الإمام البنا ورؤيته الإصلاحية للمشكلات الأخلاقية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإمام البنا ورؤيته الإصلاحية للمشكلات الأخلاقية


موقع ويكيبيديا الإخوان المسلمين (إخوان ويكي)

مقدمة

الإمام حسن البنا كان يتمتع بحكمة بالغة في معالجته للمشكلات الأخلاقية في المجتمع من حوله

تميز الإمام البنا رحمه الله عليه أنه كان صاحب رؤية إصلاحية فهو يحمل منهج إصلاحي مجتمعي بالأساس، وليس صاحب فقه وان كان أساس برنامج ورؤيته الإصلاحية هو الإسلام، لذا نجد العديد من المقالات والأطروحات التي تبناها الإمام البنا لعلاج الآفات والمشاكل المجتمعية التي كانت منتشرة بصورة كبيرة في ذلك الوقت فركز الإمام البنا نشاطه ونشاط جماعة الإخوان المسلمين على علاج تلك الآفات باعتبار أن التغيير يبدأ من إصلاح الفرد ثم المجتمع ومن خلال هذا البحث سنحاول طرح رؤية الإمام البنا لعلاج تلك المظاهر أو الآفات من واقع مقالاته التي كتبها وسنتعرض هنا لكتاباته حول ثلاث قضايا اجتماعية كنموذج لرؤية الإمام البنا وهى قضية البغاء، تحديد النسل، القمار.

يقول الإمام البنا: نحن -كجماعة زاولت إصلاح المجتمعات في محيطها وبحسب طاقتها ووسائلها- نعلم ونعلن دائما أن الزمن جزء من العلاج، وأن الطفرة -وبخاصة في إصلاح النفوس وتطهير المجتمعات- فوق المحال، إن صح هذا التعبير. ولهذا ما كنا ننتظر من وزارة الشئون الاجتماعية أن تظهر ثمار جهودها يانعة دانية ما بين طرفة عين وانتباهتها فذلك أمر غير طبيعي- ومهما عرف عن على ماهر باشا من السرعة في إنجاز الأعمال وأخذ الأمور بالحزم والتنفيذ العاجل، ومهما عرف عن الشاذلي باشا من الدربة والحنكة في مثل هذه الشئون، فإن سنة الوجود في كل شيء لابد أن تأخذ مجراها ..(1)


الإمام البنا ومحاربة البغاء

كان الإمام البنا منذ صغره حريصاً على الحفاظ على المظهر العام وألا يخالف ذلك شريعة الإسلام الذي تربى عليها وعاشها منذ صغره وكانت تحركاته ايجابيه لوقف أو منع أي مظهر يخالف الآداب العامة، فيذكر الإمام البنا في مذكراته أحد تلك المواقف التي تحرك فيها وتعامل ايجابيا لوقف أحد المظاهر التي تتنافى مع الآداب العامة وهو مازال في المرحلة الإعدادية فيقول تحت عنوان "على شاطئ النيل":

وأذكر أن كان من أثر هذه الجمعية في نفوس أعضائها الناشئين أنني مررت ذات يوم على شاطئ فهر النيل حيث يشتغل عدد كبير من العمال في بناء السفن الشراعية، وهي صناعة كانت منتشرة في محمودية بحيرة، فلاحظت أن أحد أصحاب هذه السفن المنشأة قد -علق في ساريتها تمثالا خشبيا عاريا على صورة تتنافى مع الأدب، وبخاصة وأن هذا الجزء من الشاطئ يتردد عليه السيدات والفتيات يشقين منه الماء، فهالني ما رأيت وذهبت فورا إلى ضابط النقطة - ولم تكن المحمودية قد صارت مركزا إداريا بعد - وقصصت عليه. القصص مستنكرا هذا المنظر. واكبر الرجل هذه الغيرة وقام معي من فوره حيث هدد صاحب السفينة وأمره أن ينزل هذا التمثال في الحال وقد كان، ولم يكتف بذلك بل إنه حضر صباح اليوم التالي إلى المدرسة وأخبر الناظر الخبر في إعجاب وسرور. وكان الناظر مربيا فاضلا هو الأستاذ محمود رشدي - من كجار رجال وزارة المعارف الآن - فسر هو الآخر وأذاعه على التلاميذ في طابور الصباح مشجعاً إياهم على. بذل النصيحة للناس والعمل على إنكار المنكر أينما كان. ويظهر أن هذا الاهتمام بمثل هذه الشئون قد انصرف عنه اليوم - مع الأسف - الكثير من النظار والضباط على السواء ..(2)

كما انشغل الإمام البنا والإخوان في الفترة الأولى من تأسيس الجماعة بمحاربة ظاهرة البغاء بكل ما أوتوا من قوة فلم يكتفوا في معالجة هذه المشكلة العويصة بكتابة المقالات أو بإلقاء الكلمات في المساجد والأندية العامة، أو برفع المذكرات إلى أولي الأمر يبصرونهم بحكم الله في البغاء فقط، وإنما قدم الإخوان حلولاً عملية وجذرية لهذه المشكلة بتأسيس الملاجئ ودور أعمال للتائبات منهن كما عملوا في مدينة الإسماعيلية وغيرها حتى أوضح الله طريق الحق، ويقول الإمام البنا عن البغاء :

ما رأيت كلمة تضم حروفها من معاني الإيلام والإيذاء، والأضرار والبلاء ما تضمه حروف هذه الكلمة البغيضة البشعة، ولولا أن الطبيب كتب عليه أن يتناول بمشرطه الصديد والقيح، ويخوض به بين الفرث والدم ما أبحت لقلمي ككاتب أن يكتبها، ولا للسانى كواعظ أن ينطق بها، فهي كلمة قد جمعت كل معاني الحطة والأسى والإيلام والأذى فى حروف أربعة، وإن أسعد أيام مصر والأمم الشرقية هو اليوم الذي تحذف فيه هذه الكلمة من قوانينها أولاً، فتخفى بعد ذلك عن أسماع الناس وألسنتهم، ولعلها تنضمر بالإهمال حتى تموت من قاموس اللغة غير مأسوف عليها.

ويضيف الإمام البنا: لست مبالغًا حين أصارح القراء الكرام بأن هذه الكلمة إن كتبتها أو تلوتها اهتزت لها أعصابي واضطربت مفاصلي، وتمثل أمامي ما تحويه من معاني البؤس والشر والمسكنة معًا، فأسخط تارة وأشفق أخرى وأنا في كلتا الحالين آسف حزين.

ويؤكد الإمام البنا على أن: البغاء أقوى معول يهدم كيان الأسرة ويفكك رابطتها، ويأتي على بنائها من أساسه، ويبدل هناءتها آلامًا وسعادتها جحيمًا، وحبها بغضًا وانتقامًا ويعبث بحرمتها وقدسيتها وينال من كرامتها وعزتها، إنه يعطل تكوين الأسر ويحول بين الشبان والزواج، فهو في الوقت الذي يفكك فيه الأسر القائمة ويقضى عليها بما يلقى في نفوس أفرادها من شكوك وريب وظنون وتهم يحول دون تكوين أسر جديدة، ويمنع الشاب أن يتزوج وأن يكون أبًا رحيمًا وزوجًا مخلصًا، فهي سلاح ذو حدين يقطع روابط الأسر أولاً وأخيرًا، وماذا يبقى للأمة من قوة إذا تهدمت الأسر وانحلت روابطها وتحطمت قواها وهل الأمة إلا مجموعة أسر؟!

والبغاء دركة منحطة ومنزلة سفلى لا تليق بالإنسانية الكريمة التي شرفها الله وفضلها على كثير ممن خلق تفضيلاً، وأنت ترى -عافاك الله- أن الحيوان الراقي الفصيلة يأنف هذه الإباحة في الأعراض، ويغار الإلف منه على إلفه ويذود عن حماه، فلا يقتحمه سواه، ومن ذا الذى يستطيع أن يدخل عرين الأسد ليقرب لبؤته ثم لا تكون معركة حامية وموقعة دامية يسلم فيها الشرف الرفيع، وهل رأيت الحمام حين يحمى أنثاه فلا يحوم حولها غيره ولا تمتد إليها عين غير عينه؟

العرض هو أغلى شيء فى هذه الحياة، أغلى من المال وأغلى من الدم، فإن المال تنفقه فتعوضه، والدم تبذله فى سبيل العرض فتحمد على هذا البذل وتثاب، ولكن ما سمعنا ولا قرأنا أن عرضًا ابتذل فعوض أو شخصًا فرط فيه فلم يُلم، أو ليس الشرف والخلود طيب الأعراق وطهارة الأعراض؟ أوليس النبل والكرامة والعزة والفضيلة وما إلى ذلك من ألقاب السؤود والمجد كلها لا تستقيم لأحد أو تتم له إلا أن يكون وافر العرض طاهر الذيل؟

ويشير الإمام البنا إلى أن البغاء حبالة الجريمة وعش الشيطان لا يزال بمن يرتادون أماكنه يزين لهم أنواع الجرائم ويدفعهم إلى المنكرات والفواحش، ويحضهم على الموبقات المهلكات فيأتي بذلك على ما بقى من شعورهم إن كان ثم شيء فلا يتخرجون في هذه المدرسة الوبيلة. إلا على أسوأ الحالات، وهل تجد دور البغاء إلا مأوى الشريرين ووكر المجرمين ومخابئ السموم ومثاوى الرذائل، ومجامع المؤامرات التي تحاك فيهم خيوط الجرائم؟

لو ذهبت أعدد لك ما يتجسم في هذه الكلمة من المهالك لاستغرقت هذا العدد، بل وأعدادًا بعد ذلك، وإن الكتابة في هذا المعنى لثقيلة علىّ مؤلمة لنفسي فأعفني وقاك الله السوء، وكثير على بلد يتزعم العالم الإسلامي أن يعترف قانونه بهذا المنكر، وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم، وما أجمل أن تتعاون قوى الأمة على إنقاذها من هذا الداء الوبيل.، والقضاء عليه بتشريع صارم حاسم يردع ويرد عادية المعتدى ويحقق أوامر الله، وإن حدًا من حدود الإسلام يقام فيه كل الكفاية لإراحة الناس من كل هذا البلاء، فهل يقيم الناس حدود الله؟ ..(3)


رؤية الإمام البنا لمواجهة البغاء

كما ذكرنا سابقاً لم يكن الإمام البنا من دعاة التنظير والترف الفكري فقط ولكن كان صاحب رؤية إصلاحية وأفكار واقتراحات عملية لمواجهة تلك المشاكل وكان يقدم تلك الاقتراحات والرؤى للجهات الرسمية كمحاولة للعمل بها وتنفيذها لعلاج تلك الظواهر السلبية فتقدم الإمام البنا بمذكرة رسمية صاحب السعادة محمد شاهين باشا رئيس لجنة بحث موضوع البغاء الرسمي وتتميز هذه الرسالة بأنها أجابت على كافة الأسئلة المتعلقة بآلية مواجهة البغاء الذي كان مصرحاً له بشكل قانوني خلال تلك الفترة فتقول الرسالة والمعنون بعنوان:

"البغاء الرسمي" مذكرة جمعية الإخوان المسلمين بالإسماعيلية

مقدمة:

حضرة صاحب السعادة محمد شاهين باشا رئيس لجنة بحث موضوع البغاء الرسمي أيد الله به الحق وأجرى على يديه الخير للبلاد والعباد آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فإن مجلس إدارة جمعية الإخوان المسلمين بالإسماعيلية -ومن ورائه جمعيتها العمومية- يتشرفون برفع هذه المذكرة في الإجابة على أسئلة سعادتكم الخاصة بموضوع البغاء الرسمي، معتقدين أنهم بذلك يقومون بواجبهم الإسلامي وأنهم سيرون من سعادتكم أفضل من يصغى إلى الآراء الحقة الناضجة ويعمل بها، وما توفيقنا إلا بالله عليه توكلنا وإليه ننيب.

تمهيد: تقدير الفكرة

كلنا -يا صاحب السعادة- سرور وغبطة وتقدير لأولئك الذين فكروا فى ناحية الإصلاح الاجتماعية للأمة، تلك الناحية التي أهملت طويلاً، وأغفلها الناس على اختلاف طبقاتهم، واشتغلوا عنها بما هو فرع لها، وإننا نتقدم إليهم بأجزل الشكر وأجمل الثناء؛ لأنهم بدءوا إصلاحهم بعلاج رأس الأدواء وهو البغاء الرسمي؛ ولأنهم أعطوا القوس باريها.، واختاروا لعلاج هذه الآفة أبا بجدتها.، وخير نطاسيها.، وأبرع من يقدر على علاجها، مع سلامة دين وصحة يقين وسداد رأى، ونشكر لكم من كل قلوبنا انتدابكم الشعب لإبداء رأيه لما في ذلك من إظهار الحقيقة جلية واضحة، والإهابة بكل طبقات الأمة إلى الاشتراك في الإصلاح المنشود.
وإننا نرجو أن تكون هذه باكورة يتوالى بعدها ثمر الإصلاح جنيًا إن شاء الله.

الإجابة على السؤالين: الأول والخامس: هل ترون إلغاء البغاء الرسمي أو إبقاءه، وما هي الأسباب التي تبنون عليها رأيكم؟

نرى إلغاء البغاء الرسمي دفعة واحدة بمنع الترخيص، وسحب الرخص من المشتغلات بالبغاء حالاً، للأسباب الآتية:

‌:أ- إن البغاء الرسمي وصمة عار في جبين الأمة المصرية الكريمة التي ينص دستورها على أن دينها الرسمي الإسلام، ويحمل جلالة مليكها المفدى علم حماية هذا الدين القويم، وتتولى هي زعامته بين شعوب العالم، وسعادتكم وحضرات أعضاء اللجنة الكريمة أعلم الناس بما قال الله تبارك وتعالى في تحريم الزنا والتنفير منه واعتباره فاحشة وساء سبيلاً.

ب- إنه سبب في انتشار الأمراض السرية بين شبان الأمة، وهم زهرة رجالها، ومعقد آمالها، ولسنا نقول ذلك من أنفسنا، بل إن تقارير حضرات الأطباء الاختصاصيين ناطقة بأن ثمانين في المائة من المرضى بهذا المرض إنما جاءهم عن طريق البغاء، ولا نفيض في هذا المعنى اكتفاء بما تعلمونه سعادتكم من ذلك.

‌:ج- إن البغاء سبب في فساد الأسر وانحلالها؛ فإن المرأة متى علمت بأن زوجها يتردد على مواخير. البغاء التهبت الغيرة في نفسها ودبت البغضاء إلى قلبها، وأداها ذلك إلى احتقاره، وربما إلى خيانته، ويكون عن ذلك انحلال الأسرة وتفككها والطلاق.

‌د- إنه سبب في إضراب الشبان عن الزواج؛ فإن الشاب متى رأى أنه يتمكن من قضاء مآربه بدريهمات، ويتنقل بين مواطن الهوى من امرأة إلى امرأة مع قلة التبعة وعدم التقيد والكلفة آثر ذلك عن حياة الزوجية وقيودها، ولاسيما وما في الزواج من معان شريفة وأغراض سامية نبيلة لا يدركها إلا أولياء البصائر والفهم، وهم في عامة الشعوب قليل، ومتى أضرب الشبان عن الزواج قل النسل وضعفت بذلك الأمة، وأغرى الفتيات على التبرج والتهتك والخلاعة، ثم المخادنة والفساد، ثم الزنا السرى وحمل السفاح، وما يتبع ذلك من فضائح وجرائم ومنكرات.
هـ- إن إقرار الحكومة للبغاء وحمايتها له وترخيصها به سبب في تهوينه على الشبان والشابات، وكأنها ترفع بذلك عنه وصف الإثم وتبرزه للناس في صورة الأمور المقبولة المشروعة وتشجع بذلك الدعوة وتزيد الإقبال عليه، وفى ذلك ما فيه من إبراز الباطل فى صورة الحق وإلباس الضار ثوب النافع.

‌:*و- هذا البغاء سبب في قيام تجارات غير مشروعة إلى جانبه منها تجارة الرقيق الأبيض، التي يشترك فيها الصائد والسمسار والمستوردة والفريسة التي تذهب ضحية الجميع، وفى ذلك ما فيه من إغراء بالفجور وجر الأطهار الأبرياء والغافلات إلى بؤر الفساد. ‌:ز- إن البغاء من المساعدات على السكر والعربدة وتعاطى المخدرات ونحوها؛ لأن سلسلة الشر واحدة تأخذ حلقاتها بحجز. بعض، فإذا أمسك الشرير بحلقة جرته إلى أختها وهكذا حتى يصل إلى قرارة الهوة، والواقع المشاهد كفيل بتبيان ذلك وشرحه.

ح‌- إنه سبب عظيم فى كثرة الإجرام والمجرمين لما يكون حينذاك من التنافس بين الأقران والتحريش من الإخوان، ولأمر ما أكثرت الحكومة من الشرطة ونقط البوليس فى أماكن البغاء.
ط‌- إذا كانت الحكومات الراقية المدنية قد حرمته على نفسها ومنعته فى بلادها، فأحر بحكومة مصر وهى المدنية الإسلامية أن تقضى عليها وتمنع منه أشد المنع.
هذا ما يحضرنا من ذكر الأسباب الهامة التى توجب إلغاء البغاء فى أقرب وقت ممكن دفعة واحدة، ولو أردنا الاستقصاء لطال بنا القول وفيما ذكر الكفاية.

الجواب على السؤال الثاني: في حالة الإلغاء ما هي الطرق التي تشيرون بها لمعاملة البغايا المرخص لهن الآن؟

الطرق التي نراها لمعاملة البغايا المرخص لهن هى:
أ- أن يحاط إلغاء البغاء الرسمي بجو من الدعاية الطيبة تجعل الشعب ينظر إلى هؤلاء البغايا كبائسات أوقعهن الحظ السيئ في هذا الإثم، لا فاجرات يتاجرن بأعراضهن، ويأكلن بثديهن ليكون ذلك مدعاة إلى عطف الشعب عليهن رحمة لهن.

‌:ب- أن تقوم الحكومة بعمل ملاجئ لهن فهن في حاجة إلى الرعاية كالأيتام في ملاجئهم والأحداث في إصلاحيتهم.

‌ج- استصدار الفتاوى من كبار العلماء التي تبين ثواب الله تعالى في زواجهن، وتكليف الوعاظ والأئمة بث هذه الروح في نفوس الناس، وتشجيع كل من يؤوى إحداهن إليه كزوجة شرعية بالثناء عليه في الصحف والمكافأة له من الحكومة ماليًا وأدبيًا.

‌:د- تأليف لجان من أهل الخير في كل منطقة بغاء لمعاونة البغايا بعد التوبة والنظر فى شأنهن، وذلك يسير لو أعارته الحكومة جانبًا من عنايتها، وأبدت للجمهور الرغبة الصادقة فيه.

الجواب على السؤال الثالث: ما الوسائل التي تقترحونها لمكافحة البغاء السري؟

أما لمكافحة البغاء السري الذي انتشر الآن بكثرة وينتشر بكثرة كذلك فنقترح ما يأتى:
أ- تعديل مواد القانون التي تبيح الزنا فى سن خاصة بتحريمه قطعًا، ووضع عقوبة شديدة لكل من يضبط متلبسًا بجريمة الزنا، سواء فى ذلك المرأة والرجل، وحبذا لو رجعت الحكومة في ذلك إلى الحد الشرعي إذن يبطل الزنا كل البطلان، وترتاح الحكومة كل الراحة من جرائمه، مع أن هذا الحد سوف لا يوقع إلا مرات بعدد الأصابع ثم يقلع الناس بعد ذلك عن هذا الإثم العظيم، ودواء الله تبارك وتعالى أفضل دواء.
ب- التشديد على رجال البوليس فى المراقبة والشدة على الأشخاص الذين يضبطون متلبسين بجريمة الزنا.
ج- تكليف الجمعيات الإسلامية الموثوق بها مساعدة البوليس فى مهمته بلجان خاصة بذلك وإخطار البوليس بما يرون، وعليه أن يحترم آراءهم ويقصدهم فى المراقبة ونحوها حتى تحقق الغاية بذلك.

الجواب على السؤال الرابع: ما الوسائل التي تقترحونها لتلافى أضرار الأمراض السرية؟

الوسائل التى نراها لاتقاء الأمراض السرية هي:

‌:أ- إصدار نشرات مزينة بالصور تبين للناس خطر هذه الأمراض وخطر العدوى الفظيع فيها وينفرونهم منها، وقد اتبعت مصلحة الصحة هذه الطريقة فى مكافحة الأمراض الطفيلية فأفادت فائدة لا بأس بها.

‌ب- الإكثار من شرائط السينما التى تبين للناس فظائع هذه الأمراض.
ج- الإكثار من إلقاء المحاضرات بالفانوس السحرى. إذا أمكن عن أضرارها ومهالكها وتحذير الجمهور منها، وتكليف الوعاظ والأئمة والجمعيات الإسلامية والأطباء العناية بذلك.

‌:د- نشر المتاحف الخاصة بتمثيل مظاهر هذه الأمراض بين الجمهور فى أمهات المدن حتى يرى الناس بأعينهم ما يستهدفون له من الخطر إذا أهملوا السلاح أو تعرضوا للعدوى، وقد رأينا بأنفسنا أن كثيرًا من الشبان بلغ منهم التأثر مبلغه بزيارة واحدة لمتحف جلالة الملك بعابدين حين نظروا مهالك الأمراض السرية وأخطارها.

ه- عمل مستشفيات خاصة تحجز فيها الأشخاص الذين يثبت مرضهم بهذه الأمراض حتى يتم شفاؤهم.

الخاتمة:

إزالة شبهات الذين يعارضون فى إلغاء البغاء الرسمى:
يحسن هنا أن نختم هذه الكلمة بالرد على شبهات الذين يرون عدم إلغاء البغاء الرسمى، معتمدين فى ذلك على البرهان الحسى والدليل القوى وبالله التوفيق.
الشبهة الأولى: يقولون: إن البغاء آفة مستأصلة من القدم فلا تلغى بجرة قلم.
والرد على ذلك أن نقول: ليس زمانة. المرض مستوجبة للسكوت عليه حتى يموت المريض، بل علينا أن نقوم بالعلاج الواجب حتى يتم الشفاء، على أن التجارب وعلم النفس الاجتماعى والفردى يثبتان أن كل عادة مهما تأصلت يمكن أن تقتلع بعادة أخرى متى وجدت العزيمة، وإذن فلا ينقص الحكومة ولا الأمة إلا العزيمة الصادقة، وبالحزم فى التنفيذ والصبر وطول الأناة يصل الجميع إلى الغاية.
ولو سلمنا بهذه القاعدة -وهى قاعدة أن توغل الجريمة فى القدم يبيح السكوت عن محاربتها- لما حاربنا رذيلة من الرذائل؛ فإن كل الجرائم متوغلة فى القدم منذ الخليقة، فالقتل والسرقة والطمع والعدوان كلها جرائم وجدت مع الإنسان يوم وجد، ولم يقل أحد بالسكوت عنها، بل إن المنطق السليم يوجب أن تتضاعف الجهود بقدر انتشار الجرم حتى يتم النصر للفضيلة فى النهاية.
الشبهة الثانية: يقولون: إن البغاء الرسمى ضرورة للعصر الحديث؛ لأن الشبان لا يستغنون عنه. وهذه شبهة أوهى من بيت العنكبوت؛ فإن الأخلاق متى استقامت -ويجب أن نفكر فى طريق استقامتها، وفى أفضل الطرق لتقوية إرادة شباب الأمة- وجد الشاب نفسه فى مأمن من نزغات الشيطان ونزعات النفس، ولاسيما إذا حوربت الخلاعة وقضى على التهتك والتبرج، وأى ضرورة لارتكاب الإثم وفى الحلال مندوحة عن الحرام فليتزوج المضطر، وبذلك تنقضى ضرورته ويستغنى عنه.
الشبهة الثالثة: يقولون: إن القضاء على البغاء الرسمى يكثر البغاء السرى.
والجواب على ذلك من وجهين: أولهما: أن وجود البغاء الرسمى لم يحل دون البغاء السرى؛ فها هو منتشر وينتشر فاستوى الأمران إذًا.
والوجه الثانى: أن القضاء على البغاء الرسمى إعلان وتنفير من الزنا فى جملته فهو يعين على النفور من البغاء السرى.
ودواء انتشار البغاء السرى ليس إبقاء البغاء الرسمى وإنما هو التشديد فى المراقبة، ويقظة البوليس، والدعاية القوية فى التنفير، وما دام القانون لا يحمى نوعًا من أنواع الجريمة تداعت الأنواع الأخرى ووهنت قوتها، وبذلك يقضى على هذا البغاء السرى بتاتًا.
بقيت شبهات أخرى متداعية من نفسها نضرب صفحًا عن الرد عليها إيثارًا للاختصار، واكتفاء بما فيها من الضعف ومخالفة الحق والبرهان.
هذا -يا صاحب السعادة- ما بدا لنا في موضوع البغاء الرسمي، نبعث به إليكم وكلنا أمل فى أنكم سترضون الله، وتنقذون الأمة، وتقررون إلغاء البغاء الرسمي إلغاء باتًا، وتخلدون هذه المأثرة فى صحيفة مجيدة من تاريخ مصر الإسلامية الناهضة مقرونة باسمكم الكريم، واسم صاحب الجلالة مليك مصر المفدى، وولى عهده المحبوب أعز الله بهما دينه وأيد شريعة نبيه صلى الله عليه وسلم.

عن لجنة الرد على الأسئلة بجمعية الإخوان المسلمين بالإسماعيلية

الرئيس: حسن أحمد البنا ..(4)


الإمام البنا والصور المخلة بالآداب

اتخذ الإمام البنا كافة الوسائل الشرعية المتاحة لمواجهة انتشار حالة الفساد الأخلاقي التي تفشت في المجتمع المصري في ذلك الوقت فلم يكتف بمواجهة البغاء كما ذكرنا سابقاً ولكنه واجهه أيضاً بعض الصور المخلة بالآداب التي نشرتها بعض الصحف، إيمانا منه بضرورة المحافظة على الأخلاق والآداب العامة في وسائلنا الإعلامية وأن يكون الإعلام مؤسس قوى في إنشاء المنظومة الأخلاقية التي تتوافق مع مجتمعاتنا الإسلامية.

فقد وجه الإمام البنا رسالة إلى وزير الداخلية ووكيل الجامع الأزهر بخصوص بعض الصور والمناظر الخليعة التي نشرتها بعض المجلات الصحفية جاء فيها:

حضرة صاحب الفضيلة وكيل الجامع الأزهر... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأبعث إلى فضيلتكم بصورة من الخطاب الذى وجهته إلى معالى وزير الداخلية بخصوص ما تنشره عادة بعض المجلات المصرية من الصور الخليعة والمناظر الفاجرة بلا تحرج أو حياء وغير ناظرة إلى اعتبار خلق أو دين أو وطنية، فيكون لذلك فى أفراد الأمة والمجتمع نفسه من الآثار أسوأها مغبة وعاقبة.
ولا شك أن فضيلتكم يحملون بين أيدى الله والناس والتاريخ تبعة كبرى من هذا الخطر الوبيل، لذا أناشدكم باسمها أن تتصلوا بالمسئولين من رجال السلطة التنفيذية ليضعوا لذلك الفساد حدا، وأنتم بحمد الله من أغير الناس على دين الله وأحرصهم على أداء الأمانة وحمل التبعة، فاعملوا والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حضرة صاحب الدولة وزير الداخلية ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

وبعد: فيؤسفنى أشد الأسف أن أضع أمام نظر معاليكم مجموعة من الصور الخليعة الفاجرة وما كتب بحقها من تعليقات آثمة المغزى ساقطة المعنى، نشرتها مجلة الأستديو فى صفحتها الثانية من عددها الثاني الصادر بتاريخ 13 أغسطس الجاري، وهى مجلة مصرية، وما هذه المجموعة إلا مثال عادى لكثير غيرها مما تنشره هذه المجلة وأمثالها، وتروج له من ألوان الفجور ومثيرات الفساد بلا رقيب من القانون، فتتناقله أيدي الشباب وعامة الناس وخاصتهم، داخل البلاد وخارجها فيسرى أثرها السيئ المتلف فى النفوس سريان السم القتال والداء الوبيل.
ومما يزيد الأمر وضوحا أن ذلك الداء آخذا في الاستفحال كأثر سيئ من آثار الإباحية العصرية والتحلل الخلقى، والمادية النفعية التي جلبتها المدنية الغربية إلى حضارتنا الشرقية فأفسدت مقوماتها، وأذهبت معالمها الفاضلة.
ولما كان مثل هذه الصور الساقطة والاتجاهات الفاجرة معامل هدامة لأخلاق الأمة على سلامة بنائها، فضلا عما فى ذلك من مصادمة للدين الإسلامى وسائر الأديان والشرائع، وخرق الدستور بالتالي، إذ ينص دستور البلاد على أن دينها الرسمى الإسلام، وأبسط مبادئ الإسلام يتنافى مع هذا الفساد وإشاعته فى الأمة والناس.
فإن الأمر يبدو أخطر مما يظن الكثير من المسئولين ومما يقدر المقدرون فى هذا التيار الجارف الخطير.
ولئن تقدمت الشكوى وصيحات الاحتجاج والاستنكار من جانب ذوى الغيرة على الفضيلة والدين والمعنيين بالمحافظة على كيان الأفراد والأمة وسمعة البلاد فى الأقطار العربية والعالم الإسلامى، الذى تعد مصر زعيمة له وقدوة يقتدى بها، فلقد بلغ الأمر مبلغا لا يصح بحال من الأحوال السكوت عليه والتهاون معه، ولابد إذن من علاج حاسم ورقابة دقيقة لإنقاذ الأمة من هذه السموم التى تحقن بها فى العروق على مرأى ومسمع من الحكام والمسئولين، وصيانة كيانها من هذا التدهور والتحلل باستصدار قانون أو استكمال تشريع.
ولاشك أن معاليكم خير من يستطيع الضرب على أيدى مروجى هذه السموم والحد من هذا الفساد والخطر، وإنا لذلك منتظرون، واعملوا بقول الله تعالى ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [الحج: 41] ..(5)


تطبيق عملي لمواجهة البغاء

عندما كان يبحث الإمام البنا وإخوانه بالإسماعيلية عن قطعة أرض ليقيموا عليها مسجدًا في عام 1929م اهتدوا إلى قطعة أرض فضاء مناسبة مساحتها حوالي 180 مترًا تقريبًا، ولكن كانت قريبة من مكان للدعارة، فاعترض الإخوان جميعًا على هذا المكان، ولكن الأستاذ البنا جمعهم وقال: "إن هذا البلد بلد إسلامي ولا يستطيع أي إنسان أن يبعدنا عن أي جزء منه، وإننا بعون الله سنقضي على هذه البؤرة من الفساد، وسيرحلون حالاً من هذا المكان بمجرد أن نضع أيدينا عليه" فوافق الإخوان، واشتروا قطعة الأرض بسعر جنيه للمتر الواحد.

فما هي إلا فترة يسيرة من بناء المسجد وإقامة الشعائر فيه وتحذير الناس من سوء عاقبة الزنا في الدنيا والآخرة، حتى بدأ الأهالي يمتنعون عن الذهاب لدار الدعارة، وبدأ بعضهن يفكرن في التوبة، عندئذ أعلن الإخوان المسلمون عن افتتاح ملجأ التائبات، وقد استأجروا لذلك مبنى مستقلاً تلتحق به كل من تتوب إلى الله تعالى من بيوت الدعارة وليس لها عائل، فتوافد عليه كثيرات ممن تاب الله عليهن، وقد كلف الإخوان الشيخ علي الجداوي لتولي شئون هذا الملجأ والإنفاق عليه وترتيب الدروس الدينية لهن، وقد وفق الله الكثيرات منهن فتزوجن وأصبحن ربات بيوت صالحات، ومن لم تتزوج منهن تعلّمت فن الخياطة والتفصيل، أو فن الطهي.. إلخ. وكان لهذا العمل الجليل أكبر الأثر في نفوس المسلمين جميعًا من أهالي الإسماعيلية وغيرها ..(6)

وكان هذا النموذج العملي الذي قدمه الإمام البنا في هذه الفترة المبكرة من نشأة الدعوة بمثابة إشارة البدء لمحاربة الإخوان لظاهرة البغاء، ومعها أيضًا رسالة واضحة للمنهج الذي سيتبعه الإخوان للقضاء على البغاء خلال هذه الفترة.


الإمام البنا وقضية تحديد النسل

تعد قضية تحديد النسل من القضايا الشائكة وخاصة في ظل المجتمع المصري الذي يعانى من ارتفاع نسبة الجهل وخاصة الجهل في الأمور الشرعية ولا سيما إبان الفترة التي عاش فيها الإمام البنا وهى في ثلاثينيات وأربعينيات من القرن الماضي فكان للإمام البنا مساهماته الفكرية والعملية في توضيح تلك المسألة من وجهة نظر إسلامية، وكان من هذا مشاركته في مؤتمر للجمعية الطبية والذي تحدث فيه عن مشكلة تحديد النسل والتي تم نشرها تحت عنوان "خطر يتهدد الأمة وينذر بفنائها" وجاء في هذا الخطاب:

نشكر للجمعية الطبية أن أتاحت لنا هذه الفرصة لنتحدث فى هذا الموضوع الدقيق "موضوع تحديد النسل"، وأرجو أن تتكرموا حضراتكم بملاحظة أننى حين أتكلم فيه سأعرض إلى ناحية محدودة، هى الناحية الإسلامية، بمعنى أننى سأوضح -ما استطعت- نظرة الإسلام إلى هذه الفكرة، وسأصدر فى ذلك عن رأيي الشخصي بحسب ما علمت، لا عن رأى جماعة الإخوان المسلمين التى أشرف بالانتساب إليها.

يا حضرات السادة:

جاء الإسلام نظامًا كاملاً يشمل كليات الشئون الإنسانية عملية وروحية، ووصف نفسه بأنه دين البشرية جميعًا، ورسالة الله على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، والإسلام دين فطرى، لا يركن إلى الخيال ولا يعتمد عليه، بل يواجه حقائق الأشياء ويحترم الواقع ويطوعه، ونحن نعلم أن كل تشريع لا تحميه قوة تنفيذية تشريع عاطل مهما كان عادلاً رحيمًا، لا يظفر من النفوس إلا بدرجة من الإعجاب لا تدفعها إلى اتباعه والنزول على حكمه، فلابد إذن من قوة تحمى التشريع وتقوم على تنفيذه، وتقنع النفوس الضعيفة والمتمردة التى لا تحتمل البرهان ولا تنصاع للدليل بإجلاله واحترامه.

والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا
فالحرب أجدى على الدنيا من السلم

لهذا شرع الإسلام الجهاد، وفرض على بنيه جندية عامة، غايتها مناصرة الحق أينما كان، والذود عنه حيثما وجد بدون ظلم أو إرهاق، واستغلال مادى أو استعمار نفعى، بل كما قال القرآن الكريم: ﴿حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ﴾ [الأنفال: 39]، وأجمل ما تكون القوة مع الحق، وليست القوة عيبًا فى ذاتها ولا عارًا على أهلها، وليس الاستعداد للطوارئ إلا صفة من صفات الكمال، وإنما العيب أن تستخدم القوة فى تثبيت الظلم، ويكون الاستعداد وسيلة العدوان.. ومن هنا أمر الإسلام بالقوة والاستعداد فى قول القرآن الكريم: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]، ثم وجه هذه القوة أفضل توجيه وأكرمه فى قوله: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8].

وإذا كانت هذه هى فكرة الإسلام ورسالته، وكانت القوة أول ما تكون بالعدد الكثير من العاملين، وكانت القاعدة الأصولية أن: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، كان لنا أن نستخلص من هذا نتيجة منطقية طبيعية هى: "أن الإسلام يأمر بالإكثار من النسل ويحض عليه، ويدعو إليه وبالعكس لا يرى التحديد والضبط وتطبيقًا على ذلك، وتحقيقًا له وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [أخبار]. تحث على الزواج، وتبين أن الغاية منه الأولاد قبل كل شىء، ومن ذلك ما يلى:

1- عن معقل بن يسار رضى الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنى أصبت امرأة ذات حسب ومنصب ومال إلا أنها لا تلد أفأتزوجها؟ فنهاه. ثم أتاه الثانية فقال بمثل ذلك، ثم أتاه الثالثة فقال له: "تزوجوا الودود الولود فإنى مكاثر بكم الأمم" رواه أبو داود والنسائى والحاكم..
2- وعن معاوية بن حيدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "سوداء ولود خير من حسناء لا تلد، إنى مكاثر بكم الأمم" رواه الطبرانى..
3- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزوبة للقادر على الزواج، ونهى عن أن يخصى أحد من بنى آدم فى روايات عدة..

هذه نظرة، وهى القاعدة الأصلية التى جرى عليها الإسلام وأجمع على قبولها المسلمون، وثم نظرة أخرى، وهى أن الإسلام وهو التشريع الذى جاء ليكون عامًا خالدًا وضع فى حسابه ظروف الأفراد والأسر والأمم التى تختلف باختلاف أحوال الحياة وحوادث الكون، فجعل العزائم والرخص، وقرر أن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه لا ضرر ولا ضرار، وأن الاستثناء قد يعرض للقاعدة الكلية وخصوصًا فى المصالح المرسلة والشئون العارضة، ومن هنا اختلفت النصوص والآراء وكثير من المسائل ومنها هذه المسألة.

وإنا نوجز ما ورد فيها فيما يلى: وردت أحاديث بحرمة العزل.، وأنه الموءودة الصغرى، وبها أخذ فريق من أئمة الفقهاء فمنعوه وحكموا بحرمته مطلقًا.

ووردت أحاديث تبيحه وتبين أنه لا يؤخر من قضاء الله شيئًا، وبها أخذ فريق من أئمة الفقهاء أيضًا فحكموا بالإباحة مطلقًا أو مع الكراهة.

وتوسط فريق ثالث فاشترط للإباحة إذن الزوجة، وتفرع على هذا الأصل حكم تعاطى الأدوية لمنع الحمل وتقليل النسل.

فالذين حرموا العزل حكموا بحرمته، والذين أباحوا العزل حكموا بإباحته، والذين توسطوا اشترطوا رضاء الزوجة فى هذا أيضًا.

وبعض الذين أباحوا العزل حرموا منع الحمل بتعاطى الأدوية ومحاولة تقليل النسل بأية وسيلة من الوسائل، ومن هؤلاء جمهور المالكية وبعض فقهاء الشافعية، وإليك بعض أقوال هؤلاء:

1- نقل البرزلى. عن القاضى أبى بكر بن العربى أن تعاطى ما يقطع الماء عند الرجل أو يبرد الرحم عند المرأة لا يجوز..
2- وقال الحطاب الجزولى. فى شرح "الرسالة": "لا يجوز للإنسان أن يشرب من الأدوية ما يقلل نسله"..
3- قال صاحب "المعيار".: "إن المنصوص لأئمتنا رضوان الله عليهم المنع من استعمال ما يبرد الرحم أو يستخرج ما هو بداخله من الماء، وعليه المحصلون والنظار".
4- نقل فى شرح الإحياء عن العماد بن يونس. والعز بن عبد السلام. وهما من أئمة الشافعية أن يحرم على المرأة استعمال دواء مانع للحمل، قال ابن يونس: ولو رضى به الزوج..

أما تعاطي الأدوية لقتل الحيوان المنوى بعد وصوله إلى الرحم فقد فرق الأئمة بين حالتى قبل التخلق وبعده، فأما بعد التخلق فالإجماع على حرمته تقريبًا، وأما قبل التخلق ففيه الخلاف المتقدم.

إذا تقرر هذا ولاحظنا معه أن الإسلام لم يغفل ناحية القوة فى الأبناء، والصحة فى الإنتاج، بل أوصى بذلك ونبه إليه، فعن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقتلوا أولادكم سرًّا فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه" أخرجه أبو داود.. والغيل: أن يقرب الرجل امرأته وهى ترضع فتضعف لذلك قوى الرضيع، فإذا بلغ مبلغ الرجال ظهر فيه أثر هذا الضعف.

علمنا من أن الإسلام مع وصيته بالإكثار من النسل وإرشاده إلى أسباب القوة فيه قد جعل رخصة تستخدم إذا توفرت الأسباب والدواعى التى تدعو إليها.

وعلينا إذا أردنا أن نستخدم هذه الرخصة أن نسأل أنفسنا الأسئلة الآتية:

1- أليست هناك أسباب تدعو إلى الإكثار من النسل؟
2- هل ثبت بأدلة قوية وقرائن صادقة أن هناك من الأسباب ما يدعو إلى التحديد، وهل تأكدنا أن كثرة النسل هى السبب فى الضائقة الاجتماعية؟
3- هل لا يمكن استخدام علاج اجتماعى آخر؟
4- هل وثقنا من أنه سوف لا تنجم عن هذا التحديد أضرار خطيرة؟
5- هل اتخذت الاحتياطات الكافية لمنع هذه الأضرار؟
6- ما الوسائل التى ستتخذ وهل يبيحها الإسلام؟
7- هل وثقنا من أن هذه الرخصة ستستخدم بالقدر الضرورى فقط، وأنه سيستخدمها الذين يراد منهم استخدامها، وأن العودة إلى القاعدة الكلية وهى ترك التحديد سيكون ممكنًا إذا دعت الحاجة إليه؟
8- وأخيرًا هل الأفضل فى ذلك أن يعالج بصورة عامة أو بصورة فردية خاصة؟
9- أليس من الجائز أن تسفر هذه التجربة عن عجز عن معالجة الأضرار المزعومة كوفيات الأطفال مثلاً، فتظل هذه الدواعى كما هى ويضاف إليها الأضرار التي ستنجم عن التحديد؟
10- وملاحظة أخرى قد تكون بعيدة عن تفكيرنا المحدود بالواقع والبيئة الخاصة وإن كانت صحيحة فى ذاتها، هى أن الإسلام لا يتقيد بهذا التقسيم السياسى فى الوطن الإسلامى العام فهو عقيدة ووطن وجنسية، وأرض المسلمين فى نظره وطن واحد، فالزيادة فى جزء منه قد تسد نقصًا فى جزء آخر.

وعلى ضوء البيانات التى سمعتها فى هذه الدار الكريمة من حضرات الباحثين الفضلاء -أمثال: الدكتور الوكيل، والدكتور فليب بشارة، والدكتور نجيب محفوظ باشا.، والأستاذ عيسى عبده.- أستطيع أن أستخلص النتيجة الآتية:

أن هناك من ظروف الأمة المالية فى نهضتها الجديدة ما يدعو إلى تكثير النسل، فأمامنا الجيش وأمامنا السودان، وأمامنا الأرض البور فى مصر وهى تبلغ ثلاثة ملايين من الأفدنة، أى: نصف المزروع إلى الآن.

  • وأن أسباب الأضرار المشكو منها اقتصاديًا وصحيًا واجتماعيًا لا ترجع إلى كثرة النسل، بل إلى ارتفاع مستوى المعيشة من جهة وجهل الأمهات من جهة أخرى، وأسباب كثيرة يضيق المقام بحصرها وسردها.
  • وأن نجاح التشريع غير مضمون فى القرى بتاتًا؛ فإن أولاد الفلاح هم رأس ماله وثروته، والفلاحون فى أشد الحاجة إلى الإكثار من هذه الذرية.
  • وأن المشاهد أن الطبقة التى تستخدم التحديد هى الطبقة المتعلمة التى ينتظر منها الإكثار، وذلك ضار بالأمة؛ فإن القادرين على التربية هم الذين يفرون من كثرة الأبناء، ولهذا نحن فى الواقع نخشى إن استمر بنا هذا الحال قد نجد أنفسنا فى المستقبل أمام مشكلة هى كيف نكثر من النسل لخدمة الوطن الذى تحتاج إلى كثرته البلاد، ولا يصح أن تحمل عليها الأمة، بل تستخدم بصورة خاصة فردية بحتة مع الذين تتوفر عندهم دواعيها فقط(7)


الإمام البنا و المقامرة

كانت ظاهرة القمار في فترة الأربعينيات منتشرة بصورة كبيرة جداً بين الشعب المصري وخاصة طبقة الصفوة في المجتمع في ذلك الوقت فتناول الإمام البنا تلك القضية وعرضها كأشبه بدراسة قيمة عن تلك المشكلة مغطياً جميع جوانبها النفسية وأضرارها وهى عبارة عن محاضرة ألقاها الإمام البنا في نادي جمعية الشبان المسلمين تم نشرها في جريدة الإخوان المسلمين فيقول الإمام البنا في محاضرته:

سيتناول كلامنا الليلة -إن شاء الله- موضوع "أضرار المقامرة"، وهو موضوع حدا بى إلى اختياره -على جفافه- أمور: أولها مشروع ساحل الفيروز الذى تكلمت عنه الجرائد فى هذه الأسابيع، ذلك إلى ما نشر من تصريح الحكومة بفرع "للتيرو" بمصيف رأس البر، إلى ما نشر أيضًا من ضبط محال للقمار كانت تضم كثيرًا من الموظفين وذوى المكانة بالأقصر، إلى ما نشر من أن حكومة لبنان عينت مفتشين للتفتيش عن أماكن المقامرة، وما أذاعه مكاتب المقطم الإسكندرى اليوم عن سرقة 13 ألف جنيه من محل معروف من محال البورصة مدفوعًا إلى ذلك بجريمة المقامرة، كل هذه الحوادث حركتنى إلى أن أتكلم عن بعض أضرار القمار بين شبابنا، وعلى مسمع الشبان المسلمين، لا لأنهاهم، بل لينهوا غيرهم، وسيدور كلامنا إن شاء الله حول النقط الآتية:

الدوافع النفسية إلى القمار، أضراره الخلقية، أضراره الصحية، أضراره المالية، أضراره الاجتماعية، أضراره الدينية، المشروع الجديد وخطره، واجب الأمة نحوه، الوقاية ضد القمار.


الدوافع النفسية إلى القمار

يقول النفسيون: إن كل عمل من أعمال الإنسان نتيجة ميل خاص وغريزة معينة تدخل فى تكوين النفس الأساسى، فإن كان هذا الميل صالحًا وهذه الغريزة مهذبة كان العمل شريفًا نافعًا، وبالعكس إذا كان هذا الميل وضيعًا والغريزة إلى الحيوانية الأولى أقرب منها إلى الإنسانية كان العمل دنيئًا ضارًا كثيرًا ما يدفع صاحبه إلى الهلاك والإجرام، مثال ذلك أن الإحسان إلى الفقير عمل شريف؛ لأنه ينبعث عن غريزة الرحمة وهى غريزة إنسانية شريفة، والسرقة عمل حقير؛ لأنه ينبعث عن غريزة الطمع والشَّره وهى غريزة حيوانية ممقوتة.
وإذا علمنا ذلك فما هى الدوافع التى تدفع إلى المقامرة؟
اللاعب أيها السادة يبتدئ اللعب مدفوعًا بغريزة الأثرة والطمع، ويستمر فى لعبه متأثرًا بغريزة حب القهر والغلبة، ويعاود اللعب مسوقًا بغريزة حب الانتقام، وكل هذه الغرائز سافلة وضيعة، لا تمتُّ إلى الشرف بصلة، ولا تعرف لها الإنسانية رسمًا، فاللاعب فى كل أدواره خاضع لدافع وضيع، فعمله لذلك وضيع يدفعه إلى الهلاك وإلى الجريمة، ويقتل فى نفسه عواطف الإنسانية والشرف.
وكل قانون يبيح المقامرة أو يعترف بها قانون خاطئ؛ لأنه يشجع الرذيلة ويقتل الفضائل فى نفوس الأمة التى ترضاه، وأين الأثرة والشّره من الإيثار والإحسان؟ وأين القهر والغلبة من التعاون والتناصر؟ وأين الانتقام من العفو والتسامح؟ تلك أدنى مراتب الحيوان وهذه عليا مدارج الإنسان، ولما كانت تلك الغرائز متأصلة فى نفس الإنسان وقليل من يعنى بتهذيبها ومجاهدتها، كان القمار قديمًا فى تاريخ البشر وإن اختلفت أنواعه وتعددت وسائله، ولكنه لم يكن منتشرًا فى أى أمة من الأمم السابقة انتشاره وفظاعته فى هذه الأيام؛ حيث تعدّد لعبه وتنوعت أساليبه فى أسماء خلابة ضخمة، وقصور مشيدة فخمة، وقد بذل مديرو هذه الأماكن مهارة فائقة فى صيد النقود وإغواء النفوس، ونصبوا لكل قطعة نقدية شَرَكًا يناسبها فلا ينجو القرش ولا الجنيه حتى تعم البلوى كبير الأمة وصغيرها.


أضرار القمار الخلقية

يعرفون "الخُلُق" بأنها ملكة نفسية تصدر عنها الأعمال، فإذا كانت تأمر بالخير وتصدر عنها الفضائل سميت خلقًا فاضلاً شريفًا، وإذا كانت تأمر بالمنكر وتصدر عنها الرذيلة سميت خلقًا دنيئًا وضيعًا، وكل عمل من أعمال الإنسان كما أنه يصدر عن هذه الملكات يؤثر فيها كذلك، فمن الأعمال ما يزيد الخلق الطيب قوة ويضعف الخلق الخبيث فيسمى لذلك بالعمل الصالح، ومنها ما يؤثر عكس ذلك فيقتل الخلق الطيب ويظهر عليه الخبيث فيسمى عملاً غير صالح.
والقمار -أيها السادة- يميت فى نفس اللاعب أعز الفضائل، ويقضى على أخص صفاته ومواهبه، فهو سوسة الخلق ومستقر الرذيلة، ولنضرب الأمثلة على ذلك بإيجاز واختصار:
1- ذلك الذى يكسب فى المقامرة ما معنى كسبه؟ أليس معناه أن مدّ يده إلى جيب صديقه أو قريبه أو أحد من يعرف فاختلس منه نقوده التى كدّ فيها وتعب، دون أن يعوضه عنها شيئًا، وتركه يتحرق غيظًا ويتلوى كمدًا وهو ضاحك السن قرير العين لأنه فاز وكسب؟ هو فى هذه الحالة لصٌ ووحشٌ، إن لم يكن فى عرف القانون ففى عرف الحقيقة. لص لأنه أخذ غير حقه بدون مقابل، بل شر من لص لأن اللص يعتدى على غير أهله وأصدقائه، وكثيرًا ما يكون مضطرًا إلى هذا العدوان. ووحش لأنه يُسر بحزن غيره ويفرح بكمد سواه ويحيا بموت غيره، فأين عواطف الأناس من نفس هذا المجرم الأثيم؟ وكلما تكرر عمله كلما مرن على الشر.
2- تربية الأحقاد والضغائن، فمن ذا الذى يرى غيره يتمتع بما له بدون كدّ ثم لا يحنق عليه ولا يضمر له أشد البغضاء وأفظع الشحناء؟ وحسبكم بذلك قضاء على الفضيلة والشرف.
3- تَعوُّد الزور والكذب والمغالطة، وذلك نتيجة طبيعية لما يريده الخاسر من المدافعة عن نفسه، ويريد الكاسب من تأييد كسبه.
4- تعود الكسل وإضاعة الوقت سدى، والاتكال على ما فى يد الغير والاعتماد على الصدفة؛ إذ يضيع المقامر معظم وقته على المائدة ويعتمد على كسب ما فى يد غيره، وفى ذلك القضاء على فضيلة الاعتماد على النفس، وفضيلة النشاط والعمل، وفضيلة تثمير الوقت، والذى ينعم النظر يرى أن هذه الفضائل هى أساس رقى الأمم وتقدمها، وما ظهرت علينا أمم أوروبا إلا لأنها قدرتها حق قدرها.
5- ما تولده الخسائر المتوالية فى نفس الخاسر من اليأس والقنوط والتبرم بالحياة، وكم سمعنا بانتحار الخاسر على موائد القمار؛ لأنهم فضلوا الموت على حياة الفاقة والسقوط، ولا حياة مع اليأس، ولا فضيلة تدفع إلى العمل كالأمل.
6- سقوط مركز المقامر الأدبى، ويتبع ذلك فقدان الثقة به، وكم من موظف كبير ووجيه محترم سقطت هيبته بين أهله وذويه وبين مرءوسيه واستخزى أمام أقل منه؛ لأنه عرف بينهم بالمقامرة، والمركز الأدبى حاجز من أمنع الحواجز عن الشر.
7- ما يستدعيه القمار من الموبقات الأخرى، فالرذائل مزلق إذا انحدرت القدم فى أوله هوى إلى قراره، أو هو سلسلة إذا أمسك أحد بأول حلقاتها جذبته إلى غيرها حتى يستقصيها حلقة حلقة، ولذلك قيل: "إياك والكأس الأولى".
والقمار رذيلة تستتبع غيرها وتدعو إلى سواها ولاسيما الشراب، فقد قال النفسيون: إن من دواعى تعاطى المخدرات شعور الإنسان بألم نفسى على أثر عمل يثير توبيخ الضمير، فيحاول الإنسان أن يغيب هذا الشعور المؤلم فيلجأ إلى التخدير، والمقامر إن كسب أغراه المال، وإن خسر حَزَبَه. الضيق، فهو واقع بين مخالب الرذيلة على كلتا الحالتين.
8- تعود إهمال الحقوق والواجبات الدينية والدنيوية، فالمقامر يستغرق كل وقته منهمكًا فى اللعب لا يفكر فى واجب، ولا يعمل لمهم، ولا يهتم بأى شىء.
ووقت الإنسان -أيها السادة- مهما اتسع ولاسيما فى هذا العصر لا يفى بمطالب الإنسان، فهو إن فرغ من عمله الرسمى فوراءه عمل اجتماعى، فإن فرغ منه فأمامه واجب دينى فإن فرغ منه فأمامه واجب إنسانى: من عيادة مريض، إلى زيارة صديق، إلى مواساة بائس، فإن أدى كل ذلك فأمامه واجب أسرته من إرضاء زوجته، إلى تربية أولاده. وقد يستغرق أحد هذه الواجبات معظم الوقت أو كله، وحرام على من وراءه كل ذلك أن يضيع وقته عابثًا لاهيًا لا يحسب لشىء حسابًا.
سُئلت مرة عن المقامرة بدون عِوَض ما حكمها شرعًا؟ فقلت: الحرمة. فقال السائل: ولِمَ؟ أليس التحريم إنما جاء للعوض؟ فعرضت عليه هذه الواجبات واحدًا واحدًا، وقلت له: ألست تعترف بأن كل هذه الأمور واجب عليك أداؤها وضياعها حرام؟ فقال: نعم. فقلت له: ألست ترى -إن كنت منصفًا- أن اللعب مهما كان مضيع لها؟ فقال: نعم. فقلت: أليس ما يستتبع الحرام يحرم؟ فقال: أسلمت وجهى لله رب العالمين.
وفى الحديث -أيها السادة: "إن الله يحب معالى الأمور ويكره سفسافها"[ أخرجه الطبرانى فى الأوسط].، والنفس الكبيرة ترقى إلى عظائم الأمور ولا تنحط إلى درجة العبث، وهذا أبو الطيب. دعاه شرف نفسه إلى أن يقول:
وما العشق إلا غِرّةٌ وطماعةٌ
يُعرّض قلبٌ نفسه فيصابُ

وللخود مِنّى ساعةٌ ثم بيننا

فلاةٌ إلى غير اللقاء تُجابُ

وللسر منى موضعٌ لا يناله

صديقٌ ولا يفضى إليه شرابُ

وغيرُ فؤادى للغوانى رَميَّةٌ

وغير بنانى للرخاخ ركابُ

أعزُّ مكان فى الدُّنا سرج سابح

وخير جليس فى الزمان كتابُ
فهو يربأ بفؤاده أن يكون هدف الغانيات، ويدّخره لمعالى الأمور، ويربأ ببنانه أن يكون ركابًا لرخ الشطرنج، ويبقيه للعمل النافع المجيد.


الأضرار الاجتماعية للمقامرة

الاجتماع -أيها السادة- يراد به تعاون بنى الإنسان وتعاطفهم، ذلك التعاون الغريزى المركب فى طبع الإنسان، والذى به قضاء لوازمه وحاجياته وحفظ حقوقه الطبيعية والمدنية، وكل شىء يكون من شأنه تقوية هذه الرابطة والانتفاع بها يسمى عملاً اجتماعيًا مفيدًا، وكل عمل يكون من شأنه إضعافها وعدم الانتفاع منها يسمى عملاً اجتماعيًا ضارًا، والقمار من هذا الأخير، وبيان ذلك بالأمثلة الآتية:
1- رأينا مما تقدم كيف أن القمار مفسد للخلق الصالح الذى هو مدار تعاطف الناس ومحبتهم، مولد للشحناء والبغضاء التى تجعل التعاون على المنافع محالاً، فأى ضرر بالاجتماع أكبر من إفساد الصلات والروابط، ووقف حركة التعاون الضرورى للبشر؟
2- الدعوة إلى الجريمة والاعتداء، فقد علمنا ما ينجم عن القمار من حقد النفوس وغلها، مما يثير فى كثير من النفوس الحفائظ والغيظ، فيدعوها إلى الإجرام، ذلك إلى أن الولع بالقمار كافٍ وحده لدفع بعض النفوس فى سبيل الجريمة والسرقة؛ إذ يحتال المقامر لجلب المال من حله ومن غير حله، وكم سمعنا أن موظفًا اختلس المال الذى تحت يده، وإذا فتشنا عن السبب الحقيقى وجدناه عدم استقامة هذا البائس، وما حادث موظف البريد عنا ببعيد.
3- الأسرة -أيها السادة- نواة الاجتماع، وأقوى مظاهره، وأشد العوامل فى صلاحه أو فساده، والقمار خطر عظيم على بناء الأسرة، وقضاء مبرم على سعادتها وهناءتها، فهو يدفع الزوج إلى سلب زوجه كل ما تمتلك، وإلى أن يبخل عليها بما ينفق أضعافه على مائدة القمار، وإلى إهمال أبنائه الليل والنهار فلا يقوّم أخلاقهم، ولا يقيم فسادهم، ولا يشعرهم حنان الأبوة وعطف الوالد، إلى ترك زوجه طول الليل فريدة مستوحشة تندب بؤسها وتبكى سعادتها، ولسان حالها يقول: تطاول هذا الليل وازور جانبه.
وقالوا: إن رجلاً تعود المقامرة حتى أتت على جميع ما يملك وتملك زوجه، فمد يده إلى حلى بناته فأعطته زوجه إياه فى علبة صغيرة، ولما فتحها ليبيع ما فيها وجد فى أسفلها بطاقة مكتوباً عليها بخط زوجته: "يا هذا، إنك حين تبيع هذا الحلى تبيع مستقبل بناتك وتقضى عليهن، فانظر ما أنت صانع!"، ويظهر أن الرجل كانت لا تزال له بقية من حياة الضمير، فهاج بنفسه حنان الوالد فثاب إلى رشده ورجع عن عادته، ومن لك بمثل هذا
ومن هنا -أيها السادة- كان القمار خطيرًا على الأمة؛ لأنه يقطع صلات المودّة فيها، خطرًا على الحكومة؛ لأنه يثير الجريمة التى تحاربها، خطرًا على الأسرة؛ لأنه يصدع بناءها ويهدم كيانها، وتلك أصول الاجتماع، فهو خطر على الاجتماع من جميع نواحيه.


الأضرار المالية للمقامرة

المال -أيها السادة- مادة الحياة، وقوام المشروعات النافعة، واعتزاز الأمم، وبخاصة فى هذه العصور المادية إنما ينبنى على ثروتها وشرفها بالأغنياء فيها، هذه الولايات المتحدة إنما تقود العالم بأموالها، وتدير دفته الاقتصادية بأصحاب الأعمال والملايين من أهلها، والقمار عفريت الثروات وخراب البيوت، وأمامنا المشاهد والحوادث:
1- فكم من ثرىّ عظيم كان غنىّ قومه وسيد عشيرته، ساقه القضاء إلى المائدة الخضراء فأتت على ثروته لا تدع منها ذهبًا ولا فضة، ولولا حرمة البؤس والموت لسردنا أسماء كثير من العظماء الذين طبع القمار حياتهم بطبائع الشقاء.
2- وكم من شاب تركه أبواه يتقلب فى أعطاف النعيم، ويمرح فى بحبوحة. الثراء، والتفّ حوله سماسرة السوء ورسل الفقر فساقوه إلى المقمر حيث فقد شرفه وأمواله ووقع فريسة المرابين والدائنين، ثم انفضوا عنه وتركوه ملومًا محسورًا بين براثن البؤس ومخالب الفقر، وعلى نفسها جنت براقش..
3- وكم من موظف يرتع فى رغد العيش سعيدًا بأسرته وأبنائه مغتبطًا بنعمة الله عليه، وما هو إلا أن يسوقه القدر المتاح، إلى المقمر المجتاح، فيستنفذ مرتبه ومثله معه، ويدع أبناءه يتضورون. جوعًا ويتضاغون. ألمًا، ويرقبون آخر الشهر كما يرقب السجين مدته، فإذا جاء ما ينتظرون طار عائلهم بأمنيتهم إلى حيث يسد بها دينه أو يرضى منها شهوة نفسه، ثم يعود إليهم صفر اليدين مقطب الجبين فلا يجد أمامه إلا زوجة باكية وأبناء بائسين.
4- وكم من سيدة ذهبت إلى "التيرو" وما شاكله من بيوت الوبال وبالوعات المال مثقلة بحليها باشة الوجه، وما هو إلا جولة أو جولتان ثم تعود إلى منزلها تندب الحظ والحلى والشرف والسمعة، وكذلك شأن المقامرة لا تشبع ولا تقنع، تحطم الأخضر واليابس، وتلتهم الأبيض والأصفر، ثم تقول: هل من مزيد!
ولو أن هذه الأموال التى تذهب هباءً منثورًا أنفقت فى سبيل المشروعات النافعة لآوت كثيرًا من عاطلى الأمة وأحداثها الذين لا يجدون ملجأ، ولخففت جمّ المصائب والآلام عن المنكوبين الذين لا يرون مسليًا، ولكن هو الشيطان لعنه الله ﴿قَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا﴾[النساء: 118].


الأضرار الصحية للمقامرة

لو علم المقامر ما يجنيه على صحته وبدنه بهذا اللعب لما أجاز لنفسه أن يغشها بقوله: أروح عن نفسى من عناء العمل والكد، فما أبعد الحقيقة من هذا الزعم، وأعرق هذا الخيال فى الوهم، فالمقامر يجنى على بدنه من حيث لا يشعر، ويقامر بصحته وهو لا يدرى، وإلى حضراتكم أسباب ذلك:
1- قرر الأطباء أن الإنسان إذا أفرط فى السهر، وحرم نفسه راحة النوم، ودام الحال على ذلك مدة اختلت أجهزة الجسم، وأدى ذلك إلى فقر الدم واصفرار الوجه، وقال جالينوس.: "إن أكثر ضرر السهر يقع على القلب والدماغ والرئتين"، وهذه هى الأعضاء المهمة، فلو لحق أحدها ضرر تداعت قوى الجسم وهلك، وإليه الإشارة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمر ينهاه عن طول السهر: "إنك إن فعلت خوصت عينك ونفهت نفسك"[ أخرجه مسلم].، والأطباء المحدثون لا يقولون بغير هذا، والمشاهد أن الإنسان إذا أفرط فى السهر بعض ليال ولو قبل الامتحان مثلاً ظهرت أعراض ذلك السهر فى وجهه، وعدم النوم نوع من أقسى أنواع العذاب عذب به ديميوس مغتال لويس الخامس عشر. بعد الكى وذوب الرصاص والزيت فقال قبيل موته: "إن حرمان النوم كان أفظع ما لقى من أنواع العذاب"، وإليه الإشارة بالآية الكريمة: ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ﴾ [الانفطار: 14-16]، ولأحد الأدباء المحدثين:
إياك والسهر الذى
يودى بجسمك والحواس

واجعل له حدًا به

تبنى الجسوم على أساس

وإذا سهرت فلا تكن

ما بين ندمان وكاس

فيضيع عقلك فى الضلال

وتذهب الكأس النعاس
ولاشك أن المقامر يمنعه لهوه بالمقامرة وتأثره بالكسب أو الخسارة راحة النوم، فهو يقضى الليل على المائدة واجمًا متأثرًا نادمًا متحسرًا، ثم لا يألف النوم عينه نهارًا إلا غرارًا.، وباستمرار ذلك ينهار بناء جسمه، ويذوى غصن شبابه، ويختل نظام صحته.
2- قرر الأطباء أن الجهود الفكرية والجسدية تثير الدورة الدموية، والحركة أيًّا كانت يلازمها احتراق الدم المار فى جزئيات الأنسجة البدنية والأعصاب عملاً بقاعدة "الاحتراق البطىء"، وإذا طالت هذه الحركة نفد الدم الصالح بالاحتراق، وازدادت الرواسب الفاسدة الناشئة عن هذا الاحتراق، وهذه الرواسب سم زعاف يمتصها الجسم فيستهدف للخطر فيحس الإنسان حينئذ ما يسمى بالفتور أو الملل أو التعب، ويقول الأطباء: إن هذا الإحساس كصمام الأمن فى الآلة البخارية ينذر الإنسان بضرورة تعطيل العمل، والتماس الراحة بالبعد عن الضوضاء، والتروض فى الهواء الطلق، والابتعاد عن الهواجس والمؤثرات، وإلا سعى فى حتفه وعرض جسمه للتسمم، والمقامر تلهيه شواغل اللعب وترقب النتائج عن الإحساس بالتعب، فيستمر فى عمله غير حاسب للراحة حسابًا حتى تتسمم عضلاته فيجنى على صحته.
3- قرر الأطباء كذلك أن لمفاجأة المؤثرات النفسية وتواليها تأثيرًا عظيمًا على الجسم سواء فى ذلك الحزن والسرور، فهى تهيج الدم وتثير الأعصاب، وقد يؤدى هذا التأثير إلى الصعق والغشية، بل إلى الموت.
يحدثنا التاريخ أن المتنبى لما طالت غيبته عن وطنه بعث إلى جدته يستقدمها إليه ببغداد فقبلت كتابه وحُمَّتْ لساعتها وماتت من شدة السرور، وذلك حيث يقول فى رثائه إياها:
أتاها كتابى بعد يأس وترحة
فماتت سرورًا ومتُّ بها غمًّا
ولاشك أن المقامر بين إحدى الحالتين إما ربح مفاجئ يثير كامن سروره، وإما خسارة تستدعى عظيم حزنه، فهو بينهما فى مد وجزر وطى ونشر، وتعاقب المؤثرات له أثر مضاعف، فما يزال كذلك حتى يضطرب كيان نفسه ويختل ميزان حسه.
4- ذلك إلى المؤثرات الموضعية ككثرة الجلاس واحتباس الأنفاس وفساد الهواء وتخالف الأجواء وفى ذلك البلاء المبين.


الأضرار الدينية للمقامرة

الميسر -أيها السادة- جزء من تاريخ العرب الاجتماعى كانوا يلعبونه فى جاهليتهم يقصدون بلعبه العطف على الفقراء ومساعدة الضعفاء، فكان الكاسب لا يطعم ما يكسب وإنما يفرقه على ضعفة قومه وفقراء عشيرته، ولذلك عدُّوه من مفاخرهم وذكروه بين مآثرهم، قال النمر بن تولب. يصف مجلس لعب وما ولّده من الحقد فى نفس الخاسر:
ولقد شهدت إذا القداح توحدت
وشهدت عند الليل موقد نارها

حتى إذا قسم النصيب وأصفقت

يده بجلدة ضرعها وحُوارها

ظهرت ندامته وهان بسخطه

سبًّا على مربوعها وعذارها

ويقول الأعشى ذاكرًا تفضلهم بكسب الميسر:

المطعمو الضيف. إذا ما شتوا

والجاعلو القوت على الياسر

ويقول عمرو بن قبيصة أو ابن قميئة:

بأيديهم مقرومة ومغالق

يعود بأرزاق العيال منيحها

والمنيح: قِدْح من قداح الميسر عندهم

ويقول عنترة مفتخرًا:

ربذ يداه بالقداح إذا شتا

هتاك غايات التجار ملوّم

ويقول النابغة فى هذا المعنى:

إنى أتمم أيسارى وأمنحهم

من الأيادى وأكسو الجفنة الأدما
ولابن قتيبة الدينورى. مؤلف جامع لأشتات أحوال العرب فى "الميسر والقداح" وقد نشر فى السنوات الأخيرة.
ولكن الإسلام رأى فى أضرار القمار ما يقضى بتحريمه ولا توازيه تلك الغاية الشريفة غاية نفع الفقراء فسلك سبيل التدريج فى هذا التحريم فنزلت الآية الكريمة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: 219]، ثم نزلت بعد ذلك الآية الحاسمة آية التحريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ [المائدة: 90] الآية، والمتأمل فى هذه الآية يرى أن النهى فيها جرى على أسلوب لم يعهده القرآن من قبل فى منهياته من الحماسة والشدة والوعيد بأشنع الموبقات من الخمر وآثار الشرك فذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ﴾ [المائدة: 90]، ثم وصفها بالرجس، ووصف هذا الرجس بأنه من عمل الشيطان، فزاده رجسًا إلى رجسه، فذلك قوله تعالى: ﴿رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ [المائدة: 90]، ثم طالب المؤمنين باجتناب هذا الرجس المضاعف مبينًا لهم أن الفلاح موقوف على هذا الاجتناب فذلك قوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90]، ثم أخذ يعدد مساوئ هذه المناكر القبيحة فبين أن ما ينجم عنها كله شيطانى؛ لأنه إرادة الشيطان ورمز إلى الأضرار الاجتماعية بالعداوة والبغضاء، ورمز إلى إهمال الفروض والواجبات بالصد عن ذكر الله وعن الصلاة فذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ﴾ [المائدة: 91]، ثم أراد تكرير النهى، وعدل عن صيغته إلى صيغة الاستفهام الإنكارى لما يفهم عنها من الإنكار الشديد والتوعيد والوعيد فذلك قوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة: 91]، ثم عدل بعد النهى إلى الأمر بالطاعة مؤكدًا مكررًا لفظ الطاعة لله وللرسول، محذرًا لهم عواقب المخالفة فذلك قوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا﴾ [المائدة: 92]، ثم يبين لهم واجب الامتثال ولا حجة لهم فى المخالفة، فذلك قوله تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ [المائدة: 92].
فأى زجر أو تشديد، وأى نهى أو توعد، وأى تخويف أو تحذير بعد هذا النهى الصارخ والزجر المقنع والحجة البالغة، وكأنها كسف. من القوارع تساقط من السماء إلى الأرض، وصواعق غضب الله على المخالفين تلمع فى فم جبريل حين يبلغ محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهو صوت الإرادة الإلهية المسموع دوى فى أذن عمر رضى الله عنه فصرخ قائلاً: "انتهينا يا رب".
وأى مؤمن تدوى فى أذنه صيحة ربه فلا تأخذ قلبه الرجفة، ولا تهز جوانب نفسه الخشية، ولا يتملك فؤاده الفزع الأكبر، ومن يملك من الله شيئًا إن أراد أن يهلك من فى الأرض جميعًا.
وكل ذلك النهى والوعيد -يا سادتى- فى لعبة بسيطة لا يتجاوز وزر ربحها جزءًا من جزور فكيف بما انتشر بيننا من مختلف اللعب ومتعدد الموبقات؟
ولكأنى بقائل يهمس لنفسه أو لجاره: وماذا عسى أن يبلغ هذا الحكم الدينى وهذا الزجر القرآنى من قلوب طال عليها الأمد فقست، وبعد عنها النور الإلهى فأظلمت؟ وذلك حق -أيها السادة- فقد أصبحت الموعظة لا تجدى فتيلاً، ولا الوازع الدينى لا ينال من النفس إلا قليلاً، ولكن ذلك لا يمنعنا البيان لعل فيه تبصرة وذكرى، ولا يسكتنا الإنذار بالوحى فلأن يمتثل المسلم أمر ربه أولى وأحرى.
وإلى حضارتكم الحادثة الآتية لنتبين منها مبلغ الفرق بيننا وبين سلفنا المجيد فى التأثر بأمر الله والنزول على حكمه، والخوف من عقوبته، مع احتقار هذه الزواجر الدنيوية إلى الزواجر الأخروية: رجل من فرسان المسلمين وكبارهم أولع بالخمر فى جاهليته حتى كان يقول:
إذا مت فادفنى إلى جنب كرمة
تروى عظامى بعد موتى عروقها

ولا تدفنونى فى الفلاة فإننى

أخاف إذا مت ألا أذوقها
وجاء الإسلام بتحريم أم الخبائث فانصاع لأمره ونزل على حكمه، ولكن عادة الشرب المتأصلة فى نفسه أرغمته على أن يحتسى جرعة يرد بها ظمأته، فجاء إلى أمير المؤمنين الفاروق مقرًا بجريرته فحده، وتكرر الأمر فنفاه إلى القادسية وسجنه أميرها سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه.
وفى يوم القتال سمع صليل السيوف وصهيل الجياد فهاجت نفسه إلى ميدان الجهاد، وهو الفارس لا يهدأ أو تقوم قيامة فيها الدماء على الدماء تصيب.، فعاهد زوجة الأمير. إن أعطته فرسًا وعدة ليعودن إن سلم، وإن استشهد فهى الأمنية، فأعطته ما طلب فنفذ كالسهم مهللاً مكبرًا ورآه سعد من منظرته فعرفه، ولما أن وضعت الحرب أوزارها عاد أدراجه إلى سجنه بعد أن أبلى بلاءً حسنًا لا يريد من الغنيمة إلا أن يرضى الله عنه.
استجوبه الأمير عما دفعه إلى مبارحة سجنه فقال: حب الجهاد والرغبة فى الشهادة فى سبيل الله، وعما دفعه إلى العودة بعد أن كان سبيل النجاة أمامه سهلاً ميسورًا؟ فأجاب: الوفاء بالعهد، فقد عاهدت ولا أغدر.
وسأله: ماذا ترى أن يكون جزاؤك؟ فأجاب: ليقضى الله أمرًا كان مفعولاً. أكبر الأمير هذه النفس المؤمنة فأمر بإطلاقه وحلف ألا يحده فى الشراب.
وكان المنتظر بعد ذلك أن يمرح هذا الفارس فى غيه ولكنه فعل غير ذلك، إنه فكر قليلاً ثم حلف على نفسه ألا يذوق الخمر وإن أدّى ذلك إلى هلاكه، ولما سئل فى ذلك أجاب هذا الجواب الذى تتجلى فيه قوة النفس الإسلامية وعظمتها ومبلغ إيمانها عند ربها حيث قال: "كان جزائى أولاً تلك العقوبة الدنيوية وهى شىء لا أهتم له، فلما أن وكلت عقوبتى إلى الله فأنا أستحى أن أبارزه بالعصيان ولا طاقة لى بغضبه وعذابه".
ذلك الفارس المعلم هو سيدنا أبو محجن الثقفى رضى الله عنه، وحيا ذلك الإيمان المكين والدين المتين. فأين نحن أيها السادة من التأثر بكتاب الله ورهبة ما عنده والخوف مما لديه؟ أولئك قوم تملكتهم شهامة الإيمان فكانوا يستحيون ولا يخافون، أما نحن فنخاف ولا نستحى ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [الحديد: 16] ..(8)


الإمام البنا وانتقاده لمؤسسات الدولة

كان للإمام البنا تواصل مستمر مع المؤسسات الحكومية وخاصة المعنية بالملفات والقضايا الأخلاقية وكان دائماً يدلو برأيه حول أداء هذه المؤسسات فنجده ينتقد أداء وزارة الشئون الاجتماعية بخصوص الملفات سابقة الذكر ويوضح أن الوزارة ليس لديها رؤية أو خطة كاملة لمعالجة تلك الملفات فيقول في أحد مقالاته:

لا عيب على وزارة الشئون الاجتماعية ولا على رئيس الحكومة إذا سارت مشروعات الإصلاح الاجتماعي سيرها الطبيعي متى روعى الحزم الواجب، والسرعة فيما لابد فيه من السرعة، والتدرج فيما لابد فيه من التدرج، وتقديم الأهم على المهم فضلا عن الكمالى البحت.

وليس الإسراع والإبطاء مهما ولا مبشرا أو محزنا بقدر الصواب أو الخطأ فى اختيار الفكرة الأساسية للإصلاح المنشود، فإن من أراد بناء بيت إنما يعنيه أولا الرسم الهندسي الذي يتفق مع رغباته وميوله: ثم الرجال الذين يقومون بالإنفاذ. ثم يأتي بعد ذلك دور العمل نفسه، فإذا كان الرسم الهندسي صحيحا والقائمون بالإنفاذ أمناء كانت السرعة زيادة في الخير، وكان لصاحب البيت أن يعتقد أن بيته سيتم كما يحب ويهوى.

أما إذا كان الخطأ في الأساس في الرسم وفى العاملين، فسواء أسرعوا أم أبطئوا فإن عملهم هذا محكوم عليه بالهدم أخيرا، وهنا يكون الإبطاء رحمة من الله؛ فإن التجربة الفاشلة إنما يكون الخير فى فشلها من قريب.

على هذا الأساس نصارح وزارة الشئون الاجتماعية ونصارح رفعة رئيس الحكومة بأن ما ظهر من خطوات وزارة الشئون إلى الآن يدل على أحد أمرين: إما أنها تعمل بغير فكرة أساسية في الإصلاح، فهى ترتجل القول ارتجالا، وتضع البرامج كيفما اتفق.

وإما أنها قد اختارت لنفسها السير على رسم أوروبى بحت، غير ناظرة إلى تعاليم الإسلام وقواعده ونظمه وما وضع من أصول الإصلاح، ولكنها لا تريد أن تصارح الناس بهذا، فهى تسايرهم فى بعض المظاهر الإسلامية، وتستر بهذا ما تضمر من برامج منقولة عن أوروبا نقلا كاملا لا تجديد فيه.

وإذا دام هذا الحال فإن وزارة الشئون الاجتماعية سوف تسلك بالأمة طريقا شائكة. وتزاول تجربة فاشلة من الأساس.

هناك حقيقة لا يصح إغفالها أبدا، وكل مصلح يحاول أن يغفلها أو يتناساها فعمله مقضى عليه بالزوال والفناء. تلك الحقيقة؛ هي أن هذه الأمة المصرية عريقة فى تدينها وإيمانها وقد تشربت أرواحها هذا منذ أربعة عشر قرنا من الزمان، فتغلغل فى صميم مشاعرها وألبابها وعواطفها، فكل من يحاول أن ينال من هذه الناحية، أو ينحرف بالأمة عنها فهو مهزوم لا محالة. قد يبدو فى ظاهر الأمر أن هذا الشعب قد أنساه بؤسه واختلاطه بغيره من الشعوب قدسية دينه فانصرف عن تعاليمه الظاهرة.

وقد يكون هذا صحيحا إلى حد كبير بالنسبة للأعمال، أما بالنسبة للعقيدة والمشاعر والعواطف المستعرة فى حنايا الضلوع، فإن هذا الشعب مستعد لأن يضحى بآخر قطرة من دمه فى سبيل الإسلام وتعاليم الإسلام.

وحقيقة أخرى- هى أننا لماذا نخشى الأخذ بتعاليم الإسلام؟ بل لماذا لا ندعو الأمم الحائرة إلى الاهتداء بنور هذه التعاليم؟

قد يكون القائمون بهذا الإصلاح معذورين بعض العذر بسبب ثقافتهم الأوربية وافتتانهم بها واستيلائها عليهم إلى حد كبير مع جهلهم التام بسمو التعاليم الإسلامية في كل نواحي الإصلاح الاجتماعي، ولكن لا عذر لهم أبدا بعد أن يتضح لهم أن في الإسلام ما يكفى ويشفى ويزيد ويضمن كل نجاح وفلاح في كل وجوه هذا الإصلاح؛ لذلك نحن ندعوهم إلى دراسة هذه الناحية في الإسلام دراسة عميقة غير سطحية، ونحن مستعدون إلى أن نعاونهم في ذلك متى أرادوه، فإن لم يفعلوا فخير لهم أن يدعوا هذه المهمة لغيرهم، فإن ما يضعون من مناهج مقضي عليه بالعقم من الآن.

إنما يمتاز المصلح عن المصلح، والحكومة عن الحكومة بشىء واحد هو الجرأة فى الحق والإقدام عليه، وبهذا تفاوتت الهيئات في الإنتاج. فإذا كانت وزارة الشئون الاجتماعية تخشى أن يقال عنها: إنها رجعية حين تأخذ بتعاليم الإسلام فتقعد بها هذه الخشية عن الإقدام والجرأة فى الحق، فقد ألقت السلم من الآن، وستكون فى واد والأمة فى واد، ولا يحزننا شىء كهذه الخسارة المزدوجة فى الجهود والوقت والمال، وما تقضيه بعد ذلك من يأس فى النفوس وقتل للعزائم والإرادات.

قضت وزارة الشئون الاجتماعية أكثر من شهرين منذ ولدت إلى الآن، والمفروض أن القائمين بأمرها قوم ذوو خبرة فى هذه الشئون، وأنهم -على الأقل- قد درسوا كثيرا من نواحيها دراسة نظرية فلا ينقصهم إلا مزاولة التنفيذ.

وهنا نقطة هامة نحب أن نلفت إليها الأنظار؛ تلك هى أن العمل وحده والتنفيذ وحده هو خير مرشد لإصلاح ما فى الخطط الموضوعة من أخطاء، وخير للمصلح المجد أن يضع الخطة وضعا بدائيا، ثم يحاول تنفيذها بطريقة مرنة، ثم يعدلها بعد ذلك كلما رأى ما يدعو إلى التعديل على ضوء التجارب، وما يبدو له من نقائص تحتاج إلى إكمال.

قضت وزارة الشئون هذه المدة وهى مدة طويلة ولاشك، ولسنا نريد أن نقول: إن أعمار الأمم تقاس بالسنين لا بالشهور والأيام، فهذا كلام إنما يصح في أطوار التاريخ التي هي من عمل الزمن لا من عمل الناس، ونحن لا نحاسب التاريخ الآن، ولكنا نحاسب رجالا، كل يوم من أيام حياتهم محسوب عليهم ومحسوب على الأمة معهم وهم يتقاضون أجره منها، وشهران في حياة مصلح جرئ شيء كثير لا يستهان به أبدا، ولابد للمصلح القوى كل يوم من إنتاج إن لم يكن كل لحظة. فماذا فعلت وزارة الشئون في هذين الشهرين؟

لقد كتب فيها الكاتبون كثيرا، وملئت أنهار الصحف السيارة بما تريد أن تقوم به من أعمال.

هي تريد إلغاء البغاء، وتنظيم الإحسان، ومحاربة الخمر والقمار، وإصلاح الأسرة، وحل قضية المرأة، ورفع مستوى الأخلاق، وتطهير الإذاعة، وإرشاد الصحافة، ونشر الثقافة العامة، وتهذيب السينما والتمثيل الخ.

فماذا فعلت من ذلك كله في مدى شهرين؟ هذا سؤال. وسؤال أهم منه بكثير: على أي أساس تريد أن تزاول هذه المهمة؟ وسؤال ثالث لا يقل عن سابقة أهمية: من الذين سيقومون بالإشراف على إنفاذ هذا الإصلاح؟

إن الروح والقدوة هما الأساس في الإصلاح الاجتماعي، ونحن نريد أن تكون الروح المهيمنة على الإصلاح إسلامية قوية صريحة جريئة، ونريد أن يكون القائمون بالإنفاذ مشبعين إلى أقصى حد بهذه الروح، وتعاليم الإسلام كفيلة بكل ما يريد المصلحون الصادقون من إصلاح، ورجال هذه التعاليم كثير لو أرادت الوزارة أن تنتفع بهم، ويسرنا أن نسجل لوزارة الشئون كل يوم حسنة أو حسنات متى كانت من العاملين. ونسأل الله لها التوفيق ..(9)


خاتمة البحث

استعرضنا من خلال هذا البحث قراءة لأفكار الإمام البنا الإصلاحية خاصة في بعض القضايا الأخلاقية التي كانت تعانى منها مصر واخترنا ثلاثة قضايا أو مشاكل كنموذج لتعامل الإمام البنا مع القضايا الأخلاقية،والتي تناول فيها الإمام البنا منهج عملي واضح لمقاومة تلك الآفات الأخلاقية سواء بطريقة عملية كمثال إنشاء دار للتائبات و عن طريق إلقاء المحاضرات أو بإرسال الرسائل للجهات المختصة كما أسلفنا سابقاً، مما يؤكد أن تعاطي الإمام البنا مع تلك القضايا كان تعاطي إصلاحي حركي يسعى للمواجهة وحل تلك المشاكل ولم يكن تعاطي من باب الترف الفكري أو السياسي.


المراجع

(1) مجلة النذير، العدد (35)، السنة الثانية، 10 رمضان سنة 1358ه / 24 أكتوبر 1939م، ص(3-5).

(2) مذكرات الدعوة والداعية ،للإمام البنا ،نسخة الكترونية.

(3) مجلة الإخوان المسلمون الأسبوعية، العدد (33)، السنة الثانية، 13 رمضان 1353ه 20 ديسمبر 1934م، ص(11-13).

(4) مجلة الفتح، العدد (304)، السنة السابعة، 2 ربيع الثانى 1351ه/ 4 أغسطس 1932م.

(5) جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (239)، السنة الأولى، 21 ربيع أول 1366ه / 12 فبراير 1947م، ص(2).

(6) مجلة لواء الإسلام – حديث الذكريات مع: أول عضو في جماعة الإخوان المسلمين – صـ58، 59.

(7) مجلة الإخوان المسلمون الأسبوعية، العدد (2)، السنة الخامسة، 18 ربيع الأول 1356ه/ 28 مايو 1937م، ص(1، 13) من خطبة لفضيلة المرشد العام فى الجمعية الطبية.

(8) مجلة الفتح، العدد (105)، السنة الثالثة، 2صفر 1347ه/ 19 يوليو 1928م، ص(1) وما بعدها، واستكملت المقالة في العدد (106)، 9 صفر 1347ه/ 26 يوليو 1928م.

(9) مجلة النذير، العدد (35)، السنة الثانية، 10 رمضان سنة 1358ه / 24 أكتوبر 1939م، ص(3-5).

للمزيد عن دور الإخوان في الإصلاح

كتب متعلقة

من رسائل الإمام حسن البنا

ملفات وأبحاث متعلقة

مقالات متعلقة

الإصلاح السياسي:

الإصلاح الإجتماعي ومحاربة الفساد:

تابع مقالات متعلقة

رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة

قضايا المرأة والأسرة:

الإخوان وإصلاح التعليم:

موقف الإخوان من الوطنية:

متفرقات:

أحداث في صور

.