لمقاومة الاستعمار، وتحقيق النهضة.

ومما يبين بعد نظر كلا الرجلين أنهما لم ينطلقا من عداء للتعددية السياسية، فهي من الإسلام بلا ريب، ولكن الواقع السياسي في بلديهما آنذاك باعد بين هذه التعددية القائمة والتغبير الصادق عن الأمة وآمالها.

الموقف من الحضارة الغربية:

كان لكلا الإمامين موقفه من الحضارة الغربية؛ إذ يرى كلاهما أنه لا ضرر من الإفادة من منجزات هذه الحضارة في مجالات العلوم والتقنية، بل إن ذلك مما يتفق مع روح الإسلام الذي يدعو إلى التفاعل مع الآخرين، وتعقب الحكمة حيث كانت، لكنهما يريان أن الحضارة الغربية جنت جناية عظمى على أمتنا حين فرضت نفسها على أنها بديل عقدي، وفلسفة اجتماعية تصلح للمسلمين، وحين استجابت قطاعات مؤثرة من الصفوة والعامة لهذا الطرح الحضاري الغربي.

ويرى الإمام "البنا" أن الإسلام يدعو إلى أن نأخذ من كل شيء أحسنه، وينادي بأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، ولا يمنع من أن تقتبس الأمة الإسلامية الخير من أي مكان، "فليس هناك ما يمنع من أن ننقل كل ما هو نافع مفيد عن غيرنا، ونطبقه وفق قواعد ديننا، ونظام حياتنا، وحاجات شعبنا" (مجموعة الرسائل، رسالة دعوتنا في طور جديد).

ويقول الإمام "المودودي": "فمن كان يريد القوة والكمال والرقي، فلْيتلقَّ عن الأمم الأجنبية ما تحصل به الأمم على أسباب قوتها ورقيها وكمالها، ولا يميلن إلى ما تتذلل به الأمم، وتنضم إلى أمم أجنبية، وتقضي على حيويتها ومقوماتها أخيرًا" (مبادئ الإسلام ).

وكان حذر الرجلين عظيمًا من الجانب السلبي لهذه الحضارة، فيرى الإمام "البنا" أن الحضارة الأوربية تقوم "على قاعدة إقصاء الدين عن مظاهر الحياة الاجتماعية، وبخاصة الدولة والمحكمة والمدرسة، وطغيان النظرة المادية، وجعلها المقياس في كل شيء، وتبعًا لذلك صارت مظاهر هذه الحضارة مظاهر مادية بحتة، تهدم ما جاءت به الأديان السماوية، وتناقض كل المناقضة تلك الأصول التي قررها الإسلام الحنيف، وجعلها أساسًا لحضارته، والتي جمعت بين الروحانية والمادية جميعًا".

ثم تحدث الإمام عن ظواهر الإلحاد والشك وإنكار الروح والآخرة، والإباحية والتهافت على اللذة، والتفنن في الاستمتاع، وإطلاق الغرائز الدنيا من عقالها، والأثرة في الأفراد والطبقات والشعوب، والربا والتفنن فيه، وتحدث عن سوء آثار ذلك على أوربا نفسها، كما تناول أثر ذلك الغزو الاجتماعي والثقافي والتعليمي الأوربي على الشرق الإسلامي، وقال: "وتغالت بعض الأمم الإسلامية في الإعجاب بهذه الحضارة الأوربية، والتبرم بصبغتها الإسلامية"، وضرب المثل على ذلك بما حدث في تركيا ومصر، "فقد انحسر ظل الفكرة الإسلامية في هذه البلاد عن كل الأوضاع الاجتماعية، وطوردت الفكرة الإسلامية لتقبع في المساجد والزوايا، والربط والتكايا.." ( مجموعة الرسائل، ص153).

أما الإمام "المودودي"، فقد تناول تلك الفلسفات التي قامت عليها حضارة الغرب، وقال: "فلقد جعل "هيجل" العالم الفكري ميدانًا للصراع، وجاء "دارون" وقدم الفطرة كميدان للحرب، ثم جاء "ماركس" وصور المجتمع بنفس الصورة" (واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم،)، أما الأخلاق في الحضارة الغربية فقد قامت على مزيج من المنفعة المحضة واللذة" (المرجع السابق: ).

ثم تعرض "المودودي" لخطر هذه الحضارة على المسلمين، وكيف أعقب هزيمتهم السياسية والعسكرية تجاه الغرب استسلامًا لحضارته وثقافته وفلسفته، فكان ذلك هو الخطر الأكبر، "فالسيطرة السياسية كانت تتحكم في الأجساد فقط، أما السيطرة الحضارية والفكرية فقد تحكمت في العقول والأذهان " (الطريق إلى وحدة الأمة الإسلامية، ص21، ترجمة د. سمير عبد الحميد إبراهيم، طبعة القاهرة، سنة 1401هـ).

إن الاستعمار العسكري والسياسي ومظالمه أجج المشاعر نحو الاستقلال، "إلا أن العلوم والآداب الإنجليزية، والحضارة والمدنية الإنجليزية، قد جعلت من سكان الهند عبيدًا للغرب، وسيطرت على عقولهم سيطرة تامة، لدرجة أنهم لا يستطيعون رسم منهاج حياتهم بأسلوب يخالف النهج الذي وضعه أمامهم الغرب" (المسلمون والصراع السياسي الراهن، ، ترجمة د. سمير عبد الحميد إبراهيم، طبعة القاهرة، سنة 1981م).

المصدر